
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم
الدين.
وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة الأنعام ،
حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب
عالية ، وهدايات محكمة ، ووصايا جليلة، وحجج باهرة تقذف حقها على باطل الملحدين
فتدمغه فإذا هو زاهق، وقيم الأدلة الساطعة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم
على صحة البعث والحسابـ والثواب والعقاب.
وقد رأيت من الخبر قبل أن أبدا في تفسير
هذه السورة الكريمة، أن أقدم بين يديها تعريفّا لها ، أتحدث فيه عن زمان ومكان
نزولها ، وعن طبيعة الفترة التي نزلت فيها ، وعن سبب تسميتها بهذا الاسم ، وعن
مناسبتها لما قبلها وعن المقاصد والأهداف التي اشتملت عليها ، وعن فضائل هذه السورة
الكريمة ومزاياها ..
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا
لوجهه، ونافعا لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله
وصحبه وسلم.
تمهيد بين يدي السورة
١ ـ متى نزلت سورة
الأنعام؟
سورة الأنعام عدد
آياتها خمس وستون ومائة آية وهي أول سورة مكية من طوال المفصل بالنسبة لترتيب
المصحف ، وتعتبر بالنسبة لهذا الترتيب السورة السادسة ، فقد سبقتها سور : الفاتحة
، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، وهي سور مدنية باستثناء سورة
الفاتحة.
أما ترتيبها في
النزول فقد قال العلماء : إنها السورة السادسة والخمسون ، وإن نزولها كان بعد نزول
سورة «الحجر».
ويغلب على الظن أن
نزول سورة الأنعام كان في السنة الرابعة من البعثة النبوية الشريفة ، وذلك لأن
سورة الحجر التي نزلت قبلها فيها آية تأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بأن يجهر بدعوته وهي قوله ـ تعالى ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ) .
ومن المعروف
تاريخيا أن النبي صلىاللهعليهوسلم مكث يدعو الناس سرا إلى عبادة الله زهاء ثلاث سنين ، ثم
بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره الله بأن يصدع
بما يؤمر به ، أى : يجهر بما يكلف بتبليغه للناس ، مأخوذ من صدع بالحجة إذا جهر
بها.
قال ابن إسحاق عند
حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية : «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من
الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به ، ثم إن الله ـ تعالى ـ أمر رسوله
صلىاللهعليهوسلم أن يصدع بما جاءه منه ، وأن يبادى الناس بأمره ، وأن يدعو
إليه ، وكان بين ما أخفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله ـ تعالى ـ بإظهار دينه
ثلاث سنين ـ فيما بلغني ـ من مبعثه ، ثم قال الله ـ تعالى ـ له : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ) .
٢ ـ طبيعة الفترة
التي نزلت فيها سورة الأنعام :
قلنا إن سورة
الأنعام نزلت ـ غالبا في السنة الرابعة من البعثة النبوية ، وهذه الفترة من تاريخ
الدعوة الإسلامية كانت فترة نضال فكرى عنيف بين الإسلام والشرك ، ففيها بدأ النبيصلىاللهعليهوسلم يجهر بدعوته ويصارح قريشا برسالته ، ويدعوهم بأعلى صوته
إلى الإيمان بالله وملائكته
__________________
وكتبه ورسله
واليوم الآخر ، ويبين لهم بجرأة ووضوح بطلان عقائدهم ، وسخافة تفكيرهم واعوجاجهم
عن الطريق المستقيم.
وأخذ المشركون
يدافعون عن معتقداتهم بكل وسيلة بعد أن رأوا الدعوة الإسلامية يزداد نورها يوما
بعد يوم ، ورأوا أتباع النبي صلىاللهعليهوسلم يزيدون ولا ينقصون ، ويجهرون بتعاليم دينهم بعد أن كانوا
يخفونها ويتحملون في سبيل نشرها الكثير من ألوان التعذيب والترهيب.
وقد صور بعض
العلماء طبيعة هذه الفترة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية عند نزول سورة
الأنعام فقال :
«وهذه الفترة من
فترات الدعوة الإسلامية كانت فترة عنيفة أشد العنف ، مملوءة بالمقاومة من الجانبين
كأعظم ما تكون المقاومة ، فالمشركون مأخوذون بهذا النجاح الذي صارت إليه الدعوة
حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء ، وأن تتحدى في صوت عال ، ونداء جهير ، بعد ما
كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم ، والرسول صلىاللهعليهوسلم ماض فيما أمره به ربه من الصدع بدعوة الحق ، يتلو عليهم ما
أنزله الله عليه من كتابه ، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم ، وتسفيه لآرائهم ،
وإنكار لآلهتهم ، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية.
يومئذ واجهت دعوة
الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدية ، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين يشعرون في
أعمال نفوسهم بصدقها وكذبهم ، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم ، ولا
يجدون لهم حيلة إلا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد
الباطلة ، بادعائهم كذب الرسول صلىاللهعليهوسلم وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل ، وأن
الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم ملائكة ، وإنكارهم البعث والدار الآخرة
، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم ، ونسوا أن محمدا صلىاللهعليهوسلم عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيه يوما قولة كاذبة ، ولم يخن
فيه يوما أمانة أؤتمن عليها ، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
لم يذكروا شيئا من
ذلك ولم يفكروا فيه ، ولكنهم فكروا فقط في أن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد
استخفاء ، وتحدت بعد ما ظنوه بها من الاستخذاء ، يجب أن تموت في مهدها ويجب أن
تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ورحبت الدعوة
الإسلامية بهذا النضال ، وتحملت أعباءه وأثقاله ، وكان ذلك أول النصر ، لأن النور
لا يظهر إلا بعد الاحتكاك.
وأخذت سور القرآن
في هذه المرحلة تتلاحق ، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر ، وكانت أغراضها متشابهة إلى
حد بعيد ، وكان أولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول
صلىاللهعليهوسلم بإعلان الدعوة والصدع بها ، هو سورة «الأنعام» ؛ فقد جمعت
كل العقائد الصحيحة ، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين ، وتفنيد شبه الملحدين ، وإبطال
العقائد الفاسدة ، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاصلة .
وبذلك يتبين لنا
أن ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد وأهداف وأحكام ومعتقدات يوافق كل
الموافقة طبيعة المرحلة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت.
٣ ـ أين نزلت سورة
الأنعام :
يرى جمهور العلماء
أن سورة الأنعام كلها مكية ، ويرى فريق منهم أنها كلها نزلت بمكة ما عدا الآيات ٢٠
، ٢٣ ، ٩١ ، ٩٣ ، ١٠٤ ، ١٤١ ، ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٣.
ولعل الذي حمل
أصحاب هذا الرأى على القول بأن هذه الآيات التسع مدنية ورود بعض الروايات بذلك ،
وأنها آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكاليف العملية ، وهي
لهذا كانت أنسب بالمدينة.
والذي تطمئن إليه
النفس وعليه المحققون من المفسرين أن سورة الأنعام قد نزلت كلها بمكة جملة واحدة ،
ويشهد لما ذهبنا إليه ما يأتى :
(أ) كثرة الآثار
التي صرحت بنزولها بمكة دفعة واحدة ، ومن هذه الآثار ما ورد عن ابن عباس أنه قال :
لقد نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون
بالتسبيح.
وعن ابن عمر قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نزلت على سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من
الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد .
(ب) المحققون من
المفسرين عند ما بدءوا في تفسير سورة الأنعام صرحوا بأنها جميعها مكية ، وأنها قد
نزلت جملة واحدة ، وتجاهلوا قول القائل إن فيها آيات مدنية.
فهذا ـ مثلا ـ الإمام
ابن كثير ساق في مطلع تفسيره لهذه السورة الروايات التي تثبت أنها مكية ، ولم يذكر
رواية واحدة تثبت أن فيها آية أو آيات قد نزلت بالمدينة.
وابن كثير ـ كما
نعرف ـ من الحفاظ النقاد الذين يعرفون كيف يتخيرون الروايات ، وكيف يميزون بين
صحيحها وضعيفها.
(ج) الروايات التي
اعتمد عليها القائلون بأن تلك الآيات التسع مدنية روايات فيها
__________________
مقال ، ولم
يعتمدها المحققون من العلماء ، فقد نقل السيوطي عن ابن الحصار قوله : استثنى من
سورة الأنعام تسع آيات ـ مدنية ـ ولا يصح به نقل ، خصوصا وأنه قد ورد أنها نزلت
جملة .
(د) الذي يقرأ
سورة الأنعام بتدبر يجد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تتحدث باستفاضة
عن وحدانية الله ، وعن مظاهر قدرته ، وعن صدق النبي صلىاللهعليهوسلم في دعوته ، وعن الأدلة الدامغة التي تؤيد صحة البعث
والثواب والعقاب يوم القيامة ، إلى غير ذلك من المقاصد التي كثر الحديث عنها في
القرآن المكي.
ومن هنا كانت سورة
الأنعام بين السور المكية ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر حقائقها
، وتفند شبه المعارضين لها ، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل ـ مع طولها وتنوع
آياتها ـ جملة واحدة ، وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور
العلماء.
ومن ذلك يتبين أنه
لا مجال للقول بأن بعضها من قبيل المدني ، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا ،
فكلها جملة واحدة نزلت بمكة لغاية واحدة ، هو تركيز الدعوة بتقرير أصولها والدفاع
عنها .
هذه بعض الأدلة
التي تجعلنا نرجح أن سورة الأنعام كلها مكية ، وأنها نزلت على النبي صلىاللهعليهوسلم جملة واحدة.
٤ ـ لما ذا سميت
بسورة الأنعام؟
الأنعام لغة تطلق
على ذوات الخف والحافر من الحيوان ، وهي ـ الإبل والبقر والغنم ـ وقد سميت سورة
الأنعام بهذا الإسم ، لأنها فصلت الحديث عن هذه الأنواع بطريقة متعددة الجوانب ،
متنوعة الأهداف.
وقد تكرر لفظ
الأنعام في تلك السورة ست مرات في أربع آيات.
أما الآية الأولى
فقد حكى القرآن فيها ما كانوا يفعلونه من قسمتهم الحرث والأنعام إلى قسمين : قسم
جعلوه لله يتقربون به إليه عن طريق إكرام الضيف ومساعدة المحتاج.
وقسم جعلوه
لآلهتهم فذبحوه على الأنصاب ، وأنفقوا منها على سدنتها وخدمها ، ثم هم بعد ذلك
العمل الباطل لا يعدلون في القسمة ، يجورون أحيانا على القسم الذي جعلوه لله ؛
بينما
__________________
يتحرزون عن الجور
على القسم الذي جعلوه لشركائهم.
قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا
لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ
لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) .
وأما الآية
الثانية فقد ورد فيها لفظ «الأنعام» ثلاث مرات ، وقد كشف القرآن فيها عن بعض أعمال
المشركين المنكرة ، وهي أنهم جعلوا الأنعام ثلاثة أقسام :
قسما لا يأكل منه
عند ذبحه إلا سدنة الأوثان والرجال دون النساء. وقسما يحرم ركوبه كالبحيرة
والسائبة والحامى ، وقسما لا يذكرون اسم الله عليه عند الذبح وإنما يذكرون أسماء
آلهتهم.
قال تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ
حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ
، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) .
وفي الآية الثالثة
تحدث القرآن عن لون من ألوان ظلمهم وجهلهم ، فقد كانوا يجعلون بعض ما في بطون
أنعامهم إذا نزل حيّا كان خاصّا بالرجال دون النساء ، وإذا نزل ميّتا فالرجال
والنساء فيه شركاء.
قال تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ
مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ) .
أما الآية الرابعة
، فقد بين القرآن فيها جانبا من نعم الله على عباده ، إذ جعل لهم من الأنعام
أنواعا تذبح لينتفعوا بلحومها وشحومها وجلودها وأنواعا تحمل أثقالهم إلى بلد لم
يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.
قال تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً
، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) .
وهناك آيات أخرى
سوى هذه الآيات السابقة تناول الحديث فيها أحكاما أخرى تتعلق بالأنعام ، وسنفصل
القول فيها عند تفسيرنا لها ـ بعون الله ـ تعالى ـ.
__________________
٥ ـ مناسبتها لما
قبلها :
وقد جرت عادة بعض
المفسرين أن يعقدوا مناسبة بين السورة وبين سابقتها ، ولعل أكثرهم توسعا في ذلك
الإمام الآلوسى فقد قال : «ووجه مناسبتها لآخر المائدة أنها افتتحت بالحمد
والمائدة اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان ، كما قال ـ سبحانه ـ (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .
وقال الجلال
السيوطي في وجه المناسبة : «إنه ـ تعالى ـ لما ذكر في آخر المائدة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما فِيهِنَ) على سبيل الإجمال ، افتتح ـ جل شأنه ـ هذه السورة بشرح ذلك
وتفصيله ، فبدأ ـ سبحانه ـ بذكر خلق السموات والأرض ، وضم ـ تعالى ـ إليه أنه جعل
الظلمات والنور ، وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ، ثم ذكر أنه خلق النوع الإنسان وقضى
له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث ، وأنه ـ جل جلاله ـ منشئ القرون قرنا بعد قرن ،
ثم قال ـ تعالى ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ. فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) فأثبت أنه ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ، ثم ذكر ـ سبحانه
ـ خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ، ثم خلق النوم واليقظة والموت ، ثم أكثر في
أثناء السورة من ذكر الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح
وفلق الحب والنوى ، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها ، وإنشاء جنات
معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن».
هذا ، وقد عقد
فضيلة الشيخ محمود شلتوت ـ رحمهالله ـ مقارنة ضافية بين سورة الأنعام وبين ما سبقها من سور
مدنية فقال ما ملخصه :
وأما السور الأربع
المدنية التالية لسورة الفاتحة ـ والسابقة لسورة الأنعام ـ وهي سور : البقرة ، آل
عمران ، النساء ، المائدة ، فهي بحكم مدنيتها تشترك كلها في هدف واحد وهو تنظيم
شئون المسلمين بالتشريع لهم باعتبارهم أمة مستقلة ، وبإرشادهم إلى مناقشة أهل
جوارهم فيما يتصل بالعقيدة والأحكام ، وإلى الأساس الذي يرجعون إليه ويحكمونه في
التعامل معهم في حالتي السلم والحرب ، وقلما تعرض هذه السور المدنية إلى شيء من
شئون الشرك ومناقشة المشركين.
وهذه السور مع اشتراكها
في أصل الهدف العام ، تختلف قلة وكثرة فيما تتناوله من التشريع الداخلى الخاص
بالمسلمين ، والتشريع الخارجي الذي يرتبط بهم مع من يخالفهم في الدين.
__________________
إن سورة البقرة قد
نزلت في أوائل الهجرة ، وقد صار للمسلمين بالهجرة كيان خاص وجوار خاص ، وبذلك كان
أمامها هدفان :
الأول : نظم يأخذ
بها المسلمون أنفسهم في عباداتهم ومعاملاتهم : شخصية ومدنية وجنائية.
والهدف الآخر :
إرشاد إلى طريق المناقشة فيما كان مجاوروهم يثيرونه حول الدين والدعوة من شبه
وتشكيكات ، وقد تجلى هذان الهدفان بصورة واضحة في سورة البقرة ، برز أحد الهدفين
في نصفها الأول ، وبرز الهدف الثاني في نصفها الأخير ، واقرأ في الأول على وجه عام
من قوله ـ تعالى ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (الآية ٤٠) إلى
قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ) (الآية ١٧٦).
واقرأ في الهدف
الثاني قوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (الآية ١٧٧) إلى
نهاية الآية ٢٨٣ : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).
وقد عرضت في هذا
السبح الطويل بعد أن أجملت أوصاف الصادقين في إيمانهم المتقين في أعمالهم لجملة من
الأحكام التي تسوس الأمة فيما بينها.
عرضت القصاص ،
والوصية ، والصيام ، والقتال ، وبعض أحكام الحج. إلخ.
ثم تجيء سورة آل
عمران ، فتصرف عناية خاصة إلى مناقشة النصارى في قضية الألوهية ، وإلى كشف بعض صور
التزييف التي كان يصطنعها أهل الكتاب إخفاء لحق الإسلام ودعوته.
ثم ترشد المسلمين
إلى ما يحفظ عليهم شخصيتهم ، ويقيهم شر الوقوع في مخالب الأعداء وترسم لهم في ذلك
الطرق الحكيمة التي تجعل منهم قوة الجهاد في تأييد الحق وهزيمة الباطل.
وعلى أساس من
مشاركة سورة النساء لزميلاتها المدنيات في أصل الهدف تناولت الأمرين : تنظيم جماعة
المسلمين ، ومناقشة أهل الكتاب في موضوع الألوهية والرسالة ، غير أن عنايتها بجانب
التنظيم كانت أشد من عنايتها بجانب المناقشة.
ثم تجيء سورة
المائدة فتأخذ سبيل أخواتها أيضا ، فتشرع للمسلمين في خاصة أنفسهم ، وفي معاملة من
يخالطون من أهل الكتاب ، مع الإرشاد إلى طرق محاجتهم والتنبيه على أخطائهم
وتحريفهم للكلم عن مواضعه. وتذكيرهم بسيئاتهم مع أنبيائهم. وقد استغرق ذلك معظم
السورة.
أما سورة الأنعام
فإنها لم تعرض لهدف من الأهداف الأصلية التي تميزت بها السور الأربع المدنية
قبلها.
فهي أولا : لم
تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين ، كالصوم والحج في العبادات ،
والعقوبات في الجنايات ، والمداينة والربا في الأموال ، وأحكام الأسرة في الأحوال
الشخصية.
وهي ثانيا : لم
تذكر في قليل ولا كثير شيئا يتعلق بالقتال ومحاربة الخارجين عن دعوة الإسلام.
وهي ثالثا : لم
تتحدث في شيء ما عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك لم تتحدث عن طوائف
المنافقين ولا عن أخلاقهم السيئة ومسالكهم المظلمة.
وهي رابعا : لا
نجد فيها مع ذلك كله نداء واحدا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنتظمها وحدة الإيمان ،
لا نجد فيها شيئا من هذا كله كما وجدناه جميعا في السور الأربع السابقة ، وإنما
نجد الحديث فيها يدور بشدة وقوة حول العناصر الأولى للدعوة ، ونجد سلاحها في ذلك ،
الحجة المتكررة ، والآيات المصرفة ، والتنويع العجيب في طرق الإلزام والإقناع :
تذكر توحيد الله في الخلق وفي الإيجاد ، وفي العبادة والتشريع ، وتذكر موقف
المكذبين وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين ، وتذكر شبههم في الرسالة ، وتذكر
يوم البعث والجزاء.
ولعلنا بعد هذا
نلمس الفرق الجلى الواضح بين منهج سورة الأنعام ، ومنهج السور الأربع المدنية
قبلها» .
٦ ـ عرض عام لسورة
الأنعام :
عند ما نفتح كتاب
الله لنتدبر ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد حكيمة ، وتوجيهات نافعة ، نراها
في مطلعها قد ابتدأت بحمد الله والثناء عليه وبيان استحقاقه لذلك ، لأنه ـ سبحانه
ـ هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ، وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في
الأرض ولا في السماء.
قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى
أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ* وَهُوَ اللهُ
فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ).
__________________
ثم تحدثت السورة
الكريمة عن طبائع المعاندين ، وأنذرتهم بسوء المصير إذا ما استمروا في عتوهم
وجحودهم ، وساقت لهم ـ ليعتبروا ، ما حل بالمكذبين الذين سبقوهم والذين كانوا أشد
منهم قوة وأكثر جمعا ، فعليهم أن يفيئوا إلى رشدهم حتى لا يصيبهم ما أصاب المكذبين
من قبلهم.
استمع إلى القرآن
وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ المؤثر ، فيقول تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ
رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ* فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* أَلَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
، ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً
وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).
ثم تأخذ السورة
بعد ذلك في تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم فترسم صورة عجيبة لمكابرة المشركين وأنهم قد غدوا ـ لانطماس
بصيرتهم واستيلاء الجحود على قلوبهم ـ لا يجدي معهم توجيه أو دليل ، حتى أنهم لو
نزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه بأيديهم ، وقرءوه بأعينهم ، وعرفوا منه صدق نبوتك
يا محمد ، لقالوا بعد كل ذلك (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ).
قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي
قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ* وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا
مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً
لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ* وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
فإذا ما وصلنا إلى
الربع الثاني من سورة الأنعام ، ألفيناها تسوق حشودا من البراهين الدالة على
وحدانية الله وقدرته بطريقة تحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، وبأسلوب يسكب في
القلوب السكينة والطمأنينة ، ويقنع العقول السليمة بأن المستحق للعبادة والخضوع
إنما هو الله وحده.
(قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَهُوَ* السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي* أُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ
إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ* يَوْمٍ عَظِيمٍ* مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ* وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ* فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ* وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ* الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ* قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ
بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى.
قُلْ لا أَشْهَدُ. قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ).
ثم ذكرت السورة
بعد ذلك حال المكذبين بيوم القيامة. فوضحت أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد ينكرون
أنهم كانوا مشركين ولكن هذا الإنكار لن ينفعهم شيئا لأن الذي يخاطبهم هو العليم
الخبير.
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ
قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).
ثم تمضى الآيات في
الحديث عن مشاهد يوم القيامة ، فتصور حسرتهم وندمهم عند ما يقفون على النار التي
كانوا يكذبون بها في الدنيا ، وعند ما يقفون أمام ربهم الذي كانوا يشركون معه آلهة
أخرى فتقول :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ*
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ*
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ ، قالَ : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟
قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
ثم بعد هذا
التصوير المؤثر لأحوال المشركين يوم القيامة ، يتركهم القرآن مؤقتا ليوجه خطابه
إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مسليا له ، ومثبتا لقلبه ، وداعيا إياه إلى الصبر على تحمل
الرسالة بدون كلل أو ملل ، وإلى التأسى بمن سبقوه من أولى العزم من الرسل.
قال تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ
بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ* وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا
عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ
اللهِ ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْراضُهُمْ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ
سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).
أما الربع الثالث
من السورة الكريمة فقد افتتح ببيان أن الذين يستجيبون لدعوة الحق إنما هم الذين
يسمعون ويتعظون وهم الأحياء حقا ، أما من ماتت قلوبهم فصارت لا تتفتح للحق ، ولا
تتقبل الهداية فإن مصيرهم إلى الله ، فهو ـ سبحانه وتعالى ـ سيجازيهم بسبب جحودهم
وعنادهم ومطالبتهم لنبيهم بالمطالب المتعنتة التي لا فائدة من ورائها.
قال تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ*
وَقالُوا :
لَوْ
لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ : إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ
يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
ثم تدعوهم السورة
بعد ذلك بأسلوب تلقيني إنذارى إلى التفكر والتدبر في مظاهر قدرة الله وتبين لهم
بطريقة منطقية مقنعة أن الله وحده هو القادر على سلب أسماعهم وأبصارهم ، وهو
القادر على إنزال العذاب بهم أو رفعه عنهم. استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه
المعاني بأسلوبه الفريد فيقول :
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ، أَغَيْرَ اللهِ
تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ ما
تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ).
ثم يقول : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ
سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ
يَأْتِيكُمْ بِهِ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ*
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).
ثم وضحت السورة أن
وظيفة الرسل إنما هي التبشير للمتقين والإنذار للمكذبين وأن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يقل لهم إنى أملك خزائن الأرض ، أو إنى أعلم الغيب ، أو
إنى ملك من الملائكة. وإنما قال لهم : إنى بشر مثلكم أتبع ما يوحى إلى من ربي ،
والناس مختلفون بعد ذلك في تلقى نور الوحى ، وجزاؤهم على حسب حالهم وعملهم ، فلا
يستوي المحسن والمسيء كما لا يستوي الأعمى والبصير :
قال تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ، إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا
تَتَفَكَّرُونَ).
ثم تمضى السورة في
سرد توجيهاتها وحكمها فتسوق البشارة للمؤمنين الذين اقترفوا بعض السيئات ثم تابوا
من بعد ذلك وأصلحوا ، كما تسوق الإنذار الحاسم للمشركين الذين لم يتبعوا الطريق
القويم فتقول :
(وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ
ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَكَذلِكَ
نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ).
ثم يمضى السياق مع
المكذبين المستعجلين بالعذاب فيطلعهم ويطلع غيرهم في الربع الرابع من السورة على
صورة شاملة لعلم الله الواسع ، وقدرته النافذة ، وحكمته الحكيمة ، ويطوف بهم في
مجاهل الغيب الذي لا يعلمه إلا هو ، وفي عالم البر والبحر الذي لا يخرج منه شيء عن
إرادته ، وفي ظلمات الأرض المخبوءة التي لا يحيط بها إلا علمه ، ثم يريهم كيف أنهم
محكومون
بإرادته. وأن
حركاتهم وسكناتهم مردها إليه ، وأنهم في ساعة الشدة والكرب لا يلوذون إلا بحماه.
تدبر كتاب الله
وهو يحكى كل ذلك بطريقته المقنعة للعقل والعاطفة فيقول :
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ
الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ* وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ،
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ* ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ
مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ* قُلْ مَنْ
يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً ، لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ
اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ* قُلْ
هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
، انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
وبعد هذا البيان
الذي تعددت مظاهر عظاته وعبره ، وتنوعت ألوان هداياته وإرشاداته اتجه القرآن
بالخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ليقول له مسليا ومثبتا : إن قومك قد كذبوك مع أن ما معك هو
الحق المبين قل لهم :
(لَسْتُ عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ* لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
ثم يأمره ويأمر كل
من يتأتى له الخطاب بالإعراض عن الجاهلين الذين يخوضون في آيات الله بغير علم
فيقول :
(وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
ثم تبدأ السورة في
الرابع الخامس منها جولة جديدة لتثبيت العقيدة السليمة فتسلك طريق القصة ، وتتخذ
من إبراهيم أبى الأنبياء نموذجا لاستقامة الفطرة ، وسلامة التفكير وحسن الإدراك
ويقظة العقل ، فقد رأى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بفطرته النقية أن الأصنام لا يعقل أن تكون آلهة. وخاطب
أباه وقومه بذلك ، واعتبرهم بهذا الإشراك في ضلال مبين ، ثم اتجه إلى التعرف على
الإله الحق فتخيله في كوكب ، ولكنه حين أفل وزال قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لأن الإله الحق لا يغيب ولا يزول. ثم ظن الألوهية في ذلك
القمر الذي ينسكب نوره في الوجود
فيضيء الليل
البهيم ، ولكنه رأى القمر ـ أيضا ـ يأفل ويغيب فأعرض عن اتخاذه إلها والتمس من
الإله الحق أن يهديه إلى الصراط المستقيم.
فلما أصبح الصباح
ورأى الشمس وقد أشرقت وعم ضوؤها الآفاق قال : (هذا رَبِّي) لأنها أكبر مصادر الضوء ، فلما غابت الشمس أدرك بفطرته
السليمة أن الإله لا يغيب ولا يكون شيئا محسوسا ، فقرر البراءة من الشرك ، واتجه
إلى الخالق الحق الذي تدل آثاره على وجوده وعلى مخالفته لمخلوقاته فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). ثم أخذ بعد ذلك يجادل قومه ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ،
ويقيم لهم الأدلة على بطلان معتقداتهم.
تأمل معى ـ أيها
القارئ الكريم ـ تلك الآيات الكريمة التي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البديع
فتقول :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً ، إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ
قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ، فَلَمَّا
أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ).
ثم مضت السورة
الكريمة في الحديث عن رسل الله الذين آتاهم الله الحجة على أقوامهم ، وختمت الحديث
عنهم بالثناء عليهم ووجوب الاقتداء بهم في هديهم وسلوكهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ
هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).
وبعد هذا القصص
المذكر ، والتوجيه المنبه ، والتدليل الواضح على وحدانية الله وقدرته ساقت لنا
السورة في الربع السادس منها حشودا متنوعة من مظاهر قدرة الله ومن نعمه التي لا
تحصى على عباده. إنها هنا توقفنا أمام هذا الكون الرائع البديع لتقول لنا : انظروا
ماذا في السموات والأرض ، ثم اتجهوا بالعبادة والخضوع إلى الله رب العالمين ، فهو
الذي فلق الحب فكان منه النبات ، وفلق النوى فكان منه الشجر ، وهو الذي يخرج الحي
من الميت ويخرج الميت من الحي ، وهو الذي يأتيكم بالضياء بعد الليل المظلم لكي
تبتغوا من فضله ، ويأتيكم بالليل بعد النهار لكي تسكنوا فيه بعد طول الكدح والعناء
، وهو الذي يسير الشمس والقمر بتقدير
دقيق وحساب لا
يتخلف ، وهو الذي زين السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، وهو الذي
أوجدكم جميعا من نفس واحدة لها مستقر في أصلاب الرجال ومستودع في أرحام النساء ،
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كل شيء. لأن الماء قوام الحياة.
استمع إلى القرآن
وهو يحكى كل هذه النعم الدالة على قدرة الله وفضله فيقول : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى
، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ،
ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ* وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ
مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ ، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ، إِنَّ فِي
ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
وبعد أن ساق
القرآن كل هذه النعم التي أسبغها الله على الناس ، والتي من شأنها أن تجعلهم
يخصونه بالعبادة والاستعانة ، بعد كل ذلك صرح بأنه ـ مع كل هذه النعم ـ أضحى
الكثيرون من خلقه يشركون معه آلهة أخرى ، ويزعمون أن له بنين وبنات.
ولقد رد القرآن
على هؤلاء الجاحدين بالحجة البالغة التي تدمغ باطلهم وتخرس ألسنتهم ، وتنزه الخالق
ـ عزوجل ـ عما قالوه وافتروه بغير علم فقال :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ
، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ثم تتابع في الربع
السادس منها حديثها عن المكابرين الذين لم يكتفوا بالقرآن معجزة للنبي صلىاللهعليهوسلم ، بل طلبوا منه ـ على سبيل التعنت ـ معجزات أخرى حسية ،
فتحكى السورة أقوالهم وترد عليهم بما يفضح أكاذيبهم ، لأنهم لعنادهم وجحودهم لو أن
الله ـ تعالى ـ أجاب لهم مطالبهم ما كانوا ليؤمنوا ، إذ هم لا تنقصهم الآيات
الدالة على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم وإنما الذي ينقصهم هو القلب المنفتح للحق ، والنفس
المتقبلة للهداية.
قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ، قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ*
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ
فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).
ثم تستطرد السورة
الكريمة فتحكى بعض رذائل المشركين في مآكلهم وذبائحهم ، وتنهى المؤمنين عن الأكل
من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها إلا في حالة الاضطرار ، ثم تغرس فيهم خلق
الحياء من الله فتأمرهم أن يتركوا الفواحش ما ظهر وما بطن ، ثم تبين لهم أن
المشركين سيثيرون الشكوك والشبهات حول عقيدتهم فعليهم أن يهملوا مجادلاتهم وأن
يتركوهم في طغيانهم يعمهون :
قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ* وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ، وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ*
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ
سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ* وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ، وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
ثم تضرب السورة
الأمثال للكفر والإيمان ، فتشبه الكفر بالموت وتشبه الإيمان بالحياة ، فكما أنه لا
يتساوى الميت مع الحي ، فكذلك لا يتساوى الضال الذي هو كالميت مع المؤمن الذي يحيا
حياة طيبة وله نور يمشى به في الناس ، ثم تبين أنه من دأب الجاحدين والحاقدين
محاربة الحق ، وأنه ليس بغريب أن يحارب زعماء قريش الدعوة الإسلامية لأنهم يحسدون
صاحبها على ما آتاه الله من فضله ، ويطلبون أن تكون النبوة فيهم مع أن النبوة هبة
من الله يهبها لمن يشاء من عباده ، وأنهم بسبب هذا الحقد سيصيبهم عذاب شديد من
الله ـ عزوجل ـ.
قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ* وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها
لِيَمْكُرُوا فِيها ، وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ*
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ
رُسُلُ اللهِ* اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ* فَمَنْ
يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ* وَهذا صِراطُ
رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).
فإذا ما وصلنا إلى
الربع الثامن من سورة الأنعام ، رأيناها تعرض مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، تعرض
مشهد الحشر للجن والإنس وهم يتناقشون ويتلاومون ويتحسرون ، ولكن ذلك لن يفيدهم
لأنهم قد وسوس بعضهم إلى بعض زخارف من الأباطيل والأكاذيب. تعرض
مشهدهم عند ما
يقفون أمام ربهم فيسألهم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ
يَوْمِكُمْ هذا)؟ وهنا لا يملكون ، إلا الشهادة على أنفسهم بأن الرسل
الكرام قد بشروهم وأنذروهم ، ولكن الشيطان هو الذي استحوذ عليهم فجعلهم يستحبون
العمى على الهدى.
استمع إلى القرآن
الكريم وهو يصور هذا المشهد بأسلوبه الرائع فيقول :
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها
إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
كافِرِينَ).
ومع أن السورة
الكريمة قد تعرضت ـ فيما سبق منها ـ بصورة موجزة للأباطيل التي كان يتبعها
المشركون في ذبائحهم ومآكلهم ومشاربهم ، إلا أنها هنا ـ في أواخر الربع الثامن وفي
معظم الربع التاسع ـ قد أفاضت القول في استعراض رذائل المشركين التي تتعلق بنذورهم
ومطاعمهم وذبائحهم وما أحلوه وما حرموه ، وذلك لأن السورة الكريمة تريد أن تنقى
العقيدة الإسلامية من كل ما كان سائدا في الجاهلية من معتقدات باطلة ، وأفعال
قبيحة ، وتقاليد وثنية موروثة ، وعادات جاهلية مرذولة ، فتحدثت عن أوهامهم التي
منها أنهم جعلوا لله مما خلق نصيبا وجعلوا لآلهتهم نصيبا آخر ، ثم هم بعد ذلك لا
يعدلون في قسمتهم مع بطلانها ، بل تارة يأخذون من نصيب الله الذي هو للفقراء فيجعلونه
لسدنة أصنامهم وخدامها. ومنها أن يعضهم كانوا يقتلون أولادهم سفها بغير علم لأن
الشياطين زينت لهم ذلك. ومنها أنهم شرعوا لأنفسهم أحكاما ما أنزل الله بها من
سلطان.
ولقد حكى القرآن
بعض هذه الرذائل التي كانت متفشية فيهم ، ووبخهم عليها ونهى المؤمنين عن سلوك مسلكهم
فقال :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى
اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ*
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ
شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ
اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).
ثم قال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا
أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً
عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).
ثم انتقلت السورة
بعد ذلك ـ في الربع التاسع منها ـ إلى الحديث عن الطيبات التي أحلها الله لعباده
في مأكلهم ومشربهم ، فذكرت ألوانا من النعم التي خلقها الله وأنشأها لعباده ، فقد
أنشأ ـ سبحانه ـ الجنات المعروشات أى المرفوعات على ما يحملها كالأعناب وما يشبهها
، وأنشأ الجنات غير المعروشات كالبرتقال وغيره ، كما أنشأ الزروع والأشجار
المختلفة الأنواع والثمار. وذلك كله لكي يقبل الناس على عبادة خالقهم ، ويشكروه
على نعمه التي لا تحصى.
قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
ثم أخذت السورة
تناقش المشركين فيما أحلوه وحرموه من الأنعام بأسلوب منطقي رصين ، يقيم عليهم
الحجة ، ويكشف عن سخافة تفكيرهم وتفاهة عقولهم ، واتباعهم خطوات الشيطان في تحريم
بعضها وتحليل البعض الآخر ، فهذه الأنعام ثمانية أزواج ، من الضأن اثنان ، ومن
المعز اثنان ، ومن الإبل اثنان ، ومن البقر اثنان ، فلما ذا حرم المشركون على
أنفسهم بعضها دون بعض؟ إن كان التحريم للأنوثه فعليهم أن يحرموا جميع الإناث ، وإن
كان للذكورة فعليهم أن يحرموها ، إذا فتحريمهم لبعض الذكور دون بعض يدل على ضلال
في التفكير ، وجهالة في الأحكام ، وافتراء على الله بغير علم.
استمع إلى القرآن
وهو يحكى أوهامهم ثم يرد عليها بما يدمغها فيقول :
(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ ، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمِنَ
الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ
أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ
كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ثم صرحت السورة الكريمة أن ما حرمه الله على اليهود من
المطاعم كان بسبب بغيهم ، وقساوة قلوبهم ، وأنهم وأمثالهم ـ الذين يتنصلون من تبعة
الضلال ويحيلونها على مشيئة الله ـ كاذبون فيما يزعمون ، وأنهم يهرفون بما لا
يعرفون ، وإلا فأين دليلهم على هذا التنصل؟ وأين حجتهم على أن الله قد حرم هذا
وأحل هذا؟
لقد حكى القرآن
مزاعمهم ثم فندها بالبراهين الدامغة ، والحجة البالغة فقال :
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ*
فَإِنْ كَذَّبُوكَ* فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ، وَلا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ* سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ
ما
أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ
حَرَّمَ هذا ، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
فإذا ما انتهينا
إلى الربع العاشر ـ والأخير ـ من سورة الأنعام رأيناها تخاطب أولئك الذين أحلوا
لأنفسهم ما حرمه الله وحرموا عليها ما لم يأذن به فتقول لهم ولغيرهم «تعالوا أتل
ما حرم ربكم عليكم» ثم تسوق عشر وصايا رسمت للإنسان طريق علاقته بربه ، ووضعت
الأساس المكين الذي يبنى عليه صرح الأسرة الفاضلة التي منها تتكون الأمة القوية
الناجحة في الحياة ، وأوصدت منافذ الشرور والآثام التي تصيب المسلم في نفسه أو
ماله أو عرضه ثم ذكرت أهم المبادئ التي تسمو بالمحافظة عليها الحياة الاجتماعية الكريمة
، وختمت هذه الوصايا ببيان أنها هي الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان أن يتبع
هداه حتى لا يزل أو يضل.
استمع إلى القرآن
وهو يسوق هذه الوصايا الحكيمة فيقول :
(قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً ، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وَإِذا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ،
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وبعد أن ساقت
السورة الكريمة هذه الوصايا الحكيمة اتجهت في ختامها إلى دعوة الناس للعمل بكتاب
الله الذي أنزله ليكون هداية ورحمة لهم ، وأنذرت الذين يعرضون عن هديه الحكيم بسوء
العذاب ، وحثت كل عاقل على المبادرة إلى الإيمان بالله من قبل أن يأتى يوم لا ينفع
فيه الإيمان ، ولا تنفع فيه الأعمال ، لأنه يوم جزاء وحساب ، وأمرت في ختامها كل
مسلم بأن يخلص عمله لله ، وأن يحمده على هدايته إياه إلى طريق الحق والرشاد ،
وبينت منزلة الإنسان في هذا الوجود وحضته على أن يكون بقوله وعمله أهلا لهذه
المنزلة السامية حتى ينال رضا الله.
وقد ساقت السورة
في ختامها كل هذه المعاني بأسلوب ساحر يخلب الألباب ، ويرقق
القلوب ، ويصفى
النفوس ، ويشيع في وجدان المؤمن الأنس والبهجة والخوف والرجاء.
قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي
رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ،
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ
فِي ما آتاكُمْ ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
هذه هي أهم
المقاصد التي اشتملت عليها سورة الأنعام ، ومنها نستخلص أن الأغراض الرئيسية التي
استهدفتها السورة الكريمة تتركز فيما يلي :
(أ) إقامة الأدلة
على وحدانية الله وقدرته ، وأنه سبحانه ـ هو المستحق للعبادة والخضوع ، وأن شريعته
وحدها هي التي يجب أن تكون مرجعنا في كل ما يتعلق بعبادتنا ومعاملاتنا وسائر
شئوننا.
(ب) إقامة الأدلة
على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم في دعوته ، مع بيان وظيفته وتسليته عما يلاقيه من أعدائه.
(ج) إقامة الأدلة
على أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الناس سيحاسبون فيه على أعمالهم ، إن خيرا فخير
وإن شرا فشر.
(د) تفنيد الشبهات
التي أثارها المشركون حول هذه الأمور الثلاثة السابقة بأسلوب يقنع العقول ، ويهدى
القلوب ، ويرضى العواطف ، ويحمل العقلاء على المسارعة إلى الدخول في هذا الدين عن
طواعية واختيار.
٧ ـ من فضائل سورة
الأنعام ومزاياها :
تكاثرت الروايات
في بيان فضائل سورة الأنعام وأنها قد نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة ، كما
تكلم العلماء عن المميزات التي تميزت بها هذه السورة في عرضها للحقائق التي اشتملت
عليها.
وفي ذلك يقول
الإمام الرازي : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة.
أحدهما : أنها
نزلت دفعة واحدة.
والثاني : أنها
شيعها سبعون ألفا من الملائكة ، والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل
التوحيد والعدل
والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين» .
ويقول الإمام
القرطبي : (هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب
بالبعث والنشور ، وهذا يقتضى إنزالها جملة واحدة ، لأنها في معنى واحد من الحجة
وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين ..).
ويقول فضيلة
الأستاذ الشيخ محمود شلتوت :
ويجدر بنا أن نلفت
النظر إلى أن سورة الأنعام قد عرضت ما عرضت في أسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بتلك
الكثرة في غيرها من السور :
أما الأسلوب الأول
فهو أسلوب التقرير ، فهي تورد الأدلة المتعلقة بتوحيد الله وتفرده بالملك والتصرف
، والقدرة والقهر ، في صورة الشأن المسلم الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل ، وتضع
لذلك ضمائر الغائب عن الحس الحاضر في القلب ، وتجرى عليه أفعاله وآثار قدرته
ونعمته البارزة للعيان ، والتي لا يمارى قلب سليم في أنه مصدرها ومفيضها وصاحب
الشأن فيها :
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).
(وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ).
(وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
(وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) .. ألخ هذا هو أحد الأسلوبين.
أما الأسلوب
الثاني فهو أسلوب تلقين الحجة ، والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تأخذ عليه سمعه ،
وتملك عليه قلبه ، وتحيط به من جميع جوانبه فلا يستطيع التفلت منها ، ولا يجد بدا
من الاستسلام لها.
ففي حجج التوحيد
والقدرة يقول : (قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ).
__________________
(قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).
وفي حجج الوحى وبيان
مهمة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأن الرسالة لا تنافى البشرية وفي إيمان الرسول بدعوته
واعتماده فيها على الله ، وعدم اكتراثه بهم ، أو انتظار الأجر منهم يقول.
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
(قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ).
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
وفي وعيدهم على
التكذيب يقول : (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
هذان الأسلوبان : (هو
كذا) و (قل كذا) قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة من الحجج وقضايا التبليغ ،
وهما وإن جاءا في غيرها من سور القرآن إلا أنهما وخاصة الأسلوب الثاني وهو أسلوب (قل
كذا) لم يوجد في غيرها بهذه الكثرة التي نراها في هذه السورة ، وهما بعد ذلك : أسلوبان
من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين وإسرافهم في المعارضة ، وأنهم
بحالة تستوجب تلك الشدة التي تستخرج الحق من نفوسهم ..
ويدل الأسلوبان من
جهة أخرى على أنهما صدرا في موقف واحد ، وفي مقصد واحد ، لخصم واحد بلغ من الشدة
والعتو مبلغا استدعى من القوى القاهر تزويد المهاجم بعدة قوية تتضافر أسلحتها في
حملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء فتزلزل عمده ، وتهد من بنيانه فيخضع للتسليم
بالحق الذي يدعى إليه.
ومن هنا كانت سورة
الأنعام بين السور المكية ، ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر
حقائقها ، وتفند شبه المعارضين لها ، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل ـ مع
طولها وتنوع آياتها ـ جملة واحدة وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره
جمهور العلماء ا ه .
وبعد : فهذا تمهيد
بين يدي تفسير سورة الأنعام ، تعرضنا خلاله لبيان مكان نزولها ، ولبيان الفترة
الزمنية التي نزلت فيها ، ولطبيعة هذه الفترة ، ولسبب تسميتها بهذا الاسم ،
ولمناسبتها للسور التي قبلها ، وللأهداف الإجمالية التي اشتملت عليها ، ولجانب من
فضائلها ومزاياها.
__________________
ولعلنا بذلك ـ أيها
القارئ الكريم ـ نكون قد قدمنا لك فكرة مجملة عن هذه السورة الكريمة تعينك على
تفهم أسرارها ، ومقاصدها ، وتوجيهاتها ، عند تفسيرنا لآياتها بشيء من التفصيل
والتحليل. والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول
والعمل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التفسير
قال الله تعالى :
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ)
(٣)
افتتحت سورة
الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين ، وهي أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء
الكامل هو رب العالمين.
والحمد : هو
الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
وأل في (الْحَمْدُ) للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان
الثناء هو الله تعالى ، وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما
يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شيء ، وما
يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه ـ سبحانه
ـ هو الذي وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه.
وقد بين بعض
المفسرين الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال : «اعلم أن
المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ،
فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على
أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا
للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد ،
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل
ما صدر عنه من
الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن
تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من
الشكر. إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل
للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، فكان
قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة
والمشيئة. وإنما لم يقل الشكر لله ، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب
إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه
من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما
إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص
أنه ـ تعالى أوصل النعمة إليه ، فيكون الإخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة
نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت» .
هذا وفي القرآن
الكريم خمس سور مكية اشتركت في الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده ، ولكن كان لكل
سورة منهج خاص في بيان أسباب ذلك الحمد.
أما السورة الأولى
فهي سورة الفاتحة التي تقول في مطلعها (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ).
أى : أن الحمد لله
وحده ، الذي ربي هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير ، ورباه تربية
عقلية أساسها منح قوى التفكير والإدراك ، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها
الأحكام التي أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين ،
والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية ، عن طريق الإيجاد والتصوير
، كما تنتظم التربية التشريعية التي أساسها الأحكام التي أوحاها الله إلى أنبيائه
ورسله.
وتجيء بعد سورة
الفاتحة في الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضا استحقاق الحمد لله وحده ،
لأنه «خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فهي تهتم بالحديث عن نوع خاص من
التربية ، وهو التربية الخلقية التي أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير
الحقيقي.
ثم تجيء بعدهما
سورة «الكهف» فتثبت أن الحمد لله ، لأنه (أَنْزَلَ عَلى
عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التي تهذب الروح ،
وتهدى الفكر.
والسورة الرابعة
التي افتتحت بإثبات أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي سورة سبأ ، لأنه ـ سبحانه ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، ثم تراها بعد ذلك
__________________
زاخرة بالحديث عن
أنواع التربية المطلقة التي تنجلي في إرساء مظاهر علم الله الشامل ، وملكه المطلق
، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التي تجعله أهلا لكل حمد وثناء.
أما السورة
الخامسة فهي سورة فاطر ، فقد أثبتت في مطلعها أن الحمد لله ، لأنه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ، أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ،
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر يراها تهتم بإبراز
إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهي تذكر
خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر. كما تذكر أنواع
الناس في الانتفاع بوحي الله ، وبهدى أنبيائه ورسله.
وهكذا نجد أن
السور الخمس قد اشتركت في أنها افتتحت بجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ*) وفي قصر الحمد والثناء عليه وحده. إلا أن كل واحدة منها قد
سلكت منهجا خاصا في تقرير هذه الحقيقة ، وفي إقامة الأدلة على صدقها.
وقد أحسن القرطبي
عند ما قال : «فإن قيل : قد افتتح غيرها ـ أى سورة الأنعام ـ بالحمد لله فكان
الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال : لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه ، لا يؤدى
عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة ، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على
الذين هم بربهم يعدلون» .
ثم بين القرآن بعد
ذلك الأسباب التي تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله ـ تعالى ـ فقال :
(الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).
والمعنى : الحمد
كله لله الذي أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية ، وأوجد ما فيها من
مخلوقات ناطقة وصامتة ، وظاهرة وخافية ، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات
ونور وظلمات. فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله ـ تعالى ـ تثبتان
وجوب استحقاق الحمد الكامل لله ـ عزوجل ـ وهما خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور.
وعبر ـ سبحانه ـ في
جانب السموات والأرض بخلق ، وفي جانب الظلمات والنور يجعل ، لأن الخلق معناه هنا
الإنشاء والإيجاد الابتدائى من العدم ، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو
من أشياء ، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض ، والنور يتكون من بزوغ الشمس
على الأرض ، وهذه التقلبات الكونية هي بتقدير الله العزيز العليم.
__________________
قال صاحب الكشاف :
«والفرق بين الخلق والجعل. أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين ،
كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار» .
وقال الفخر الرازي
: «وإنما حسن لفظ الجعل هنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما
كأنما تولد من الآخر» .
وقال أبو السعود :
«والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك ـ أى الخلق ـ مختص بالإنشاء
التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة والتشريعي
أيضا كما في قوله ـ تعالى ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ) .
وقد وردت نصوص
تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها في كثير من المواضع القرآنية تفرد ـ
أى الأرض ـ وتجمع السماء كما هنا ، لعظم السماء. ولإحاطتها بالأرض ، ولأنه لم يعرف
أن الله ـ تعالى ـ قد عصى فيها ، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض ، بخلاف
طبقات الأرض فإنها متصلة.
والمراد بالظلمات
هنا الظلمات الحسية ، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما ،
ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان
الكيفيتان المحسوستان ، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده
بالخلق وهم يعلمون تفرده ـ سبحانه ـ بخلق هذه الأشياء.
ويرى بعض المفسرين
أن المراد بالظلمات ، ظلمات الشرك والكفر والنفاق ، وأن المراد بالنور ، نور
الإيمان والإسلام واليقين ، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.
قال صاحب المنار :
قال الواحدي : والأولى حمل اللفظين عليهما ، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول
بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والمختار عندنا جوازه ، وجواز استعمال المشترك
في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا ، والتعبير بالجعل
دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر ـ أى الشرع ـ كما تقدم ، فيفسر
جعل كل نور بما يليق به.
__________________
وعبر القرآن في
جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفي جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه
الكشف والظهور ، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته. أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع
أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة
الغمام ، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها. ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي وهي أن
ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها ، فهناك ظلمة الانحراف ، وظلمة الأهواء ، والشهوات
وطمس القلوب.
والنور واحد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فالنور في هذا واحد .
ثم بين ـ سبحانه ـ
الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ).
العدل : المراد به
هنا التسوية ، فقال : عدل الشيء بالشيء إذا سواه به والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ هو
الذي خلق السموات والأرض ، وهو الذي جعل الظلمات والنور ، فهو لذلك من حقه على
خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء ، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل
الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره في العبادة ، ويشركون معه آلهة
أخرى لا تنفع ولا تضر.
وهذه الجملة
الكريمة معطوفة على جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى أن الله ـ تعالى ـ حقيق بالحمد على ما خلق من نعم
، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.
ويحتمل أن تكون
معطوفة على جملة «خلق السموات والأرض» على معنى أن الله ـ تعالى ـ قد خلق الأشياء
العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جمادا لا
يقدر على شيء أصلا.
وجاء العطف «بثم»
لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة
على وحدانية الله وقدرته ، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا في العبادة بين
الخالق والمخلوق.
قال القرطبي : قال
ابن عطية : فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد
تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ،
فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني! ولو وقع
__________________
العطف بالواو في
هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم» .
ثم ساق القرآن في
الآية الثانية دليلا آخر على أن الله ـ تعالى ـ هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى
أن يوم القيامة حق ، فتحدث عن أصل خلق الإنسان ، بعد أن تحدث في الآية الأولى عن
خلق السموات والأرض فقال :
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).
أى : هو الذي
أنشأكم من طين ، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم بعد ذلك ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ
لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).
وفي ذكر خلق
الإنسان من طين ، دليل على قدرة الله وعظمته ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي حول هذا
الطين إلى بشر سوى مفكر ، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى ، كما أن فيه
تذكيرا له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى ، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر
على أن يعيده إليه.
قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).
قال أبو السعود : (وتخصيص
خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض
من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم ، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ،
وهم بشئون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة البينة أقبح) .
وقال الجمل : (وإنما
نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم ـ عليهالسلام ـ وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس ، والمبالغة
في إزاحة الاشتباه والالتباس ، مع ما فيه من تحقيق الحق ، والتنبيه على حكمة خفية
هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ـ عليهالسلام ـ منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل
كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا ، فكان خلقه ـ عليهالسلام ـ من الطين خلقا لكل أحد من فروعه) .
__________________
ثم قال ـ تعالى ـ (ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ). الأجل في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد ،
وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره. والمعنى : أنه سبحانه ـ قدر لعباده
أجلين : أجلا تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينا ، وأجلا آخر يمتد من وقت
موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم ،
هذا هو الرأى الأول في معنى الأجلين.
وقيل : المراد من
الأجل الأول آجال الماضين من الخلق ، ومن الثاني آجال الباقين منهم. وقيل المراد
من الأول النوم ومن الثاني الموت. وقيل : المراد من الأول ما مضى من عمر الإنسان
ومن الثاني ما بقي منه.
والذي نرجحه هو
الرأى الأول لأسباب منها.
١ ـ أن من تتبع
ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان
الذي ينتهى بالموت ، ومن ذلك قوله تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ
لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .
٢ ـ أن الآية
الكريمة مسوقة لإثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق ، فالمناسب أن يكون المراد
بالأجل الثاني هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.
ولذا قال أبو
السعود في تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول : «ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن
الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت ، أو أن الأول أجل الماضين والثاني أجل
الباقين ، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه ؛ مما
لا وجه له أصلا ، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث
الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي
أى شيء تمترون؟» .
٣ ـ أن الرأى
الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة ، وبه قال جمهور المفسرين ، وقد عزاه ابن
كثير في تفسيره إلى عشرة من التابعين .
__________________
وعطفت الجملة
الكريمة بثم ، للإشارة إلى أطوار خلق الإنسان المختلفة ، فهو في أصله من سلالة من
طين ، ثم يصيره الله ـ تعالى ـ نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاما ، ثم يكونه ـ سبحانه
ـ وتعالى خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين».
ووصف الأجل الثاني
بأنه (مسمى عنده) ، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلا الله قال ـ تعالى
ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا
يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا
تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
وجاء قوله تعالى (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ ، والذي سوغ الابتداء به مع
كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ).
ومعنى (عنده) أى :
في علمه الذي لا يعلمه أحد سواه ، فهي عندية تشريف وخصوصية.
ثم ختمت الآية
الكريمة بتوبيخ الشاكين في البعث والحساب فقال ـ تعالى ـ :
(ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ). الامتراء : هو التردد الذي ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد
ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في
استعماله في الشك ، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث
ودم.
والمعنى : ثم إنكم
بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله ، وعلى أن يوم القيامة حق ، تشكون في
ذلك ، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه «بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير».
وجاء العطف بثم
لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة ، وبين ما سولته لهم أنفسهم من
المجادلة فيها.
قال الآلوسى : «والمراد
استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد
ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشيء من
ذلك ، كان أوضح اقتدارا على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة» .
وبعد أن أقام ـ سبحانه
ـ الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم
القيامة حق ، جاءت الآية الثالثة لتصفه ـ سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق
__________________
في هذا الكون فقال
تعالى ـ : (وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ).
أى : أنه ـ سبحانه
ـ هو المعبود بحق في السموات والأرض ، العليم بكل شيء في هذا الوجود ، الخبير بكل
ما يكسبه الإنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه.
والضمير «هو» الذي
صدرت به الآية يعود إلى الله ـ تعالى ـ الذي نعت ذاته في الآيتين السابقتين بأنه
هو صاحب الحمد المطلق ، وخالق السموات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، ومنشئ
الإنسان من طين ، وأنه لذلك يكون مختصا بالعبادة والخضوع.
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَهُوَ اللهُ) جملة من مبتدأ وخبر ، معطوفة على ما قبلها ، سيقت لبيان
شمول ألوهيته لجميع المخلوقات.
قال أبو السعود :
وقوله (فِي السَّماواتِ
وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بالمعنى الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل إما
باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما.
وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال ، فلو حظ معه منها
ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة ،
فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل : وهو المالك أو المتصرف المدبر فيهما
، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) .
وجملة (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر
والعلن هو الله وحده. ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم ، أو
خبرا ثانيا.
ثم صور ـ سبحانه ـ
طبيعة الجاحدين الذين هم ـ لانطماس بصائرهم وإصرارهم على العناد ـ غدوا لا يجدي
معهم دليل ولا تنفع معهم حجة ، وساق لهم أخبار من سبقوهم. فقال ـ تعالى ـ :
(وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ
__________________
يَرَوْا
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا
الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)
(٦)
والمعنى الإجمال
للآية الأولى : أن هؤلاء الجاحدين لرسالات الله ، لا تأتيهم معجزة من المعجزات
الدالة على صدقك ـ يا محمد ـ فيما تبلغه عن ربك إلا تلقوها بالإعراض ، واستقبلوها
بالنبذ والاستخفاف.
فالآية الكريمة ،
كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله ـ تعالى ـ وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان
كفرهم بالله ـ تعالى ـ وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد. وامترائهم في البعث ،
وإعراضهم عن أدلتة .
و (مِنْ) الأولى لاستغراق الجنس الذي يقع في حيز النفي ، كقولك : ما
أتانى من أحد والثانية للتبعيض ، أى : ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي توجب
النظر والتأمل والاعتبار ، إلا أهملوه وأعرضوا عنه. لقسوة قلوبهم وعدم تدبرهم
للعواقب.
وإضافة الآيات إلى
اسم الرب ـ عزوجل ـ تدل على تفخيم شأنها ، وعلى أن تكذيبهم لها إنما هو
تكذيب لما عرفوا مصدره ، كما يدل على شدة عنادهم وإيغالهم في الكفر والجحود.
والآية الكريمة
بأسلوبها المتضمن الحصر ، وباشتمالها على كان وخبرها المفيد للدوام ، والاستمرار ،
تفيد أن الإعراض عن الحق دأبهم ، وأنهم ليسوا على استعداد لتقبل الحق مهما اتضحت
معالمه ، وأسفرت حججه.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنهم لم يكتفوا بالإعراض عن الحق ، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته ، والتطاول
عليهم ، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال ـ تعالى ـ : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
فالآية الكريمة
كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم ، بعد أن كشفت سابقتها عن
عنادهم ونأيهم عن الحق.
__________________
وقد بين الفخر
الرازي مراحل تماديهم في الباطل كما صورها القرآن فقال «اعلم أنه ـ تعالى ـ رتب
أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب :
فالمرتبة الأولى :
كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر والبينات.
والمرتبة الثانية
: كونهم مكذبين بها ، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها ، لأن المعرض عن الشيء قد لا
يكون مكذبا به ، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له ، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على
الإعراض.
والمرتبة الثالثة
: كونهم مستهزئين بها ، لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء ،
فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار ، فبين ـ سبحانه ـ أن
أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب» .
والمراد بالحق
الذي كذبوا به : قيل إنه القرآن ، وقيل إنه المعجزات ، وقيل إنه الشرع الذي أتى به
محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : إنه الوعد الذي يرغبهم به تارة ، والوعيد الذي
يحذرهم بسببه تارة أخرى.
والذي نراه أن
تكذيبهم قد شمل كل ذلك ، لأنهم بعدم دخولهم في الإسلام قد صاروا مكذبين بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والتعبير بقوله (لَمَّا جاءَهُمْ) يفيد أن الحق قد وصل إليهم ، وطرق قلوبهم وأسماعهم ،
ولكنهم عموا وصموا عنه.
والأنباء : جمع
نبأ وهو ما يعظم وقعه من الأخبار ، والمراد بها في قوله ـ تعالى ـ : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الإخبار عن العذاب الذي توعدهم الله به عند إصرارهم على
كفرهم ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).
قال صاحب الكشاف :
(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْباءُ) الشيء الذي (كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو القرآن ، أى أخباره وأحواله ، بمعنى : سيعلمون بأى شيء
استهزءوا ، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في
الدنيا أو في يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته .
ثم ساق القرآن لهم
على سبيل النصيحة والإرشاد أخبار من سبقوهم في الكفر والبطر وبين لهم سوء عاقبتهم
ليعتبروا ويتعظوا فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ).
قال القرطبي : «القرن
الأمة من الناس والجمع القرون. قال الشاعر :
إذا ذهب القرن
الذي كنت فيهم
|
|
وخلفت في قرن
فأنت غريب
|
فالقرن كل عالم في
عصره ، مأخوذ من الاقتران ، أى عالم مقترن بعضهم إلى بعض ، وفي الحديث الشريف : «خير
الناس قرني ـ يعنى أصحابى ـ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فالقرن على هذا مدة
من الزمان ، قيل : ستون عاما ، وقيل : سبعون ، وقيل ، ثمانون ، وقيل مائة ـ وعليه
أكثر أصحاب الحديث ـ أن القرن مائة سنة ، واحتجوا بأن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لعبد الله ابن بشر : «تعيش قرنا» فعاش مائة .
والاستفهام الذي
صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم ، وإنكار ما وقع منهم من إعراض
واستهزاء ، وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه.
والتقدير : أعملوا
عن الحق وأعرضوا عن دلائله ، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام
كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
وجملة (أَهْلَكْنا) سدت مسد مفعول رأى إن كانت بصرية ، وسدت مسد مفعوليها إن
كانت علمية ، و (كَمْ) مفعول مقدم لأهلكنا ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) على حذف المضاف ، أى : من قبل زمنهم ووجودهم.
قال صاحب المنار :
وكان الظاهر أن يقال : مكناهم في الأرض ـ أى القرون ـ ما لم نمكنهم ، أى الكفار
المحكي عنهم المستفهم عن حالهم ، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب ،
لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما ، وكون المثبت عين
المنفي ، فقيل ما لم نمكن لكم .
و (ما) في قوله (ما لَمْ نُمَكِّنْ
لَكُمْ) يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي ، وهي حينئذ صفة لمصدر
محذوف. والتقدير : مكناهم في الأرض التمكين الذي لم نمكن لكم ، والعائد محذوف : أى
الذي لم نمكنه لكم. ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد
محذوف. أى : مكناهم في الأرض شيئا لم نمكنه لكم .
وفي تعدية الأول
وهو (مَكَّنَّاهُمْ) بنفسه والثاني وهو (نُمَكِّنْ لَكُمْ) باللام إشارة إلى أن
__________________
السابقين قد مكنوا
بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإسلام ،
وهذا أعظم في باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم.
هذا ، وقد وصف
الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين
المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم.
وصفهم ـ أولا ـ بأنهم
كانوا أوسع سلطانا ، وأكثر عمرانا ، وأعظم استقرارا ، كما يفيده قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ).
قال صاحب الكشاف :
«والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام
، والسعة في الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا» .
ووصفهم ـ ثانيا ـ بأنهم
كانوا أرغد عيشا ، وأسعد حالا ، وأهنأ بالا ، يدل على ذلك قوله تعالى :
(وَأَرْسَلْنَا
السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أى : أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة ، وعبر عنه
بالسماء لأنه ينزل منها.
ووصفهم ـ ثالثا ـ بأنهم
كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون ، فيبنون مساكنهم
على ضفافها. ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجملية ، كما يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ :
(وَجَعَلْنَا
الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أى : صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم.
ولكن ماذا كانت
عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التي لم تتيسر لأهل مكة ؛ كانت عاقبتهم ـ
كما أخبر القرآن عنهم ـ (فَأَهْلَكْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أى : فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك ، إذ
الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.
والإهلاك بسبب
الذنوب له مظهران :
أحدهما : أن
الذنوب ذاتها تهلك الأمم ، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض ، وبذلك
تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
والمظهر الثاني :
إهلاك الله ـ تعالى ـ لها عقابا عن أوزارها .
وقوله ـ تعالى ـ في
ختام الآية (وَأَنْشَأْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) يدل على كمال قدرة الله ،
__________________
ونفاذ إرادته ،
وأن إهلاكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا ، لأنه ـ سبحانه ـ كلما
أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى.
قال ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) .
ثم بين القرآن
توغلهم في الجحود والعناد ، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته ، وساق جانبا من
أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال ـ تعالى ـ :
(وَلَوْ نَزَّلْنا
عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
(١١)
الكتاب في الأصل
مصدر كالكتابة ، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب ، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى
مجموعة الصحف.
والقرطاس ـ بكسر
القاف وقد تفتح وتضم في بعض اللغات ـ ما يكتب فيه سواء كان من رق أو من ورق أو من
غيرهما : ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا.
والمعنى : إن هؤلاء
الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدقك يا محمد. ولكن الذي ينقصهم
__________________
هو التفتح للحق ،
والانقياد للهداية ، فإننا لو نزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس ـ كما اقترحوا
ـ فشاهدوه بأعينهم وهو نازل عليك ولمسوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وباشروه بعد
ذلك بجميع حواسهم بحيث يرتفع عنهم كل ارتياب ، ويزول كل إشكال. لو أننا فعلنا ذلك.
استجابة لمقترحاتهم المتعنتة ، لقالوا بلغة العناد والجحود ما هذا الذي أبصرناه
ولمسناه إلا سحر مبين.
فالآية الكريمة
تصور مكابرتهم المتبجحة ، وعنادهم الصفيق ، وإدبارهم عن الحق مهما تكن قوة أدلته ،
ونصاعة حجته.
قال الإمام الرازي
«بين الله ـ تعالى ـ في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من
السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر. والمراد من
قوله (فِي قِرْطاسٍ) أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه
وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر» .
و (لَوْ) في الآية الكريمة حرف امتناع ، أى : أنه ـ سبحانه ـ قد
امتنع عن إجابة مقترحاتهم لأنه يعلم أن إجابتها لا ثمرة لها ، ولا فائدة من ورائها
، لأن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم في دعوته ، وإنما الذي ينقصهم هو الاستجابة للحق والاتجاه
السليم لطلبه ، والاستماع إليه بعناية وتفكير.
وعبر ـ سبحانه ـ بقوله
: (فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ). مع أن اللمس هو باليد غالبا ـ للتأكيد وزيادة التعيين ،
ودفع احتمال المجاز. فالجملة الكريمة المقصود بها تصوير فرط جحودهم ومكابرتهم ،
وإعراضهم عن الحق مهما تكن قوة الدليل وحسيته.
وفي قوله ـ تعالى
ـ (لَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) إشارة إلى أن الكافرين وحدهم هم الذين بسبب كفرهم ـ ينتحلون
الأعذار لضلالهم ، ويصفون الحق الواضح بأنه سحر مبين. أما المؤمنون فإنهم يقابلون
الحق بالتصديق والإذعان.
وقد حكى القرآن
عنهم أنهم قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فأكدوا حكمهم الباطل بطريق النفي والإثبات ـ أى : أنه
مقصور على أنه سحر ـ وبالإشارة إليه ، وبأنه بين واضح في كونه سحرا ، وذلك يدل على
أن تبجحهم قد بلغ النهاية ، وأن مكابرتهم قد كذبت ما شهدت بصدقه حواسهم ، وإن قوما
بهذه الدرجة من العناد لا تجدى فيهم معجزة ، ولا ينفع معهم دليل.
وفي معنى هذه
الآية قد وردت آيات أخرى في القرآن الكريم منها قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ أَنَّنا
__________________
نَزَّلْنا
إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ
كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) .
ومنها قوله ـ تعالى
ـ (وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) .
ثم حكى القرآن بعض
مقترحاتهم المتعنتة ورد عليها بما يدحضها فقال :
(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا
عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ).
أى : قال الكافرون
للنبي صلىاللهعليهوسلم هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه ،
ونرى هيئته ، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
قال محمد بن إسحاق
«دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ قومه إلى الإسلام ، وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة
بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلده ، وعبد بن يغوث وأبى بن خلف بن وهب
والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويروى معك».
فهم لا يريدون
ملكا لا يرونه ، وإنما يريدون ملكا يمشى معه ويشاهدونه بأعينهم.
وأسند ـ سبحانه ـ القول
إليهم مع أن القائل بعضهم ، لأنهم جميعا متعنتون جاحدون ، وما يصدر عن بعضهم إنما
هو صادر في المعنى عن جميعهم لأن الباعث واحد ، ولو لا هنا للتحضيض فلا تحتاج إلى
جواب.
أى : وقال
الكافرون للنبي صلىاللهعليهوسلم هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه ،
ونرى هيئته ، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
وقد رد الله تعالى
ـ على قولهم هذا بردين حكيمين :
أما الرد الأول :
فقال فيه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا
مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ).
أى : لو أنزلنا
ملكا كما اقترح هؤلاء الكافرون وهم على ما هم عليه من الكفر والجحود ، لقضى الأمر
بإهلاكهم ، ثم لا ينظرون ، أى : لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا ، بل يأخذهم العذاب
عاجلا ، فقد مضت سنة الله فيمن قبلهم ، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم
__________________
يؤمنوا يعذبهم
الله بالهلاك ، والله ـ تعالى ـ لا يريد أن يهلك هذه الأمة التي بعث فيها خاتم
رسله نبي الرحمة صلىاللهعليهوسلم بسبب إجابة مقترحات أولئك المعاندين المستكبرين.
وأما الرد الثاني
فقال فيه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ).
أى : لو جعلنا
الرسول من الملائكة ـ كما اقترحوا ـ لكانت الحكمة تقتضي أن نجعله في صورة بشر
ليتمكنوا من رؤيته ومن سماع كلامه الذي يبلغه عن الله ـ تعالى ـ وفي هذه الحالة
سيقولون لهذا الملك المرسل إليهم في صورة بشر ـ : لست ملكا ، لأنهم لا يدركون منه
إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها ، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه
الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا.
ومعنى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) لخلطنا عليهم مثل ما يخلطون على أنفسهم بسبب استبعادهم أن
يكون الرسول بشرا مثلهم.
قال الإمام
القرطبي : قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ، فلو جعل الله
تعالى ـ الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به ، ولداخلهم من
الرعب من كلامه والاتقاء له ، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة
، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا :
لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك ، وعادوا إلى مثل حالهم» .
وبهذين الجوابين
الحكيمين يكون القرآن الكريم قد دحض شبهات أولئك الجاحدين ، وبين أن الحكمة تقتضي
أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، قال تعالى : ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى).
ثم أخذ القرآن في
تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم عما أصابه من قومه فقال :
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ).
والمعنى : لا تحزن
يا محمد لما أصابك من قومك ، فإن من شأن الدعاة إلى الحق المجاهدين في سبيله أن
ينالهم الأذى من أعدائهم ، ولقد أوذى من سبقك من الرسل الكرام ، وسخر الساخرون
منهم ، فصبروا على ذلك ، وجاءهم في النهاية نصرنا الذي وعدناهم به. أما أعداؤهم
الذين استهزءوا بهم ، فقد أخذناهم أخذ عزيز مقتدر (فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) .
__________________
فالآية الكريمة
تهدف إلى تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم والترويح عن نفسه ، وتبشيره بحسن العاقبة وتثبيت قلبه حتى
لا يتأثر أو يضعف أمام سفه المشركين وتطاولهم عليه.
والاستهزاء بالشيء
: الاستهانة به ، والاستهزاء بالشخص احتقاره وعدم الاهتمام بأمره. وتنكير الرسل
للتكثير والتعظيم ، والفاء في قوله (فَحاقَ) للسببية ، أى : بسبب هذا الاستهزاء برسل الله الكرام ،
أحاط العذاب بأولئك المستهزئين فأهلكهم.
وقال ـ سبحانه ـ (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) ولم يقل بالساخرين ، للإشارة إلى أن ما أصابهم من عذاب لم
يكن تجنبا عليهم ، وإنما كان بسبب سخريتهم برسل الله والاستخفاف بهم ؛ لأن التعبير
بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم.
وفي قوله ـ تعالى
ـ : (فَحاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) مجاز علاقته السببية ، لأن الذي حاق بهم هو العذاب المسبب
عن الاستهزاء ، ففيه إطلاق السبب وإرادة المسبب ، وذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه
السخرية لا ينفك عنها ، فحيثما وجد التطاول على أولياء الله والدعاة إلى دينه ،
وجد معه عذاب الله وسخطه على المتطاولين والمستهزئين.
ثم أمر القرآن
النبي صلىاللهعليهوسلم أن يذكرهم بحال من سبقوهم عن طريق التطلع إلى آثارهم ،
والتدبر فيما أصابهم. والاتعاظ بما حل بهم فقال ـ تعالى ـ :
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
أى : قل ـ يا محمد
ـ لأولئك المكذبين لك ، المستهزئين بدعوتك ، لا تغتروا بما أنتم فيه من قوة وجاه ،
فإن ذلك لا دوام له ، وسيروا في فجاج الأرض متدبرين متأملين ، فسترون بأعينكم آثار
أقوام كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا ، ولكن ذلك لم يمنع وقوع العذاب بهم حين
بدلوا نعمة الله كفرا ، وحاربوا رسل الله والدعاة إلى دينه.
وقد ذكر القرآن
الكريم في سور متعددة أن آثار أولئك الأقوام المهلكين ، ما زال بعضها باقيا ،
وإنها لتدعو العقلاء إلى الاتعاظ والاعتبار فقال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ
عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) .
وقال ـ تعالى ـ في
شأن قوم لوط : (وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ) .
__________________
وقد أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يطلب منهم السير في الأرض للتفكر والتدبر ، لأنهم كانوا
يستهزئون به صلىاللهعليهوسلم فكانت المخاطبة منه لهم من قبيل النصيحة والتحذير.
وليس المراد مجرد
النظر في قوله (ثُمَّ انْظُرُوا) ، بل المراد منه التفكر والتدبر والاعتبار الذي يهدى إلى
الإيمان ، ويعين على اتباع الصراط المستقيم.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : أى فرق بين قوله (فَانْظُروا) وبين قوله (ثُمَّ انْظُرُوا)؟ قلت : جعل النظر مسببا عن السير في قوله (فَانْظُروا) فكأنه قيل : سيروا
لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله (سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع
وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح .
وقد علق الشيخ ابن
المنير على عبارة صاحب الكشاف فقال : «وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير
في المكانين واحدا ، ليكون ذلك سببا في النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ،
وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير وأن السير وسيلة إليه لا
غير وشتان بين المقصود والوسيلة».
والذي نرجحه أن
التعبير بثم هنا المفيدة للتراخي للإشارة إلى أن السير الذي هو وسيلة للتفكر مطلوب
في ذاته كما أن النظر الذي يصحبه التفكر والاعتبار مطلوب أيضا ، وكأنه أمر بدهى
نتيجة للسير ، أما التعبير بالفاء في قوله «فانظروا» فلإبراز كون النظر مسببا عن
السير ، ومترتبا عليه ، وكلا الأسلوبين مناسب للمقام الذي سيق من أجله ، ومتناسق
مع البلاغة القرآنية.
ثم ساق القرآن
الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن
على هذا الكون ، فقال ـ تعالى ـ :
(قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)
__________________
وَلَهُ
ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ
عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)
(١٦)
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين ـ على سبيل التوبيخ والتنبيه ـ من الذي يملك السموات والأرض
وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات ، إن الإجابة الصحيحة
التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين. قال ـ تعالى
ـ (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم ، وتنبيههم إلى
ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
قال الإمام الرازي
: وقوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سؤال ، وقوله (قُلْ لِلَّهِ) جواب. فقد أمره الله ـ تعالى ـ بالسؤال أولا ثم بالجواب
ثانيا ، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا
يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع ، وهنا كذلك لأن القوم كانوا
معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته» .
ثم قال ـ تعالى ـ (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أى : أوجب ـ سبحانه ـ على نفسه رحمته التي وسعت كل شيء
والتي من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه في الدنيا للطائعين والعصاة ، وأنه سيحاسبهم
يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا
بالحسنى.
وفي الصحيحين عن
أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن
رحمتي تغلب غضبى».
وجملة ، ليجمعنكم
إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف
__________________
أى : والله
ليجمعنكم ، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب ، وإن تعلقت بما قبلها من
حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
ويرى الزجاج ومن
شايعه أن جملة (ليجمعنكم) في محل نصب بدل من الرحمة ، وفسر (ليجمعنكم) بمعنى
أمهلكم وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير الرحمة ، كما قال ـ تعالى ـ
في السورة نفسها (كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده
وأصلح فأنه غفور رحيم) .
والمقصود بهذه
الجملة الكريمة (ليجمعنكم) بيان عدل الله بين عباده. فهو لم يجمعهم يوم القيامة
لتعذيبهم جميعا ، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء.
ولما كان الكافرون
ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله ـ تعالى ـ حصولهما باللام وبنون التوكيد
الثقيلة ، وبتعدية الفعل بإلى دون في للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة
ـ وبأنه يوم لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته.
ثم ختمت الآية
الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال ـ تعالى ـ (الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). أى : الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم ، وإصرارهم على
العناد والجمود ، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت.
قال الآلوسى : (الفاء)
في قوله (فهم لا يؤمنون) ـ للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن
خسرانهم ، فإن إبطال العقل والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر
والامتناع عن الإيمان) .
ثم ساق ـ سبحانه ـ
ما يشهد بشمول علمه وقدرته فقال : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
قال القرطبي : (سكن
معناه هدأ واستقر ، والمراد ما سكن وما تحرك ، فحذف لعلم السامع ، وقيل : خص
الساكن بالذكر لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة ، وقيل : المعنى ، ما خلق
، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها ، فإنه يجرى عليه الليل والنهار ،
وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق وهذا أحسن ما قيل لأنه
يجمع شتات الأقوال) .
__________________
والمعنى : ولله ـ سبحانه
ـ جميع ما استقر وتحرك ووجد في كل زمان ومكان من إنسان وحيوان ونبات وغير ذلك من
المخلوقات ، وهو ـ سبحانه ـ السميع لكل دقيق وجليل ، العليم بكل الظواهر والبواطن
، والتعبير بما في قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ) للدلالة على العموم والشمول.
ثم أمر ـ سبحانه ـ
نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن ينفى عن
نفسه بشدة ما تردوا فيه من جهالة وضلالة فقال :
(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).
أى : قل لهم ـ يا
محمد ـ موبخا وزاجرا ، بأى عقل أبحتم لأنفسكم الإشراك بالله ، واتخذتم من دونه
معبودا سواه ، مع أنه ـ سبحانه ـ باعترافكم هو الخالق لكم وللسموات والأرض ولكل
شيء؟
وقد سلطت الهمزة
على المفعول الأول لا على الفعل ، للإيذان بأن المستنكر إنما هو اتخاذ غير الله
وليا لا اتخاذ الولي مطلقا ، ونظير هذه الآية قوله ـ تعالى ـ (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ).
ثم دلل ـ سبحانه ـ
على أنه هو وحده المستحق للعبادة بأمرين.
أولهما : قوله ـ تعالى
ـ (فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ).
أى خالقهما
ومنشئهما على غير مثال سبق ، فالفطر ـ كما قال اللغويون ـ الإبداع والإيجاد من غير
سبق مثال يحتذي.
وثانيهما : قوله ـ
تعالى ـ (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا
يُطْعَمُ).
أى : أنه ـ سبحانه
ـ هو الذي لا يحتاج إلى أحد وكل ما سواه محتاج إليه وهو الرزاق لغيره ، والمنافع
كلها من عنده.
وقرأ أبو عمرو (وهو
يطعم ولا يطعم) بفتح الياء في الثاني. أى : وهو يرزق غيره ويطعمه أما هو ـ سبحانه
ـ فلا يتناول طعاما ولا شرابا.
وهذه الجملة حالية
مؤيدة لإنكار اتخاذ ولى سوى الله ، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من
البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام ، وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلق لهم هذا الطعام فهم
عاجزون عن البقاء بدونه.
ثم أمره ـ سبحانه
ـ بأن يصرح أمامهم بأنه برىء من شركهم ومن أفعالهم القبيحة فقال ـ تعالى ـ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ
أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
أى : قل أيها
الرسول الكريم بعد إيراد هذه الآيات والحج الدالة على وحدانية الله : إنى
أمرت من خالقي أن
أكون أول من يسلم له وجهه ويخصه بالعبادة ، كما أنى نهيت عن أن أكون من المشركين
الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى.
وصح عطف الجملة
الثانية الإنشائية على الأولى الخبرية لأن الأولى خبرية في اللفظ ولكنها إنشائية
في المعنى فكانت في قوة الجملة الطلبية والتقدير : كن أول من أسلم ولا تكونن من
المشركين ، ويجوز عطفها على جملة (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) وهي إنشائية في اللفظ والمعنى.
ثم أمره ـ سبحانه
ـ بأن يعلن أمامهم بأن خوفه من خالقه يحتم عليه أن يبتعد عن كل معصية فقال :
(قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
أى : قل لهم ـ يا
محمد ـ على سبيل الإنذار والتحذير من الاستمرار في الكفر إنى أخاف إن عصيت خالقي
عذاب يوم عظيم الأهوال تذهل فيه (كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).
وفي هذا التحذير
أسمى ألوان التعبير والتصوير لأنه إذا كان النبي صلىاللهعليهوسلم وهو أحب الخلق إلى الله سينا له العذاب إن كان ـ على سبيل
الفرض والتقدير ـ قد عصى ربه في الدنيا. فكيف بأولئك الذين أشركوا مع الله آلهة
أخرى؟ فمن الواجب عليهم أن يقتدوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم في عبادته وإخلاصه لربه.
وكلمة (عَذابَ) مفعول لأخاف ، وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن عصيت ربي
استحققت العذاب العظيم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن النجاة من هول هذا اليوم غنيمة ليس بعدها غنيمة فقال : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمَهُ ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).
أى : من يصرف عنه
عذاب هذا اليوم ، فإنه يكون ممن شملتهم رحمة الله ورعايته ، وذلك هو الفوز الذي
ليس بعده فوز.
والضمير الذي
يعتبر نائب فاعل ليصرف ، يعود على العذاب العظيم الذي سيحل بالمجرمين يوم القيامة.
وفي قراءة لحمزة
والكسائي وأبى بكر عن عاصم (من يصرف) بفتح الياء فيكون الضمير عائدا على الله ـ ويكون
المفعول محذوفا. والتقدير من يصرف الله عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد
شملته رحمة الله ، وعلى كلتا القراءتين فالضمير في قوله (فقد رحمه) يعود على الله
ـ تعالى ـ :
هذا ، وفي هذه
الآيات الخمس نجد القرآن قد أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله (قُل) خمس مرات وهو أسلوب إنذارى تلقيني كثر استعماله في هذه
السورة ـ كما سبق أن قلنا في التمهيد لها ـ لأنه يلقن النبي صلىاللهعليهوسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين وتأتى على بنيانهم من
القواعد. وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى أن يحتاج إليه
المرشدون والدعاة. لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضى إلى
السآمة والملل ، ومن هنا فقد لون القرآن أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف
مداركها ، وصدق الله إذ يقول (انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن نواصي العباد بيديه ، وأنه هو المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ولا
راد لقضائه فقال ـ تعالى ـ :
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
وَهُوَ
الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
قُلْ
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما
هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)
(٢١)
المس : أعم من
اللمس في الاستعمال. يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب. أى : أصابه ذلك ونزل
به.
«والضر : اسم
للألم والحزن والخوف وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما كما أن النفع اسم للذة
والسرور وما يفضى
إليهما أو إلى أحدهما» .
والخير : اسم لكل
ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبله.
والمعنى : إن
الناس جميعا تحت سلطان الله وقدرته ، فما يصيبهم من ضر كمرض وتعب وحزن اقتضته سنة
الله في هذه الحياة ، فلا كاشف له إلا هو ، وما يصيبهم من خير كصحة وغنى وقوة وجاه
فهو ـ سبحانه ـ قادر على حفظه عليهم ، وإبقائه لهم ، لأنه على كل شيء قدير.
والخطاب في الآية
يصح أن يكون موجها إلى النبي صلىاللهعليهوسلم لتقويته في دعوته ، وتثبيته أمام كيد الأعداء وأذاهم ، كما
يصح أن يكون لكل من هو أهل للخطاب.
قال صاحب المنار :
«ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة ، تجرى الحقائق بأوجز العبارات ، وأجمعها لمحاسن
الكلام مع مخالفته بعضها في بادئ الرأى لما هو الأصل في التعبير ، كالمقابلة هنا
بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن
الضر من الله ليس شرا في الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل
للاستفادة أخلاقا وأدبا وعلما وخبرة. وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل
مقابله ، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم» .
وقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) جوابه محذوف تقديره : فلا راد له غيره.
وقوله : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لكل من الجوابين المذكورين في الشرطية الأولى
والمحذوف في الثانية.
وفي معنى هذه
الآية جاءت آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
وفي الحديث الشريف
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت
ولا ينفع ذا الجد منك الجد».
ثم بين ـ سبحانه ـ
كمال قدرته ، وعظيم سلطانه فقال : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
أى أنه ـ كما قال
ابن كثير ـ «هو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجباه. وعنت له الوجوه ، وقهر كل
شيء ، ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء ، وتضاءلت بين
يديه وتحت قهره وحكمه».
__________________
ثم أمر الله :
نبيه صلىاللهعليهوسلم في بيان رائع حكيم ، أن يسأل المشركين عن أى شيء في هذا
الكون أعظم وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟
قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
روى بعض المفسرين
أن أهل مكة قالوا : يا محمد ، أرنا من يشهد أنك رسول الله ، فإنا لا نرى أحدا
نصدقه ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأنزل الله
ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
أى : قل يا محمد
لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه : أى شيء في هذا الوجود شهادته
أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان؟ ثم أمره أن يجيبهم على هذا
السؤال بالحقيقة التي لا يمارى فيها عاقل وهي أن شهادة الله هي أكبر شهادة وأقواها
وأزكاها ، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ ، وقد شهد ـ سبحانه ـ :
بصدقى فيما أبلغه عنه فلما ذا تعرضون عن دعوتي ، وتتنكبون الطريق المستقيم؟
وصدرت الآية
الكريمة بقل وبصيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد ، وإلى سلامة دعوى النبي صلىاللهعليهوسلم لكي يدركوا ما فيها من حق وما هم فيه من ضلال.
وأوثرت كلمة «شيء»
في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً) لأنها تفيد الشمول والإحاطة والاستقصاء.
قال صاحب الكشاف :
ما ملخصه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أراد : أى شهيد أكبر شهادة ، فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ
في التعميم ، ويحتمل أن يكون تمام الجواب عنه قوله : (قُلِ اللهُ) بمعنى : الله أكبر شهادة ، ثم ابتدأ (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أى : هو شهيد بيني وبينكم. وأن يكون (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هو الجواب ، لدلالته على أن الله ـ تعالى ـ : (إذا كان هو
الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة من هو شهيد له) .
والمراد بشهادة
الله ما جاء في آياته القرآنية من أنه ـ سبحانه ـ : قد أرسل رسوله محمدا (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
: أن القرآن هو المعجزة الخالدة للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).
أى : أن الله ـ تعالى
ـ : قد أنزل هذا القرآن عن طريق وحيه الصادق ، لأنذركم به يا أهل
__________________
مكة ، ولأنذر به ـ
أيضا ـ جميع من بلغه هذا الكتاب الكريم ووصلت إليه دعوته من العرب والعجم في كل
زمان ومكان إلى يوم القيامة.
فهذه الجملة تدل
على عموم بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ،
وتعم ـ أيضا ـ الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته. ولم يروا النبي صلىاللهعليهوسلم ففي الحديث الشريف : «بلغوا عن الله ـ تعالى ـ فمن بلغته
آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» .
وعن محمد بن كعب
قال : «من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه ،
كان من بلغه بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم : كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط ، لأنه هو الذي بلغه
بلا زيادة ولا نقصان ، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته
الدعوة ، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين ، وإثمه يكون في أعناق الذين
قصروا في تبليغ دعوة الإسلام إليه.
ثم أمره ـ سبحانه
ـ أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم
فقال ـ تعالى ـ : (أَإِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ، قُلْ : لا أَشْهَدُ ، قُلْ
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
أى : قل يا محمد
لهؤلاء المشركين : إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم. وترديتم في مهاوي الشرك والضلال ،
وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى ، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة ، ومحال أن
أشهد بما شهدتم به ، وإنما الذي أشهد به وأعتقده ، أن الله ـ تعالى ـ واحد لا شريك
له ، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم.
والاستفهام في
قوله (أَإِنَّكُمْ) إنكارى ، جيء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك ، وأكد قوله (لَتَشْهَدُونَ) للإشارة إلى تغلغل الضلال في نفوسهم ، واستيلاء الجحود على
قلوبهم.
وعبر عن أوثانهم
بأنها (آلِهَةً أُخْرى) مجاراة لهم في زعمهم الباطل ومبالغة في توبيخهم والتهكم
بهم.
وفي أمره ـ سبحانه
ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم «قل : لا أشهد» توبيخ
لهم على جهالتهم ، وتوجيه لأتباعه إلى الاقتداء به في شجاعته أمام الباطل ، وفي
ثباته على مبدئه.
وقد تضمن قوله ـ تعالى
: (قُلْ إِنَّما هُوَ
إِلهٌ واحِدٌ) اعتراف كامل بوحدانية الله ، وقصرها عليه ـ سبحانه ـ ،
وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها ، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل.
__________________
وبذلك تكون الآية
الكريمة قد تضمنت شهادة من الله ـ تعالى ـ بأن رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم صادق في رسالته ، وشهادة من هذا الرسول الكريم بأن الله
واحد لا شريك له ، وأنه برىء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين.
ثم ساق القرآن
شهادة ثالثة بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم وهي شهادة أهل الكتاب فقال (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : قال الجمل في حاشيته على الجلالين : «روى أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن
الله أنزل على نبيه بمكة : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد
عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى با بنى!! فقال عمر :
كيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقّا ولا أدرى ما تصنع النساء» .
والمعنى : إن
علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهي
معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين
المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلىاللهعليهوسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته.
والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبي صلىاللهعليهوسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على
القرآن لتقدمه في قوله (وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ) أو على التوحيد لدلالة قوله (قُلْ إِنَّما هُوَ
إِلهٌ واحِدٌ).
والأولى عودة
الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما في كتابهم يتناول كل ذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ
علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلىاللهعليهوسلم فقال : الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
قال صاحب الكشاف :
(الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه
، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا
آباؤُنا) وقالوا (وَاللهُ أَمَرَنا
بِها) وقالوا : «الملائكة بنات الله» ونسبوا إليه تحريم البحائر
والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول صلىاللهعليهوسلم.
__________________
وهذه الآية
الكريمة من الآيات التي قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب
النزول الذي سقناه عن عمر ـ رضى الله عنه ـ فقد قال لعبد الله بن سلام : «إن الله
أنزل على نبيه بمكة» إلخ.
ويؤكد كونها مكية
ـ أيضا ـ سياق الآيات قبلها ، فالآية التي قبلها وهي قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً). إلخ. فيها شهادة من الله لنبيه صلىاللهعليهوسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التي معنا فيها
شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلىاللهعليهوسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون
أهل الكتاب عن النبي صلىاللهعليهوسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد
نزلت بالمدينة.
قال بعض العلماء :
ويظهر أنهم ـ أى القائلون بأن الآية مدنية ـ لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل
الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهي قوله
ـ تعالى ـ : في سورة البقرة (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الآية ١٤٦ ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما
كانت بعد الهجرة وفي المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ،
فالمسألة ليست إلا اجتهادا حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح .
ولما كان هذا
الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال ـ تعالى ـ في شأنهم : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
أى : لا أحد أشد
ظلما من أولئك المشركين الذين كذبوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ،
وإن هؤلاء الذين سقطوا في أقصى دركات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا ، والاستفهام في
الآية الكريمة إنكارى للنفي ، وفيه توبيخ للمشركين.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض أحوالهم عند ما يحشرون يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ :
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)
ثُمَّ
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى
__________________
قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ
لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ)
(٢٦)
الحشر : الجمع ،
والمراد به جمعهم يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم الدنيوية.
والمعنى : واذكر
لهم أيها الرسول الكريم ـ ليعتبروا ويتعظوا ـ حالهم يوم نجمعهم جميعا في الآخرة
لنحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم ، ثم نسألهم سؤال إفضاح لا إيضاح ـ كما يقول
القرطبي ـ : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء لكي يدافعوا عنكم في هذا
اليوم العصيب.
و (يَوْمَ) منصوب على الظرفية بفعل مضمر بعده أى : ويوم نحشرهم كان
كذا وكذا ، وحذف هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف
والتهويل ، وقيل إنه منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف قبله والتقدير ، واذكر يوم
نحشرهم ، أى : اذكر هذا اليوم من حيث ما يقع فيه ، والضمير في (نَحْشُرُهُمْ) للذين افتروا على الله كذبا ، أو كذبوا بآياته.
وفائدة كلمة (جَمِيعاً) رفع احتمال التخصيص ، أى : أن جميع المشركين ومعبوداتهم
سيحشرون أمام الله للحساب.
وكان العطف بثم
لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين ، إذ قبل ذلك سيكون قيامهم من
قبورهم ، ويكون هول الموقف ، ويكون إحصاء الأعمال وقراءة كل امرئ لكتابه ... إلخ ،
ثم يقول الله ـ تعالى ـ (لِلَّذِينَ
أَشْرَكُوا : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)؟
ووبخهم ـ سبحانه ـ
بقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) مع أنهم محشورون معهم ، لأنهم لا نفع يرجى من وجودهم معهم
، فلما كانوا كذلك نزلوا منزلة الغائب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في
الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين فلان؟ فتجعله لعدم نفعه ـ وإن كان
حاضرا ـ كالغائب .
__________________
ثم أخبر ـ سبحانه
ـ عما يكون منهم من تخبط وحسرة فقال :
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).
الفتنة مأخوذة من
الفتن ، وهو إدخال الذهب في النار لتعرف جودته من رداءته ، ثم استعمل في معان أخرى
كالاختبار ، والعذاب ، والبلاء ، والكفر.
والمعنى : ثم لم
تكن عاقبة كفرهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق ، وارتفعت الدعاوى إلا أن
قالوا مؤكدين ما قالوا بالقسم الكاذب والله يا ربنا ما كنا مشركين. ظنا منهم أن
تبرأهم من الشرك في الآخرة سينجيهم من عذاب الله كما نجا المؤمنين بفضله ورضوانه.
قال ابن عباس :
يغفر الله ـ تعالى ـ لأهل الإخلاص ذنوبهم. ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ، فإذا
رأى المشركون ذلك قالوا : إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك ، فتعالوا نقول : إنا
كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين. فقال الله ـ تعالى ـ : أما إذ كتموا الشرك فاختموا
على أفواههم ، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، فعندئذ يعرف المشركون
أن الله لا يكتم حديثا ، فذلك قوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا
يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) .
ثم قال ـ تعالى ـ (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).
والمراد بالنظر
هنا : التدبر والتفكير.
والمعنى : انظر ـ أيها
العاقل ـ وتأمل كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم في قولهم والله ربنا ما كنا
مشركين ، وغاب عن عملهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من الأقوال الباطلة ، وما
كانوا يفعلونه من جعلهم لله شركاء.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور مع أن الكذب والجحود لا
وجه لمنفعته؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما
حيرة ودهشا : ألا تراهم يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا
رَبُّكَ) وقد علموا أنه لا يقضى عليهم» .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس من إيمان بعضهم فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ،
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).
قال ابن عباس : إن
أبا سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة
__________________
وشيبة ابنا ربيعة
، وأمية بن خلف. استمعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقرأ القرآن ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول
محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول ، إلا أنى أرى تحرك شفتيه يتكلم
بشيء فما يقول إلا أساطير ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر
كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله هذه
الآية» .
والأكنة : جمع
كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى والوقر ـ بالفتح ـ الثقل في السمع.
والمعنى : ومن
هؤلاء المشركين يا محمد من يستمع إليك حين تقرأ القرآن وقد جعلنا ـ بسبب عنادهم
وجحودهم ـ على قلوبهم أغطية تحول بينهم وبين فقهه ، كما جعلنا في أسماعهم صمما
يمنع من سماعه بتدبر وتعقل.
قال صاحب المنار :
«وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع
المعنوية بالحجب والموانع الحسية ؛ فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره
كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء. والآذان
التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم ، لأن سمعها
وعدمه سواء .
وقال بعض العلماء
: «وهنا يسأل سائل : إذا كان منع الهداية من الله ـ تعالى ـ بالغشاوة على قلوبهم
والختم عليها وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر فماذا يكون عليهم من تبعة
يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم؟
والجواب عن ذلك أن
الله ـ سبحانه ـ يسير الأمور وفق حكمته العلياء فمن يسلك سبيل الهداية يرشده وينير
طريقه ويثيبه ، ومن يقصد إلى الغواية ويسير في طريقها تجيئه النذر تباعا إنذارا
بعد إنذار ، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد
كفر. ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا ولم تبصره من عمى فقد وضع
الله ـ تعالى ـ على قلبه غشاوة وفي آذانه وقرا» .
ثم صور ـ سبحانه ـ
عنادهم وإعراضهم عن الحق مهما وضحت براهينه فقال : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها).
أى : وإن يروا كل
آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك فلن يؤمنوا بها لاستحواذ الغرور
والعناد على قلوبهم.
__________________
والمراد من الرؤية
هنا البصرية ، ومن الآيات المعجزات الحسية كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه
الشريفة.
وهذه الجملة
الكريمة المقصود بها ذمهم لعدم انتفاعهم بحاسة البصر بعد ذمهم لعدم انتفاعهم
بعقولهم وأسماعهم.
وجيء بكلمة (كُلَ) لعموم النفي ، أى : أنهم لا يؤمنون بأية معجزة يرونها مهما
وضحت براهينها ، ومهما كانت دلالتها ظاهرة على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما كان يجرى منهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال :
(حَتَّى إِذا جاؤُكَ
يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ).
الأساطير جمع
إسطارة أو أسطورة ومعناها الخرافات والترهات.
أى : حتى إذا ما
صاروا إليك أيها الرسول ليخاصموك وينازعوك في دعوتك فإنهم يقولون لك بسبب كفرهم
وجحودهم ، ما هذا القرآن الذي نسمعه منك إلا أقاصيص الأولين المشتملة على خرافاتهم
وأوهامهم.
وفي قوله ـ تعالى
ـ (حَتَّى إِذا جاؤُكَ
يُجادِلُونَكَ) إشارة إلى أن مجيئهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق ،
وإنما كان من أجل المجادلة المتعنتة مع الرسول الكريم صلىاللهعليهوسلم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية ، بل هم لفجورهم ـ يحرضون غيرهم على
محاربتها معهم فقال ـ تعالى ـ :
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ، وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ).
النهى : الزجر ،
والنأى : البعد ، والضمير «هم» يعود على المشركين.
والمعنى : إن
هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق ، بل يزجرون الناس عن اتباعه ، ويبعدونهم
عن الاستماع إليه. فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين : محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم
على محاربته والبعد عنه.
وهم بهذا العمل
الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم ،
وقسوة قلوبهم.
وعملهم هذا يدل
على أنهم كانوا معترفين في قرارة أنفسهم بأن القرآن حق ، لأنهم لو كانوا يعتقدون
أنه أساطير الأولين ـ كما زعموا ـ لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات
وأوهام ، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه ، فإنهم نهوا غيرهم عن
سماعه حتى
لا يؤمن به
وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا في دين الإسلام ، ولقد حكى الله عنهم
هذا المعنى في قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) .
والضمير في قوله ـ
تعالى ـ (عَنْهُ) يرجع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وما جاء به من آيات.
ويرى بعض المفسرين
أن الضمير «هم» يرجع إلى عشيرة النبي صلىاللهعليهوسلم فيكون المعنى : وهم ـ أى أعمام النبي صلىاللهعليهوسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء ، ولكنهم
في الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها ، ولعل أوضح مثل لذلك
أبو طالب ، فقد كان يدافع عن النبي صلىاللهعليهوسلم إلا أنه لم يدخل في الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق.
ومما روى عنه في
هذا المعنى قوله :
والله لن يصلوا
إليك بجمعهم
|
|
حتى أوسد في
التراب دفينا
|
فاصدع بأمرك ما
عليك غضاضة
|
|
وابشر بذاك وقر
منك عيونا
|
ودعوتني وزعمت
أنك ناصحي
|
|
فلقد صدقت وكنت
قبل أمينا
|
وعرضت دينا قد
عرفت بأنه
|
|
من خير أديان
البرية دينا
|
لو لا الملامة
أو حذار مسبة
|
|
لوجدتني سمحا
بذاك يقينا
|
والذي تطمئن إليه
النفس أن الرأى الأول هو الأرجح. لأن الكلام مسوق في بيان موقف المشركين من النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض
عن الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم ، وأنهم كانوا يحرضون الناس على
إيذائه وعلى الابتعاد عنه.
ثم يصور ـ سبحانه
ـ حالهم عند ما يعرضون على النار ، وعند ما يقفون أمام ربهم ، وحكى ما يقولونه في
تلك المواقف الشديدة فقال تعالى :
(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا
عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما
كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
__________________
وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ
إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ
عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)
وَمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)
(٣٢)
(لَوْ) شرطية ، حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب وذلك
أبلغ من ذكره.
و (وُقِفُوا) بالبناء للمفعول بمعنى : وقفهم غيرهم. يقال : وقف على
الأطلال أى : عندها مشرفا عليها ، ويقال وقف على الشيء عرفه وتبينه.
والمعنى : إنك
أيها النبي الكريم ـ أو أيها الإنسان العاقل ـ لو اطلعت على هؤلاء المشركين عند ما
يقفون على النار ويشاهدون لهيبها وسعيرها. لرأيت شيئا مروعا مخيفا يجعلهم يتحسرون
على ما فرط منهم ، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليصدقوا بآيات الله التي طالما
كذبوها. وليكونوا من المؤمنين.
وعبر ـ سبحانه ـ بإذ
التي تدل على الماضي ـ مع أن الحديث عما سيحصل لهم في الآخرة فكان يناسبه إذا ـ لإفادة
تحقق الوقوع وتأكده ، وليتصور المستقبل على أنه موجود لا على أنه سيوجد ، وعطف
بالفاء في قوله : (فَقالُوا) للدلالة على أن أول شيء يقع في قلوبهم حينئذ إنما هو الندم
على ما سلف منهم ، وتمنى الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا.
ثم يعقب ـ سبحانه
ـ على قولتهم هذه فيما لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير فيقول : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).
بل هنا للإضراب
عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته ، ولحقيقة الإيمان وحسن
عاقبته.
والمعنى : ليس
الأمر كما يوهمه كلامهم في التمني من أنهم يريدون العودة للهداية ، بل الحق أنهم تمنوا
العودة إلى الدنيا بعد أن استقبلتهم النار بلهبها ، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا
يخفونه في الدنيا من أعمال قبيحة ، ومن أفعال سيئة ، وبعد أن بدا لهم ما كانوا
يكذبون به ، وينكرون تحققه ، ولو أنهم ردوا إلى الدنيا بمتعها وشهواتها وأهوائها
لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب بالآيات ، والسخرية من المؤمنين ، وإنهم لكاذبون
في كل ما يدعون.
فالآية الكريمة
تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء ، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى
طلبهم ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء
وللمصلحين.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض مفترياتهم في الدنيا واغترارهم بها فقال ـ تعالى ـ (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
أى : أن هؤلاء
الكافرين قد بلغ بهم الحب للدنيا والتعلق بها أنهم قالوا : ما الحياة التي تسمى
حياة في نظرنا إلا هذه الدنيا التي نتمتع فيها بما نريد من شهوات وما نحن بمبعوثين
ولا محاسبين بعد ذلك.
فالآية الكريمة
تحكى عنهم أنهم ينكرون أى حياة سوى الحياة التي يعيشونها ، وينفون وقوع البعث
والحساب والثواب والعقاب نفيا مؤكدا بالباء وبالجملة الاسمية.
ويرى جمهور
المفسرين أن هذه الآية الكريمة تتمة للآية السابقة لها من حيث المعنى ، وأن قوله (وَقالُوا) معطوف على (لَعادُوا) والتقدير ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر وسيئ
الأعمال وقالوا ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ويكون قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن
عادوا إلى الدنيا ، إذ هي تكذيب لادعائهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حالهم عند ما يقفون ليستمعوا إلى ما يوجهه إليهم ربهم من توبيخ وتقريع بسبب كفرهم
فقال :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ).
أى : قال لهم ـ سبحانه
ـ أليس هذا البعث الذي تشاهدونه بأعينكم ثابتا بالحق؟ وهنا يجيبون خالقهم مصدقين
لأن الواقع يحتم عليهم ذلك فيقولون ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (بَلى وَرَبِّنا) أى : قالوا : بلى يا ربنا إنه للحق الذي لا شك فيه ، ولا
باطل يحوم من حوله ، وأكدوا اعترافهم بالقسم شاهدين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين
في الدنيا.
وهنا يحكم الله
فيهم بحكمه العادل فيقول : (قالَ فَذُوقُوا
الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أى : إذا كان الأمر كما ذكرتم وشهدتم على أنفسكم ،
فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلامه وأهواله بسبب كفركم بآيات الله ، وإنكاركم لهذا
اليوم العصيب.
والذوق هنا كناية
عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه.
ثم صور ـ سبحانه ـ
عاقبتهم السيئة ، وخسارتهم التي ليس بعدها خسارة فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللهِ).
أى : أن أولئك
الكفار الذين أنكروا البعث والحساب قد خسروا أعز شيء في هذه الحياة ، ومن مظاهر
ذلك أنهم خسروا الرضا الذي سيناله المؤمنون من ربهم ، وخسروا العزاء الروحي الذي
يغرس في قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء ، لأن المؤمن يعتقد أن ما عند
الله خير وأبقى ، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله.
وإن هؤلاء
الخاسرين سيستمرون في تكذيبهم بالحق وإعراضهم عنه (حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا : يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها).
أى : حتى إذا
جاءتهم الساعة مباغته مفاجئة وهم في طغيانهم يعمهون ، اعتراهم الهم ، وحل بهم
البلاء وقالوا : بعد أن سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا يا حسرتنا أقبلى فهذا
أوانك ، فإننا لم نستعد لهذا اليوم ، بل أهملناه ولم نلتفت إليه. وعلى ذلك يكون
المراد بالساعة يوم القيامة وما فيه من حساب.
وقيل : المراد
بالساعة وقت مقدمات الموت ، فالكلام على حذف المضاف ، أى : جاءتهم مقدمات الساعة
وهي الموت وما فيه من الأهوال. فلما كان الموت من مبادئ الساعة سمى باسمها ، ولذا
قال صلىاللهعليهوسلم «من مات فقد قامت
قيامته».
وسميت القيامة
ساعة لسرعة الحساب فيها ، ولأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من
الحياة : فانية وأخرى باقية.
وفي قوله ـ تعالى
ـ (حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) إشارة إلى أنها تفاجئهم بأهوالها من غير أن يكونوا مستعدين
لها أو متوقعين لحدوثها ، أما المؤمنين ـ فإنهم رغم عدم علمهم بمجيئها ـ فإنهم
يكونون في حالة استعداد لها بالإيمان والعمل الصالح.
والبغت والبغتة
مفاجأة الشيء بسرعة من غير إعداد له ، وكلمة (بَغْتَةً) يصح أن تكون مصدرا في موضع الحال من فاعل جاءتهم أى :
جاءتهم مباغتة ، ويصح أن تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف من لفظها أى : تبغتهم بغتة
، والحسرة : شدة الغم والندم على ما فات وانقضى.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).
الأوزار جمع وزر
وهو ـ بكسر الواو ـ الحمل الثقيل ، ويطلق على الإثم والذنب لأنهما أثقل الأحمال
النفسية التي تنوء بها القوة.
والجملة الكريمة
من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث شبهت حالهم وما يحملونه يوم القيامة من ذنوب
ثقيلة مضنية ، بهيئة المثقل المجهد بحمل كبير يحمله على ظهره وينوء به. ثم حذفت
الهيئة الدالة على المشبه به ورمز إليها بشيء من لوازمها.
وقيل إن الكلام
على حقيقته وأنهم سيحملون ذنوبهم على ظهورهم فعلا ، حيث إن الذنوب والأعمال ستتجسم
يوم القيامة ، وبهذا الرأى قال كثير من أهل السنة.
والمعنى : إن
هؤلاء الكافرين يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم وآثامهم على ظهورهم ، ألا ما
أسوأ ما حملوا ، وما أشد ما سيستقبلونه بعد ذلك من عذاب أليم.
ثم عقد ـ سبحانه ـ
مقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة. بين فيها أن الحياة الآخرة هي الحياة العالية
السامية الباقية ، أما الحياة الدنيا فهي إلى زوال وانتهاء فقال ـ تعالى ـ :
(وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).
اللعب : هو العمل
الذي لا يقصد به مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، واللهو : هو طلب ما
يشغل عن معالى الأمور وعما يهم الإنسان ويعنيه.
والمعنى : إن هذه
الحياة التي نعتها الكفار بأنها لا حياة سواها ما هي إلا لهو ولعب لمن يطلبها
بأنانية وشره من غير استعداد لما يكون وراءها من حياة أخرى فيها الحساب والجزاء ،
وفيها النعيم الذي لا ينتهى ، وفيها السعادة التي لا تحد ، بالنسبة للذين اتقوا
ربهم ، ونهوا أنفسهم عن الهوى.
فالحياة الدنيا
لعب ولهو لمن اتخذوها فرصة للتكاثر والتفاخر وجمع الأموال من حلال وحرام ، ولم
يقيموا وزنا للأعمال الصالحة التي كلفهم الله ـ تعالى ـ بها. أما بالنسبة للذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا. فإن الحياة الدنيا تعتبر وسيلة إلى رضا الله الذي
يظفرون به يوم القيامة ، وإن ما يحصل عليه المؤمنون في هذا اليوم من ثواب جزيل ومن
نعيم مقيم هو خير من الدنيا وما فيها من متعة زائلة ومن شهوات لا دوام لها.
والاستفهام في
قوله ـ تعالى ـ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) للحث على التدبر والتفكر والموازنة بين اللذات العاجلة
الفانية التي تكون في الدنيا ، وبين النعيم الدائم الباقي الذي يكون في الآخرة.
ثم أخذ القرآن
الكريم في مخاطبة النبي صلىاللهعليهوسلم وفي تسليته عما أصابه من قومه فقال :
(قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى
أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ
عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ
سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)
(٣٦)
(قَدْ) هنا للتحقيق وتأكيد العلم وتكثيره ، والتحقيق هنا جاء من
موضوعها لا من ذاتها كما أن التكثير راجع إلى متعلقات العلم ، لا إلى العلم نفسه ،
لأن صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها. والحزن ألم يعترى النفس
عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه.
قال الإمام ابن
كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : يقول تعالى مسليا لنبيه صلىاللهعليهوسلم. في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ) أى : قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم وقوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أى : هم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ، ولكنهم يعاندون
الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبى إسحاق عن ناجية عن على قال :
قال أبو جهل للنبي صلىاللهعليهوسلم : إنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). وعن أبى يزيد المدني أن النبي صلىاللهعليهوسلم لقى أبا جهل فصافحه فقال
له رجل : ألا أراك
تصافح هذا الصابئ؟ فقال : والله إنى لأعلم أنه لنبي ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف
تبعا؟ وتلا أبو يزيد (فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) .
فالآية الكريمة
مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبي صلىاللهعليهوسلم عما كان يصيبه من المشركين ومما لا شك فيه أنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ كان حريصا على إسلامهم ، فإذا ما رآهم معرضين عن دعوته حزن وأسف
، وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى
آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) .
ومنها قوله ـ تعالى
ـ (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) .
ومنها قوله ـ تعالى
ـ (فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) .
قال الجمل :
والفاء في قوله (فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ) للتعليل ، فإن قوله (قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) بمعنى لا يحزنك ، كما يقال في مقام المنع والزجر نعلم ما
تفعل. ووجه التعليل : أن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور ، فتخلق
بأخلاقى. ويحتمل أن يكون المعنى : إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك
بل لما هو أهم .
والمعنى : إن
هؤلاء الكفار ـ يا محمد ـ لا ينسبونك إلى الكذب ، فهم قد لقبوك بالصادق الأمين ،
ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها.
والجحود هو
الإنكار مع العلم ، أى نفى ما في القلب ثبوته ، أو إثبات ما في القلب نفيه ، وفي
التعبير بالجحود بعد نفى التكذيب إشارة إلى أن آيات الله واضحة بحيث يصدقها كل
عاقل وأنه لا يصح إنكارها إلا عن طريق الجحود.
وقال ـ سبحانه ـ (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) ولم يقل (وَلكِنَّهُمْ) ، لبيان سبب جحودهم وهو الظلم الذي استقر في نفوسهم ، وفيه
فوق ذلك تسجيل للظلم عليهم حتى يكونوا أهلا لما يصيبهم من عقاب.
ثم زاد القرآن في
تعزية النبي صلىاللهعليهوسلم وتسليته عن طريق إخباره بما حدث للأنبياء من قبله فإن
__________________
عموم البلوى مما
يخفف وقعها فقال : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ
نَصْرُنا).
أى : أن الرسل من
قبلك ـ يا محمد ـ قد كذبتهم أقوامهم وأنزلت بهم الأذى ، فليس بدعا أن يصيبك من
أعدائك ما أصاب الأنبياء من قبلك ، ولقد صبر أولئك الأنبياء الكرام على التطاول
والسفه فكانت نتيجة صبرهم أن آتاهم الله النصر والظفر ، فعليك ـ وأنت خاتمهم
وإمامهم ـ أن تصبر كما صبروا حتى تنال ما نالوا من النصر ، فإن سنة الله لا تتخلف
في أى زمان أو مكان.
وجاء قوله ـ تعالى
ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) مؤكدا بقد وباللام ، للإشارة إلى تأكيد التسلية والتعزية ،
وإلى تأكيد التمسك بفضيلة الصبر التي سيعقبها النصر الذي وعد الله به الصابرين.
و (ما) في قوله (عَلى ما كُذِّبُوا) مصدرية ، (وَأُوذُوا) معطوف على قوله (كُذِّبَتْ) أى : كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك.
وقوله (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) غاية للصبر ، أى : صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء
إلى أن جاءهم نصرنا وفيه بشارة للنبي صلىاللهعليهوسلم مؤكدا للتسلية بأنه ـ سبحانه ـ سينصره على القوم الظالمين.
وقوله ـ تعالى ـ (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) معناه : لا مغير لكلمات الله وآياته التي وعد فيها عباده
الصالحين بالنصر على أعدائه ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) .
وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ) . وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) . إلى غير ذلك من الآيات التي بشر فيها عباده المؤمنين
بالفلاح وحسن العاقبة.
ويرى المحققون من
العلماء أن المراد بكلمات الله : شرائعه ، وصفاته ، وأحكامه ، وسننه في كونه ،
ويدخل فيها دخولا أولياء ما وعد الله به أنبياءه وأولياءه من النصر والظفر. وهذا
الرأى أرجح من سابقه لأنه أعم وأشمل.
وإضافة الكلمات
إليه ـ سبحانه ـ للإشعار باستحالة تبديلها أو تغييرها لأنه ـ سبحانه ـ
__________________
لا يغالبه أحد في
فعل من الأفعال ، ولا يقع منه خلف في قول من الأقوال ، فما دام المؤمنون يخلصون له
العبادة والقول والعمل ويجتهدون في مباشرة الأسباب واتخاذ الوسائل النافعة ، فإنه
ـ سبحانه ـ سيجعل العاقبة لهم.
وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ) تأكيد وتقرير لما قبله أى : ولقد جاءك من أخبار المرسلين
وأنبائهم ـ مما قصه عليك في كتابه ـ ما فيه العظات والعبر ، فلقد صبر المرسلون على
الأذى فكافأهم الله ـ تعالى ـ على ذلك بالظفر على أعدائهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ
سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ).
كبر عليك : أى شق
وعظم عليك. والنفق : السرب النافذ في الأرض الذي يخلص إلى مكان.
والمعنى : وإن كان
ـ يا محمد ـ قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من
آيات يكون سببا في إيمانهم ، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقا في جوف الأرض ، أو
مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد
شيئا لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك ، ولكنهم يعرضون عن
دعوتك عنادا وجحودا.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).
أى : لو شاء الله
جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل ، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا ،
ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا ، فلا تكونن من
الجاهلين بحكمة الله في خلقه ، وبسننه التي اقتضاها علمه.
ثم بين ـ سبحانه ـ
من هم أهل للإيمان والاستجابة للحق فقال :
(إِنَّما يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أى : إنما يستجيب لك أيها الرسول الكريم أولئك الذين
يسمعون توجيهك وأقوالك سماع تدبر وتفهم وتأثر ، أما هؤلاء الذين يعاندونك فقد طبع
الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
فالمراد
بالاستجابة هنا ، الإجابة المقرونة بالتفكر والتأمل ، فهي إجابة محكمة دقيقة لأنها
أنت بعد استقراء وتدبر وهذا ما تدل عليه السين.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حال الكفار فقال : (وَالْمَوْتى
يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أى : وموتى
القلوب الذين لا
يسمعون سماع تدبر وتقبل وهم المشركون ، سيبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة
ويحاسبهم حسابا عسيرا على أقوالهم الباطلة وأعمالهم السيئة.
فالمراد بالموتى
هنا الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم ـ سبحانه ـ بموتى الأجساد ، وهذا من باب
التهكم بهم والتحقير من شأنهم.
وقيل : إن لفظ
الموتى على حقيقته وأن الله ـ تعالى ـ بقدرته النافذة سيبعث الجميع يوم القيامة
ويرجعهم إليه فيجازى الذين أساؤا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون تعنتا ، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم ، وبما
يؤكد قدرته النافذة وعلمه المحيط فقال ـ تعالى ـ :
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
وَما
مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ
وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
(٣٩)
و (لَوْ لا) هنا تحضيضية بمعنى هلا. والمعنى : وقال أولئك الكافرون : هلا
نزل عليك يا محمد معجزة حسية كتفجير الأنهار ، وفلق البحر ، ونزول الملائكة معك ..
إلخ.
فهذه الآيات
الكريمة تحكى عنهم أنهم لم يكتفوا بالقرآن معجزة خالدة للنبي صلىاللهعليهوسلم وإنما يريدون معجزات حسية من جنس معجزات الأنبياء
السابقين.
وإنما قالوا ذلك
مع تكاثر ما أنزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الآيات ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، حتى لكأنه لم
ينزل عليه شيء عنادا وجحودا منهم.
وفي قولهم ـ كما
حكى القرآن عنهم ـ (لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ببناء الفعل للمجهول وذكر لفظ الرب ، للإشارة إلى أنهم لا
يوجهون الطلب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وإنما يوجهونه إلى الله تعالى ، لأنه إذا كان رسولا من
عنده ، فليجب له هذا الطلب الذي نتمناه ونكون من بعده مؤمنين.
وقد رد الله ـ تعالى
ـ عليهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ
قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
أى : قل لهم أيها
الرسول الكريم على سبيل التوبيخ والتقريع إن الله ـ تعالى ـ قادر على تنزيل ما
اقترحوا من آيات ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، ولكنه ـ سبحانه ـ ينزل ما
تقتضيه حكمته ، إلا أنهم لجهلهم وعنادهم لا يعلمون شيئا من حكم الله في أفعاله ،
ولا من سننه في خلقه.
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التي اقترحوها
، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص في الدليل ولكنه عن تكبر وجحود.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
بعض الآيات الكونية المبثوثة في الأرض والجو والمعروضة على البصائر والأبصار فقال
ـ تعالى ـ :
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ).
الدابة : كل ما
يدب على الأرض من حيوان. والطائر : كل ذي جناح يسبح في الهواء ، والأمم : جمع أمة
وهي جماعة يجمعهم أمر ما.
والمعنى : إنه لا
يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في
الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم في أن الله خلقهم وتكفل بأرزاقهم.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت ما الغرض من ذكر ذلك؟ قلت : الدلالة عن عظم قدرة الله. وسعة سلطانه ،
وتدبير تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها ،
وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا
بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى بديع صنعه ـ سبحانه
ـ وحسن خلقه.
قال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) .
ثم قال ـ تعالى ـ :
(ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).
التفريط في الأمر
: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ وقيل المراد به
القرآن.
__________________
والمعنى : ما
تركنا في الكتاب شيئا لم نحصه ولم نثبته ، وإنما أحطنا بكل شيء علما ، وليس من
مخلوق صغر أو كبر في هذا الوجود إلا وسيجمع يوم القيامة أمام خالقه.
فالآية الكريمة
مسوقة لبيان سعة علم الله ـ تعالى ـ وكمال قدرته ، لتكون كالدليل على أنه ـ سبحانه
ـ قادر على تنزيل الآية التي اقترحوها ، وإنما لم ينزلها لأن حكمته تقتضي ذلك.
وجملة (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) معترضة لتقرير مضمون ما قبلها.
والتعبير بثم في
قوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ) للإشارة إلى أنهم أعداد لا يحصيها العد ، وجمعهم ليس يسيرا
في ذاته ، وإن كان بالنسبة لقدرته ـ تعالى ـ أمرا هينا.
ويرى بعض العلماء
أن المراد بحشر البهائم موتها. ويرى آخرون أن المراد بعثها يوم القيامة لقوله ـ تعالى
ـ : (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ). وفي الحديث الشريف عن أبى ذر الغفاري أن النبي صلىاللهعليهوسلم رأى شاتين تتناطحان فقال : يا أبا ذر هل تدرى فيم تتناطحان؟
قال : لا. قال : ولكن الله يدرى وسيقضي بينهما.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ).
أى : مثلهم في
جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل الأصم الذي لا يسمع ، والأبكم الذي لا يتكلم وهو
مع ذلك في ظلمات لا يبصر ، فكيف يهتدى مثل هذا إلى الطريق القويم أو يخرج مما هو
فيه من ضلال.
ففي التعبير
القرآنى استعارة تمثيلية إذ شبهت حال الجاحدين المعرضين عن كل دليل وبرهان بحال
الصم البكم الذين يعيشون في الظلام من حيث لا نور يهديهم.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(مَنْ يَشَأِ اللهُ
يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
أى : من يشأ الله
له الضلالة أضله بأن يجعله يسير في طريق هواه بسبب إعراضه عن طريق الخير ، وإيثاره
العمى على الهدى ، ومن يشأ الله له الهداية يهده ، لأنه قد خاف مقام ربه ونهى
النفس عن الهوى. فالهداية والضلالة ليسا إجباريين لا اختيار للعبد فيهما ، وإنما
الحق أن للعبد اختيارا في الطريق الذي يسلكه ، فإن كان خيرا خطا فيه إلى النهاية ،
وإن كان شرا سار فيه إلى الهاوية.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هؤلاء المشركين عند ما تحيط بهم المصائب والأهوال لا يتوجهون بالضراعة والدعاء
إلا إلى الله ، وأنهم مع ذلك لا يخصونه بالعبادة كما يخصونه بالدعاء لكشف الضر ،
فقال ـ تعالى ـ :
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٤٠) بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما
تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ
جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
(٤٥)
(أَرَأَيْتَكُمْ) المقصود به أخبرونى ، وكلمة أرأيت في القرآن تستعمل
للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل ، فهو استفهام للتنبيه مؤداه : أرأيت كذا فإن لم
تكن رأيته فانظره وتأمله.
والمعنى : قل ـ يا
محمد ـ لهؤلاء المشركين : أخبرونى عن حالكم عند ما يداهمكم عذاب الله الدنيوي
كزلزال مدمر ، أو ريح صرصر عاتية ، أو تفاجئكم الساعة بأهوالها وشدائدها ألستم في
هذه الأحوال تلتجئون إلى الله وحده وتنسون آلهتكم الباطلة ، لأن الفطرة حينئذ هي
التي تنطق على ألسنتكم بدون شعور منكم؟ وما دام الأمر كذلك فلما ذا تشركون مع الله
آلهة أخرى؟ إن أحوالكم هذه لتدعو إلى الدهشة والغرابة ، لأنكم تلجأون إليه وحده
عند الشدائد والكروب ومع ذلك تعبدن غيره ومن لا يملك ضرا ولا نفعا.
والاستفهام في
قوله ـ تعالى ـ : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) للتوبيخ والتقريع والتعجب من حالهم.
وجواب الشرط محذوف
، والتقدير : إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.
ثم أكد ـ سبحانه ـ
أنهم عند الشدائد والكروب لا يلجئون إلا إلى الله فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ
ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ).
بل للإضراب
الانتقالى عن تفكيرهم وأوهامهم ، أى : بل تخصونه وحده بالدعاء دون الآلهة ، فيكشف
ما تلتمسون كشفه إن شاء ذلك ، لأنه هو القادر على كل شيء (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أى : تغيب عن ذاكرتكم عند الشدائد والأهوال تلك الأصنام
الزائفة والمعبودات الباطلة.
وقدم ـ سبحانه ـ المفعول
على الفعل في قوله : (بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ) لإفادة الاختصاص ، أى : لا تدعون إلا إياه ، وذلك يدل على
أن المشركين مهما بلغ ضلالهم فإنهم عند الشدائد يتجهون بتفكيرهم إلى القوة الخفية
الخالقة لهذا الكون.
وفي قوله : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ) استعارة حيث شبه حال إزالة الشر بحال كشف غطاء غامر مؤلم
بجامع إزالة الضر في كل وإحلال السلامة محله.
والمقصود فيكشف
الضر الذي تدعونه أن يكشفه : فالكلام على تقدير حذف مضاف.
وجواب الشرط لقوله
: (إِنْ شاءَ) محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه ، أى إن شاء أن
يكشف الضر كشفه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يسأل عما يفعل.
ثم أخذ القرآن في
تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم وفي بيان أحوال الأمم الماضية فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
البأساء : تطلق
على المشقة والفقر الشديد ، وعلى ما يصيب الأمم من أزمات تجتاحها بسبب الحروب
والنكبات. والضراء. تطلق على الأمراض والأسقام التي تصيب الأمم والأفراد.
والمعنى : ولقد
أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى أقوامهم ، فكان هؤلاء الأقوام أعتى من قومك في
الشرك والجحود ، فعاقبناهم بالفقر الشديد والبلاء المؤلم ، لعلهم يخضعون ويرجعون
عن كفرهم وشركهم.
فالآية الكريمة
تصور لونا من ألوان العلاج النفسي الذي عالج الله به الأمم التي تكفر بأنعمه ،
وتكذب أنبياءه ورسله ، إذ أن الآلام والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا
ومتعها إن كانت صالحة للعلاج.
ولقد بين ـ سبحانه
ـ بعد ذلك. أن تلك الأمم لم تعتبر بما أصابها من شدائد فقال : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا
تَضَرَّعُوا ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ).
ولو لا هنا للنفي
، أى أنهم ما خشعوا ولا تضرعوا وقت أن جاءهم بأسنا.
وقيل إنها للحث
والتحضيض بمعنى هلا ، أى : فهلا تضرعوا تائبين إلينا وقت أن جاءهم بأسنا.
وقد اختار صاحب
الكشاف أنها للنفي فقال : (فَلَوْ لا إِذْ
جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) معناه : نفى التضرع ، كأنه قيل. فلم يتضرعوا إذ جاءهم
بأسنا ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة
قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن أمرين حالا بينهم وبين التوبة والتضرع عند نزول الشدائد بهم.
أما الأمر الأول :
فهو قسوة قلوبهم ، وقد عبر ـ سبحانه ـ عن هذا الأمر الأول بقوله : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أى : غلظت وجمدت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة.
وأما الأمر الثاني
: فهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة ، بأن يوحى إليهم بأن ما هم عليه من كفر
وشرك وعصيان هو عين الصواب ، وأن ما أتاهم به أنبياؤهم ليس خيرا لأنه يتنافى مع ما
كان عليه آباؤهم.
هذان هما الأمران
اللذان حالا بينهم وبين التضرع إلى الله والتوبة إليه.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه قد ابتلاهم بالنعم بعد أن عالجهم بالشدائد فلم يرتدعوا فقال ـ تعالى ـ :
(فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ).
والمعنى : فلما
أعرضوا عن النذر والعظات التي وجهها إليهم الرسل ، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من
الرزق وأسباب القوة والجاه. حتى إذا اغتروا وبطروا بما أوتوا من ذلك أخذناهم بغتة
فإذا هم متحسرون يائسون من النجاة.
والفاء في قوله ـ تعالى
ـ (فَلَمَّا نَسُوا) لتفصيل ما كان منهم. وبيان ما ترتب على كفرهم من عواقب
قريبة وأخرى بعيدة.
والمراد بالنسيان
هنا : الإعراض والترك. أى : تركوا الاهتداء بما جاء به الرسل حتى نسوه أو جعلوه
كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم ، وجمودهم على تقليد من
قبلهم.
__________________
والتعبير بقوله ـ تعالى
ـ (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ
أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) يرسم صورة بليغة لإقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها
بجميع ألوان نعمها ، وبكل قوتها وإغرائها ، فهو اختبار لهم بالنعمة بعد أن ابتلاهم
بالبأساء والضراء.
وعبر ـ سبحانه ـ عن
إعطائهم النعمة بقوله : (بِما أُوتُوا) بالبناء للمجهول
لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم ، كما قال قارون من قبل (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي).
وأضاف ـ سبحانه ـ الأخذ
إلى ذاته في قوله (فَأَخَذْناهُمْ) لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك ، بل كانوا ينسبون الخلق
والإيجاد إلى الله ـ تعالى ـ.
وكان الأخذ بغتة
ليكون أشد عليهم وأفظع هولا ، أى أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم.
أو حال كونهم مبغوتين ، فقد فجأهم العذاب على غرة بدون إمهال.
وإذا في قوله (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) فجائية ، والمبلس : الباهت الحزين البائس من الخير ، الذي
لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
روى الإمام أحمد
بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «وإذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما
يحب فإنما هو استدراج» ، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ). الآية.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
الدابر : الآخر ،
والمعنى : فأهلك الله ـ تعالى ـ أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم ،
والحمد لله رب العالمين الذي نصر رسله وأولياءه على أعدائهم ، وفي ختام هذه الآية
بقوله (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) تعليم لنا ، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد
والثناء على الله ـ تعالى ـ.
ثم ذكرهم ـ سبحانه
ـ بنعمه عليهم في خلقهم وتكوينهم ، وبين لهم إذا سلبهم شيئا من حواسهم فإنهم لا
يتجهون إلا إليه فقال ـ تعالى ـ :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ
هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ
بَغْتَةً
أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ
(٤٧)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ
وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)
(٤٩)
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين : أخبرونى إن سلب الله عنكم نعمتي السمع والبصر
فأصبحتم لا تسمعون ولا تبصرون ، وختم على قلوبكم فصرتم لا تفقهون شيئا ، من إله
غيره يقدر على رد ما سلب منكم وأنتم تعرفون ذلك ولا تنكرونه فلما ذا تشركون معه
آلهة أخرى؟ ثم التفت عنهم إلى التعجيب من حالهم فقال ـ تعالى ـ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أى : انظر كيف ننوع الآيات والحجج والبراهين فنجعلها على
وجوه شتى ليتعظوا ويعتبروا ثم هم بعد ذلك يعرضون عن الحق ، وينأون عن طريق الرشاد.
والاستفهام في
قوله ـ تعالى ـ (أَرَأَيْتُمْ) للتنبيه أى : إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فتبينوه وتأملوا
ما يدل عليه.
والضمير في (بِهِ) يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد.
وفي قوله (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) تعجيب من عدم تأثرهم رغم كثرة الدلائل وتنوعها من أسلوب
إلى أسلوب.
وجملة (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) معطوفة على جملة نصرف الآيات وداخلة في حكمها ، وكان العطف
بثم لإفادة الاستبعاد المعنوي ، لأن تصريف الآيات والدلائل يدعو إلى الإقبال ،
فكان من المستبعد في العقول والأفهام أن يترتب عليه الإعراض والابتعاد.
قال القرطبي : (يَصْدِفُونَ) أى : يعرضون. يقال : صدف عن الشيء إذا أعرض صدفا وصدوفا
فهو صادف. فهم مائلون معرضون عن الحجج والدلالات .
ثم وجه عقولهم إلى
لون آخر من ألوان الإقناع فقال ـ تعالى ـ :
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ، هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ). بغتة : أى مفاجأة ، وجهرة : أى جهارا عيانا.
__________________
والمعنى : قل لهم
أيها الرسول الكريم أخبرونى عن مصيركم إن أتاكم عذاب الله مباغتا ومفاجئا لكم من
غير ترقب ولا انتظار ، أو أتاكم ظاهرا واضحا بحيث ترون مقدماته ومباديه ، هل يهلك
به إلا القوم الظالمون؟.
والاستفهام في
قوله (هَلْ يُهْلَكُ) بمعنى النفي ، أى : ما يهلك به إلا القوم الظالمون ، الذين
أصروا على الشرك والجحود ، فهلاكهم سببه السخط عليهم والعقوبة لهم ، لأنهم عموا
وصموا عن الهداية.
ثم بين ـ سبحانه ـ
وظيفة الرسل فقال : (وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، أى : تلك سنتنا وطريقتنا في إهلاك المكذبين للرسل ،
والمعرضين عن دعوتهم ، فإننا ما نرسل المرسلين إليهم إلا بوظيفة معينة محددة هي
تقديم البشارة لمن آمن وعمل صالحا ، وسوق الإنذار لمن كذب وعمل سيئا.
فالجملة الكريمة
كلام مستأنف مسوق لبيان وظيفة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ولإظهار أن ما
يقترحه المشركون عليهم من مقترحات باطلة ليس من وظائف المرسلين أصلا.
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبة من آمن وعاقبة من كفر فقال : (فَمَنْ آمَنَ
وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).
والمعنى : فمن آمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأصلح في عمله. فلا خوف عليهم من عذاب
الدنيا الذي ينزل بالجاحدين ، ولا من عذاب الآخرة الذي يحل بالمكذبين ، ولا هم
يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم.
والمس اللمس باليد
، ويطلق على ما يصيب المرء من ضر أو شر ـ في الغالب ـ وفي قوله (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) استعارة تبعية ، فكأن العذاب كائن حي يفعل بهم ما يريد من
الآلام والعذاب.
ثم لقن الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم الأجوبة الحاسمة التي تدمغ شبهات الكافرين ، وتبين ضلال
مقترحاتهم فقال :
(قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
أَفَلا
تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما
عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ
اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)
(٥٣)
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم : ليس عندي
خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون ، وإنما ذلك لله ـ تعالى ـ فهو الذي له خزائن
السموات والأرض ، وقد كان المشركون يقولون للنبي صلىاللهعليهوسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا
، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فأخبركم بما مضى وبما سيقع في المستقبل ، وإنما
علم ذلك عند الله ، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا في المستقبل.
حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار ، وقل لهم : إنى لست ملكا فأطلع على ما لا
يطلع عليه الناس وأقدر على مالا يقدرون عليه. وقد كانوا يقولون : ما لهذا الرسول
يأكل طعاما ويمشى في الأسواق ثم يتزوج النساء.
ثم بين لهم وظيفته
فقال : (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أى إن وظيفتي اتباع ما يوحى إلى من ربي. فأنا عبده وممتثل
لأمره ، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التي اقترحتموها على. فالآية الكريمة
مسوقة على سبيل الاستئناف لإظهار تبريه عما يقترحونه عليه.
ثم بين لهم ـ سبحانه
ـ الفرق بين المهتدى والضال فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).
أى : قل لهم : هل
يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه ، وذو البصيرة
المنيرة التي اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته؟
فالمراد بالأعمى
الكافر الذي لم يستجب للحق ، وبالبصير المؤمن الذي انقاد له.
والاستفهام
للإنكار ونفى الوقوع ، أى : كما أنه لا يتساوى أعمى العينين وبصيرهما ، فكذلك لا
يتساوى المهتدى والضال والرشيد والسفيه ، بل إن الفرق بين المهتدى والضال أقوى
وأظهر ، لأنه كم من أعمى العينين وبصير القلب هو من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء
وكم من بصير العينين أعمى القلب هو أضل من الأنعام ، ولذا قرعهم الله ـ تعالى ـ بقوله
: (أَفَلا
تَتَفَكَّرُونَ)؟ أى : أفلا تتفكرون في ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية
الإسلام ، وبين صفات الرب وصفات الإنسان. والاستفهام هنا للتحريض على التفكر
والتدبر.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يجتهد في إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق
، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ
أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
والمعنى : عظ وخوف
يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب ، وتعتريهم الرهبة عند
ما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة ،
فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر.
فالمراد بهم
المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولذا قال ابن كثير : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ
أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم
مشفقون ، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى : يوم القيامة ، (لَيْسَ لَهُمْ) يومئذ (مِنْ دُونِ اللهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أى : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من
عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه) .
ثم أمر الله تعالى
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند
الله من كثير من الأغنياء. فقال تعالى :
(وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
أى : لا تبعد أيها
الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ،
ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند
الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين.
وقد روى المفسرون
في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد
__________________
أرضيت بهؤلاء من
قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟ لا .. اطردهم
فلعلك إن طردتهم نتبعك. فنزلت هذه الآية :
ففي الآية الكريمة
نهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه. لأنه وإن كان صلىاللهعليهوسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للإسلام لينال بقوتهم قوة ،
إلا أن الله تعالى بين له أن القوة في الإيمان والعمل الصالح ، وأن هؤلاء الضعفاء
من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه في كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم
إلا وجه الله ، فكيف يطردون من مجالس الخير؟.
ثم قال تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ
مِنَ الظَّالِمِينَ).
أى : إن الله
تعالى هو الذي سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شيء ، كما أنه لا
يعود عليهم من حسابك شيء ، فهم مجزيون بأعمالهم ، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك
، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الظالمين. إذ أنهم لم يصدر عنهم ما يستوجب
ذلك ، وحاشا للرسول صلىاللهعليهوسلم أن يطرد قوما تلك هي صفاتهم.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : أما كفى قوله (ما عَلَيْكَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حتى ضم إليه (وَما مِنْ حِسابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى
واحد وهو المعنى في قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل : لا
تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
وقيل : الضمير
للمشركين. والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك
الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين) .
وهنا تخريج آخر
لقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بأن المعنى : ما عليك شيء من حساب رزقهم ان كانوا فقراء ،
وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء ، أى أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعا
سواء منهم الفقير والغنى ، فكيف تطرد فقيرا لفقره ، وتقرب غنيا لغناه؟ إنك إن فعلت
ذلك كنت من الظالمين ، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
وقوله (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب للنهى عن الطرد ، وقوله (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب لنفى الحساب.
__________________
ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لِيَقُولُوا : أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا. أَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
والمعنى : ومثل
ذلك الفتن. أى الابتلاء والاختبار ، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ، ليترتب على هذه
الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء في شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله
بالإيمان من بيننا! وقد رد الله عليهم بقوله (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أى : أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم
وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم
إلى صراط مستقيم.
والكاف في قوله (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير : ومثل ذلك
الفتون المتقدم الذي فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض ،
ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير ، والفقير بالغنى ، فكل واحد مبتلى بضده
، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى
الإسلام وتقدموا عليهم ، فامتنعوا عن الدخول في الإسلام لذلك ، فكان ذلك فتنة
وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم. فكان
ذلك فتنة لهم .
واللام في قوله (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) تعليلية لأنها هي للباعث على الاختبار أى : ومثل ذلك
الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا.
والاستفهام في
قوله (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير
ودقيق وجليل.
وكذلك تكون الآيات
الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا ، ولكنه
بمقدار شكر الله على ما أنعم ، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علما
ليس فوقه علم.
(وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً
__________________
بِجَهالَةٍ
ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ
أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)
(٥٦)
السلام والسلامة
مصدران من الثلاثي. يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاما وسلامة ومعناهما
البراءة والعافية. ويستعمل السلام في التحية ، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل
سوء ، فهو آية المودة والأمان والصفاء.
والمعنى : وإذا
حضر إلى مجالسك يا محمد أولئك الذين يؤمنون بآياتنا ويعتقدون صحتها فقل لهم : تحية
لكم من خالقكم وبشارة لكم بمغفرته ورضوانه مادمتم متبعين لهديه ، ومحافظين على
فرائضه.
(كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أى أنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه
وكرما.
ثم بين سبحانه
أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة المكتوبة فقال (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أى أنه من عمل
منكم عملا تسوء عاقبته متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد ثم تاب من بعد
تلك الجهالة وأصلح خطأه وندم على ما بدر منه ، ورد المظالم إلى أهلها ، فالله
سبحانه شأنه في معاملته لهذا التائب النادم أنه غفور رحيم».
ثم قال تعالى (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدى بها أهل النظر الصحيح
والفقه الدقيق.
(وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أى ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين فيمتازوا بها عن جماعة
المسلمين.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم ، أن يصارح أعداءه ببراءته من شركهم ومن اتباع باطلهم فقال
ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ).
قال الإمام الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر
الحق وليستبين سبيل المجرمين. ذكر في هذه الآية أنه ـ تعالى ـ نهى عن سلوك سبيلهم
فقال : إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ، وبين أن الذين يعبدونها إنما
يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد لا على سبيل الحجة والدليل ، لأنها جمادات
وأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير. وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر
يدفعه صريح العقل ، وأيضا فالقوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها ، ومن
المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه ، فثبت أن
عبادتها مبنية على الهوى ومضادة للهدى» .
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم : إن الله نهاني وصرفني
بفضله ، وبما منحني من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله ، وقل
ـ أيضا ـ لهم بكل صراحة وقوة : إنى لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من
انقياد للأباطيل ، ولو أنى ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة
المهتدين.
فالآية الكريمة
قطعت بكل حسم ووضوح أطماعهم الفارغة في استمالة النبي صلىاللهعليهوسلم إلى أهوائهم ،
ووصمتهم بأنهم في الضلال غارقون ، وعن الهدى مبتعدون.
وجاءت كلمة (نُهِيتُ) بالبناء للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهوره أى :
نهاني الله ـ تعالى ـ عن ذلك. وأجرى على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء
لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكى اعتقادهم.
قال أبو حيان : و
«تدعون» معناه تعبدون : وقيل معناه تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا أى سميته بهذا
الإسم. وقيل تدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله تدعون من دون الله استجهال لهم
ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة ، ولفظة نهيت أبلغ من النفي بلا أعبد
إذ ورد فيه ورود تكليف» .
وجملة (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) مستأنفة ، وعدل بها عن العطف إلى الاستئناف لتكون غرضا
مستقلا ، وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا
النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ألوان ضلالهم كطلبهم طرد
المؤمنين من مجلسه ، وعبر بقوله (قُلْ لا أَتَّبِعُ
أَهْواءَكُمْ) دون لا أتبعكم. للإشارة إلى أنهم في عبادتهم لغير الله
تابعون
__________________
للأهواء الباطلة ،
نابذون للأدلة العقلية ، وفي هذا أكبر برهان على انطماس بصيرتهم ، وبنائهم لدينهم
على الأوهام والأباطيل.
وجملة (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) جواب لشرط مقدر. أى : إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت إذا وما
اهتديت.
وجملة (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) معطوفة على جملة (قَدْ ضَلَلْتُ) ومؤكدة لمضمونها أى : إنه إن فعل ذلك ـ على سبيل الفرض
والتقدير ـ خرج عن الحالة التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى كونه
في زمرة الضالين.
والتعبير بقوله (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أبلغ من قوله وما أنا مهتد ، لأن التعريف في المهتدين
تعريض للجنس ، وإخبار المتكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة
التي تعرف عند الناس بفئة المهتدين ، فيفيد أنه مهتد بطريقة تشبه طريقة الاستدلال
، فهو من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه وهي أبلغ من التصريح.
ولذا قال صاحب الكشاف : قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عالم ، لأنك تشهد
له بكونه معدودا في زمرتهم ومعرفة مساهمته معهم في العلم».
وبعد أن أمر الله
ـ تعالى ـ نبيه بمصارحة المشركين بأنه لن يكون في يوم من الأيام متبعا لأهوائهم ،
أمره أن يخبرهم بأنه على الحق الواضح الذي لا يضل متبعه ، وبأن الله وحده هو الذي
سيقضي بينه وبينهم فقال ـ تعالى ـ :
(قُلْ إِنِّي عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)
(٥٩)
البينة : الدلالة
الواضحة من بان يبين إذا ظهر ، أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من
البينونة أى الانفصال.
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك اتباع أهوائهم كيف يتأتى لي ذلك وأنا على
شريعة واضحة وملة صحيحة لا يعتريها شك ، ولا يخالطها زيغ لأنها كائنة من ربي الذي
لا يضل ولا ينسى.
والتنوين في كلمة (بَيِّنَةٍ) للتفخيم والتعظيم ، وهي صفة لموصوف محذوف للعلم به في
الكلام ، أى : على حجة بينة واضحة محقة للحق ومبطلة للباطل فأنا لن أتزحزح عنها
أبدا.
وفي ذلك تعريض
بالمشركين بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، وإنما هم قد اتبعوا ما وجدوا عليه
آباءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وجملة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في موضع الحال من (بَيِّنَةٍ) وهي تفيد التعجب منهم حيث كذبوا بما دلت عليه البينات ،
واتفقت على صحته العقول السليمة.
والضمير في قوله (بِهِ) يعود على الله ـ تعالى ـ أى : وكذبتم بالله مع أن دلائل
توحيده ظاهرة واضحة.
وقيل : يعود على
البينة والتذكير باعتبار أنها بمعنى البيان.
وقيل : يعود على
القرآن أى والحال أنكم كذبتم بالقرآن الذي هو بينتي من ربي.
وقوله : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أى : ليس في مقدوري أن أنزل بكم ما تستعجلونه من العذاب ،
وإنما ذلك مرجعه إلى الله وحده.
وهذه الجملة
الكريمة رد على المشركين الذين استعجلوا نزول العذاب عند ما أنذرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بسوء المصير إذا ما استمروا في ضلالهم ، فقد حكى القرآن
عنهم أنهم قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فكان رد النبي صلىاللهعليهوسلم عليهم بأن الذي يملك إنزال العذاب بهم إنما هو الله وحده ،
وتأخير العذاب عنهم إنما هو لحكمة يعلمها الله ، فهو وحده الذي يقدر وقت نزوله.
وقوله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أى : ما الحكم في تعجيل العذاب أو تأخيره وفي كل شأن من
شئون الخلق إلا لله وحده فهو ـ سبحانه ـ الذي ينزل قضاءه حسب سنته الحكيمة ،
وموازينه الدقيقة.
وقرأ الكسائي
وغيره «يقص الحق» ، أى : يقص ـ سبحانه ـ القضاء الحق في كل شأن من شئونه.
وقوله (يَقُصُّ الْحَقَ) أى : يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أى : القاضين بين عباده.
قال ابن جرير : (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أى : وهو من ميز بين المحق والمبطل وأعدلهم ، لأنه لا يقع
في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة إليه ولا لقرابة ولا مناسبة ، ولا في قضائه جور
لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور ، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
حالهم فيما لو كان أمر إنزال العذاب عليهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام فقال : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أى : قل لهم يا محمد لو أن في قدرتي وإمكانى العذاب الذي
تتعجلونه ، لقضى الأمر بيني وبينكم.
قال صاحب الكشاف
أى : لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي. وامتعاضا من تكذيبكم به ، ولتخلصت منكم سريعا» .
وجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) تذييل ، أى : والله أعلم منى ومن كل أحد بحكمة تأخير
العذاب وبوقت نزوله ، لأنه العليم. الخبير الذي عنده ما تستعجلون به.
والتعبير (بِالظَّالِمِينَ) إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون في شركهم
وظالمون في تكذيبهم لما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال ابن كثير :
فإن قيل : فكيف الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال
: «لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن
عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم
أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى فنظرت فيها فإذا
جبريل فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا به عليك وقد بعث إليك
ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال فناداني ملك الجبال وسلم على ثم قال يا محمد
: إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرنى بأمرك
فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقلت له : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من
يعبد الله وحده لا شريك له».
فقد عرض عليه
عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا
يشرك به شيئا.
__________________
قال ابن كثير :
فالجواب على ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب
الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع
العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا
مكة يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم» .
ثم يمضى السياق
القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب ، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذي لا
يند عنه شيء (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).
قال القرطبي : (مَفاتِحُ) جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، وهي قراءة ابن
السميقع ، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقا محسوسا كان كالقفل على البيت ، أو
معقولا كالنظر ، وروى ابن ماجة في سننه وأبى حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس
مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن
جعل الله مفاتيح الشر على يديه» ، وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما
يتوصل في الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان. ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول
الناس افتح على كذا ، أى : أعطنى أو علمني ما أتوصل إليه به فالله ـ تعالى ـ عنده
علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء اطلاعه عليها
أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه» .
والغيب : ما غاب
عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته ، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة
والجن ، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك. وقدم الظرف لإفادة الاختصاص
، أى : عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب ، وجملة «لا يعلمها إلا هو» في موضع الحال
من مفاتح ، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها.
ومعنى (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أى : لا يعلم الغيوب علما تاما مستقلا إلا هو ـ سبحانه ـ فأما
ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم ، فكان في الأصل راجعا إلى
علمه هو. قال ـ تعالى ـ (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن علمه ليس مقصورا على المغيبات ، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
قال الراغب : أصل
البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ، وقيل إن أصله الماء الملح
__________________
دون العذب وأطلق
على النهر بالتوسع أو التغليب ، والبر ما يقابله من الأرض وهو ما يسمى باليابسة.
وهذه الجملة
معطوفة على جملة ، وعنده مفاتح الغيب ، لإفادة تعميم علمه ـ سبحانه ـ بالأشياء
الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.
وقدم ذكر البر على
البحر على طريقة الترقي من الأقل إلى الأعظم ، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم
البر ، وخفاياه أكثر وأعظم ، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر.
ثم صرح ـ سبحانه ـ
بشمول علمه لكل كلى وجزئى ، ولكل صغير وكبير ، ولكل دقيق وجليل ، فقال ـ تعالى ـ (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُها. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا
فِي كِتابٍ مُبِينٍ).
أى : وما تسقط
ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة في باطن الأرض وأجوافها ، ولا رطب ولا يابس من
الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا ، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ في
العلم الإلهى الثابت.
وجملة (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُها) معطوفة على جملة ، ويعلم ما في البر والبحر ، لقصد زيادة
التعميم في الجزئيات الدقيقة.
والمراد بظلمات
الأرض بطونها ، وكنّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما في
الظلمة.
وقوله (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) تأكيد لقوله «لا يعلمها» لأن المراد بالكتاب المبين علم
الله ـ تعالى ـ الذي وسع كل شيء ، أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته ـ عزوجل ـ.
قال الإمام الرازي
: قال الزجاج : يجوز أن الله ـ تعالى ـ : أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن
يخلق الخلق كما قال ـ تعالى ـ : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها).
ثم قال الإمام
الرازي : وفائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها : أنه ـ تعالى
ـ : إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه في
المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء ، فيكون ذلك عبرة تامة
كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا
العالم فيجدونه موافقا له.
وثانيها : أنه
يجوز أن يقال : أنه ـ تعالى ـ : ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على
أمر الحساب ، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ، لأنه إذا كان
لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال
المشتملة على الثواب والعقاب أولى.
وثالثها : أنه ـ تعالى
ـ : علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل
، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع ـ أيضا ـ تغييرها
، وإلا لزم الكذب ، فتصير كتابة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا. تاما ، وسببا
كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلىاللهعليهوسلم «جف القلم بما هو
كائن إلى يوم القيامة» .
ويؤخذ من هذه
الآية الكريمة أمور من أهمها :
أن علم الله ـ تعالى
ـ : محيط بالكليات والجزئيات ، وبكل شيء في هذا الكون ، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض
الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
أن علم الغيب مرده
إلى الله وحده ، قال الحاكم : دل قوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئا من الغيب».
وقال القاسمى :
قال صاحب «فتح البيان» : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين
وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به
علمهم. ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع
المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة في قول
الصادق المصدوق صلىاللهعليهوسلم «من أتى كاهنا أو
منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» قال ابن مسعود «أوتى نبيكم كل شيء إلا مفاتيح
الغيب».
وروى البخاري
بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله. لا يعلم أحد
ما يكون في غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله. ولا تعلم نفس
ماذا تكسب غدا ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يدرى أحد متى يجيء المطر» .
وقال القرطبي :
قال علماؤنا : أضاف ـ سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من
__________________
كتابه إلا من
اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، وكذلك من قال :
إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ؛ والله
تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). ثم قال : وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان
المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم
اتخاذ المنجمين ، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء
الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال ، واستخرجوا منهم الأموال ، فحصلوا من
أقوالهم على السراب والآل ، ومن أديانهم على الفساد والضلال ، وكل ذلك من الكبائر
لحديث النبي صلىاللهعليهوسلم «من أتى عرافا
فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما» والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعى
علم الغيب .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ : شمول علمه لكل شيء ، أتبع ذلك بالحديث عن كمال قدرته ، ونفاذ إرادته فقال ـ تعالى
ـ :
(وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
وَهُوَ
الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
قُلْ
مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ
__________________
لَنَكُونَنَّ
مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)
(٦٤)
قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ) أى : ينيمكم فيه. والتوفي أخذ الشيء وافيا ، أى تاما
كاملا. والتوفي يطلق حقيقة على الإماتة ، وإطلاقه على النوم ـ كما هنا ـ مجاز لشبه
النوم بالموت في انقطاع الإدراك والعمل والإحساس قال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فهذه الآية صريحة في أن التوفي أعم من الموت ، فقد صرحت
بأن الأنفس التي تتوفى في منامها غير ميتة ، فهناك وفاتان : وفاة كبرى وتكون
بالموت ، ووفاة صغرى وتكون بالنوم. والمعنى : وهو ـ سبحانه ـ الذي يتوفى أنفسكم في
حالة نومكم بالليل ، دون غيره لأن غيره لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.
(وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أى : ما كسبتم وعملتم فيه من أعمال. وأصل الجرح تمزيق جلد
الحي بشيء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإنسان
بجوارحه من يد أو رجل أو لسان.
وتخصيص الليل
بالنوم ، والنهار بالكسب جريا على المعتاد ، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا ، وأن
يكون الكسب والعمل نهارا ، قال ـ تعالى ـ :
(وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً).
(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أى : ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه في النهار ،
لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى في علم الله ـ تعالى ـ ، والمقدر له في هذه
الدنيا ، فقد جعل ـ سبحانه ـ لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها.
وجملة (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) معطوفة على (يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ) فتكون ثم للمهلة الحقيقية وهو الأظهر.
(ثُمَّ إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم في هذه
الدنيا ، فيحاسبكم على أعمالكم التي اكتسبتموها فيها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فالآية الكريمة
تسوق للناس مظهرا من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث
والحساب يوم
القيامة ، لأن النشأة الثانية ـ كما يقول القرطبي ـ منزلتها بعد الأولى كمنزلة
اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى.
هذا ، ويرى جمهور
المفسرين أن ظاهر الخطاب في الآية للمؤمنين والكافرين ، ولكن الزمخشري خالف في ذلك
فجعلها خطابا للكافرين فقال : (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الخطاب للكفرة ، أى : أنتم منسدحون الليل كله كالجيف ـ أى
مسطحون على القفا ـ (وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبتم من الآثام فيه (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
فِيهِ) من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم
بالليل وكسب الآثام بالنهار (لِيُقْضى أَجَلٌ
مُسَمًّى) وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم
.
والذي نراه أن رأى
الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب في الآية للكافرين.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) أى : وهو الغالب المتصرف في شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء
إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك ، والمراد بالفوقية فوقية
المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة.
قال الإمام الرازي
: وتقرير هذا القهر من وجوه :
الأول : أنه قهار
للعدم بالتكوين والإيجاد.
والثاني : أنه
قهار للوجود بالإفناء والإفساد ، فإنه ـ تعالى ـ هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى
الوجود تارة ، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى ، فلا وجود إلا بإيجاده ، ولا عدم
إلا بإعدامه في الممكنات.
والثالث : أنه
قهار لكل ضد بضده ، فيقهر النور بالظلمة ، والظلمة بالنور ، والنهار بالليل ،
والليل بالنهار ، وتمام تقريره في قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وقوله (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أى : ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما
تعملونه من خير أو شر. قال : ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) وقال ـ تعالى ـ : (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
__________________
وفي الصحيحين عن
أبى هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يتعاقبون فيكم
ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ؛ ثم يعرج بالذين
باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي فيقولون : تركناهم وهم
يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون».
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت إن الله ـ تعالى ـ غنى بعلمه عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ قلت : فيها
لطف للعباد ، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه
موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في
مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء) .
وجملة (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يجوز أن تكون معطوفة على اسم الفاعل الواقع صلة ل (أل) ،
لأنه في معنى يقهر والتقدير وهو الذي يقهر عباده ويرسل ، فعطف الفعل على الإسم
لأنه في تأويله.
وقوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أى : حتى إذا احتضر أحدكم وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا
الموكلون بذلك حالة كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون في أداء مهمتهم.
قال الآلوسى :
وحتى في قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من
الجملة الشرطية غاية لما قبلها ، كأنه قيل : ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون
منكم مدة حياتكم ، حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاءت أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا
الآخرون المفوض إليهم ذلك ، وانتهى هناك حفظ الحفظة. والمراد بالرسل ـ على ما
أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس ـ أعوان ملك الموت .
وقال الجمل : فإن
قلت : إن هناك آية تقول : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) وثانية تقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) والتي معنا تقول (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.
فالجواب على ذلك
أن المتوفى في الحقيقة هو الله ، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه
، ولملك الموت أعوان من الملائكة فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده ، فإذا وصلت
إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه ، وقيل المراد من قوله (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .
__________________
ثم صرح ـ سبحانه ـ
بأن مصير الخلق جميعا إليه فقال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أى : ثم رد الله ـ تعالى ـ هؤلاء الذين توفتهم الملائكة
إلى مالكهم الحق الذي لا يشوب ملكه باطل ليتولى حسابهم وجزاءهم على أعمالهم.
فالضمير في (رُدُّوا) يعود على الخلائق الذين توفتهم الملائكة والمدلول عليهم
بأحد. والسر في الإفراد أولا والجمع ثانيا وقوع التوفي على الأفراد والرد على
الاجتماع. أى : ردوا بعد البعث فيحكم فيهم بعدله. قال ـ تعالى ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).
وقيل إن الضمير في
(رُدُّوا) يعود على الملائكة. أى : ثم ردوا أولئك الرسل بعد إتمام
مهمتهم بإماتة جميع الناس فيموتون هم أيضا. وجملة (أَلا لَهُ الْحُكْمُ
وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ). تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى
أهمية الخبر.
أى : ألا له الحكم
النافذ لا لغيره وهو ـ سبحانه ـ أسرع الحاسبين لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه
الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب.
وبذلك تكون هذه
الآيات الثلاث قد أقامت أقوى البراهين وأصحها على كمال قدرة الله ، ونفاذ إرادته ،
ومحاسبته لعباده يوم القيامة على ما قدموا وأخروا.
ثم ساق القرآن
لونا آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله وسابغ رحمته وفضله وإحسانه فقال ـ تعالى
ـ : (قُلْ مَنْ
يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
قال صاحب الكشاف :
ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما.
يقال لليوم الشديد
يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل» .
وقيل : حمله على
الحقيقة أولى فظلمة البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل ومن ظلمة السحاب فيحصل من
ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب ، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من
ظلمة الليل وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد
من الوقوع في الهلاك.
والتضرع :
المبالغة في الضراعة مع الذل والخضوع. والخفية ـ بالضم والكسر ـ الخفاء والاستتار.
وللكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر. فالغم يثير
النفس كما يثير الأرض كاربها.
__________________
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء الغافلين من الذي ينجيكم من ظلمات البر والبحر عند ما تغشاكم بأهوالها
المرعبة ، وشدائدها المدهشة ، إنكم في هذه الحالة تلجأون إلى الله وحده تدعونه
إعلانا وإسرارا بذلة وخضوع وإخلاص قائلين له : لئن أنجيتنا يا ربنا من هذه الشدائد
والدواهي المظلمة لنكونن لك من الراسخين في الشكر المداومين عليه (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ
كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أى قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي ينجيكم من هذه
المخاوف والأهوال ومن كل غم يأخذ بنفوسكم ، ثم أنتم بعد هذه النجاة تشركون معه
غيره ، مخلفين بذلك وعدكم حانثين في أيمانكم.
قال الإمام الرازي
: «والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع
الإنسان إلا إلى الله ، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا ، لأن الإنسان في هذه
الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله ، وينقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، وهو المراد من
قوله (تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً) فبين ـ سبحانه ـ أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة
الأصلية في هذه الحالة بأن لا ملجأ إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله ، وجب أن
يبقى هذا الإخلاص في كل الأحوال ، لكن الإنسان ليس كذلك فإنه بعد الفوز بالسلامة
والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك.
ولفظ الآية يدل
على أنه عند حصول الشدائد يأتى الإنسان بأمور :
أحدها
: الدعاء.
وثانيها
: التضرع.
وثالثها
: الإخلاص بالقلب
وهو المراد من قوله (خُفْيَةً).
ورابعها : التزام
الاشتغال بالشكر. ونظير هذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائل
أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال ـ تعالى
ـ :
__________________
(قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
وَإِذا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى
الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ)
(٦٩)
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء الجاحدين ، إن الله ـ تعالى ـ وحده هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا
عظيما من فوقكم أى : من جهة العلو كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة
، أو من تحت أرجلكم أى من السفل كما حدث بالنسبة لفرعون وجنده من الغرق ، وبالنسبة
لقارون حيث خسف به الأرض.
وقيل : من فوقكم
أى من قبل سلاطينكم وأكابركم ، ومن تحت أرجلكم أى : من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل :
هو حبس المطر والنبات.
وتصوير العذاب
بأنه آت من أعلى أو من أسفل أشد وقعا في النفس من تصويره بأنه آت من جهة اليمين أو
من جهة الشمال ، لأن الآتي من هاتين الجهتين قد يتوهم دفعه ، أما الآتي من أعلى أو
من أسفل فهو عذاب قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه.
وقوله (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أى : يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء ، متباينة المشارب ،
مضطربة الشئون ، كل فرقة تتبع إماما لها تقاتل معه غيرها ، فيزول الأمن ويعم
الفساد.
و (شِيَعاً) جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار ، وكل قوم اجتمعوا على أمر
فهم شيعة ، وقوله (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ
بَأْسَ بَعْضٍ) معطوف على ما قبله ، أى : يسلط بعضكم على بعض بالعذاب
والقتل ، لأن من
عواقب ذلك اللبس التقاتل والتصارع. وفي هاتين الجملتين تصوير مؤثر للعذاب الذي
يذوقه الناس بحواسهم إذ يجعلهم ـ سبحانه ـ شيعا وأحزابا غير منعزل بعضها عن بعض ،
فهي أبدا في جدال وصراع وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك ،
وذلك أشنع ما تصاب به الجماعة فيأكل بعضها بعضا.
ثم تختم الآية
بهذا التعبير الحكيم (انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
أى : انظر وتدبر ـ
أيها الرسول الكريم ـ أو أيها العاقل كيف ننوع الآيات والعبر والعظات بالترغيب
تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر ، فينصرفوا عن الجحود
والمكابرة ، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم.
هذا ، وقد ساق ابن
كثير عقب تفسير هذه الآية جملة من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبى وقاص
أنه أقبل مع النبي صلىاللهعليهوسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مر بمسجد بنى معاوية دخل
فركع فيه ركعتين وصلينا معه. ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا
فأعطانى ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها ، وسألته
أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها ، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
بعد هذا التهديد
الشديد للمعاندين اتجه القرآن إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم فأمره أن يصارح قومه بسوء مصيرهم إذا ما استمروا في ضلالهم
فقال :
(وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) أى : وكذب جمهور قومك بهذا العذاب الذي حدثناك عنه فظنوا
أن الله لن يعذبهم بسبب إعراضهم عن دعوتك ، أو كذبوا بهذا القرآن الذي هو معجزتك
الكبرى.
والتعبير عنهم
بقومك تسجيل عليهم بسوء المعاملة لمن هو من أنفسهم وجملة (وَهُوَ الْحَقُ) مستأنفة لقصد تحقيق القدرة على بعث العذاب عليهم ، أو حال
من الهاء في به ، أى : كذبوا حال كونه حقا ، وهو أعظم في القبح قل لهم ـ يا محمد ـ
(لَسْتُ عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ) أى : لم يفوض إلى أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على
التصديق ، فأنا لست بقيم عليكم وإنما أنا منذر وقد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم
ولكنكم لا تحبون الناصحين.
ثم ختم هذا
التهديد بقوله ـ تعالى ـ (لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
قال الراغب : «النبأ
: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حق يتضمن هذه
الأشياء الثلاثة».
__________________
والمستقر : وقت
الاستقرار.
أى : لكل خبر عظيم
وقت استقرار وحصول لا بد منه ، وسوف تعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم متى شاء
الله ذلك ، قال ـ تعالى ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).
وبذلك تكون الآيات
الكريمة قد ساقت ألوانا من قدرة الله ، وهددت المعاندين في كل زمان ومكان بسوء
المصير.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله وأتباعه بأن يهجروا المجالس التي لا توقر فيه آيات الله وشرائعه ، فقال ـ تعالى
ـ :
(وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ).
قال الراغب :
الخوض هو الشروع في الماء والورود فيه ، ثم استعير للأخذ في الحديث فقيل : تخاوضوا
في الحديث ، أى : أخذوا فيه على غير هدى ، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم
الشروع فيه نحو قوله ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) .
والمعنى : وإذا
رأيت أيها النبي الكريم ، أو أيها المؤمن العاقل ، الذين يخوضون في آياتنا
بالتكذيب والطعن والاستهزاء فأعرض عنهم. وانصرف عن مجالسهم ، وأرهم من نفسك
الاحتقار لتصرفاتهم ، ولا تعد إلى مجالسهم حتى يخوضوا في حديث آخر ، لأن آياتنا
المنسوبة إلينا من حقها أن تعظم وأن تحترم لا أن تكون محل تهكم واستهزاء.
قال ابن جريج :
كان المشركون يجلسون إلى النبي صلىاللهعليهوسلم يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت هذه
الآية فجعل صلىاللهعليهوسلم إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا : لا تستهزءوا فيقوم.
وإنما عبر عن
انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض ، لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى فيه ولا منفعة
من ورائه غالبا.
وقوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى : وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة
الخائضين على سبيل الفرض والتقدير فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم
بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها ، وقد جاء الشرط الأول بإذا لأن خوضهم في الآيات
محقق ، وجاء الشرط الثاني بإن لأن إنساء الشيطان له قد يقع وقد لا يقع.
فإن قيل : النسيان
فعل الله فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب بأن السبب من الشيطان وهو الوسوسة والإعراض
عن الذكر فأضيف إليه لذلك ، كما أن من ألقى غيره في النار فمات يقال : إنه القاتل
وإن كان الإحراق فعل الله.
__________________
هذا وقد أخذ
العلماء من هذه الآية الكريمة أحكاما من أهمها ما يأتى :
١ ـ وجوب الإعراض
عن مجالسة المستهزئين بآيات الله أو برسله ، وأن لا يقعد لأن في القعود إظهار عدم
الكراهة ، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال القرطبي : من
خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجرته ، مؤمنا كان أو كافرا ، وقد منع أصحابنا
الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم وبيعهم ، وكذلك منعوا مجالسة الكفار وأهل
البدع. فقد قال بعض أهل البدع لأبى عمران النخعي : اسمع منى كلمة فأعرض عنه وقال :
ولا نصف كلمة.
وروى الحاكم عن
عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من وقر صاحب بدعة
فقد أعانه على هدم الإسلام» .
وقال صاحب المنار
: وسبب هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم
على خوضهم وإغراء لهم بالتمادى فيه وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه والمشاركة في
الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر قال ـ
تعالى ـ (وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ
وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) .
٢ ـ جواز مجالسة
الكفار مع عدم الخوض. لأنه إنما أمرنا بالإعراض في حالة الخوض ، وأيضا فقد قال ـ تعالى
ـ (حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ).
قال بعض العلماء :
«وحتى غاية الإعراض ، لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أو جبته رعاية المصلحة ،
فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هدايتهم وإرشادهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصلحة» .
٣ ـ استدل بهذه
الآية على أن الناسي غير مكلف ، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف فيعفى عما ارتكبه
حال نسيانه ففي الحديث الشريف «إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه». رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا وإسناده صحيح.
٤ ـ قال القرطبي :
قال بعضهم إن الخطاب في الآية للنبي صلىاللهعليهوسلم والمقصود أمته ، ذهبوا إلى
__________________
ذلك لتبرئته صلىاللهعليهوسلم من النسيان. وقال آخرون إن الخطاب له صلىاللهعليهوسلم والنسيان جائز عليه فقد قال صلىاللهعليهوسلم مخبرا عن نفسه : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا
نسيت فذكروني» فأضاف النسيان إليه. واختلفوا بعد جواز النسيان عليه هل يكون فيما
طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أولا؟ فذهب إلى الأول ـ فيما ذكره القاضي
عياض ـ عامة العلماء والأئمة كما هو ظاهر القرآن والأحاديث ، لكن اشترط الأئمة أن
الله ـ تعالى ـ ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه
في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية» .
قال الآلوسى : «وأنا
أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية
فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه لا تبعة على المؤمنين ما داموا قد أعرضوا عن مجلس الخائضين فقال ـ تعالى ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
أى : وما على
الذين يتقون الله شيء من حساب الخائضين على ما ارتكبوا من جرائم وآثام ما داموا قد
أعرضوا عنهم ، ولكن عليهم أن يعرضوا عنهم ويذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح
بما أمكن من العظة والتذكير لعل أولئك الخائضين يجتنبون ذلك ، ويتقون الله في
أقوالهم وأفعالهم.
وعليه يكون الضمير
في قوله : (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) يعود على الخائضين.
وقيل يجوز أن يكون
الضمير في قوله : (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) للذين اتقوا أى : عليهم أى يذكروا أولئك الخائضين ، لأن
هذا التذكير يجعل المتقين يزدادون إيمانا على إيمانهم ، ويثبتون على تقواهم.
روى البغوي عن ابن
عباس قال : لما نزلت : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) .. إلخ قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف
بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعنى إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون ، وما عليكم
نصيب من إثم ذلك الخوض.
قال الجمل : قوله (ولكن
ذكرى) فيه أربعة أوجه :
__________________
أحدها : أنها
منصوبة على المصدر بفعل مضمر وقدره بعضهم أمرا ، أى : ولكن ذكروهم ذكرى ، وبعضهم
قدره خبرا. أى : ولكن يذكرونهم ذكرى.
والثاني : أنه
مبتدأ خبره محذوف : أى : ولكن عليكم ذكرى ، أى : تذكيرهم.
والثالث : أنه خبر
لمبتدأ محذوف أى : هو ذكرى أى : النهى عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى.
والرابع : أنه عطف
على موضع شيء المجرور بمن أى : ما على المتقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى
فيكون من عطف المفردات وأما على الأوجه السابقة فهو من عطف الجمل» .
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم بأن ينطلق في تبليغ دعوته دون أن يشغل نفسه بسفاهة السفهاء
، وأن يذكر المعاندين بسوء مصيرهم فقال ـ تعالى ـ :
(وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ
وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما
كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا
بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى
اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا
الصَّلاةَ
__________________
وَاتَّقُوهُ
وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(٧٢) وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ
فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)
(٧٣)
والمعنى : واترك
يا محمد هؤلاء الغافلين الذين اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام
لعبا ولهوا حيث سخروا من تعاليمه واستهزءوا بها ، وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا
إليها ، واشتغلوا بلذاتها وزعموا أنه لا حياة بعدها.
ولم يقل ـ سبحانه
ـ اتخذوا اللعب واللهو دينا لأنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللعب واللهو دينا لهم ،
وإنما هم عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسموها دينا.
قال الإمام الرازي
ما ملخصه : ومعنى (ذَرْهُمْ*) : أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في
نظرك وزنا ، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه قال له بعده (وَذَكِّرْ بِهِ) وإنما المراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم لا ترك إنذارهم
وتخويفهم .. ومعنى اتخاذ دينهم لعبا ولهوا ، أنهم اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة
الأصنام وغيرها دينا لهم ، أو أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهى
والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر ، ولم يكونوا يحتاطون في أمر الدين ، بل كانوا
يكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله عنهم لذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا.
وأنهم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا قال ابن عباس : جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه
ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله ، ثم إن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبا
ولهوا أما المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله ...» .
والضمير في قوله (وَذَكِّرْ بِهِ) يعود إلى القرآن : وقد جاء مصرحا به في قوله ـ تعالى ـ (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ).
وقوله (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أى : وذكر بهذا القرآن أو بهذا الدين الناس مخافة أن تسلم
نفس إلى الهلاك ، أو تحبس أو ترتهن أو تفتضح ، أو تحرم الثواب بسبب كفرها
واغترارها بالحياة الدنيا ، واتخاذها الدين لعبا ولهوا.
__________________
ولفظ تبسل مأخوذ
من السبل بمعنى المنع بالقهر أو التحريم أو الحبس ومنه أسد باسل لمنعه فريسته من
الإفلات. وشراب بسيل أى متروك وهذا الشيء بسيل عليك أى محرم عليك.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هذه النفس المعرضة للحرمان ليس لها ما يدفع عنها السوء فقال : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ
وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أى : ليس لهذه النفس من غير الله ناصر ينصرها ولا شفيع يدفع
عنها ، ومهما قدمت من فداء فلن يقبل منها ، فالمراد بالعدل هنا الفداء فهو كقوله ـ
تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).
قال الإمام الرازي
: والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولى يتولى
دفع ذلك المحذور عنها ، ولا شفيع يشفع فيها ، ولا فدية تقبل منها ليحصل الخلاص
بسبب قبولها ، حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت
وجوه الخلاص هي الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس
هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله ،
وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصى الله» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبة أولئك الغافلين فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما
كانُوا يَكْفُرُونَ).
أى : أولئك الذين
أسلموا للهلاك بسبب ما اكتسبوه في الدنيا من أعمال قبيحة لهم شراب من حميم أى من
ماء قد بلغ النهاية في الحرارة يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم ، ولهم فوق ذلك
عذاب مؤلم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون.
ثم ساق القرآن
صورة منفرة للشرك والمشركين تدعو المؤمنين إلى أن يزدادوا إيمانا على إيمانهم فقال
ـ تعالى ـ : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا).
قال ابن كثير :
قال السدى : قال المشركون للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله ـ عزوجل ـ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) .
والمعنى : قل يا
محمد أو أيها العاقل لهؤلاء المشركين الذين يحاولون رد المسلمين عن الإسلام ، قل
لهم : أنعبد من دون الله مالا يقدر على نفعنا إن دعوناه ولا على ضرنا إن تركناه
__________________
(وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا) أى نرجع إلى الشرك الذي كنا فيه ، بعد أن هدانا الله إلى
الإسلام وأنقذنا من الكفر والضلال. يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها : قد رد على
عقبيه.
والاستفهام في
الآية الكريمة للإنكار والنفي ، وجيء بنون المتكلم ومعه غيره ، لأن الكلام مع
الرسول صلىاللهعليهوسلم عن نفسه وعن المسلمين كلهم.
والمراد بما لا
ينفع ولا يضر : تلك الأصنام فإنها مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضر ، ولو كانت
تستطيع الضر لأضرت بالمسلمين لأنهم خلعوا عبادتها ، وسفهوا أتباعها ، وأعلنوا
حقارتها.
وجملة (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) معطوفة على (نَدْعُوا) و «على» داخلة في
حيز الإنكار والنفي. والتعبير عن الشرك بالرد على الأعقاب لزيادة تقبيحه بتصويره
ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى أن الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء
الظهر ، ومن المستحيل أن يرجع إليها من ذاق حلاوة الإيمان.
وحرف (عَلى) في قوله (وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا) للاستعلاء ، أى رجع على طريق هي جهة عقبه أى مؤخر قدمه كما
يقال : رجع وراءه ثم استعمل هذا التعبير في التمثيل للتلبس بحالة ذميمة كان قد
فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبس بها.
وفي الحديث الشريف
«اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم».
ثم ساق القرآن
صورة مؤثرة دقيقة للضلالة والحيرة التي تناسب من يشرك بعد التوحيد فقال : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ
فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا).
(اسْتَهْوَتْهُ
الشَّياطِينُ) أى استغوته وزينت هواه ودعته إليه ، والعرب تقول : استهوته
الشياطين ، لمن اختطف الجن عقله فسيرته كما تريد دون أن يعرف له وجهة في الأرض.
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين : أتريدون منا أن نعود إلى الكفر بعد أن نجانا الله منه
فيكون مثلنا كمثل الذي ذهبت به مردة الشياطين فألقته في صحراء مقفرة وتركته تائها
ضالا عن الطريق القويم ولا يدرى ماذا يصنع وله أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم
قائلين له : ائتنا لكي تنجو من الهلاك ولكنه لحيرته وضلاله لا يجيبهم ولا يأتيهم.
قال الإمام ابن
كثير عند تفسيره لهذه الآية : «إن مثل من يكفر بالله بعد إيمانه كمثل رجل خرج مع
قوم على الطريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق
فجعلوا يدعونه إليهم ويقولون : ائتنا فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم ، فذلك مثل
من
يتبعهم بعد
المعرفة بمحمد صلىاللهعليهوسلم. ومحمد صلىاللهعليهوسلم هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام» .
ثم أمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يرد على الكفار بما يخرس ألسنتهم فقال :
(قُلْ إِنَّ هُدَى
اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن هدى الله الذي أرسلت
به رسله هو الهدى وحده وما وراءه ضلال وخذلان ، وأمرنا لنسلم وجوهنا لله رب
العالمين.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : فما محل الكاف في قوله «كالذي استهوته» قلت : النصب على الحال من الضمير
في (نُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا) أى : أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت ما معنى (اسْتَهْوَتْهُ)؟ قلت هو استفعال من هوى في الأرض أى ذهب فيها ، كأن معناه
: طلبت هويه وحرصت عليه ، فإن قلت : فما محل أمرنا؟ قلت : النصب عطفا على محل قوله
: (إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدى) على أنهما مقولان كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم
.
وقوله (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) معطوف على محل (لِنُسْلِمَ) كأنه قيل أمرنا لنسلم وأمرنا أيضا بإقامة الصلاة والاتقاء.
وفي تخصيص الصلاة
بالذكر من بين أنواع الشرائع وعطفها على الأمر بالإسلام ، وقرنها بالأمر بالتقوى
دليل على تفخيم أمرها وعظمة شأنها.
وقوله (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر من الأمور الثلاثة ، أى
: هو الذي تعودون إليه يوم القيامة للحساب لا إلى غيره.
وقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) معطوف على قوله (وَهُوَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
قال الآلوسى : «ولعله
أريد بخلقهما خلق ما فيهما ـ أيضا ـ وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع
العلويات والسفليات.
وقوله «بالحق»
متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل «خلق» أى : قائما بالحق ، وجوز أن يكون صفة لمصدر
الفعل المؤكد أى : خلقا متلبسا بالحق».
__________________
والحق في الأصل
مصدر حق إذا ثبت ، ثم صار اسما للأمر الثابت الذي لا ينكر ، وهو ضد الباطل.
وقوله (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُ) أى : وقضاؤه المعروف بالحقيقة كائن ، حين يقول ـ سبحانه ـ لشيء
من الأشياء «كن فيكون» ذلك الشيء ويحدث.
و (يَوْمَ) خبر مقدم ، و (قَوْلُهُ) مبتدأ مؤخر ، و (الْحَقُ) صفته.
والجملة الكريمة
بيان لقدرته ـ تعالى ـ على حشر المخلوقات بكون مراده لا يتخلف عن أمره ، وإن قوله
هو النافذ وأمره هو الواقع قال ـ تعالى ـ (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وفي قوله (قَوْلُهُ الْحَقُ) صيغة قصر للمبالغة أى : هو الحق الكامل ، لأن أقوال غيره
وإن كان فيها كثير من الحق فهي معرضة للخطأ وما كان فيها غير معرض للخطأ فهو من
وحى الله أو من نعمته بالعقل والإصابة للحق.
وقوله (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) أى : أن الملك لله تعالى وحده في ذلك اليوم فلا ملك لأحد
سواه.
قال أبو السعود : «وتقييد
اختصاص الملك له ـ تعالى ـ بذلك اليوم مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات لغاية ظهور
ذلك بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للملكية المجازية في
الجملة ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ).
المراد «بالصور»
القرن الذي ينفخ فيه الملك نفخة الصعق والموت ، ونفخة البعث والنشور والله أعلم
بحقيقته.
وروى الإمام أحمد
عن عبد الله بن عمرو قال : إن أعرابيا سأل النبي صلىاللهعليهوسلم عن الصور فقال : «قرن ينفخ فيه» رواه أبو داود والترمذي
والحاكم عنه أيضا.
وقيل المراد بالصور
هنا جمع صورة والمراد بها الأبدان أى : يوم ينفخ في صور الموجودات فتعود إلى
الحياة.
ثم ختمت الآية بما
يدل على سعة علم الله ـ تعالى ـ وعظم إتقانه في صنعه فقال ـ تعالى ـ : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
الغيب. ما غاب عن
الناس فلم يدركوه. الشهادة : ضد الغيب وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصلون إلى
علمها.
وصفة (الْحَكِيمُ) تجمع إتقان الصنع فدل على عظم القدرة مع تعلق العلم
بالمصنوعات.
وصفة (الْخَبِيرُ) تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيها.
أى : فهو ـ سبحانه
ـ وحده العالم بأحوال جميع الموجودات ما غاب منها وما هو مشاهد ، وهو ذو الحكمة في
جميع أفعاله والعالم بالأمور الجلية والخفية.
وبعد أن ساق
القرآن ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وسعة علمه وقدرته أخذ في التدليل على
بطلان الشرك وإثبات التوحيد عن طريق القصة ، فحكى لنا جانبا مما قاله إبراهيم
لأبيه وقومه فقال ـ تعالى ـ :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤)
وَكَذلِكَ
نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا
قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)
(٧٨) إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
(٧٩)
والمعنى : واذكر
يا محمد وذكر قومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن قال إبراهيم لأبيه آزر منكرا عليه
عبادة الأصنام (أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً) تعبدها من دون الله الذي خلقك فسواك فعدلك (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) الذين يتبعونك في عبادتها في ضلال مبين ، أى في انحراف
ظاهر بين عن الطريق المستقيم.
قال الآلوسى : (وآزر
بزنة آدم علم أعجمى لأبى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وكان من قرية من سواد الكوفة ، وهو بدل من إبراهيم أو
عطف بيان عليه ، وقيل : إنه لقب لأبى إبراهيم واسمه الحقيقي تارح وأن آزر لقبه ،
وقيل هو اسم جده ومنهم من قال اسم عمه ، والعم والجد يسميان أبا مجازا) .
والاستفهام في
قوله (أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً) للإنكار. والتعبير بقوله (أَتَتَّخِذُ) الذي هو افتعال من الأخذ ، فيه إشارة بأن عبادته هو وقومه
لها شيء مصطنع ، والأصنام ليست أهلا للألوهية ، وفي ذلك ما فيه من التعريض بسخافة
عقولهم ، وسوء تفكيرهم.
والرؤية يجوز أن
تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشىء المشاهد
لوضوحه ، وعليه فقوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع المفعول.
ويجوز أن تكون
الرؤية علمية وعليه فقوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع المفعول الثاني.
ووصف الضلال بأنه
مبين يدل على شدة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئي.
قال الشيخ القاسمى
: قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين لا سيما
للأقارب ، فإن من كان أقرب فهو أهم ، ولهذا قال ـ تعالى ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقال ـ تعالى ـ : (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقال صلىاللهعليهوسلم «أبدأ بنفسك ثم
بمن تعول» ولهذا بدأ النبي صلىاللهعليهوسلم بعلى وخديجة وزيد وكانوا معه في الدار فآمنوا وسبقوا ، ثم
بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالي ، وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه ، وتدل هذه
الآية ـ أيضا ـ على أن النصيحة في الدين ، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق ،
وقد ثبت في الصحيح عن أبى هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة «وعلى وجه آزر
قترة وغبرة» فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه : فاليوم لا
أعصيك. فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأى خزي أخزى
من أبى الأبعد؟ فيقول الله ـ تعالى ـ «إنى حرمت الجنة على الكافرين».
ثم قال الشيخ
القاسمى : والآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا
، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه ، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ومثله لا يجزم
به من غير نقل» .
__________________
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر نعمه على خليله إبراهيم فقال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).
أى : وكما أرينا
إبراهيم الحق في خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك ، نريه ـ أيضا ـ مظاهر ربوبيتنا
، ومالكيتنا للسموات والأرض ، ونطلعه على حقائقها. ليزداد إيمانا على إيمانه
وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على
الباطل.
والرؤية هنا
المقصود بها الانكشاف والمعرفة. فتشمل المبصرات والمعقولات التي يستدل بها على
الحق.
وإنما قال (نُرِي إِبْراهِيمَ) بصيغة المضارع ، مع أن الظاهر أن يقول «أريناه» لاستحضار
صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته ـ تعالى ـ في ذلك
الملكوت العظيم.
والملكوت : مصدر
كالرغبوت والرحموت والجبروت ، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة ، والمراد
به الملك العظيم وهو مختص بملكه ـ تعالى ـ كما قال الراغب في مفرداته.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ثمار تلك الإراءة التي أكرم بها نبيه إبراهيم فقال : (فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي).
(جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ) : أى ستره بظلامه وتغشاه بظلمته ، وأصل الجن : الستر عن
الحاسة.
يقال : جنه الليل
وجن عليه يجن جنا وجنونا ، ومنه الجن والجنة ـ بالكسر ـ والجنة ـ بالفتح ـ وهي
البستان الذي يستر بأشجاره الأرض.
والمعنى : فلما
ستر الليل بظلامه إبراهيم رأى كوكبا قال هذا ربي ، قال ذلك على سبيل الفرض وإرخاء
العنان ، مجاراة مع عباد الأصنام والكواكب ليكر عليه بالإبطال ، ويثبت أن الرب لا
يجوز عليه التغيير والانتقال.
قال صاحب الكشاف :
«كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ
في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال. ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد
إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها. لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا
أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر
أحوالها. وقول إبراهيم (هذا رَبِّي) قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكى قوله كما روى
غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد
حكايته فيبطله بالحجة .
__________________
وجملة (قالَ هذا رَبِّي) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة
«رأى كوكبا» وهو أن يسأل سائل : فماذا كان منه عند ما رآه ، فيكون قوله : (قالَ هذا رَبِّي) جوابا لذلك.
وقوله (فَلَمَّا أَفَلَ) أى : غاب وغرب : يقال أفل الشيء يأفل أفلا وأفولا أى :
غاب.
وقوله (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أى : لا أحب عبادة الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ومن
حال إلى حال ، لأن الأفول غياب وابتعاد ، وشأن الإله الحق أن يكون دائم المراقبة
لتدبير أمر عباده.
وجاء بالآفلين
بصيغة جمع المذكر المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة
في الأكوان.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حالة ثانية من الحالات التي برهن بها إبراهيم على وحدانية الله فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ
هذا رَبِّي) أى : فلما رأى إبراهيم القمر مبتدئا في الطلوع ، منتشرا
ضوؤه من وراء الأفق قال هذا ربي.
وبازغا : مأخوذ من
البزوع وهو الطلوع والظهور. يقال : بزغ الناب بزوغا إذا طلع.
(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ
: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
أى : فلما أفل
القمر كما أفل الكوكب من قبله قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي إلى
جناب الحق وإلى الطريق القويم الذي يرتضيه لأكونن من القوم الضالين عن الصراط
المستقيم ، لأن هذا القمر الذي يعتوره الأفول ـ أيضا ـ لا يصلح أن يكون إلها.
وفي قول إبراهيم
لقومه هذا القول تنبيه لهم لمعرفة الرب الحق وأنه واحد وأن الكواكب والقمر كليهما
لا يستحقان الألوهية. وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له
ربا غير الكواكب. ثم عرض بقومه بأنهم ضالون ، لأن قوله «لأكونن من القوم الضالين»
يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أنه لون من الضلال.
وإنما استدل على
بطلان كون القمر إلها بعد أفوله ، ولم يستدل على بطلان ذلك بمجرد ظهوره مع أن
أفوله محقق ، لأنه أراد أن يقيم استدلاله على المشاهدة لأنها أقوى وأقطع لحجة
الخصم.
ثم حكى القرآن
الحالة الثالثة والأخيرة التي استدل بها إبراهيم على بطلان الشرك فقال ـ تعالى ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ
هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) أى : فلما رأى إبراهيم الشمس مبتدئة في الطلوع وقد عم
نورها الآفاق ، قال مشيرا إليها (هذا رَبِّي هذا
أَكْبَرُ) أى : أكبر الكواكب جرما وأعظمها قوة ، فهو أولى بالألوهية
ان كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.
فقوله (هذا أَكْبَرُ) تأكيد لما رامه من إظهار النصفة للقوم ، ومبالغة في تلك
المجاراة الظاهرة لهم ، وتمهيد قوى لإقامة الحجة البالغة عليهم ، واستدراج لهم إلى
ما يريد أن يلقيه على مسامعهم بعد ذلك.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت ما وجه التذكير في قوله (هذا رَبِّي) والإشارة للشمس؟ قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما
عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ومن كانت أمك ، وكان اختيار هذه
الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله علام ولم
يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث .
وقوله (فَلَمَّا أَفَلَتْ) قال : (يا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أى فلما غابت الشمس واحتجب ضوؤها ، جاهر إبراهيم قومه
بالنتيجة التي يريد الوصول إليها فقال : يا قوم إنى برىء من عبادة الأجرام
المتغيرة التي يغشاها الأفول ، وبرىء من إشراككم مع الله آلهة أخرى.
قال الآلوسى :
وإنما احتج ـ عليهالسلام ـ بالأفول دون البزوغ مع أنه انتقال ، لأن الأفول متعدد
الدلالة أيضا إذ هو انتقال مع احتجاب ولا كذلك البزوغ ، ولأن دلالة الأفول على
المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول .
هذا والمتأمل في
هذه الحالات الثلاث يرى أن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ قد سلك مع قومه أحكم الطرق في الاستدلال على وحدانية
الله ، فقد ترقى معهم وهو يأخذ بيدهم إلى النتيجة التي يريدها بأسلوب يقنع العقول
السليمة ، ورحم الله صاحب الانتصاف فقد بين ذلك بقوله : «والتعريض بضلالهم ثانيا
أى في قوله (لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أصرح وأقوى من قوله أولا (لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ) وإنما ترقى إلى ذلك ، لأن الخصوم قد أقام عليهم بالاستدلال
الأول حجة ، فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون
ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض ـ صلوات الله عليه ـ بأنهم في ضلالة إلا بعد أن
وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في
النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام
الحجة ، وتبلج الحق ، وبلغ من الظهور غاية المقصود .
ثم ختم إبراهيم
هذا الترقي في الاستدلال على وحدانية الله بقوله ـ كما حكى القرآن
__________________
عنه ـ : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) أى : إنى صرفت وجهى وقلبي في المحبة والعبادة لله الذي
أوجد وأنشأ السموات والأرض على غير مثال سابق.
ومعنى (حَنِيفاً) مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة كلها إلى الدين
الحق ، وهو ـ أى حنيفا ـ حال من ضمير المتكلم في (وَجَّهْتُ).
وقوله (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أى : وما أنا من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى لا في
أقوالهم ولا في أفعالهم. وقد أفادت هذه الجملة التأكيد لجملة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) .. إلخ.
وبذلك يكون
إبراهيم ـ عليهالسلام ـ قد أقام الأدلة الحكيمة والبراهين الساطعة على وحدانية
الله ـ تعالى ـ وسفه المعبودات الباطلة وعابديها.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض ما دار بين إبراهيم وبين قومه من مجادلات ومخاصمات فقال :
(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ
قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما
أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ)
(٨٢)
المحاجة :
المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة ، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى : المقصد
المستقيم ـ كما قال الراغب ـ وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين في إثبات
دعواه أو رد دعوى خصمه.
فمعنى (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أى : جادلوه وخاصموه أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد
تارة
بإيراد أدلة فاسدة
واقعة في حضيض التقليد ، وأخرى بالتهديد والتخويف ، فقد حكى القرآن أنهم قالوا له
عند ما نهاهم عن عبادة الأصنام (وَجَدْنا آباءَنا
كَذلِكَ يَفْعَلُونَ).
وقد رد عليهم
إبراهيم ردا قويا جريئا فقال لهم : (أَتُحاجُّونِّي فِي
اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أى أتجادلونني في شأنه ـ تعالى ـ وفي أدلة وحدانيته ،
والحال أنه ـ سبحانه ـ قد هداني إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو
المستحق للعبادة.
والاستفهام
للإنكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم.
وجملة (وَقَدْ هَدانِ) حال مؤكدة للإنكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن
هداني الله إلى الطريق المستقيم ، وجعلني من المبغضين للأصنام المحتقرين لها.
ثم صارحهم بأنه لا
يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال : (وَلا أَخافُ ما
تُشْرِكُونَ بِهِ) أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع ، ولا
تبصر ولا تسمع ، ولا تقرب ولا تشفع. ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنامهم
وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح.
وقوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استثناء مما قبله أى : لا أخاف معبوداتكم في جميع الأوقات
إلا وقت مشيئة ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى ، فإن
ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئة لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها ، وعلى هذا التفسير الذي
ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا.
ويرى ابن عطية
وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى : لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربي
خوفي مما أشركتم به.
وهذه الجملة
الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم ـ عليهالسلام ـ مع ربه ، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته ، فمع أنه مؤمن
بخالقه كل الإيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران ، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة
الله ، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه.
وقوله (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أى : أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به ، فلا يبعد أن يكون
في علمه إنزال ما يخفيني من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب.
وهذه الجملة
الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا فكأن قومه قد قالوا : كيف يشاء ربك شيئا تخافه
فكان جوابه عليهم : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً) فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو
النفع بمن يشاء من عباده.
و (عِلْماً) منصوب على التمييز المحول عن الفاعل ، إذ الأصل في هذا
التعبير «أن يقال :
وسع علم ربي كل
شيء ، ولكن عدل به عن هذا النسق ، وأسند الفعل فيه إلى الله لا إلى علمه ، وجعل
لفظ العلم تمييزا لا فاعلا ليكون الوسع والإحاطة والشمول لله ، فيخلع التعبير ظلا
أشمل وأفخم وأعمق وقعا في النفس.
وقوله (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أى تعرضون أيها الغافلون عن التأمل والتذكير بعد أن أوضحت
لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات
التي سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
فالاستفهام
للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل.
وفي إيراد التذكر
دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول ولا يتوقف إلا على
التذكير.
ثم حكى القرآن عن
إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أنه بعد أن صارح قومه بأنه لا يخشى آلهتهم ، أخذ في
التهكم بهم والتعجب من شأنهم لأنهم يخوفونه مما لا يخيف فقال : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا
تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً).
أى : كيف ساغ لكم
أن تظنوا أنى أخاف معبوداتكم الباطلة وهي مأمونة الخوف لأنها لا تضر ولا تنفع ،
وأنتم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم دون أن يكون معكم على هذا الإشراك حجة أو
برهان من العقل أو النقل.
فالاستفهام
للإنكار التعجبي من إنكارهم عليه الأمن في موضع الأمن ، وعدم إنكارهم على أنفسهم
الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهوالها وهو إشراكهم بالله.
قال بعض العلماء :
وجملة (وَكَيْفَ أَخافُ) .. إلخ. معطوفة على جملة (وَلا أَخافُ ما
تُشْرِكُونَ بِهِ) ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من
الله ، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره
فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك .
وقال الآلوسى :
وقوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما
أَشْرَكْتُمْ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لنفى الخوف عنه ـ عليهالسلام ـ بحسب زعم الكفر بالطريق الإلزامى بعد نفيه عنه بحسب
الواقع ونفس الأمر ، وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في
توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية ، فإذا انتفت
جميع كيفياته فقد انتفى من جميع الجهات بالطريق البرهاني» .
__________________
وما في قوله (ما أَشْرَكْتُمْ) موصولة والعائد محذوف أى : ما أشرككم به ، ثم ركب ـ عليهالسلام ـ على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له فقال : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
أى : فأى الفريقين
فريق الموحدين أم فريق المشركين أحق وأولى بالأمن من لحوق الضرر به ، إن كنتم
تعلمون ذلك فأخبرونى به وأظهروه بالدلائل والحجج. فجواب الشرط محذوف تقديره
أخبرونى بذلك.
وهذا لون من إلجائهم
إلى الاعتراف بالحق إن كانوا ممن يعقل أو يسمع ، وحث لهم على الإجابة.
قال صاحب المنار :
«ونكتة عدوله عن قوله «فأينا أحق بالأمن» إلى قوله «فأى الفريقين» هي بيان أن هذه
المقابلة عامة لكل موحد ومشرك من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك ، لا خاصة
به وبهم ، فهي متضمنة لعلة الأمن. وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس ، واسم
التفضيل على غير بابه ، فالمراد أينا حقيق بالأمن ، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا
في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن وأنه الحقيق
بالخوف إلى الوسط النظري بين الأمرين ؛ وهو أى الفريقين أحق ، واحترازا عن تنفيرهم
من الإصغاء إلى قوله كله» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
من هو الفريق الأحق بالأمن فقال ـ تعالى ـ :
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ) أى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بأى لون من ألوان
الشرك كما يفعله فريق المشركين حيث إنهم عبدوا الأصنام وزعموا أنهم ما عبدوها إلا
ليتقربوا بها إلى الله زلفى ، أولئك المؤمنون الصادقون لهم الأمن دون غيرهم لأنهم
مهتدون إلى الحق وغيرهم في ضلال مبين.
هذا وقد وردت
أحاديث صحيحة فسرت الظلم في هذه الآية بالشرك ، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن
عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال الصحابة : وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم
نفسه؟ قال : «إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) إنما هو الشرك».
__________________
قال الإمام الرازي
: والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفى
الشركاء والأضداد والأنداد ، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ها
هنا على ذلك» .
وقد فسر الزمخشري
في كشافه الظلم بالمعصية فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم
بالكفر لفظ اللبس . أى : لأن لبس الإيمان بالشرك أى خلطه به مما لا يتصور
لأنهما ضدان لا يجتمعان في رأى الزمخشري.
قال الشيخ القاسمى
: وفهم الزمخشري هذا مدفوع بأنه يلابسه ، لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق سواء
كان باللسان أو غيره فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب
لجواز أن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته لما في قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).
ولو أريد التصديق
بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر ، فلا يلزم من لبس الإيمان بالكفر
الجمع بينهما ، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك ، بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا
مضمحلا ، أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا» .
وقال صاحب
الانتصاف : «وإنما يروم الزمخشري بذلك تنزيل الآية على معتقده في وجوب وعيد العصاة
وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين
بين الأمرين : الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك ولا يلزم أن يكون الخوف
اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار ، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون
العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود ، وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما» .
والذي نراه أنه
مادام قد ورد عن الصادق المصدوق صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح أنه قد فسر الظلم في الآية بالشرك فيجب
أن نسلم به وأن نعض عليه بالنواجذ ، واجتهاد الزمخشري هنا ـ لتأييد مذهبه ـ مجانب
للصواب ، لأنه لا اجتهاد مع النص. لا سيما وأن حديث عبد الله بن مسعود المتقدم قد
خرجه الشيخان وغيرهما من أعلام السنة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
مظاهر فضله على نبيه إبراهيم ـ فقال ـ تعالى :
__________________
(وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)
وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥)
وَإِسْماعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦)
وَمِنْ
آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)
ذلِكَ
هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها
هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ
هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)
(٩٠)
قال الإمام الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى عن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أنه أظهر حجة الله في التوحيد ونصرها ، وذب عنها ، عدد
وجوه نعمه وإحسانه عليه.
فأولها : قوله (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ) والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها ، وأوقفنا
عقله على حقيقتها.
وثانيها : أنه ـ تعالى
ـ خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية وهي قوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).
وثالثها : أنه
جعله عزيزا في الدنيا وذلك لأنه ـ تعالى ـ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من
نسله وذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة ، لأن من أعظم أنواع
السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك .
والإشارة في قوله
ـ تعالى ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في مجادلة قومه في شأن
وحدانية الله وبطلان الشرك.
وأضاف ـ سبحانه ـ الحجة
إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو «نا» تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها ،
والمراد بالحجة جنسها لا فرد من أفرادها.
أى : وتلك الحجة
التي لا يمكن نقضها أو مغالبتها في إثبات الحق وتزييف الباطل أعطيناها إبراهيم
ليكون مستعليا بها على قومه ، قاطعا لألسنتهم عن المجادلة والمخاصمة.
وجملة (آتَيْناها) في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة.
وقوله (عَلى قَوْمِهِ) متعلق «بحجتنا» إن جعل خبرا لتلك ، وبمحذوف إن جعل بدله.
أى : آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين لتكون الغلبة عليهم.
وقوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أى نرفع من شئنا من عبادنا درجات عالية من العلم والحكمة.
والدرجات في الأصل
تطلق على مراقى السلم. والمراد بها هنا المراتب المعنوية في الخير على سبيل
التمثيل ، فقد شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقى في سلم إذا ارتفع من درجة
إلى درجة.
والجملة مستأنفة
على سبيل التقرير لما قبلها ، وقيل هي حال من فاعل آتينا أى حال كوننا رافعين.
ومفعول المشيئة
محذوف. أى : من نشاء رفعه على حسب ما تقتضيه حكمتنا. وقد دل قوله (مَنْ نَشاءُ) على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل
الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، أى : إن ربك الذي
__________________
خلقك فسواك فعدلك (حَكِيمٌ) في كل ما يفعل من رفع هذا وخفض ذاك ، (عَلِيمٌ) كل العلم بحال خلقه وسياسة عباده.
قال الإمام الرازي
: واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية لا
في الصفات الجسمانية ، والدليل على ذلك أن الله ـ تعالى ـ قال (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ثم قال بعده (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ
مَنْ نَشاءُ) وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك
الحجة وهذا يقتضى أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة واطلاعها على إشراقها اقتضى
ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالى العالم الروحاني ، وذلك يدل على
أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات» .
وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
كُلًّا هَدَيْنا) أى : ووهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما وعوضا عن قومه لما
اعتزلهم ؛ إسحاق وهو ولده من زوجه سارة ، ويعقوب وهو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء
عقبه ؛ إذ في رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس ، وراحة للفؤاد.
وقوله (كُلًّا هَدَيْنا) أى : كلا من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما
بدرجة أبيهما في النبوة.
ولفظ (كُلًّا) مفعول لما بعده وقدم لإفادة اختصاص كل منهما بالهداية على
سبيل الاستقلال والتنويه بشأنهما.
وقوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أى : وهدينا نوحا من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا إليه
إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة.
وهذا لون آخر من
تشريف إبراهيم حيث أنه من نسل نوح الذي وصفه الله بالهداية ، ولا شك أن شرف الآباء
يسرى على الأبناء.
وقال ابن كثير ، «وكل
منهما له خصوصية عظيمة. أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم
الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ،
وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته كما قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً
وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) .
ثم قال ـ تعالى ـ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ
وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ
الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا
عَلَى الْعالَمِينَ).
__________________
الضمير في قوله ـ تعالى
ـ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يرى ابن جرير وغيره أنه يعود إلى نوح لأنه أقرب مذكور.
ويرى جمهور
المفسرين أنه يعود على إبراهيم لأن الكلام في شأنه وفي شأن النعم التي منحها الله
إياه.
وقد ذكر الله في
هذه الآيات أربعة عشر نبيا وهم :
١ ـ داود بن يسى
من سبط يهوذا من بنى إسرائيل وكانت ولادته في بيت لحم سنة ١٠٨٥ ق. م تقريبا وهو
الذي قتل جالوت كما جاء في القرآن الكريم (وَقَتَلَ داوُدُ
جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) وكانت وفاته سنة ١٠٠٠ ق م تقريبا.
٢ ـ سليمان بن
داود ـ عليهماالسلام ـ ولد بأورشليم حوالى سنة ١٠٤٣ ق. م. وتوفى سنة ٩٧٥ ق. م.
وقد جاء ذكر داود وسليمان في كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى
كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).
٣ ـ أيوب ، قال
ابن جرير : هو ابن موصى بن روم بن عيص بن إسحاق ، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت
ثلاثا وتسعين سنة.
٤ ـ يوسف وهو ابن
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وكانت ولادته قبل ميلاد عيسى ـ عليهالسلام ـ بألفى سنة تقريبا.
٥ ـ موسى وهو ابن
عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب وكانت ولادته حوالى القرن الرابع عشر ق.
م.
٦ ـ هارون وهو أخو
موسى لأمه وقيل لأبيه وأمه ، وقيل مات قبيل موسى بزمن يسير.
٧ ـ زكريا وهو ابن
أزن بن بركيا ويتصل نسبه بسليمان ـ عليهالسلام ـ وكان قريب العهد بعيسى حيث تولى كفالة أمه مريم كما جاء
في القرآن الكريم (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا).
٨ ـ يحيى وهو ابن
زكريا.
٩ ـ عيسى وهو ابن
مريم. قال ابن كثير. وفي ذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح دلالة على دخول ولد
البنات في ذرية الرجل ، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم.
١٠ ـ الياس وهو
ابن فنحاص بن العيزار بن هارون أخى موسى وهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم «إيليا»
وقد أرسله الله إلى بنى إسرائيل حين عبدوا الأوثان قال ـ تعالى ـ (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).
ويقال إنه كان
موجودا في زمن الملك «آحاب» ملك بنى إسرائيل في حوالى سنة ٩١٨ ق م.
١١ ـ إسماعيل وهو
الابن الأكبر لإبراهيم ـ عليهماالسلام ـ وجد محمد صلىاللهعليهوسلم.
١٢ ـ اليسع وهو
ابن شافاط وكانت وفاته حوالى سنة ٨٤٠ ق م ودفن بالسامرة.
١٣ ـ يونس وهو ابن
متى أرسله الله إلى أهل نينوى من بلاد آشور في حوالى القرن الثامن ق م.
١٤ ـ لوط وهو ابن
هاران بن تارح فهو ابن أخى إبراهيم وكانت رسالته إلى أهل سدوم من شرق الأردن.
وقوله (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أى : وكل واحد من هؤلاء الأنبياء المذكورين لا بعضهم دون
بعض فضلناه بالنبوة على العالمين من أهل عصره.
قال الجمل : اعلم
أن الله ـ تعالى ـ ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب
الفضل لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب وهي أن الله ـ تعالى
ـ خص كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولا نوحا وإبراهيم
وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا. ثم من المراتب
المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان وقد أعطى الله من ذلك داود وسليمان
حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه
أيوب. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف فإنه صبر على البلاء
والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة ، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل
الأنبياء كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ
الوافر ، ومن المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى
وعيسى وإلياس ، ثم ذكر الله بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم
إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة كان هذا الترتيب حسنا والله
أعلم بمراده وأسرار كتابه ».
ومن المعروف أن
الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم على التفصيل خمسة وعشرون نبيا. وهم هؤلاء الثماني
عشرة الذين ذكروا في هذه الآيات ، يضاف إليهم سبعة نظمهم الناظم في قوله :
حتم على كل ذي
التكليف معرفة
|
|
بأنبياء على
التفصيل قد علموا
|
في تلك حجتنا
منهم ثمانية
|
|
من بعد عشر
ويبقى سبعة وهم
|
إدريس ، هود ،
شعيب ، صالح وكذا
|
|
ذو الكفل آدم
بالمختار قد ختموا
|
__________________
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
فضائل من يتصل بهؤلاء الأنبياء الكرام فقال :
(وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) أى : ومن آباء هؤلاء الأنبياء وذرياتهم وإخوانهم من هديناه
إلى الطريق المستقيم فمن هنا للتبعيض.
والجملة معطوفة
على (كلًّا) أى : كلا من هؤلاء الأنبياء فضلنا ، وفضلنا بعض آبائهم
وأبنائهم وإخوانهم وهديناه.
وجملة (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) معطوفة على (فَضَّلْنا) أى : فضلنا هؤلاء الأنبياء واخترناهم وهديناهم إلى الطريق
الواضح. قال الراغب : «والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال ـ تعالى ـ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) واجتباء العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع
من النعم بلا سعى من العبد وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء» .
وقوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أى : ذلك الهدى إلى صراط مستقيم الذي اهتدى إليه أولئك
الأخيار هو هدى الله الذي يهدى به من يشاء هدايته من عباده وهم المستعدون لذلك.
وفي قوله : (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من الإبهام ما يبعث النفوس على طلب هدى الله ـ تعالى ـ والتعرض
لنفحاته.
وقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أى ، ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المختارون لبطل
وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملونه من أعمال صالحة فكيف بغيرهم.
قال ابن كثير : في
هذه الآية تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته ، كقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ
مِنَ الْخاسِرِينَ) والشرط لا يقتضى جواز الوقوع ، فهو كقوله ، (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وكقوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) .
وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) اسم الإشارة فيه يعود إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية
عشرة والمعطوفين عليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت
الجليلة.
__________________
وقصر بعضهم عودته
على الأنبياء فحسب وإليه ذهب ابن جرير والرازي أى : أولئك المصطفون الأخيار هم الذين
آتيناهم الكتاب أى جنسه المتحقق في ضمن أى فرد كان من أفراد الكتب السماوية.
والمراد بإيتائه :
التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام ، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال
ابتداء أو بالإيراث بقاء ، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
والحكم أى :
الحكمة وهي علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. أو الإصابة في القول والعمل. أو
القضاء بين الناس بالحق.
و (النُّبُوَّةَ) أى : الرسالة.
وقوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أى : فإن يكفر بهذه الثلاث التي اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء
المشركون من أهل مكة ، فلن يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا
بها بكافرين في وقت من الأوقات وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك
وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عن إعراض بعض قومه عن دعوته.
والمراد بالقوم
الذين وكلوا بالقيام بحق هذه الرسالة ووفقوا للإيمان بها أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم من المهاجرين والأنصار مطلقا ، لأنهم هم الذين دافعوا عن
دعوة الإسلام وبذلوا في سبيل إعلانهم نفوسهم وأموالهم ، ويدخل معهم كل من سار على
نهجهم في كل زمان ومكان.
وقيل : المراد بهم
أهل المدينة من الأنصار. وقيل : المراد بهم الأنبياء المذكورون وأتباعهم ، وقيل
غير ذلك.
والذي نراه أن
الرأى الأول أرجح لأن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم هم المقابلون لكفار قريش الذين كفروا بها.
وفي التكنية عن
توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء ومراعاته ، وإيذان بفخامة
وعلو قدرها.
قال الإمام الرازي
: «دلت هذه الآية على أن الله ـ تعالى ـ سينصر نبيه ، ويقوى دينه ، ويجعله مستعليا
على كل من عاداه ، قاهرا لكل من نازعه ، وقد وقع هذا الذي أخبر الله عنه في هذا الموضع
، فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزا» .
ثم قال ـ تعالى ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أى : أولئك الأنبياء الذين
__________________
ذكرناهم لك ـ يا
محمد ـ هم الذين هديناهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فبهداهم ، أى : فبطريقتهم
في الإيمان بالله وفي تمسكهم بمكارم الأخلاق كن مقتديا ومتأسيا.
والمقصود إنما هو
التأسى بهم في أصول الدين ، أما الفروع القابلة للنسخ فإنهم يختلفون فيها ويجوز
عدم الاقتداء بهم بالنسبة لها قال ـ تعالى ـ (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).
وتكرير اسم
الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ، ولما يقتضيه للتكرير من الاهتمام بالخبر. وفي
قوله (فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ) تعريض بالمشركين إذ أن النبي صلىاللهعليهوسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا منهم ،
أما هم فقد اختلقوا لأنفسهم عبادات ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم ختم الله ـ تعالى
ـ هذا السياق بقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) أى : قل أيها الرسول الكريم لمن بعثت إليهم لا أطلب منكم
على ما أدعوكم إليه من خير وما أبلغكم إياه من قرآن أجرا قليلا أو كثيرا.
(إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أى : ما هذا القرآن إلا تذكيرا وموعظة للناس أجمعين في كل
زمان ومكان.
قال بعضهم : وفي
الآية دليل على أنه صلىاللهعليهوسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس وأن دعوته قد عمت جميع
الخلائق.
* * *
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ ما دار بين إبراهيم وقومه من مجالات تتعلق بإثبات وحدانية الله ، وإبطال الشرك ،
وحكى جانبا من النعم التي أنعم بها على خليله وعلى كل من سار على نهجه ، وأخبر بأن
هذا القرآن ما هو إلا تذكير للعالمين وأن المذكر به ـ لا يريد منهم أجرا على
تبليغه ، بعد كل ذلك أخذ القرآن في الرد على منكري نزول الكتب السماوية وفي بيان
عاقبتهم الوخيمة بسبب هذا الجحود فقال ـ تعالى ـ :
(وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ
تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ
يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ
أُمَّ
الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى
إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ
جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما
خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ
عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
(٩٤)
قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) كلمة (قَدَرُوا) مأخوذة من القدر ـ بفتح فسكون ـ ، وأصل القدر معرفة مقدار
الشيء بالسبر والحزر ، يقال : قدر الشيء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ، ثم
استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه.
والمعنى : ما
عظموا الله حق تعظيمه ، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده وفي الرحمة بهم ، بل
أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما ، وضلوا ضلالا كبيرا ، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال
الكتب ، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء ،
قاصدين بهذا القول الطعن في نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم وفي أن القرآن من عند الله.
ولفظ (حَقَ) منصوب على المصدرية ، وهو في الأصل صفة للمصدر ، أى : قدره
الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم ، وأن يرد على سلبهم العام
بإثبات قضية جزئية
بديهية التسليم فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أى : قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر
شيئا من الأشياء : قل لهم من الذي أنزل التوراة وهو الكتاب الذي جاء به موسى (نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أى : ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل
والضلالة.
وكلمة (نُوراً) حال من الضمير في به أو من الكتاب.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال : (تَجْعَلُونَهُ
قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).
القراطيس : جمع
قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.
أى : تجعلون هذا
الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار
ما تريدون إظهاره منها ، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم
السقيمة وشهواتكم الأثيمة.
فالمراد من هذه
الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله ، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع ، الذي
قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.
وقوله (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أى : وعلمتم على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب
عاقل في أنها تنزيل رباني.
وقوله (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي
خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
أى : قل أيها
الرسول لهؤلاء الجاحدين : الله ـ تعالى ـ هو الذي أنزل الكتاب على موسى ، ثم بعد
هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون ، وفي غيهم يعمهون حتى
يأتيهم من الله اليقين.
وفي أمره صلىاللهعليهوسلم بأن يجيب عنهم ، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ،
وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
وكان العطف بثم في
قوله (ثُمَّ ذَرْهُمْ) للدلالة على الترتيب الرتبى أى : أنهم لا تنجع فيهم الحجج
والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى ، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم
وقطع معاذيرهم.
هذا ، وللمفسرين
لهذه الآية قولان :
الأول : أنها مكية
النزول تبعا للسورة ، وأن الذين قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)
مشركو مكة ، وإنما
ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها
على موسى.
قال ابن جرير :
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : عنى بذلك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك
أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما
تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى ..) .
وقد تابع ابن كثير
رأى ابن جرير وقال : وهذا الرأى هو الأصح ، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من
السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم لأنه من البشر كما قال ـ تعالى ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ
أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) وكذا قالوا هنا (ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) .
الثاني : أن هذه
الآية مدنية النزول ، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية
كما نص عليه كثير من العلماء.
ومما يؤيد كون هذه
الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها ، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير
من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء
كتابا) فنزل قوله ـ تعالى ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) .. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير ـ مرسلا ـ قال
: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له النبي : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل
تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» ـ وكان حبرا سمينا ـ فغضب وقال : (هل
أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية .
والذي نراه أن
الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين : فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها
يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع ، لأنهم
هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم
وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.
وتوجيه الخطاب إلى
اليهود لا يتنافى مع كونها مكية ، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير
اليهود.
__________________
وبعد أن أبطل ـ سبحانه
ـ بالدليل قول من قال «ما أنزل الله على بشر من شيء» أتبعه ببيان أن هذا القرآن من
عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال ـ تعالى ـ :
(وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
والمعنى : وهذا
القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى : كثير
الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.
والمبارك اسم
مفعول من باركه وبارك فيه ، إذا جعل له البركة ، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.
وقدم هنا وصفه
بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا
وصفه بالإنزال ، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.
ووقعت الصفة
الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا ، والثانية اسمية لأن الاسم يدل
على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى : أن بركته ثابتة مستقرة.
قال الإمام الرازي
: العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات
الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما
تجده في هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما
أعمال القلب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل
ما تجده في هذا الكتاب ، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له
عز الدنيا وسعادة الآخرة» .
وقوله (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات
التوحيد ونفى الشرك ، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وقوله : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ
حَوْلَها) أى : ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة ، ومن حولها من
أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلىاللهعليهوسلم قال ـ تعالى ـ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وقال ـ تعالى ـ (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ،
ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها
كما يتبع الفرع الأصل ، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار
أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.
__________________
ووجه الاقتصار على
مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم في قوله ـ تعالى ـ
قبل ذلك (وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ).
قال الآلوسى :
ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلىاللهعليهوسلم فهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه» .
وقال صاحب المنار «وزعم
بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها
عرفا ، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم خاصة بقومه العرب. والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص
المذكور ، فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم ، وقد ثبت عموم بعثته صلىاللهعليهوسلم من آيات أخرى كقوله ـ تعالى ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) .
وقوله (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
يُؤْمِنُونَ بِهِ).
أى : والذين
يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية
ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.
ثم ختمت الآية
بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت (وَهُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أى يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع
واطمئنان ، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.
قال الإمام الرازي
: «ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا عليها
كما في قوله ـ تعالى ـ (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى صلاتكم ، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على
ترك الصلاة ، ففي الحديث الشريف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» فلما اختصت الصلاة
بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام» .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله ـ تعالى ـ ،
وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعند ما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها
الأفئدة فقال ـ تعالى ـ :
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ).
__________________
والمعنى لا أحد
أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فجعل له شركاء من خلقه ، وأنكر ما جاء به النبي
صلىاللهعليهوسلم من هدايات ، وحلل وحرم بهواه ما لم يأذن به الله.
والاستفهام إنكارى
فهو في معنى النفي. و (مَنْ) اسم موصول والمراد به الجنس. أى : كل من افترى على الله
كذبا ، وليس المراد فردا معينا.
(أَوْ قالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أى : قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه
كاذب في دعواه ، فإن الله ما أوحى إليه شيئا ، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة
الكذاب والأسود العنسي من أنهما نبيان يوحى إليهما. ويصدق ـ أيضا ـ على كل مدع
للوحى والنبوة في كل زمان ومكان.
وهذه الجملة
الكريمة معطوفة على صلة (مَنْ) من عطف الخاص على العام ، لأن هذا القول هو نوع من أنواع
افتراء الكذب.
(وَمَنْ قالَ
سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أى : ولا أحد أظلم ـ أيضا ـ ممن قال بأنى قادر على أن أنزل
قرآنا مثل الذي أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ).
وبذلك نرى أن
الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب ، وكل مدع أنه
يوحى إليه شيء وكل من زعم أنه في قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من
النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.
ثم بين ـ سبحانه ـ
مصير كل ظالم أثيم فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أى : ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة
أولئك الظالمين وهم في غمرات الموت أى : في شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا
فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان ، فجواب الشرط محذوف.
والغمرات : جمع
غمرة وهي الشدة. وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ، يقال غمره الماء إذا
علاه وستره ثم استعمل في الشدائد والمكاره.
وتقييد الرؤية
بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية ، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة
عند كل ناظر.
وقوله (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم
بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر : أخرجوا إلينا أرواحكم من
أجسادكم.
والأمر هنا
للتعجيز أى : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم إلى ذلك سبيلا.
قال الآلوسى :
وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح
يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج مالي
عليك الساعة ولا أبرح مكاني حتى انتزعه منك . وفي الكشاف : أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح
والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن
المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على
الحقيقة فلا معدل عنها».
ولعل مما يؤيد قول
ابن المنير في تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء في آية أخرى وهي قوله ـ تعالى
ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ) .
وقوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ
بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ) هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين.
أى : تقول لهم
أخرجوا أنفسكم ، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن ، وإنما بسبب
أنكم كنتم في دنياكم تفترون على الله الكذب ، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته ،
مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها ، ولا تعتبرون بها.
والمراد باليوم
مطلق الزمن لا اليوم المتعارف عليه ، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده.
والهون معناه :
الهوان والذل ، وفسره صاحب الكشاف ، بالهوان الشديد وقال : «وإضافة العذاب إليه
كقولك ، رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه» .
ثم صور ـ سبحانه ـ
حالهم عند ما يعرضون للحساب فقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
أى : ولقد جئتمونا
للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا
من متاع ، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله.
__________________
وفرادى قيل هو جمع
فرد ، وفريد وقيل : هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع :
أراد أنه جمع له في المعنى :
وهذه الجملة
الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة ، بعد
بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم.
وقوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا
ينكرونه فقد رأوه رأى العين.
أى : جئتمونا
منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الدنيا ، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم
أول مرة حفاة عراة. فالكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف.
روى الشيخان عن
ابن عباس قال : قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بموعظة فقال : «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة
غرلا (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) .
ورويا ـ أيضا ـ عن
عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «تحشرون حفاه عراة
غرلا. قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلىاللهعليهوسلم : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» .
وروى الطبراني
بسنده عن عائشة أنها قالت قرأت قول الله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقالت : يا رسول الله وا سوأتاه! الرجال والنساء جميعا
ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء
ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض.
قوله : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ
ظُهُورِكُمْ) أى : تركتم ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من أموال
وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عند ما جئتمونا للحساب.
الخول : ما أعطاه
الله لعباده من النعم : يقال : خوله الشيء تخويلا ، ملكه إياه ومكنه منه. ومنه
التخول بمعنى التعهد.
والجملة الكريمة
تتضمن توبيخهم ، لأنهم لم يقدموا منه شيئا في دنياهم ليكون نافعا لهم في أخراهم ،
بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به في معادهم.
__________________
وقد ثبت في الصحيح
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول ابن آدم : مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما
أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس»
.
وقوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) تقريع وتوبيخ لهم على شركهم.
أى : ما نرى وما
نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التي توهمتم
أنهم شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم.
وقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أى : لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل. ففاعل
(تَقَطَّعَ) ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ (شُرَكاءُ) و (بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرفية.
وقرئ بالرفع أى :
لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك ؛ والأصل لقد
تقطع ما بينكم وقد قرئ به أى : تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات.
(وَضَلَّ عَنْكُمْ ما
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أى : وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، ورجاء
الأنداد والأصنام. كما قال ـ تعالى ـ (إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ
أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) .
وهكذا يسوق القرآن
مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التي تهز النفوس ، وتحمل العقلاء على الإيمان
والعمل الصالح.
* * *
وبعد أن ساق ـ سبحانه
ـ ألوانا من الدلائل على وحدانيته ، وعلى صدق نبيه صلىاللهعليهوسلم فيما يبلغه عن ربه ، شرع ـ سبحانه ـ في سرد مظاهر قدرته ،
وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل في هذا الكون العجيب ، وفي بدائع مخلوقاته فقال
ـ تعالى ـ :
__________________
(إِنَّ اللهَ فالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ
الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
فالِقُ
الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
وَهُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ
فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ
مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا
أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(٩٩)
قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى).
فالق : أى شاق ،
والفلق هو الشق وقيل ، فالق بمعنى خالق وأنكر ابن جرير الطبري ذلك وقال : لا يعرف
في كلام العرب فلق الشيء بمعنى خلق.
والحب. ما ليس له
نوى كالحنطة والشعير.
والنوى : جمع نواة
وهو الموجود في داخل الثمرة ، مثل نوى التمر وغيره.
والمعنى : إن الله
وحده هو الذي يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي ، ويشق
النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية ، وفي ذلك أكبر دلالة على قدرة
الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره.
هذا ، وقد أفاض
الإمام الرازي وهو يتحدث عن هذه الآية في بيان قدرة الله فقال ما ملخصه :
«إذا عرفت هذا
فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة
أظهر الله ـ تعالى ـ في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر ،
فالأول يخرج منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في
الأرض ثم إن ها هنا عجائب.
فإحداها : أن
طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة
الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة
الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة
إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى ـ علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع
والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين.
وثانيهما : أن
باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوى
فيه ، ثم إنا نشاهد طراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة وبحيث لو دلكها
الإنسان بإصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ
في تلك الأرض الصلبة ، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة. فحصول هذه القوى
الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير
العزيز الحكيم.
ثم قال ـ رحمهالله ـ بعد كلام طويل : فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك
الورقة الواحدة من تلك الشجرة ، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ، ثم
انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة
والمحبة في الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر
لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة
والنواة» .
وقوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أى : يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو
كالنطفة والحبة.
والجملة الكريمة
مستأنفة مبينة لما قبلها ولذلك ترك العطف ، وقيل خبر ثان ولم يعطف لاستقلاله في
الدلالة على عظمة الله ـ تعالى ـ.
__________________
وقوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أى : مخرج الميت كالحب والنوى من النبات والبيضة والنطفة
من الحيوان.
قال صاحب المنار :
فإن قيل إن علماء المواليد يزعمون أن في كل أصول الأحياء حياة فكل ما ينبت من ذلك
ذو حياة كامنة إذا عقم بالصناعة لا ينبت ، قلنا : إن هذا اصطلاح لهم يسمون القوة
أو الخاصية التي يكون بها الحب قابلا للإنبات حياة ، ولكن هذا لا يصح في اللغة إلا
بضرب من التجوز وإنما حقيقة الحياة في اللغة ما يكون به الجسم متغذيا ناميا بالفعل
، وهذا أدنى مراتب الحياة عند العرب ، ولها مراتب أخرى كالإحساس والقدرة والإرادة
والعلم والعقل والحكمة والنظام ، وهذا أعلى مراتب الحياة في المخلوق» .
ونقل بعض المفسرين
عن ابن عباس أن معنى الجملتين : يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ومثله
إخراج البار من الفاجر والصالح من الطالح والعالم من الجاهل وعكسه ، وذلك بحمله
الحياة والموت على المعنوي منها كما في قوله ـ تعالى ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ).
ويبدو لنا أن حمل
الحياة والموت هنا على المعنى المعنوي لا يناسبه سياق الآيات التي معنا ، لأنها
تتحدث عن آثار قدرة الله المحسوسة ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويتأمل كل
ذي عقل في مظاهر قدرة الله في كونه يهتدى إلى طريق الحق والصواب.
وقوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معطوف على ما قبله وهو قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) لأنه إخبار بضد مضمونه وهو وضع آخر عجيب دال على كمال
القدرة.
وجيء بجملة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فعليه لإرادة تصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن
السامع. وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم
الفاعل والماضي.
ويرى صاحب الكشاف
أن قوله : (وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معطوف على (فالِقُ) لا على (يُخْرِجُ) لأنه بيان لفالق الحب والنوى.
قال ـ رحمهالله : فإن قلت : كيف قال (وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) بلفظ اسم الفاعل بعد قوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ)؟ قلت : عطفه على فالق الحب والنوى لا على الفعل ، ويخرج
الحي من الميت : موقعه موقع الجملة المبينة لقوله (فالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوى) لأن فالق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس
إخراج الحي من الميت ، لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) .
__________________
(ذلِكُمُ اللهُ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الأفك ـ بفتح الهمزة ـ مصدر أفكه يأفكه من باب ضرب إذا
صرفه عن مكان أو عن عمل ، ويقال أفكت الأرض أفكا : أى صرف عنها المطر.
والإشارة بذلكم
لزيادة التمييز ، وللتعريض بغباوة المخاطبين والمشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على
أنه هو المستحق للعبادة.
والمعنى : ذلكم
المتصف بما ذكر من مقتضى الحكمة البالغة والقدرة النافذة هو الله خالق كل شيء فكيف
تصرفون عن عبادة من يخلق إلى عبادة من لا يخلق ، وتشركون معه من لا يملك لنفسه
نفعا ولا ضرا؟.
قال الإمام الرازي
: والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان ، فحصول المثل عن المثل يوهم أن
يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة
والخاصية بل لا بد أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
ألوانا أخرى من مظاهر قدرته وحكمته فقال : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً).
الإصباح : مصدر
سمى به الصبح ، أى : شاق ظلمة الصبح ـ وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الفجر
المستطيل الكاذب ـ عن بياض النهار فيضيء الوجود ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل
بسواده ، ويجيء النهار بضيائه.
وجملة «فالق
الإصباح» خبر لمبتدأ محذوف أى : هو فالق ، أو خبر آخر لإنّ (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أى وجعل الليل محلا لسكون الخلق فيه ، وراحة لهم بعد
معاشهم بالنهار وسعيهم للحصول على رزقهم.
قال صاحب الكشاف :
السكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه ، من زوج أو حبيب.
ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ، ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن
إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه ، ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكونا فيه من
قوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) .
(وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْباناً) الحسبان في الأصل مصدر حسب ـ بفتح السين ـ كالغفران
والشكران تقول حسبت المال حسبانا : أى أحصيته عددا. والمعنى : وجعل الشمس والقمر
يجريان في الفلك بحساب مقدر معلوم لا يتغير ولا يضطرب حتى ينتهى إلى أقصى منازلهما
بحيث
__________________
تتم الشمس دورتها
في سنة ويتم القمر دورته في شهر ، وبذلك تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة
وغيرها ، قال ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ) .
وقوله (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أى : ذلك الجعل والتسيير البديع الشأن تقدير العزيز ، أى :
الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه
المخصوص ، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال الإمام الرازي
عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما ملخصه :
«اعلم أن هذا نوع
آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم ـ أى قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ) ... إلخ ـ كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان ،
والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية ، وذلك لأن فلق ظلمة الليل
بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من
المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال
الأرضية».
وبعد أن ساق ـ رحمهالله ـ الأدلة على ذلك قال : والعزيز إشارة إلى كمال قدرته ،
والعليم إشارة إلى كمال علمه ، ومعناه : أن تقدير الأفلاك بصفاتها المخصوصة ، وهيآتها
المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة ، لا يمكن
تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من
الكليات والجزئيات ، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة
، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم» .
ثم ساق ـ سبحانه ـ
نوعا ثالثا من الدلائل على كمال قدرته ورحمته وحكمته فقال ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي أنشأ لكم هذه الكواكب
النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم في ظلمات الليل بالبر والبحر
حيث لا ترون شمسا ولا قمرا.
وجملة (لِتَهْتَدُوا بِها) بدل اشتمال من ضمير (لَكُمُ) بإعادة العامل ، فكأنه قيل : جعل النجوم لاهتدائكم.
(قَدْ فَصَّلْنَا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى : قد وضحنا وبينا الآيات الدالة على قدرته ـ تعالى ـ
__________________
ورحمته بعباده ،
لقوم يعلمون وجه الاستدلال بها فيعملون بموجب علمهم ، ويزدادون إيمانا على
إيمانهم.
فالجملة الكريمة
مستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.
والتعريف في
الآيات للاستغراق فيشمل آية خلق النجوم وغيرها.
ثم ساق ـ سبحانه ـ
لونا رابعا من دلائل كمال قدرته ورحمته. فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ).
أى : وهو ـ سبحانه
ـ الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم ـ عليهالسلام ـ قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).
وفي هذه الجملة الكريمة
تذكير بنعمة أخرى من نعم الله على خلقه ، لأن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى
التواد والتراحم والتعاطف ، وفيها ـ أيضا ـ دليل على عظيم قدرته ـ عزوجل ـ. والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَمُسْتَقَرٌّ
وَمُسْتَوْدَعٌ) للتفريع عن أنشأكم.
أى : أنشأكم من
نفس واحدة فلكم موضع الاستقرار في الأرحام أو في الأرض وموضع استيداع في الأصلاب
أو في القبور.
وهذا التفسير
مأثور عن ابن عباس ، وقد زكاه الإمام الرازي فقال : ومما يدل على قوة هذا القول أن
النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا فالمستقر أقرب إلى الثبات من المستودع»
.
وقيل المستقر حالة
الإنسان بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة ، وكذلك إن كان شقيا
، والمستودع حالة قبل الموت لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا.
وقيل : المستقر من
خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها ، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق.
والذي نراه أن
الرأى الأول هو الصحيح لأنه رأى جمهور المفسرين ، ولأن شواهد القرآن تؤيده كما في
قوله ـ تعالى ـ (وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وكما في قوله ـ تعالى ـ (وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).
وقرئ (فَمُسْتَقَرٌّ) ـ بكسر القاف ـ أى : فمنكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع.
__________________
وقوله (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَفْقَهُونَ) أى : قد فصلنا الآيات الدالة على قدرتنا ووضحناها لقوم
يفقهون ما يتلى عليهم ويتدبرونه فينتفعون بذلك.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : لم قيل «يعلمون» مع ذكر النجوم و (يَفْقَهُونَ) مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة
وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال
فطنته وتدقيق نظره مطابقا له .
وقد علق صاحب
الانتصاف على كلام الزمخشري بما ملخصه : «جواب الزمخشري صناعى ، والتحقيق أنه لما
أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة ،
كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ ، لما في ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة
مخالفة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة ، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم
والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا
يعتبر بمخلوقاته وكانت الآية الأولى خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذ النجوم
والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك
النظر في إنشائهم من نفس واحدة ، وتقلباتهم في أطوار مختلفة فإنه نظر لا يعدو نفس
الناظر ولا يتجاوزها ، فإذا تمهد ذلك فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله أبشع من جهله
بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو
عبارة عن الفهم نفى من أشبع القبيلين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ، ونفى
الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا .. وإذا قيل : فلان «لا
يفقه شيئا» كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا وكأن معنى قولك لا يفقه
شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك «لا يعلم شيئا» فغايته نفى حصول
العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم» .
ثم ساق ـ سبحانه ـ
حجة خامسة تدل دلالة واضحة على كمال قدرته وعلمه ورحمته وإحسانه إلى خلقه فقال ـ تعالى
ـ :
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).
أى : وهو ـ سبحانه
ـ الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار
المختلفة في الكم والكيف والطعوم والألوان ، قال ـ تعالى ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى
بِماءٍ واحِدٍ
__________________
وَنُفَضِّلُ
بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ).
وسمى السحاب سماء
لأن العرب تسمى كل ما علا سماء ، ونزول الماء من السحاب قد جاء صريحا في مثل قوله
ـ تعالى ـ (أَفَرَأَيْتُمُ
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ
الْمُنْزِلُونَ).
و (مِنَ) في قوله (مِنَ السَّماءِ) ابتدائية ، لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا
الباردة عند تصاعد البخار الأرضى إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يتحول
إلى ماء ، والباء في (بِهِ) للسببية. حيث جعل الله ـ تعالى ـ الماء سببا في خروج
النبات ، والفاء في قوله (فَأَخْرَجْنا بِهِ) للتفريع و (فَأَخْرَجْنا) عطف على (أَنْزَلَ) والالتفات إلى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل
الماء لأجله.
ثم شرع ـ سبحانه ـ
في تفصيل ما أجمل من الإخراج فقال : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ
خَضِراً) أى : فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له نباتا غضا أخضر ،
وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ، وخضر بمعنى أخضر اسم فاعل. يقال :
خضر الزرع ـ من باب فرح ـ وأخضر ، فهو خضر وأخضر.
وقوله (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً). أى : نخرج من هذا النبات الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أى : متراكما بعضه فوق بعض كما في الحنطة والشعير وسائر
الحبوب ، يقال : ركبه ـ كسمعه ـ ركوبا ومراكبا. أى : علاه.
وجملة (نُخْرِجُ مِنْهُ) صفة لقوله «خضرا». وعبر عنها بصيغة المضارع لاستحضار
الصورة لما فيها من الغرابة لأن إخراج الحب المتراكب من هذا الخضر الغض يدعو إلى
التأمل والإعجاب بمظاهر قدرة الله.
وبعد أن ذكر ـ سبحانه
ـ ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى فقال : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها
قِنْوانٌ دانِيَةٌ).
الطلع : أول ما
يبدو ويخرج من تمر النخل كالكيزان. وقشره يسمى الكفرى ؛ وما في داخله يسمى الإغريق
لبياضه.
والقنوان. جمع قنو
وهو العرجون بما فيه الشماريخ ، وهو ومثناه سواه لا يفرق بينهما إلا في الإعراب.
أى : ونخرج بقدرتنا من طلع النخل قنوان دانية القطوف ، سهلة التناول أو بعضها دان
قريب من بعض لكثرة حملها.
قال صاحب الكشاف :
و (قِنْوانٌ) رفع بالابتداء ، و (مِنَ النَّخْلِ) خبره و (مِنْ طَلْعِها)
بدل منه. كأنه قيل
: وحاصلة من طلع النخل قنوان دانية. وذكر القريبة وترك ذكر البعيدة ، لأن النعمة
فيها أظهر وأدل ، واكتفى بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) .
وقوله : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) معطوف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أى : فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شيء وأخرجنا به جنات
كائنة من أعناب. وجعله : بعضهم عطفا على (خَضِراً). وقيل هو معطوف على (حَبًّا).
وقوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) منصوب على الاختصاص أى : وأخص من نبات كل شيء الزيتون
والرمان ، وقيل معطوف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).
قال الآلوسى :
وقوله : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ) إما حال من الزيتون لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه وهو
الرمان والتقدير : والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك ، وإما حال من الرمان
لقربه ويقدر مثله في الأول.
وأياما كان ففي
الكلام مضاف مقدر وهو بعض. أى بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار
واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها ، وحكمة منشئها
ومبدعها كما قال ـ تعالى ـ (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) .
ثم أمر الله عباده
أن يتأملوا في بديع صنعه فقال : (انْظُرُوا إِلى
ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أى : انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمار كل واحد مما ذكرنا
حال ابتدائه حين يكون ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به ، وحال ينعه أى : نضجه كيف
يصير كبيرا أو جامعا لألوان من المنافع والملاذ.
يقال : أينعت
الثمرة إذا نضجت.
وقوله (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) أى : إن في ذلكم الذي ذكرناه من أنواع النبات والثمار ،
وذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم يصدقون
بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار لهو المستحق للعبادة دون ما سواه أو هو
القادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم.
قال الشيخ القاسمى
: قال بعضهم : القوم كانوا ينكرون البعث فاحتج عليهم بتعريف ما خلق ونقله من حال
إلى حال وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها ،
__________________
وإخراج أنواع
النبات والثمار منها. وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله ـ تعالى ـ فبين أنه ـ سبحانه
ـ كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم ، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء
، ثم إنبات الأجساد كالنبات ، ثم جعلها خضرة بالحياة ثم تصوير الأعمال بصور كثيرة
، وإفادة أمور زائدة وتفريعها ، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة غير متشابهة في
اللذة جزاء عليها» .
هذا وقد أفاض
الإمام الرازي ـ رحمهالله ـ عند تفسيره لهذه الآية في بيان مظاهر قدرة الله وكمال
رحمته وحكمته فقال ما ملخصه :
«اعلم أنه ـ تعالى
ـ ذكره هنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان. وإنما قدم
الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة
، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجرى مجرى الغذاء بالنسبة إلى
العرب. وإنما ذكر العنب عقيب النخيل ، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه
من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال. وأما الزيتون فهو ـ أيضا ـ كثير
النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل ـ أيضا ـ عنه دهن كثير عظيم النفع. وأما
الرمان فحاله عجيب جدا. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات ،
فلهذا السبب ذكر ـ سبحانه ـ هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات ،
واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي.
ثم قال : وقد أمر
ـ سبحانه ـ بالنظر في حال ابتداء الثمر ونضجه لأن هذا هو موضوع الاستدلال ، والحجة
التي هي تمام المقصود من هذه الآية وذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول
حدوثها عن صفات مخصوصة وعند تمامها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال
مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد
أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة ، وربما كانت في أول
الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر أمرها حارة بحسب الطبيعة ـ أيضا ـ فحصول
هذه المبتدلات والمتغيرات لا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع
والفصول والأنجم والأفلاك ، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام
المتباينة متساوية متشابهة ، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسبابا لحدوث
الحوادث المختلفة. ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك
وجب إسناده إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة ،
والمصلحة الحكيمة» .
__________________
وبعد أن ذكر ـ سبحانه
ـ تلك الدلائل الدالة على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ووافر نعمته. واستحقاقه
الألوهية ، أتبعها بتوبيخ المشركين والرد عليهم بما يرشدهم إلى الطريق القويم لو
كانوا يعقلون فقال ـ تعالى ـ :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
(١٠٣)
قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أى : وجعل هؤلاء المشركون لله ـ سبحانه ـ شركاء في الألوهية
والربوبية من الجن.
وفي المراد بالجن
هنا أقوال :
أحدها : أنهم
الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازا لاجتنانهم
واستتارهم عن الأعين كالجن.
والثاني : أن
المراد بالجن هنا الشياطين. ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم في أمور الشرك
والمعاصي كما يطاع الله ـ تعالى ـ.
والثالث : أن
المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص
الباري بألوهية الخير والنور. وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس ، وقد قال الرازي عن
هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية.
أما ابن كثير فقد
رجح الرأى الثاني وقال : فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟.
فالجواب : أنهم ما
عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم لهم بذلك كقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وكقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) وتقول الملائكة يوم القيامة : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ
دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) .
وقال ـ سبحانه ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) ولم يقل : وجعلوا الجن شركاء لله. لإفادة أن محل الغرابة
والنكارة أن يكون لله شركاء. ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار
أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا. وليس الأمر كذلك ، بل المنكر أن يكون لله شريك
من أى جنس كان.
وجملة : (وَخَلَقَهُمْ) حال من فاعل (جَعَلُوا) مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان.
أى : وجعلوا لله
شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذي خلقهم دون الجن وليس من
يخلق كمن لا يخلق ، وعليه فالضمير في خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله
شركاء.
وقيل الضمير
للشركاء أى : والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذي خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه
شريكا له؟.
وقوله (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ
بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى : واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين
وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رميا بقول عن عمى
وجهالة من غير فكر وروية. أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان
بحيث لا يقادر قدره ، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه
إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه ـ تعالى ـ إلا ما قام الدليل على صحته.
قال الراغب : «أصل
الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر ، قال ـ تعالى ـ (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) ، وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق» .
ثم ختمت الآية
الكريمة بتنزيه الله ـ تعالى ـ عما نسبوه إليه فقال ـ تعالى ـ : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أى : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من
الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء.
__________________
ثم ساق ـ سبحانه ـ
الأدلة المبطلة لما تفوه به المشركون من مزاعم فقال ـ تعالى ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
أى : هو مبدعهما
ومنشئهما وخالقهما على غير مثال سبق ، ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها
فيما سلف.
وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أى : من أين وكيف يكون له ولد ـ كما زعموا ـ والحال أنه
ليس له صاحبة يكون الولد منها ، ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن
وجوده بلا والد ، وأيضا الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ولا مجانس له ـ سبحانه ـ.
وجملة (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) مستأنفة لتقرير تنزهه عن ذلك ، وجملة (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) حال مؤكدة لاستحالة ما نسبوه إليه من الولد.
وقوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) جملة أخرى مستأنفة لتحقيق ما ذكر من الاستحالة ، أو حال
ثانيه مقررة لها.
أى : كيف يكون له
ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها
ما سموه ولدا له ـ تعالى ـ فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟
قال صاحب الكشاف :
«وفي هذه الآية الكريمة إبطال لأن يكون لله ولد من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن مبتدع
السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة.
لأن الولادة من
صفات الأجسام ، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا.
والثاني : أن
الولادة لا تكون إلا لمن له صاحبة والله ـ تعالى ـ لا صاحبة له فلم تصح الولادة.
والثالث : أنه ما
من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد
إنما يطلبه المحتاج .
وجملة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان
أن يكون له ولد.
__________________
أى : أنه ـ سبحانه
ـ عالم بكل المعلومات ، فلو كان له ولد فلا بد أن يتصف بصفاته ومنها عموم العلم ،
وهو منفي عن غيره بالإجماع.
وبعد أن أبطل ـ سبحانه
ـ الشرك ونعى على معتنقيه سوء تفكيرهم ، دعا المكلفين إلى إخلاص العبودية لله وحده
فقال ـ تعالى ـ :
(ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ).
أى ذلكم الموصوف
بما سمعتم من جلائل الصفات هو الله ربكم لا من زعمتم من الشركاء ، فأخلصوا له
العبادة فهو ـ سبحانه ـ الخالق لكل شيء وما عداه فهو مخلوق يجب أن يعبد خالقه.
وقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أى وهو مع تلك الصفات الجليلة رقيب على عباده حفيظ عليهم ،
يدبر أمرهم ، ويتولى جميع شئونهم.
وقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر
، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون ،
ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهي أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته.
فكيف يكون له ولد؟.
والإدراك : اللحاق
والوصل إلى الشيء والإحاطة به. والأبصار جمع بصر يطلق ـ كما قال الراغب ـ على
الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها.
والمعنى : لا تحيط
بعظمته وجلاله على ما هو عليه ـ سبحانه ـ أبصار الخلائق ، أو لا تدركه الأبصار
إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التي
هي مجرد المعاينة ، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية ، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم
فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما.
هذا ، وهناك خلاف
مشهور بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة رؤية الله ـ تعالى ـ في الآخرة.
أما أهل السنة
فيجيزون ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله ـ تعالى ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ) ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي قال
: كنا جلوسا عند النبي صلىاللهعليهوسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : «إنكم سترون ربكم كما
ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع
الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).
قال الإمام ابن
كثير : تواترت الأخبار عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي
روضات الجنات» .
أما المعتزلة
فيمنعون رؤية المؤمنين لله ـ تعالى في الآخرة ، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية
، وقالوا : إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته
ببصرى ورأيته إلا في اللفظ.
والذي نراه أن رأى
أهل السنة أقوى لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق ، فقد
تكفلت بذلك كتب علم الكلام .
وقوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أى : وهو يدرك القوة التي تدرك بها المبصرات. ويحيط بها
علما ، إذ هو خالق القوى والحواس.
وقوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أى : هو الذي يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم
بدقائق الأمور وجلياتها.
* * *
ثم أخذ القرآن في
تثبيت النبي صلىاللهعليهوسلم وفي تسليته. وفي مدح ما جاء به من هدايات فقال ـ تعالى ـ :
(قَدْ جاءَكُمْ
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
اتَّبِعْ
ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ
ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ
__________________
يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا
لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ
إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا
يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
(١١٠)
قوله (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) البصائر : جمع بصيرة ، وهي للقلب بمنزلة البصر للعين ، فهي
النور الذي يبصر به القلب ، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين.
والمراد بها آيات
القرآن ودلائله التي يفرق بها بين الهدى والضلالة. أى : قد جاءكم أيها الناس من
ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكي تميزوا بين الحق والباطل ،
وتتبعوا الصراط المستقيم.
وإطلاق البصائر
على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب.
وقوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
عَمِيَ فَعَلَيْها) أى : فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به
فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ولسعادتها ما قدم من ألوان الخير ، ومن عمى عن الحق
وجهله بإعراضه عن هذه البصائر فعلى نفسه وحدها جنى وإياها ضرب العمى وهذا كقوله ـ تعالى
ـ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).
واختتمت الآية
بقوله (وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أى : وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم ، وأحفظكم من
الضلال ، وإنما أنا علىّ البلاغ والله وحده هو الذي يحصى عليكم أعمالكم ويجازيكم
عليها بما تستحقون.
وقوله : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أى : وكما فصلنا الآيات الدالة على التوحيد في هذه السورة
تفصيلا بديعا محكما نفصل الآيات ونبينها وننوعها في كل موطن لتقوم على الجاحدين
الحجة ، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
(وَلِيَقُولُوا
دَرَسْتَ) يقال درس الكتاب يدرسه دراسة إذا أكثر قراءته وذلك للحفظ.
وأصله من درس الحنطة يدرسها درسا ودراسا إذا داسها ، فكأن التالي يدوس الكلام
فيخفف على لسانه.
والمعنى : وليقول
المشركون في الرد عليك : إنك يا محمد قد قرأت الكتب على أهل الكتاب وتعلمت منهم ،
وحفظت عن طريق الدراسة أخبار من مضى ، ثم جئتنا بعد كل ذلك تزعم أن ما جئت به من
عند الله ، وما هو من عند الله.
وقد حكى القرآن في
مواضع كثيرة التهم الباطلة التي وجهها المشركون إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ
فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً* وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها
فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) .
قال ابن عباس : (وَلِيَقُولُوا) يعنى : أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن (دَرَسْتَ) يعنى : تعلمت من يسار وخير ـ وكانا عبدين من سبى الروم ـ ثم
قرأت علينا تزعم أنه من عند الله.
وقال الفراء :
معناه ، تعلمت من اليهود لأنهم كانوا معروفين عند أهل مكة بالعلم والمعرفة.
وقرئ (دارست) ـ بالألف
وفتح التاء ـ أى : دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية كأهل الكتاب ، من المدارسة
بين الإثنين ، أى : قرأت عليهم وقرءوا عليك.
قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
وقرئ ـ أيضا ـ (درست)
ـ بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء ـ أى : وليقولوا مضت وقدمت وتكررت على
الأسماع ، وقد حكى القرآن أنهم قالوا أساطير الأولين قال ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
وهذه القراءات
الثلاث متواترة وهناك قراءات أخرى شاذة لا مجال لذكرها هنا.
وقوله : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى : ولنبين ونوضح هذا القرآن لقوم يعلمون الحق فيتبعونه
والباطل فيجتنبونه ، فهم المنتفعون به دون سواهم.
فالضمير في (وَلِنُبَيِّنَهُ) يعود إلى القرآن لكونه معلوما وإن لم يجر له ذكر ، وقيل :
يعود إلى الآيات لأنها في معنى القرآن.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : أى فرق بين اللامين في (وَلِيَقُولُوا) و (لِنُبَيِّنَهُ)؟
__________________
قلت : الفرق
بينهما أن الأول مجاز والثانية حقيقة ، وذلك لأن الآيات صرفت للنبيين ولم تصرف
ليقولوا درست ، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل للنبيين شبه به
فسيق مساقه .
ثم أمر الله تعالى
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يستمر في دعوته دون أن يعول على تعنت المشركين فقال ـ تعالى
ـ (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
أى عليك يا محمد
أن تداوم على تبليغ رسالتك ، متبعا في ذلك ما أوحاه إليك ربك الذي لا إله إلا هو
من آيات وهدايات ، معرضا عن المشركين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون.
وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة لقوله «من ربك»
بمعنى : منفردا في الألوهية.
ثم هون عليه أمر
إعراضهم فقال ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكُوا). أى : ولو شاء الله عدم إشراكهم لما أشركوا ، ولكنه ـ سبحانه
ـ لم يشأ ذلك لأنه جرت سنته برعاية الاستعدادات.
قال الآلوسى :
وهذا دليل أهل السنة على أنه تعالى ـ لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه يمنعه
عنه مع توجهه إليه ، ولكن بمعنى أنه ـ تعالى ـ لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ
من سوء استعداده» .
وقوله (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أى : وما جعلناك عليهم حفيظا يحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم
وتجازيهم عليها وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم وتتصرف فيها ، وإنما أنت
وظيفتك التبليغ قال ـ تعالى ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا*
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وقال ـ تعالى ـ (فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).
ثم أرشد الله
المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، فنهاهم عن سب آلهة المشركين حتى لا يقابلهم المشركون
بالمثل فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).
السب : الشتم
الوضيع وذكر مساوئ الغير لمجرد التحقير والإهانة.
وعدوا : مصدر
بمعنى العدوان والظلم والتجاوز من الحق إلى الباطل وهو مفعول مطلق
__________________
«لتسبوا». من
معناه ، لأن السب عدوان ، وقيل هو حال من ضمير (فَيَسُبُّوا) مؤكدة لمضمون الجملة وكذلك قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ).
والمعنى : ولا
تسبوا ايها المؤمنون آلهة المشركين الباطلة فيترتب على ذلك أن يسب المشركون
معبودكم الحق جهلا منهم وضلالا.
قال الآلوسى :
ومعنى سبهم لله ـ تعالى ـ إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلىاللهعليهوسلم ولمن يأمره وقد فسر (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بذلك أى : فيسبوا الله ـ تعالى ـ بغير علم أنهم يسبونه
وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله ـ تعالى ـ وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون
شفعاء لهم عنده ـ سبحانه ـ فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له ـ عزوجل ـ صراحة ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على
ذلك ، ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر! ومما شاهدناه أن
بعض جهلة العوام رأى بعض الرافضة يسب الشيخين ـ أبا بكر وعمر ـ فغاظه ذلك جدا فسب
عليا ـ كرم الله وجهه ـ فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا
يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم» .
وقد روى المفسرون
في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه معمر عن قتادة قال. كان
المسلمون يسبون أوثان الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فنزلت» .
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : سب الآلهة الباطلة حق وطاعة فكيف صح النهى عنه وإنما يصح النهى عن
المعاصي؟ قلت رب طاعة علم أنها تؤدى إلى مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهى
عنها لأنها معصية لا لأنها طاعة. كالنهى عن المنكر هو من أجل الطاعات ، فإذا علم
أنه يؤدى إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ووجب النهى عن ذلك كما يجب النهى عن
المنكر» .
وقال الشيخ
القاسمى : قال ابن الفارس في الآية : إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا
الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا آلهتهم ولا دينهم ، وهذا أصل في سد
الذرائع».
وقال السيوطي : «وقد
يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة
أقوى وكذا كل مفعول مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه».
__________________
وقال الحاكم :
نهوا عن سب الأصنام لوجهين :
أحدهما : أنها
جماد لا ذنب لها.
والثاني : أن ذلك
يؤدى إلى المعصية بسب الله ـ تعالى ـ. والذي يجب علينا إنما هو بيان بغضها وأنه لا
تجوز عبادتها ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنها لا تستحق العبادة ، وهذا ليس بسب.
ولهذا قال أمير المؤمنين على ـ يوم صفين ـ «لا تسبوهم ولكن اذكروا قبيح أفعالهم» .
وقال بعض العلماء
: ووجه النهى عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية ، لأن المقصود
من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله
ـ تعالى ـ فذلك الذي يتميز به المحق من المبطل ، فأما السب فإنه مقدور للمحق
وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما ، وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا
يستطيعه المحق ، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق. على أن سب آلهتهم لما كان يحمى
غيظهم ويزيد تصلبهم صار منافيا لمراد الله من الدعوة فقد قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وأصبح هذا السب متمحضا للمفسدة وليس مشوبا بمصلحة ، وليس
هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة ، لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات
وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض. وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب
الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا وتحققا واحتمالا ، وكذلك القول في تعارض
المصالح والمفاسد كلها .
وهذه الآية
الكريمة ليست منسوخة بآية السيف ـ كما قيل ـ وإنما هي محكمة ولذا قال القرطبي :
قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن
يسب الإسلام أو النبي صلىاللهعليهوسلم أو الله ـ تعالى ـ فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا
كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك ، لأنه بمنزلة البعث على المعصية» .
وقوله (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ).
التزيين تفعيل من
الزين وهو الحسن.
والمعنى : مثل ذلك
التزيين الذي حمل المشركين على الدفاع عن عقائدهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا ،
زينا لكل أمة من الأمم عملهم ، من الخير والشر والإيمان والكفر ، فقد مضت سننا في
أخلاق البشر أن يستحسنوا ما تعودوه ، وأن يتعلقوا بما ألفوه.
__________________
وقيل : المراد بكل
أمة أمم الفكر لأن الكلام فيهم. والمراد بعملهم. شرورهم ومفاسدهم. والمشبه به
تزيين سب الله ـ تعالى ـ لهم.
أى : كما زينا
لهؤلاء المشركين سوء أعمالهم زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال عملهم
السيئ.
قال الآلوسى : «وقد
استدل بالآية على أنه ـ تعالى ـ هو الذي زين للكافر كفره كما زين للمؤمن إيمانه.
وأنكر ذلك المعتزلة فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه».
وقال صاحب المنار
: فظهر بهذا التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه وليس المراد به أن
الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر ، وفي قلوب بعضها الآخر تزيينا
للإيمان والخير خلقا ابتدائيا من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك ، إذ لو
كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائب الخلقية التي تعد
الدعوة إليها والترغيب فيها وما يقابلهما من النهى والترهيب عنها من العبث الذي
يتنزه الله عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله. وقد غفلت المعتزلة عن هذا التحقيق
فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم الإيمان ، وبعضهم
بغير ذلك» .
ثم ختم الله ـ تعالى
ـ الآية بقوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : ثم إلى ربهم أمورهم ورجوعهم ومصيرهم بعد البعث ،
فيخبرهم من غير تسويف أو تأخير بما كانوا يعملونه في الدنيا ، ويجازيهم على ذلك
بما يستحقونه. وفي هذه الجملة الكريمة تهديد وتوبيخ لأولئك المشركين الذين تجاسروا
على مقام الله ، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا.
ثم حكى القرآن بعض
المقترحات المتعنتة التي كان يقترحها المشركون على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).
الجهد : الوسع
والطاقة من جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه.
وهو مصدر في موضع
الحال.
أى : وأقسم أولئك
المشركون بالله مجتهدين في أيمانهم ، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد ، معلنين
أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها
أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.
وقد لقن الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم الرد المفحم لهم فقال : (قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ).
أى : قل لهم يا
محمد إن هذه الآيات التي اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله ، فهو وحده
__________________
القادر عليها
والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته ، إن شاء أنزلها وإن شاء منعها ، أما أنا فليس
ذلك إلىّ.
أخرج ابن جرير ـ بسنده
ـ عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم نفر من قريش رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا له ، يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها
الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيى الموتى ، وتخبرنا
أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك ، فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أى شيء تحبون أن آتيكم به»؟ قالوا ، تجعل لنا الصفا
ذهبا ، فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني»؟ قالوا نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون
فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعو فجاءه جبريل فقال ، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن
يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلىاللهعليهوسلم «بل أتركهم حتى
يتوب تائبهم» ، فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ). إلى قوله (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) .
وقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ
لا يُؤْمِنُونَ).
أى : وما يدريكم
أيها المؤمنون الراغبون في إنزال هذه الآيات طمعا في إسلام هؤلاء المشركين أنها
إذا جاءت لا يؤمنون أى : إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا
تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول الآيات.
فالخطاب هنا
للمؤمنين ، والاستفهام في معنى النفي ، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار
عليهم.
أى : إنكم أيها
المؤمنون ليس عندكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام
الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التي يقترحونها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم تعنتا وجهلا.
قال صاحب الكشاف :
(وَما يُشْعِرُكُمْ) وما يدريكم (أَنَّها) أى الآية التي تقترحونها (إِذا جاءَتْ لا
يُؤْمِنُونَ) يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون
بذلك ، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون
مجيئها ، فقال ـ عزوجل ـ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، وقيل : إنها بمعنى «لعل» من
قول العرب : ائت السوق أنك تشترى حمارا.
__________________
وقال امرؤ القيس.
عوجا على الطلل
المحيل لأننا
|
|
نبكي الديار كما
بكى ابن خذام
|
أى : لعلنا نبكي
الديار.
وقرئ بكسر «إنها»
على أن الكلام قد تم قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم
فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة» .
وقوله (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) معطوف على (لا يُؤْمِنُونَ) وداخل معه في حكم (وَما يُشْعِرُكُمْ) مقيد بما قيد به.
أى : وما يشعركم
أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ،
كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من آيات. وهدايات على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن يقترحوا عليه تلك المقترحات الباطلة.
إنكم أيها
المؤمنون لا تدرون ذلك ولا تشعرون به لأن علمه عند الله وحده.
قال الآلوسى :
وهذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له ، بل لكمال
نبوها عنه وإعراضها بالكلية ، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم
في الكفر ، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه ـ تعالى ـ مشاعرهم بطريق
الإجبار» .
وقوله (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) معطوف على (لا يُؤْمِنُونَ).
والعمه : التردد
في الأمر مع الحيرة فيه ، يقال : عمه ـ كفرح ومنع ـ عمها إذا تردد وتحير.
أى : ونتركهم في
تجاوزهم الحد في العصيان يترددون متحيرين ، لا يعرفون لهم طريقا ، ولا يهتدون إلى
سبيل.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون في أيمانهم
الفاجرة ، فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)
(١١٣)
والمعنى : ولو
أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية ، بل
أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا
بحقيقة الإيمان ، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى
يواجهوهم بأنك على الحق ، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء
استعدادهم وفساد فطرهم ، وانطماس بصيرتهم ، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية
التي زخر بها هذا الكون والتي استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم ، ولا
تتحرك لها مشاعرهم ، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم ، والذي
ينقصهم إنما هو القلب الحي الذي يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التي يقترحونها
فإن أمامهم الكثير منها ، واقترحاتهم إنما هي نوع من العبث السخيف ، والتعنت
المرذول الذي لا يستحق أن يهتم به.
و (قُبُلاً) ـ بضم القاف والباء ـ حال من «كل شيء» وفيه أوجه :
الأول : أنه جمع
قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب ، أى : وحشرنا عليهم كل شيء من المخلوقات ليكونوا
كفلاء بصدقك.
والثاني : أنه
مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا
أى آتيك من قبل وجهك والمعنى. وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على
الحق.
والثالث : أن يكون
قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفا صنفا والمعنى : وحشرنا
عليهم كل شيء فوجا
فوجا ونوعا نوعا من سائر المخلوقات ليشهدوا بصدقك.
وجملة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ
يَشاءَ اللهُ) جواب لو.
أى : لو فعلنا لهم
كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال بسبب غلوهم في التمرد والعصيان ، إلا
في حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا ، لأنه ـ سبحانه ـ هو القادر على كل شيء.
وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).
أى : ولكن أكثر
هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان
المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا
بخوارق العادات.
وقيل الضمير يعود
على المؤمنين فيكون المعنى. ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين
عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله ـ تعالى ـ لإيمانهم ، فيتمنون مجيء الآيات
طمعا في إيمانهم.
قال الشيخ القاسمى
: في قوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء
بمشيئة الله ـ تعالى ـ حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها
على أنه «ما شاء الله كان وما لم يشأ لهم يكن». والمعتزلة يقولون «إلا أن يشاء
الله مشيئة قسر وإكراه» .
ثم سلى الله ـ تعالى
ـ نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم في الباطل ببيان أن كل نبي كان له أعداء يسيئون
إليه ويقفون عقبة في طريق دعوته فقال :
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ).
والمعنى : ومثل ما
جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك ـ أيضا ـ أعداء
، فلا يحزنك ذلك ، قال ـ تعالى ـ (ما يُقالُ لَكَ
إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) .
وقال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) .
والمراد بشياطين
الإنس والجن ، والمردة من النوعين. والشيطان : كل عات متمرد من الإنس والجن.
__________________
وجملة (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا) إلخ مستأنفة لتسلية النبي صلىاللهعليهوسلم عما يشاهده من عداوة قريش له ، والكاف في محل نصب على أنها
نعت لمصدر مؤكد لما بعده.
وجعل ينصب مفعولين
أولهما (عَدُوًّا) وثانيهما (لِكُلِّ نَبِيٍ) و (شَياطِينَ) بدل من المفعول الأول ، وبعضهم أعرب (شَياطِينَ) مفعولا أولا و (عَدُوًّا) مفعولا ثانيا ، و (لِكُلِّ نَبِيٍ) حالا من (عَدُوًّا).
وقوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً).
الوحى : الإعلام
بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع. زخرف القول : باطله الذي زين وموه بالكذب. وأصل
الزخرف. الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، ولكل شيء حسن مموه : زخرف.
والغرور : الخداع
والأخذ على غرة وغفلة.
والمعنى : يلقى
بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذي حسن ظاهره وقبح باطنه لكي
يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل.
والجملة مستأنفة
لبيان إحكام عداوتهم ، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن ، فعن
أبى ذر قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مجلس. قد أطال فيه الجلوس فقال : «يا أبا ذر هل صليت؟
قلت : لا يا رسول الله. قال : قم فاركع ركعتين قال : ثم جئت فجلست إليه فقال : يا
أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ قال : قلت لا يا رسول الله ، وهل
للإنس من شياطين؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن».
وقد ساق الإمام
ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر في هذا المعنى ، ثم قال في نهايتها : فهذه طرق لهذا
الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته» .
وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).
أى : ولو شاء ربك
ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل
لتم له ذلك ، لأنه ـ سبحانه ـ هو صاحب المشيئة النافذة ، والإرادة التامة ولكنه ـ سبحانه
ـ لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم ، لكي يميز الله
__________________
الخبيث من الطيب.
فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر وغيره من ألوان الشرور ، فسوف يعلمون سوء
عاقبتهم.
وقوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ). معطوف على (غُرُوراً) فيكون علة أخرى للإيحاء ، والضمير في (إِلَيْهِ) يعود إلى زخرف القول.
وأصل الصغو :
الميل. يقال : صغا يصغو ويصغى صغوا ، وصغى يصغى صغا أى : مال ، وأصغى إليه مال
إليه يسمعه ، وأصغى الإناء : أماله. ويقال : صغت الشمس والنجوم صغوا : مالت إلى
الغروب.
والمعنى : يوحى
بعضهم إلى بعضهم زخرف القول ليغروا به الضعفاء ، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل من
القول قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم وشهواتهم.
وخص عدم إيمانهم
بالآخرة بالذكر ـ مع أنهم لا يؤمنون بأمور أخرى يجب الإيمان بها ـ لأن من لم يؤمن
بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يمشى دائما وراء شهواته وأهوائه ولا يتبع إلا زخرف
القول وباطله.
ثم بين ـ سبحانه ـ
تدرجهم السيئ في هذا العمل الأثيم فقال : (وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
أى : وليرضوا هذا
الفعل الخبيث لأنفسهم بعد أن مالت إليه قلوبهم ، وليقترفوا ما هم مقترفون أى :
وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأعمال السيئة فإن الله ـ تعالى ـ سيجازيهم عليها بما
يستحقونه.
وأصل القرف
والاقتراف. قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح. واستعير الاقتراف للاكتساب
مطلقا ولكنه في الإساءة أكثر. فيقال : قرفته بكذا إذا عبته واتهمته.
قال أبو حيان :
وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة ، لأنه أولا يكون الخداع ، فيكون الميل ،
فيكون الرضا ، فيكون الاقتراف ، فكل واحد مسبب عما قبله .
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق ، وإن
كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
(١١٤) وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
(١١٦)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ)
(١١٧)
روى أن مشركي مكة
قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم اجعل بيننا حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى
ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزل قوله ـ تعالى ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) الآية .
وقوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) كلام مستأنف على إرادة القول ، والهمزة للإنكار ، والفاء
للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والحكم ـ بفتحتين
ـ هو من يتحاكم إليه الناس ويرضون بحكمه ، وقالوا : إنه أبلغ من الحاكم «وأدل على
الرسوخ ، كما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم.
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المشركين ، أأميل إلى زخارف الشياطين ، فأطلب معبودا سوى الله ـ تعالى
ـ ليحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق منها من المبطل.
وأسند صلىاللهعليهوسلم الابتغاء لنفسه لا إلى المشركين ، لإظهار كمال النصفة أو
لمراعاة قولهم : اجعل بيننا وبينك حكما.
__________________
وغير مفعول لأبتغى
و (حَكَماً) إما أن يكون حالا لغير أو تمييزا له. وجملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ
الْكِتابَ مُفَصَّلاً) حالية مؤكدة للإنكار أى : أفغير الله أطلب من يحكم بيني
وبينكم ، والحال أنه ـ سبحانه ـ هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، أى مبينا فيه
الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والخير والشر ، وغير ذلك من الأحكام التي أنتم
في حاجة إليها في دينكم ودنياكم ، وأسند الإنزال إليهم لاستمالتهم نحو المنزل
واستدعائهم إلى قبول حكمه ، لأن من نزل الشيء من أجله ، من الواجب عليه أن يتقبل
حكمه.
ثم ساق ـ سبحانه ـ
دليلا آخر على أن القرآن حق فقال : (وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ).
أى : والذين آتيناهم
الكتاب أى التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن
منزل عليك من ربك بالحق. لأنهم يجدون في كتبهم البشارات التي تبشر بك ، ولأن هذا
القرآن الذي أنزله الله عليك مصدق لكتبهم ومهيمن عليها.
فهذه الجملة
الكريمة تقرير لكون القرآن منزلا من عند الله ، لأن الذين وثق بهم المشركون من
علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته وأنه منزل من عند الله.
وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أى : فلا تكونن من الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن
القرآن منزل من عند ربك بالحق ، لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك مرده إلى الحسد والجحود
، وهذا النهى إنما هو زيادة في التوكيد ، وتثبيت لليقين ، كي لا يجول في خاطره
طائف من التردد في هذا اليقين.
قال ابن كثير :
وهذا كقوله ـ تعالى ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) قال : وهذا شرط ، والشرط لا يقتضى وقوعه ، ولهذا جاء عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا أشك ولا أسأل» .
وقيل : الخطاب لكل
من يتأتى له الخطاب على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه فلا ينبغي أن
يشك في ذلك أحد.
وقيل : الخطاب
للنبي صلىاللهعليهوسلم والمقصود أمته ، لأنه صلىاللهعليهوسلم حاشاه من الشك.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هذا الكتاب كامل من حيث ذاته بعد أن بين كماله من حيث إضافته إليه ـ تعالى ـ بكونه
منزلا منه بالحق فقال ـ تعالى ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) وقرئ (كلمات ربك).
__________________
والمراد بها ـ كما
قال قتادة وغيره ـ القرآن.
أى : كمل كلامه ـ تعالى
ـ وهو القرآن ، وبلغ الغاية في صدق أخباره ومواعيده ، وفي عدل أحكامه وقضاياه.
وصدقا وعدلا
مصدران منصوبان على الحال من (رَبِّكَ) أو من (كَلِمَةُ) وقيل : هما منصوبان على التمييز.
وجملة (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) مستأنفة لبيان فضل هذه الكلمات على غيرها أثر بيان فضلها
في ذاتها. أى : لا مغير لها بخلف في الأخبار ، أو نقض في الأحكام ، أو تحريف أو
تبديل كما حدث في التوراة والإنجيل ، وهذا ضمان من الله ـ تعالى ـ لكتابه بالحفظ
والصيانة ، قال ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
ثم ختمت الآية
بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) أى : هو ـ سبحانه ـ السميع لكل ما من شأنه أن يسمع ،
العليم بكل ما يسرون وما يعلنون.
وبعد أن أقام ـ سبحانه
ـ الأدلة على وحدانيته وصدق نبيه صلىاللهعليهوسلم أتبع ذلك بنهيه صلىاللهعليهوسلم عن الالتفات إلى جهالات أعدائه فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).
أى : وإن تطع أكثر
من في الأرض من الناس الذين استحبوا العمى على الهدى يضلوك عن الطريق المستقيم ،
وعن الدين القويم الذي شرعه الله لعباده ، لأن هؤلاء المجادلين ما يتبعون في
جدالهم وعقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي تزينه لهم أهواؤهم ، وما هم إلا يخرصون أى
: يكذبون.
وأصل الخرص :
القول بالظن. يقال : خرصت النخل خرصا ـ من باب قتل ـ حزرت ثمره وقدرته بالظن
والتخمين. واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص في قوله ـ
كنصر ـ أى : كذب.
قال صاحب المنار :
«وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ظاهر بما بيّنه به من اتباع الظن والخرص
ولا سيما في ذلك العصر ـ تؤيده تواريخ الأمم كلها ، فقد اتفقت على أن أهل الكتاب
كانوا قد تركوا هداية أنبيائهم وضلوا ضلالا بعيدا ، وكذلك أمم الوثنية التي كانت
أبعد عهدا عن هداية رسلهم وهذا من أعلام نبوته صلىاللهعليهوسلم وهو أمى لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا شيئا يسيرا من
شئون المجاورين لبلاد العرب خاصة» .
__________________
وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ
يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تقرير للآية السابقة ، وتأكيد لما يفيده مضمونها ، أى : إن
ربك الذي لا تخفى عليه خافية هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن طريق الحق وهو
أعلم منك ومن سائر الخلق ـ أيضا ـ بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم ، فعليك ـ أيها
العاقل ـ أن تكون من فريق المهتدين لتسعد كما سعدوا واحذر أن تركن إلى فريق
الضالين ، فتشقى كما شقوا.
وبذلك تكون هذه
الآيات الكريمة قد قررت أن الله وحده هو الحكم العدل ، وأن كتابه هو المهيمن على
الكتب السابقة ، وأن أهل الكتاب يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، وأنه ـ سبحانه ـ قد
تكفل بحفظ كتابه من التغيير والتبديل ، وأن الطبيعة الغالبة في البشر هي اتباع
الظنون والأهواء ، لأن طلب الحق متعب ، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث
والتمحيص ، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين في أحكامهم ، والله وحده هو الذي
يعلم الضالين والمهتدين من عباده.
وبعد أن أقام ـ سبحانه
ـ الأدلة على وحدانيته وكمال قدرته. وسعة علمه ورد على الشبهات التي أثارها
المشركون حول الدعوة الإسلامية بما يخرس ألسنتهم. وأثبت ـ سبحانه ـ أنه هو الحكم
الحق ، وأن كتابه هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ، وأن
أكثر أهل الأرض يتبعون الظن في أحكامهم. بعد كل ذلك انتقل القرآن إلى الكلام في
مسألة كثر فيها الجدل بين المسلمين والمشركين ، وهي مسألة الذبائح ما ذكر عليه اسم
الله منها وما لم يذكر فقال ـ تعالى ـ :
(فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما
كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ
لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(١٢٢)
روى أبو داود
بسنده عن ابن عباس قال : أتى ناس إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل
الله ـ فأنزل الله ـ (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). إلى قوله (وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) .
وذكر الواحدي أن
المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال الله قتلها.
قالوا. فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر أو الكلاب حلال وما قتله
الله حرام فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الآية : .
والخطاب في الآية
الكريمة للمؤمنين الذين ضايقهم جدال المشركين لهم في شأن الذبائح.
والمعنى كلوا أيها
المؤمنون مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه واتركوا ما ذكر عليه اسم غيره كالأوثان
أو ما ذبح على النصب ، أو ما ذكر اسم مع اسمه ـ تعالى ـ أو ما مات حتف أنفه ، ولا
تضرنكم مخالفتكم للمشركين في ذلك فإنهم ما يتبعون في عقائدهم ومآكلهم وأعمالهم إلا
تقاليد الجاهلية وأوهامها التي لا ترتكز على شيء من الحق.
والفاء في قوله : (فَكُلُوا) يرى الزمخشري أنها جواب لشرط مقدر والتقدير : إن كنتم
محقين في الإيمان فكلوا ، ويرى غيره أنها معطوفة على محذوف والتقدير «كونوا على
الهدى فكلوا».
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أى : إن كنتم بآياته التي من جملتها الآيات الواردة في هذا
الشأن مؤمنين ، فإن الإيمان بها يقتضى استباحة ما أحله سبحانه واجتناب ما حرمه.
ثم أنكر ـ سبحانه
ـ عليهم ترددهم في أكل ما أحله الله من طعام لأنهم لم يتعودوه قبل ذلك فقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).
__________________
أى : أى مانع
يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأى فائدة تعود عليكم من ذلك؟
فالاستفهام لإنكار أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى اجتناب الأكل من الذبائح التي ذكر
اسم الله عليها سواء أكانت تلك الذبائح من البحائر أو السوائب أو غيرها مما حرمه
المشركون على أنفسهم بدون علم.
وقوله (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ) جملة حالية مؤكدة للإنكار السابق أى والحال أن الله ـ تعالى
ـ قد فصل لكم على لسان رسولكم صلىاللهعليهوسلم ما حرمه عليكم من المطعومات ، وبين لكم ذلك في كتابه كما
في قوله ـ تعالى ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
إذا فمن الواجب
عليكم أيها المسلمون أن تأكلوا وأنتم مطمئنون من جميع المطاعم التي أحلها الله لكم
وذكر اسمه عليها ولو خالفتم في ذلك المشركين وأن تتجنبوا أكل ما حرمه الله عليكم
ولو كان مما يستبيحه المشركون.
وقوله (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) استثناء مما حرم الله عليهم أكله.
أى : إلا أن
تدعوكم الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات بسبب شدة الجوع ففي هذه الحالة يباح
لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات ما يحفظ عليكم حياتكم. هذا هو حكم الله الذي يريد
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فعليكم أن تتبعوه ، وألا تلقوا بالا إلى أوهام
المتخرصين وأصحاب الظنون الباطلة.
ثم نعى على
المشركين جهالاتهم فقال (وَإِنَّ كَثِيراً
لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قرأ الجمهور «ليضلون»
بضم الياء ، والمعنى عليه : وإن كثيرا من الكفار ليضلون غيرهم بتحريم الحلال
وتحليل الحرام بسبب أهوائهم الزائفة وشهواتهم الباطلة ، دون أن يكون عندهم أى علم
مقتبس من وحى الله ومستنبط من عقل سليم.
وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو ويعقوب «ليضلون» بفتح الياء ، والمعنى عليه : وإن كثيرا من الكفار
لينحرفون عن الحق ويقعون في الضلال بسبب اتباعهم لأهوائهم بغير علم ولا هدى ولا
كتاب منير.
وقراءة الجمهور
أبلغ في الذم لأنها تتضمن قبح فعلهم حيث ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.
وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف وقع حالا أى : يضلون مصاحبين للجهل.
وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ) أى : أعلم منك يا محمد ومن كل مخلوق بالمتجاوزين لحدود
الحق إلى الباطل والحلال والحرام.
ففي الجملة
الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول صلىاللهعليهوسلم.
قال الإمام الرازي
: وقد دلت هذا الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام ، لأن القول
بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة ، والآية دلت على أن ذلك حرام .
ثم أمر الله عباده
أن يتركوا ما ظهر من الآثام وما استتر فقال :
(وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أى اتركوا جميع المعاصي ما كان منها سرا وما كان منها
علانية ، أو ما كان منها بالجوارح وما كان منها بالقلوب ، لأن الله ـ تعالى ـ لا
يخفى عليه شيء.
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبة المرتكبين للآثام فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أى : إن الذين يعملون المعاصي ويرتكبون القبائح الظاهرة
والباطنة لن ينجو من المحاسبة والمؤاخذة بل سيجزون بما يستحقونه من عقوبات بسبب
اجتراحهم للسيئات.
وبعد أن أمر الله
المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم
الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال ـ تعالى ـ :
(وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أى : لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه
اسم الله عند ذبحه ، بأن ذكر عليه اسم غيره ، أو ذكر اسم مع اسمه ـ تعالى ـ ، أو
غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات.
وقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذي لم يذكر اسم
الله عليه ، أى : وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذي لم يذكر اسم الله عليه
لخروج عن طاعة الله ـ تعالى ـ وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح ، وفي ذلك
ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
ثم كشف للمسلمين
عن المصدر الذي يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ).
أى : وإن إبليس
وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم في تحليل
الميتة وفي غير ذلك من الشبهات الباطلة (وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال ما حرمه الله عليكم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
قال ابن كثير : أى
: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره
__________________
فهذا هو الشرك ،
كقوله ـ تعالى ـ (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) الآية ، وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه
قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم
الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» .
هذا ، وقد استدل
بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن
كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال.
فمنهم من قال لا
تحل الذبيحة التي يترك ذكر اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا ، وإلى هذا
الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبي ومحمد بن سيرين ، وداود الظاهري وفي رواية
عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
واحتجوا لمذهبهم
هذا بهذه الآية التي وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق ، كما احتجوا
بقوله ـ تعالى ـ (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) وبالأحاديث التي وردت في الأمر بالتسمية عند الذبيحة
والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» .
وحديث رافع بن
خديج وفيه «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه»
أما القول الثاني
فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هي مستحبة ، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر ،
وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفي
رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
وحجتهم أن هذه الآية
(وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم
كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم.
واحتجوا أيضا بما
رواه الدّارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال : «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل
فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» .
أما القول الثالث
فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر ، أما عمدا فلا تحل الذبيحة ، وإلى هذا
المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وهو المشهور من مذهب أحمد
بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه.
__________________
واحتجوا لمذهبهم
بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» .
ولعل هذا المذهب
أقرب المذاهب إلى الصواب ، لأن المتعمد هو الذي يؤاخذ على عمله أما الناسي فليس
مؤاخذا.
وقد تولت بعض كتب
التفسير بسط الأقوال في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء .
ثم ضرب الله مثلا
لحال المؤمن والكافر فقال :
(أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ).
الهمزة للاستفهام
الإنكارى ، وهي داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق.
والتقدير : أأنتم
أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان
ميتا فأعطيناه الحياة وجعلنا له نورا عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله
في الظلمات ليس بخارج منها.
فالآية الكريمة
تمثيل بليغ للمؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة
عن طاعتهم قبل ذلك في قوله (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
فمثل المؤمن
المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نورا يستضيء به في مصالحه
، ويهتدى به إلى طرقه. ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس في الظلمات لا خلاص له منها
فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان؟.
والمراد بالنور :
القرآن أو الإسلام ، والمراد بالظلمات : الكفر والجهالة وعمى البصيرة. فهو كقوله ـ
تعالى ـ : (وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).
وقوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : مثل ذلك التزيين الذي تضمنته الآية ـ وهو تزيين نور
الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام
كعداوة النبي صلىاللهعليهوسلم وذبح القرابين لغير الله ـ تعالى ـ وتحليل الحرام ، وتحريم
الحلال وغير ذلك من المنكرات.
وجمهور المفسرين
يرون أن المثل في الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله
وهداه عمر بن الخطاب ، والمراد بمن بقي في الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام ،
__________________
فقد أخرج ابن أبى
الشيخ أن الآية نزلت فيهما ، وقيل نزلت في عمار بن ياسر وأبى جهل ، وقيل في حمزة
وأبى جهل.
والذي نراه أن
الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا ، وفي كل من بقي على
ضلاله مؤثرا الكفر على الإيمان ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.
ثم سلى الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم ببيان أن المترفين في كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح ،
وأن ما لقيه صلىاللهعليهوسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شيء رآه الأنبياء قبله على
أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال ـ تعالى ـ :
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ
إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ
قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ
عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
فَمَنْ
يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
وَهذا
صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)
(١٢٦)
أكابر : جمع أكبر
، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون : جمع مجرم ، من أجرم إذا اكتسب أمرا
قبيحا ، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.
والمعنى : وكما
جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية
من قرى الرسل من
قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت
العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في
كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.
قال الجمل : وقوله
: (أَكابِرَ) مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) المفعول الثاني لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ،
فهو على حد قوله :
كذا إذا عاد
عليه مضمر
|
|
مما به عنه
مبينا يخبر
|
هذا أحسن الأعاريب
وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.
وخص الأكابر
بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في
كفرهم وفجورهم.
قال ابن كثير :
والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله ـ تعالى
ـ إخبارا عن قوم نوح (وَمَكَرُوا مَكْراً
كُبَّاراً) ، وكقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ
الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ* وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ
مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ
وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) ... الآية . وقوله ـ سبحانه ـ (وَما يَمْكُرُونَ
إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).
أى وما يمكر أولئك
الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود
ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم
سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء
والمصلحين.
فالجملة الكريمة
بيان لسنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله ، وفي ذلك
تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ،
ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.
وجملة (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير يمكرون ، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث
فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
__________________
ثم حكى القرآن
لونا من ألوان مكرهم فقال : (وَإِذا جاءَتْهُمْ
آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).
أى : وإذا جاءت
أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة
قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد
حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله ،
لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلىاللهعليهوسلم من الوحى والرسالة.
روى أن الوليد بن
المغيرة قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك
سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية».
وقال مقاتل : نزلت
في أبى جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي
رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا
وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية» .
وقد رد الله ـ تعالى
ـ على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أى : الله ـ سبحانه ـ أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح
للرسالة فيضعها فيه فهو ـ سبحانه ـ يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها.
ويهب نفسه لها ، وينسى في سبيلها ذاته.
قال الإمام الرازي
: وقوله ـ تعالى ـ (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أى : أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ،
فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا
فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله ـ تعالى ـ ثم قال : وفي هذه الجملة
الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة
البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى
نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة
والرسالة مع هذه الصفات» .
وهذه الجملة حجة
لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد
بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.
ولذا قال الإمام
الآلوسى : وجملة (اللهُ أَعْلَمُ) ... إلخ. استئناف بيانى ، والمعنى : أن
__________________
منصب الرسالة ليس
مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد ، وتعاضد الأسباب والعدد ، وإنما ينال
بفضائل نفسانية ، ونفس قدسية أفاضها الله ـ تعالى ـ بمحض الكرم والجود على من كمل
استعداده» .
هذا. وقد وردت
أحاديث كثيرة تحدث النبي صلىاللهعليهوسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه ، ومن ذلك ما رواه
الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ـ عزوجل ـ اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بنى إسماعيل
بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفى من بنى
هاشم محمدا صلىاللهعليهوسلم» .
وروى الإمام أحمد
عن المطلب بن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم
فريقين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا ،
فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبي صلىاللهعليهوسلم على ما آتاه الله من فضله فقال : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ
عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).
قال القرطبي ما
ملخصه : الصغار : الضيم والذل والهوان. والمصدر الصغر بالتحريك ـ وأصله من الصغر دون
الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل : أصله من الصغر وهو الرضا بالذل.
والصاغر : الراضي بالذل. وأرض مصغرة : نبتها صغير لم يطل. ويقال : صغر ـ بالكسر ـ يصغر
صغرا وصغارا فهو صاغر إذا ذل وهان» .
والمعنى : سيصيب
الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله
في الدنيا والآخرة ، وبسبب مكرهم المستمر ، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه.
والجملة الكريمة
استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى
عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله ، والسين للتأكيد.
والعندية في قوله «عند
الله» مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه سبحانه ـ وقضائه
__________________
فيهم بذلك ،
كقولهم : ثبت عند فلان القاضي كذا أى : في حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه
يصيبهم في الدنيا.
قال ابن كثير :
ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا
بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في
الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال
: هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه
الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
حال المستعد لهداية الإسلام ، وحال المستعد للضلال فقال :
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).
أى : فمن يرد الله
أن يهديه للإسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه.
وشرح الصدر : توسعته
، يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل
النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.
روى عبد الرازق أن
النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره؟ فقال : «نور يقذف
فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار
الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» .
وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على
الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.
والحرج : مصدر حرج
صدره حرجا فهو حرج ، أى : ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق
، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال : للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.
وقرئ حرجا ـ بكسر
الراء ـ صفة لقوله (ضَيِّقاً).
روى أن جماعة من
الصحابة قرءوا أمام عمر ـ رضى الله عنه ـ «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا»
بكسر الراء فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين
الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل
إليه شيء من الخير» .
__________________
وقوله (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) استئناف ، أو حال من ضمير الوصف ، أو وصف آخر لقلب الضال ،
والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه. فإن صعود السماء
مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة.
أى : كأنما إذا
دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال. ويصعد أى : يتصعد
، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه.
وفيه إشارة إلى أن
الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود.
وقوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أى : مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام ، يجعل الله الرجس.
أى : العذاب ، أو الخذلان ، أو اللعنة في الدنيا على الذين لا يؤمنون بالإسلام.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن طريق الإسلام هو الطريق الحق المستقيم فقال :
(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ
مُسْتَقِيماً) أى : وهذا البيان الذي جاء به القرآن ، أو سبيل التوحيد ،
وإسلام الوجه إلى الله ، هو طريق ربك الواضح المستقيم الذي ارتضاه لعباده ، والذي
لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
و (مُسْتَقِيماً) حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل : هذا أبوك
عطوفا ، وقيل حال مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو (ها) التي للتنبيه.
وقوله : (فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)
أى : جعلناها بينة واضحة مفصلة لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون
بها لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
* * *
ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده للمتذكرين
فقال :
(لَهُمْ دارُ
السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ
فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ
رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
يا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى
أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)
(١٣٠)
أى : أن هؤلاء
المتذكرين المتقين لهم جنة عرضها السموات والأرض في جوار ربهم وكفالته ، وهو ـ سبحانه
ـ (وَلِيُّهُمْ) أى : متولى إيصال الخير إليهم ، أو محبهم أو ناصرهم بسبب
أعمالهم الصالحة. وسميت الجنة بدار السلام ، لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة من
جميع المكاره.
قال الجمل : وقوله
(عِنْدَ رَبِّهِمْ) في المراد بهذه العندية وجوه :
أحدها : أنها معدة
عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ).
وثانيها : أن هذه
العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا
بالمكان والجهة لتنزهه ـ تعالى ـ عنهما.
وثالثها : هي
كقوله ـ تعالى ـ في صفة الملائكة (وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ). وقوله : أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بي» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا
مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ).
ففي هذه الآيات
عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهي تصور
مشاهد المجرمين يوم القيامة.
وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا
مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ).
__________________
المعشر : الجماعة
الذين يعاشر بعضهم بعضا أو الذين يربطهم أمر مشترك بينهم والمراد بالجن شياطينهم
ومردتهم.
والمعنى : واذكر
يا محمد ـ أو أيها العاقل ـ يوم نحشر الضالين والمضلين جميعا من الإنس والجن ،
فنقول للمضلين من الجن : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ
مِنَ الْإِنْسِ) أى : قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإضلالكم إياهم ، أو قد
أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم ، وأهل طاعتكم ، ووسوستكم لهم بالمعاصي حتى
غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم.
و «يوم» منصوب على
الظرفية والعامل فيه مقدر ، أى : اذكر يوم نحشرهم جميعا. والضمير المنصوب في «نحشرهم»
لمن يحشر من الثقلين. وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات.
ووجه الخطاب إلى
معشر الجن ، لأنهم هم الأصل في إضلال أتباعهم من الإنس ، وهم السبب في صدهم عن
السبيل القويم.
والمقصود من هذا
القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس.
وهنا يحكى القرآن
رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول : (وَقالَ
أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا).
أى : وقال الذين
أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا ، لقد استمتع بعضنا ببعض.
أى : انتفع الإنس
بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس ، حيث أطاعوهم
واستجابوا لوسوستهم ، وخالفوا أمر ربهم.
وقال الحسن : ما
كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. أى : فالجن نالت التعظيم
منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة.
وقيل : استمتاع
الإنس بالجن معناه أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه
من الجن فيقول. أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جوارهم. وأما
استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا. سدنا الإنس حتى عاذوا بنا ، فيزدادون بذلك
شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.
وقيل : استمتاع
الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، واستمتاع الجن
بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصي فصاروا كالرؤساء لهم.
والذي نراه. أن
استمتاع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك ، حيث انتفع كل
فريق من صاحبه
باللذة العاجلة التي أوردته إلى سوء المصير.
وقولهم هذا ، هو
تحسر منهم على حالهم ، إذ قالوه اعترافا بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى
، وتكذيب أمر البعث.
وإنما قال الأتباع
من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن ، للإيذان بأن
شياطين الجن قد أفحموا. ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا. ثم أتبعوا تحسرهم هذا
بتحسر آخر وهو قولهم : «وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا».
أى : ها نحن يا
ربنا قد استمتع بعضنا ببعض في الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة. واللذات الفانية
القبيحة ، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا ،
وهو يوم القيامة والجزاء. ونحن في أقبح صورة وأسوأ عيش.
وهنا يأتيهم الرد
الحاسم. والحكم النافذ من الله العلى الكبير. حيث يقول ـ سبحانه ـ (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ
فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ).
مثواكم : الثواء
مع الإقامة مع الاستقرار. يقال : ثوى يثوى ثواء أى : استقر ، والثوية مأوى الغنم.
والمعنى : قال
الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات : النار
منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة. فأنتم خالدون فيها في كل وقت إلا في وقت مشيئة الله
بخلاف ذلك ، لأن الأمور كلها متروكة إليه ، وخاضعة لمشيئته.
والأرجح أن المراد
بهذا الاستثناء وبنظائره في آيات أخر ، المبالغة في الخلود.
أى : أنه لا ينتفى
في وقت ما إلا وقت مشيئته ـ تعالى ـ وهو سبحانه لا يشاء ذلك. فقد أخبر في آيات
متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا.
وفي إيراد هذا
المعنى بتلك الصورة ، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله ، وأن خلود
المشركين في نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته ، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا ، وفيه إلى
جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا في حيرة دائمة من أمرهم.
تجعلهم مشتتين بين الطمع في الخروج مما هم فيه ، واليأس منه.
وهذا التفسير
للجملة الكريمة هو الذي نختاره ونرجحه ، وهناك وجوه أخرى في تفسيرها منها ما ذهب
إليه الزمخشري حيث قال :
وقوله : (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أى : يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي
ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من
الزمهرير ما يميز
بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، أو أن يكون من قول
الموتور ـ أى المظلوم ـ الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب أن
ينفس عن خناقه. أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت ، علم أنه لا يشاء إلا التشفي
منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنت والتشديد. فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد
مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع .
ومنها : ما نقل عن
ابن عباس أنه ـ تعالى ـ استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يدخلون في الإسلام ، وهو
مبنى على أن الاستثناء. ليس من المحكي وأن «ما» بمعنى «من».
ومنها : أنهم تفتح
لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء
بهم. فهم فيها إلا الوقت الذي يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل في وجوههم
ليكون ذلك أعظم في حسرتهم.
ومنها : أن هذا
الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أى : إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها.
وهي مسألة خلافية بين العلماء.
وهناك أقوال أخرى
لا مجال لذكرها. والقول الذي نرجحه ونعتمده هو الذي سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك
من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ؛ ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال
قدرته. ونفاذ إرادته.
وجملة «إن ربك
حكيم عليم» تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته. أى : إن ربك حكيم في التعذيب
والإثابة وفي كل أفعاله. عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من جزاء.
ثم يعقب القرآن
على هذا الاستمتاع المتبادل بين الضالين والمضلين من الجن والإنس فيقول : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
ونولي : من
الولاية بمعنى القرابة ، والنصرة ، والمحالفة وما إلى ذلك من أنواع الاتصال.
أى : ومثل ما سبق
من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم لما بينهم من التناسب والمشاكلة ، نولي بعض
الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم بأن نجعلهم يزينون لهم السيئات ، ويؤثرون فيهم
بالإغواء. بسبب ما كانوا مستمرين على اكتسابه من الكفر والمعاصي.
قال الإمام الرازي
: «لأن الجنسية علة الضم» فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا
القول في الأرواح الطاهرة ، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة
والتقوية. ثم قال : والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله ـ تعالى ـ يسلط
عليهم
__________________
ظالما مثلهم. فإن
أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم» .
وقال ابن كثير :
معنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم
من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم
من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم» .
وقال الفضيل بن
عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم. فقف وانظر فيه متعجبا.
فالآية الكريمة
تصور لنا مشهدا واقعا في حياة الأمم ، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا
، ويناصر بعضهم بعضا ، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع وأن
الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها
عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم
العدالة والشجاعة في الحق.
والآية في الوقت
ذاته تهدد الظالمين ، وتتوعدهم بسوء المصير إذا لم يقلعوا عن ظلمهم ، ويثوبوا إلى
رشدهم ، ويقيدوا أنفسهم بمبدأ العدالة ورعاية الحق ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية
التي بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)؟.
قال الإمام ابن
جرير : وهذا خبر من الله ـ جل ثناؤه ـ عما هو قائل يوم القيامة ، لهؤلاء العادلين
به من مشركي الإنس والجن ، يخبر أنه ـ تعالى ـ يقول لهم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يقول : يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع
حججي ، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدي وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى
حدودي ، (وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يقول : يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على
معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى ، وهذا من الله ـ تعالى ـ تقريع لهم وتوبيخ على ما
سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ومعناه ، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على
خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله ، فلم تقبلوا ولم
تتذكروا» .
وقوله (رُسُلٌ مِنْكُمْ) استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء
جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس ، وإنما
قيل : رسل منكم
__________________
لأنه لما جمع
الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما ، كقوله : «يخرج منهما اللؤلؤ
والمرجان ، وإنما يخرجان من أحدهما وهو الماء الملح دون العذب.
قال أبو السعود :
والمعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم : لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من
الإنس خاصة ، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما
ذاتا ، واتحادهما تكليفا وخطابا. كأنهما من جنس واحد ، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال
الآخر ، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم وأنذروا بما سمعوه. أقوامهم ، إذ حكى القرآن عنهم أنهم (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وأنهم قالوا لهم : (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً) .
وقال صاحب المنار
، وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعى ، والظواهر التي استدل بها
الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس ، لأن الكلام معهم ، وليست أقوى من ظاهر ما
استدل به من قال إن الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه ألا ما ورد به
النص. وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم إليهم ، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى
الله ـ تعالى ـ» .
ثم يحكى القرآن
أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال : (قالُوا شَهِدْنا عَلى
أَنْفُسِنا) أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا ، ولم يقصروا في تبليغنا
وإرشادنا.
وقوله ـ سبحانه ـ (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب
الرياسة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، وباعوا آخرتهم بدنياهم. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
كانُوا كافِرِينَ) أى : شهدوا على أنفسهم عند ما وقفوا بين يدي الله للحساب
في الآخرة أنهم كانوا كافرين في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : ما لهم مقرين في هذه الآية ـ على أنفسهم بالكفر ـ جاحدين في قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟ قلت. يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة فتارة
يقرون واخرى يجحدون ، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه
كثر الاضطراب في كلامه. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على
أفواههم. فإن قلت : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت :
الأولى : حكاية
لقولهم كيف يقولون ويعترفون.
__________________
والثانية : ذم لهم
وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات
الحاضرة وكانت عاقبة أمرهم إن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، والاستسلام
لربهم ، وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم» .
هذا ، وإنك لتقرأ
هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تصور مشهدا من مشاهد يوم القيامة فيخيل
إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم ، والضالين
والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ثم يحدثنا القرآن
بعد ذلك عن عدالة الله في أحكامه ، وعن سعة غناه ورحمته ، وعن حسن عاقبة المؤمنين
، وسوء مصير الكافرين فيقول :
(ذلِكَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ
الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ
بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)
إِنَّ
ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ
لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)
(١٣٥)
قال الآلوسى : «ذلك»
إشارة إلى إتيان الرسل ، أو السؤال المفهوم من (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) ، أو ما قص من أمرهم ، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو
إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى : الأمر ذلك ، أو مبتدأ خبره مقدر ، أو خبره
قوله ـ سبحانه ـ (أَنْ لَمْ يَكُنْ
رَبُّكَ مُهْلِكَ
__________________
الْقُرى)
بخلاف اللام على
أن (أَنْ) مصدرية ، أو مخففة من أن وضمير الشأن اسمها.
وإما منصوب على
أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك ، أو فعلنا ذلك.
وفي قوله (بِظُلْمٍ) متعلق بمهلك أى : بسبب ظلم. أو بمحذوف وقع حالا من القرى
أى : ملتبسة بظلم ...» .
والمعنى : ذلك
الذي ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله ، سببه أن ربك
لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل
أن ينبهوا على بطلانه ، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين ، فربك لا يظلم ،
ولا يعذب أحدا وهو غافل لم ينذر قال ـ تعالى ـ (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال ـ تعالى ـ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ).
فالآية الكريمة
صريحة في أن ـ سبحانه ـ قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتبيين
الآيات ، وإلزام الحجة (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن الدرجات إنما هي على حسب الأعمال فقال ـ تعالى ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا) أى : ولكل من المكلفين جنا كانوا أو إنسا درجات أى منازل
ومراتب (مِمَّا عَمِلُوا) أى : من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ
الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه ، والجزاء ينتظرهم عادلا لا
ظلم فيه.
(وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم ، لا يعزب عنه مثقال
ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم صرح ـ سبحانه ـ
بغناه عن كل عمل وعن كل عامل ، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة ، والقدرة النافذة
فقال : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ
ذُو الرَّحْمَةِ).
أى : وربك يا محمد
هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، وهو
وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التي شملت جميع خلقه.
والجملة الكريمة
تفيد الحصر. وقوله : وربك مبتدأ ، والغنى خبره ، وقوله (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر بعد خبر. وجوز أن يكون هو الخبر و «الغنى» صفة لربك.
وفي هذه الجملة
تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره ، ليس لنفعه ـ سبحانه ـ ،
__________________
بل لترحمه على
العباد ، وتمهيد لقوله بعد ذلك. (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أى : أنه ـ سبحانه ـ إن يشأ إذهابكم أيها الناس بالإهلاك
لفعل ذلك فهو قدير على كل شيء وعلى أن ينشئ بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق الذين
يعملون بطاعته ، ولا يكونون أمثالكم.
والكاف في قوله : (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ
قَوْمٍ آخَرِينَ) في موضع نصب والمعنى : إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن
يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. ونظيره قوله ـ
تعالى ـ (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ
قَدِيراً) وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ
لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).
أى : «إن ما
توعدون من أمر القيامة والحساب ، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه ، وما أنتم
بمعجزين ، أى : بجاعليه عاجزا عنكم ، غير قادر على إدراككم. من أعجزه بمعنى جعله
عاجزا. أو : بفائتين العذاب ، من أعجزه الأمر. إذا فاته. أى لا مهرب لكم من عذابنا
بل هو مدرككم لا محالة.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم أن ينفض يده من هؤلاء المشركين ، وإن يتركهم لأنفسهم. وأن
ينذرهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم فقال ـ تعالى ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ
الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
أى : قل يا محمد
لهؤلاء المصرين على كفرهم اعملوا على غاية تمكنكم من أمركم ، وأقصى استطاعتكم.
مصدر مكن ـ ككرم ـ مكانة ، إذا تمكن أبلغ التمكن وأقواه ، أو المعنى اعملوا على
جهتكم واثبتوا على كفركم وحالتكم التي أنتم عليها من قولهم. مكان ومكانة كمقام
ومقامة.
قال الزمخشري :
يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة : مكانك يا فلان أى : أثبت على ما أنت عليه
لا تنحرف عنه.
والأمر للتهديد
والوعيد ، وإظهار ما هو عليه صلىاللهعليهوسلم في غاية التصلب في الدين ، ونهاية الوثوق بأمره ، وعدم
المبالاة بأعدائه أصلا.
وقوله (إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أى : إنى عامل على مكانتى ، ثابت على الإسلام لا أتزحزح عن
الدعوة إليه ، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدنيا.
وقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بجانب إفادته للإنذار ، فيه إنصاف في المقال ، وحسن أدب في
الخطاب ، حيث لم
يقل ـ مثلا ـ العاقبة لنا ، وإنما فوض الأمر إلى الله ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه على الحق.
قال الجمل ـ وسوف
لتأكيد مضمون الجملة ، وهذه الجملة. تعليل لما قبلها والعلم عرفان ، ومن استفهامية
معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وخبرها جملة تكون ، وهي مع خبرها في
محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون. أى : فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى
التي خلق الله هذه الدار لها ، ويجوز أن تكون موصولة فيكون محلها النصب على أنها
مفعول لتعلمون. أى : فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار» .
ثم ختمت الآية
بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ) أى : لن يظفروا بمطلوبهم بسبب ظلمهم ، وقيل المراد بالظلم
هنا الكفر ، ووضع الظلم موضع الكفر ، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد
كان من أفراد الظلم ، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده.
قال ابن كثير ،
وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلىاللهعليهوسلم فمكن له في البلاد ، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد ،
وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب. ،
وكل ذلك في حياته ، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته. قال ـ تعالى ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) .
ثم تبدأ السورة
بعد ذلك حديثا مستفيضا عن أوهام المشركين وجهالاتهم التي تتعلق بمآكلهم ، ومشاربهم
، ونذورهم ، وذبائحهم ، وعاداتهم البالية ، وتقاليدهم الموروثة ، فتناقشهم في كل
ذلك مناقشة منطقية حكيمة ، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا
كتاب منير ، وترشدهم إلى الطريق السليم الذي من الواجب عليهم أن يسلكوه. استمع إلى
سورة الأنعام وهي تحكى كل ذلك في بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى
اللهِ
__________________
وَما
كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)
وَكَذلِكَ
زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ
وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا
افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي
بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما
رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)
(١٤٠)
لقد حكت هذه
الآيات الكريمة بعض الرذائل التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلى ، أما الرذيلة
الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا لله
ونصيبا لأوثانهم ، فيشركونها في أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين
، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه
بما للأوثان ، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها.
استمع إلى القرآن
وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً).
«ذرأ» بمعنى خلق
يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا أى : خلقهم وأوجدهم وقيل : الذرأ الخلق على وجه
الاختراع.
أى : وجعل هؤلاء
المشركون مما خلقه الله ـ تعالى ـ من الزروع والأنعام نصيبا لله يعطونه للمساكين
وللضيوف وغيرهم ، وجعلوا لأصنامهم نصيبا آخر يقدمونه لسدنتها ، وإنما لم يذكر
النصيب الذي جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهذا لِشُرَكائِنا).
أى : فقالوا في
القسم الأول : هذا لله نتقرب به إليه.
وقالوا في الثاني
: وهذا لشركائنا نتوسل به إليها.
وقوله ـ تعالى ـ في
القسم الأول (هذا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ) أى : بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى.
قال الجمل : ومن
المعلوم أن الزعم هو الكذب ، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله ،
لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم .
وقال أبو السعود :
وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه في الحقيقة جعل لله ـ تعالى ـ غير مستتبع
لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله ـ لا لما قيل من أنه للتنبيه
على أن ذلك مما اخترعوه ، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني ،
ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا
يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه ـ تعالى ـ به .
ثم فصل ـ سبحانه ـ
ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال : (فَما كانَ
لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى
شُرَكائِهِمْ).
أى : فما كان من
هذه الزروع والأنعام من القسم الذي يتقرب به إلى شركائهم ، فإنهم يحرمون الضيفان
والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شيء ، وما كان منها من القسم الذي يتقرب به
إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة ، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه
لسدنة الأصنام وخدامها.
__________________
فهم يجعلون قسم
الأصنام لسدنتها وأتباعها وحدهم ، بينما القسم الذي جعلوه لله بزعمهم ينتقصونه
ويضعون الكثير منه في غير موضعه ، ويقولون : إن الله غنى وإن آلهتنا محتاجة.
وقد عقب القرآن
على هذه القسمة الجائرة بقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أى : ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل
شيء ، على خالق قادر على كل شيء ، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا في
القسمة.
هذه هي الرذيلة
الأولى من رذائلهم ، أما الرذيلة الثانية فهي أن كثيرا منهم كانوا يقتلون أولادهم
، ويئدون بناتهم لأسباب لا تمت إلى العقل السليم بصلة وقد حكى القرآن ذلك في قوله.
(وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ).
أى : ومثل ذلك
التزيين في قسمة الزروع والأنعام بين الله والأوثان ، زين للمشركين شركاؤهم من
الشياطين أو السدنة قتل بناتهم خشية العار أو الفقر فأطاعوهم فيما أمروهم به من
المعاصي والآثام.
والتزيين :
التحسين ، فمعنى تزيينهم لهم أنهم حسنوا لهم هذه الأفعال القبيحة ، وحضوهم على
فعلها.
سموا شركاء لأنهم
أطاعوهم فيما امروهم به من قتل الأولاد ، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم ، أو
سموا شركاء لأنهم كانوا يشاركون الكفار في أموالهم التي منها الحرث والأنعام.
و (شُرَكاؤُهُمْ) فاعل (زَيَّنَ) وأخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم واهتماما به ، لأنه
موضع التعجب.
وقوله : (لِيُرْدُوهُمْ) أى ليهلكوهم ؛ من الردى وهو الهلاك. يقال ردى ـ كرضى ـ أى
: هلك.
وقوله : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) معطوف على ليردوهم ، أى : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من
دين إسماعيل ـ عليهالسلام ـ حتى زالوا عنه إلى الشرك.
ويلبسوا مأخوذ من
اللبس بمعنى الخلط بين الأشياء التي يشبه بعضها بعضا وأصله الستر بالثوب ، ومنه
اللباس ، ويستعمل في المعاني فيقال : لبس الحق بالباطل يلبسه ستره به. ولبست عليه
الأمر. خلطته عليه وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته ، فأنت ترى أن شركاءهم قد حسنوا
لهم القبيح من أجل أمرين : إهلاكهم وإدخال الشبهة عليهم في دينهم عن طريق
التخليط والتلبيس.
ثم سلى الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم وهدد أعداءه فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).
أى : ولو شاء الله
ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا
يعجزه شيء ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بسبب ما يفعلونه ، بل دعهم وما يفترونه من
الكذب ، فإنهم لسوء استعدادهم آثروا الضلالة على الهداية.
والفاء في قوله (فَذَرْهُمْ) فصيحة أى : إذا كان ما قصصناه عليك بمشيئة الله ، فدعهم
وافتراءهم ولا تبال بهم ، فإن فيما يشاؤه الله حكما بالغة.
ثم حكى القرآن
رذيلة ثالثة من رذائلهم المتعددة ، وهي أن أوهام الجاهلية وضلالاتها ساقتهم إلى
عزل قسم من أموالهم لتكون حكرا على آلهتهم بحيث لا ينتفع بها أحد سوى سدنتها ، ثم
عمدوا إلى قسم من الأنعام فحرموا ركوبها وعمدوا إلى قسم آخر فحرموا أن يذكر اسم
الله عليها عند ذبحها أو ركوبها إلى آخر تلك الأوهام المفتراة.
استمع إلى القرآن
وهو يقص ذلك فيقول : (وَقالُوا هذِهِ
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ).
حجر : بمعنى
المحجور أى : الممنوع من التصرف فيه ، ومنه قيل للعقل حجر لكون الإنسان في منع منه
مما تدعوه إليه نفسه من اثام.
أى : ومن بين
أوهام المشركين وضلالاتهم أنهم يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها
ويقولون : هذه الأنعام وتلك الزروع محجورة علينا أى : محرمة ممنوعة ، لا يأكل منها
إلا من نشاء ، يعنون : خدم الأوثان والرجال دون النساء أى : لا يأكل منها إلا خدم
الأوثان والرجال فقط.
وقوله : (بِزَعْمِهِمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالوا. أى : قالوا ذلك
متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.
وقوله : (وَقالُوا هذِهِ) الإشارة إلى ما جعلوه لآلهتم ، والتأنيث باعتبار الخبر وهو
قوله : (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) وقوله (حِجْرٌ) صفة لأنعام وحرث ، وقوله (لا يَطْعَمُها) صفة ثانية لأنعام وحرث.
هذا هو النوع
الأول الذي ذكرته الآية من أنواع ضلالاتهم.
أما النوع الثاني
فهو قوله ـ تعالى ـ (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها) أى : وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم : هذه أنعام
حرمت ظهورها فلا تركب ولا يحمل عليها ، يعنون بها
البحائر والسوائب
والوصائل والحوامي التي كانوا يزعمون أنها تعتق وتقصى لأجل الآلهة. فقوله (وَأَنْعامٌ) خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله (هذِهِ أَنْعامٌ).
وأما النوع الثالث
من أنواع اختراعاتهم الذي ذكرته الآية فهو قوله : (وَأَنْعامٌ لا
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا).
أى : وقالوا أيضا
هذه أنعام لا يذكر اسم الله عليها عند الذبح ، وإنما يذكر عليها أسماء الأصنام
لأنها ذبحت من أجلها.
وقد عقب ـ سبحانه
ـ على تلك الأقسام الثلاثة الباطلة بقوله : (افْتِراءً عَلَيْهِ) أى فعلوا ما فعلوا من هذه الأباطيل وقالوا ما قالوا من تلك
المزاعم من أجل الافتراء على الله وعلى دينه ، فإنه ـ سبحانه ـ لم يأذن لهم في ذلك
ولا رضيه منهم.
ثم ختمت الآية
بهذا التهديد الشديد حيث قال : ـ سبحانه ـ (سَيَجْزِيهِمْ بِما
كانُوا يَفْتَرُونَ) أى : سيجزيهم الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء
القبيح.
ثم يحكى القرآن
الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها : أنهم زعموا أن الأجنة التي في بطون هذه
الأنعام المحرمة ، ما ولد منها حيا فهو حلال للرجال ومحرم على النساء ، وما ولد
ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء.
استمع إلى القرآن
وهو يفضح زعمهم هذا فيقول : (وَقالُوا ما فِي
بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ،
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) ومرادهم بما في بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب.
أى : ومن فنون
كفرهم أنهم قالوا ما في بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حيا فأكله حلال
للرجال دون والنساء ، وإذا نزل ميتا فأكله حلال للرجال والنساء على السواء.
وفي رواية العوفى
عن ابن عباس أن المراد بما في بطونها اللبن ، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه
ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت
أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.
قال بعضهم : «ومن
مباحث اللفظ في الآية أن قوله «خالصة» فيه وجوه :
__________________
أحدها : أن التاء
قيد للمبالغة في الوصف كراوية وداهية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول
بأنه خبر.
وثانيا : أن
المبتدأ وهو (ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ) مذكر اللفظ مؤنث المعنى ، لأن المراد به الأجنة فيجوز
تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى.
وثالثها : أنه
مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة.
ورابعها : أنه
مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ (لِذُكُورِنا) .
وقوله : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تهديد لهم أى : سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء
وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله في أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم
والتهجم بالباطل على شرعه. إنه ـ سبحانه ـ حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه ، عليم
بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها.
قال الآلوسى :
ونصب (وَصْفَهُمْ) ـ على ما ذهب إليه الزجاج ـ لوقوعه موقع مصدر (سَيَجْزِيهِمْ) فالكلام على تقدير مضاف. أى : جزاء وصفهم. وقيل : التقدير.
سيجزيهم العقاب بوصفهم أى : بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم.
ثم قال : وهذا كما
قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون ، كلامه يصف الكذب إذا كذب
، وعينه تصف السحر ، أى ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق. مبالغة ، حتى كأن
من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له» .
وإلى هنا تكون الآيات
الأربعة التي بدأت بقوله ـ تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) .. إلخ. قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين
وأقوالهم.
وإن العاقل ليعجب
وهو يستعرض هذه الضلالات ـ التي حكتها الآيات. يعجب لما تحملوه في سبيل ضلالاتهم
من أعباء مادية وخسائر وتضحيات ، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير
ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها ، وعلى التقيد بأغلالها ، وأوهامها ، وتبعاتها.
لكأن القرآن وهو
يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها في سبيلها يقول لأتباعه ـ من بين ما يقول ـ إذا
كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بفلذات أكبادهم إرضاء
__________________
لشركائهم. فأولى
بكم ثم أولى أن تضحوا في سبيل عقيدتكم الصحيحة ، وملتكم الحنيفة السمحاء بالأنفس
والأموال.
هذا وقد عقب القرآن
بعد إيراده لتلك الرذائل بقوله.
(قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَحَرَّمُوا ما
رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ).
قال الإمام ابن
كثير : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فخسروا
أولادهم بقتلهم ، وضيقوا على أنفسهم في أموالهم ، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء
أنفسهم. وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم» .
والتعبير بخسر
بدون ذكر مفعول معين يقع عليه الفعل للإشارة إلى أن خسارتهم خسارة مطلقة من أى
تحديد ، فهي خسارة دينية وخسارة دنيوية ـ كما قال ابن كثير.
وقرأ ابن عامر
قتلوا بالتشديد. أى : فعلوا ذلك كثيرا ، إذ التضعيف يفيد التكثير.
و (سَفَهاً) منصوب على أنه علة لقتلوا أى : لخفة عقولهم وجهلهم قتلوا
أولادهم. أو منصوب على أنه حال من الفاعل في قتلوا وهو ضمير الجماعة.
والسفه : خفة في
النفس لنقصان العقل في أمور الدنيا أو الدين.
وقوله (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) أى من البحائر والسوائب ونحوهما ، وهو معطوف على (قَتَلُوا).
ثم بين ـ سبحانه ـ
نتيجة ذلك القتل والتحريم فقال : (قَدْ ضَلُّوا وَما
كانُوا مُهْتَدِينَ) أى : قد ضلوا عن الصراط المستقيم بأقوالهم وأفعالهم
القبيحة وما كانوا مهتدين إلى الحق والصواب.
قال الشهاب ، وفي
قوله (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) بعد قوله (قَدْ ضَلُّوا) مبالغة في نفى الهداية عنهم ، لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث
الضلال بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال ، وإنما
ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض» .
روى البخاري عن
ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة
الأنعام (قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما
رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) .
__________________
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه هو الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون
بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت له فقال ـ تعالى
ـ :
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ
حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)
ثَمانِيَةَ
أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ
كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
(١٤٤)
قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ).
أنشأ : أى أوجد
وخلق. والجنات : البساتين والكروم الملتفة الأشجار.
ومعروشات : أصل
العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا
من بابى ـ ضرب ونصر ـ ، وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف. فالمادة تدل على
الرفع ومنها عرش الملك. قال ابن عباس : المعروشات. ما انبسط على الأرض وانبسط من
الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو
ذلك. وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل
والشجر.
وقيل المعروشات
وغير المعروشات كلاهما في الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى
على وجه الأرض منبسطا.
وقيل المعروشات ما
غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات. هو ما
أنبته الله في البراري والجبال من كرم وشجر.
أى : وهو ـ سبحانه
ـ الذي أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التي منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير
المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع.
وقوله : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً
أُكُلُهُ) عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ،
والمراد بالزرع جميع الحبوب التي يقتات بها.
وإنما أفردهما مع
أنهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات.
و (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أى ، ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة.
والضمير في أكله
راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف
المأكول في كل منهما في الهيئة والطعم.
قال الجمل : وجملة.
(مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى
يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائدا له غدا».
وقوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه
في الطعم أو متشابها بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة «وغير متشابه في
بعضها.
قال القرطبي :
وفيه أدلة ثلاثة.
أحدها : ما تقدم
من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير.
الثاني : على
المنة منه ـ سبحانه ـ علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا
يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن
يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شيء.
الثالث : على
القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب
من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من
جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ،
والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأسسها ، هل هي في قدرة
الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب. كلا ، لا يتم ذلك في
العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية.
ووجه اتصال هذا
بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب. وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم
على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم» .
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إِذا أَثْمَرَ) أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التي أنشأناها لكم ،
شاكرين الله على ذلك. والأمر للإباحة. وفائدة التقييد بقوله (إِذا أَثْمَرَ) إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك.
وقيل فائدته :
الترخيص للمالك في الأكل من قبل أداء حق الله ـ تعالى ـ لأنه لما أوجب الحق فيه
ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شيء منه لمكان شركة المساكين
له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل.
ثم أمرهم ـ سبحانه
ـ بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ) أى : كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه
للفقراء والمحتاجين يوم حصاده.
ويرى بعض العلماء
أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه
عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير.
وأصحاب هذا الرأى
فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن
الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة.
وهم يرون أن هذا
الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند
حصاده.
__________________
ويرى بعض آخر من
العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه
الآية مدنية وإن كانت السورة مكية.
ويبدو لنا أن
الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا
تمنع إعطاء الصدقات ، وفي الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة في العزم على
المبادرة إليه.
والمعنى : اعزموا
على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت
يمكن فيه الإيتاء.
وقيل : إنما ذكر
وقت الحصاد تخفيفا على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله.
ثم ختمت الآية
بالنهى عن الإسراف فقالت : (وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). أى لا تسرفوا في أكلكم قبل الحصاد ولا في صدقاتكم ولا في
أى شأن من شئونكم ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يحب المسرفين.
وقال ابن جريج ،
نزلت في ثابت بن قيس ، قطع نخلا له فقال. لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم
حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية.
وقال عطاء ، نهوا
عن السرف في كل شيء.
وقال إياس بن
معاوية ، ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حال الأنعام. وأبطل ما تقولوه عليه في شأنها بالتحريم والتحليل فقال. (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً).
الحمولة ، هي
الأنعام الكبار الصالحة للحمل. والفرش هي صغارها الدانية من الأرض ، مثل الفرش
المفروش عليها.
وقيل الحمولة كل
ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش.
أى : وأنشأ لكم ـ سبحانه
ـ من الأنعام حمولة وهي ما تحملون عليه أثقالكم ، كما أنشأ لكم منها فرشا وهي
صغارها التي تفرش للذبائح من الضأن والمعز والإبل والبقر.
والجملة معطوفة
على جنات. والجهة الجامعة بينهما إباحة الانتفاع بهما.
وقوله (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
أى : كلوا مما
رزقكم الله من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها ، وانتفعوا منها بسائر أنواع
الانتفاع المشروعة
، ولا تتبعوا وساوس الشيطان وطرقه في التحريم والتحليل كما اتبعها أهل الجاهلية ،
إذ حرموا ما رزقهم الله افتراء عليه ، إن الشيطان عداوته ، ظاهرة واضحة لكم ، فهو
يمنعكم مما يحفظ روحكم ، ويطهر قلوبكم ، فالجملة الكريمة (إِنَّهُ لَكُمْ) تعليل للنهى عن اتباع خطوات الشيطان.
ثم بين القرآن بعد
ذلك بعض ما كان عليه الجاهليون من جهالات ، وناقشهم فيما أحلوه وحرموه مناقشة
منطقية حكيمة فقال :
(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).
وقوله ـ سبحانه ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدل من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على الراجح ، وقيل أن
لفظ ثمانية منصوب بفعل مضمر أى : وأنشأ لكم ثمانية أزواج ، أو هو مفعول به لفعل (كُلُوا) وقوله (وَلا تَتَّبِعُوا) ... إلخ» معترض بينهما.
والزوج يطلق على
المفرد إذا كان معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل ، وكذا يطلق على الاثنين
فهو مشترك والمراد هنا الإطلاق الأول.
والمعنى : ثمانية
أصناف خلقها الله لكم ، لتنتفعوا بها أكلا وركوبا وحملا وحلبا وغير ذلك.
ثم فصل الله ـ تعالى
ـ هذه الأزواج الثمانية فقال : (مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ) أى. من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة ، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) أى. ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يبكتهم على جهلهم فقال (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ).
أى : قل لهم يا
محمد على سبيل التوبيخ وإلزامهم الحجة. أحرم الله الذكرين وحدهما من الضأن والمعز
أم الأنثيين وحدهما ، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء
أكانت تلك الأجنة ذكورا أم إناثا؟
وقوله : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أى : أخبرونى بأمر معلوم من جهته ـ تعالى ـ جاءت به
الأنبياء ، يدل على أنه ـ سبحانه ـ قد حرم شيئا مما حرمتموه إن كنتم صادقين في
دعوى التحريم.
والأمر هنا
للتعجيز لأنهم لا دليل عندهم من العقل أو النقل على صحة تحريمهم لبعض الأنعام دون
بعض.
وقوله ـ تعالى ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) عطف على قوله (مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ) أى : وأنشأ لكم
من الإبل اثنين
هما الجمل والناقة (وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ) هما الثور وأنثاه البقرة.
(قُلْ) إفحاما في أمر هذين النوعين أيضا (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الله ـ تعالى ـ منهما ، (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ
أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من ذينك النوعين؟
قال الآلوسى :
والمعنى ـ كما قال كثير من أجلة العلماء : إنكار ان الله ـ تعالى ـ حرم عليهم شيئا
من هذه الأنواع الأربعة ، وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث
وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد
افترائهم ، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة ، وإناثها تارة. وأولادها كيفما
كانت تارة أخرى ، مسندين ذلك كله إلى الله ـ سبحانه ـ.
ثم قال : وإنما لم
يل المنكر ـ وهو التحريم ـ الهمزة ، والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما
في النظم الكريم أبلغ.
وبيانه ـ على ما
قاله السكاكي ـ أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة ، فإذا انتفى محله
وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني. كأنه وضع الكلام موضع من
سلم أن ذلك قد تم ، وطالبه ببيان محله كي يتبين كذبه ، ويفتضح عند الحاجة.
وإنما لم يورد ـ سبحانه
ـ الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة ، بأن يقال : قلءآلذكور حرم أم الإناث أما
اشتملت عليه أرحام الإناث ، لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت»
.
وقوله ـ تعالى ـ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ
اللهُ بِهذا) تكرير للإفحام والتبكيت.
أى : أكنتم حاضرين
حين وصاكم الله وأمركم بهذا التحريم؟ لا ، ما كنتم حاضرين فمن أين لكم هذه الأحكام
الفاسدة؟.
فالجملة الكريمة
تبكتهم غاية التبكيت على جهالاتهم وافترائهم الكذب على الله ، والاستفهام في قوله
ـ تعالى ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) للنفي والإنكار.
أى : لا أحد أشد
ظلما من هؤلاء المشركين الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم إليه ـ سبحانه ـ تحريم
ما لم يحرمه لكي يضلوا الناس عن الطريق القويم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
__________________
وقوله ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى ، أى : افترى عليه ـ تعالى
ـ جاهلا بصدور التحريم.
وإنما وصف بعدم
العلم مع أن المفترى عالم بعدم الصدور ، إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود
والنهايات ، لأنه إذا كان المفترى بغير علم يعد ظالما فكيف بمن يفترى الكذب وهو
عالم بذلك.
ثم ختمت الآية
بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى لا يهديهم إلى طريق الحق بسبب ظلمهم ، وإيثارهم طريق
الغي على طريق الرشد.
هذا ، والمتأمل في
هاتين الآيتين الكريمتين يراهما قد ردتا على المشركين بأسلوب له ـ مع سهولته
وتأثيره ـ الطابع المنطقي الذي يزيد المؤمنين إيمانا بصحة هذا الدين ، وصدق هذا
القرآن ، ويقطع على المعارضين والملحدين كل حجة وطريق.
وتقرير ذلك ـ كما
قال بعض العلماء ـ أن تطبق قاعدة (السير والتقسيم) فيقال ، إن الله ـ تعالى ـ خلق
من كل صنف من المذكورات نوعين : ذكرا وأنثى ، وأنتم أيها المشركون حرمتم بعض هذه
الأنعام ، فلا يخلو الأمر في هذا التحريم من :
١ ـ أن يكون
تحريما معللا بعلة.
٢ ـ أو أن يكون
تحريما تعبديا ملقى من الله ـ تعالى ـ.
ولا جائز أن يكون
تحريما معللا ، لأن العلة إن كانت هي (الذكورة) فأنتم أبحتم بعض الذكور وحرمتم
بعضا ، فلم تجعلوا الأمر في الذكورة مطردا وإن كانت العلة هي (الأنوثة) فكذلك
الأمر : حيث حرمتم بعض الإناث وحللتم بعضا ، فلم تطرد العلة ، ومثل هذا يقال إذا
جعلت العلة هي اشتمال الرحم من الأنثى على النوعين ، لأنها حينئذ تقتضي أن يكون
الكل حراما فلما ذا أحلوا بعضه.
وهذا كله يؤخذ من
قوله ـ تعالى ـ (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ).
فبطل إذن أن يكون
التحريم معللا.
ولا جائز أن يكون
التحريم تعبديا لا يدرى له علة ، أى : مأخوذ عن الله ، لأن الأخذ عن الله إما
بشهادة توصيته بذلك وسماع حكمه به ، وقد أنكر هذا عليهم بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ
اللهُ بِهذا) وإما أن يكون برسول أبلغهم ذلك ، وهم لم يأتهم رسول بذلك ،
وفي هذا يقول ـ جل شأنه متحديا لهم (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً
لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وإذن فما قالوه من
التحريم إنما هو افتراء وضلال» .
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم ، وبيان أن ما يتقولونه في
أمر التحريم افتراء محض ـ بعد كل ذلك أمره بأن يبين لهم ما حرمه الله عليهم فقال :
(قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
وَعَلَى
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ)
(١٤٧)
أى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب في أمر التحليل
والتحريم وغيرهما (لا أَجِدُ فِي ما
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ).
أى : لا أجد فيما
أوحاه الله إلى من القرآن طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله من ذكر أو أنثى ردا
على قولهم (مُحَرَّمٌ عَلى
أَزْواجِنا).
والجملة الكريمة
تفيد أن طريق التحريم والتحليل إنما هو الوحى وليس مجرد الهوى والتشهى ، وأن الأصل
في الأشياء الحل إلا أن يرد نص بالتحريم.
__________________
و (مُحَرَّماً) صفة لموصوف محذوف ، أى : شيئا محرما ، أو طعاما محرما ،
وهو المفعول الأول لأجد ، أما المفعول الثاني فهو (فِي ما أُوحِيَ
إِلَيَ) قدم للاهتمام به.
وقوله (يَطْعَمُهُ) في موضع الصفة لطاعم جيء به قطعا للمجاز كما في قوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما حرمه فقال : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً ، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً ، أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).
أى : لا أجد فيما
أوحاه الله إلى الآن شيئا محرما من المطاعم إلا أن يكون هذا الشيء أو ذلك الطعام (مَيْتَةً) أى : بهيمة ماتت حتف أنفها.
(أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً) أى : دما مصبوبا سائلا كالدم الذي يخرج من المذبوح عند
ذبحه ، لا الدم الجامد كالكبد والطحال ، والسفح : الصب والسيلان.
(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ) أى اللحم لأنه المحدث عنه ، أو الخنزير لأنه الأقرب أو
جميع ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير.
(رِجْسٌ) أى : قذر خبيث تعافه الطباع السليمة وضار بالأبدان (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ
بِهِ) أى : خروجا عن الدين ، لكونه عند ذبحه قد ذكر عليه غير
اسمه ـ تعالى ـ من صنم أو وثن أو طاغوت أو نحو ذلك.
والإهلال : رفع
الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا ، ومنه إهلال الصبى ،
والإهلال بالحج ، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا
عليها أسماءها ـ كاللات والعزى ـ ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا.
وإنما سمى (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) فسقا ، لتوغله في باب الفسق ، والخروج عن الشريعة الصحيحة
، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
حكم المضطر فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ) :
أى : فمن أصابته
الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر ، بأن ألجئ بإكراه أو جوع مهلك ـ مع فقد
الحلال ـ إلى أكل شيء من هذه المحرمات التي كانوا في الجاهلية يستحلونها ، فلا إثم
عليه في أكلها.
واضطر : مأخوذ من
الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء ، يقال : اضطره إليه ، أى أحوجه والجأه فاضطر.
ثم قيد ـ سبحانه ـ
حالة الاضطرار بقوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ).
أى : فمن أصابته
ضرورة قاهرة ألجأته إلى الأكل من هذه الأشياء المحرمة حالة كونه غير باغ في أكله ،
أى غير طالب للمحرم وهو يجد غيره. أو غير طالب له للذته ، أو على جهة الاستئثار به
على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيها عن الآخر.
أو حالة كونه ـ أيضا
ـ غير عاد فيما يأكل ، أى : غير متجاوز سد الجوعة فلا إثم عليه في هذه الأحوال.
وباغ : مأخوذ من
البغاء وهو الطلب تقول : بغيته بغاء وبغى بغية وبغية أى : طلبته.
وعاد : اسم فاعل
بمعنى متعد ، تقول : فلان عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره فهو عاد ، ومنه
قوله ـ تعالى ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عادُونَ).
وقوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : فإن ربك واسع المغفرة والرحمة لا يؤاخذ المضطرين ،
ولا يكلف الناس بما فوق طاقتهم ، وإنما هو رءوف رحيم بهم يريد بهم اليسر ولا يريد
بهم العسر.
والجملة الكريمة
جواب الشرط باعتبار لازم المعنى وهو عدم المؤاخذة. وقيل جواب الشرط محذوف : أى فمن
اضطر ، فلا مؤاخذة عليه وهذه الجملة تعليل له.
هذا ، والآية
الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات في هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد
على مزاعم المشركين فيما حرموه بغير علم من البحائر والسوائب وغيرها.
قال ابن كثير :
الغرض من سياق هذه الآية الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم
المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو
ذلك. فأمر ـ تعالى ـ رسوله أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وأن
الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه.
فكيف تزعمون أنه حرام؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله ـ تعالى ـ؟! وعلى هذا فلا
ينفى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهى عن الحمر الأهلية ولحوم السباع
وكل ذي مخلب من الطير» .
وقال القرطبي :
والآية مكية ، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت
سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة
وغير ذلك ، وحرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ،
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال :
الأول : ما أشرنا
إليه من أن هذه الآية مكية وكل محرم حرمه رسول الله أو جاء في الكتاب
__________________
مضموم إليها ، فهو
زيادة حكم من الله على لسان نبيه. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر والفقه
والأثر» .
والخلاصة : أن
الآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات في هذه الأربعة وإنما المقصود منها
الرد على مزاعم المشركين ، وذلك أن الكفار. كما قال الإمام الشافعى ـ لما حرموا ما
أحل الله وأحلوا ما حرمه الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة
لغرضهم ، فكأنه قال ـ سبحانه ـ لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ،
نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة. فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة ،
والغرض المضادة لا للنفي والإثبات على الحقيقة.
فهو ـ تعالى ـ لم
يقصد حل ما وراء الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، إذ القصد إثبات
التحريم لا إثبات الحل.
قال امام الحرمين
: وهذا في غاية الحسن ، ولو لا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك ـ رضى
الله عنه ـ في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية» .
وفي حكم هذه الآية
وتأويلها أقوال أخرى بسطها العلماء فارجع إليها إذا شئت .
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك ما حرمه الله على اليهود بسبب ظلمهم وبغيهم فقال ـ تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ).
فقوله ـ تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) بيان لما حرمه الله ـ تعالى ـ على بنى إسرائيل جزاء ظلمهم
، وفي هذا البيان رد على اليهود ، وتكذيب لهم ، إذ زعموا أن الله لم يحرم عليهم
شيئا ، وإنما هم حرموا على أنفسهم ما حرمه إسرائيل على نفسه ، فجاءت هذه الآية
الكريمة لتبين بعض ما حرمه الله عليهم من الطيبات ـ التي كانت حلالا لهم ـ بسبب
فسقهم وطغيانهم.
والمراد بقوله
تعالى (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير ، كالإبل والنعام
والأوز والبط ، كما روى عن ابن عباس وسعيد ابن جبير وقتادة.
قال الإمام الرازي
: قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين :
__________________
الأول : أن قوله ـ
تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا) كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة. لتقدم المعمول على عامله.
الثاني : أنه لو
كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا) فائدة .
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما حرم عليهم من غير ذوى الظفر فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ،
أَوِ الْحَوايا ، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).
والشحم : هو
المادة الدهنية التي تكون في الحيوان وبها يكون لحمه سمينا والعرب تسمى سنام
البعير ، وبياض البطن شحما ، وغلب إطلاق الشحم على ما يكون فوق أمعاء الحيوان.
والحوايا : ـ كما
قال ابن جرير ـ جمع حاوياء وحاوية ، وحوية وهي ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار ،
وفسرت بالمباعر ، والمرابض التي هي مجتمع الأمعاء في البطن .
والمعنى : كما
حرمنا على اليهود كل ذي ظفر ، فقد حرمنا عليهم كذلك من البقر والغنم شحومهما
الزائدة التي تنتزع بسهولة ، إلا ما استثنيناه من هذه الشحوم وهو ما حملت ظهورهما
أو ما حملت حواياهما ، أو اختلط من هذه الشحوم بعظمهما. فقد أحللناه لهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هذا التحريم كان نتيجة لطغيانهم فقال تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى. هذا الذي حرمناه على الذين هادوا من الأنعام والطير
ومن البقر والغنم ، وهذا التضييق الذي حكمنا به عليهم ، إنما ألزمناهم به ، بسبب
بغيهم وظلمهم ، وتعديهم حدود الله تعالى.
قال قتادة : إنما
حرم الله عليهم ما ليس بخبيث عقوبة لهم وتشديدا عليهم.
ولما كان هذا
النبأ عن شريعة اليهود ، من الأنباء التي لم يكن النبي صلىاللهعليهوسلم وقومه يعلمون عنها شيئا لأميتهم ، وكان تكذيب اليهود له
بأن الله لم يحرم ذلك عليهم عقوبة لهم ، لما كان الأمر كذلك ، أكد الله هذا النبأ
بقوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ). أى : وإنا لصادقون ـ يا محمد ـ فيما أخبرناك به ، ومن
بينه ما أعلمناك عنه مما حرمناه على اليهود من الطيبات وهم الكاذبون في زعمهم أن
ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه ، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
ومع أن الشحوم
جميعا باستثناء ما أحله لهم منها محرمة عليهم ، فإنهم تحايلوا على شرع الله ،
__________________
وأخذوا يذيبونها
ويستعملونها في شئونهم المختلفة أو يبيعونها ويأكلون ثمنها ، ولقد لعنهم النبي صلىاللهعليهوسلم بسبب هذا التحايل في أحاديث متعددة.
من ذلك ما روى عن
ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان قاعدا خلف المقام ، فرفع بصره إلى السماء وقال : «لعن
الله اليهود ـ ثلاثا ـ إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها ، وإن الله
لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه» .
وعن جابر بن عبد
الله قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول عام الفتح «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير
والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود ، وتطلى بها
السفن ويستصبح بها الناس ، فقال : (لا. هو حرام) ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند ذلك (قاتل الله اليهود) ، إن الله لما حرم عليهم
شحومها جملوها. أى : أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها» .
ثم حذرهم الله من
الكفر والطغيان ، فقال ـ تعالى ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ) أى : فإن كذبك ـ يا محمد ـ هؤلاء اليهود وأمثالهم من
المشركين ، فيما أخبرناك عنه من أنا حرمنا على هؤلاء اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم
، فقل لهم. إن الله ـ تعالى ـ ذو رحمة واسعة حقا ورحمته وسعت كل شيء ، ومن مظاهر
رحمته أنه لا يعاجل من كفر به بالعقوبة ، ولا من عصاه بالنقمة ، ولكن ذلك لا يقتضى
أن يرد بأسه ، أو يمنع عقابه عن القوم المصرين على إجرامهم المستمرين على اقتراف
المنكرات ، وارتكاب السيئات.
فالآية الكريمة قد
جاءت لتزجرهم عن البغي والكفران ، حتى يعودوا إلى طريق الحق. إن كانوا ممن ينتفع
بالذكرى ، ويعتبر بالموعظة.
ثم حكى القرآن بعد
ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التي تمسك بها المشركون في شركهم وجهالاتهم ورد عليها
بما يبطلها ويخرس ألسنة قائليها أو المتذرعين بها فقال :
(سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا
__________________
قُلْ
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)
قُلْ
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)
(١٥٠)
إن هذه الآيات
الكريمة تعرض لشبهة قديمة جديدة : قديمة لأن كثيرا من مجادلى الرسل موهوا بها ،
وحديثة لأنها دائما تراود كثيرا من المتمسكين بالأوهام في سبيل إرضاء نزواتهم من
المتع الباطلة والشهوات المحرمة.
إنهم يقولون عند
ما يرتكبون القبائح والمنكرات : هذا أمر الله ، وهذا قضاؤه ، وتلك مشيئته وإرادته
، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها وإذا كان الله قد قضى علينا
بها فما ذنبنا؟ ولما ذا يعاقبنا عليها؟ إلى غير ذلك من اللغو الباطل ، والكلام
العابث الذي يريدون من ورائه التحلل من أوامر الله ونواهيه.
ولنتدبر سويا أيها
القارئ الكريم ـ هذه الآيات ، وهي تحكى تلك الشبهات الباطلة ، ثم تقذفها بالحق
الواضح ، والبرهان القاطع ، فإذا هي زاهقة.
يقول ـ سبحانه ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ).
أى : سيقول هؤلاء
المشركون لو شاء الله ـ تعالى ـ ألا نشرك به وألا يشرك به آباؤنا من قبلنا ، لنفذت
مشيئته ، ولما أشركنا نحن ولا آباؤنا.
ولو شاء كذلك ألا
نحرم شيئا مما حرمناه من الحرث والأنعام وغيرها لتمت مشيئته ولما حرمنا شيئا مما
حرمنا.
ولكنه ـ سبحانه ـ لم
يشأ ذلك ، بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام ، وأن نحرم ما نحرم من
الحرث والأنعام وقد رضى لنا ذلك فلما ذا تطالبنا يا محمد بتغيير مشيئة الله ،
وتدعونا إلى الدخول في دينك الذي لم يشأ الله دخولنا فيه؟.
قال الآلوسى ما
ملخصه : «وهم لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح ، لأنهم لم يعتقدوا
قبح أفعالهم وإنما مرادهم من هذا القول الاحتجاج على أن ما ارتكبوه ـ من الشرك
والتحريم ـ حق ومشروع ومرضى عند الله ، بناء على أن المشيئة والإرادة تسابق الأمر
وتستلزم الرضا ، فيكون حاصل كلامهم :
إن ما نرتكبه من
الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله وإرادته ، وكل ما تعلقت به مشيئة الله
وإرادته فهو مشروع ومرضى عنده. فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضى
عند الله» .
وقد حكى القرآن في
كثير من آياته ما يشبه قولهم هذا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ
اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا
مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) .
وقوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) . وقد رد القرآن على قولهم بما يبطله فقال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا).
أى : مثل هذا
التكذيب من مشركي مكة للرسول صلىاللهعليهوسلم فيما جاء به من إبطال الشرك ، قد كذب الذين من قبلهم
لرسلهم ، واستمروا في تكذيبهم لهم حتى أنزلنا على هؤلاء المكذبين عذابنا ونقمتنا.
ومن مظاهر تكذيب
هؤلاء المشركين لرسلهم ، أنهم عند ما قال لهم الرسل عليهمالسلام ـ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. كذبوهم واحتجوا عليهم
بأن ما هم عليه من شرك واقع بمشيئة الله ، وزعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده ـ
سبحانه ـ فكان الرد عليهم بأنه لو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده ـ سبحانه
ـ : لما أذاق أسلافهم المكذبين ـ الذين قالوا لرسلهم مثل قولهم ـ عذابه ونقمته.
ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال الآلوسى ما
ملخصه : وحاصل هذا الرد أن كلام المشركين يتضمن تكذيب الرسل وقد دلت المعجزة على
صدقهم ، ولا يخفى أن المقدمة الأولى وهي أن كل شيء بمشيئة الله : لا تكذيب فيها ،
بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل شيء بمشيئة الله ،
وامتناع أن يجرى في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية ، وهي أن
__________________
كل ما تعلقت به
مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنه ، لأن الرسل عليهمالسلام : يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله لا يرضى
لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء ، فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع ومرضى
عنده سبحانه : تكذيب لقول الرسل. وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية
تعين أنها ليست بصادقة ، وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة
والإرادة بمشروع ومرضى عنده ـ سبحانه ـ بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر .
ثم بعد هذا الرد المفحم
للمشركين أمر الله : تعالى : رسوله أن يطالبهم بدليل على مزاعمهم فقال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنا).
أى : قل لهم يا
محمد على سبيل التوبيخ والتعجيز : هل عندكم من علم ثابت تعتمدون عليه في قولكم (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا)! إن كان عندكم هذا العلم فأخرجوه لنا لنتباحث معكم فيه ،
ونعرضه على ما جئتكم به من آيات بينة ودلائل ساطعة. فإن العاقل هو الذي لا يتكلم
بدون علم ، ولا يحيل على مشيئة الله التي لا ندري عنها شيئا.
و (مِنْ) في قوله (مِنْ عِلْمٍ) زائدة ، وعلم مبتدأ ، وعندكم خبر مقدم.
وقوله : (فَتُخْرِجُوهُ) منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الاستفهام
الإنكارى.
ثم بين حقيقة
حالهم فقال : (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).
أى : أنتم لستم
على شيء ما من العلم ، بل ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن الباطل
الذي لا يغنى من الحق شيئا. وما أنتم إلا تخرصون أى تكذبون على الله فيما
ادعيتموه.
وأصل الخرص :
القول بالظن. يقال : خرصت النخل خرصا ـ من باب قتل ـ حزرت ثمره وقدرته بالظن
والتخمين ، واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص في قوله
ـ كنصر ـ أى كذب.
وبعد أن نفى ـ سبحانه
ـ عنهم أدنى ما يقال له علم وحصر ما هم عليه من دين في أدنى مراتب الظن مع أن
أعلاها لا يغنى من الحق شيئا ، ووصمهم بالكذب فيما يدعون ، بعد كل ذلك أثبت لذاته
ـ سبحانه ـ في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال :
__________________
(قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).
الحجة : كما قال
الراغب في مفرداته : الدلالة المبينة للمحجة ، أى : المقصد المستقيم.
أى : قل أيها
الرسول الكريم لهؤلاء المشركين الذين بنوا قواعد دينهم على الظن والكذب بعد أن
عجزوا عن الإثبات بأدنى دليل على مزاعمهم ، قل لهم : لله وحده الحجة البالغة. أى
البينة الواضحة التي بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة ، والتي وصلت إلى أعلى
درجات الكمال في قطع عذر المحجوج وإزالة الشكوك عمن تدبرها وتأملها.
وقوله. (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : لو شاء ـ سبحانه ـ هدايتكم جميعا لفعل ؛ لأنه لا
يعجزه شيء ، ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء هداية البعض لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك
طريق الحق ، وشاء ضلالة آخرين ، لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل.
ونريد أن نزيد هذه
الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم
للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله.
نحن معكم في أنه
لا يقع في ملكه ـ سبحانه ـ إلا ما يشاؤه ، فالطائع تحت المشيئة والعاصي تحت
المشيئة ، ولكن المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية وقضاء الله وقدره هو علمه
بكل ما هو كائن قبل أن يكون ، وليس العلم صفة تأثير وجبر.
ولقد شاء الله ـ تعالى
ـ أن يجعل في طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر ، ووهبهم العقل ليهتدوا به وأرسل
إليهم الرسل لينمو فيهم استعدادهم وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون
وما يدعون ، كي لا يتركهم لعقولهم وحدها.
وإذن فمشيئة الله
متحققة حسب سنته التي ارتضاها مختارا ـ وهو قادر على اختيار غيرها وعلى تغييرها
وتبديلها ـ متحققة سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال ، وهو مؤاخذ إن
ضل ومأجور إذا اهتدى. غير أن سنة الله اقتضدت أن من يفتح عينه يبصر النور ، ومن
يغمضها لا يراه ، كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى. ومن يحجب قلبه
عنها يضل ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإذن فزعم
الزاعمين بأن الله شاء هذا على معنى أنه أجبرهم عليه فهم لا يستطيعون عنه فكاكا ،
إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح فإن المشيئة الإلهية لها سنة
تقيدت بها ، وهذه السنة هي أنه لا جبر على طاعة ولا قسر على معصية.
وتقرير ذلك يؤخذ
من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : فلو شاء أن يكرهكم ويفرض هدايتكم بقدرته وقدره لهداكم
، ولكنه لم يشأ إجباركم على الضلالة ، فهي مشيئة المنح والتيسير وليست مشيئة
الإلجاء والتسخير قال ـ تعالى ـ (فَأَمَّا مَنْ
أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى).
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم بأن يطالب المشركين بإحضار من يشهد لهم بأن الله قد حرم
عليهم ما زعموا تحريمه من الحرث والأنعام وغيرها فقال :
(قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا).
هلم : لفظ يقصد به
الدعوة إلى الشيء ، وهي اسم فعل بمعنى أقبل إذا كان لازما ، وبمعنى أحضر وائت إذا
كان متعديا كما هنا ، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث في لغة
الحجازيين.
أى : أحضروا
شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه ، وهم كبراؤهم
الذين أسسوا ضلالهم.
والمقصود من
إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم الحجة ، وإظهار أنه لا متمسك لهم كمقلدين ، ولذلك قيد
الشهداء بالإضافة ، ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وبنصر
مذهبهم.
ثم قال ـ سبحانه ـ
(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أى : فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود الذين عرفوا بضلالهم فلا
تصدقهم ولا تقبل شهادتهم ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها فإن السكوت عن الباطل في
مثل هذا المقام كالشهادة به وإنما عليك أن تبين لهم بطلان زعمهم بواسطة ما آتاك
الله من حجج وبينات.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما ثم
أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت : أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة
ويلقمهم الحجر ، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوى
أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) يعنى فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم ، لأنه إذا سلم
لهم فكأنه شهيد معهم مثل شهادتهم وكان واحدا منهم .
ثم قال ـ سبحانه ـ
(وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى : ولا تتبع أهواء هؤلاء الناس الذين كذبوا بآياتنا التي
أنزلها الله عليك لتكون هداية ونورا لقوم يعقلون ، فإن شهادتهم ـ إن وقعت ـ فإنما
هي صادرة عن هوى وضلال.
__________________
ولم يقل ـ سبحانه
ـ ولا تتبع أهواءهم بل قال : ولا تتبع أهواء الذين كذبوا ، فوضع الظاهر موضع
الضمير لبيان أن المكذب بهذه الآيات والحجج الظاهرة إمعانا في التمسك بتقاليده
الباطلة ، إنما هو صاحب هوى وظن لا صاحب علم وحجة.
وقوله (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) عطف على الموصوف قبله لتعدد صفاتهم القبيحة.
أى : ولا تتبع
أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله ، وبين الكفر بالآخرة ، وبين جعلهم لله
عديلا أى شريكا مع أنه ـ سبحانه ـ هو الخالق لكل شيء ، لأن هذه الصفات لا تؤهلهم
لشهادة حق ، ولا للثقة بهم ، وإنما للاحتقار في الدنيا ، ولسوء العذاب في الآخرة.
وإلى هنا تكون
السورة الكريمة قد حكت في بضع عشرة آية جانبا من رذائل المشركين وسخف تقاليدهم
وعبث أهوائهم وفساد معاذيرهم وبطلان شبهاتهم وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويبطل
حجتهم ، فيما أحلوه وحرموه في شأن النذور والذبائح والمطاعم والمشارب وغير ذلك مما
حكته الآيات الكريمة.
ثم تنتقل السورة
بعد ذلك إلى أفق أرحب وأوسع ، وإلى ميدان أفسح وأشمل فتناديهم بأسلوب مؤثر بليغ
ليستمعوا إلى ما حرم الله عليهم فيجتنبوه وإلى ما كلفهم به فيعملوه ، تناديهم
ليتدبروا في الأصول الكلية التي تقوم عليها العقيدة السليمة ، ويسعد بها المجتمع ،
ويحيا في ظلها الأفراد والجماعات في أمان واطمئنان. تناديهم ليسمعوا البيان الصحيح
الحق فيما أحل الله وحرم من الأفعال والأقوال ليسمعوه ممن له وحده الحق في أن
يقوله ، وفي أن يتلقى عنه تناديهم فتقول :
(قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما
بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(١٥١)
وَلا
تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ
اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
(١٥٣)
إن المتأمل في هذه
الآيات يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه علاقة ينال بها السعادة والثواب ، ورسمت
له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والمحبة وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدى
إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ، وقد أطلق العلماء على هذه الآيات
الكريمة اسم «الوصايا العشر» نظرا لتذييل آياتها الثلاث بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).
روى الترمذي ـ بسنده
ـ عن ابن مسعود أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ
هذه الآيات (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ). إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ).
وروى الحاكم وصححه
، وابن أبى حاتم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ، ثم تلا قوله ـ تعالى
ـ : (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ). حتى فرغ منها ثم قال : من وفى بهن فأجره على الله ، ومن
انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان
أمره إلى الله ، إن شاء الله أخذه ، وإن شاء عفا عنه» .
وروى البيهقي عن
على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : لما أمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج إلى منى وأنا وأبو بكر
معه ، فوقف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على منازل القوم ومضاربهم. فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان
في القوم مفروق بن عمرو وهاني بن قبيصة
__________________
والمثنى بن حارثة
، والنعمان بن شريك ، وكان مفروق بن عمر وأغلب القوم لسانا وأفصحهم بيانا ، فالتفت
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال له :
إلام تدعو يا أخا
قريش؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم أدعوكم إلى شهادة أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأنى رسول الله ، وأن تؤوونى وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرنى به ،
فإن قريشا تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو
الغنى الحميد.
فقال له مفروق :
وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ). إلى آخر الآيات الثلاث.
فقال له مفروق :
وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم
لعرفناه. فتلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). الآية.
فقال له مفروق :
دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وقد أفك قوم كذبوك
وظاهروا عليك.
وقال هانئ بن
قبيصة : قد سمعت مقالتك ، واستحسنت قولك يا أخا قريش ، ويعجبني ما تكلمت به ،
فبشرهم الرسول ـ إن آمنوا ـ بأرض فارس وأنهار كسرى. فقال له النعمان : اللهم وإن
ذلك لك يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى
اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) ثم نهض رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
هذا جانب من فضائل
هذه الآيات الثلاث ، وذلك هو تأثيرها في نفوس العرب ، والآن فلنبدأ في التفسير
التحليلى لها فنقول :
لقد بدئت الآيات
بقوله ـ تعالى ـ (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ).
أى : قل أيها
الرسول الكريم لهؤلاء الذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم ، تعالوا إلى وأقبلوا نحوي
لأبين لكم ما حرمه ربكم عليكم ، ولأتلو على مسامعكم ما أمركم به ، وما نهاكم عنه
خالقكم ومربيكم ، فإنكم إن أقبلتم نحوي وأطعمتمونى سعدتم في دينكم ودنياكم.
وفي تصدير هذه الوصايا
بكلمة (قُلْ) إشعار من أول الأمر بأن هذا بيان إليه ، ليس الرسول فيه
إلا ناقلا مبلغا ، وفيه ـ أيضا ـ دلالة على أن المأمور به يحتاج إلى مزيد عناية
واهتمام وقد سبق أن بينا أن سورة الأنعام زاخرة بهذا الأسلوب التلقينى الذي يبدأ
بكلمة (قُلْ).
والأصل في كلمة
تعال أن يقولها من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم اتسع فيها
حتى عمت ، وهي
تتضمن إرادة تخليص المخاطبين ورفعتهم من انحطاط هم فيه إلى علو يراد لهم ويدعون
إليه ، وتتضمن كذلك أن المتكلم يريد منهم أن يلتفوا من حوله لتتحد وجهتهم ، ولا
تتفرق بهم الأهواء والسبل.
وفي قوله (أَتْلُ) إيماء قوى بأن المتكلم يقدر المخاطبين ، ويرتفع بهم إلى
درجة أنهم لا يحتاجون في الإرشاد إلا لأن يتلو عليهم ما يريدهم أن يعملوه ثم هم
بعد ذلك سيمتثلون لحسن استعدادهم لقبول الحق.
ـ وإنه لأسلوب قد
بلغ الغاية في اللطف وفي التكريم وفي حسن الموعظة وتوجيه الخطاب.
ـ وخص التحريم
بالذكر مع أن الوصايا قد اشتملت على المحرمات وعلى غيرها لأن سياق الآيات قبل ذلك
كان منصبا على كشف ما اخترعه المشركون من تحريم في الحرث والنسل ما أنزل الله به
من سلطان ، ولأن بيان أصول المحرمات يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل.
وفي نسبة التحريم
إلى الرب الذي هو منبع الخير والإحسان. حض لهم على التدبر والاستجابة. لأن الذي
حرم عليهم ذلك هو مربيهم ، فليس معقولا أن يحرم عليهم ما فيه منفعة لهم ، وإنما هو
بمقتضى ربوبيته قد حرم عليهم ما فيه ضررهم.
ـ وقوله (أَتْلُ) جواب الأمر ، أى : إن تأتونى أتل. و (ما) في قوله (ما حَرَّمَ) موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أى : أقرأ الذي حرمه ربكم
عليكم ، وهي في محل نصب مفعول به ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أى أتل تحريم ربكم ،
ونفس التحريم لا يتلى وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به ، أى : أتل محرم ربكم الذي
حرمه هو. و (عَلَيْكُمْ) متعلق بـ (حَرَّمَ) أو بـ (أَتْلُ).
قال بعض العلماء :
وهذه العبارة التي قدمت بها الوصايا ـ وهي (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) فيها إشعار بأن الحقائق الأولى التي قام عليها الجدال في
السورة قد أصبحت واضحة. لا مفر من قبولها والبناء عليها ، فالله ـ تعالى ـ يأمر
رسوله بأن يبلغهم ، وإذن فهناك إله من شأنه أن يرسل الرسل ، وهناك رسل من شأنهم أن
يتلقوا عن الله ، وهناك محرمات وردت من المصدر الذي يحق له التحريم وحده لأنه هو
الرب (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ثم هناك لازم عقلي لهذا التحريم هو أن من تعداه وانتهكه
كان مغضبا للرب الذي قرره. مستحقا لعقوبته ، وإذن فهناك دار للجزاء» . ولننظر بعد ذلك في الوصايا.
الوصية الأولى : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أى : أوصيكم ألا تشركوا مع الله في عبادتكم آلهة
__________________
أخرى. بل خصوه
وحده بالعبادة والخضوع والطاعة فإنه هو الخالق لكل شيء.
وصدر ـ سبحانه ـ هذه
الوصايا بالنهى عن الشرك ، لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إفسادا للفطرة ، ولأنه هو
الجريمة التي لا تقبل المغفرة من الله ، بينما غيره قد يغفره ـ سبحانه ـ قال ـ تعالى
ـ : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).
وقد ساق القرآن
مئات الآيات التي تدعو إلى الإيمان وتنفر من الشرك وتقيم الأدلة الساطعة ، والبراهين
الدامغة على وحدانية الله ـ عزوجل ـ.
هذا ، وقد ذكر
الشيخ الجمل في إعراب هذه الجملة الكريمة ألا تشركوا به شيئا عدة آراء منها :
١ ـ أنّ تكون أن
تفسيرية ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ، ولا ناهية ولا تشركوا مجزوم
بها.
٢ ـ أن تكون أن
ناصية للفعل بعدها ، وهي وما في حيزها في محل نصب بدلا من (ما حَرَّمَ) ولا زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) ، ولئلا يعلم.
٣ ـ تكون أن ناصبة
وما في حيزها منصوب على الإغراء بعليكم ويكون الكلام قد تم عند قوله (رَبُّكُمْ) ثم ابتدأ فقال : عليكم ألا تشركوا أى الزموا نفى الشرك.
٤ ـ أنها وما في
حيزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة ، والتقدير تعالوا أتل ما حرم ربكم
عليكم لئلا تشركوا به شيئا.
٥ ـ أن تكون هي
وما بعدها في محل نصب بإضمار فعل تقديره : أوصيكم ألا تشركوا.
ونكتفي بهذا القدر
من وجوه الإعراب التي توسع فيها النحاة توسعا كبيرا ، بسبب ورود بعض هذه الوصايا
بصيغة النهى ، وبعضها بصيغة الأمر ، مع تقدم فعل التحريم على جميعها .
أما الوصية
الثانية : في قوله ـ تعالى ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) أى : أحسنوا بهما إحسانا كاملا لا إساءة معه.
وقد قرن ـ سبحانه
ـ هذه الوصية بالوصية الأولى التي هي توحيده وعدم الإشراك به ، في هذه الآية وفي
غيرها ، للإشعار بعظم هذه الوصية وللتنبيه إلى معنى واحد ـ يجمعها مع الأولى وهو
أن المنعم يجب أن يشكر ؛ فالوالدان سبب في حياة الولد فيجب أن يشكرهما ويحسن
إليهما ، والله ـ تعالى ـ هو الخالق المنعم فيجب أن يشكر ويفرد بالعبادة والطاعة.
__________________
ـ قال بعض العلماء
: وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين ،
ولم تذكر بأسلوب النهى عن المحرم وهو الإساءة ، سموا بالإنسان عن أن تظن به
الإساءة إلى الوالدين ، وكأن الإساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج
إلى النهى عنها ، ولأن الخير المنتظر من هذه الوصية وهو تربية الأبناء على
الاعتراف بالنعم وشكر المنعمين عليها إنما يتحقق بفعل الواجب ، وهو الإحسان لا
بمجرد ترك المحرم وهو الإساءة. لهذا وذاك قال ـ سبحانه ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).
ـ والإحسان يتعدى
بحرفى الباء وإلى ، فقال : أحسن به ، وأحسن إليه ، وبينهما فرق واضح ، فالباء تدل
على الإلصاق ، وإلى تدل على الغاية ، والإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول «الباء»
دون انفصال ولا مسافة بينهما ، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول إلى ولو كان
منه على بعد أو كان بينهما واسطة ، ولا شك أن الإلصاق في هذا المقام أبلغ في تأكيد
شأن العناية والإحسان بالوالدين ، ومن هنا لم يعد الإحسان بالباء في القرآن إلا
حيث أريد ذلك التأكيد ، وقد جاءت جميع الآيات القرآنية التي توحى بالإحسان
بالوالدين على هذا الأسلوب» .
ثم جاءت الوصية
الثالثة وهي قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).
الإملاق : الفقر ،
مصدر أملق الرجل إملاقا إذا احتاج وافتقر.
أى : لا تقتلوا
أولادكم الصغار من أجل الفقر فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم.
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها).
ولا شك أن الحياة
حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم. فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص
منهم خوفا من الفقر ، مع أن الله ـ تعالى ـ هو الرازق لكم ولهم.
والمجتمع الذي
يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه
مجتمع نفعي تسوده الأثرة والأنانية ، ويكون في الوقت نفسه مجتمعا أفراده يسودهم التشاؤم
، وتتغشاهم الأوهام ، لأنهم يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم حقهم من الرزق ،
ويعتدون على روح بريئة طاهرة تخوفا من جريمة متوهمة ، وذلك هو الضلال المبين.
ـ وقد روى النهى
عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد في سورة الإسراء بصيغة أخرى هي قوله ـ تعالى
ـ (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) وليس إحداهما
__________________
تكرارا للأخرى.
وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة.
ـ فهنا يقول ـ سبحانه
ـ (مِنْ إِمْلاقٍ) أى : لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم أيها الآباء لذا
قال : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ) فجعل الرزق للآباء ابتداء ، لأن الفقر الذي يقتلون من أجله
أولادهم حاصل لهم فعلا.
ـ وفي سورة
الإسراء يقول : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أى : خوفا من فقر ليس حاصلا ، ولكنه متوقع بسبب الأولاد
ولذا قال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ) فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، ليكف الآباء عن
هذا التوقع ، وليضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.
ففي كلتا الحالتين
القرآن ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس في نفوس الآباء الثقة بالله ، والاعتماد عليه.
وجملة (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) تعليلية لإبطال ما اتخذوه سببا لمباشرة جريمتهم ، وضمان
منه ـ سبحانه ـ لأرزاقهم أى : نحن نرزق الفريقين لا أنتم وحدكم ، فلا تقدموا على
تلك الجريمة النكراء وهي قتل الأولاد لأن الأولاد قطعة من أبيهم ، والشأن حتى في
الحيوان الأعجم أنه يضحى من أجل أولاده ، ويحميهم ويتحمل الصعاب في سبيلهم.
أما الوصية
الرابعة فتقول : (وَلا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) الفواحش. جمع فاحشة وهي كما قال الراغب في مفرداته ـ ما عظم
قبحه من الأقوال والأفعال يقال : فحش فلان ، أى صار فاحشا مرتكبا للقبائح ،
والمتفحش هو الذي يأتى بالفحش من القول أو الفعل ، كالسرقة والزنا والنميمة وشهادة
الزور.
وأنهاكم عن أن
تقتربوا من الأقوال والأفعال القبيحة ما كان منها ظاهرا وما كان منها خافيا.
وقد تعلق التحريم
والنهى بهذا الوصف الذي يشعر بالعلة ـ كما يقول علماء الأصول ـ فكأنه قال. إن كل
قول أو فعل تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب البعد عنها.
والمجتمع الذي
يؤمن بأن هناك «فواحش» يجب أن تجتنب ، و «محاسن» يجب أن تلتمس هو المجتمع الفاضل
الطهور.
أما المجتمع الذي
يسوى بين القبيح والحسن ، ويقوم على الإباحية التي لا تفرق بين ما يجب أن يفعل وما
يجب أن يترك ، فلا بد أن يكون مصيره إلى التدهور والتعاسة والمهانة.
وجملة (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل اشتمال من الفواحش.
وتعليق النهى
بقربانها للمبالغة في الزجر عنها لأن قربانها قد يؤدى إلى مباشرتها ، فمن حام حول
الحمى يوشك أن يقع فيه ، وهذا لون حكيم من ألوان الإصلاح ، لأنه إذا حصل النهى
عن القرب من الشيء
، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى.
ثم جاءت الآية في
ختامها بالوصية الخامسة فقالت : (وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).
أى : لا تقتلوا
النفس التي حرم الله قتلها بأن عصمها بالإسلام إلا بالحق الذي يبيح قتلها شرعا
كردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم.
قال ابن كثير :
وهذا مما نص ـ تبارك وتعالى ـ على النهى عنه تأكيدا ، وإلا فهو داخل في النهى عن
الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول
الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق
للجماعة» .
وقوله (إِلَّا بِالْحَقِ) في محل نصب على الحال من فاعل (تَقْتُلُوا) أى : لا تقتلوها ملتبسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفا لمصدر
محذوف أى : قتلا ملتبسا بالحق ، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أى : لا
تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق.
وذلك لأن الإسلام
ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناه الله فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق ، وبذلك
يقرر عصمة الدم الإنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة فكأنما قد اعتدى على
الناس جميعا : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).
ثم ختمت الآية
بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
أى : ذلكم الذي
ذكرناه لكم من وصايا جليلة ، وتكاليف حكيمة ، وصاكم الله به ، وطلبه منكم. لعلكم
تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح.
فاسم الإشارة (ذلِكُمْ) مشار به إلى الوصايا الخمس السابقة ، وهو مبتدأ وجملة
وصاكم به خبر. ولفظ وصاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له ـ تعالى ـ ما يحمل
النفوس على الطاعة والاستجابة.
هذه هي الوصايا
الخمس التي تضمنتها الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث وكلها تشترك في معنى واحد
هو أنها حقائق أو حقوق ثابتة في نفسها ، ولم يكن ثبوتها إلا تجاوبا مع الفطرة ،
فالله واحد سواء آمن الناس بهذه الحقيقة عقيديا وعمليا أم لم يؤمنوا ، وشكر النعمة
يقتضى الإحسان
__________________
إلى الوالدين طبعا
ووضعا ، وللنسل حق الحياة والحفظ ، والفواحش فحش ونكر في ذاتها فيجب أن تجتنب ،
والنفوس معصومة فليس لأحد أن يهدمها إلا بحق ، ولاتفاقها كلها في هذا المعنى جاءت
في آية واحدة ، وختمت بعبارة تفيد أن هذا مرجعه إلى حكم العقول (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
والوصية السادسة
تأتى في مطلع الآية الثانية فتقول : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).
أى : لا تقربوا
مال اليتيم الذي فقد الأب الحانى ، ولا تتعرضوا لما هو من حقه بوجه من الوجوه إلا
بالوجه الذي ينفعه في الحال أو المآل ، كتربيته وتعليمه ، وحفظ ماله واستثماره.
وإذن ، فكل تصرف
مع اليتيم أو في ماله لا يقع في تلك الدائرة ـ دائرة الأنفع والأحسن ـ محظور ،
ومنهى عنه.
قال بعض العلماء :
وكثيرا ما يتعلق النهى في القرآن بالقربان من الشيء ، وضابطه بالاستقراء : أن كل
منهى عنه كان من شأنه أن تميل إليه النفوس وتدفع إليه الأهواء النهى فيه عن «القربان»
ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل في النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف
المحرم ، وكان من ذلك في الوصايا السابقة النهى عن الفواحش ، ومن هذا الباب (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ*) و (لا تَقْرَبُوا الزِّنى وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) إلخ.
أما المحرمات التي
لم يؤلف ميل النفوس إليها ولا اقتضاء الشهوات لها ، فإن الغالب فيها أن يتعلق
النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه. ومن ذلك في الوصايا السابقة الشرك بالله ،
وقتل الأولاد ، وقتل النفس التي حرم الله قتلها ، فإنها وإن كان الفعل المنهي عنه
فيها أشد قبحا وأعظم جرما عند الله من أكل مال اليتيم وفعل الفواحش ، إلا أنها
ليست ذات دوافع نفسية يميل إليها الإنسان بشهوته ، وإنما هي في نظر العقل على
المقابل من ذلك ، يجد الإنسان في نفسه مرارة من ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو
كاره لها أو في حكم الكاره» .
وقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى فإذا بلغ أشده فاقربوه لأن
هذا يقتضى إباحة أكل الولي له بعد بلوغ الصبى ، بل هو غاية لما يفهم من النهى كأنه
قيل : احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموا إليه ماله.
والخطاب للأولياء
والأوصياء. أى : احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغه فادفعوه إليه.
والأشد : قوة
الإنسان واشتعال حرارته : من الشدة بمعنى القوة والارتفاع. يقال : شد النهار إذا
ارتفع. وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. ولا واحد له.
__________________
والوصية السابعة :
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).
أى : أتموا الكيل
إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما
تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون.
فالجملة الكريمة
أمر من الله ـ تعالى ـ لعباده بإقامة العدل في التعامل : بحيث يعطى صاحب الحق حقه
من غير نقصان ولا بخس ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة.
والكيل والوزن :
مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن ، كالعيش بمعنى ما يعاش به. وبالقسط حال من
فاعل أوفوا أى : أوفوهما مقسطين أى : متلبسين بالقسط. ويجوز أن يكون حالا من
المفعول أى : أوفوا الكيل والميزان بالقسط أى : تامّين.
وهذه الوصية هي
مبدأ العدل والتعادل ، وكل مجتمع محتاج إليها ، فالناس لا بد لهم من التعامل ، ولا
بد لهم من التبادل ، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك ، فلا بد من أن يكونا منضبطين
بالقسط.
والمجتمعات
الأمينة التي لا تجد فيها أحدا يغبن عن جهل أو غفلة ، وهي أيضا المجتمعات الأمينة
التي لا تجد فيها من يحاول أن يأخذ أكثر من حقه. أو يعطى أقل مما يجب عليه.
وقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أى : لا نكلف نفسا إلا ما يسعها ولا يعسر عليها.
والجملة مستأنفة
جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، للترخيص فيما خرج عن الطاقة ،
ولبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج وذلك لأن التبادل التجارى لا يمكن أن
يتحقق على وجه كامل من المساواة أو التعادل ، فلا بد من تقبل اليسير من الغبن في
هذا الجانب أو ذاك.
والوصية الثامنة
تقول : (وَإِذا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى).
أى : وإذا قلتم
قولا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو عليه صاحب قرابة منكم.
إذ العدل هو أساس
الحكم السليم : العدل في القول ، والعدل في الحكم ، والعدل في كل فعل.
وإنما خصصت الآية
العدل في القول مع أن العدل مطلوب في الأقوال والأفعال وفي كل شيء ، لأن أكثر ما
يكون فيه العدل أقوال كالشهادة ، والحكم ، ثم الأقوال هي التي تراود النفوس في كل
حال. فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية يحدث نفسه في شأنها
، ويراوده معنى العدل وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده ، فيقول في نفسه سأفعل كذا
لأنه العدل ، فإذا لم يكن صادقا في هذا القول فقد جافى العدل وقال زورا وكذبا.
أما قوله (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته من التأثر بصلات القربى
في المحاباة للأقرباء والظلم لغيرهم.
فالقرآن يرتفع
بالضمير البشرى إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ، بأن يكلفه
بتحرى العدل في كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه.
أما الوصية
التاسعة والأخيرة في هذه الآية فهي قوله ـ تعالى ـ (وَبِعَهْدِ اللهِ
أَوْفُوا) أى : كونوا أوفياء مع الله في كل ما عهد إليكم به من
العبادات والمعاملات وغيرها.
إذ الوفاء أصل من
الأصول التي يتحقق بها الخير والصلاح ، وتستقر عليها أمور الناس.
وقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) يفيد الحصر لتقديم المعمول ، وفي هذا إشعار بأن هناك عهودا
غير جديرة بأن تنسب إلى الله ، وهي العهود القائمة على الظلم أو الباطل ، أو
الفساد ، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام ، ويجب العمل على التخلص منها.
ثم ختمت الآية
بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أى : ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي
وصاكم الله به في كتابه رجاء أن تتذكروا وتعتبروا وتعملوا بما أمرتم به وتجتنبوا
ما نهيتم عنه أو رجاء أن يذكّر بعضكم بعضا فإن التناصح واجب بين المسلمين.
أما الوصية
العاشرة فهي قوله ـ تعالى ـ في الآية الثالثة من هذه الآيات : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
قرأ الجمهور بفتح
همزة (أَنَ) وتشديد النون. ومحلها مع ما في حيزها الجر بحذف لام العلة.
أى : ولأن هذا الذي وصيتكم به من الأوامر والنواهي طريقي وديني الذي لا اعوجاج فيه
، فمن الواجب عليكم أن تتبعوه وتعملوا به.
ويحتمل أن يكون
محلها مع ما في حيزها النصب على (ما حَرَّمَ) أى : وأتلو عليكم أن هذا صراطي مستقيما.
وقرأ حمزة
والكسائي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف.
وقوله (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) يعنى الأديان الباطلة ، والبدع والضلالات الفاسدة (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أى. فتفرقكم عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام الذي
ارتضاه لكم.
روى الإمام أحمد
عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : خط لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن
شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً).
وقد أفرد ـ سبحانه
ـ الصراط المستقيم وهو سبيل الله ، وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل
ما خالفه وهو كثير فيشمل الأديان الباطلة ، والبدع الفاسدة ، والشبهات الزائفة ،
والفرق الضالة وغيرها.
ثم ختمت الآية
بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى : ذلكم المذكور من اتباع سبيله ـ تعالى ـ وترك اتباع
السبل وصاكم الله به لعلكم تتقون اتباع سبل الكفر والضلالة ، وتعملون بما جاءكم به
هذا الدين.
قال أبو حيان :
ولما كانت الخمسة المذكورة في الآية الأولى من الأمور الظاهرة الجليلة مما يجب
تعلقها وتفهمها ختمت الآية بقوله (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) ، ولما كانت الأربعة المذكورة في الآية الثانية خافية
غامضة ولا بد فيها من الاجتهاد والتفكر حتى يقف الإنسان فيها على موضع الاعتدال
ختمت بقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وأمر ـ سبحانه
ـ باتباعه ونهى عن اتباع السبل المختلفة ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار ، إذ
من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية» .
وبعد : فهذه هي
الوصايا العشر التي جاءت بها هذه الآيات الكريمة ، والمتأمل فيها يراها قد وضعت
أساس العقيدة السليمة في توحيد الله ـ تعالى ـ وبنت الأسرة الفاضلة على أساس
الإحسان بالوالدين والرحمة بالأبناء ، وحفظت المجتمع من التصدع عن طريق تحريمها
لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض ، ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله التي هي منبع كل
خير وسبيل كل فلاح.
فأين المسلمون
اليوم من هذه الوصايا؟ إنهم لو عملوا بها لعزوا في دنياهم ولسعدوا في أخراهم ، فهل
تراهم فاعلون؟.
اللهم خذ بيدنا
إلى ما يرضيك وجنبنا مالا يرضيك.
ولما كان هذا
الصراط قديما ، والديانات قبله كانت في اتجاهه ، أشار ـ سبحانه ـ إلى موسى وكتابه
، وبين منزلة هذا القرآن ، وأمر الناس باتباعه فقال :
(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ
__________________
رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)
أَنْ
تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ
كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦)
أَوْ
تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ
فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ
عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)
(١٥٧)
قال الآلوسى :
قوله (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ). إلخ. كلام مستأنف مسوق من جهته ـ تعالى ـ تقريرا للوصية
وتحقيقا لها ، وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير
الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه
قيل بعد قوله (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ) بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه ، فعلنا ذلك (ثُمَّ آتَيْنا) وقيل عطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ). وعند الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة ، كأنه قيل : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ثم أتل عليهم ما آتاه الله موسى .
وكلمة ثم لا تفيد
الترتيب الزمنى هنا ، وإنما تفيد عطف معنى على معنى ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : لقد
بينت لكم في هذه الوصايا ما فيه صلاحكم ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب وهو التوراة
ليكون هدى ونورا.
وقوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قرأ الجمهور أحسن بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله ضمير
الذي ، أى : آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على من أحسن القيام به كائنا
من كان. فالذي لجنس المحسنين.
وتدل عليه قراءة
عبد الله «تماما على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين».
ويجوز أن يكون
فاعل أحسن ضمير موسى ـ عليهالسلام ـ ومفعوله محذوف أى : آتينا
__________________
موسى الكتاب تتمة
للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل أمر وهو موسى ـ عليهالسلام ـ و «تماما» مفعول لأجله أى : آتيناه لأجل تمام نعمتنا ،
أو حال من الكتاب ، أى : حال كونه أى الكتاب تاما. أو مصدر لقوله «آتينا» من معناه
، لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة. كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماما. فهو «كنباتا»
في قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أى إنباتا.
وقرأ يحيى بن يعمر
«على الذي أحسن» بضم النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، و «الذي» وصف للدين أى :
تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه.
قال ابن جرير :
وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح ، لخلافها ما
عليه الحجة مجمعة من قراء الأمصار» .
وقوله : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) معطوف على ما قبله ، أى : وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه
قومه في أمور دينهم ودنياهم.
وقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أى : هذا الكتاب هداية لهم إلى طريق الحق ، ورحمة لمن عمل
به لعلهم ـ أى قوم موسى وسائر أهل الكتاب ـ يصدقون بيوم الجزاء ، ويقدمون العمل
الصالح الذي ينفعهم في هذا اليوم الشديد.
ثم بين ـ سبحانه ـ
منزلة القرآن فقال : (وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أى : وهذا القرآن الذي قرأ عليكم أوامره ونواهيه رسولنا صلىاللهعليهوسلم كتاب عظيم الشأن أنزلناه بواسطة الروح الأمين ، وهو جامع
لكل أسباب الهداية الدائمة ، والسعادة الثابتة.
(فَاتَّبِعُوهُ) أى : اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام.
(وَاتَّقُوا) مخالفته واتباع غيره.
(لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) أى : لترحموا بواسطة اتباعه والعمل بما فيه.
ثم قطع ـ سبحانه ـ
عذر كل من يعرض عن هذا الكتاب فقال : (أَنْ تَقُولُوا
إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ).
أى : أنزلنا هذا
الكتاب لهدايتكم كراهة أن تقولوا يوم القيامة ، أو لئلا تقولوا لو لم ننزله : إنما
أنزل الكتاب الناطق بالحجة على جماعتين كائنتين من قبلنا وهما اليهود والنصارى ،
وإنا كنا عن تلاوة كتابهم لغافلين لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.
__________________
فقوله : (أَنْ تَقُولُوا) مفعول لأجله والعامل فيه أنزلناه مقدرا مدلولا عليه بنفس
أنزلناه الملفوظ به في الآية السابقة أى : أنزلناه كراهية أن تقولوا.
وقيل إنه مفعول به
والعامل فيه قوله في الآية السابقة ـ أيضا ـ (وَاتَّقُوا ...) أى. واتقوا قولكم كيت وكيت. وقوله (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) معترض جار مجرى التعليل.
والمراد بالكتاب
جنسه المنحصر في التوراة والإنجيل والزبور.
وتخصيص الإنزال
بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا من بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.
والخطاب لكل من
أرسل إليهم الرسول صلىاللهعليهوسلم.
ثم ساق ـ سبحانه ـ
آية أخرى لقطع أعذارهم فقال (أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ).
أى : وأنزلنا
الكتاب ـ أيضا ـ خشية أن تقولوا معتذرين يوم القيامة لو أنا أنزل علينا الكتاب كما
أنزل على الذين من قبلنا ، لكنا أهدى منهم إلى الحق وأسرع منهم استجابة لله
ولرسوله لمزيد ذكائنا ، وتوقد أذهاننا ، وتفتح قلوبنا.
وقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) جواب قاطع لأعذارهم وتعلاتهم أى : فقد جاءكم من ربكم عن
طريق نبيكم محمد صلىاللهعليهوسلم هذا الكتاب الواضح المبين ، والذي هو هداية لكم إلى طريق
الحق ، ورحمة لمن يعمل بما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات.
وقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أى : لا
تعتذروا فقد جاءكم ... وإما شرط له أى : إن صدقتم فيما كنتم تعدون به. فقد حصل ما
فرضتم وجاءكم بينة من ربكم.
والاستفهام في
قوله (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) للإنكار والنفي. أى : لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله
وأعرض عنها بعد أن جاءته ببيناتها الكاملة ، وهداياتها الشاملة.
والفاء لترتيب ما
بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية
من يكذبه أى : وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم ..؟ ومعنى : وصدف عنها أى : أعرض عنها
غير متفكر فيها ، أو صرف الناس عنها وصدهم عن سبيلها. فجمع بين الضلال والإضلال.
ثم ختم ـ سبحانه ـ
الآية بتهديد أولئك المعرضين عن آياته بقوله :
(سَنَجْزِي الَّذِينَ
يَصْدِفُونَ
عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أى : سنجزيهم أسوأ العذاب وأشده بسبب تكذيبهم لآياتنا
وإعراضهم عنها.
فالآيتان
الكريمتان تقطعان كل عذر قد يتعلل به يوم القيامة المكذبون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وللقرآن الكريم ، وتتوعدهم بأشد ألوان العذاب.
ثم يمضى القرآن في
تهديدهم خطوة أخرى. ردا على ما كانوا يطلبون من الآيات الخارقة ، وتحذيرا من
إعراضهم وتقاعسهم عن طريق الحق مع أن الزمن لا يتوقف ، والفرص لا تعود فيقول :
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً
قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما
أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)
(١٦٠)
أى : ما ينتظر
مشركو مكة وغيرهم من المكذبين بعد إعراضهم عن آيات الله إلا أن تأتيهم الملائكة
لقبض أرواحهم من أجسادهم.
والجملة الكريمة
مستأنفة لبيان أنهم لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى.
قال البيضاوي :
وهم ما كانوا منتظرين لذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين.
وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أى : إتيانا يناسب ذاته الكريمة بدون كيف أو تشبيه للقضاء
بين الخلق يوم القيامة ، وقيل المراد بإتيان الرب ، إتيان ما وعد به من النصر
للمؤمنين والعذاب للكافرين.
وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أى : بعض علامات قيام الساعة ، وذلك قبل يوم القيامة ،
وفسر في الحديث بطلوع الشمس من مغربها.
فقد روى البخاري
عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا تقوم الساعة
حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل».
وفي رواية لمسلم
والترمذي عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من
قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض».
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه عند مجيء علامات الساعة لا ينفع الإيمان فقال :
(يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً).
أى : عند مجيء بعض
أشراط الساعة ، يذهب التكليف ، فلا ينفع الإيمان حينئذ نفسا كافرة لم تكن آمنت قبل
ظهورها ، ولا ينفع العمل الصالح نفسا مؤمنة تعمله عند ظهور هذه الأشراط ، لأن
العمل أو الإيمان عند ظهور هذه العلامات لا قيمة له لبطلان التكليف في هذا الوقت.
قال الطبري : معنى
الآية لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع ـ أى طلوع الشمس من مغربها ـ إيمان بعد
الطلوع. ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع ، بعد الطلوع. لأن حكم
الإيمان والعمل الصالح حينئذ. حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة ، وذلك لا يفيد شيئا.
كما قال ـ تعالى ـ (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وكما ثبت في الحديث الصحيح : إن الله يقبل توبة العبد ما
لم يغرغر» .
وقال ابن كثير :
إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لم يقبل منه ، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان
مصلحا في عمله فهو بخير عظيم ، وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه
توبته ، كما دلت عليه الأحاديث ، وعليه يحمل قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أى : لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل
ذلك» .
وقوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) تهديد لهم. أى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : انتظروا
__________________
ما تنتظرونه من
إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أى شيء تنتظرون ، فإنا منتظرون معكم لنشاهد ما يحل
بكم من سوء العاقبة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أحوال الفرق الضالة بوجه عام فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
أى : إن الذين
فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة ، ومذاهب
متباينة : (وَكانُوا شِيَعاً) أى فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها
ومتعها ومنافعها بدون نظر إلى الحق.
وقوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) تهديد لهم. أى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : انتظروا ما
تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أى شيء تنتظرون ، فإنا منتظرون معكم
لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أحوال الفرق الضالة بوجه عام فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
أى : إن الذين
فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة ، ومذاهب
متباينة : (وَكانُوا شِيَعاً) أى فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها
ومتعها ومنافعها بدون نظر إلى الحق.
وقوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أى : أنت برىء منهم محمى الجناب عن مذاهبهم الباطلة ،
وفرقهم الضالة. أو لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء إذ هم قد انطمست قلوبهم
فأصبحوا لا يستجيبون لمن يدعوهم إلى الهدى.
وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) تعليل للنفي المذكور قبله أى : هو يتولى وحده أمرهم جميعا
، ويدبره حسب ما تقتضيه حكمته ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما
يصنعون».
وقوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا
يَفْعَلُونَ) أى : ثم يخبرهم يوم القيامة بما كانوا يفعلونه في الدنيا
من آثام وسيئات ، ويعاقبهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات.
والآية الكريمة
عامة في كل من فارق تعاليم الإسلام سواء أكان مشركا أم كتابيا ، ويندرج فيها أصحاب
الفرق الباطلة والمذاهب الفاسدة في كل زمان ومكان ، كالقاديانية ، والباطنية ،
والبهائية ، وغير ذلك من أصحاب الأهواء والبدع والضلالات.
قال ابن كثير : «والظاهر
أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له ، فإن الله
بعث رسوله بالهدى
ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف
فيه (وَكانُوا شِيَعاً) أى : فرقا كأهل الأهواء والملل والنحل والضلالات ، فإن
الله قد برأ رسوله منهم. وهذه الآية كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). الآية.
وفي الحديث : «نحن
معاشر الأنبياء أولاد علات. ديننا واحد» فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به
الرسل من عبادة الله وحده والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات
وجهالات وآراء وأهواء ، والرسل برآء منها كما قال ـ تعالى ـ (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) .
ثم بين ـ سبحانه ـ
لطفه في حكمه ، وفضله على عباده ، بمناسبة الحديث عن الجزاء فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها).
أى : من جاء يوم
القيامة بالأعمال الحسنة. فله عشر حسنات أمثالها في الحسن ، فضلا من الله ـ تعالى
ـ وكرما.
قال بعضهم : وذلك
ـ ولله المثل الأعلى ـ كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته لا
قيمة العنقود. والعشر أقل ما وعد من الأصناف ، وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة
وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.
(وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ) أى : بالأعمال السيئة (فَلا يُجْزى إِلَّا
مِثْلَها) أى : فلا يجزى بحكم الوعد إلا بمثلها في العقوبة واحدة
بواحدة (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ربك لا يظلم أحدا.
وقد وردت أحاديث
كثيرة في معنى الآية منها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله ـ تعالى ـ : إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة
فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلى فاكتبوها
له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة. فإن عملها
فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة».
ثم ختمت السورة
الكريمة بخمس آيات جامعة لوجوه الخير ، من تأملها تجلى له أنها ختام حكيم يناسب
هذه السورة التي هي سورة البلاغ والإعلان ، والمبادئ العليا لدعوة الإيمان.
أما الآيات الخمس
فهي قوله ـ تعالى ـ :
__________________
(قُلْ إِنَّنِي
هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢)
لا
شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
قُلْ
أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)
(١٦٥)
أى : قل يا محمد
لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم ، قل لهم جميعا :
لقد هداني خالقي ومربينى إلى دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده (دِيناً قِيَماً) أى : ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع
والكتب.
وقوله (دِيناً) نصب على البدل من محل (إِلى صِراطٍ) لأن معناه هداني صراطا ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور.
أى : عرفني دينا.
وقوله (قِيَماً) صفة ل (دِيناً) والقيّم والقيم لغتان بمعنى واحد وقرئ بهما.
وقوله (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) منصوب بتقدير أعنى أو عطف بيان ل (دِيناً) و (حَنِيفاً) حال من إبراهيم. أى : هداني ربي ووفقني إلى دين الإسلام
الذي هو الصراط المستقيم والدين القيم المتفق مع ملة إبراهيم الذي كان مائلا عن كل
دين باطل إلى دين الحق ، والذي ما كان أبدا (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مع الله آلهة أخرى في شأن من شئونه. لا كما يزعم المشركون
وأهل الكتاب أن إبراهيم كان على دينهم.
ثم قل لهم للمرة
الثانية : إن صلاتي التي أتوجه بها إلى ربي (وَنُسُكِي) أى عبادتي وتقربي إليه ـ وهو من عطف العام على الخاص ـ وقيل
المراد به ذبائح الحج والعمرة. (وَمَحْيايَ
وَمَماتِي)
أى : ما أعمله في
حياتي من أعمال وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح.
كل ذلك (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فأنا متجرد تجردا كاملا لخالقي ورازقي بكل خالجة في القلب
، وبكل حكة في هذه الحياة.
فهو ـ سبحانه ـ رب
كل شيء. ولا شريك له في ملكه ، بذلك القول الطيب ، وبذلك العمل الخالص أمرت وأنا
أول المسلمين الممتثلين لأوامر الله والمنتهين عن نواهيه من هذه الأمة.
ثم قل لهم للمرة
الثالثة على سبيل التعجب من حالهم ، والاستنكار لواقعهم : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أى : أغير الله ـ تعالى ـ تريدونني أن أطلب ربا فأشركه في
عبادته ، والحال والشأن أنه ـ سبحانه ـ هو رب كل شيء ومليكه ، وهو الخالق لكل شيء.
فجملة (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) حال في موضع العلة لإنكار ما هم عليه من ضلال.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن كل إنسان مجازى بعمله فقال : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها). أى : لا تجترح نفس إثما إلا عليها من حيث عقابه. فلا
يؤاخذ سواها به ، وكل مرتكب لإثم فهو وحده المعاقب به.
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) أى : ولا تحمل نفس مذنبة ولا غير مذنبة ذنب نفس أخرى ،
وإنما تتحمل الآثمة وحدها عقوبة إثمها الذي ارتكبته بالمباشرة أو بالتسبب.
قال القرطبي :
وأصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ
وِزْرَكَ) وهو هنا الذنب كما في قوله تعالى (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى
ظُهُورِهِمْ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
نهايتهم فقال : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ) أى : رجوعكم بعد الموت يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) بتمييز الحق من الباطل ، ومجازاة كل إنسان بما يستحقه من
خير أو شر على حسب عمله.
ثم ختمت السورة
بهذه الآية (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أى : خلائف القرون الماضية ، فأورثكم أرضهم لتخلفوهم فيها
وتعمروها بعدهم.
وخلائف : جمع
خليفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة ، لأنه يخلفه.
وقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ) أى : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ
والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ
العلة في ذلك فقال : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي
ما آتاكُمْ) أى : ليختبركم في الذي أنعم به عليكم ، يختبر الغنى في
غناه ويسأله عن شكره ، ويختبر الفقير في فقره ويسأله عن صبره.
وفي الحديث الشريف
الذي رواه الإمام مسلم عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها فناظر
كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في
النساء».
ثم رهب ـ سبحانه ـ
من معصيته ، ورغب في طاعته فقال. (إِنَّ رَبَّكَ
سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه وخالف رسله. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ) لمن أطاعه واتبع سبيل المؤمنين الصادقين.
أما بعد : فهذه هي
سورة الأنعام التي عالجت من مبدئها إلى نهايتها قضية العقيدة بكل مقوماتها علاجا
قويا حكيما يهدى إلى الرشد لمن عنده الاستعداد لذلك ، والتي طوفت بالنفس البشرية
في الكون كله لترشدها إلى خلق هذا الكون ، وتجعلها تستجيب له وتنتفع بما منحها من
نعم ، والتي كشفت عن مواطن الشرك ومظاهره في كل مظانه ومكانه. لتدمغه وتدحضه وتخلص
النفس البشرية والحياة الإنسانية من أمراضه وأدرانه.
تلك هي سورة
الأنعام التي نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة وذلك تفسير تحليلي لها ، لا
نزعم أننا استقصينا فيه كل ما يتعلق بهذه السورة الكريمة ، من توجيهات وهدايات ،
وإنما هو قبسات من نور القرآن الكريم ، نرجو الله أن ينفع به ، وأن يجعله خالصا
لوجهه الكريم.
(رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير
سورة الأعراف
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
مقدّمه
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد : فهذا تفسير
تحليلي لسورة الأعراف ، توخينا فيه أن نبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من
توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات شاملة ، وحكم جليلة.
والله نسأل أن
يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
(رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا
إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا
، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة ـ مدينة نصر
١٤ / ٢ / ١٤٠٥ ه ـ ٧ / ١٢ / ١٩٨٤ م
|
د. محمد سيد طنطاوى
|
تمهيد بين يدي السورة
١ ـ سورة الأعراف
هي السورة السابعة في الترتيب المصحفى ، وهي أطول سورة مكية في القرآن الكريم ،
وعدد آياتها ست ومائتا آية.
والرأى الراجح عند
العلماء أنها جميعها مكية ، وقيل إن الآيات من ١٦٣ ـ ١٧٠ مدنية ، وكان نزولها بعد
سورة «ص».
٢ ـ ومناسبتها
لسورة الأنعام التي قبلها أن سورة الأعراف تعتبر كالتفصيل لها ، فإن سورة الأنعام
قد تكلمت عن أصول العقائد وكليات الدين كلاما إجماليا ، ثم جاءت سورة الأعراف
فكانت كالشرح والتفصيل لذلك الإجمال ، خصوصا فيما يتعلق بقصص الأنبياء مع أقوامهم
وبعثة النبي صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ مقاصدها
ومميزاتها : وقد اشتملت سورة الأعراف على المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها
السور المكية ، كإقامة الأدلة على وحدانية الله ، وعلى صدق رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وعلى أن يوم القيامة حق .. إلخ.
والذي يتأمل هذه
السورة الكريمة يراها تهتم بعرض الحقائق في أسلوبين بارزين فيها ، أحدهما أسلوب
التذكير بالنعم ، والآخر أسلوب التخويف من العذاب والنقم.
أما أسلوب التذكير
بالنعم فتراه واضحا في لفتها لأنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم
في الأرض ، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا
الكون من خيرات سخرها الله له.
وأما أسلوب
التخويف بالعذاب فالسورة الكريمة زاخرة به ، تلمس ذلك في قصص نوح ، وهود ، وصالح.
ولوط ، وشعيب ، وموسى ـ عليهمالسلام ـ مع أقوامهم.
وقد استغرق هذا
القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة الكريمة ما دار بين الأنبياء وبين
أقوامهم ، وما آل إليه أمر أولئك الأقوام الذين لم يستجيبوا لنصائح المرسلين
إليهم.
٤ ـ عرض إجمالى
لها : ونحن عند ما نستعرض سورة الأعراف نراها في الربع الأول منها تطالعنا بالحديث
عن عظمة القرآن وتأمرنا باتباعه ، وتحذرنا من مخالفته ، وتحثنا على المسارعة إلى
العمل الصالح الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة.
قال تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ
فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا
ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).
ثم ساقت لنا
بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من
الشجرة المحرمة ، فلما أكل منها هو وزوجه.
(بَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
ثم وجهت إلى بنى
آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان.
قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما
لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ).
وفي الربع الثاني
منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن الله ـ تعالى ـ ، قد
أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا ، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا
الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل
الله ، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عند ما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها.
قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ
أُخْتَها ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ
لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ
، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ* وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ
فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ).
ثم تبين السورة
بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
وفي أواخر هذا
الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين
أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكى لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي
بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ).
فيجيبهم أصحاب
الجنة : (إِنَّ اللهَ
حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً
وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).
ثم تسوق لنا
السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها لكي
يزيدنا من فضله.
وفي الربع الرابع
منها وكذلك في أواخر الثالث ، تحدثنا السورة الكريمة عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن
قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة
شعيب مع قومه. ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر
والعظات ما يهدى القلوب ، ويشفى الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء
والمرسلين.
أما في الربع
الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه ، ومن مظاهر هذه ـ السنن أنه ـ سبحانه
ـ لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ، وأن الناس لو آمنوا لفتح ـ سبحانه ـ
عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون.
قال تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ
الْكافِرِينَ* وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنا
أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ).
ثم عقب على ذلك
ببيان أن الله ـ تعالى ـ قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار.
ثم أسهبت السورة
في الحديث عن قصة موسى ـ عليهالسلام ـ فقصت علينا في زهاء سبعين آية ـ استغرقت الربع السادس
والسابع والثامن ـ ما دار بينه وبين فرعون من محاورات ومناقشات ، وما حصل بينه
وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ
مُوسى وَهارُونَ).
ثم حكت لنا ما
لقيه موسى من قومه بنى إسرائيل من تكذيب وجهالات ، مما يدل على أصالتهم في التمرد
والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان.
وفي الربع التاسع
منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ،
ثم حضتنا على التفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام
الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله ،
ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
أما في الربع
العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، ووبخت
المشركين على شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ* إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).
وبعد : فهذا عرض
سريع لما اشتملت عليه سورة الأعراف من توجيهات حكيمة ، وآداب عالية ، وعظات سامية
، ولعلنا بذلك نكون قد أعطينا القارئ الكريم فكرة مجملة عنها قبل أن نفسرها تفسيرا
تحليليا مفصلا. والله نسأل أن يلهمنا جميعا الرشد والسداد فيما نقول ونعمل.
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التفسير
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(المص (١)
كِتابٌ
أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ(٢) اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ
دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)
وَمَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا
بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)
(٩)
سورة الأعراف من السور
التي ابتدأت ببعض حروف التهجي «المص» ولم يسبقها في النزول من هذا النوع من السور
سوى ثلاثة وهي سور : (ن ، ق ، ص) ويبلغ عدد السور القرآنية التي ابتدئت بالحروف
المقطعة تسعا وعشرين سورة.
هذا ، وقد وقع
خلاف بين العلماء في المعنى المقصود من حروف التهجي التي افتتحت بها بعض السور
القرآنية ، ويمكن إجمال اختلافهم في رأيين :
الرأى الأول : أن
المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه
وإلى هذا الرأى
ذهب ابن عباس ـ في إحدى الروايات عنه ـ كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ،
وغيرهما من العلماء ؛ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور
فقال : «إن لكل كتاب سرّا ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور» وروى عن ابن عباس أنه
قال : «عجزت العلماء عن إدراكها» وعن على ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «إن لكل كتاب
صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» وفي رواية أخرى للشعبى أنه قال : «سر الله
فلا تطلبوه».
ومن الاعتراضات
التي وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من
المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل التكلم بلغة
أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك
بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس فالرسول صلىاللهعليهوسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين. ولكن
الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض
السور. وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا.
أما الرأى الثاني
: فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر
الله بعلمه ، وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود
على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى :
١ ـ أن هذه الحروف
أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ حم السجدة ، حفظ إلى أن يصبح» ، وبدليل اشتهار
بعض السور بالتسمية بها ، كسورة «ص» وسورة «يس» إلخ.
ولا يخلو هذا
القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو
كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة ؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه. وأيضا
فالتسمية بها أمر عارض لا يتنافى مع المراد منها في ذاتها.
٢ ـ وقيل إن هذه
الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
٣ ـ وقيل إنها
حروف مقطعة بعضها من أسماء الله تعالى ، وبعضها من صفاته ، فمثلا : «ألم» أصلها
أنا الله أعلم.
٤ ـ وقيل إنها اسم
الله الأعظم ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها الإمام
السيوطي في كتابه «الإتقان» ، إلى أكثر من عشرين قولا.
٥ ـ ولعل أقرب
الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في بعض سور القرآن على سبيل
الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك
المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو جنس ما
تؤلفون منه كلامكم. ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها
حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، أو ادعوا من
شئتم من الخلق لكي يعاونوكم في ذلك.
ومما يشهد بصحة
هذا الرأى أن الآيات التي تلى هذه الأحرف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل معجزة
للرسول صلىاللهعليهوسلم وكثيرا ما تبدأ هذه الآيات باسم الإشارة صراحة ، مثل قوله
تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ) أو ضمنا مثل قوله ـ تعالى ـ : في أول سورة الأعراف (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا
يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ) وأيضا فإن هذه السور تجعل هدفها الأول منذ بدئها إلى
نهايتها اثبات الرسالة عن طريق هذا الكتاب المنزل.
هذه خلاصة موجزة
لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد
مزيدا لذلك فليرجع ـ مثلا ـ إلى كتاب «البرهان» للزركشى ، وإلى كتاب «الإتقان»
للسيوطي .
ثم مدح ـ سبحانه ـ
الكتاب الذي أنزله على نبيه صلىاللهعليهوسلم فقال : (كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
المراد بالكتاب
جملة القرآن الكريم ، وقيل : المراد به هنا السورة. وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ
من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه طريقا يخرج
منه.
والمعنى ، هذا
كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس. ولا تحزن
أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدودا عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
ولقد حكى لنا
القرآن أن المشركين وصفوا النبي صلىاللهعليهوسلم بأنه ساحر. أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند
الله ، فكان صلىاللهعليهوسلم يضيق صدره لذلك.
قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ).
فالمقصود بقوله ـ تعالى
ـ : (كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) تقوية قلب
__________________
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب
وأباطيل ، وإفهام الداعي إلى الله في كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى
القلب في تحمل مهمته ، مطمئن البال على حسن عاقبته ، لا يتأثر بالمخالفة ، ولا
يضيق صدره بالإنكار.
وقد فسر صاحب
الكشاف الحرج بالشك فقال : (فَلا يَكُنْ فِي
صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أى شك منه كقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن
منشرح الصدر منفسحه. أى : لا تشك في أنه منزل من الله ، ولا تتحرج من تبليغه ،
لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء
ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم» .
وعلى أية حال فإن
من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال
المجازى ولذا قال الآلوسى :
قوله تعالى ـ : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أى : شك. وأصله
الضيق ، واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما
أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه» .
ولفظ (كِتابٌ) يكون مبتدأ إذا جعلنا «المص» اسما للسورة ، وإلا كان خبرا
لمبتدأ محذوف والتقدير : هذا كتاب. وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه.
وإنما قيل : (أُنْزِلَ) ولم يقل أنزله الله وأنزلناه ، للإيذان بأن المنزل مستغن
عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره.
ثم بين ـ سبحانه ـ
العلة في إنزال الكتاب فقال : (لِتُنْذِرَ بِهِ
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).
الإنذار : هو
الإعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة.
أى : أنزلنا إليك
الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة
مؤثرة ، لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك.
قال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ).
وقال تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ).
وقال تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ).
__________________
قال صاحب الكشاف :
فما محل ذكرى؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث. النصب بإضمار فعلها. كأنه قيل : لتنذر به
وتذكر تذكيرا ، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفا على كتاب ، أو لأنه
خبر مبتدأ محذوف. والجر للعطف على محل لتنذر ، أى : للإنذار وللذكر» .
ثم أمر القرآن
الناس باتباع تعاليم الإسلام التي جاء بها محمد صلىاللهعليهوسلم فقال : (اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ،
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).
أى : اتبعوا أيها
الناس ملة الإسلام وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا
نواهيه ، لأن الذي أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر
أموركم والعليم بما فيه مصلحتكم وحذار من أن تتركوا شريعة الإسلام التي تدعوكم إلى
إفراد الله بالعبودية ، وتتخذوا معه شركاء يزينون لكم الأباطيل ، ويصرفونكم عن
دينه القويم فالآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين لحضهم على إفراد
الله بالعبودية ، ونهيهم عن اتباع أحد من الخلق فيما يتعلق بالأمور الدينية التي
وضحتها الشريعة الإسلامية.
وقوله ـ تعالى ـ :
(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) معناه : تذكرا قليلا تتذكرون ، أو زمنا قليلا تتذكرون فهو
منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف. وما مزيدة لتأكيد القلة.
ثم ساق لهم بعد
ذلك على سبيل الإنذار والتخويف جانبا من العذاب الذي نزل بمن سبقوهم بسبب ظلمهم
وعنادهم فقال ـ تعالى ـ :
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ
إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).
كم هنا خبرية
بمعنى كثر. وهي في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ، و (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز.
والقرية تطلق على
مكان اجتماع الناس. وبأسنا : أى عذابنا وعقابنا. وبياتا : أى ليلا ومنه البيت لأنه
يبات فيه. يقال : بات يبيت بيتا وبياتا. وقائلون من القائلة وهي القيلولة وهي نوم
نصف النهار. وقيل : هي الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. ودعواهم
، أى : دعاؤهم واستغاثتهم بربهم أو قولهم.
والمعنى : وكثيرا
من القرى الظالمة أردنا إهلاكها ، فنزل على بعضها عذابنا في وقت نوم أهلها بالليل
كما حصل لقوم لوط ، ونزل على بعضها في وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم
__________________
شعيب ، فما كان
منهم عند ما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم وراحتهم إلا أن اعترفوا بذنوبهم
وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا في الخلاص : إنا كنا ظالمين.
فهاتان الآيتان
الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن
الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التي لا تختلف في أى زمان أو مكان. وأن الظالمين
عند ما يفاجئون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات
ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبوا من
ذنوبهم عند ما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب.
ولذا قال ابن كثير
: قال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة في صحة ما جاءت به الرواية عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم من قوله : «ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم ».
و (أَوْ) في قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا
بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم
نهارا عند استراحتهم. وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة
واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع.
ومن العبر التي
نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب
النواهي ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية
على الخوف والرجاء فإنه (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).
وبعد أن بين
القرآن ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى. عقبه ببيان ما سيحل بهم من عذاب أخروى ،
فقال :
(فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ : فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ).
والمراد بالذين
أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل ، يسأل كل فرد منها عن رسوله إليه
وعن تبليغه لدعوة الله ، ويسأل المرسلون عن التبليغ منهم وعن إجابة أقوامهم لهم ،
وقد ورد ذلك في كثير من آيات القرآن. قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ
فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ).
وقال تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؟
والمعنى : فلنسألن
المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم ، ولنسألن المرسلين عما
أجيبوا به من أقوامهم وعن تبليغهم لرسالات الله ، ولنقصن على الرسل والمرسل إليهم
كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ، لأننا لا يغيب عنا شيء من أحوالهم.
__________________
وعطفت جملة (فَلَنَسْئَلَنَ) على ما قبلها بالفاء ، لأن هذا السؤال سيكون في الآخرة ،
وما ذكر قبل ذلك من عقوبات هو آخر أمرهم في الدنيا. فالآية الكريمة بيان لعذابهم
الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوي.
وأكد الخبر بلام
القسم ونون التوكيد ، لأن المخاطبين كانوا ينكرون البعث والجزاء.
فإن قيل : قد أخبر
الله عنهم قبل ذلك أنهم قالوا عند نزول العذاب بهم (إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ) فلما ذا يسألون يوم القيامة مع أنهم اعترفوا بظلمهم في
الدنيا؟
فالجواب : أنهم
لما اعترفوا سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم ، والمقصود من هذا السؤال تقريعهم
وتوبيخهم لكفرهم وعنادهم.
فإن قيل : فما
فائدة سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة؟
فالجواب من فوائده
الرد على من أنكر من المشركين أن الرسل قد بلغوهم ، فقد حكى القرآن أن بعضهم قال :
(ما جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) ومن فوائده ـ أيضا ـ مضاعفة الثواب لهؤلاء الرسل الكرام
حيث إنهم قد بذلوا قصارى جهدهم في التبشير والإنذار ، ولم يصدر عنهم تقصير قط.
فسؤال المرسل إليهم إنما هو سؤال توبيخ وإفضاح ، وسؤال المرسلين إنما هو سؤال
استشهاد بهم وإفصاح.
فإن قيل : هناك
بعض الآيات تثبت أن المجرمين لن يسألوا يوم القيامة كما في قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ) وكما في قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ
عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) فكيف نجمع بين هذه الآيات التي تنفى السؤال والآيات التي
تثبته كما في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)؟
فالجواب ، أن في
يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون في موقف الحساب ولا يسألون في موقف العقاب.
أو أن المراد بالسؤال في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ) التوبيخ والتقريع. والمنفي في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) سؤال الاستعلام ، أى أن المذنب لا يسأل يوم القيامة هل
أذنبت أولا ، لأن الله لا تخفى عليه خافية ، وإنما يسأل : لم فعلت كذا؟ بعد أن
يعرفه ـ سبحانه ـ بما فعله ، ويؤيد هذا القول قوله ـ تعالى ـ : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
وَما كُنَّا غائِبِينَ) أى : فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا.
قال بعض العلماء :
«والذي يهمنا هنا ، أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار ،
وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد ، فليس في السائل مظنة أن يجهل ، ولا في المسئول مظنة
أن ينكر : ، وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم ، وشعور المرسلين
بتبليغهم ، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها وأعرض عنها في الوقت الذي كان
يجديه
الإقبال عليها
والإيمان بها ، وهو نوع من زيادة الحسرة ، وقطع الآمال في النجاة بوضع يد المجرم
على جسم جريمته ، وهو في الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن والطمأنينة للرسل في
القيام بدعوتهم وتبليغهم ما أمروا بتبليغه ، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ
: (فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) .
ثم بين ـ سبحانه ـ
مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال :
(وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ).
الوزن : عمل يعرف
به قدر الشيء ، يقال : وزنته وزنا وزنة. وهو مبتدأ ، ويومئذ متعلق بمحذوف خبره.
والحق صفته. أى : والوزن الحق يوم القيامة.
ومعنى الآيتين
الكريمتين : والوزن الحق ثابت في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والمرسل
إليهم. ويخبرهم جميعا بما كان منهم في الدنيا ، فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان
والعمل الصالح ، فأولئك هم الفائزون بالثواب والنعيم ، ومن خفت موازين أعماله
بالكفر والمعاصي فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى
سوء العقاب.
قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).
وقد اختلف العلماء
في كيفية الوزن فقال بعضهم : إن التي توزن هي صحائف الأعمال التي كتبت فيها
الحسنات والسيئات تأكيدا للحجة وإظهارا للنصفة ، وقطعا للمعذرة. قال ابن عمر :
توزن صحائف أعمال العباد يوم القيامة».
وقيل : إن الوزن
هنا كناية عن القضاء السوى ، والعدل التام في تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال
، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول : هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه. أى
يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن.
والذي نراه أن من
الواجب علينا أن نؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال ، وأنه على مقدار ما يظهر يكون
الجزاء ، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى في ذلك اليوم الهائل الشديد ، أما كيفية
هذا الوزن فمرده إلى الله ، لأنه شيء استأثر الله بعلمه ، وعلينا أن نعفي أنفسنا
من محاولة الكشف عن أمر غيبي لم يرد في حقيقته خبر قاطع في كتاب الله أو سنة
رسوله.
__________________
قال الجمل في
حاشيته على الجلالين : فإن قلت : أليس الله ـ تعالى ـ يعلم مقادير أعمال العباد ،
فما الحكمة في وزنها؟ قلت فيه حكم : منها ، إظهار العدل وأن الله ـ تعالى ـ لا
يظلم عباده ، ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في
العقبى. ومنها تعريف العباد بما لهم من خير أو شر وحسنة أو سيئة ، ومنها إظهار
علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه ـ سبحانه ـ أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ
وفي صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه» .
وقوله ـ تعالى ـ :
(فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ) تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن ، وثقل الموازين المراد
به رجحان الأعمال الحسنة على غيرها ، كما أن خفة الموازين المراد بها رجحان
الأعمال القبيحة على ما سواها.
وقوله ـ تعالى ـ :
(بِما كانُوا
بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) متعلق بخسروا ؛ أى : أن خسرانهم لأنفسهم في الآخرة كان
سببه جحودهم لآيات الله واستهزاءهم بها في الدنيا.
ثم حكى القرآن
جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه فقال ـ تعالى ـ :
(وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)
(١١)
مكناكم : من
التمكين بمعنى التمليك ، أو معناه : جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا وأقدرناكم على
التصرف فيها ومعايش : جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وما تكون به
الحياة.
والمعنى : ولقد
جعلنا لكم ـ يا بنى آدم ـ مكانا وقرارا في الأرض ، وأقدرناكم على التصرف فيها ،
وأنشأنا لكم فيها أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التي تتعيشون بها عيشة راضية ،
ولكن كثيرا منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والكفران.
وفضلا عن ذلك فنحن الذين خلقنا أباكم آدم من طين غير مصور ، ثم صورناه بعد ذلك.
__________________
أو المعنى نحن
الذين خلقناكم في ظهر آدم. ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق ، ثم أمرنا بعد ذلك
ملائكتنا بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين.
والسجود : لغة ،
التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره ، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض
بقصد العبادة.
وللعلماء أقوال في
كيفية السجود الذي أمر الله به الملائكة لآدم وأرجح هذه الأقوال. أن السجود
المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة. أى : أن الله ـ تعالى ـ أمرهم
بفعل تجاه آدم يكون مظهرا من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيما ، وإقرارا له
بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة ، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه
الملائكة عنه ، وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة.
وقيل إن السجود
كان لله. وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له. وإلى هذا الرأى اتجه
علماء المعتزلة ، وقد قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، إذ أن
أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة والصالحون من البشر أفضل من الملائكة.
واحتجوا بسجود الملائكة لآدم وخالفت المعتزلة في ذلك ، وقالت الملائكة أفضل من
البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.
والذي نراه أن ما
سار عليه أهل السنة أرجح لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإظهار
فضل آدم على الملائكة ، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود : وأمر
الله الملائكة بالسجود لآدم ، هو لون من الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث
من الطيب ، وينفذ ما سبق به العلم واقتضته المشيئة والحكم.
وإبليس : اسم مشتق
من الإبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس وفعله بلس. والراجح أنه اسم أعجمى ،
ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي
الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون ذلك مع أن القرآن أخبرنا
بأنه يرى الناس ولا يرونه. قال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ يَراكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).
وللعلماء في كون
إبليس من الملائكة أولا قولان :
أحدهما : أنه كان
منهم ، لأنه ـ سبحانه ـ أمرهم بالسجود لآدم ، ولو لا أنه كان منهم لما توجه إليه
الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصيا ولما استحق الخزي
والنكال ، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم
دليل على أنه خارج عنه.
والثاني : أنه ليس
منهم لقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ
كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ،
والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة.
ففي هاتين الآيتين
بيان لنعمتين عظيمتين من نعم الله على عباده :
أولاهما : نعمة
التمكين في الأرض واتخاذهم إياها وطنا مزودا بضروب شتى مما يحتاجون إليه من معايشهم
وما به قوام حياتهم وكمالها.
وثانيهما : نعمة
خلقهم من أب واحد ، تجمعهم به رحم واحدة ، وبسببها كانوا خلفاء في الأرض وفي عمارة
الكون ، وفضلوا على كثير من الخلق ، فكان الواجب عليهم أن يقابلوهما بالشكر
والإيمان.
ثم حكى القرآن
الكريم الأسباب التي حملت إبليس على عدم السجود لآدم فقال :
(قالَ ما مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)
(١٢)
أى : قال الله ـ تعالى
ـ لإبليس : ما ألزمك واضطرك إلى أن لا تسجد لآدم؟ فالمنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار.
أو ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد؟ فالمنع مجاز عن الحمل. والاستفهام للتوبيخ
والتقريع.
و (لا) في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود. وتوكيد
لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه
نفسك.
وقد حكى القرآن ما
أجاب به إبليس فقال : (قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أى : قال إبليس أنا خير من آدم ، لأنى مخلوق من عنصر النار
الذي هو أشرف من عنصر الطين ، والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه.
قال ابن كثير : «وقول
إبليس ـ لعنه الله ـ (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) .. إلخ. من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، إذ بين بأنه خير
من آدم لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم
ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله ـ تعالى ـ خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه
، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، فشذ من بين الملائكة لترك السجود فأبعده الله عن رحمته ،
وكان قياسه فاسدا لأن النار ليست
أشرف من الطين ،
فإن الطين من شأنه الرزانة والأناة والتثبت ، وهو محل النبات والنمو والزيادة
والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ،
ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله. وفي
صحيح مسلم عن عائشة قالت :
«قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ،
وخلق آدم مما وصف لكم» .
وقد حكى القرآن ما
رد الله به على إبليس بقوله :
(قالَ فَاهْبِطْ
مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ)
(١٣)
أى : قال الله ـ تعالى
ـ لإبليس : فاهبط من الجنة بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي.
وقيل إن الضمير في
(مِنْها) يعود على المنزلة التي كان فيها قبل أن يطرده الله من
رحمته. أى : فاهبط من رتبة الملكية التي كنت فيها إلى رتبة العناصر الشريرة.
وقيل : إن الضمير
يعود على روضة كانت على مرتفع من الأرض خلق فيها آدم ـ عليهالسلام ـ.
وقوله : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ
فِيها) معناه : فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك أن تتكبر فيها
، لأنها ليست مكانا للمتكبرين وإنما هي مكان للمطيعين الخاشعين المتواضعين.
وقوله : (فَاخْرُجْ) تأكيد للأمر بالهبوط ومتفرع عليه.
وقوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تعليل للأمر بالخروج. أى : فاخرج منها فأنت من أهل الصغار
والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك وغرورك.
ثم حكى القرآن ما
طلبه إبليس من الله ـ تعالى ـ وما أجاب الله به عليه.
__________________
(قالَ أَنْظِرْنِي
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ
وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها
مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ)
(١٨)
أى : قال إبليس
لله ـ تعالى ـ أخرنى ولا تمتنى إلى يوم بعث آدم وذريته من القبور ، وهو وقت النفخة
الثانية عند قيام الساعة. وقد أراد بذلك النجاة من الموت : إذ لا موت بعد البعث.
كما أراد بذلك أن يجد فسحة من الإغواء لبنى آدم.
وقوله : (أَنْظِرْنِي) مأخوذ من الإنظار بمعنى الإمهال والتأخير. تقول أنظرته
بحقي أنظره إنظارا أى : أمهلته.
وقوله : (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) معناه : قال الله ـ تعالى ـ له : إنك من المؤخرين إلى يوم
الوقت المعلوم كما جاء في قوله ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*) وهو ـ على الراجع ـ وقت النفخة الأولى فيموت كما يموت
غيره. وقيل : المراد به الوقت المعلوم في علم الله أنه يموت فيه.
قال ابن كثير :
أجابه الله ـ تعالى ـ إلى ما سأل. لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي
لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
ثم حكى القرآن ما
توعد به إبليس آدم وذريته من كيد وأذى فقال : (قالَ فَبِما
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).
الباء للقسم أو
للسببية أى : فأقسم بإغوائك إياى ، أو بسبب إغوائك إياى ، لأترصدن لآدم وبنيه على
طريق الحق وسبيل النجاة ، كما يترصد قطاع الطرق للسائرين فيها فأصدنهم عنها وأحاول
بكل السبل أن أصرفهم عن صراطك المستقيم ، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم
وإضلالهم.
والإغواء : خلق
الغي بمعنى الضلال. وأصل الغي الفساد ، ومنه غوى الفصيل ـ كرضى ـ غوى ، إذا بشم من
اللبن ففسدت معدته ، أو منع الرضاع فهزل وكاد يهلك ، ثم استعمل في الضلال ، يقال :
غوى يغوى غيا وغواية فهو غاو ، وغوى إذا ضل ، وأغواه غيره : أضله. وقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) زيادة بيان لحرص الشيطان على إضلال بنى آدم بشتى الوسائل ،
أى : آتيهم من الجهات الأربع التي اعتاد العدو أن يهاجم عدوه منها ، والمراد :
لأسولنّ لهم ولأضلنّهم بحيث لا أفتر عن ذلك ولا أيأس.
وقيل إن معنى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ) أى : من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية ، وما هو كذلك
فكأنه بين الأيدى. (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أى من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها
فانية متروكة «وعن أيمانهم وعن شمائلهم» أى : من جهة حسناتهم وسيئاتهم بحيث أزين
لهم السيئات وأزهدهم في الحسنات.
وقوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أى : مطيعين مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به
عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.
وإنما قال ذلك لما
رآه من الأمارات على طريق الظن كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
ولقد وردت آيات
كثيرة وأحاديث متعددة في التحذير من الشيطان وكيده ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ
السَّعِيرِ). وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن سبرة بن
الفاكه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : ان الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق
الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال : فعصاه فأسلم. ثم
قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في
الطول ـ أى كالفرس المربوطة بالحبل. قال : فعصاه فهاجر. قال : ثم قعد له بطريق
الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال. فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ،
قال فعصاه فجاهد : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقا على الله أن يدخله
الجنة ، أو قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن
يدخله الجنة ، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة».
وروى الإمام أحمد
وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن عمر قال لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يترك هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي. يقول : اللهم إنى
أسألك العفو والعافية في ديني ودنياى وأهلى ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي.
اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقى ، وأعوذ بعظمتك أن
أغتال من تحتي.
ثم حكى القرآن ما
توعد الله به الشيطان واتباعه فقال : (قالَ اخْرُجْ مِنْها
مَذْؤُماً) أى : اخرج من الجنة أو من تلك الروضة مهانا محقرا.
يقال : ذأمه يذأمه
ذأما إذا عاقبه وحقره فهو مذءوم ، وقوله : (مَدْحُوراً) أى : مطرودا مبعدا. يقال : دحره دحرا ودحورا طرده وأبعده.
(لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : لمن أطاعك من الجن والإنس لأملأن جهنم من كفاركم.
كقوله ـ تعالى ـ : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً).
واللام في قوله : (لَمَنْ) لتوطئة القسم والجواب (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) ثم حكى القرآن ما أمر الله ـ تعالى ـ به آدم فقال :
(وَيا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)
(١٩)
صدر الكلام
بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به ، وتخصيص الخطاب بآدم ـ عليهالسلام ـ للإيذان بأصالته بالتلقى وتعاطى المأمور به.
وقوله : (اسْكُنْ) من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار ، دون السكون
الذي هو ضد الحركة.
والزوج. يطلق على
الرجل والمرأة. والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ولا تكاد تقول
زوجة.
والجنة. هي كل
بستان ذي شجر متكاثف ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره من الجن وهو ستر الشيء عن
الحواس.
وجمهور أهل السنة
على أن المراد بها هنا دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا
هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.
ويرى جمهور علماء
المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإسكان آدم
وزوجته. واختلفوا في مكانه ، فقيل انه بفلسطين ، وقيل بغيرها.
وقد ساق ابن القيم
في كتابه «حادي الأرواح» أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئا منها.
والذي نراه أن
الأحوط والأسلم. الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور
الماتريدى في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة.
وتوجيه الخطاب
إليهما في قوله : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ
شِئْتُما) لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به.
أى : كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا واسعا من أى مكان أردتم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).
القرب : الدنو
والمنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة. وتعليق النهى على القرب منها القصد منه
المبالغة في النهى عن الأكل ، إذ في النهى عن القرب من الشيء نهى عن فعله من باب
أولى. وأكد النهى بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلما. فقال : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلا منها
أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية.
وقد تكلم العلماء
كثيرا عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل هي السنبلة ، وقيل هي
الكرمة ... إلخ إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم
يدع المقصود من سياق القصة إلى بيانه.
وقد أحسن ابن جرير
في التعبير عن هذا المعنى فقال : «والصواب في ذلك أن يقال : ان الله ـ تعالى ـ نهى
آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ،
ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك
في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل كانت شجرة البر ، وقيل شجرة العنب ،
وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به»
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما
نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ
تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا
يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ
أَنْهَكُما
__________________
عَنْ
تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها
تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)
(٢٥)
قوله ـ تعالى ـ : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أى : ألقى إليهما إبليس الوسوسة ، والوسوسة في الأصل الصوت
الخفى ، ومنه قيل لصوت الحلي. وسواس. والمراد بها هنا : الحديث الخفى الذي يلقيه
الشيطان في قلب الإنسان ليقارف الذنب.
وقوله : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما
مِنْ سَوْآتِهِما). (وُورِيَ) من المواراة وهي الستر. والسوءة. فرج الرجل والمرأة ، من
السوء. وسميت بذلك ، لأن انكشافها يسوء صاحبها. وقيل الكلام كناية عن إزالة الحرمة
وإسقاط الجاه.
والمعنى : أن
إبليس وسوس إلى آدم وحواء بأن يأكلا من الشجرة المحرمة لتكون عاقبة ذلك أن يظهر
لهما ما ستر عنهما من عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من
الآخر. وفي هذا التعبير تصريح بأن كشف العورة من أقبح الفواحش التي نهى الله ـ تعالى
ـ عنها.
وقد حكى القرآن أن
إبليس لم يكتف بالوسوسة ، وإنما خدعهما بقوله : (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا
مِنَ الْخالِدِينَ).
أى قال لهما : ما
نهاكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا كراهية أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.
وقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف
النفي ليكون علة. أى كراهية أن تكونا ملكين.
ثم حكى القرآن أن
إبليس لم يكتف بالوسوسة أو بالقول المجرد ، وإنما أضاف إلى ذلك القسم المؤكد فقال
: (وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أى : أقسم لهما بالله إنه لهما لمن الناصحين المخلصين
الذين يسعون لما فيه منفعتهما.
قال الآلوسى :
إنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة ، لأن من يبارى أحدا في فعل يجد فيه. وقيل
المفاعلة على
بابها ، والقسم وقع من الجانبين ، لكنه اختلف متعلقه ، فهو أقسم لهما على النصح
وهما أقسما له على القبول .
ثم حكى القرآن كيف
نجح إبليس في خداع آدم وحواء فقال : (فَدَلَّاهُما
بِغُرُورٍ). أى : فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية ،
وأطمعهما في غير مطمع بسبب ما غرهما به من القسم.
ودلاهما مأخوذ من
التدلية ، وأصله أن الرجل العطشان يدلى في البئر بدلوه ليشرب من مائها ، فإذا ما
أخرج الدلو لم يجد به ماء ، فيكون مدليا فيها بغرور. والغرور إظهار النصح مع إضمار
الغش ، وأصله من غررت فلانا أى أصبت غرته وغفلته ونلت منه ما أريد.
ثم بين القرآن
الآثار التي ترتبت على هذه الخديعة من إبليس لهما فقال : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ
لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
أى : فلما خالفا
أمر الله ـ تعالى ـ بأن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها ، أخذتهما
العقوبة وشؤم المعصية ، فتساقط عنهما لباسهما ، وظهرت لهما عوراتهما. وشرعا يلزقان
من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عوراتهما لسترها.
ويخصفان : مأخوذ
من الخصف ، وهو خرز طاقات النعل ونحوه بإلصاق بعضها ببعض ، وفعله من باب ضرب.
قال بعض العلماء :
«ولعل المعنى ـ والله أعلم ـ أنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأكل منها ظهر
لهما أنهما قد زلا ، وخلعا ثوب الطاعة ، وبدت منهما سوأة المعصية ، فاستحوذ عليهما
الخوف والحياء من ربهما ، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار
والاستخفاء حتى لا يرى ، وذلك بخصف أوراق الجنة عليهما ليستترا بها ، وما لهما إذ
ذاك حيلة سوى ذلك. فلما سمعا النداء الرباني بتقريعهما ولومهما ألهما أن يتوبا إلى
الله ويستغفرا من ذنبهما بكلمات من فيض الرحمة الإلهية ، فتاب الله عليهما وهو
التواب الرحيم ، وقال لهما فقط أولهما ولذريتهما ، أو لهما ولإبليس : اهبطوا من
الجنة إلى الأرض ، لينفذ ما أراد الله من استخلاف آدم وذريته في الأرض ، وعمارة
الدنيا بهم إلى الأجل المسمى. ومنازعة عدوهم لهم فيها ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، قَدْ
جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) .
ثم بين القرآن ما
قاله الله ـ تعالى ـ لهما بعد أن خالفا أمره. فقال : (وَناداهُما رَبُّهُما) بطريق العتاب والتوبيخ (أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ). أى عن الأكل منها (وَأَقُلْ لَكُما
إِنَّ الشَّيْطانَ
__________________
لَكُما
عَدُوٌّ مُبِينٌ) أى : ظاهر العداوة لا يفتر عن إيذائكما وإيقاع الشر بكما.
وهنا التمس آدم
وحواء من ربهما الصفح والمغفرة (قالا رَبَّنا
ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أى : أضررناها بالمعصية والمخالفة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) ما سلف من ذنوبنا (وَتَرْحَمْنا) بقبول توبتنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) أى : لنصيرن من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة».
وقد حكى القرآن ما
رد به الله على آدم وحواء وإبليس ، فقال : (قالَ اهْبِطُوا) أى من الجنة إلى ما عداها. وقيل الخطاب لآدم وحواء
وذريتهما. وقيل الخطاب لهما فقط لقوله ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) والقصة واحدة ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر.
وجملة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال من فاعل اهبطوا ، والمعنى اهبطوا إلى الأرض
حالة كون العداوة لا تنفك بين آدم وذريته ، وبين إبليس وشيعته (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أى موضع استقرار (وَمَتاعٌ) أى : تمتع ومعيشة (إِلى حِينٍ) أى : إلى حين انقضاء آجالكم.
قال : (فِيها) أى في الأرض (تَحْيَوْنَ) تعيشون (وَفِيها تَمُوتُونَ
وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أى : يوم القيامة للجزاء ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).
وبعد أن قص القرآن
على بنى آدم قصة خلقهم وتصويرهم وما جرى بين أبيهم وبين إبليس ، وكيف أن إبليس قد
خدع آدم وزوجه خداعا ترتب عليه إخراجهما من الجنة. بعد كل ذلك أورد القرآن أربع
نداءات لبنى آدم حضهم فيها على تقوى الله وحذرهم من وسوسة الشيطان وذكرهم بنعمه
عليهم ، فقال في النداء الأول :
(يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)
(٢٦)
السوءة : العورة.
والريش : لباس الزينة ، استعير من ريش الطائر ، لأنه لباسه وزينته. وقال الجوهري :
الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس ، وهو اللباس الفاخر».
والمعنى : يا بنى
آدم تذكروا واعتبروا واشكروا الله على ما حباكم من نعم ، فإنه ـ سبحانه ـ قد هيأ
لكم سبيل الحصول على الملبس الذي تسترون به عوراتكم ، وتتزينون به في مناسبات
التجمل والتعبد.
والمراد بإنزال ما
ذكر أنه خلق لبنى آدم مادة هذا اللباس التي تتكون من القطن والصوف والحرير وما
إليها ، وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وصناعتها بالغزل والنسج
والخياطة.
والتعبير بأنزلنا
يفيد خصوصية البشر باللباس الذي يستر العورة ، وبالرياش التي يتزينون بها ، أى
أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يوارى سوآتكم ، ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح
وحبها من طبيعة البشر. قال ـ تعالى ـ : (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).
قال الجمل : «وقوله
ـ تعالى ـ : (وَرِيشاً) يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات. والمعنى : أنه وصف
اللباس بوصفين : مواراة السوأة ، والزينة. ويحتمل أن يكون من باب عطف الشيء على
غيره. أى : أنزلنا عليكم لباسا موصوفا بالمواراة ، ولباسا موصوفا بالزينة» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هناك لباسا آخر أفضل وأكمل من كل ذلك فقال : (وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ) أى : أن اللباس الذي يصون النفس من الدنايا والأرجاس ،
ويسترها بالإيمان والعمل الصالح هو خير من كل لباس حسى يتزين به البشر. فاسم
الإشارة هنا يعود على لباس التقوى. وقد عبر القرآن هنا عن التقوى بأنها لباس ،
وعبر عنها في موضع آخر بأنها زاد مشاكلة للسياق الذي وردت فيه هنا أو هناك. وذلك
من باب تجسيم المعنويات وتنسيقها مع الجو العام الذي وردت فيه ، وتلك طريقة انفرد
بها القرآن الكريم.
قال صاحب الكشاف :
وقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) مبتدأ ، وخبره إما الجملة التي هي (ذلِكَ خَيْرٌ) كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب
من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وإما المفرد الذي هو خير ، وذلك صفة للمبتدأ
، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير» .
وقوله ـ تعالى ـ :
(ذلِكَ مِنْ آياتِ
اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) معناه : ذلك الذي أنزله الله على بنى آدم من النعم من
دلائل قدرته وإحسانه عليهم ، لعلهم بعد ذلك لا يعودون إلى النسيان الذي أوقع
أبويهم في المعصية.
قال صاحب الكشاف :
وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر ظهور العورات وخصف الورق عليها ،
إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة
، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى .
ثم أتبع القرآن
النداء الأول بنداء آخر مبالغة في وعظ بنى آدم وتذكيرهم بفضل الله عليهم ، فقال ـ تعالى
ـ :
__________________
(يا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ
عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ
مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ)
(٢٧)
والمعنى : يا بنى
آدم لا يصرفنكم الشيطان عن طاعة الله ، بأن تمكنوه من أن يوقعكم في المعاصي كما
أوقع أبويكم من قبل فيها ، فكان ذلك سببا في خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان
بنعيمها.
وقوله : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما
لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) جملة حالية من أبويكم. أى أخرجهما من الجنة حال كونه نازعا
عنهما لباسهما. وأسند النزع إلى الشيطان لأنه كان متسببا فيه. ثم أكد تحذيرهم من
الشيطان بجملة تعليلية فقال : (إِنَّهُ يَراكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أى : إن الشيطان وجنوده يرونكم يا بنى آدم وأنتم لا ترونهم
، فالجملة الكريمة تعليل للنهى السابق. وهو قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) وتأكيد للتحذير ، لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد
وأخوف ، ولذا قال مالك بن دينار : «إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا على من
عصمه الله».
وقوله : (وَقَبِيلُهُ) معطوف على الضمير المستتر في قوله : (يَراكُمْ) المؤكد بقوله : (هُوَ).
قال الآلوسى ما
ملخصه : والقضية مطلقة لا دائمة ، فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا
يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون. ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلىاللهعليهوسلم لأحدهم حين رام أن يشغله عن الصلاة فأمكنه الله منه ، وأراد
أن يربطه في سارية من سوارى المسجد ثم ذكر دعوة سليمان في قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فتركه .
ثم بين ـ سبحانه ـ
سنته في خلقه فقال : (إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). أى : إنا صيرنا
الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون ، مسلطين عليهم ، متمكنين من إغوائهم ، لأن حكمتنا
اقتضت أن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن ، متجانسين مع الكافرين الذين هم شرار
الإنس.
__________________
وبذلك نرى أن
الآية الأولى التي ورد فيها النداء الأول قد ذكرت بنى آدم بجانب من نعم الله عليهم
، ثم جاءت هذه الآية مصدرة بنداء آخر حذرتهم منه من وسوسة الشيطان ومداخله حتى لا
يقعوا فيما وقع فيه أبوهم آدم من قبل.
ثم حكى القرآن بعض
القبائح التي كان يفعلها المشركون ، ورد على أكاذيبهم بما يدحضها فقال :
(وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ
اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
(٢٨)
الفاحشة : هي كل
فعل قبيح يتنافى مع تعاليم الشريعة مثل الإشراك بالله ، والطواف بالبيت الحرام
بدون لباس يستر العورة.
قال الإمام ابن
كثير : «كانت العرب ـ ما عدا قريشا ـ لا يطوفون بالبيت الحرام في ثيابهم التي
لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش ـ وهم
الحمس ـ يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسى ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف
فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسى ثوبا طاف
عريانا ، وربما كانت المرأة تطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر
، وأكثر ما كان النساء يطفن عراة ليلا ، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم
واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله فأنكر الله
عليهم ذلك وقال : (وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) .
فالآية الكريمة
تحكى عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يرتكبون القبائح التي نهى الله عنها كالطواف
بالكعبة عرايا ، وكالإشراك بالله ، ثم بعد ذلك يحتجون بأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك
يفعلون ، وبأن الله قد أمرهم بذلك ، ولا شك أن احتجاجهم هذا من الأكاذيب التي ما
أنزل الله بها من سلطان ، ولذا عاجلهم القرآن بالرد المفحم ، فقال : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
__________________
أى : قل يا محمد
لهؤلاء المفترين على الله الكذب : إن كلامكم هذا يناقضه العقل والنقل. أما أن
العقل يناقضه ويكذبه. فلأنه لا خلاف بيننا وبينكم في أن ما تفعلونه هو من أقبح
القبائح بدليل أن بعضكم قد تنزه عن فعله ، وأما أن النقل يناقضه ويكذبه فلأنه لم
يثبت عن طريق الوحى أن الله أمر بهذا ، بل الثابت أن الله لا يأمر به ، لأن
الفاحشة في ذاتها تجاوز لحدود الله ، وانتهاك لحرماته ، فهل من المعقول أن يأمر
الله بانتهاك حدوده وحرماته؟ والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَتَقُولُونَ) للإنكار والتوبيخ وفيه معنى النهى.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما أمر به من طاعات عقب تكذيبه للمشركين فيما افتروه فقال :
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى
وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)
(٣٠)
أى : قل لهم يا
محمد إن الذي أمر الله به هو العدل في الأمور كلها ، لأنه هو الوسط بين الإفراط
والتفريط ، كما أنه ـ سبحانه ـ قد أمركم بأن تتوجهوا إليه وحده في كل عبادة من
عباداتكم ، وأن تكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء وصالحه ، فإنه مخ العبادة.
ثم ذكرهم ـ سبحانه
ـ بمبدئهم ونهايتهم فقال : (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ).
أى : أن الذي قدر
على ابتدائكم وإنشائكم ولم تكونوا شيئا ، يقدر على إعادتكم ليجازيكم على أعمالكم ،
فأخلصوا له العبادة والطاعة.
قال صاحب المنار :
«وهذه الجملة من أبلغ الكلام الموجز المعجز ؛ فإنها دعوى متضمنة الدليل ، بتشبيه
الإعادة بالبدء فهو يقول : كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم
القيامة حالة كونكم فريقين ، فريقا هداهم في الدنيا فاهتدوا بإيمانهم به وإقامة
وجوههم له وحده في العبادة ودعائه مخلصين له الدين ، وفريقا حق عليهم الضلالة
لاتباعهم إغواء الشيطان ، وإعراضهم عن طاعة الرحمن ، وكل فريق يموت على ما عاش
ويبعث على ما مات عليه ، ومعنى حقت عليهم الضلالة ، ثبتت بثبوت أسبابها الكسبية ،
لا أنها جعلت غريزة لهم
فكانوا مجبورين
عليها ، يدل على هذا تعليلها على طريق الاستئناف البياني بقوله : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ومعنى اتخاذهم الشياطين أولياء ، أنهم أطاعوهم في كل ما
يزينونه لهم من الفواحش والمنكرات ، ويحسبون أنهم مهتدون فيما تلقنهم الشياطين
إياه من الشبهات ».
ثم وجه القرآن بعد
ذلك نداء ثالثا إلى بنى آدم أمرهم فيه بالتمتع بالحلال ، وبزينة الله التي أخرجها
لعباده بدون إسراف أو تبذير فقال ـ تعالى ـ :
(يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
(٣١)
والمعنى : عليكم
يا بنى آدم أن تتجملوا بما يستر عورتكم ، وأن تتحلوا بلباس زينتكم كلما صليتم أو
طفتم ، واحذروا أن تطوفوا بالبيت الحرام وأنتم عرايا.
قال القرطبي : «يا
بنى آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت
عريانا ، فإنه عام في كل مسجد للصلاة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ».
وقال ابن عباس : «كان
بعض العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل. يقولون : لا
نطوف في ثياب عصينا الله فيها». فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
ثم أمرهم ـ سبحانه
ـ أن يتمتعوا بالطيبات بدون إسراف أو تقتير فقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
أى : كلوا من
المآكل الطيبة ، واشربوا المشارب الحلال ولا تسرفوا لا في زينتكم ولا في مأكلكم أو
مشربكم. لأنه ـ سبحانه ـ يكره المسرفين.
قال الإمام ابن
كثير : «قال بعض السلف : جمع الله الطب في نصف آية في قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) «وقال البخاري :
قال ابن عباس : «كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة» .
__________________
وقد كان السلف
الصالح يقفون بين يدي الله في عبادتهم وهم في أكمل زينة ، فهذا ـ مثلا ـ الإمام
الحسن بن على ، كان إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه فقيل له ؛ يا ابن بنت رسول
الله لم تلبس أجمل ثيابك؟ فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأنا أتجمل لربي ،
لأنه هو القائل : (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
وقال الكلبي : «كانت
بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك
حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم فأنزل ـ تعالى ـ : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).
فهذه الآية
الكريمة تهدى الناس إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم ، إذ أنها أباحت للمسلم أن يتمتع
بالطيبات التي أحلها الله ، ولكن بدون إسراف أو بطر ، ولذا جاء الرد على المتنطعين
الذين يضيقون على أنفسهم ما وسعه الله في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
(٣٢)
أى : قل يا محمد
لأولئك الذين يطوفون بالبيت عرايا ، ويمتنعون عن أكل الطيبات : من أين أتيتم بهذا
الحكم الذي عن طريقه حرمتم على أنفسكم بعض ما أحله الله لعباده؟ فالاستفهام لإنكار
ما هم عليه بأبلغ وجه.
ثم أمر رسوله أن
يرد عليهم بأبلغ رد فقال : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).
أى : قل أيها
الرسول لأمتك : هذه الزينة والطيبات من الرزق ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا
، ويشاركهم فيها المشركون أيضا ، أما في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين ولا يشاركهم
فيها أحد ممن أشرك مع الله آلهة أخرى.
وقوله ـ تعالى ـ :
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معناه : مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم
يعلمون ما في تضاعيفها من توجيهات سامية ، وآداب عالية.
__________________
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك ألوانا من المحرمات التي نهى عباده عن اقترافها فقال تعالى :
(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
(٣٣)
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء الذين ضيقوا على أنفسهم ما وسعه الله ، قل لهم : إن ما حرمه الله
عليكم في كتبه وعلى ألسنة رسله هو هذه الأنواع الخمس التي أولها (الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما
بَطَنَ) ، أى : ما كان قبيحا من الأقوال والأفعال سواء أكان في
السر أو العلن ، وثانيها وثالثها (الْإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) والإثم : هو الشيء القبيح الذي فعله يعتبر معصية ، والبغي
: هو الظلم والتطاول على الناس وتجاوز الحد.
قال الإمام ابن
كثير : «وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو
التعدي على الناس ، فحرم الله هذا وهذا» .
وقيد البغي بكونه
بغير الحق ، لأنه لا يكون إلا كذلك. إذ معناه في اللغة تجاوز الحد. يقال : بغى
الجرح. إذ تجاوز الحد في فساده.
وقيل قيده بذلك
ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه ، فإنه يسمى بغيا في الجملة. لكنه بحق ، وهو
قول ضعيف لأن دفع البغي لا يسمى بغيا ، وإنما يسمى انتصافا من الظالم ، ولذا قال
القرآن : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ).
وقيل إن القيد هنا
لإخراج الأمور التي ليس لهم فيها حقوق ، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم
فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها.
ورابع الأمور التي
حرمها الله أخبر عنه القرآن بقوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً).
أى : وحرم عليكم
أن تجعلوا لله شركاء في عبادته بدون حجة وبرهان. وقوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) بيان للواقع من شركهم ، إذ أنهم لا حجة عندهم على شركهم :
لا من العقل ولا من النقل ، فالجملة الكريمة قد اشتملت على التهكم بالمشركين
وتوبيخهم على كفرهم.
__________________
وخامسها قوله ـ تعالى
ـ : (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أى : حرم عليكم أن تقولوا قولا يتعلق بالعبادات أو
المحللات أو المحرمات أو غيرها بدون علم منكم بصحة ما تقولون ، وبغير بينة على صدق
ما تدعون.
قال صاحب المنار :
«ومن تأمل هذه الآية حق التأمل ، فإنه يجتنب أن يحرم على عباد الله شيئا ويوجب
عليهم شيئا في دينهم بغير نص صريح عن الله ورسوله ، بل يجتنب ـ أيضا ـ أن يقول :
هذا مندوب أو مكروه في الدين بغير دليل واضح من النصوص ، وما أكثر الغافلين عن هذا
المتجرئين على التشريع» .
وبعد أن بين
القرآن ما أحله الله وما حرمه. عقب على ذلك بأن بين أن أجل الناس في هذه الدنيا
محدود ، وأنهم إن آجلا أو عاجلا سوف يقفون أمام ربهم للحساب فقال :
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)
(٣٤)
أى : لكل أمة من
الأمم ولكل جيل من الأجيال مدة من العمر محدودة في علم الله ، فإذا ما انتهت هذه
المدة انقطعت حياتهم وفارقوا هذه الدنيا بدون أى تقديم أو تأخير.
وليس المراد
بالساعة هنا ما اصطلح عليه الناس من كونها ستين دقيقة ، وإنما المراد بها الوقت
الذي هو في غاية القلة.
ثم أورد القرآن بعد
ذلك النداء الرابع والأخير لبنى آدم ، وحضهم فيه على اتباع الرسل ، والسير على
الطريق المستقيم فقال :
(يا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ
اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)
وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ)
(٣٦)
__________________
والمعنى : يا بنى
آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم ، يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليهم لهدايتكم
فآمنوا بهم وعزروهم وانصروهم ، فإن من آمن بهم واتقى ما نهاه عنه ربه ، وأصلح نفسه
وعمله ، فأولئك لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون لمفارقتهم الدنيا ، أما
الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
فالآيتان
الكريمتان تخبران جميع بنى آدم أن رسل الله قد بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ، فعلى
المرسل إليهم أن يطيعوهم حتى يفوزوا برضاء خالقهم.
قال الجمل : «وإنما
قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحدا وهو النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأنه خاتم الأنبياء ، وهو مرسل إلى كافة الخلق ، فذكره
بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، فعلى هذا يكون الخطاب في قوله : (يا بَنِي آدَمَ) لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل أراد جميع الرسل. وعلى هذا
الخطاب في قوله : (يا بَنِي آدَمَ) عام لكل بنى آدم ، وإنما قال منكم أى : من جنسكم ومثلكم من
بنى آدم ، لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم ، لأنهم
يعرفونه ويعرفون أحواله ، فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن
ذلك الذي أتى به معجزة له ، وحجة على من خالفه» .
ثم تعرض السورة
الكريمة بعد ذلك لمشاهد يوم القيامة في خمس عشرة آية فتصور لنا في أسلوبها البليغ
المؤثر حال المشركين عند قبض أرواحهم ، وحالهم عند ما يقفون أمام الله للحساب يوم
الدين ، وتحكى لنا ما يجرى بين رؤساء المشركين ومرءوسيهم من مجادلات وملاعنات ، ثم
تعقب على ذلك ببيان ما أعده الله للمؤمنين من أجر عظيم وثواب جزيل ، ثم يختم هذه المشاهدة
بالحديث عما يدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار من محاورات ونداءات. استمع إلى
القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بطريقته التصويرية المعجزة فيقول :
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ
قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا
وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)
(٣٧)
__________________
أى : لا أحد أشد
ظلما ممن افترى الكذب على الله ، بأن أحل ما حرمه أو حرم ما أحله ، أو كذب بآياته
المنزلة على أنبيائه ، والاستفهام في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) للإنكار.
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبتهم فقال : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ).
أى : أولئك الذين
كذبوا بآيات الله سينالهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من رزق وأجر ، وخير وشر ،
والمراد بالكتاب ، كتاب الوحى الذي أنزل على الرسل ، فإنه يتضمن ما أعده الله
للمؤمنين من ثواب وما أعده للكافرين من عقاب ، وقيل المراد به اللوح المحفوظ ، أى
أولئك ينالهم نصيبهم المكتوب لهم في كتاب المقادير ، وهو : اللوح المحفوظ.
ثم صور القرآن
حالهم عند قبض أرواحهم فقال : (حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ، قالُوا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).
أى : أولئك
المفترون ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم ، حتى إذا ما انتهت آجالهم
وجاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم سألتهم سؤال توبيخ وتقريع : أين الآلهة التي
كنتم تعبدونها في الدنيا ، وتزعمون أنها شفعاؤكم عند الله لكي تنقذكم من هذا
الموقف العصيب؟ وهنا يجيب المشركون على الملائكة بقولهم بحسرة وندامة : (ضَلُّوا عَنَّا) أى : غابوا عنا وصرنا لا ندري مكانهم ، ولا نرجو منهم خيرا
أو نفعا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بعبادتهم لغير الله الواحد القهار.
وهنا يصدر عليهم
قضاء الله العادل الذي صوره القرآن في قوله :
(قالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها
جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ
عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ)
(٣٨)
أى : قال الله ـ تعالى
ـ لأولئك المكذبين ادخلوا في ضمن أمم من الجن والإنس قد سبقتكم في الكفر ،
وشاركتكم في الضلالة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض أحوالهم فقال : (كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) أى : كلما دخلت أمة من أمم الكفر النار لعنت أختها في
الدين والملة ، فالأمة المتبوعة تلعن الأمة التابعة
لأنها زادتها
ضلالا ، والأمة التابعة تلعن الأمة المتبوعة لأنها كانت سببا في عذابها.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(حَتَّى إِذَا
ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أى : حتى إذا ما اجتمعوا جميعا في النار الرؤساء والأتباع
، والأغنياء ، والفقراء ، قالت أخراهم دخولا أو منزلة وهم الأتباع ، لأولاهم دخولا
أو منزلة وهم الزعماء والمتبوعين (رَبَّنا هؤُلاءِ
أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ).
أى : قال الأتباع
: يا ربنا هؤلاء الرؤساء هم السبب في ضلالنا وهلاكنا ، فأذقهم ضعفا من عذاب النار
لإضلالهم إيانا فضلا عن أنفسهم.
وهنا يأتيهم
الجواب الذي يحمل لهم التهكم والسخرية ، فيقول الله لهم : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أى : لكل منكم ومنهم عذاب مضاعف من النار. أما أنتم فبسبب
تقليدكم الأعمى ، وأما هم فبسبب إضلالهم لكم ولغيركم ، ولكنكم يا معشر المقلدين لا
تعلمون ذلك لجهلكم وانطماس بصيرتكم.
(وَقالَتْ أُولاهُمْ
لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)
(٣٩)
أى : قال الزعماء
لأتباعهم بعد أن سمعوا رد الله عليهم : إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب ،
وكلنا فيه سواء ، لأنا لم نجبركم على الكفر ، ولكنكم أنتم الذين كفرتم باختياركم ،
وضللتم بسبب جهلكم ، فذوقوا العذاب المضاعف مثلنا بسبب ما اكتسبتموه في الدنيا من
قبائح ومنكرات :
فقوله ـ تعالى ـ :
(بِما كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ) بيان لأسباب الحكم عليهم.
وأنهم ما وردوا
هذا المصير الأليم إلا بسبب ، ما اكتسبوه من آثام : واجترحوه من سيئات.
ثم بين القرآن بعد
ذلك لونا آخر من ألوان عذاب المكذبين فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ
السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُجْرِمِينَ
(٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)
(٤١)
فهاتان الآيتان
تصوران أكمل تصوير استحالة دخول المشركين الجنة بسبب تكذيبهم لآيات الله
واستكبارهم عنها.
وقد فسر بعض
العلماء قوله ـ تعالى ـ : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ) بمعنى ، لا تقبل أعمالهم ولا ترفع إلى الله كما ترفع أعمال
الصالحين. قال ـ تعالى ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
وفسره بعضهم بمعنى
أن أرواحهم لا تصعد إلى السماء بعد الموت ، لأنها قد أغلقت عليهم بسبب شركهم ،
ولكنها تفتح لأرواح المؤمنين.
والمراد أن
الكافرين عند موتهم وعند حسابهم يوم القيامة يكونون على غضب الله ولعنته بسبب ما
ارتكبوه في الدنيا من شرك وظلم.
أما قوله ـ تعالى
ـ : (وَلا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فمعناه : أن هؤلاء المشركين لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم
أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في الضخامة وهو الجمل الكبير ،
فيما هو مثل في الضيق وهو ثقب الإبرة.
وفي قراءة (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) ـ بضم الجيم وتشديد الميم وفتحها ـ وهو الحبل الغليظ أى :
لا يدخلون الجنة حتى يدخل الحبل الغليظ الذي تربط به السفن في ذلك الثقب الصغير
للإبرة ، وهيهات أن يحصل هذا ، فكما أنه غير ممكن حصول ذلك فكذلك غير ممكن دخول
المشركين الجنة.
قال الجمل في
حاشيته : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. الولوج : الدخول بشدة ،
ولذلك يقال هو الدخول في ضيق فهو أخص من مطلق الدخول. والجمل معروف وهو الذكر من
الإبل ، وسم الخياط ، ثقب الإبرة ، وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات
لأنه أكبرها ، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب
الإبرة الضيق محالا فثبت أن الموقوف على المحال محال ، فوجب بهذا الاعتبار أن دخول
الكفار الجنة ميئوس منه قطعا ».
__________________
وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) معناه : ومثل ذلك الجزاء الرهيب نجزى جنس المجرمين ، الذين
صار الاجرام وصفا لازما لهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما أعد لهم في النار فقال : (لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
جهنم : اسم لدار
العذاب. والمهاد : الفراش. والغواشي جمع غاشية ، وهي ما يغشى الشيء أى يغطيه
ويستره.
أى : أن هؤلاء
المكذبين لهم نار جهنم تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، فهي من تحتهم بمنزلة الفراش
، ومن فوقهم بمثابة الغطاء ، ومثل ذلك الجزاء نجزى كل ظالم ومشرك. وإلى هنا تكون
الآيات الكريمة قد بينت لنا بأسلوب مؤثر مصور حال المشركين عند ما تقبض أرواحهم ،
وحالهم عند ما يقفون أمام الله للحساب ، وحالهم عند ما يلعن بعضهم بعضا ، وحالهم
والعذاب من فوقهم ومن أسفل منهم ، وهي مشاهد تفزع النفوس ، وتحمل العقلاء على
الاستقامة والاهتداء.
ثم نرى السورة بعد
ذلك تسوق لنا ما أعده الله للمؤمنين بعد أن بينت فيما سبق عاقبة الكافرين فقال ـ تعالى
ـ :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
وَنَزَعْنا
ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ
هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ
الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(٤٣)
أى : والذين آمنوا
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا الأعمال الصالحة التي لا عسر
فيها ولا مشقة ، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، أولئك الجامعون بين الإيمان
والعمل الصالح ، هم أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
وجملة ـ لا نكلف
نفسا إلا وسعها ـ معترضة بين المبتدأ الذي هو قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) وبين الخبر الذي هو قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ).
قال الجمل : «وإنما
حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر ، لأنه من جنس هذا الكلام ، لأنه ـ سبحانه
ـ لما ذكر عملهم الصالح ، ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم
، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ، يتوصل إليها بالعمل السهل من غير
مشقة ولا صعوبة ».
وقال صاحب الكشاف
: «وجملة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها) معترضة بين المبتدأ والخبر ، للترغيب في اكتساب ما لا
يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع ، وهو الإمكان
الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح ».
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي ونقاء قلبي فقال ـ تعالى ـ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أى : قلعنا ما في قلوبهم من تحاقد وعداوات في الدنيا ، فهم
يدخلون الجنة بقلوب سليمة ، زاخرة بالتواد والتعاطف حالة كونهم تجرى من تحتهم
الأنهار فيرونها وهم في غرفات قصورهم فيزداد سرورهم وحبورهم.
(وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا
اللهُ). أى : قالوا شاكرين لله أنعمه ومننه : الحمد لله الذي
هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح ، وأعطانا في الآخرة هذا النعيم الجزيل
، وما كنا لنهتدي إلى ما نحن فيه من نعيم لو لا أن هدانا الله إليه بفضله وتوفيقه.
وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : ولو لا هداية الله موجودة ما
اهتدينا.
وقوله : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) جملة قسمية ، أى : والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا
بالحق ، لأن ما أخبرونا به قد وجدنا مصداقه في الآخرة.
(وَنُودُوا أَنْ
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : ونودوا من قبل الخالق ـ عزوجل ـ بأن قيل لهم : تلكم هي الجنة التي كانت الرسل تعدكم بها
في الدنيا قد أورثكم الله إياها بسبب ما قدمتموه من عمل صالح.
فالآية الكريمة
صريحة في أن الجنة قد ظفر بها المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة.
فإن قيل : إن هناك
أحاديث صحيحة تصرح بأن دخول الجنة ليس بالعمل وإنما بفضل الله،
__________________
ومن ذلك ما جاء في
الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لن يدخل أحدا عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول
الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته».
فالجواب على ذلك
أنه لا تنافى في الحقيقة ، لأن المراد أن العمل لا يوجب دخول الجنة ، بل الدخول
بمحض فضل الله ، والعمل سبب عادى ظاهرى. وتوضيحه أن الأعمال مهما عظمت فهي ثمن
ضئيل بالنسبة لعظمة دخول الجنة ، فإن النعمة الأخروية سلعة غالية جدا فمثل هذه
المقابلة كمثل من يبيع قصورا شاهقة وضياعا واسعة بدرهم واحد.
فإقبال البائع على
هذه المبادلة ليس للمساواة بين العمل ونعمة الجنة ، بل لتفضله على المشترى ورحمته
به ، فمن رحمته بعباده المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا
لنعيم لا يبلى ، ولذلك قال ابن عباس عند ما قرأ قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) : نعمت الصفقة ، أنفس هو خالقها وأموال هو رازقها ثم يمنحنا
عليها الجنة.
على أنه ـ سبحانه
ـ هو المتفضل في الحقيقة بالثمن والمثمن جميعا. لا جرم كان دخول الجنة بفضله ـ سبحانه
ـ وهو الموفق للعمل والمعين عليه.
ويمكن أن يجاب ـ أيضا
ـ بأن الفوز بالجنة ونعيمها إنما هو بفضل الله والعمل جميعا ، فقوله : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : مع فضل الله ـ تعالى ـ ، وإنما لم يذكر ذلك لئلا
يتكلوا. وقوله صلىاللهعليهوسلم : «لن يدخل أحدا عمله الجنة ..» أى مجردا من فضل الله ،
وإنما اقتصر على هذا لئلا يغتروا.
هذا أصح الآراء في
الجمع بين الآية والحديث ، وهناك آراء أخرى لم نذكرها لضعفها.
وبعد هذه الموازنة
بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين ، بدأ القرآن يسوق لنا مشهدا آخر من الحوار الذي
يدور يوم القيامة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.
استمع إلى سورة
الأعراف وهي تحكى لنا هذا المشهد المؤثر بأسلوبها العجيب فتقول :
(وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا
فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ
وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ
يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ
أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ
الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ)
(٥١)
والمعنى : أن
أصحاب الجنة سوف يسألون أهل النار سؤال تعيير وتوبيخ يوم القيامة فيقولون لهم قد
وجدنا ما وعدنا ربنا حقا من الثواب ومن الجزاء ، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم حقا
من العقاب وسوء المصير؟ قالوا : نعم. أى : قال أهل النار : نعم وجدنا ما وعدنا
ربنا على ألسنة رسله حقا.
وهذا النداء إنما
يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.
والظاهر أن هذا
النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن الجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على
الفرد. فكل فريق من أهل الجنة ينادى من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا.
وعبر بالماضي مع
أن هذا النداء يكون في الآخرة لتحقق الوقوع وتأكده.
وكلمة (حَقًّا) نصبت في الموضعين على الحالية ، وقيل إنها مفعول ثان ويكون
وجد بمعنى علم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما جرى بعد ذلك فقال : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ ، أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً).
التأذن : رفع
الصوت بالإعلام بالشيء. واللعنة : الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة.
والمعنى : بعد أن
قامت الحجة على الكافرين وثبت الفوز للمؤمنين. نادى مناد بين الفريقين بقوله :
لعنة الله على الظالمين لأنفسهم ، ولغيرهم ، الذين من صفاتهم أنهم يمنعون الناس عن
اتباع شريعة الله ، ويريدون لها أن تكون معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها الناس ،
وهم بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب جاحدون مكذبون.
وفي قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ). نكر المؤذن ؛ لأن معرفته غير مقصودة بل المقصود الإعلام
بما يكون هناك من الأحكام ولم يرو عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيه شيء ، فهو من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا
بالتوقيف المستند إلى الوحى ، وما ورد في ذلك فهو من الآثار التي لا يعتمد عليها.
قال بعض العلماء :
«وفي هاتين الآيتين تعرض السورة لمرحلة أخرى من مراحل العذاب ، وهي نداء أصحاب
الجنة لأصحاب النار نداء يسجل عليهم الخزي والنكال ، ويشعرهم بالحسرة والندامة ،
إذ كذبوا بما يرونه الآن واقعا في مقابلة النعيم الذي صار إليه أهل الإيمان ،
وأحسوا به كذلك واقعا.
وفي هذا نرى صورة
من الحديث الذي يمثل الرضا والاطمئنان واللذة من جانب. ويمثل الحسرة والذلة والقلق
من جانب آخر. ويصور الحكم النافذ الذي لا مرد له ولا محيص عنه يؤذن به مؤذن لا
يدرك كنهه ولا يعلم من هو ولا ما صوته ولا كيف يلقى أذانه ، ولا كيف يكون أثر هذا
الأذن في نفوس سامعه.
وإنه لتصوير قوى
بارع ، يحرك إليه النفوس ، ويهز المشاعر ، ويبين أن النهاية الأليمة المتوقعة
لهؤلاء المكذبين ، إنما هي تسجيل اللعنة عليهم ، والطرد والحرمان من رحمة الله ،
مشيرا إلى أسباب ذلك الحرمان الماثلة في ظلمهم الذي كونه صدهم عن سبيل الله ،
وبغيهم إياها عوجا وانحرافا وكفرهم بدار الجزاء» .
ثم ينتقل القرآن
إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة ، يحدثنا فيه عن أصحاب الأعراف وما
يدور بينهم وبين أهل الجنة وأهل النار من حوار فيقول :
__________________
(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أى : بين أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل بينهما ، ويمنع
وصول أحد الفريقين إلى الآخر ، ويرى بعض العلماء أن هذا الحجاب هو السور الذي ذكره
الله في قوله ـ تعالى ـ في سورة الحديد : (يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ).
ثم قال ـ تعالى ـ :
(وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ، وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ).
الأعراف : جمع عرف
، وهو المكان المرتفع من الأرض وغيرها. ومنه عرف الديك وعرف الفرس وهو الشعر الذي
يكون في أعلى الرقبة.
والمعنى : وبين
الجنة والنار حاجز يفصل بينهما وعلى أعراف هذا الحاجز ـ أى في أعلاه ـ رجال يرون
أهل الجنة وأهل النار فيعرفون كلا منهم بسيماهم وعلاماتهم التي وصفهم الله بها في
كتابه كبياض الوجوه بالنسبة لأهل الجنة ، وسوادها بالنسبة لأهل النار ، ونادى
أصحاب الأعراف أصحاب الجنة عند رؤيتهم لهم بقولهم : سلام عليكم وتحية لكم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ).
هذا ، وللعلماء
أقوال في أصحاب الأعراف أوصلها بعض المفسرين إلى اثنى عشر قولا من أشهرها قولان :
أولهما : أن أصحاب
الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وقد روى هذا القول عن حذيفة وابن عباس وابن
مسعود وغير واحد من السلف والخلف.
وقد استشهد أصحاب
هذا القول بما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : «سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فقال : «أولئك أصحاب الأعراف ،
لم يدخلوها وهم يطمعون».
وعن الشعبي عن
حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم
سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار. قال : فوقفوا هناك على السور حتى
يقضى الله فيهم ».
وهناك آثار أخرى
تقوى هذا الرأى ذكرها الإمام ابن كثير في تفسيره ».
__________________
أما الرأى الثاني
: فيرى أصحابه أن أصحاب الأعراف قوم من أشرف الخلق وعدولهم كالأنبياء والصديقين
والشهداء. وينسب هذا القول إلى مجاهد وإلى أبى مجلز فقد قال مجاهد : «أصحاب
الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء» وقال أبو مجلز : أصحاب الأعراف هم رجال من
الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار. ومعنى كونهم رجالا ـ في قول أبى مجلز أى :
في صورتهم.
وقد رجح بعض
العلماء الرأى الثاني فقال : «وليس أصحاب الأعراف ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم كما جاء
في بعض الروايات ، لأن ما نسب إليهم من أقوال لا يتفق مع انحطاط منزلتهم عن أهل
الجنة ، انظر قولهم للمستكبرين :
(ما أَغْنى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) فإن هذا الكلام لا يصدر إلا من أرباب المعرفة الذين
اطمأنوا إلى مكانتهم. ولذا أرجح أن رجال الأعراف هم عدول الأمم والشهداء على الناس
، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل ».
والذي نراه : أن
هناك حجابا بين الجنة والنار ، الله أعلم بحقيقته ، وأن هذا الحجاب لا يمنع وصول
الأصوات عن طريق المناداة ، وأن هذا الحجاب من فوقه رجال يرون أهل الجنة وأهل النار
فينادون كل فريق بما يناسبه ، يحيون أهل الجنة ويقرعون أهل النار ، وأن هؤلاء
الرجال ـ يغلب على ظننا ـ أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم. لأن هذا القول هو قول
جمهور العلماء من السلف والخلف ، ولأن الآثار تؤيده ، ولذا قال ابن كثير : «واختلفت
عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو
أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد
من السلف والخلف رحمهمالله ».
وقوله : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه في
أصحاب الأعراف ، أى أن أصحاب الأعراف عند ما رأوا أهل الجنة سلموا عليهم حال كونهم
ـ أى أصحاب الأعراف ـ لم يدخلوها معهم وهم طامعون في دخولها مترقبون له.
وثانيهما : أنه في
أصحاب الجنة : أى : أنهم لم يدخلوها بعد ، وهم طامعون في دخولها لما ظهر لهم من
يسر الحساب. وكريم اللقاء.
__________________
ثم قال ـ تعالى ـ :
(وَإِذا صُرِفَتْ
أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا : رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
أى : وإذا ما
اتجهت أبصار أصحاب الأعراف إلى جهة النار قالوا مستعيذين بالله من سوء ما رأوا من
أحوالهم : يا ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين ، ولا تجعلنا وإياهم في هذا
المكان المهين.
قال صاحب المنار :
«وقد أفاد هذا التعبير بالفعل المبنى للمجهول أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة
بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام ، وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار ، فإذا صرفت
أبصارهم تلقاءهم من غير قصد ولا رغبة ، بل بصارف يصرفهم إليها قالوا : ربنا لا
تجعلنا مع القوم الظالمين.
ثم قال : والإنصاف
أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم وكانوا موقوفين مجهولا مصيرهم ».
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما يقوله أهل الأعراف لرءوس الكفر في هذا الموقف العصيب فقال : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ).
أى : ونادى أصحاب
الأعراف رجالا من أهل النار وكانوا أصحاب وجاهة وغنى في الدنيا ، فيقولون لهم على
سبيل التوبيخ والتقريع ما أغنى عنكم جمعكم وكثرتكم واستكباركم في الأرض بغير الحق.
فقد صرتم في الآخرة بسبب كفركم وعنادكم إلى هذا الوضع المهين.
وقد كرر ـ سبحانه
ـ ذكرهم مع قرب العهد بهم ، فلم يقل «ونادوا» لزيادة التقرير ، وكون هذا النداء
خاصا في موضوع خاص فكان مستقلا.
وقوله : (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) أى : بعلاماتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ كسواد الوجوه ،
وظهور الذلة على وجوههم. أو يعرفونهم بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا.
ثم يزيدون توبيخهم
وتبكيتهم فيقولون لهم : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
أى : أن أصحاب
الأعراف يشيرون إلى أهل الجنة من الفقراء والذين كانوا مستضعفين في الأرض ثم
يقولون لرءوس الكفر الذين كانوا يعذبونهم : أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا أن الله
__________________
ـ تعالى ـ لا
ينالهم برحمة في الآخرة لأنه لم يعطهم في الدنيا مثل ما أعطاكم من مال وبنين
وسلطان.
وهنا ينادى مناد
من قبل الله ـ تعالى ـ على هؤلاء الفقراء فيقول لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
أى : ادخلوا الجنة
لا خوف عليكم مما يكون في المستقبل ، ولا أنتم تحزنون على ما خلفتموه في الدنيا.
وقيل : إن قوله ـ تعالى
ـ : (ادْخُلُوا). من كلام أصحاب الأعراف ـ أيضا ، فكأنهم التفتوا إلى أولئك
المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : امكثوا في الجنة غير خائفين ولا محزونين
على أكمل سرور وأتم كرامة.
ثم تسوق لنا
السورة الكريمة بعد ذلك مشهدا ختاميا من مشاهد يوم القيامة تدور محاوراته بين
أصحاب الجنة وأصحاب النار فتقول :
(وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ ، قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ* الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، وَما كانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).
إفاضة الماء : صبه
، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة.
والمعنى : أن أهل
النار ـ بعد أن أحاط بهم العذاب المهين ـ أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار
فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكي نستعين بهما
على ما نحن فيه من سموم وحميم.
وهنا يرد عليهم
أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على
الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم ـ الذي أمرهم
الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ـ مادة للسخرية والتلهي ، وصرف الوقت فيما لا
يفيد ، فأصبح الدين ـ في زعمهم ـ صورة ورسوما لا تزكى نفسا ، ولا تطهر قلبا ، ولا
تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا ـ أى شغلتهم بمتعها ولذائذها
وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم.
وقوله ـ تعالى ـ :
(فَالْيَوْمَ
نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسي بالمنسى من عدم الاعتناء
بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم
لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم.
فالنسيان في حق
الله ـ تعالى ـ مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم
وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا.
وهكذا تسوق لنا
السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما
تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين. كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات
ومناقشات فيها العبر والعظات «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد».
ثم بين ـ سبحانه ـ
منزلة القرآن الكريم في إثباته للرسالة المحمدية عن طريق الإخبار بأحوال الأمم
السابقة وبيان سوء عاقبة من كذب به ، فقال :
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ
بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ
فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)
(٥٣)
قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ
فَصَّلْناهُ) ... إلخ.
التفصيل : عبارة
عن جعل الحقائق والمسائل بيانها مفصولا بعضها عن بعض بحيث لا يبقى فيها اشتباه أو
لبس.
والمعنى : ولقد
جئنا لهؤلاء الناس على لسانك يا محمد بكتاب عظيم الشأن ، كامل التبيان ، فصلنا
آياته تفصيلا حكيما ، وبينا فيه ما هم في حاجة إليه من أمور الدنيا والآخرة بيانا
شافيا يؤدى إلى سعادتهم متى اتبعوه واهتدوا بهديه».
والضمير لأولئك
الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وقيل هو لهم وللمؤمنين ، والمراد
بالكتاب : القرآن الكريم.
وقوله : (عَلى عِلْمٍ) حال من فاعل «فصلناه» ، أى : فصلناه على أكمل وجه وأحسنه
حالة كوننا عالمين بذلك أتم العلم.
فالمراد بهذه
الجملة الكريمة بيان أن ما في هذا القرآن من أحكام وتفصيل وهداية ، لم يحصل عبثا ،
وإنما حصل مع العلم التام بكل ما اشتمل عليه من فوائد متكاثرة ، ومنافع متزايدة.
وقرأ ابن محيص «فضلناه»
بالضاد المعجمة. أى : فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك.
وقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً) حال من مفعول «فصلناه» وقرئ بالجر على البدلية من «علم»
وبالرفع على إضمار المبتدأ ، أى : هو هدى عظيم ورحمة واسعة.
وقال : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم المنتفعون بهديه ، والمستجيبون لتوجيهاته ثم بين
ـ سبحانه ـ عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الذي أنزله الله هداية ورحمة فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ).
النظر هنا بمعنى
الانتظار والتوقع لا بمعنى الرؤية. فالمراد بينظرون : ينتظرون ويتوقعون ، وتأويل
الشيء : مرجعه ومصيره الذي يئول إليه ذلك الشيء والاستفهام بمعنى النفي.
والمعنى : إن
هؤلاء المشركين ليس أمامهم شيء ينتظرونه بعد أن أصروا على شركهم إلا ما يئول إليه
أمر هذا الكتاب وما تتجلى عنه عاقبته ، من تبين صدقه ، وظهور صحة ما أخبر به من
الوعد والوعيد والبعث والحساب ، وانتصار المؤمنين به واندحار المعرضين عنه.
فإن قيل : كيف
ينتظرون ذلك مع كفرهم به؟
فالجواب : أنهم
قبل وقوع ما هو محقق الوقوع ، صاروا كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف
ملاقاة ما وعدوا به ، وسينزل بهم لا محالة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حالهم يوم الحساب فقال : (يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا
بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
أى : يوم يأتى يوم
القيامة الذي أخبر عنه القرآن ، والذي يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب ، يقول
هؤلاء الكافرون الذين جحدوا هذا اليوم عند ما تكشف لهم الحقائق ، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وتبين صدقهم ولكننا نحن الذين كذبناهم وسرنا في طريق
الضلال ، (فَهَلْ لَنا مِنْ
شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) في هذه الساعة العصيبة ويدفعوا عنا ما نحن فيه من كرب
وبلاء ، أو نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله من الجحود واللهو
واللعب.
أى : أنه لا طريق
لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين ، وهو أن يشفع
لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب ، أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نعمل
غير ما كنا نعمل.
فالجملة الكريمة
تصور حسرتهم يوم القيامة تصويرا يهز المشاعر ، ويحمل العقلاء على الإيمان والعمل
الصالح.
والاستفهام في
قوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ
شُفَعاءَ) للتمني والتحسر ، ومن مزيدة للاستغراق والتأكيد وشفعاء
مبتدأ مؤخر ولنا خبر مقدم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
نهايتهم فقال : (قَدْ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).
أى : قد خسر هؤلاء
الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أنفسهم ، بسبب إشراكهم بالله ، وذهب عنهم ما كانوا
يفترونه في الدنيا من أن أصنامهم ستشفع لهم يوم الجزاء ، وأيقنوا أنهم كانوا
كاذبين في دعواهم.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
جانبا من بديع صنعه ، وجليل قدرته ، لكي يدل على أنه هو المعبود الحق فقال ـ تعالى
ـ :
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)
(٥٤)
أى : إن سيدكم
ومالككم الذي يجب عليكم أن تفردوه بالعبادة هو الله الذي أنشأ السموات والأرض على
غير مثال سابق في مقدار ستة أيام.
قال الشهاب :
اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أوقات. وإن أريد
المتعارف وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها فالمعنى في مقدار ستة أيام ، لأن اليوم
إنما كان بعد خلق الشمس والسموات فيقدر فيه مضاف .
وقال صاحب فتح
البيان : «قيل هذه الأيام من أيام الدنيا ، وقيل من أيام الآخرة ، قال ابن عباس :
يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وقال سعيد ابن جبير ، «كان الله قادرا على أن
__________________
يخلق السموات
والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت
والتأنى في الأمور» .
وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال الشيخ القاسمى :
ورد الاستواء على
معان اشترك لفظه فيها ، فجاء بمعنى الاستقرار ، ومنه (اسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِ) وبمعنى القصد ومنه (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه. قال
الفراء : تقول العرب استوى إلى يخاصمني أى : قصد لي وأقبل على. ويأتى بمعنى
الاستيلاء.
قال الشاعر :
|
|
قد استوى بشر
على العراق
|
ويأتى
بمعنى العلو ومنه هذه الآية.
|
قال البخاري في
آخر صحيحه في كتاب الرد على الجهمية في باب قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ). قال مجاهد : استوى وعلا على العرش.
وقال ابن راهويه :
سمعت غير واحد من المفسرين يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) أى : علا وارتفع .
وعرش الله ـ كما
قال الراغب ـ مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ،
فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له ـ تعالى الله عن ذلك ـ لا محمولا.
وقد ذكر العرش في
إحدى وعشرين آية. وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.
أما الاستواء على
العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه
ولا تمثيل لاستحالة اتصافه ـ سبحانه ـ بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق
به «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» وأنه يجب الإيمان بها كما وردت وتفويض العلم
بحقيقتها إليه ـ تعالى ـ.
فعن أم سلمة ـ رضى
الله عنها ـ في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) أنها قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ،
والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر.
وقال الإمام مالك
: الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
__________________
وقال محمد بن
الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الإمام
الرازي : إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه.
وذهب بعض علماء
الخلف إلى وجوب صرفه ـ أى الاستواء ـ عن ظاهره لاستحالته ، وأن المراد منه ـ كما
قال الإمام القفال ـ أنه استقام ملكه ، واطرد أمره ونفذ حكمه ـ تعالى ـ في
مخلوقاته ، والله ـ تعالى ـ دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم على الوجه
الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم «تنبيها على عظمته وكمال قدرته» وذلك مشروط
بنفي التشبيه ، ويشهد بذلك قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) .
هذا وللعلماء كلام
طويل حول هذه المسألة التي تتعلق بالمحكم والمتشابه فليرجع إليها من شاء.
وقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) التغشية : التغطية والستر ، أى : يجعل الليل غاشيا للنهار
مغطيا له فيذهب بنوره ، ويصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا ، ويجعل النهار غاشيا
لليل فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما ، وفي ذلك من منافع الناس ما فيه وبه تتم
الحياة ، وهو دليل القدرة والحكمة والتدبير من الإله العلى العظيم.
ولم يذكر في هذه
الآية يغشى الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله ـ تعالى ـ : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أو لدلالة الحال عليه ، أو لأن اللفظ يحتملهما : يجعل
الليل مفعولا أول والنهار مفعولا ثانيا أو بالعكس.
والآية الكريمة من
باب أعطيت زيدا عمرا ، لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشيا ومغشيا ، فوجب
جعل الليل هو الفاعل المعنوي ، والنهار هو المفعول من غير عكس لئلا يلتبس المعنى.
وقد قال ـ تعالى ـ
في آية أخرى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ).
وقوله : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أى : يطلب الليل النهار أو كلاهما بطلب الآخر طلبا سريعا
حتى يلحقه ويدركه ، وهو كناية عن أن أحدهما يأتى عقب الآخر ويخلفه بلا فاصل ،
فكأنه يطلبه طلبا سريعا لا يفتر عنه حتى يلحقه.
والحث على الشيء :
الحض عليه. يقال : حث الفرس على العدو يحثه حثا صاح به أو وكزه برجل أو ضرب. وذهب
حثيثا أى : مسرعا.
__________________
والجملة حال من
الليل ، لأنه هو المتحدث عنه أو حال من النهار أى : مطلوب حثيثا ، أو من كل منهما
على الرأى الثاني الذي يفسر «يطلبه حثيثا» بأن كليهما يطلب الآخر.
وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أى : وخلق الشمس والقمر والنجوم كونهن مذللات خاضعات
لتصرفه ، منقادات لمشيئته ، كأنهن مميزات أمرن فانقدن ، فتسمية ذلك أمر على سبيل
التشبيه.
قال الآلوسى :
ويصح حمل الأمر على الإرادة. أى : هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة
لإرادته : ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامى وقال : إنه ـ سبحانه ـ أمر هذه
الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصوص إلى حيث شاء ولا مانع
أن يعطيها الله إدراكا وفهما لذلك ».
وقرأ الجمهور بنصب
الألفاظ الثلاثة على أنها معطوفة على السموات ، أى : خلق السموات وخلق الشمس
والقمر والنجوم. وبنصب (مُسَخَّراتٍ) أيضا على أنها حال من هذه الثلاثة.
وقرأ أبو عامر
بالرفع في جميعها على الابتداء والخبر مسخرات.
وقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ألا : أداة يفتتح بها القول الذي يهتم بشأنه لأجل تنبيه
المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله. والخلق : إيجاد الشيء من العدم. والأمر :
التدبير والتصرف على حسب الإرادة لما خلقه. فهو ـ سبحانه ـ الخالق والمدبر للعالم
على حسب إرادته وحكمته لا شريك له في ذلك.
وهذه الجملة
الكريمة كالتدليل للكلام السابق أى : أنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلق الأشياء كلها
ويدخل في ذلك السموات والأرض وغيرهما ، وهو الذي دبر هذا الكون على حسب إرادته
ويدخل في ذلك ما أشار إليه بقوله : (مُسَخَّراتٍ
بِأَمْرِهِ).
وقوله : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).
تبارك : فعل ماض
لا يتصرف ، أى لم يجيء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل. من البركة بمعنى الكثرة من
كل خير. وأصلها النماء والزيادة. أى : كثر خيره وإحسانه وتعاظمت وتزايدت بركات
الله رب العالمين.
أو من البركة
بمعنى الثبوت. يقال : برك البعير ، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شيء ثبت
ودام فقد برك. أى : ثبت ودام خيره على خلقه.
__________________
أو المعنى : تعالى
الله رب العالمين وتعظم وارتفع وتنزه عن كل نقص.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ عباده أن يكثروا من التضرع إليه بالدعاء الخالص فقال :
(ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
وَلا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ
رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
(٥٦)
التضرع : تفعل من
الضراعة وهي الذلة والاستكانة. يقال : ضرع فلان ضراعة : أى خشع وذل وخضع. ويقال :
تضرع ، أى أظهر الضراعة والخضوع. وتضرعا حال من الضمير في ادعوا.
الخفية : بضم
الخاء وكسرها ـ مصدر خفى كمرض بمعنى اختفى أى : استتر وتوارى ولم يجهر بدعائه.
والمعنى : سلوا
ربكم ـ أيها الناس ـ حوائجكم بتذلل واستكانة وإسرار واستتار فإنه ـ سبحانه ـ يسمع
الدعاء ويجيب المضطر ، ويكشف السوء ، وهو القادر على إيصالها إليكم ، وغيره عن ذلك
عاجز.
وإنما أمر الله
عباده بالإكثار من الدعاء في ضراعة وإسرار ، لأن الدعاء ما هو إلا اتجاه إلى الله
بقلب سليم ، واستعانة به بإخلاص ويقين ، لكي يدفع المكروه ، ويمنح الخير ، ويعين
على نوائب الدهر ، ولا شك أن الإنسان في هذه الحالة يكون في أسمى درجات الصفاء
الروحي ، والنقاء النفسي ، ويكون كذلك مؤديا لأشرف ألوان العبادة والخضوع لله
الواحد القهار ، معترفا لنفسه بالعجز والنقص. ولربه بالقدرة والكمال .
هذا ، وقد أخذ
العلماء من هذه الآية من آداب الدعاء الخشوع والإسرار واستدلوا على ذلك بأحاديث
وآثار متعددة منها ما جاء في الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا.
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أيها الناس ،
__________________
اربعوا على أنفسكم
ـ أى ارفقوا بها ـ وأقصروا من الصياح ـ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إنه معكم.
إنه سميع قريب. تبارك اسمه وتعالى جده» .
وقال عبد الله بن
المبارك عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر
به الناس ، وإن كان الرجل ، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان
الرجل ليصلى الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور ـ أى الزوار ـ وما يشعرون به.
ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية
أبدا. ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا
بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله ـ تعالى ـ يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضى فعله وهو زكريا فقال : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) .
وقال ابن المنير :
«وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية ، فالاخلال بالضراعة
إلى الله إخلال بالدعاء. وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى. فكذلك دعاء
لا خفية فيه ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعمدون إلى الصراخ والصياح
في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللفظ ويشتد ، وتستك المسامع وتنسد ، ويهتز
الداعي بالناس ، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين : رفع الصوت في الدعاء وفي المسجد ،
وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك
السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ليست
خارجة عن صميم الفؤاد ، لأنها لو كانت من أصل لكانت عند اتباع السنة في الدعاء.
وفي خفض الصوت به أوفر وأوفى وأزكى فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول كثير من
الخلق. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه» .
وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الاعتداء تجاوز الحد أى : لا يحب المتجاوزين حدودهم في كل
شيء ، ويدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولا أوليا. ومن مظاهر الاعتداء في الدعاء أن
يترك هذين الأمرين وهما التضرع والإخفاء ، كذلك من مظاهر الاعتداء في الدعاء أن
يتكلف فيه.
روى أبو داود في
سننه أن سعد بن أبى وقاص سمع ابنا له يدعو ويقول : اللهم إنى أسألك الجنة ونعيمها
وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال له يا بنى :
إنى سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ثم قرأ سعد هذه
__________________
الآية (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً) وإن بحسبك أن تقول : اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها
من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ».
ثم نهى الله عباده
عن كل لون من ألوان المعاصي فقال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أى : لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله إياها ، بأن خلقها
على أحسن نظام ، فالجملة الكريمة نهى عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس
والأموال والأنساب والعقول والأديان.
روى أبو الشيخ عن
أبى بكر بن عياش أنه سئل عن قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فقال : إن الله بعث محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله به ، فمن دعا إلى
خلاف ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم فهو من المفسدين في الأرض».
قال صاحب المنار :
وقال ـ سبحانه ـ : (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) لأن الإفساد بعد الإصلاح أشد قبحا من الإفساد على الإفساد
، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذا هو لم يحفظه ويجرى على سننه. فكيف إذا
هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟ ولذا خص بالذكر وإلا فالإفساد مذموم ومنهى عنه في كل حال»
.
وقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً).
أصل الخوف :
انزعاج في الباطن يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل.
والمعنى : وادعوه
خائفين من عقابه إياكم على مخالفتكم لأوامره ، طامعين في رحمته وإحسانه وفي إجابته
لدعائكم تفضلا منه وكرما.
قال الجمل : فإن
قلت : قال في أول الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وقال هنا : (وَادْعُوهُ خَوْفاً
وَطَمَعاً) وهذا عطف للشيء على نفسه فما فائدة ذلك؟ قلت : الفائدة أن
المراد بقوله ـ تعالى ـ : (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) بيان شرطين من شروط الدعاء وبقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) بيان شرطين آخرين ، والمعنى : كونوا جامعين في أنفسكم بين
الخوف والرجاء في أعمالكم ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن
اجتهدتم فيهما» .
وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) أى : إن رحمته ـ تعالى ـ وإنعامه على عباده قريب من
المتقين لأعمالهم ، المخلصين فيها ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فمن أحسن عبادته
__________________
نال عليها الثواب
الجزيل ، ومن أحسن في أمور دنياه كان أهلا للنجاح في مسعاه ، ومن أحسن في دعائه
كان جديرا بالقبول والإجابة.
قال الشيخ القاسمى
: وفي الآية الكريمة ترجيح للطمع على الخوف ، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف ،
ولكنه إذا رأى سعة رحمته ـ سبحانه ـ وسبقها ، غلب الرجاء عليه. وفيها تنبيه على ما
يتوسل به إلى الإجابة وهو الإحسان في القول والعمل.
قال مطر الوراق :
استنجزوا موعود الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين» .
هذا ، وكلمة «قريب»
وقعت خبرا للرحمة ، ومن قواعد النحو أن يكون الخبر مطابقا للمبتدأ في التذكير
والتأنيث ، فكان مقتضى هذه القواعد أن يقال إن رحمة الله قريبة. وقد ذكر العلماء
في تعليل ذلك بضعة عشر وجها ، منها أن تذكير «قريب» صفة لمحذوف أى أمر قريب ، أو
لأن كلمة الرحمة مؤنثة تأنيثا مجازيا ، فجاز في خبرها التذكير والتأنيث أو لأن
الرحمة هنا بمعنى الثواب وهو مذكر فيكون تذكير قريب باعتبار ذلك وقيل غير ذلك مما
لا مجال لذكره هنا.
وبعد أن بيّن ـ سبحانه
ـ أنه هو الخالق للسموات والأرض ، وأنه هو المتصرف الحاكم المدبر المسخر ، وأن
رحمته قريبة من المحسنين الذين يكثرون من التضرع إليه بخشوع وإخلاص.
بعد كل ذلك تحدث ـ
سبحانه ـ عن بعض مظاهر رحمته التي تتجلى في إرسال الرياح ، وإنزال المطر ، وعن بعض
مظاهر قدرته التي تتجلى في بعث الموتى للحساب ، وفي هداية من يريد هدايته وإضلال
من يريد ضلالته فقال ـ تعالى ـ :
(وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً
ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
(٥٧)
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) معطوف على ما سبق من
__________________
قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لبيان مظاهر قدرته ورحمته. وقرأ حمزة والكسائي «الريح»
بالإفراد :
و (بُشْراً) ـ بضم الباء فسكون الشين ـ مخفف و (بُشْراً) ـ بضمتين ـ جمع بشير كنذر ونذير ، أى : مبشرات بنزول الغيث
المستتبع لمنفعة الخلق.
وقرأ أهل المدينة
والبصرة «نشرا» ـ بضم النون والشين ـ جمع نشور ـ كصبور وصبر ـ بمعنى ناشر من النشر
ضد الطى ، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه.
وهناك قراءات أخرى
غير ذلك.
والمعنى وهو ـ سبحانه
ـ الذي يرسل الرياح مبشرات عباده بقرب نزول الغيث الذي به حياة الناس.
وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أى بين يدي المطر الذي هو من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده.
قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ
مُبَشِّراتٍ).
قال الإمام الرازي
: وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ) من أحسن أنواع المجاز ، والسبب في ذلك أن اليدين يستعملهما
العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز. يقال : إن الفتن تحصل بين يدي الساعة
يريدون قبيلها ، كذلك مما حسن هذا المجاز أن يدي الإنسان متقدمة ، فكل ما كان
يتقدم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة ، فلما كانت
الرياح تتقدم المطر ، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ» .
وقوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً
سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) حتى : غاية لقوله : (يُرْسِلُ). وأقلت : أى حملت. وحقيقة أقله وجده قليلا ثم استعمل بمعنى
حمله. لأن الحامل لشيء يستقل ما يحمله بزعم أن ما يحمله قليل.
و (سَحاباً) أى : غيما ، سمى بذلك لانسحابه في الهواء ، وهو اسم جنس
جمعى يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة ، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع.
و (ثِقالاً) جمع ثقيلة من الثقل ـ كعنب ـ ضد الخفة. يقال : ثقل الشيء ـ
ككرم ـ ثقلا وثقالة فهو ثقيل وهي ثقيلة.
والمعنى : أن الله
ـ تعالى ـ هو الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول الغيث ، حتى إذا حملت
__________________
الرياح سحابا
ثقالا من كثرة ما فيها من الماء ، سقناه ـ أى السحاب إلى «بلد ميت» أى إلى أرض لا
نبات فيها ولا مرعى ، فاهتزت وربت وأخرجت النبات والمرعى. فأطلق ـ سبحانه ـ الموت
على الأرض التي لا نبات فيها ، وأطلق الحياة على الأرض الزاخرة بالنبات والمرعى
لأن حياتها بذلك.
قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) .
وقوله : (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أى : فأنزلنا في هذا البلد الميت الماء الذي يحمله السحاب.
فالباء في (بِهِ) للظرفية.
وقيل إن الضمير في
(بِهِ) للسحاب ، أى : فأنزلنا بالسحاب الماء وعليه فتكون الباء
للسببية.
وقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) أى : فأخرجنا بهذا الماء من كل أنواع الثمرات المعتادة في
كل بلد ، تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها.
فليس المراد أن كل
بلد ميت تخرج منه جميع أنواع الثمار التي خلقها الله ، متى نزل به الماء ، وإنما
المراد أن كل بلد تخرج منه الثمار التي تناسب تربته على حسب مشيئة الله وفضله
وإحسانه ، إذ من المشاهد أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه ، وهذا أدل على قدرة
الله ، وواسع رحمته.
وقوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى إخراج الثمرات ، أو إلى إحياء البلد الميت.
أى : مثل ما
أحيينا الأرض بعد موتها وجعلناها زاخرة بأنواع الثمرات بسبب نزول الماء عليها ،
نخرج الموتى من الأرض ونبعثهم أحياء في اليوم الآخر لنحاسبهم على أعمالهم ،
فالتشبيه في مطلق الإخراج من العدم. وهذا رد على منكري البعث بدليل ملزم ، لأن من
قدر على إخراج النبات من الأرض بعد نزول الماء عليها ، قادر ـ أيضا ـ على إخراج
الموتى من قبورهم.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تذييل قصد به الحث على التدبر والتفكر ، أى : لعلكم تذكرون
وتعتبرون بما وصفنا لكم فيزول إنكاركم للبعث والحساب.
قال الشيخ القاسمى
: «من أحكام الآية كما قال الجشمي : أنها تدل على عظم نعمة الله
__________________
علينا بالمطر ،
وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات وتدل على أنه أراد من
الجميع التذكر ، وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء. وإلا فهو قادر
على إخراجه من غير ماء فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده ، لضرب من
المصلحة دينا ودنيا ..» .
ثم ضرب ـ سبحانه ـ
مثلا لاختلاف استعداد البشر للخير والشر فقال :
(وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ
إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)
(٥٨)
(وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ
إِلَّا نَكِداً).
أصل النكد : العسر
القليل الذي لا يخرج إلا بعناء ومشقة. يقال : نكد عيشه ينكد ، اشتد وعسر. ونكدت
البئر : قل ماؤها ، ومنه : رجل نكد ، ونكد وأنكد ، شؤم عسر. وهم أنكاد ومناكيد.
وقال في اللسان :
والنكد : قلة العطاء ، قال الشاعر :
لا تنجز الوعد
إن وعدت وإن
|
|
أعطيت ، أعطيت
تافها نكدا
|
أى : عطاء قليلا
لا جدوى منه.
والمعنى : أن
الأرض الكريمة التربة يخرج نباتها وافيا حسنا غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره ،
والذي خبث من الأرض كالسبخة منها لا يخرج نباته إلا قليلا عديم الفائدة.
فالأول : مثل ضربه
الله للمؤمن يقول : هو طيب وعمله طيب.
والثاني : مثل
للكافر ، يقول : هو خبيث وعمله خبيث ، وفيهما بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي
تشبه الأرض الطيبة التربة ، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة السبخة.
ونكدا منصوب على
أنه حال أو على أنه نعت لمصدر محذوف والتقدير : والذي خبث لا يخرج إلا خروجا نكدا.
قال صاحب الكشاف :
«وهذا مثل لمن ينجح فيه الوعظ والتذكير من المكلفين ، ولمن لا يؤثر فيه شيء من
ذلك. وعن مجاهد : آدم وذريته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة : المؤمن سمع
__________________
كتاب الله فوعاه
بعقله وانتفع به ، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا
التمثيل واقع على أثر ذكر المطر. وإنزاله بالبلد الميت ، وإخراج الثمرات به على
طريق الاستطراد» .
وقريب من معنى
الآية الكريمة ما رواه الشيخان عن أبى موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث
الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ،
وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب
منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين
الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى
الله الذي أرسلت به» .
وقوله : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ) أصل التصريف : تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح. والآيات
: الدلائل الدالة على قدرة الله.
أى : مثل ذلك
التصريف البديع والتنويع الحكيم نصرف الآيات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا
بالإتيان بها على أنواع جلية واضحة لقوم يشكرون نعمنا ، باستعمالها فيما خلقت له ،
فيستحقون مزيدنا منها وإثابتنا عليها.
وعبر هنا بالشكر
لأن هذه الآية موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد ، بينما عبر في الآية
السابقة عليها بالتذكر لأن موضوعها يتعلق بالاعتبار والاستدلال على قدرة الله ـ تعالى
ـ في إحياء الموتى.
وإلى هنا تكون
السورة الكريمة قد حدثتنا ـ من بين ما حدثتنا ـ عن عظمة القرآن الكريم وعن وجوب
اتباعه ، وعن قصة آدم وما فيها من عبر وعظات ، وعما أحله الله وحرمه ، وعما يدور
بين أهل النار من مجادلات واتهامات ، وعن العاقبة الطيبة التي أعدها الله للصالحين
من عباده ، وعن المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل النار ، ثم عن مظاهر قدرة الله
، وأدلة وحدانيته.
وبعد كل ذلك تبدأ
السورة جولة جديدة مع الأمم الخالية ، والقرى المهلكة التي جاء ذكرها في مطلعها.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ).
فتحدثنا السورة
الكريمة عن مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم
__________________
شعيب ، ثم حديثا
مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.
وقد تكلم الإمام
الرازي عن فوائد مجيء قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في هذه السورة بعد أن تحدثت
عن أدلة توحيده وربوبيته ـ سبحانه ـ فقال : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر في تقرير
المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة ، وبينات قاهرة ، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص
الأنبياء وفيه فوائد :
أحدها : التنبيه
على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات. ليس من خواص قوم النبي صلىاللهعليهوسلم بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة
، والمصيبة إذا عمت خفت ، فكان ذكر قصصهم ، وحكاية إصرارهم وعنادهم ، يفيد تسلية
للنبي صلىاللهعليهوسلم وتخفيف ذلك على قلبه.
ثانيها : أنه ـ تعالى
ـ يحكى في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا ،
والخسارة في الآخرة ، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا ، والسعادة في
الآخرة ، وذلك يقوى قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين.
وثالثها : التنبيه
على أنه ـ تعالى ـ وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يمهلهم ، بل ينتقم منهم
على أكمل الوجوه.
ورابعها : بيان أن
هذه القصص دالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه كان أميّا. وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ. فإذا
ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها
بالوحي من الله ـ تعالى ـ» .
والآن فلنستمع
بتدبر واعتبار إلى السورة الكريمة وهي تحدثنا عن قصة نوح مع قومه فتقول :
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ
رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ
__________________
ما
لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)
(٦٤)
تلك هي قصة نوح مع
قومه كما وردت في هذه السورة ، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلا في سورة هود ،
والمؤمنون ، ونوح وغيرها.
وقوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) جواب قسم محذوف ، أى : والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه
والدليل على هذا القسم وجود لامه في بدء الجملة.
قال الآلوسى : «واطرد
استعمال هذه اللام مع قد في الماضي ـ على ما قال الزمخشري ـ وقل الاكتفاء بها
وحدها. والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها
التي هي جوابها ، فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه ، لأن القسم دل على
الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد» .
وينتهى نسب نوح ـ عليهالسلام ـ إلى شيث بن آدم ـ عليهالسلام ـ وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاث وأربعين موضعا.
وقوم الرجل
أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه
مجازا للمجاورة.
وكان قوم نوح
يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.
قال ابن كثير :
قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام أن
قوما صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها
ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك
الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين : ودا
وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله ـ تعالى ـ رسوله نوحا فأمرهم
بعبادة الله وحده لا شريك له» .
__________________
وقوله : (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) حكاية لما وجهه نوح لقومه من إرشادات ، أى : قال لهم بتلطف
وأدب تلك الكلمة التي وجهها كل رسول لمن أرسل إليهم : اعبدوا الله وحده لا شريك له
، فإنه هو المستحق للعبادة ، أما سواه فلا يملك نفعا أو ضرا.
وكلمة (غَيْرُهُ) قرئت بالحركات الثلاث ، بالرفع على أنها صفة لإله باعتبار
محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائي بالجر باعتبار اللفظ ،
وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ، ما لكم من إله إلا إياه.
ثم حكى القرآن أن
نوحا حذر قومه من سوء عاقبة التكذيب ، وأظهر لهم شفقته بهم وخوفه عليهم فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) أى : إنى أخاف عليكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والضلال
وتركتم عبادة الله وحده عذاب يوم عظيم ، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه
ولتكميل الإنذار.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت ما موقع الجملتين بعد قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) قلت : الأولى ـ وهي ما لكم من إله غيره ـ بيان لوجه
اختصاصه بالعبادة ، والثانية وهي ـ إنى أخاف ... إلخ ـ بيان الداعي إلى عبادته
لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم : يوم
القيامة ، أو يوم نزول العذاب بهم وهو الطوفان» .
بهذا الأسلوب
المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله. فكيف كان ردهم عليه؟
لقد ردوا عليه ردا
سقيما حكاه القرآن في قوله : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
الملأ : الأشراف
والسادة من القوم. سموا بذلك لأنهم يملؤون العيون مهابة. وقيل : هم الرجال ليس
فيهم نساء. والملأ : اسم جمع لا واحد له من لفظه : كرهط.
والجملة الكريمة
مستأنفة ، كأنه قيل فماذا قالوا له؟ فقيل : قال الملأ ... إلخ والرؤية هنا قلبية
ومفعولاها الضمير والظرف ، وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال. أى : قال
الأشراف من قوم نوح له عند ما دعاهم إلى وحدانية الله : إنا لنراك بأمرك لنا
بعبادة الله وحده وترك آلهتنا في انحراف بين عن طريق الحق والرشاد.
يقال : ضل الطريق
يضل وضل عنه ضلالا وضلالة ، أى زل عنه فلم يهتد إليه ، وجعلوا الضلال ظرفا له (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مبالغة في وصفهم له بذلك وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك
بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد.
__________________
ورحم الله ابن
كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في
ضلالة ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَوْهُمْ
قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) .
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، وَإِذْ
لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) إلى غير ذلك من الآيات .
ويرد نوح على قومه
بأسلوب عف مهذب ، فينفى عن نفسه الضلالة ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول
ـ كما حكى القرآن عنه ـ :
(قالَ يا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أى : قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم : يا قوم ليس بي أدنى
شيء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذي رميتمونى به ، فقد نفى الضلال عن
نفسه الكريمة على أبلغ وجه ، لأن التاء في ـ ضلالة ـ للمرة الواحدة منه ، ونفى
الأدنى أبلغ من نفى الأعلى ، والمقام يقتضى ذلك ، لأنهم لما بالغوا في رميه
بالضلال المبين ، رد عليهم بما يبرئه من أى لون من ألوانه. وفي تقديم الظرف (بي)
تعريض بأنهم هم في ضلال واضح.
ثم قفى على نفى
الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهي الهداية والتبليغ عن الله ـ تعالى ـ فقال : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ
اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
فأنت ترى أن نوحا
ـ عليهالسلام ـ بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه
بأربع صفات كريمة :
أولها : قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أى : لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب ، ولكني
فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك
وكفر.
قال الجمل : (وقد
جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين ، لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين :
ضلال أو هدى ، والرسالة لا تجامع الضلال و (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) صفة لرسول ومن لابتداء الغاية) .
وثانيها : قوله : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أى : أبلغكم ما أوحاه الله إلى من الأوامر والنواهي ،
والمواعظ والزواجر ، والبشائر والنذائر ، والعبادات والمعاملات.
قال الآلوسى :
وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة ، رعاية لاختلاف أوقاتها أو
__________________
تنوع معاني ما
أرسل ـ عليهالسلام ـ به من العبادات والمعاملات ـ أو أنه أراد رسالته ورسالة
غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس ـ عليهالسلام ـ) والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير رسالته وتقرير أحكامها.
وثالثها : قوله : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أى : أبلغكم جميع تكاليف الله وأتحرى ما فيه صلاحكم وخيركم
فأرشدكم إليه وآخذكم نحوه.
وأنصح : مأخوذ من
النصح ـ وهو كما قال القرطبي ـ إخلاص النية من شوائب الفساد ، يقال : نصحته ونصحت
له نصيحة ونصاحة ـ أى أرشدته إلى ما فيه صلاحه ـ ويقال : رجل ناصح الجيب ، أى :
نقى القلب. والناصح الخالص من العسل وغيره ، مثل الناصع. وكل شيء خلص فقد نصح .
والفرق بين تبليغ
الرسالة وبين النصح ، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم جميع أوامر الله
ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي كلفهم الله بها ، وأما النصح فمعناه أن يرغبهم
في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه.
وأما الصفة
الرابعة فهي قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ
اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أى : أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم عن إخلاص ، وأعلم في
الوقت نفسه من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن طريق الوحى أشياء لا علم لكم
بها ، لأن الله قد خصنى بها.
أو المعنى : وأعلم
من قدرة الله الباهرة ، وشدة بطشه على أعدائه ، ما لا تعلمونه فأنا أحذركم عن علم
، وأنذركم عن بينة (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ).
قال ابن كثير :
وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا نصيحا عالما بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه
الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا : «أيها
الناس ، إنكم مسئولون عنى ، فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت
ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ، ويقول : اللهم اشهد ، اللهم
اشهد .
وبعد أن وصف نوح
نفسه بتلك الصفات الأربع ، وبين لهم وظيفته أكمل بيان أخذ ينكر عليهم استبعادهم أن
يخصه الله بالنبوة فقال :
__________________
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ،
وَلِتَتَّقُوا ، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الهمزة في أول الجملة للاستفهام الإنكارى ، والواو بعدها
للعطف على محذوف مقدر بعد الهمزة.
والمعنى : أكذبتم
وعجبتم من أن جاءكم ذكر أى موعظة من ربكم وخالقكم على لسان رجل من جنسكم ، تعرفون
مولده ونشأته.
ولقد حكى القرآن
عن قوم نوح أنهم عجبوا من أن يختار الله رسولا منهم ، قال ـ تعالى ـ : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ
عَلَيْكُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي
آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) .
وقوله : (لِيُنْذِرَكُمْ) علة للمجيء ، أى : وليحذركم العذاب والعقاب على الكفر
والمعاصي.
وقوله : (وَلِتَتَّقُوا) علة ثانية مرتبة على العلة التي قبلها ، أى : ولتوجد منكم
التقوى ، وهي الخشية من الله بسبب الإنذار.
وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) علة ثالثة مترتبة على التي قبلها. أى : ولترحموا بسبب
التقوى إن وجدت منكم.
قال بعض العلماء :
وهذا الترتيب في غاية الحسن ، لأن المقصود من الإرسال الإنذار ، ومن الإنذار
التقوى. ومن التقوى الفوز بالرحمة.
وفائدة حرف الترجي
(وَلَعَلَّكُمْ) التنبيه على عزة المطلب ، وأن التقوى غير موجبة للرحمة ،
بل هي منوطة بفضل الله ، وأن المتقى ينبغي ألا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله»
.
وإلى هنا نكون قد
عرفنا أسلوب نوح في دعوته كما جاء في هذه السورة الكريمة ، فماذا كان موقف قومه؟
لقد صرحت السورة
الكريمة بأن موقفهم كان قبيحا ، ولذا عوقبوا بما يناسب جرمهم قال ـ تعالى ـ : (فَكَذَّبُوهُ) أى : فكذب قوم نوح نبيهم ومرشدهم نوحا ، وأصروا على
التكذيب مع أنه دعاهم إلى الهدى ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ومع أنه مكث فيهم «ألف
سنة إلا خمسين عاما» كانت نتيجة ذلك ـ كما حكى القرآن :
__________________
(فَأَنْجَيْناهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أى : فأنجيناه من الغرق هو والذين آمنوا معه بأن حملناهم
في السفينة التي صنعها. والفاء في (فَأَنْجَيْناهُ) للسببية.
قيل كان عدد الذين
آمنوا معه أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل غير ذلك. والقرآن قد صرح بأن المؤمنين
به كانوا قلة ، فقال : (وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ).
(وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) عمين : جمع عم صفة مشبهة ، يقال : هو عم ـ كفرح ـ لأعمى
البصيرة.
أى : وأغرقنا
بالطوفان أولئك الذين كذبوا بآياتنا من قوم نوح لأنهم كانوا قوما عمى البصائر عن
الحق والإيمان لا تنفع فيهم المواعظ ولم يجد معهم التذكير.
وهذه سنة الله في
خلقه أن جعل حسن العاقبة للمؤمنين ، وسوء العذاب للجاحدين.
ثم تحكى لنا
السورة بعد ذلك قصة هود ـ عليهالسلام ـ مع قومه ، فيقول الله ـ تعالى :
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ
(٦٥)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ
وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦)
قالَ
يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ
رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا
أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا
بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)
قالَ
قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)
(٧٢)
تلك هي قصة هود ـ عليهالسلام ـ مع قومه كما حكتها سورة الأعراف. وقد وردت ـ أيضا ـ في
سورة أخرى ، منها : سورة هود ، والشعراء ، والأحقاف ... إلخ.
وينتهى نسب هود
إلى نوح ـ عليهماالسلام ـ كما قال بعض المؤرخين. فهو هود بن عبد الله بن رباح بن
الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح .
وقومه هم قبيلة
عاد ـ نسبة إلى أبيهم الذي كان يسمى بهذا الاسم ـ وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن ـ
والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل.
وكانوا يعبدون
الأصنام من دون الله ، فأرسل الله إليهم هودا لهدايتهم ، ويقال بأن هودا ـ عليهالسلام ـ قد أرسله الله إلى عاد الأولى ، أما عاد الثانية فهم قوم
صالح ، وبينهما مائة سنة.
وقوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) إلخ معطوف على قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) والمعنى :
وأرسلنا إلى قبيلة
عاد أخاهم هودا فقال لهم ما قاله كل نبي لقومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره.
ووصفه بأنه أخاهم
لأنه من قبيلتهم نسبا ، أو لأنه أخوهم في الإنسانية. ثم حكى القرآن أن
__________________
هودا أنكر على
قومه عبادتهم لغير الله ، وحضهم على إفراده بالعبادة فقال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أى : أفلا تخافون عذاب الله فتبتعدوا عن طريق الشرك
والضلال لتنجوا من عقابه.
قال أبو حيان :
وفي قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى. ولما كان ما حل بقوم نوح
من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال لهم : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها
فاكتفى هود بقوله لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ). والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله وعبدوا غيره
حل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا ، فقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة ».
وكأنما عظم على
هؤلاء الطغاة أن يستنكر عليهم هود ـ عليهالسلام ـ عبادتهم لغير الله ، فردوا عليه ردا قبيحا حكاه القرآن
في قوله :
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ، إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أى : قال الأغنياء الذين كفروا من قوم هود له : إنه لنراك
متمكنا في خفة العقل ، راسخا فيها ، حيث هجرت دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة
ظرفا على طريق المجاز ، فقد أرادوا أنه متمكن فيها ، غير منفك عنها.
وأصل السفه :
الخفة والرقة والتحرك والاضطراب ، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو
كان باليا رقيقا : تسفهت الريح الشجر : مالت به. وزمام سفيه : كثير الاضطراب
لمنازعة الناقة إياه. وشاع السفه في خفة العقل وضعف الرأى.
ولم يكتفوا بوصفه
بالسفه بل أضافوا إلى ذلك قولهم : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ
مِنَ الْكاذِبِينَ) أى : وإنا لنظنك من الكاذبين في دعوى التبليغ عن الله
تعالى.
وأكدوا ظنهم الآثم
كما أكدوا اتهامهم له بالسفه مبالغة منهم في الإساءة إليه. ويرجح بعض العلماء أن
الظن هنا على حقيقته ، لأنهم لو قالوا وإنا لنعتقد أنك من الكاذبين ، لكانوا
كاذبين على أنفسهم في ذلك ، لأنهم يعلمون منه الصدق وحسن السيرة.
ومن بلاغة القرآن
وإنصافه في أحكامه أنه قيد القائلين لهود هذا القول الباطل بأنهم «الملأ الذين
كفروا من قومه» ليخرج منهم الملأ ـ أى الأشراف الذين آمنوا من قومه.
وبعد هذا الرد
القبيح منهم ، أخذ هود يدافع عن نفسه ويبين لهم وظيفته بأسلوب حكيم فقال : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أى : ليس بي أى نوع من أنواع السفاهة كما تزعمون (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ).
__________________
فأنت ترى أن هودا
في هذا الرد الحكيم على قومه ، قد نفى عن نفسه تهمة السفاهة كما نفى أخوه نوح من
قبله عن نفسه تهمة الضلالة ، ثم بين لهم بعد ذلك وظيفته وطبيعة رسالته ، ثم أخبرهم
بعد ذلك بمقتضى أخوته لهم ليس معقولا أن يكذب عليهم أو يخدعهم ـ فإن الرائد لا
يكذب أهله ـ ، وإنما هو ناصح أمين يهديهم إلى ما يصلحهم ويبعدهم عما يسوءهم :
قال صاحب الكشاف :
«وفي إجابة الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ على من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من
الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وترك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأن
خصومهم أضل الناس وأسفههم ـ في إجابتهم هذه أدب حسن ، وخلق عظيم ، وحكاية الله ـ عزوجل ـ ذلك ، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء ، وكيف يغضون
عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم» .
ونلمس من خلال
التعبير القرآنى أن قوم هود قد تعجبوا من اختصاص هود بالرسالة كما تعجب قوم نوح من
قبلهم من ذلك ، فأخذ هود ـ عليهالسلام ـ في إزالة هذا العجب من نفوسهم ، فقال :
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أى : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على
لسان رجل منكم تعرفون صدقه ونسبه وحسبه ، إن ما عجبتم له ليس موقع عجب ، بل هو عين
الحكمة فقد اقتضت رحمة الله أن يرسل لعباده من بينهم من يرشدهم إلى الطريق القويم و
(اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).
ثم أخذ في تذكيرهم
بواقعهم الذي يعيشون فيه لكي يحملهم على شكر الله فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ
مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أى : اذكروا بتأمل واعتبار فضل الله عليكم ونعمه حيث جعلكم
مستخلفين في الأرض من بعد قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان لكفرهم وجحودهم.
قال الآلوسى ما
ملخصه : و «إذ» منصوب على المفعولية لقوله : (وَاذْكُرُوا) أى : اذكروا هذا الوقت المشتمل على النعم الجسام. وتوجيه
الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب
ذكره ، ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله.
وهو معطوف على
مقدر كأنه قيل : لا تعجبوا وتدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم
نوح» .
__________________
ثم ذكرهم بنعمة
ثانية فقال : (وَزادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَصْطَةً) أى : زادكم في المخلوقات بسطة وسعة في الملك والحضارة ، أو
زادكم بسطة في قوة أبدانكم وضخامة أجسامكم ، ومن حق هذا الاستخلاف وتلك القوة ، أن
تقابلا بالشكر لله رب العالمين.
وقد ذكر بعض
المفسرين روايات تتعلق بضخامة أجسام قوم هود وقوتهم وهي روايات ضعيفة لا يعتد بها
، ولذا أضربنا عنها ، ويكفينا أن القرآن الكريم قد أشار إلى قوتهم وجبروتهم بدون
تفصيل لذلك كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) وكما في قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ خاوِيَةٍ).
ثم كرر هود ـ عليهالسلام ـ تذكيرهم بنعم الله فقال : (فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أى : فاذكروا نعم الله واشكروها له لعلكم تفوزون بما أعده
للشاكرين من إدامتها عليهم وزيادتها لهم ، ولن تكونوا كذلك إلا بعبادتكم له وحده ـ
عزوجل ـ.
وآلاء الله : نعمه
الكثيرة. والآلاء جمع إلى كحمل وأحمال. أو ألى ، كقفل وأقفال. أو إلى ، كمعى
وأمعاء.
وإلى هنا يكون هود
ـ عليهالسلام ـ قد رد على قومه ردا مقنعا حكيما ، كان المتوقع من ورائه
أن يستجيبوا له ، وأن يقبلوا على دعوته ، ولكنهم لسوء تفكيرهم وانطماس بصيرتهم ،
أخذتهم العزة بالإثم فماذا قالوا لنبيهم ومرشدهم؟.
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). أى : قالوا له على سبيل الإنكار والاستهزاء : أجئتنا يا
هود لأجل أن نعبد الله وحده ، ونترك ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام إن
هذا لن يكون منا أبدا فأتنا بما تعدنا به من العذاب ان كنت من الصادقين فيما تخبر
به.
وننظر في هذا الرد
من قوم هود فنراه طافحا بالتهور والتحدي والاستهزاء واستعجال العذاب.
حتى لكأن هودا ـ عليهالسلام ـ يدعوهم إلى منكر لا يطيقون سماعه ولا يصبرون على الجدل
فيه!!.
أليس هو يدعوهم
إلى وحدانية الله وإفراده بالعبادة وترك ما كان يعبد آباؤهم ، وهذا في زعمهم أمر
منكر لا يطيقون الصبر عليه.
وهكذا يستحوذ
الشيطان على قلوب بعض الناس وتفكيرهم فيصور لهم الحسنات في صورة سيئات ، والسيئات
في صورة حسنات.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : ما معنى المجيء في قوله : (أَجِئْتَنا) ، قلت فيه أوجه : أن يكون لهود ـ عليهالسلام ـ مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن
يريدوا به الاستهزاء ، لأنهم كانوا يعتقدون أن الله ـ تعالى ـ لا يرسل إلا
الملائكة ، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك. وأنهم لا يريدون
حقيقة المجيء. ولكن التعريض بذلك والقصد كما يقال : ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة
الذهاب ، كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك» .
وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ) يدل على أنه كان يتوعدهم بالعذاب من الله. إذا استمروا على
شركهم ، ويدل ـ أيضا ـ على تصميمهم على الكفر ، واحتقارهم لأمر هود ـ عليهالسلام ـ واستعجالهم إياه بالعقوبة على سبيل التحدي ، لأنهم كانوا
يتوهمون أن العقوبة لن تقع عليهم أبدا.
وإزاء هذا التحدي
السافر من قوم هود له ولدعوته ولوعيد الله لهم ، ما كان من هود ـ عليهالسلام ـ إلا أن جابههم بالرد الحاسم الذي تتجلى فيه الشجاعة
التامة ، والثقة الكاملة بأن الله سينصره عليهم وينتقم له منهم.
(قالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أى : قال هود لقومه بعد أن لجوا في طغيانهم : قد حق ووجب
عليكم من قبل ربكم عذاب وسخط بسبب إصراركم على الكفر والعناد.
والرجس والرجز
بمعنى ، وأصل معناه الاضطراب يقال : رجست السماء أى : رعدت رعدا شديدا ، وهم في
مرجوسة من أمرهم أى : في اختلاط والتباس. ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به.
وعبر عن العذاب
المتوقع وقوعه بأنه (قَدْ وَقَعَ) مبالغة في تحقيق الوقوع ، وأنه أمر لا مفر لهم منه.
وعطف الغضب على
الرجس ، للإشارة إلى ما سينزل بهم من عذاب هو انتقام لا يمكن دفعه ، لأنه صادر من
الله الذي غضب عليهم بسبب كفرهم ، وبعد أن أنذرهم هددهم بوقوع العذاب عليهم ،
ووبخهم على مجادلتهم إياه بدون علم فقال : (أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)؟
__________________
أى : أتجادلوني
وتخاصمونى في شأن أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمونها آلهة مع
أن معنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده إذ المستحق للعبادة إنما هو الله الذي خلق
كل شيء ، أما هذه الأصنام التي زعمتم أنها آلهة فهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
فأنت ترى أن هودا
ـ عليهالسلام ـ قد حول آلهتهم إلى مجرد أسماء لا تبلغ أن تكون شيئا وراء
الاسم الذي يطلق عليها ، وهذا أعمق في الإنكار عليهم ، والاستهزاء بعقولهم.
وقوله : (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أى : ما نزل الله بها من حجة أو دليل يؤيد زعمكم في
ألوهيتها أو في كونها شفعاء لكم عند الله ، وإنما هي أصنام باطلة قلدتم آباءكم في
عبادتها بدون علم أو تفكير.
ثم هدد بالعاقبة
المقررة المحتومة فقال : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أى : فانتظروا نزول العذاب الذي استعجلتموه وطلبتموه حين
قلتم (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا) فإنى معكم من المنتظرين لما سيحل بكم بسبب شرككم وتكذيبكم.
ولم يطل انتظار
هود عليهم ، فقد حل بهم العقاب الذي توعدهم به سريعا ولذا قال ـ تعالى ـ : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الفاء فصيحة. أى : فوقع ما وقع فأنجينا هودا والذين اتبعوه
في عقيدته برحمة عظيمة منا لا يقدر عليها غيرنا.
(وَقَطَعْنا دابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى : استأصلناهم عن آخرهم بالريح العقيم التي (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).
فقطع الدابر كناية
عن الاستئصال والإهلاك للجميع يقال قطع الله دابره أى : أذهب أصله.
وقوله : (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على (كَذَّبُوا) داخل معه حكم الصلة أى : أصروا على الكفر والتكذيب ولم
يرجعوا عن ذلك أصلا.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : ما فائدة نفى الإيمان عنهم في قوله : (وَما كانُوا
مُؤْمِنِينَ) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم
ـ كمرثد بن سعد ـ ومن نجا مع هود ـ عليهالسلام ـ كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا
مثل من آمن منهم ليؤذن أن الهلاك للمكذبين ونجى الله المؤمنين» .
وهكذا طويت صفحة
أخرى من صحائف المكذبين ، وتحقق النذير في قوم هود كما تحقق قبل ذلك في قوم نوح.
__________________
ثم قصت علينا
السورة بعد ذلك قصة صالح ـ عليهالسلام ـ مع قومه فقالت :
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ
مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨)
فَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ
لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)
(٧٩)
هذه قصة صالح مع
قومه كما حكتها سورة الأعراف ، وقد وردت هذه القصة في سور أخر كسور هود والشعراء
والنمل والقمر وغيرها.
وصالح ـ كما قال
الحافظ البغوي ـ هو ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد ابن حاذر بن ثمود : وينتهى
نسبه إلى نوح ـ عليهالسلام ـ.
وثمود اسم للقبيلة
التي منها صالح سميت باسم جدها ثمود ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها لأن الثمد هو
الماء القليل.
وكانت مساكنهم
بالحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ ، والحجر مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادي
القرى ، وموقعه الآن ، تقريبا ـ المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن ، وما زال
المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح إلى اليوم ، وقد مر النبي صلىاللهعليهوسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة.
وقبيلة صالح من
قبائل العرب ، وكانوا خلفاء لقوم هود ـ عليهالسلام ـ بعد أن هلكوا فورثوا أرضهم ، وآتاهم الله نعما وفيرة ،
وكانوا يعبدون الأصنام فأرسل إليهم نبيهم صالحا مبشرا ونذيرا.
قال ـ تعالى ـ : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
أى : وأرسلنا إلى
ثمود أخاهم في النسب والموطن صالحا ـ عليهالسلام ـ فقال لهم الكلمة التي دعا بها كل نبي قومه : يا قوم
اعبدوا الله ما لكم من إله سواه ، قد جاءتكم معجزة ظاهرة الدلائل ، شاهدة بنبوتي
وصدقى فيما أبلغه عن ربي.
وقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بمحذوف صفة لبينة ، أى هذه البينة كائنة من ربكم
وليست من صنعي فعليكم أن تصدقوني لأنى مبلغ عن الله ـ تعالى ـ.
ثم كشف لهم عن
معجزته وحجته فقال : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ
لَكُمْ آيَةً) أى : هذه التي ترونها وأشير إليها ناقة الله ، والتي جعلها
ـ سبحانه ـ علامة لكم على صدقى.
وأضاف الناقة إلى
الله للتفضيل والتخصيص والتعظيم لشأنها. وقيل : لأنه ـ سبحانه ـ خلقها على خلاف
سنته في خلق الإبل وصفاتها ، وقيل : لأنها لم يكن لها مالك.
وقد ذكر المفسرون
عنها قصصا لا تخلو من ضعف ، لذا اكتفينا بما ورد في شأنها في القرآن الكريم.
ثم أرشدهم إلى ما
يجب عليهم نحوها فقال : (فَذَرُوها تَأْكُلْ
فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
أى اتركوا الناقة
حرة طليقة تأكل في أرض الله التي لا يملكها أحد سواه ولا تعتدوا عليها بأى لون من
ألوان الاعتداء ، لأنكم لو فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم.
والفاء في قوله : (فَذَرُوها) للتفريع على كونها آية من آيات الله ، فيجب إكرامها وعدم
التعرض لها بسوء. و (تَأْكُلْ) مجزوم في جواب الأمر.
وأضيفت الأرض إلى
الله ـ أيضا ـ قطعا لعذرهم في التعرض لها ، فكأنه يقول لهم ، الأرض أرض الله
والناقة ناقته ، فذروها تأكل في أرضه لأنها ليست لكم ، وليس ما فيها من عشب ونبات
من صنعكم ، فأى عذر لكم في التعرض لها؟
وفي نهيهم عن أن
يمسوها بسوء تنبيه بالأدنى على الأعلى ، لأنه إذا كان قد نهاهم عن مسها بسوء
إكراما لها فنهيهم عن نحرها أو عقرها أو منعها من الكلأ والماء من باب أولى.
فالجملة الكريمة وعيد شديد لمن يمسها بسوء.
وقوله : (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفعل المضارع منصوب في جواب النهى.
وبعد أن بين لهم
صالح ـ عليهالسلام ـ وظيفته ، وكشف لهم عن معجزته ، وأنذرهم بسوء العاقبة إذا
ما خالفوا أمره ، أخذ في تذكيرهم بنعم الله عليهم. وبمصائر الماضين قبلهم.
فقال ـ كما حكى
القرآن عنه ـ : (وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ).
أى : واذكروا
بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم حيث جعلكم خلفاء لقبيلة عاد في الحضارة والعمران
والقوة والبأس ، بعد أن أهلكهم الله بسبب طغيانهم وشركهم.
وقوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أى : أنزلكم فيها وجعلها مباءة ومساكن لكم. يقال : بوأه
منزلا ، أى : أنزله وهيأه له ومكن له فيه.
والمراد بالأرض :
أرض الحجر التي كانوا يسكنونها وهي بين الحجاز والشام ، تتخذون من سهولها قصورا
وتنحتون الجبال بيوتا.
السهول : الأراضي
السهلة المنبسطة. والجبال : الأماكن المتحجرة المرتفعة.
أى أنزلكم في أرض
الحجر ، ويسر لكم أن تتخذوا من سهولها قصورا جميلة ، ودورا عالية ، ومن جبالها
بيوتا تسكنونها بعد نحتكم إياها.
يقال : نحته ينحته
ـ كيضربه وينصره ويعلمه ـ أى : براه وسواه.
قيل إنهم كانوا
يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة التي لا تؤثر فيها
الأمطار والعواصف ، ولما فيها من الدفء. أما في غير الشتاء فكانوا يسكنون السهول لأجل
الزراعة والعمل ومن التعبير القرآنى نلمح أثر النعمة والتمكين في الأرض لقوم صالح
، وندرك طبيعة الموقع الذي كانوا يعيشون فيه ، فهو سهل وجبل ، يتخذون في السهل
القصور ، وينحتون في الجبال البيوت ، فهم في حضارة عمرانية واضحة المعالم ، ولذا
نجد صالح ـ عليهالسلام ـ يكرر عليهم التذكير بشكر النعم فيقول :
(فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
أى : فاذكروا
بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم ، واشكروه على هذه النعم الجزيلة ، وخصوه وحده
بالعبادة ، ولا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم في الأرض.
والمقصود النهى
عما كانوا عليه من التمادي في الفساد. مأخوذ من العيث وهو أشد الفساد.
يقال : عثى ـ كرضى
ـ عثوا إذ أفسد أشد الإفساد.
وإلى هنا تكون
السورة الكريمة قد ذكرت لنا جانبا من النصائح التي وجهها صالح لقومه فماذا كان
موقفهم منه.
لقد كان موقفهم لا
يقل في القبح والتطاول والعناد عن موقف قوم نوح وقوم هود ، وهاك ما حكاه القرآن
عنهم :
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)؟
أى : قال المترفون
المتكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين الذين هداهم الله إلى الحق : أتعلمون
أن صالحا مرسل من ربه إليكم لعبادته وحده لا شريك له؟
وهو سؤال قصد
المترفون منه تهديد المؤمنين والاستهزاء بهم ، لأنهم يعلمون أن المؤمنين يعرفون أن
صالحا مرسل من ربه.
ولذا وجدنا
المؤمنين لا يردون عليهم بما يقتضيه ظاهر السؤال بأن يقولوا لهم : نعم أنه مرسل من
ربه ، وإنما ردوا عليهم بقولهم : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ
بِهِ مُؤْمِنُونَ) ، مسارعة منهم إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإظهارا
للإيمان الذي استقر في قلوبهم ، وتنبيها على أن أمر إرسال صالح ـ عليهالسلام ـ من الظهور والوضوح حيث لا ينبغي لعاقل أن يسأل عنه ،
وإنما الشيء الجدير بالسؤال عنه هو الإيمان بما جاء به هذا الرسول الكريم ،
والامتثال لما يقتضيه العقل السليم.
وهو رد من
المؤمنين المستضعفين يدل على شجاعتهم في الجهر بالحق وعلى قوة إيمانهم ، وسلامة
يقينهم.
وقوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) بإعادة الجار بدل كل من كل ، والضمير في (مِنْهُمْ) يعود على قوم صالح.
وهنا يعلن
المستكبرون عن موقفهم في عناد ، وصلف وجحود ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك
فيقول : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).
أى : قال
المستكبرون ردا على المؤمنين الفقراء : إنا بما آمنتم به كافرون ، ولم يقولوا إنا
بما أرسل به كافرون ، إظهارا لمخالفتهم إياهم ، وردا على مقالتهم (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ).
قال صاحب الانتصاف
: ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا ، بما أرسل به كافرون
ولكنهم أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته ، وهم يجحدونها ، وقد يصدر
مثل ذلك على سبيل التهكم ، كما قال فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ،
فأثبت إرساله تهكما ، وليس المقام هنا مقام التهكم ، فإن الغرض إخبار كل واحد من
الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله ، فرد كل فريق على الآخر بما يناسبه» .
ثم أتبع
المستكبرون قولهم القبيح بفعل أقبح يتجلى في قوله ـ تعالى ـ عنهم : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أى : نحروها وأصل العقر : قطع عرقوب البعير ، ثم استعمل في
النحر ، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره.
أى : عقروا الناقة
التي جعلها الله حجة لنبيه صالح ـ عليهالسلام ـ والتي قال لهم صالح في شأنها : (لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ).
وأسند العقر إلى
جميعهم لأنه كان برضاهم ، وإن لم يباشره إلا بعضهم ، ويقال للقبيلة الكبيرة أنتم
فعلتم كذا مع أن الفاعل واحد منهم ، لكونه بين أظهرهم.
وقوله : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أى : استكبروا عن امتثال أوامره واجتناب نواهيه. من العتو
وهو النبو ، أى : الارتفاع عن الطاعة والتكبر عن الحق والغلو في الباطل. يقال :
عتا يعتو عتيا ، إذا تجاوز الحد في الاستكبار. فهو عات وعتى.
وقد اختار القرآن
كلمة (عَتَوْا) لإبراز ما كانوا عليه من تجبر وتبجح وغرور خلال اقترافهم
__________________
للمعاصي والجرائم
التي من أبرزها عقر الناقة ، فهم قد فعلوا ما فعلوا عن تعمد وإصرار على ارتكاب
المنكر.
ثم لم يكتفوا بكل
هذا ، بل قالوا لنبيهم في سفاهة وتطاول : (يا صالِحُ ائْتِنا ،
بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
نادوه باسمه
تهوينا لشأنه ، وتعريضا بما يظنون من عجزه ؛ وقالوا له على سبيل تعجل العذاب الذي
توعدهم به إذا استمروا في طغيانهم ائتنا بما توعدتنا به إن كنت صادقا في رسالتك.
ولقد كان رد القدر
على تبجحهم وعتوهم واستكبارهم سريعا ؛ قال ـ تعالى ـ (فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) :
الرجفة : الزلزلة
الشديدة. يقال : رجفت الأرض ترجف رجفا ، إذا اضطربت وزلزلت ؛ ومنه الرجفان
للاضطراب الشديد.
وجاثمين : من
الجثوم وهو للناس والطير بمنزلة البروك للإبل ، يقال جثم الطائر يجثم جثما وجثوما
فهو جاثم إذا وقع على صدره أو لزم مكانه فلم يبرحه.
والمعنى : فأخذت
أولئك المستكبرين الرجفة ، أى : الزلزلة الشديدة فأهلكتهم ، فأصبحوا في بلادهم أو
مساكنهم باركين على الركب ، ساقطين على وجوههم ، هامدين لا يتحركون. وما ظلمهم
الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويتركهم القرآن
على هيئتهم جاثمين ، ليتحدث عن نبيهم صالح الذي كذبوه فيقول : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ).
أى : فأعرض عنهم
نبيهم صالح ، ونفض يديه منهم ، وتركهم للمصير الذي جلبوه على أنفسهم ، وأخذ يقول
متحسرا على ما فاتهم من الإيمان : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي كاملة غير منقوصة
، ونصحت لكم بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى ، ولكن كان شأنكم الاستمرار على بغض
الناصحين وعداوتهم».
هذا وقد وردت
أحاديث تصرح بأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح وهو ذاهب
إلى تبوك سنة تسع من الهجرة ، فأمر أصحابه أن يدخلوها خاشعين وجلين كراهة أن
يصيبهم ما أصاب أهلها ، ونهاهم عن أن يشربوا من مائها.
روى الإمام أحمد
عن ابن عمر قال : نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستسقى
الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا
القدور باللحم ،
فأمرهم النبي صلىاللهعليهوسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم عن
البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال
: إنى أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم» .
وروى الشيخان عن
ابن عمر قال : لما مر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالحجر قال : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم قنع
رأسه وأسرع السير حتى جاوزوا الوادي .
وهكذا طويت صفحة
أخرى من صحائف المكذبين ، وحلت العقوبة بمن كانوا يتعجلونها ويستهزئون بها.
ثم حكت لنا السورة
بعد ذلك جانبا مما دار بين لوط وقومه فقالت :
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ
(٨٣) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)
(٨٤)
قال ابن كثير :
لوط. هو ابن هاران بن آزر وهو ابن أخى إبراهيم ، وكان قد آمن مع إبراهيم وهاجر معه
إلى أرض الشام ، فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى
__________________
الله ـ تعالى ـ ويأمرهم
بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها
لم يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا من غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا
شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم «حتى صنع ذلك أهل سدوم ـ وهي
قرية بوادي الأردن ـ عليهم لعائن الله ».
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَلُوطاً) منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق أى : وأرسلنا لوطا و (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف لأرسلنا ، وجوز أن يكون (لُوطاً) منصوبا باذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة ، و (إِذْ) بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية.
وقوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ
بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ).
أى : أتفعلون تلك
الفعلة التي بلغت نهاية القبح والفحش ، والتي ما فعلها أحد قبلكم في زمن من الأزمان
فأنتم أول من ابتدعها فعليكم وزرها ووزر من عملها إلى يوم القيامة ، والاستفهام ،
للإنكار والتوبيخ قال عمر بن دينار : «ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط».
وقال الوليد بن
عبد الملك : «لو لا أن الله قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا»
والباء في (بِها) كما قال الزمخشري ـ للتعدية ، من قولك سبقته بالكرة إذا
ضربتها قبله ومن قوله صلىاللهعليهوسلم : «سبقك بها عكاشة» و (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَحَدٍ) لتأكيد النفي وعمومه المستغرق لكل البشر.
والجملة ـ كما قال
أبو السعود ـ مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ والتقريع ، فإن مباشرة
القبح قبيح واختراعه أقبح ، فأنكر عليهم أولا إتيان الفاحشة ، ثم وبخهم بأنهم أول
من عملها».
ثم أضاف لوط إلى
إنكاره على قومه إنكارا آخر وتوبيخا أشنع فقال : (إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ).
أى : إنكم أيها
القوم لممسوخون في طبائعكم حيث تأتون الرجال الذين خلقهم الله ليأتوا النساء ، ولا
حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة الخبيثة القذرة.
والإتيان : كناية
عن الاستمتاع والجماع. من أتى المرأة إذا غشيها.
وفي إيراد لفظ (الرِّجالَ) دون الغلمان والمردان ونحوهما ، مبالغة في التوبيخ
والتقريع.
__________________
قال صاحب الكشاف :
و (شَهْوَةً) مفعول له ، أى للاشتهاء ولا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة
من غير داع آخر. ولا ذم أعظم منه ، لأنه وصف لهم بالبهيمية ، وأنه لا داعي لهم من
جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه. أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين
إلى السماحة» .
وقوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) حال من الرجال أو من الواو في تأتون ، أى : تأتون الرجال
حالة كونكم تاركين النساء اللائي هن موضع الاشتهاء عند ذوى الطبائع السليمة ، والأخلاق
المستقيمة.
قال الجمل : وإنما
ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث ، لأن الله ـ تعالى ـ خلق الإنسان وركب فيه
شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا ، وجعل النساء محلا للشهوة وموضعا للنسل.
فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فقد أسرف وجاوز واعتدى ، لأنه
وضع الشيء في غير محله وموضعه الذي خلق له ، لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة
التي هي مقصودة بتلك الشهوة للإنسان» .
وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) إضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن الأسباب التي جعلتهم
يرتكبون هذه القبائح ، وهي أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء.
أى : أنتم أيها
القوم لستم ممن يأتى الفاحشة مرة ثم يهجرها ويتوب إلى الله بل أنتم قوم مسرفون
فيها وفي سائر أعمالكم ، لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال.
وقد حكى القرآن أن
لوطا ـ عليهالسلام ـ قال لهم في سورة العنكبوت : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ
وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ).
وقال لهم في سورة
النمل : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عادُونَ) أى : متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة.
وقال لهم في سورة
النمل : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو بمعنى
السفه والطيش.
ومجموع الآيات يدل
على أنهم كانوا مصابين بفساد العقل ، وانحطاط الخلق ، وإيثار الغي والعدوان على
الرشاد والتدبر.
__________________
ولقد حكى القرآن
جوابهم القبيح على نصائح نبيهم لهم ، فقال : (وَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ).
أى : وما كان جواب
الطغاة المستكبرين على نصائح نبيهم لوط ـ عليهالسلام ـ إلا أن قال بعضهم لبعض أخرجوا لوطا ومن معه من المؤمنين
من قريتكم سدوم التي استوطنتموها وعشتم بها.
وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء مفرغ من أعم الأشياء ، أى : ما كان جوابهم شيئا من
الأشياء سوى قول بعضهم لبعض أخرجوهم.
لما ذا هذا
الإخراج؟ بين القرآن أسبابه كما تفوهت به ألسنتهم الخبيثة ، واتفقت عليه قلوبهم
المنكوسة فقال : (إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ) بهذه الجملة التعليلية.
أى : إن لوطا
وأتباعه أناس يتنزهون عن إتيان الرجال ، وعن كل عمل من أعمالنا لا يرونه مناسبا
لهم. يقال : تطهر الرجل ، أى : تنزه عن الآثام والقبائح.
وما أعجب العقول
عند ما تنتكس ، والأخلاق عند ما ترتكس ، إنها تستنكف أن يبقى معها الطهور المتعفف
عن الفحش ، وتعمل على إخراجه ، ليبقى لها الملوثون الممسوخون. وإنه لمنطق يتفق مع
المنحرفين الذين انحطت طباعهم ، وانقلبت موازينهم ، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم
فرأوه حسنا.
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد قال : وقولهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ) سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخار بما كانوا فيه من
القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف
وأريحونا من هذا المتزهد» .
ثم حكت السورة
عاقبة الفريقين فقالت : (فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ) أى : أنجينا لوطا ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين به.
قالوا : ولم يؤمن
به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ).
وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من أهله ، أى : فأنجيناه وأهله إلا امرأته فإنا لم
ننجها لخبثها وعدم إيمانها.
قال ابن كثير :
إنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتخبرهم بمن يقدم عليه من
ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ، ولهذا لما أمر لوط ـ عليهالسلام ـ ليسرى بأهله أمر أن
__________________
لا يعلمها ولا
يخرجها من البلد ، ومنهم من يقول بل اتبعتهم ، فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها
ما أصابهم ، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ، ولهذا
قال هاهنا : (إِلَّا امْرَأَتَهُ
كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أى : «الباقين في العذاب» .
والغابر : الباقي.
يقال : غبر الشيء يغبر غبورا ، أى «بقي». وقد يستعمل فيما مضى ـ أيضا ـ فيكون من
الأضداد ، ومنه قول الأعشى : في الزمن الغابر. أى : الماضي.
وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أى : وأرسلنا على قوم لوط نوعا من المطر عجيبا أمره ، وقد
بينه الله في آية أخرى بقوله : (فَجَعَلْنا عالِيَها
سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) .
أى : جازيناهم
بالعقوبة التي تناسب شناعة جرمهم فإنهم لما قلبوا الأوضاع فأتوا الرجال دون النساء
، أهلكناهم بالعقوبة التي قلبت عليهم قريتهم فجعلت أعلاها أسفلها وأمطرنا عليهم
حجارة من سجيل أى من طين متجمد.
ثم ختمت القصة
بالدعوة إلى التعقل والتدبر والاعتبار فقال ـ تعالى ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ).
أى : فانظر أيها
العاقل نظرة تدبر واتعاظ في مآل أولئك الكافرين المقترفين لأشنع الفواحش ، واحذر
أن تعمل أعمالهم حتى لا يصيبك ما أصابهم وسر في الطريق المستقيم لتنال السعادة في
الدنيا والآخرة.
هذا ، وقد وردت
أحاديث تصرح بقتل من يعمل عمل قوم لوط فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة
والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس.
قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط. فاقتلوا الفاعل والمفعول
به».
وذهب الإمام أبو
حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.
وذهب بعض العلماء
إلى أنه يرجم ، سواء أكان محصنا أو غير محصن .
ثم قصت علينا سورة
الأعراف بعد ذلك قصة شعيب مع قومه ، فقالت :
__________________
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
(٨٦)
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ
يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ)
(٨٧)
وقوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أى : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. ومدين اسم للقبيلة
التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى معان بين حدود
الحجاز والشام ، وهم أصحاب الأيكة ـ والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة
لقرية معان ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.
وشعيب هو ابن
ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم فهو أخوهم في النسب وكان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا ذكر شعيب قال : «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه
، وقوة حجته.
وكان قومه أهل كفر
وبخس للمكيال والميزان فدعاهم إلى توحيد الله ـ تعالى ـ ونهاهم عن الخيانة وسوء
الأخلاق.
وعن السدى وعكرمة
: أن شعيبا أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ،
وأصحاب الأيكة
الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأنه لم يبعث نبي مرتين إلا شعيب ـ عليهالسلام ـ.
ولكن المحققين من
العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة فأهل مدين هم أصحاب الأيكة أخذتهم الرجفة والصيحة
وعذاب يوم الظلة ـ أى السحابة ـ ، وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر.
وبعد أن دعاهم إلى
وحدانية الله شأن جميع الرسل في بدء دعوتهم قال لهم : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) أى : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي توجب عليكم الإيمان
بي والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : ما كانت معجزته؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة لقوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) ، ولأنه لا بد لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه وإلا
لم تصح دعواه ، وكان متنبئا لا نبيا ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم
تذكر معجزات نبينا صلىاللهعليهوسلم فيه .
ثم أخذ في نهيهم
عن أبرز المنكرات التي كانت متفشية فيهم فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ :
(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ) الكيل والميزان مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن به ،
كالعيش بمعنى ما يعاش به. أو المكيل والموزون.
أى : فأتموا الكيل
والميزان للناس بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ، ويأخذ صاحب الحق حقه من
غير طلب الزيادة.
(وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أى : ولا تنقصوهم حقوقهم بتطفيف الكيل ونقص الوزن فيما
يجرى بينكم وبينهم من معاملات.
يقال : بخسه حقه
يبخسه إذا نقصه إياه. وظلمه فيه «وتبخسوا» تعدى إلى مفعولين أولهما الناس والثاني
أشياءهم.
وفائدة التصريح
بالنهى عن النقص بعد الأمر بالإيفاء ، تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده.
قال الآلوسى : وقد
يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة. وقد جاء
عن ابن عباس أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم.
قيل ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله
على ما هو عليه للسائل عنه. وكثير ممن ينتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا
__________________
البخس ، وليتهم
قنعوا به بل جمعوا «حشفا وسوء كيلة» فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم نهاهم عن الإفساد بوجه عام فقال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها) أى : لا تفسدوا في الأرض بما ترتكبون فيها من ظلم وبغى ،
وكفر وعصيان ، بعد أن أصلح أمرها وأمر أهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون الذين
يعدلون في معاملاتهم ويلتزمون الحق في كل تصرفاتهم.
ثم ختمت الآية
بتلك الجملة الكريمة التي استجاش بها شعيب مشاعر الإيمان في نفوس قومه حيث قال لهم
: (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أى : ذلكم الذي
آمركم به وأنهاكم عنه خير لكم في الحال والمآل فبادروا إلى الاستجابة لي إن كنتم
مصدقين قولي ، ومنتفعين بالهدايات التي جئت بها إليكم من ربكم.
فاسم الإشارة (ذلِكُمْ) يعود إلى ما ذكر من الأمر بالوفاء في الكيل والميزان
والنهى عن بخس الناس أشياءهم وعن الإفساد في الأرض.
ثم انتقل شعيب إلى
نهيهم عن رذائل أخرى كانوا متلبسين بها فقال : (وَلا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) توعدون : من التوعد بمعنى التخويف والتهديد. أى : ولا
تقعدوا بكل طريق من الطرق المسلوكة تهددون من آمن بي بالقتل ، وتخيفونه بأنواع
الأذى ، وتلصقون بي وأنا نبيكم التهم التي أنا برىء منها ، بأن تقولوا لمن يريد
الإيمان برسالتي : إن شعيبا كذاب وإنه يريد أن يفتنكم عن دينكم.
وقوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ
آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أى : وتصرفون عن دين الله وطاعته من آمن به ، وتطلبون
لطريقه العوج بإلقاء الشبه أو بوصفها بما ينقصها ، مع أنها هي الطريق المستقيم
الذي هو أبعد ما يكون عن شائبه الاعوجاج.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : صراط الحق واحد (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) فكيف قيل : بكل صراط؟ قلت : صراط الحق واحد ، ولكنه يتشعب
إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة ، فكانوا إذا رأوا أحدا يشرع في شيء منها
أوعدوه وصدوه فإن قلت : إلام يرجع الضمير في (آمَنَ بِهِ)؟ قلت : إلى كل صراط ، والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون
عنه. فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم ، ودلالة
على عظم ما يصدون عنه .
__________________
وقوله : توعدون.
وتصدون ، وتبغون هذه الجمل أحوال ، أى : لا تقعدوا موعدين وصادين ، وباغين ، ولم
يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب ، ثم ذكرهم شعيب بنعم الله عليهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً
فَكَثَّرَكُمْ) أى : اذكروا ذلك الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد فكثركم
الله بأن جعلكم موفورى العدد ، وكنتم في قلة من الأموال فأفاضها الله بين أيديكم ،
فمن الواجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم ، وأن تفردوه بالعبادة والطاعة ثم اتبع
هذا التذكير بالنعم بالتخويف من عواقب الإفساد فقال : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ) أى : انظروا نظر تأمل واعتبار كيف كانت عاقبة المفسدين من
الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، كقوم لوط وقوم صالح ، فسترون أنهم قد دمروا
تدميرا بسبب إفسادهم في الأرض ، وتكذيبهم لرسلهم (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ. وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) لأن سيركم على طريقهم سيؤدي بكم إلى الدمار.
ثم نصحهم بأن
يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر ، وأن يتركوا أتباعه أحرارا في عقيدتهم
حتى يحكم الله بين الفريقين ، فقال : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ
مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ،
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).
أى : إن كان بعضكم
قد آمن بما أرسلنى الله به إليكم من التوحيد وحسن الأخلاق ، وبعضكم لم يؤمن بما
أرسلت به بل أصر على شركه وعناده ، فتربصوا وانتظروا حتى يحكم الله بيننا وبينكم
بحكمه العادل ، الذي يتجلى في نصرة المؤمنين ، وإهلاك الظالمين ، وهو ـ سبحانه ـ خير
الحاكمين.
قال صاحب الكشاف :
وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم ، كقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا
مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أو هو عظة للمؤمنين وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم
من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا
للفريقين. أى : ليصبر المؤمنون على أذى الكفار ، وليصبر الكفار على ما يسوءهم من
إيمان من آمن حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب ».
وإلى هنا تكون
السورة الكريمة قد حكت لنا جانبا من الحجج الناصعة ، والنصائح الحكيمة ،
والتوجيهات الرشيدة التي وجهها شعيب ـ خطيب الأنبياء ـ إلى قومه.
وارجع البصر ـ أيها
القارئ الكريم ـ في هذه النصائح ترى شعيبا ـ عليهالسلام ـ يأمر قومه بوحدانية الله لأنها أساس العقيدة وركن الدين
الأعظم ، ثم يتبع ذلك بمعالجة الجرائم التي
__________________
كانت متفشية فيهم
، فيأمرهم بإيفائهم الكيل والميزان ، وينهاهم عن بخس الناس أشياءهم وعن الإفساد في
الأرض ، وعن القعود في الطرقات لتخويف الناس وتهديدهم ، وعن محاولة صرفهم عن طريق
الحق ، بإلقاء الشبهات ، وإشاعة الأباطيل. مستعملا في وعظه التذكير بنعم الله
تارة. وبنقمه من المكذبين تارة أخرى.
ولقد كان من
المنتظر أن يتقبل قوم شعيب هذه المواعظ تقبلا حسنا ، وأن يصدقوه فيما يبلغه عن ربه
، ولكن المستكبرين منهم عموا وصموا عن الحق ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى موقفهم
فيقول :
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ
كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا
عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ
مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا
هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)
(٩٣)
أى : قال الأشراف
المستكبرون من قوم شعيب له ردا على مواعظه لهم : والله لنخرجنك
يا شعيب أنت
والذين آمنوا معك من قريتنا بغضا لكم ، ودفعا لفتنتكم المترتبة على مساكنتنا
ومجاورتنا ، أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما نؤمن به من تقاليد ورثناها عن آبائنا
ومن المستحيل علينا تركها. فعليك يا شعيب أنت ومن معك أن تختاروا لأنفسكم أحد
أمرين : الإخراج من قريتنا أو العودة إلى ملتنا.
هكذا قال المترفون
المغرورون لشعيب وأتباعه باستعلاء وغلظة وغضب.
وجملة (قالَ الْمَلَأُ) إلخ. مستأنفة استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : فماذا كان رد
قوم شعيب على نصائحه لهم؟ فكان الجواب : قال الملأ ... إلخ.
وقد أكدوا قولهم
بالجملة القسمية للمبالغة في إفهامه أنهم مصممون على تنفيذ ما يريدونه منه ومن
أتباعه.
ونسبوا الإخراج
إليه أولا وإلى أتباعه ثانيا ، للتنبيه على أصالته في ذلك ، وأن الذين معه إنما هم
تبع له ، فإذا ما خرج هو كان خروج غيره أسهل.
وجملة : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) معطوفة على جملة (لَنُخْرِجَنَّكَ) وهي ـ أى جملة (أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) المقصود الأعظم عندهم ، فهؤلاء المستكبرون يهمهم في المقام
الأول أن يعود من فارق ملتهم وديانتهم إليها ثانية.
والتعبير بقولهم :
(أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) يقتضى أن شعيبا ومن معه كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها ،
وهذا محال بالنسبة لشعيب ـ عليهالسلام ـ فإن الأنبياء معصومون ـ حتى قبل النبوة ـ عن ارتكاب
الكبائر فضلا عن الشرك.
وقد أجيب عن ذلك
بأن المستكبرين قد قالوا ما قالوا من باب التغليب ، لأنهم لما رأوا أن أتباعه
كانوا من قبل ذلك على ملتهم ثم فارقوهم واتبعوا شعيبا ، قالوا لهم : إما أن تخرجوا
مع نبيكم الذي اتبعتموه وإما أن تعودوا إلى ملتنا التي سبق أن كنتم فيها ، فأدرجوا
شعيبا معهم في الأمر بالعودة إلى ملتهم من باب تغليبهم عليه هنا ، هذا هو الجواب
الذي ارتضاه كثير من العلماء وعلى رأسهم صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت : كيف
خاطبوا شعيبا عليهالسلام ـ بالعود في الكفر في قولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وكيف أجابهم بقوله : (إِنْ عُدْنا فِي
مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ
فِيها) والأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير ، فضلا
عن الكبائر ، فضلا عن الكفر؟ قلت : قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم
قالوا : لتعودن فغلب الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعا ، إجراء للكلام
على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب ـ عليهالسلام ـ جوابه فقال :
(إِنْ عُدْنا فِي
مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) وهو يريد عودة قومه ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان
بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب .
هذا هو الجواب
الذي اختاره الزمخشري وتبعه فيه بعض العلماء ، وهناك أجوبة أخرى ذكرها المفسرون
ومنها :
١ ـ أن هذا القول
جار على ظنهم أنه كان في ملتهم ، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم.
٢ ـ أنه صدر عن
رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لهم بأنه كان على دينهم وما صدر عن شعيب ـ عليهالسلام ـ كان على طريق المشاكلة.
٣ ـ أن قولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بمعنى : أو لتصيرن ، إذ كثيرا ما يرد «عاد» بمعنى «صار»
فيعمل عمل كان. ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة ، بل عكس ذلك ، وهو الانتقال من
حال سابقة إلى حال مؤتنفة ، وكأنهم قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من
قريتنا أو لتصيرن كفارا مثلنا».
قال الإمام الرازي
: تقول العرب : قد عاد إلى فلان مكره ، يريدون : قد صار منه المكر ابتداء.
وقال صاحب
الانتصاف : إنه يسلم استعمال «العود» بمعنى الرجوع إلى أمر سابق ، ويجاب عن ذلك
بمثل الجواب عن قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ). والإخراج يستدعى دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه. ونحن
نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ، ولا كان فيها. وكذلك
الكافر الأصلى ، لم يدخل قط في نور الإيمان ولا كان فيه ، ولكن لما كان الإيمان
والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا
منه لو أراده ، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله إلى الإيمان ، إخبارا
بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله له ، ولطفا به ، وبالعكس في حق
الكافر وفائدة اختياره في هذه المواضع ، تحقيق التمكن والاختيار ؛ لإقامة حجة الله
على عباده» .
هذه بعض الأجوبة
التي أجاب بها العلماء على قول قوم شعيب (أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) ولعل أرجحها هو الرأى الذي اختاره صاحب الكشاف «لبعده عن
التكلف ، واتساقه مع رد شعيب عليهم». فقد قال لهم :
__________________
(أَوَلَوْ كُنَّا
كارِهِينَ). أى : أتجبروننا على العودة إلى ملتكم حتى ولو كنا كارهين
لها ، لاعتقادنا أنها باطلة وقبيحة ومنافية للعقول السليمة والأخلاق المستقيمة لا.
لن نعود إليها بأى حال من الأحوال. فالهمزة لإنكار الوقوع ونفيه ، والتعجيب من
أحوالهم الغريبة حيث جهلوا أن الدخول في العقائد اختياري محض ولا ينفع فيه الإجبار
أو الإكراه.
ثم صارحهم برفضه
التام لما يتوهمونه من العودة إلى ملتهم فقال : (قَدِ افْتَرَيْنا
عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ
مِنْها).
أى : قد اختلقنا
على الله ـ تعالى ـ أشنع أنواع الكذب إن عدنا في ملتكم الباطلة بعد إذ نجانا الله
بهدايتنا إلى الدين الحق وتنزيهنا عن الإشراك به ـ سبحانه ـ.
قال صاحب المنار :
وهذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين بالرفض والكراهية ، وهو إنشاء في صورة الخبر.
فإما أن يكون تأكيدا قسميا لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العودة في ملتهم ، كما يقول
القائل : برئت من الذمة إن فعلت كذا ، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في
التوكيد وإما أن يكون تعجبا خرج لا على مقتضى الظاهر ، وأكد بقد والفعل الماضي ،
والمعنى ما أعظم افتراءنا على الله ـ تعالى ـ إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله
منها وهدانا إلى صراطه المستقيم» .
ثم كرر هذا الرفض
بأبلغ وجه فقال : (وَما يَكُونُ لَنا
أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً) أى ما يصح لنا ولا يتأتى منا أن نعود في ملتكم الباطلة في
حال من الأحوال أو في وقت من الأقوات إلا في حال أو في وقت مشيئة الله ـ المتصرف
في جميع الشئون ـ عودتنا إليها ، فهو وحده القادر على ذلك ولا يقدر عليه غيره لا
أنتم ولا نحن ، لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة وملتنا هي الحق والموقن لا يستطيع
إزالة يقينه ولا تغييره وإنما ذلك بيد مقلب القلوب ، الذي وسع علمه كل شيء.
وهذا اللون من
الأدب العالي ، حكاه القرآن عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في مخاطبتهم ،
فأنت ترى أن شعيبا ـ عليهالسلام ـ مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة
الكفر أبدا ، مع ذلك هو يفوض الأمر إلى الله تأدبا معه ، فلا يجزم بمشيئته هو ، بل
يترك الأمر لله ، فقد يكون في علمه سبحانه ما يخفى على البشر ، مما تقتضيه حكمته
وإرادته.
قال صاحب الانتصاف
: «وموقع قوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً) الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والاطلاع على الأمور الغائبة
، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد : ولو وقع فبقدرة الله
ومشيئته المغيبة عن خلقه. فالحذر قائم ، والخوف لازم ، ونظيره
__________________
قول إبراهيم ـ عليهالسلام ـ «ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل
شيء علما أفلا تتذكرون» ، لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة ، مجد الله ـ تعالى
ـ بالانفراد بعلم الغائبات» .
ثم يترك شعيب ـ عليهالسلام ـ قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتوجه إلى الله بالاعتماد
والدعاء فيقول : (عَلَى اللهِ
تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفاتِحِينَ).
أى : على الله
وحده وكلنا أمرنا ، فهو الذي يكفينا أمر تهديدكم ووعيدكم ، ومن يتوكل على الله فهو
حسبه ، ربنا احكم بيننا وبين قومنا الذين ظلمونا بالحق وأنت خير الحاكمين ، لخلو
حكمك عن الجور والحيف.
فقوله : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) إظهار للعجز من جانب شعيب ، وأنه في مواجهته لأولئك
المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده ، ولا يأوى إلا إلى ركنه المكين ، وحصنه
الحصين. والجملة الكريمة تفيد الحصر لتقديم المعمول فيها.
وقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) إعراض عن مجادلتهم ومفاوضتهم بعد أن تبين له عنادهم وسفههم
، وإقبال على الله ـ تعالى ـ بالتضرع والدعاء.
والفتح : أصله
إزالة الأغلاق عن الشيء ، واستعمل في الحكم ، لما فيه من إزالة الأشكال في الأمر.
ومنه قيل للحاكم : فاتح وفتاح لفتحه أغلاق الحق ، وقيل للحكومة : الفتاحة ـ بضم
الفاء وكسرها.
أخرج البيهقي عن
ابن عباس قال : ما كنت أدرى قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه
كلام : تعال أفاتحك ، تريد أقاضيك وأحاكمك.
وقوله : (بِالْحَقِ) بهذا القيد إظهارا للنصفة والعدالة.
والخلاصة أنك إذا
تأملت في رد شعيب ـ عليهالسلام ـ على ما قاله المستكبرون من قومه ، تراه يمثل أسمى ألوان
الحكمة وحسن البيان ، فهو يرد على وعيدهم وتهديدهم بالرفض التام لما يبغون ،
والبغض السافر لما يريدونه منه ، ثم يكل الأمور كلها إلى الله ، مظهرا الاعتماد
عليه وحده ، ثم يتجه إليه ـ سبحانه ـ بالدعاء متلمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه
بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين سائر المحقين
والمبطلين.
وهنا نلمح أن
الملأ من قوم شعيب قد يئسوا من استمالة شعيب وأتباعه إلى ملتهم ، فأخذوا
__________________
يحذرون الناس من
السير في طريقه ، ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ، لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).
أى : قال الأشراف
الكافرون من قوم شعيب لغيرهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لشرفكم ومجدكم ، بإيثار ملته على ملة آبائكم وأجدادكم ،
وخاسرون لثروتكم وربحكم المادي. لأن اتباعكم له سيحول بينكم وبين التطفيف في الكيل
والميزان وهو مدار غناكم واتساع أموالكم.
وقولهم هذا يقصدون
به تنفير الناس من دعوة شعيب ، وتثبيطهم عن الإيمان به ، وإغرائهم بالبقاء على
عقائدهم الباطلة ، وتقاليدهم البالية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ، فهم لم
يكتفوا بضلالهم في أنفسهم ، بل عملوا على إضلال غيرهم. وقولهم هذا معطوف على قوله
ـ تعالى ـ فيما سبق : (قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ*). وليس ردا على شعيب ، لأنه لو كان كذلك لجاء مفصولا بدون
عطف ، وقد أكدوا قولهم بعدة مؤكدات منها اللام الموطئة للقسم ، والجملة الاسمية
المصدرة بإن. وذلك لكي يخدعوا السامعين بأنهم ما يريدون إلا خيرهم وعدم خسرانهم.
وحذف متعلق
الخسران ليعم كل أنواعه الدينية والدنيوية.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : أين جواب القسم الذي وطأته اللام في قوله : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ) وجواب الشرط؟ قلت : قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ) ساد مسد الجوابين» .
وبعد هذه
المحاورات والمجادلات التي دارت بين شعيب وقومه ، جاءت الخاتمة التي حكاها القرآن
في قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). أى : فأخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم هامدين
صرعى لا حراك بهم.
قال ابن كثير ما
ملخصه : أخبر ـ سبحانه ـ هنا بأنهم أخذتهم الرجفة ، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه
وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة هود بأنهم أخذتهم الصيحة ، والمناسبة
هناك ـ والله أعلم ـ أنهم لما تهكموا به في قولهم : (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ) فجاءت الصيحة فأسكتتهم. وقال في سورة الشعراء : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ
يَوْمِ الظُّلَّةِ) وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ) فأخبر ـ سبحانه ـ أنهم أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع
عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة. وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ،
ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض
__________________
شديدة من أسفل
منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام» .
ثم يعقب القرآن
على مصرعهم بالرد على قولتهم : إن من يتبع شعيبا خاسر ، فيقرر على سبيل التهكم أن
الخسران لم يكن من نصيب من اتبع شعيبا ، وإنما الخسران كان من نصيب الذين خالفوه
وكذبوه ، فيقول : (الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ
الْخاسِرِينَ).
أى : الذين كذبوا
شعيبا وتطاولوا عليه وهددوه وأتباعه بالإخراج من قريتهم ، كأنهم عند ما حاقت بهم
العقوبة لم يقيموا في ديارهم ناعمى البال ، يظلهم العيش الرغيد ، والغنى الظاهر.
يقال : غنى
بالمكان يغنى ، أقام به وعاش فيه في نعمة ورغد.
والجملة الكريمة
استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) فكأن سائلا ، قال : فكيف كان مصيرهم؟ فكان الجواب : الذين
هددوا شعيبا ومن معه وأنذروهم بالإخراج كانت عاقبتهم أن هلكوا وحرموا من قريتهم
حتى لكأنهم لم يقيموا بها ، ولم يعيشوا فيها مطلقا ، لأنه متى انقضى الشيء صار
كأنه لم يكن.
والاسم الموصول (الَّذِينَ) مبتدأ ، وخبره جملة (كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيهَا).
ثم أعاد القرآن
الموصول وصلته لزيادة التقرير ، وللإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين
فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ).
أى : الذين كذبوا
شعيبا وكفروا بدعوته كانوا هم الخاسرين دينيا ودنيويا ، وليس الذين اتبعوه كما زعم
أولئك المهلكون.
وبهذا القدر اكتفى
القرآن عن التصريح بإنجائه هنا ، وقد صرح بإنجائه في سورة هود فقال : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
قال صاحب الكشاف :
وفي هذا الاستئناف والابتداء ، وهذا التكرير ، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم
، وتسفيه لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم».
وأخيرا تطوى
السورة الكريمة صفحتهم مشيعة إياهم بالتبكيت والإهمال من رسولهم وأخيهم في النسب
فتقول : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ).
الأسى : الحزن.
وحقيقته اتباع الفائت بالغم. يقال : أسيت عليه ـ أسا ، أى : حزنت عليه.
__________________
والمعنى فأعرض
عنهم شعيب بعد أن أصابهم ما أصابهم من النقمة والعذاب وقال مقرعا إياهم يا قوم : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) التي أرسلنى بها إليكم من العقائد والأحكام والمواعظ (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بما فيه إصلاحكم وهدايتكم «فكيف أحزن على قوم كافرين» بذلت
جهدي في سبيل هدايتهم ونجاتهم ، ولكنهم كرهوا النصح ، واستحبوا العمى على الهدى.
لا ، لن آسى
عليهم. ولن أحزن من أجل هلاكهم ، لأنهم لا يستحقون ذلك.
وإلى هنا تكون
السورة الكريمة قد حدثتنا عن جانب من قصص نوح وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب مع
أقوامهم. بعد أن بدأت بقصة آدم وإبليس وسنراها بعد قليل تحدثنا حديثا مستفيضا عن
قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.
ويلاحظ أن سورة
الأعراف قد اتبعت في حديثها عن هؤلاء الرسل الكرام التسلسل التاريخى ، وذلك لأهداف
من أهمها :
١ ـ إبراز وحدة
العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ، فأنت رأيت أن كل رسول أتى قومه ليقول لهم : يا
قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، يقولها ثم يسوق لهم بأسلوبه الخاص أنصع
الدلائل ، وأقوى الحجج ، وخير البراهين ومختلف وجوه الإرشاد ، لكي يقنعهم بأنه
صادق فيما يبلغه عن ربه.
٢ ـ تصوير وحدة
طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر في نفوس الناس على مدار التاريخ ، فالمؤمنون
يلتفون حول رسولهم يصدقون قوله ، ويتأسون به في كل أحواله ويدافعون عن عقيدتهم
بقوة وشجاعة ، والكافرون يستكبرون أن يرسل الله رسولا من البشر ، ويأبون بدافع
الحقد والعناد والتطاول الاستجابة لرجل منهم ، ويلقون التهم جزافا لكي يصرفوا
الناس عنه.
وهكذا نرى أن نفوس
المؤمنين تتشابه في إخلاصها ونقائها وصفائها وحسن تقبلها للخير. بينما نفوس
الكافرين تتشابه ـ أيضا ـ في ظلامها وقسوتها وفجورها وسوء تقبلها للهداية.
٣ ـ بيان العاقبة
الطيبة التي انتهى إليها المؤمنون بسبب إيمانهم وصبرهم وعملهم الطيب ، والعاقبة
السيئة التي حاقت بالكافرين المستكبرين ، بسبب إعراضهم عن الحق ، واستهزائهم
بأصحابه ، (فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ
مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ).
وبعد هذا الحديث
الزاخر بالعظات والعبر عن بعض الأنبياء مع أقوامهم تمضى السورة الكريمة في سرد
هداياتها ، فتسوق للناس ألوانا من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل ، لعل قلوبهم
ترق ، ونفوسهم
تتذكر ، وعقولهم تعى.
وكأن السورة
الكريمة تقول للناس : لقد سقت لكم الكثير من أخبار الماضين. وقصصت عليكم ما فيه
الذكر لكل قلب سليم من أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وأريتكم كيف كانت عاقبة
الأخيار ، وكيف كانت عاقبة الأشرار ، فاجتهدوا في طاعة الله ، وسيروا في طريق
الأخيار لتسعدوا كما سعدوا. واجتنبوا سبيل الأشرار حتى لا يصيبكم ما أصابهم ، فقد
جرت سنته ـ سبحانه ـ أنه يمهل ولا يهمل ، وأن يبتلى الناس بالسراء والضراء لعلهم
يضرعون ، وأن يفتح أبواب خيراته وبركاته لمن آمن به واتقاه ، وأبواب عقوباته لمن
كفر به وعصاه.
واستمع إلى السورة
الكريمة وهي تصور هذه المعاني وغيرها بأسلوبها الحكيم فتقول :
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
أَفَأَمِنَ
أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
أَوَلَمْ
يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ
أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
تِلْكَ
الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ
يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
وَما
وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)
(١٠٢)
هذه هي الآيات
التي جاءت في السورة الكريمة بعد حديثها المتنوع عن بعض الأنبياء مع أقوامهم ،
وقبل حديثها المستفيض ـ الذي سنراه بعد قليل عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى
إسرائيل.
وقد بدئت بقوله ـ تعالى
ـ : (وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) البأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر.
والضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته كالمرض والمصائب.
والمعنى : ذلك
الذي قصصناه عليك يا محمد شأن الرسل السابقين مع أقوامهم الهالكين وقد جرت سنتنا
أننا ما أرسلنا في قرية من نبي كذبه أهلها إلا أخذناهم وأنزلنا بهم قبل إهلاكنا
لهم ألوانا من الشدائد والمصائب لعلهم ينقادون لأمر الله ، ويثوبون إلى رشدهم ،
ويكثرون من التضرع إليه والاستجابة لهديه.
فالآية الكريمة
إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم ، إثر بيان أحوال الأمم التي سبق الحديث
عنها وهي أمة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهمالسلام ـ.
والمقصود منها
التحذير والتخويف لكفار قريش وغيرهم ، لينزجروا عن الضلال والعناد ، ويستجيبوا لله
ولرسوله.
وإنما ذكر القرية
لأنها مجتمع القوم الذين بعث إليهم ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع
الأقوام.
وقوله : (مِنْ نَبِيٍ) فيه حذف وإضمار والتقدير : من نبي كذبه قومه أو أهل القرية
لأن قوله : (إِلَّا أَخَذْنا
أَهْلَها) لا يترتب على الإرسال ، وإنما يترتب على التكذيب والعصيان.
و (مِنْ) لتأكيد النفي.
والاستثناء في
قوله : (إِلَّا أَخَذْنا
أَهْلَها) مفرغ من أعم الأحوال ، و (أَخَذْنا) في موضع نصب على الحال من فاعل (أَرْسَلْنا) أى : وما أرسلنا ـ في قرية من القرى المهلكة بسبب ذنوبها ـ
نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء.
قبل إنزال العقوبة المستأصلة لهم.
وجملة (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) تعليلية. أى : فعلنا ما فعلنا لكي يتضرعوا ويتذللوا
ويتوبوا من ذنوبهم.
فما يأخذ الله به
الغافلين من الشدائد والمحن ليس من أجل التسلية والتشفي ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإنما
من أجل أن ترق القلوب الجامدة ، وتتعظ المشاعر الخامدة ، ويتجه البشر الضعاف إلى
خالقهم ، يتضرعون إليه ويستغفرونه ، عما فرط منهم من خطايا.
ثم بين ـ سبحانه ـ
لونا آخر من ألوان ابتلائه للناس فقال : (ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) المراد بالسيئة ما يسوء ويحزن كالشدائد والأمراض. وبالحسنة
السعة والصحة وأنواع الخيرات.
أى : ثم بعد أن
ابتلينا هؤلاء الغافلين بالبأساء والضراء رفعنا ذلك عنهم ، وابتليناهم بضده ، بأن
أعطيناهم بدل المصائب نعما ، فإذا الرخاء ينزل بهم مكان الشدة ، واليسر مكان الحرج
، والعافية بدل الضر ، والذرية بدل العقم. والكثرة بدل القلة ، والأمن محل الخوف.
قال الآلوسى :
وقوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا) معطوف على (أَخَذْنا) داخل في حكمه ، وهو ـ أى بدلنا ـ متضمن معنى أعطى الناصب
لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أى : أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة
ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها.
ويرى بعض العلماء
أن لفظ (مَكانَ) مفعول به لبدلنا وليس ظرفا ، والمعنى بدلنا مكان الحال
السيئة الحال الحسنة ، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة .
وقوله : (حَتَّى عَفَوْا) أى : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم. يقال : عفا النبات ،
وعفا الشحم إذا كثر وتكاثف. وأعفيته. أى : تركته يعفو ويكثر ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «واعفوا اللحى» أى : وفروها وكثروها.
فماذا كان موقفهم
من ابتلاء الله إياهم بالشدائد تارة وبالنعم أخرى؟ لقد كان موقفهم يدل على فساد
فطرتهم ، وانحطاط نفوسهم ، وعدم اتعاظهم بما تجرى به الأقدار ، وبما بين أيديهم من
__________________
سراء وضراء تحمل
كل عاقل على التفكير والاعتبار.
استمع إلى القرآن
وهو يصور موقفهم فيقول : (وَقالُوا قَدْ مَسَّ
آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ).
أى : أنهم حينما
رأوا ألوان الخيرات بين أيديهم بعد أن كانوا في بأساء وضراء ، لم يعتبروا ولم
يشكروا الله على نعمه ، بل قالوا بغباء وجهل. قد مس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما
يسر ، وتناوبهم ما ينفع وما يضر ، ونحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم ، وقد أخذنا دورنا
من الضراء كما أخذوا ، وجاء دورنا في السراء فلنغنمها في إرواء شهواتنا. وإشباع
متعنا ، فتلك عادة الزمان في أبنائه ولا داعي لأن ننظر إلى السراء والضراء على
أنهما نوع من الابتلاء والاختبار.
وهذا شأن الغافلين
الجاهلين في كل زمان ومكان ، إنهم لا يعتبرون بأى لون من ألوان العبر ، ولا
يستشعرون في أنفسهم تحرجا من شيء يعملونه.
وإن قولهم هذا
ليوحى بحالة نفسية خاصة «حالة عدم المبالاة والاستهتار» وهي حالة أكثر ما تكون
مشاهدة في أهل الرخاء والجاه. فهم يسرفون ويبذرون بدون تحرج ، ويرتكبون كل كبيرة
تقشعر لها الأبدان بدون اكتراث ، وتغشاهم العبر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم ، ومع كل ذلك لا يعتبرون ولا يتعظون.
هذا شأنهم ، أما
المؤمنون فإنهم ليسوا كذلك ، وإنما هم كما وصفهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله : «عجبا لأمر المؤمن : إن أمره كله خير ، وليس ذاك
لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا
له».
ولم يترك القدر
أولئك الغافلين بدون قصاص ، وإنما فاجأهم بالعقوبة التي تناسبهم ، قال ـ تعالى ـ :
(فَأَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى : فكان عاقبة بطرهم وأشرهم وغفلتهم أن أخذناهم بالعذاب
فجأة ، من غير شعور منهم بذلك ، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم ، لأنهم كانوا ـ لغبائهم
ـ يظنون أنهم سيعيشون حياتهم في نعم الحياة ورغدها بدون محاسبة لهم على أعمالهم
القبيحة ، وأقوالهم الذميمة.
فالجملة الكريمة
تشير إلى أن أخذهم بالعقوبة كان أليما شديدا ، لأنهم فوجئوا بها مفاجأة بدون
مقدمات. وجملة (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) حال من المفعول به في (فَأَخَذْناهُمْ) مؤكدة لمعنى البغتة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن سنته قد جرت بفتح أبواب خيراته للمحسنين ، وبإنزال نقمه على المكذبين الضالين
فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ).
البركات : جمع
بركة : وهي ثبوت الخير الإلهى في الشيء ، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه كما يثبت
الماء في البركة.
قال الراغب : ولما
كان الخير الإلهى يصدر من حيث لا يحس ، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر ، قيل لكل ما
يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة» .
والمعنى : ولو أن
أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاء به الرسل. واتقوا ما حرمه الله عليهم ،
لآتيناهم بالخير من كل وجه. ولوسعنا عليه الرزق سعة عظيمة ، ولعاشوا حياتهم عيشة
رغدة لا يشوبها كدر ، ولا يخالطها خوف.
وفي قوله : (لَفَتَحْنا) استعارة تبعيه ، لأنه شبه تيسير البركات وتوسعتها عليهم
بفتح الأبواب في سهولة التناول.
وقيل : المراد
بالبركات السماوية المطر ، وبالبركات الأرضية النبات والثمار وجميع ما فيها من
خيرات.
وقوله : (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان لموقفهم الجحودى.
أى : ولكنهم لم
يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا الرسل الذين جاءوا لهدايتهم فكانت نتيجة تكذيبهم
وتماديهم في الضلال أن عاقبناهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم واكتسابهم للمعاصي ،
فتلك هي سنتنا التي لا تتخلف ، نفتح للمؤمنين المتقين أبواب الخيرات ، وننتقم من
المكذبين الضالين بفنون العقوبات.
وقد يقال : إننا
ننظر فنرى كثيرا من الكافرين والعصاة مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ وألوان
الخير ، وترى كثيرا من المؤمنين مضيقا عليهم في الرزق وفي غيره من وجوه النعم ،
فأين هذا من سنة الله التي حكتها الآية الكريمة؟
والجواب على ذلك
أن الكافرين والعصاة قد يبسط لهم في الأرزاق وفي ألوان الخيرات بسطا كبيرا ، ولكن
هذا على سبيل الاستدراج كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ).
ومما لا شك فيه أن
الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره في الآية السابقة (ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا) لا يقل خطرا عن الابتلاء بالشدة. فقد ابتلى الله كثيرا من
الناس بألوان النعم فأشروا وبطروا ولم يشكروه عليها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
__________________
وشتان بين نعم
تساق لإنسان على سبيل الاستدراج في الشرور والآثام فتكون نقمة على صاحبها لأنه
يعاقب عقابا شديدا بسبب سوء استعمالها ، وبين النعم التي وعد بها من يؤمنون
ويتقون. إنها نعم مصونة عن المحق والسلب والخوف ، لأن أصحابها شكروا الله عليها. واستعملوها
فيما خلقت له ، فكانت النتيجة أن زادهم الله غنى على غناهم ، وأن منحهم الأمان
والاطمئنان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم يتجه القرآن
إلى الغافلين ، ليوقظ فيهم مشاعر الخوف من بأس الله وعقابه فيقول : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ).
البيات : قصد
العدو ليلا. يقال : بيت القوم بياتا ، إذا أوقعوا به ليلا ، وهو حال بمعنى بائتين.
والاستفهام
للإنكار والتعجيب من أمر ليس من شأنه أن يقع من العاقل ، والمراد بأهل القرى : أهل
مكة وغيرهم من القرى التي بعث إليها الرسول صلىاللهعليهوسلم.
وقيل المراد بهم
الأمة المحمدية من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما أنزل بغيرها كما
يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَوَلَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها).
وقيل المراد بهم
من ذكر حالهم فيما تقدم من القرى المهلكة بسبب ذنوبها.
قال الجمل :
والفاء للعطف على (فَأَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً) وما بينهما وهو قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى) إلى هنا اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه جيء به للمسارعة
إلى بيان أن الأخذ المذكور إنما هو بما كسبت أيديهم. والمعنى : أبعد ذلك الأخذ أمن
أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ؟
فالآية الكريمة
تحذر الناس من الغفلة عن طاعة الله ، وتحثهم على التيقظ والاعتبار : وقوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) إنكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى
وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أى : أن يأتيهم عقابنا في ضحوة النهار وانبساط الشمس ، وهم
لاهون لاعبون من فرط الغفلة.
فقد خوفهم ـ سبحانه
ـ بنزول العذاب بهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل
، وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل فيه باللذات.
__________________
وقوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير لمجموع الإنكارين السابقين ، جمعا بين التفريق قصدا
إلى زيادة التحذير والإنذار.
والمكر في الأصل
الخداع ، ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أى : ستر بظلمته ما هو فيه ، وإذا نسب
إليه ـ سبحانه ـ فالمراد به استدراجه للعبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك
بالخداع.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : فلم رجع فعطف بالفاء قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللهِ)؟ قلت : هو تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى) ومكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر
ولاستدراجه ، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوه
الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثعم أن ابنته قالت له : مالي أراك لا تنام
والناس ينامون؟ فقال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات. أراد قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) .
والمعنى : أفأمنوا
مكر الله وتدبيره الخفى الذي لا يعلمه البشر فغفلوا عن قدرتنا على إنزال العذاب
بهم بياتا أو ضحوة؟ لئن كانوا كذلك فهم بلا ريب عن الصراط لناكبون ، وعن سنن الله
في خلقه غافلون ، فإنه (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) أى : إلا القوم الذين خسروا أنفسهم وعقولهم ، ولم يستفيدوا
شيئا من أنواع العبر والعظات التي بثها الله في أنحاء هذا الكون.
هذا ، ويرى الإمام
الشافعى وأتباعه أن الأمن من مكر الله كبيرة من الكبائر ، لأنه استرسال في المعاصي
اتكالا على عفو الله.
وقال الحنفية إن
الأمن من مكر الله كفر كاليأس ، لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقوله : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن من الواجب على الأحياء الذين يرثون الأرض من أهلها الذاهبين المهلكين ، الذين
أهلكتهم ذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهم ، وعوقبوا على استهتارهم وغرورهم من الواجب
على هؤلاء الأحياء أن يعتبروا ويتعظوا ويحسنوا القول والعمل حتى ينجوا من
العقوبات.
قال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).
__________________
الاستفهام للإنكار
والتوبيخ. ويهد : أى يتبين ، يقال : هداه السبيل أو الشيء وهداه إليه ، إذا دله
عليه وبينه له.
أى : أو لم يتبين
لهؤلاء الذين يعيشون على تلك الأرض التي ورثوها بعد أهلها المهلكين ، أننا في
قدرتنا أن ننزل بهم العذاب بسبب ذنوبهم كما أنزلناه بأولئك المهلكين.
والمراد بالذين
يرثون الأرض من بعد أهلها ، أهل مكة ومن حولها الذين أرسل النبي صلىاللهعليهوسلم لهدايتهم. وقيل المراد بهم الأحياء في كل زمان ومكان الذين
يخلفون من سبقهم من الأمم.
قال الجمل : وفاعل
(يَهْدِ) فيه وجوه أظهرها : أنه المصدر المؤول من أن وما في حيزها
والمفعول محذوف. والتقدير : أو لم يهد أى يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم
إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك» .
وقوله : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) جملة مستأنفة لإثبات حصول الطبع على قلوبهم.
أى : ونحن نطبع
على قلوبهم ونختم عليها ، بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان ، فهم لذلك لا يسمعون
الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ.
والذي يتأمل في
الآيات السابقة يراها تحذر الناس بأساليب متنوعة حكيمة من الغفلة عن العظات والعبر
، وتحضهم على التخلص من الأمن الكاذب ، والشهوات المردية. والمتع الزائلة.
وما يريد القرآن
بهذا أن يعيش الناس قلقين ، يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل
أو نهار.
كلا ، ما يريد
منهم ذلك لأن القلق الدائم من المستقبل ، يشل طاقة البشر ، وقد ينتهى بهم إلى
اليأس من العمل والإنتاج وتنمية الحياة.
وإنما الذي يريده
القرآن منهم أن يتعظوا بآيات الله في كونه ، وأن يكونوا دائما على صلة طيبة به ،
وأن يبتغوا فيما آتاهم الله من فضله الدار الآخرة دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا ،
وألا يغتروا بطراوة العيش ، ورخاء الحياة ، وقوة الجاه ، كي لا يقودهم ذلك إلى
الفساد والطغيان ، والاستهتار والانحلال.
وإذا كان القرآن
في هذه الآية قد حذر وأنذر ، فلأنه يعالج كل أمة وجماعة بالطب الذي يناسبها
ويلائمها ، فهو يعطيها جرعات من الأمن والثقة والطمأنينة حين يرسخ الإيمان في قلوب
أبنائها ، وحين يراقبون خالقهم في سرهم وعلنهم ، ويشكرونه على نعمه ، وهو يعطيها
جرعات
__________________
من التحذير
والتخويف ، حين تستولى الشهوات على النفوس ، وحين تصبح الدنيا بمتعها ولذائذها
المطلب الأكبر عند الناس.
هذا وبعد أن انتهت
السورة الكريمة من الحديث عما جرى لبعض الأنبياء مع أقوامهم ، ومن بين سنن الله في
خلقه ، وبعد أن حذرت وأنذرت ، اتجهت بالخطاب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لتطلعه على النتيجة الأخيرة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف
عنه من حقائق تتعلق بطبيعة الكفر وطبيعة الإيمان فقالت : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْبائِها).
أى : تلك القرى التي
طال الأمد على تاريخها ، وجهل قومك أيها الرسول الكريم أحوالها. وهي قرى قوم نوح
وعاد وثمود وقوم شعيب ، نقص عليكم ما فيه العظات والعبر من أخبارها. ليكون ذلك
تسلية لك وتثبيتا لفؤادك ، وتأييدا لصدقك في دعوتك.
قال الزمخشري :
قوله ـ تعالى ـ : (تِلْكَ الْقُرى
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) كقوله : (هذا بَعْلِي شَيْخاً) في أنه مبتدأ وخبر وحال. ويجوز أن يكون القرى صفة لتلك
ونقص خبرا ، وأن يكون (الْقُرى نَقُصُ) خبرا بعد خبر. فإن قلت : ما معنى (تِلْكَ الْقُرى)؟ حتى يكون كلاما مفيدا. قلت : هو مفيد ولكن بشرط التقييد
بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم. فإن قلت : ما
معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت : معناه أن تلك القرى المذكورة
نقص عليك بعض أخبارها ولها أنباء أخرى لم نقصها عليك» .
وإنما قص الله ـ تعالى
ـ على رسوله صلىاللهعليهوسلم أنباء أهل هذه القرى ، لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة
النعم ، فتوهموا أنهم على الحق ، فذكرها الله لمن أرسل إليهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ليحترسوا عن مثل تلك الأعمال ، وليعتبروا بما أصاب
الغافلين الطاغين من قبلهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه قد أعذر إليهم بأن وضح لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل فقال : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أى : ولقد جاء إلى أهل تلك القرى رسلهم بالدلائل الدالة
على صدقهم ، فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات من رسلهم بما كانوا قد كذبوا به
قبل رؤيتها منهم ، لأنهم لجحودهم وعنادهم تحجرت قلوبهم ، واستوت عندهم الحالتان :
حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها.
وقيل إن المعنى :
ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما كذبوا به من
قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ).
وقوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ
الْكافِرِينَ) أى : «مثل ذلك الطبع الشديد المحكم
__________________
الذي طبع الله به
على قلوب أهل تلك القرى المهلكة ، يطبع الله على قلوب أولئك الكافرين الذين جاءوا
من بعدهم بسبب إيثارهم الضلالة على الهداية.
ثم كشف القرآن عن
طبيعتهم فقال : (وَما وَجَدْنا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ).
أى : ما وجدنا
لأكثر الناس من وفاء بعهودهم في الإيمان والتقوى ، بل الحال والشأن أننا علمنا أن
أكثرهم فاسقين ، أى خارجين عن طاعتنا ، تاركين لأوامرنا ، منتهكين لحرماتنا.
وبعضهم يجعل
الضمير في (أَكْثَرَهُمْ) لأهل القرى المهلكة ، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله بعهد
نقضوه ولم يوفوا به. والأول أرجح.
والمراد بالعهد ما
عاهدهم الله عليه من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
ومن في قوله (مِنْ عَهْدٍ) مزيدة للاستغراق وتأكيد النفي.
وإنما حكم على
الأكثرين منهم بنقض العهود ، لأن الأقلية منهم قد آمنوا ووفوا بما عاهدوا الله
عليه من الإيمان والعمل الصالح.
وهذا لون من
الاحتراس الذي امتاز به القرآن في عرضه للحقائق ، فهو لا يلقى التهم جزافا ، وإنما
يعطى كل ذي حق حقه ، فإن كان الأكثرون قد استحقوا الذم لكفرهم ونقضهم لعهودهم ،
فإن هناك قلة آمنت فاستحقت المدح والثناء.
قال الآلوسى : و (إِنْ) مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ، ولا عمل لها فيه
لأنها ملغاة على المشهور. وذهب الكوفيون إلى أن (إِنْ) هنا نافية واللام في (لَفاسِقِينَ) بمعنى إلا ، أى : ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين» .
وإلى هنا تكون
الآيات الكريمة التي جاءت في أعقاب الحديث عن أهل القرى المهلكة ، قد بينت لنا
السنن الإلهية في سعادة الأمم وشقائها ، وكشفت لنا عن حكمته ـ سبحانه ـ في ابتلائه
لعباده بالسراء تارة وبالضراء أخرى ، وحضت الناس على المراقبة لله وشكره على
نعمائه ، وحذرتهم من الغفلة والأمان من مكره ـ سبحانه ـ فإنه لا يأمن مكر الله إلا
القوم الخاسرون. ثم اتجهت في النهاية بالخطاب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فأطلعته على
الطبائع الغالبة في البشر حتى لا يضيق ذرعا بأحوال من أرسل إليهم.
ثم عادت السورة
بعد ذلك إلى الحديث عن قصة أخرى من قصص الأنبياء مع أقوامهم ،
__________________
فحدثتنا عن قصة
موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل بعد حديثها قبل ذلك عن شعيب الذي كان معاصرا لموسى
ـ عليهماالسلام ـ.
فأنت ترى أن
السورة الكريمة قد التزمت الترتيب التاريخى في حديثها عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة
والسلام ـ.
ولقد قلنا من قبل
إن الأسلوب البارز في هذه السورة الكريمة وهي تدعو الناس إلى وحدانية الله يتجلى
في تذكيرهم بنعم الله التي لا تحصى ، وتخويفهم عن طريق سرد أحوال الأمم المهلكة ،
بسبب مخالفتها لرسلها ، وعتوها عن أمر ربها ، ولعل هذا هو السر في أنها ساقت لنا
قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع أممهم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ولم تذكر لنا ـ مثلا
ـ قصة إبراهيم مع قومه مع أن لوطا ـ عليهالسلام ـ كان معاصرا له ، وذلك لأن قوم إبراهيم لم يهلكوا ، ولم
يلتمس هو من ربه ذلك ، بل اعتزلهم وما يعبدون من دون الله.
فالسورة الكريمة
قد التزمت في مجموعها الحديث عن مصارع المكذبين ليكونوا عبرة لكل عاقل ، وذكرى لكل
عبد منيب.
ومن هنا فهي لا
تحدثنا عن قصة موسى من أولها كما جاء في سورة القصص مثلا وإنما هي تبدأ حديثها
عنها بالغرض الذي جاءت من أجله وهو التخويف من عواقب التكذيب فتقول : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى
بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
وهكذا تصرح السورة
الكريمة في أول آية من قصة موسى بالهدف الذي سيقت من أجله وهو النظر والتدبر في
عاقبة المفسدين.
ثم بعد ذلك تحدثنا
حديثا مستفيضا زاخرا بالعبر والعظات عما دار بين موسى وفرعون من محاورات ومجادلات
انتهت بغرق فرعون وقومه ، ثم عما دار بين موسى وبين بنى إسرائيل من مجادلات تدل
على أصالتهم في الكذب والإفساد والفسوق عن أمر الله.
والآن فلنستمع إلى
السورة الكريمة وهي تحكى لنا قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل في نحو سبعين آية
تبدؤها بقوله ـ تعالى ـ :
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)
حَقِيقٌ
عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ
جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَنَزَعَ
يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ
(١٠٩)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١)
يَأْتُوكَ
بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ
(١١٧) فَوَقَعَ
الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ
وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ
فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
(١٢٤)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
وَما
تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)
(١٢٦)
هذا هو الدرس
الأول من قصة موسى مع فرعون وفيه نرى ما دار بين موسى وفرعون من محاورات ، وما دار
بين موسى والسحرة من مناقشات ومساجلات انتهت بإيمان السحرة وهم يضرعون إلى الله
بلسان صادق ، وقلب سليم فيقولون ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ). ولنبدأ في تفسير آيات هذا الدرس من أولها فنقول :
قوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى
بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) معطوف على ما قبله من قصص الأنبياء الذين تحدثت عنهم
السورة الكريمة.
وموسى ـ عليهالسلام ـ هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب. ويرى بعض المؤرخين
أن ولادة موسى كانت في حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وان بعثته كانت في
عهد منفتاح بن رمسيس الثاني.
وفرعون : لقب
لملوك مصر القدماء ، كلقب قيصر لملوك الروم ، وكسرى لملوك الفرس ، والمعنى : ثم
بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين سبق الحديث عنهم ـ وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب
ـ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عن ربه إلى فرعون
وملئه ، وهم اشراف قومه ، ووجهاء دولته.
قال بعض العلماء :
«ولم يقل ـ سبحانه ـ إلى فرعون وقومه ، لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا
مستعبدين لبنى إسرائيل ، وبيدهم أمرهم ، وليس لسائر المصريين من الأمر شيء ،
ولأنهم كانوا مستعبدين ـ أيضا ولكن الظلم على بنى إسرائيل الغرباء كان أشد» .
وقوله (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا ، أو صفة لمصدره. أى
: بعثناه ـ عليهالسلام ـ ملتبسا بها. أو بعثناه بعثا ملتبسا بها.
والمراد بها
الآيات التسع وهي العصا ، واليد البيضاء ، والسنون ، ونقص الثمرات ، والطوفان ،
والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.
__________________
ثم بين ـ سبحانه ـ
في الآية الأولى من هذه القصة كيف تلقى فرعون وملؤه دعوة موسى وآياته فقال : (فَظَلَمُوا بِها) أى : فكفروا بهذه الآيات تكبرا وجحودا ، فكان عليهم وزر
ذلك ، وقد عدى الظلم هنا بالباء مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى الكفر ، إذ هما من
واد واحد قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
ويجوز أن تكون
الباء للسببية والمفعول محذوف ، أى : ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرضوها للعقاب
المهين. أو ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان بهذه الآيات ، واستمروا على ذلك إلى أن
حق عليهم العذاب الأليم.
ثم ختمت الآية
بالأمر بالتدبر في أحوال هؤلاء الظالمين وفيما حل بهم من سوء المصير فقال ـ تعالى
ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أى : فانظر أيها الرسول الكريم ـ أو أيها العاقل ـ كيف
كانت عاقبة فرعون وملئه الذين أفسدوا في الأرض ، لقد أخذهم الله بذنوبهم فأغرقهم
في اليم ، وموسى وقومه ينظرون إليهم ، وتلك عاقبة كل من طغى وآثر الحياة الدنيا.
ووضع ـ سبحانه ـ المفسدين
موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للافساد.
و (كَيْفَ) خبر لكان مقدم عليها لاقتضائه الصدارة. وعاقبة ، اسمها ،
وهذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط حرف الجر ، إذ التقدير : فانظر بعين
عقلك إلى كيفية ما فعلناه بهم.
وهكذا نرى السورة
الكريمة ترينا في أول آية من هذه القصة الغرض الذي سيقت من أجله وهو التدبر في
عواقب المكذبين ، والتخويف من المصير الذي ساروا إليه ، وتنهى الناس في كل زمان
ومكان عن السير على منوالهم. والسورة الكريمة عند ما ترينا ذلك في مطلع هذه القصة
تكون متناسقة كل التناسق مع أسلوبها الذي اختارته في دعوة الناس إلى وحدانية الله
وإلى مكارم الأخلاق ، وهو أسلوب التذكير بالنعم ، والتحذير من عواقب الظلم
والطغيان ـ كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في التمهيد بين يدي السورة.
ثم بعد هذا
التنبيه الإجمالي إلى مآل المفسدين ، أخذت السورة تحكى لنا ما دار بين موسى ـ عليهالسلام ـ وبين فرعون بصورة مفصلة فقالت : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : قال موسى ـ عليهالسلام ـ لفرعون في أدب واعتزاز إنى رسول من رب العالمين ، أرسلنى
إليك لأدعوك لعبادته والخضوع له.
ثم بين له أنه
بمقتضى هذه الرسالة لا يقول إلا كلمة الحق فقال : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا
أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أى : جدير بألا أقول على الله إلا القول الحق.
و (حَقِيقٌ) : صفة (رَسُولٌ) أو خبر لمبتدأ محذوف أى : أنا حقيق. أو خبر بعد خبر. و (عَلى) بمعنى الباء.
وقرأ أبىّ «حقيق
بأن لا أقول على الله إلا الحق» وقرأ عبد الله ابن مسعود «حقيق ألا أقول». وقرأ
نافع «حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق» أى : واجب وحق على أن لا أخبر عنه ـ
تعالى ـ إلا بما هو حق وصدق.
ثم قال : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) أى : قد جئتكم بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقى
فيما جئتكم به. وفي قوله (مِنْ رَبِّكُمْ) إشعار بأن ما جاء به من حجج وبراهين لم يكن من صنعه. وإنما
هو من عند رب العالمين ، الذي بيده ملكوت كل شيء.
(فَأَرْسِلْ مَعِيَ
بَنِي إِسْرائِيلَ) أى : قد جئتكم ببينة عظيمة الشأن في الدلالة على صدقى. فأطلق
بنى إسرائيل من أسرك وأعتقهم من رقك وقهرك ، ودعهم يخرجون أحرارا من تحت سلطانك
ليذهبوا معى إلى دار سوى دارك.
وإلى هنا يكون
موسى ـ عليهالسلام ـ قد بين لفرعون طبيعة رسالته وطالبه برفع الظلم عن
المظلومين فماذا كان رد فرعون.
يحكى القرآن رده
فيقول : (قالَ إِنْ كُنْتَ
جِئْتَ بِآيَةٍ) أى : بمعجزة تشهد بصدقك من عند من أرسلك كما تدعى (فَأْتِ بِها) أى : فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك أنك من الملتزمين لقول الحق.
وعبر بإن المفيدة
للشك في تحقيق مضمون الجملة الشرطية ، للإيذان بأنه ليس معتقدا في صدق موسى ـ عليهالسلام.
وهنا يحكى لنا
القرآن ما أسرع بفعله موسى للرد على فرعون فقال : (فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) : أى فألقى موسى عصاه التي كانت بيده أمام فرعون فإذا هي
ثعبان مبين ، أى : ظاهر بين لا خفاء في كونه ثعبانا حقيقيا يسعى في خفة وسرعة كأنه
جان.
والثعبان : الذكر
العظيم من الحيات ، وقيل : إنه الحية مطلقا.
وقد ذكر بعض
المفسرين روايات عن ضخامة هذا الثعبان وأحواله ، إلا أننا أضربنا عنها صفحا
لضعفها.
ثم حكى القرآن
معجزة أخرى لموسى تشهد بصدقة فقال : (وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) النزع : إخراج الشيء من مكانه. أى : وأخرج موسى يده من
درعه بعد أن أدخلها فيه أو من طوق قميصه ، أو من إبطه فإذا هي بيضاء بياضا عجيبا
خارقا للعادة من غير أن يكون
بها علة من مرض أو
غيره. قيل : إنه كان لها شعاع يغلب ضوء الشمس.
قال الآلوسى :
قوله (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ) أى : بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه
النظار. وقيل المعنى : بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها ، لأنه ـ عليهالسلام ـ كان آدم ـ أى أسمر ـ شديد الأدمة فقد أخرج البخاري عن
عبد الله بن عمر قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «وأما موسى فآدم
جثيم سبط كأنه من رجال الزط» وعنى صلىاللهعليهوسلم بالزط جنسا من السودان والهنود» .
وبذلك يكون موسى
قد أتى بالبينة التي تدعو فرعون وملأه إلى الإيمان به فهل آمنوا؟ كلا إنهم ما
آمنوا بل استمروا في ضلالهم ، وحكى لنا القرآن أن حاشية فرعون السيئة ، وأصحاب
الجاه والغنى في دولته غاظهم ما جاء به موسى ، يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).
أى : قال الأشراف
من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ، أى : راسخ في علم السحر ، ماهر فيه. ولم يكتفوا
بهذا القول الباطل ، بل أخذوا يثيرون الناس على موسى ، ويهولون لهم الأمر ليقفوا
في وجهه فقالوا (يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ).
أى : يريد هذا
الساحر أن يسلب منكم ملككم ، وأن يصبح هو ملكا على مصر ، فماذا تأمرون لاتقاء هذا
الخطر الداهم؟ وبما ذا تشيرون في أمره؟ فهو من الأمر بمعنى المشاورة. يقال : آمرته
فآمرنى. أى : شاورته فأشار على.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء حيث قال : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) أى قال فرعون للملأ حوله (إِنَّ هذا لَساحِرٌ
عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا
تَأْمُرُونَ؟) وهنا عزى إلى الملأ فكيف الجمع ، قلت : قد قاله هو وقالوه
هم فحكى قوله هناك وقولهم هاهنا. أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم.
أو قالوه عنه للناس عن طريق التبليغ كما يفعل الملوك ، يرى الواحد منهم الرأى
فيكلم به من يليه من الخاصة ، ثم تبلغه الخاصة العامة ... وقولهم : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من أمرته فأمرنى بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأى : وقيل :
(فَما ذا تَأْمُرُونَ) من كلام فرعون ، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر
عليم يريد أن يخرجكم «كأنه قيل : فماذا تأمرون؟ فأجابوه : أرجه وأخاه ..» .
__________________
ثم حكى القرآن ما
أشار به الملأ من قوم فرعون فقال : (قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ).
أرجه : أصله أرجئه
ـ وقد قرئ به ـ حذفت الهمزة وسكنت الهاء ، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل.
والإرجاء التأخير. يقال : أرجيت هذا الأمر وأرجأته ، إذا أخرته. ومنه (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ).
والمدائن : أى :
البلاد جمع مدينة ، وهي من مدن بالمكان ـ كنصر ـ إذا أقام به ، و (حاشِرِينَ) أى : جامعين ، يقال. حشر الناس ـ من باب نصر وضرب ـ يحشرهم
حشرا إذا جمعهم ، ومنه : يوم الحشر والمحشر.
والمعنى : قال
الملأ من قوم فرعون حين استشارهم في أمر موسى : أخر أمره وأمر أخيه ولا تتعجل
بالقضاء في شأنهما ، وأرسل في مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة يجمعون إليك
السحرة المهرة ، لكي يقفوا في وجه هذا الساحر العليم ، ويكشفوا عن سحره ويبطلوه
بسحر مثله أو أشد» وكان السحر في عهد فرعون من الأعمال الغالبة التي يحسنها كثير
من أهل مملكته.
وقال بعضهم :
الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا له : أخره
ليتبين حاله للناس.
وقال القاسمى :
تدل الآية على معجزة عظيمة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن
قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه إلا الله وتدل على أن من عادة البشر أن من رأى
أمرا عظيما أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة وتدل على أنهم أنكروا أمره محافظة
على الملك والمال ، لذلك قالوا (يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين ، المحافظة على
الرياسة والمال والجاه كما هي عادة الناس في هذا الزمن» .
وقوله (فِي الْمَدائِنِ) متعلق بأرسل ، و (حاشِرِينَ) نعت لمحذوف أى : رجالا حاشرين. ومفعوله محذوف. أى : حاشرين
السحرة ، بدليل ما بعده.
ولا يذكر السياق
القرآنى بعد ذلك أنهم أرسلوا إلى السحرة ، ولا أنهم جمعوهم ، وإنما يترك ذلك للعقل
يفهمه حيث لا داعي لذكر هذه التفاصيل. ويتجه القرآن إلى الحديث عما دار بين السحرة
وبين فرعون بعد أن جمعوا من مدائن الصعيد بمصر حيث كان مقرهم هناك فيقول :
__________________
(وَجاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قالُوا : إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ
: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).
أى : وأقبل السحرة
سريعا على فرعون بعد أن أرسل إليهم فقالوا له بلغة المحترف الذي مقصده الأول مما
يعمله الأجر والعطاء : إن لنا لأجرا عظيما إن كانت لنا الغلبة على هذا الساحر
العليم؟ فهم يستوثقون أولا من جزالة الأجر وضخامته. وهنا يجيبهم فرعون بقوله : نعم
لكم أجر مادى جزيل إذا انتصرتم عليه ، وفضلا عن ذلك فأنتم تكونون بهذا الانتصار من
الظافرين بقربى وجواري. فهو يغريهم بالأجر المادي ويعدهم بالقرب المعنوي من قلبه
تشجيعا لهم على الإجادة ، وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والمهارة
والتضليل ، وإنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة الغالبة التي لا
يستطيع الوقوف في وجهها الساحرون ولا المتجبرون وغيرهم.
هذا ، وقد اختلف
المفسرون في عدد هؤلاء السحرة فقيل ، كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، وقيل كانوا أكثر
من ذلك بكثير.
وبعد أن اطمأن
السحرة على الأجر ، وتطلعت نفوسهم إليه ، يحكى لنا القرآن أنهم توجهوا إلى موسى
بلغة الواثق من قوته ، المتحدى لخصمه : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا
أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).
أى : أنت يا موسى
مخير بين أن تلقى عصاك أولا ؛ وبين أن نلقى نحن أولا وأنت تفعل ما تشاء بعدنا ،
وكأنهم يقولون له : وفي كلتا الحالتين فنحن على ثقة من الفوز والنصر فأرح نفسك
واستسلم لنا مقدما.
ويرى الزمخشري أن
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين
قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا في الصراع .
ولقد حكى لنا
القرآن في سورة طه أن موسى نصحهم بعدم الدخول معه في معركة هم الخاسرون فيها قطعا
فقال : (قالَ لَهُمْ مُوسى
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ
خابَ مَنِ افْتَرى) .
أما هنا فيحكى لنا
القرآن أن موسى ـ عليهالسلام ـ قد طلب منهم أن يلقوا أولا مستهينا بتحديهم له ، غير
مبال بهم ولا بمن جمعهم ، لأنه قد اعتمد على خالقه (قالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).
__________________
أى : قال لهم موسى
ألقوا ما أنتم ملقون أولا ، فلما ألقوا ما كان معهم من الحبال والعصى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أى : خيلو إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج مع
أنه لم يكن إلا مجرد صنعة وخيال ، ولذا لم يقل ـ سبحانه ـ سحروا الناس.
وقوله (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أى : خوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر. (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أى : في باب السحر ، أو في عين من رآه ، فإنه ألقى كل واحد
منهم عصاه ، فصارت كأنها ثعابين.
والتعبير بقوله ـ سبحانه
ـ (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) تعبير مصور بليغ ، فهو يوحى بأنهم استجاشوا وجدان الناس
قسرا ، وساقوهم سوقا بوسائل مصطنعة مفتعلة لا تستند إلى واقع سليم.
روى أنهم ألقوا
حبالا غلاظا وخشبا طوالا ، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها
بعضا.
وروى أنهم لونوا
حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل. جعلوا فيها الزئبق.
وقال بعض العلماء
: قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا ، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا
ملؤها نارا ، فلما طرحت عليها العصى المجوفة المملوءة بالزئبق حركها ، لأن شأن
الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته.
فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية» .
ويمضى القرآن
فيبين لنا أن هذا السحر العظيم الذي استرهب الناس وسحر أعينهم ، قد تهاوى في لحظة
، وانطوى في ومضة ، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذي سلحه به ربه ،
استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول : (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ).
اللقف : التناول
بسرعة. يقال : لقف الشيء يلقفه لقفا ولقفانا ، أخذه بسرعة.
والإفك : الكذب.
يقال أفك يأفك ، وأفك يأفك إفكا وأفكا ـ كضرب وعلم ـ إذا كذب ، وأصله من الأفك ـ بفتح
أوله ـ وهو بمعنى صرف الشيء عن وجهه الذي يجب أن يكون عليه. واطلق على الكذب إفك ـ
بكسر الهمزة ـ لكونه مصروفا عن وجه الحق ، ثم صار حقيقة فيه.
والمعنى : وأوحينا
إلى موسى ـ بعد أن أوجس خيفة مما رآه من أمر السحرة ـ أن الق عصاك ولا تخف إنك أنت
الأعلى ، فألقاها فإذا هي تبتلع وتلتقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به أولئك السحرة (فَوَقَعَ الْحَقُ) أى : ظهر وتبين وثبت الحق الذي عليه موسى ـ وفسد وبطل ما
كانوا
__________________
يعملون من الحيل
والتخييل وذهب تأثيره. وترتب على ذلك أن أصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه وسحرته
في ذلك المجمع العظيم ، الذي حشر الناس له في يوم عيدهم وزينتهم ، وانقلب الجميع
إلى بيوتهم صاغرين أذلاء ، بعد أن أنزل بهم موسى الخذلان والخيبة.
وان قوله (أَنْ أَلْقِ) يجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه وهو
الإيحاء ، ويجوز أن تكون مصدرية فتكون هي وما بعدها مفعول الإيحاء.
والفاء في قوله (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) فصيحة أى : فألقاها فصارت حية فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وإنما حذف هذا
المقدر للإيذان بمسارعة موسى إلى الإلقاء ، وبغاية سرعة الانقلاب ، كأن ابتلاعها
لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء.
و (ما) في قوله (ما يَأْفِكُونَ) موصولة والعائد محذوف أى : الذي يأفكونه ، أو مصدرية وهي
مع الفعل بمعنى المفعول أى : فإذا هي تلقف المأفوك.
وفي التعبير بقوله
ـ سبحانه ـ (فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تجسيم لهذا الحق الذي كان عليه موسى ، وتثبيت واستقرار له
، حتى لكأنه شيء ذو ثقل نزل على شيء آخر خفيف الوزن فأزاله ومحاه من الوجود.
وهذه الآيات
الكريمة تصور لنا كيف أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت ، وقد
يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان ، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف.
ولكن ما إن يواجهه الحق الهادئ الثابت المستقر بقوته التي لا تغالب حتى يزهق ويزول
، وينطفئ كشعلة الهشيم ، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصغار ، وهم يرون
صروحهم تتهاوى ، وآمالهم تتداعى ، أمام نور الحق المبين ، وإذا بتحديهم الصريح ،
وتطاولهم الأحمق يتحول إلى استسلام مهين ، وذل مشين.
ثم يحكى لنا
القرآن بعد ذلك موقف السحرة بعد أن رأوا بأعينهم أن ما فعله موسى ـ عليهالسلام ـ ليس من قبيل السحر فقال : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ
وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أى : خروا سجدا ، كأنما ـ كما قال الزمخشري ـ قد ألقاهم
ملق لشدة خرورهم أو لم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا فكأنهم ألقوا.
والمراد أن ظهور
بطلان سحرهم ، وإدراكهم بأن موسى على الحق ، قد حملهم على السجود لله ـ تعالى ـ وأن
نور الحق قد بهرهم وجعلهم يسارعون إلى الإيمان حتى لكأن أحدا قد دفعهم إليه دفعا ،
وألقاهم إليه إلقاء.
وقوله (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أى : قال السحرة بعد أن تبين لهم
الحق وخروا ساجدين
لله ، آمنا بمالك أمر العالمين ومدبر شئونهم ، والمتصرف فيهم ، وجملة (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بدل من الجملة التي قبلها ، أو صفة لرب العالمين ، أو عطف
بيان. وفائدة ذلك نفى توهم من يتوهم أن رب العالمين قد يطلق على غير الله ـ تعالى
ـ كقول فرعون (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى).
وهكذا نرى أثر
الحق عند ما تخالط بشاشته القلوب الواعية ، لقد آمن السحرة وصرحوا بذلك أمام فرعون
وشيعته ، لأنهم أدركوا عن يقين قطعى أن ما جاء به موسى ـ عليهالسلام ـ ليس من قبيل السحر ، والعالم في فنه هو أكثر الناس
استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له ، ومن هنا فقد تحول السحرة من التحدي
السافر إلى التسليم المطلق أمام صولة الحق الذي لا يجحده إلا مكابر حقود.
ولكن فرعون وملؤه
لم يرقهم ما شاهدوا من إيمان السحرة ، ولم يدركوا لانطماس بصيرتهم فعل الإيمان في
القلوب ، فأخذ يتوعدهم بالموت الأليم ويحكى القرآن ذلك فيقول : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ
أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أى : قال فرعون منكرا على السحرة إيمانهم ، آمنتم برب موسى
وهارون قبل أن آمركم أنا بذلك؟ فهو لغروره وجهله ظن أن الإيمان بالحق بعد أن تبين
يحتاج إلى استئذان.
ثم أضاف إلى ذلك
اتهامهم بأن إيمانهم لم يكن عن إخلاص ليصرف الناس عنهم فقال : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أى : إن ما صنعتموه من الإيمان برب موسى وهارون ليس عن
اقتناع منكم بذلك ، بل هو حيلة احتلتموها أنتم وموسى قبل أن يلقى كل منكم بسحره ،
لكي تخرجوا من مصر أهلها الشرعيين ، وتخلص لكم ولبنى إسرائيل.
وغرضه من هذا
القول إفهام قبط مصر أن إيمان السحرة كان عن تواطؤ مع موسى ، وأنهم يهدفون من وراء
ذلك إلى إخراجهم من أوطانهم ، فعليهم. ـ أى القبط ـ أن يستمسكوا بدينهم وأن يعلنوا
عداوتهم لموسى وللسحرة ولبنى إسرائيل.
ولا شك أن هذا لون
من الكذب الخبيث أراد من ورائه فرعون صد الناس عن الإيمان بموسى ـ عليهالسلام ـ.
ثم أتبع هذا
الاتهام الباطل بالوعيد الشديد فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أى : فسوف تعلمون عاقبة ما فعلتم. ثم فصل هذا الوعيد بقوله
: (لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
أى : أقسم لأقطعن
من كل شق منكم عضوا مغايرا للآخر ، كاليد من الجانب الأيمن ، والرجل من الجانب
الأيسر ، ثم لأصلبنكم أجمعين تفضيحا لكم ، وتنكيلا لأمثالكم. ومع أن
فرعون قد توعد
هؤلاء المؤمنين بالعذاب والتشويه والتنكيل والموت القاسي البطيء المرهوب ، فإننا
نراهم يقابلون كل ذلك بالصبر الجميل ، والإيمان العميق ، والاستهانة ببطش فرعون
وجبروته فيقولون له بكل ثبات واطمئنان : (إِنَّا إِلى رَبِّنا
مُنْقَلِبُونَ) قال صاحب الكشاف : فيه أوجه : أن يريدوا إنا لا نبالى
بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله
يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب. أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون
ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله فما تقدر أن
تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه» .
ثم قالوا له على
سبيل الاستهزاء والتوبيخ (وَما تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أى : وما تكره منا وتعيب إلا الإيمان بالله ، مع أن ما
تكرهه منا وتعيبه علينا هو أعظم محاسننا ، لأنه خير الأعمال ، وأعظم المناقب ، فلا
نعدل عنه طلبا لمرضاتك.
يقال : نقم عليه
أمره ، ونقمت منه نقما ـ من باب ضرب ـ عبته وكرهته أشد الكراهة.
قال الجمل : وقوله
(إِلَّا أَنْ آمَنَّا) يجوز أن يكون في محل نصب مفعول به ، أى : ما تعيب علينا
إلا إيماننا. ويجوز أن يكون مفعولا من أجله. أى : ما تنال منا وتعذبنا لشيء من
الأشياء إلا لإيماننا. وعلى كل من القولين فهو استثناء مفرغ» .
ثم ختموا مناقشتهم
لفرعون بالانصراف عنه والالتجاء إلى الله ـ تعالى ـ فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أى : يا ربنا أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك ،
وتوفنا إليك حالة كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك ، مستسلمين لقضائك.
وبذلك يكون السحرة
قد ضربوا للناس في كل زمان ومكان أروع الأمثال في التضحية من أجل العقيدة ، وفي
الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة ، وفي الصبر على المكاره والآلام ، وفي المسارعة إلى
الدخول في الطريق الحق بعد أن تبين لهم ، وفي التعالي عن كل مغريات الحياة.
قال قتادة : كانوا
في أول النهار كفارا سحرة. وفي آخره شهداء بررة ، فرضي الله عنهم وحشرنا في
زمرتهم.
وبعد هذا الحديث
الذي ساقته السورة عما دار بين موسى وفرعون ، وبين موسى والسحرة ، والذي انتهى
بإيمان السحرة برب العالمين بعد ذلك بدأت السورة تحكى لنا ما قاله الملأ من قوم
فرعون بعد هزيمتهم المنكرة ، وما قاله موسى ـ عليهالسلام ـ لقومه بعد أن بلغهم وعيد فرعون وتهديده لهم ، وما رد به
قومه عليه مما يدل على سفاهتهم فقالت :
__________________
(وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
قالَ
مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
قالُوا
أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ
أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ)
(١٢٩)
قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ : أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ).
أى : قال الزعماء والوجهاء
من قوم فرعون له ، بعد أن أصابتهم الهزيمة والخذلان في معركة الطغيان والإيمان ،
قالوا له على سبيل التهييج والإثارة : أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين في أرضك ،
ليفسدوا فيها بإدخال الناس في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم ورئاستهم.
روى أنهم قالوا له
ذلك بعد أن رأوا عددا كبيرا من الناس ، قد دخل في الإيمان متبعا السحرة الذين
قالوا (آمَنَّا بِرَبِّ
الْعالَمِينَ).
وقوله (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) معناه : أتتركهم أنت يعبدون رب موسى وهارون ، ويتركون
عبادتك وعبادة آلهتك ، فيظهر للناس عجزك وعجزها ، فتكون الطامة الكبرى التي بها
يفسد ملكك.
قال السدى : إن
فرعون كان قد صنع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها ، وسمى نفسه الرب الأعلى.
وقال الحسن إنه
كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله ، وهو رب النوع الإنساني.
وقد قرئ (وَيَذَرَكَ) بالنصب والرفع أما النصب فعلى أنه معطوف على (لِيُفْسِدُوا) وأما الرفع فعلى أنه عطف على (أَتَذَرُ) أو على الاستئناف ، أو على أنه حال بحذف المبتدأ أى : وهو
يذرك.
والمتأمل في هذا
الكلام الذي حكاه القرآن عن الملأ من قوم فرعون ، يراه يطفح بأشد ألوان التآمر
والتحريض. فهم يخوفونه فقدان الهيبة والسلطان بتحطيم الأوهام التي يستخدمها
السلطان ، لذا نراه يرد عليهم بمنطق الطغاة المستكبرين فيقول : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ ،
وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ).
أى : لا تخافوا
ولا ترتاعوا أيها الملأ فإن قوم موسى أهون من ذلك ، وسننزل بهم ما كنا نفعله معهم
من قبل وهو تقتيل الأبناء ، وترك النساء أحياء ، وإنا فوقهم غالبون كما كنا ما
تغير شيء من حالنا ، فهم الضعفاء ونحن الأقوياء ، وهم الأذلة ونحن الأعزة.
فأنت ترى أن ما
قاله الملأ من قوم فرعون هو منطق حاشية السوء في كل عهود الطغيان فهم يرون أن
الدعوة إلى وحدانية الله إفساد في الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد.
ولأنها هي الدعوة إلى وحدانية الله التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبروتهم ، وتفتح
العيون على النور الذي يخشاه أولئك الفاسقون.
وترى أن ما قاله
فرعون هو منطق الطغاة المستكبرين دائما. فهم يلجئون إلى قوتهم المادية ليحموا بها
آثامهم ، وشهواتهم ، وسلطانهم القائم على الظلم ، والبطش ، والمنافع الشخصية.
ويبلغ موسى وقومه
هذا التهديد والوعيد من فرعون وملئه فماذا قال موسى ـ عليهالسلام ـ؟ لقد حكى القرآن عنه أنه لم يحفل بهذا التهديد بل أوصى
قومه بالصبر ، ولوح لهم بالنصر. استمع إلى القرآن وهو يحكى قول موسى ـ عليهالسلام ـ فيقول :
(قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
أى : قال موسى لقومه
على سبيل التشجيع والتسلية حين ضجوا وارتعبوا من تهديدات فرعون وملئه : يا قوم
استعينوا بالله في كل أموركم. واصبروا على البلاء ، فهذه الأرض ليست ملكا لفرعون
وملئه ، وإنما هي ملك لله رب للعالمين ، وهو ـ سبحانه ـ يورثها لمن يشاء من عباده
، وقد جرت سنته ـ سبحانه ـ أن يجعل العاقبة الطيبة لمن يخشاه ولا يخشى أحدا سواه.
بهذا الأسلوب
المؤثر البليغ ، وبهذه الوصايا الحكيمة ، وصى موسى قومه بنى إسرائيل فماذا كان
ردهم عليه؟ لقد كان ردهم يدل على سفاهتهم ، فقد قالوا له : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا
وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) أى : قال بنو إسرائيل لموسى ردا على نصيحته لهم : لقد
أصابنا الأذى من
فرعون قبل أن
تأتينا يا موسى بالرسالة ، فقد قتل منا ذلك الجبار الكثير من أبنائنا وأنزل بنا
ألوانا من الظلم والاضطهاد وأصابنا الأذى بعد أن جئتنا بالرسالة كما ترى من سوء
أحوالنا. واشتغالنا بالأشغال الحقيرة المهينة ، فنحن لم نستفد من رسالتك شيئا ،
فإلى متى نسمع منك تلك النصائح التي لا جدوى من ورائها؟.
ومع هذا الرد
السفيه من قوم موسى عليه ، نراه يرد عليهم بما يليق به فيقول : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ) فرعون الذي فعل بكم ما فعل من أنواع الظلم ، وتوعدكم بما
توعد من صنوف الاضطهاد.
(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الْأَرْضِ) أى يجعلكم خلفاء فيها من بعد هلاكه هو وشيعته. (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أى : فيرى ـ سبحانه ـ الكائن منكم من العمل ، حسنه وقبيحه
، ليجازيكم على حسب أعمالكم ، فإن استخلافكم في الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس
محاباة لكم ، وإنما هو استخلاف للاختبار والامتحان ، فإن أحسنتم زادكم الله من
فضله ، وإن أسأتم كان مصيركم كمصير أعدائكم.
وفي التعبير «بعسى»
الذي يدل على الرجاء ، أدب عظيم من موسى مع ربه ـ عزوجل ـ : وتعليم للناس من بعده أن يلتزموا هذا الأدب السامي مع
خالقهم ، وفيه كذلك منع لهم من الاتكال وترك العمل ، لأنه لو جزم لهم في الوعد فقد
يتركون السعى والجهاد اعتمادا على ذلك.
وقيل : إن موسى
ساق لهم ما وعدهم به في صيغة الرجاء لئلا يكذبوه ، لضعف نفوسهم بسبب ما طال عليهم
من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه ، واستعظامهم لملكه وقوته ، فكأنهم يرون أن ما
قاله لهم موسى مستبعد الحصول ، لذا ساقه لهم في صورة الرجاء.
ثم تمضى السورة
الكريمة بعد ذلك فتحدثنا في بضع آيات عن العذاب الذي أخذ الله به آل فرعون بسبب
ظلمهم وطغيانهم ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ قد حقق لموسى رجاءه ، وكيف أن أولئك
الظالمين لم يمنعهم العذاب الذي نزل بهم من ارتكاب المنكرات والآثام.
(وَلَقَدْ أَخَذْنا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
(١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا
لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا
إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما
تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ
بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا
عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا
الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)
(١٣٧)
تدبر معنا أيها
القارئ الكريم تلك الآيات الكريمة التي تحكى كل ذلك وغيره بأسلوبها البليغ المؤثر.
قال القرطبي :
قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) يعنى الجدب ، وهذا معروف في اللغة ، يقال : أصابتهم سنة ،
أى : جدب. وتقديره : جدب سنة ، وفي الحديث «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف»
والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه
أسنت القوم ، أى
أجدبوا وقحطوا .
وقال الآلوسى :
هذا شروع في تفصيل مبادئ الهلاك الموعود به ، وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا
من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال .
والمعنى : ولقد
أخذنا آل فرعون أى : اختبرناهم وامتحناهم بالجدب والقحط ، وضيق المعيشة ، وانتقاص
الثمرات لعلهم يثوبون إلى رشدهم ؛ ويتذكرون ضعفهم أمام قوة خالقهم ، ويرجعون عما
هم فيه من الكفر والعصيان ، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب ، وتصفى النفوس ،
وترغب في الضراعة إلى الله ، وتدعو إلى اليقظة والتفكير ومحاسبة النفس على الخطايا
اتقاء للبلايا.
وصدرت الآية
الكريمة بالقسم ، لإظهار الاعتناء بمضمونها.
والمراد بآل فرعون
قومه وأتباعه ، فهم مؤاخذون بظلمه وطغيانه ، لأن قوته المالية والجندية منهم ، وقد
خلقهم الله أحرارا ؛ وأكرمهم بالعقل والفطرة التي تكره الظلم والطغيان بالغريزة
فكان حقا عليهم ألا يقبلوا استعباده لهم وجعلهم آلة لطغيانه ، لا سيما بعد بعثة
موسى ـ عليهالسلام ـ ووصول دعوته إليهم ، ورؤيتهم لما أيده الله به من الآيات
.
وإضافة الآل إليه
وهو لا يضاف إلا إلى الأشراف ، لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر ، وإن كان في نفس
الأمر خسيسا.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن آل فرعون لم يعتبروا بهذا الأخذ والامتحان ، وإنما ازدادوا تمردا وكفرا فقال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا :
لَنا هذِهِ).
أى : فإذا جاءهم
ما يستحسنونه من الخصب والسعة والرخاء ، قالوا بغرور وصلف : ما جاء هذا الخير إلا
من أجلنا لأننا أهل له ، ونحن مستحقوه وبكدنا واجتهادنا وامتيازنا على غيرنا ناسين
فضل الله عليهم ، ولطفه بهم ، غافلين عن شكره على نعمائه.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أى : وإن اتفق أن أصابتهم سيئة أى : حالة تسؤهم كجدب أو
قحط أو مصيبة في الأبدان أو الأرزاق ، تشاءموا بموسى ومن معه من أتباعه ، وقالوا :
ما أصابنا ما أصابنا إلا بشؤمهم ونحسهم ، ولو لم يكونوا معنا لما أصبنا.
وأصل (يَطَّيَّرُوا) يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها. والتطير
التشاؤم والأصل في
__________________
إطلاق التطير على
التشاؤم : أن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وهو ما طار إلى الجهة اليسرى
، وتتيامن بالسانح وهو ما طار إلى الجهة اليمنى. ومنه سموا الشؤم طيرا وطائرا ،
والتشاؤم تطيرا. وقد يطلق الطائر على الحظ والنصيب خيرا كان أو شرا ، ولكنه غالب
في الشر.
وإنما عرف الحسنة
وذكرها مع أداة التحقيق ـ وهي إذا ـ لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات ،
لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال. ونكر السيئة
وذكرها بأداة الشك ـ وهي إن ـ لندورها وعدم تعلق الإرادة بإحداثها إلا بالتبع ،
فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بسبب الأعمال السيئة.
وقوله ـ تعالى ـ (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) استئناف مسوق للرد على خرافاتهم وأباطيلهم. وصدر بلفظ «ألا»
الذي يفيد التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمون هذا الخبر.
أى : إنما سبب شؤمهم
هو أعمالهم السيئة المكتوبة لهم عند الله ، فهي التي ساقت إليهم ما يسوءهم وليس
لموسى ولا لمن معه أى تدخل في ذلك. ولكن أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة ، فيقولون ما
يقولون مما تمليه عليهم أهواؤهم وجهالاتهم.
وفي إسناد عدم
العلم إلى أكثرهم ، إشعار بأن قلة منهم تعلم ذلك ، ولكنها لا تعمل بمقتضى علمها.
هذا ، وقد أفادت
الآية الكريمة أن القوم لم يتأثروا لا بالرخاء ولا بالشدائد. الرخاء العظيم ،
والخصب الواسع زادهم غرورا وبطرا ، والشدائد والمحن جعلتهم ينسبون أسبابها إلى
غيرهم دون أن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم. مع أن الشدائد ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ تجعل
الناس «أضرع خدودا وألين أعطافا ، وأرق أفئدة».
ثم تحكى السورة
الكريمة أن آل فرعون قد لجوا في طغيانهم يعمهون فقالت : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ
آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).
أى : قال الملأ من
بنى إسرائيل لموسى بعد أن رأوا من حججه الدالة على صدقه : إنك يا موسى إن تجئنا
بكل نوع من أنواع الآيات التي تستدل بها على حقية دعوتك لأجل أن تسحرنا بها ، أى
تصرفنا بها عما نحن فيه ، فما نحن لك بمصدقين ، ولا لرسالتك بمتبعين.
ومنطقهم هذا يدل
على منتهى العناد والجحود ، فهم قد صاروا في حالة نفسية لا يجدي معها دليل ولا
ينفع فيها إقناع ، لأنهم قد أعلنوا الإصرار على التكذيب حتى ولو أتاهم نبيهم بألف
دليل ودليل ، وهكذا شأن الجبارين الذين قست قلوبهم ، ومسخت نفوسهم وأظلمت
مشاعرهم ، حين
يدمغهم الحق ، ويطاردهم الدليل الساطع بنوره الواضح ، إنهم تأخذهم العزة بالإثم
فيأبون أى لون من ألوان التفكير والتدبر.
قال الجمل : و (مَهْما) اسم شرط جازم ـ يدل على العموم ـ ، و (مِنْ آيَةٍ) بيان له ، والضميران في «به» و «بها» راجعان لمهما الأول
مراعاة للفظها لإبهامه ، والثاني مراعاة لمعناها» .
وسموا ما جاء به
موسى ـ عليهالسلام ـ آية من باب المجاراة له والاستهزاء بها حيث زعموا أنها
نوع من السحر كما ينبئ عنه قولهم (لِتَسْحَرَنا بِها).
ثم حكت السورة
الكريمة ما حل بهؤلاء الفجرة من عقوبات جزاء عتوهم وعنادهم فقالت : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ،
وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ ، وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ
فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).
أى : فأرسلنا على
هؤلاء الجاحدين عقوبة لهم الطوفان.
قال الآلوسى : أى
: ما طاف بهم ، وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر وسيل ، فهو اسم جنس من الطواف. وقد
اشتهر في طوفان الماء ، وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس وجاء عن
عطاء ومجاهد تفسيره بالموت ، وفسره بعضهم بالطاعون وكانوا أول من عذبوا به» .
وأرسلنا عليهم (الْجَرادَ) فأكل زروعهم وثمارهم وأعشابهم ، حتى ترك أرضهم سوداء قاحلة.
وأرسلنا عليهم (الْقُمَّلَ) وهو ضرب معروف من الحشرات المؤذية ، وقيل : هو السوس الذي
أكل حبوبهم وما اشتملت عليه بيوتهم.
وأرسلنا عليهم (الضَّفادِعَ) فصعدت من الأنهار والخلجان والمنابع فغطت الأرض وضايقتهم
في معاشهم ومنامهم.
وأرسلنا عليهم (الدَّمَ) فصارت مياه الأنهار مختلطة به ، فمات السمك فيها ، وقيل
المراد بالدم الرعاف الذي كان يسيل من أنوفهم.
تلك هي النقم التي
أنزلها الله ـ تعالى ـ على هؤلاء المجرمين ، بسبب فسوقهم عن أمر ربهم ، وتكذيبهم
لنبيهم ـ عليهالسلام ـ.
__________________
وقوله : (آياتٍ) حال من العقوبات الخمس المتقدمة.
وقوله : (مُفَصَّلاتٍ) أى : مبينات واضحات لا يشك عاقل في كونها آيات إلهية لا
مدخل فيها للسحر كما يزعمون.
وقيل (مُفَصَّلاتٍ) أى : مميزا بعضها عن بعض ، منفصلة بالزمان لامتحان
أحوالهم. وكان بين كل اثنين منها شهر ، وكان امتداد كل واحدة منها شهرا ، كما أخرج
ذلك ابن المنذر عن ابن عباس :
ثم وضحت الآية في
نهايتها موقفهم من هذا الابتلاء وتلك العقوبات فقالت :
(فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أى فاستكبروا عن الإيمان بموسى ـ عليهالسلام ـ وعما جاء به من معجزات ، وكانوا قوما طبيعتهم الاجرام
ودينهم الكفر والفسوق.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حالهم عند نزول العقاب بهم فقال : (وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ
بَنِي إِسْرائِيلَ).
أى وحين وقع على
فرعون ومثله العذاب المذكور في الآية السابقة ، والمتمثل في الطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم ، حين وقع عليهم ذلك أخذوا يقولون لموسى بتذلل واستعطاف عقب
كل عقوبة من تلك العقوبات : يا موسى ادع لنا ربك واسأله بحق ما عهد عندك من أمر
إرسالك إلينا لإنقاذنا من الهلاك أن يكشف عنا هذا العذاب ، ونحن نقسم لك بأنك إن
كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل.
قال صاحب الكشاف :
(بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ما مصدرية ، والمعنى بعهده عندك وهو النبوة. والباء إما أن
تتعلق بقوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) على وجهين :
أحدهما : أسفنا
إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. أو ادع
الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك.
وإما أن يكون قسما
مجابا بلنؤمنن ، أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
موقفهم الجحودى فقال : (فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أى : فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد مرة إلى الوقت الذي
أجل لهم وهو
__________________
وقت إغراقهم في
اليم ، إذا هم ينكثون أى : ينقضون عهدهم الذي التزموه ، ويحنثون في قسمهم في كل
مرة.
وينكثون : من
النكث. وأصله فك طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا ، ثم استعير لنقض العهد بعد
إبرامه.
قال الآلوسى :
وجواب «لما» فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها ، أى : فلما
كشفنا عنهم ذلك فاجأوا بالنكث من غير توقف» .
هذا ، وقد ساق بعض
المفسرين آثارا متعددة في كيفية نزول هذا العذاب بهم. ومن هذه الآثار ما رواه أبو
جعفر بن جرير ـ بسنده ـ عن سعيد بن جبير قال :
لما أتى موسى ـ عليهالسلام ـ فرعون قال له : أرسل معى بنى إسرائيل ، فأرسل الله عليهم
الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا. فقالوا لموسى : ادع
لنا ربك أن يكشف عنا هذا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا ربه ، فلم
يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل. فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك
من الزروع والثمار والكلأ ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد
فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع فقالوا : يا موسى
ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فكشف
عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت
فقالوا : قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه ، فكان الرجل
يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة ـ والجريب والقفيز
مكيالان للحبوب ، والجريب أربعة أقفزة ـ فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا
القمل فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه
بنى إسرائيل. فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون : ما تلقى
أنت وقومك من هذا. فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا ، فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس
إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فيثبت الضفدع في فيه فقالوا لموسى ادع لنا
ربك أن يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم
فلم يؤمنوا ، وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما
كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم
وليس لنا شراب ، فقال : إنه قد سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في
أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا؟
__________________
فأتوه وقالوا : يا
موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه
فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل» .
قال ابن كثير : قد
روى نحو هذا عن ابن عباس والسدى وقتادة وغير واحد من علماء السلف أنه أخبر بهذا.
ثم حكت السورة
الكريمة نهايتهم الأليمة ، بسبب نقضهم لعهودهم ومواثيقهم في كل مرة ، وبسبب
تكذيبهم لآيات الله. وعصيانهم لنبيهم موسى ـ عليهالسلام ـ فقالت : (فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ، بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أى : فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لإهلاكهم. بأن
أغرقناهم في اليم ـ أى البحر ـ ، وذلك بسبب تكذيبهم لآياتنا الواضحة ، وحججنا
الساطعة ، وكانوا عنها غافلين بحيث لا يتدبرونها ، ولا يتفكرون فيما تحمله من عظات
وعبر.
والقرآن هنا يسوق
حادث إغراق فرعون وملئه بصورة مجملة ، فلا يفصل خطواته كما فصلها في مواطن أخرى ،
وذلك لأن المقام هنا هو مقام الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ، فلا داعي إذن إلى
طول العرض والتفصيل. إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس ، وأرهب للحس ، وأزجر
للقلب ، وأدعى إلى العظة والاعتبار ، ولأن سورة الأعراف ـ كما سبق أن بينا ـ يغلب
عليها هذا الأسلوب الذي يزلزل قلوب الطغاة ، ويغرس في النفوس الرهبة والخوف وهي
تقص على الناس ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى مضى وصار تاريخا يعلمونه ويتحدثون
عنه ، وهو ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسلها وعتت عن أمر ربها.
ثم وهي تحكى لهم
ما أعد للمستكبرين من عذاب أخروى بسبب عصيانهم وانتهاكهم لحرمات الله.
ثم بين ـ سبحانه ـ
مظاهر فضله وكرمه على بنى إسرائيل بعد أن بين نهاية فرعون وآله فقال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها).
أى : وأعطينا
القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر من فرعون وملئه بالاستعباد وقتل الأبناء ، وسوء
العذاب ، أعطيناهم من طريق الاستخلاف ـ قبل أن يزيغوا ويضلوا ـ مشارق أرض الشام
ومغاربها التي باركنا فيها بالخصوبة وسعة الأرزاق ، وبكونها مساكن الأنبياء
والصالحين ليكون ذلك امتحانا لهم ، واختبارا لنفوسهم.
وجمع ـ سبحانه ـ بين
صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف
__________________
وتجدده ، والمراد
بهم بنو إسرائيل ، وذكروا بعنوان القوم ، إظهارا لكمال اللطف بهم ، وعظيم الإحسان
إليهم ، حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة.
وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) ، أى : ونفذت كلمة الله الحسنى ومضت عليهم تامة كاملة ،
حيث رزقهم ـ سبحانه ـ النصر على أعدائهم. والتمكين في الأرض بسبب صبرهم على ظلم
فرعون وملئه.
قال الزمخشري :
وحسبك به حاثا على الصبر. ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه. ومن
قابله بالصبر ، وانتظار النصر ، ضمن الله له الفرج.
وعن الحسن : عجبت
ممن خف كيف خف وقد سمع قوله ـ تعالى ـ ثم تلا هذه الآية (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كانُوا ...) ومعنى «خف» طاش جزعا وقلة صبر ، ولم يرزق رزانة أولى الصبر»
.
ثم ختمت الآية
بقوله ـ تعالى ـ (وَدَمَّرْنا ما كانَ
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من بناء القصور الشاهقة والمنازل القوية ، وما كانوا
يرفعونه من البساتين ، والصروح المشيدة ، كصرح هامان وغيره.
و (يَعْرِشُونَ) بكسر الراء وضمها ـ أى يرفعون من العرش وهو الشيء المسقف
المرفوع.
قال الجمل : وقوله
(وَدَمَّرْنا ما كانَ
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) في إعرابه أوجه :
أحدها : أن يكون
فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم ، والجملة الكونية صلة والعائد محذوف. والتقدير :
ودمرنا الذي كان فرعون يصنعه.
والثاني : أن اسم
كان ضمير عائد على ما الموصولة ، ويصنع مسند لفرعون. والجملة خبر عن كان ، والعائد
محذوف ، والتقدير : ودمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون.
الثالث : أن تكون
كان زائدة وما مصدرية والتقدير ودمرنا ما يصنع فرعون أى : صنعه» .
وهكذا تنهى السورة
الكريمة هذا الدرس بذكر ما أصاب الظالمين والغادرين من دمار وخراب ، وما أصاب
المستضعفين الصابرين من خير واستخلاف في الأرض.
ثم بدأت السورة
بعد ذلك مباشرة حديثا طويلا عن هؤلاء المستضعفين من بنى إسرائيل بينت فيه ألوانا
من جحودهم لنعم الله ، ونسيانهم لما كانوا فيه من ذل واستعباد ، وتفضيلهم
__________________
عبادة الأصنام على
عبادة الخالق ـ عزوجل وغير ذلك من أنواع كفرهم ومعاصيهم ، واستمع إلى القرآن وهو
يحكى لونا من رذائلهم فيقول :
(وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ
قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ
مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ)
(١٤١)
إن هذه الآيات
تحكى قصة عجيبة لبنى إسرائيل ملخصها : أنهم بعد أن خرجوا من مصر بقيادة موسى ـ عليهالسلام ـ تبعهم فرعون وجنوده ليعيدوهم إليها ، إلا أن الله ـ تعالى
ـ انتقم لهم من فرعون وجنده فأغرقهم أمام أعينهم وسار بنو إسرائيل نحو المشرق
متجهين إلى الأرض المقدسة بعد أن عبروا البحر ، ولكنهم ما إن جاوزوا البحر الذي
غرق فيه عدوهم والذي ما زالت رماله الرطبة عالقة بنعالهم ، حتى وقعت أبصارهم على
قوم يعبدون الأصنام ، فماذا كان من بنى إسرائيل؟.
كان منهم أن
عاودتهم طبيعتهم الوثنية ، فطلبوا من نبيهم موسى ـ عليهالسلام ـ الذي جاء لهدايتهم وإنقاذهم مما هم فيه من ظلم أن يصنع
لهم آلهة من جنس الآلهة التي يعبدها أولئك القوم.
وهنا غضب عليهم
موسى غضبا شديدا. ووصفهم بأنهم قوم يجهلون الحق ، وبين لهم فساد ما عليه المشركون
، وذكرهم بما حباهم الله ـ تعالى ـ به من نعم جزيلة ، يوجب عليهم إفراده بالخضوع
والعبادة والطاعة والشكر.
وقوله ـ تعالى ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ
الْبَحْرَ) بيان للمنة العظيمة التي منحهم الله إياها ، وهي عبورهم
البحر بعد أن ضربه موسى بعصاه ، فأصبح طريقا يابسا يسيرون فيه بأمان واطمئنان حتى
عبروه إلى الناحية الأخرى ، يصحبهم لطف الله ، وتحدوهم عنايته ورعايته.
وجاوز بمعنى أصل
الفعل الذي هو جاز ، أى : قطعنا بهم البحر. يقال : جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه
وخلفه وراء ظهره.
والمراد بالبحر :
بحر القلزم وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر.
وقوله تعالى (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى
أَصْنامٍ لَهُمْ) بيان لما شاهدوه من أحوال بعض المشركين عقب عبورهم البحر
ونجاتهم من عدوهم ، فماذا كانت نتيجة هذه المشاهدة؟ لقد كان المتوقع منهم أن
يحتقروا ما شاهدوه ، وأن ينفروا مما أبصروه ، لأن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا
يسامون سوء العذاب في ظل عبادة الأصنام عند فرعون وقومه ، ولأن نجاتهم مما كانوا
فيه من ذل وهوان ، قد تمت على يد نبيهم الذي دعاهم إلى توحيد الله ـ تعالى ـ لكي
يزيدهم من فضله.
ولكن طبيعة بنى
إسرائيل المعوجة لم تفارقهم ، فها هم أولاء ما إن وقعت أبصارهم على قوم يعكفون
ويداومون على عبادة أصنام لهم ، حتى انجذبوا إليها وطلبوا من نبيهم الذي جاء لهدايتهم ،
أن يجعل لهم وثنا كغيرهم لكي يعبدوه من جديد. لقد حكى القرآن عنهم أنهم عند ما
شاهدوا هذا المنظر ، ما لبثوا أن قالوا لنبيهم (يا مُوسَى اجْعَلْ
لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). قالوا ذلك لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم ، ولأن ما
ألفوه من عبادة الأصنام أيام استعباد فرعون لهم ، ما زال متمكنا من نفوسهم ،
ومسيطرا على عقولهم ، وهكذا عدوى الأمراض تصيب النفوس كما تصيب الأبدان ، وهكذا
طبيعة بنى إسرائيل ما تكاد تهتدى حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ؛ وما تكاد
تسير في طريق الاستقامة حتى ترتكس وتنتكس.
وفي قولهم لنبيهم (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ
آلِهَةٌ) بصيغة الأمر ؛ أكبر دليل على غباء عقولهم ، وسوء أدبهم ؛
لأنهم لو استأذنوه ـ مثلا ـ في اتخاذ صنم يعبدونه كغيرهم لكان شأنهم أقل غرابة ؛
ولكن الذي حصل منهم أنهم طلبوا منه ـ وهو نبيهم الداعي لهم إلى توحيد الله تعالى ؛
والمنقذ لهم من عدوهم الوثني الجبار ـ أن يقوم هو بنفسه بصناعة صنم لكي يعبدوه
كغيرهم!!.
__________________
قال القرطبي :
ونظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط ـ لأنهم كانوا
ينوطون بها سلاحهم أى يعلقونه ـ وكان الكفار يعظمون هذه الشجرة في كل سنة يوما ،
قال الأعراب : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم «الله أكبر. قلتم
والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه» وكان هذا في مخرجه إلى
حنين .
ولقد غضب موسى ـ عليهالسلام ـ من طلبهم هذا ـ وهو الغضوب بطبيعته لربه ودينه ـ فرد
عليهم ردا قويا فيه توبيخ لهم وتعجب من قولهم بعد أن رأوا من المعجزات ما رأوا
فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) أى : إنكم يا بنى إسرائيل بطلبكم هذا برهنتم على أنكم قوم
قد ملأ الجهل قلوبكم ، وغطى على عقولكم ، فصرتم لا تفرقون بين ما عليه هؤلاء من
ضلال مبين ، وبين ما تستحقه الألوهية من صفات وتعظيم ولم يقيد ما يجهلونه ليفيد
أنه جهل كامل شامل يتناول فقد العلم ، وسفه النفس ، وفساد العقل. وسوء التقدير.
وبعد أن كشف لهم
سوء حالهم ، وفرط جهالاتهم ، بين لهم فساد ما طلبوه في ذاته ، وقبح عاقبة من
أرادوا تقليدهم ، فقال لهم بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ
وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
متبر : من التتبير
بمعنى الإهلاك أو التكسير والتحطيم يقال : تبره يتبره وتبره أى أهلكه ودمره.
أى : إن هؤلاء
الذين تبغون تقليدهم في عبادة الأوثان ، محكوم على ما هم فيه بالدمار ، ومقضي على
ما يعملونه من عبادة الأصنام بالاضمحلال والزوال لأن دين التوحيد سيظهر في هذه
الديار ، وستصير العبادة لله الواحد القهار.
وبهذا الرد يكون
موسى ـ عليهالسلام ـ قد كشف لقومه عن سوء ما يطلبون ، وصرح لهم بأن مصير ما
يبغونه إلى الهلاك والتدمير.
قال الإمام الرازي
: (والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من عبادة ذلك العجل نفع ولا دفع ضرر
، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك
الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير الروح سعيدة بحصول تلك
المعرفة فيها ، فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعلق قلبه بغيره ، ويصير ذلك
التعلق سببا
__________________
لإعراض القلب عن
ذكره تعالى. وإذا ثبت هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل
وضائع. وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه ، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ
معرفة الله ـ تعالى ـ في القلب. والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفته عن القلب ،
فكان هذا ضد الغرض ونقيضا للمطلوب ـ والله أعلم ـ) .
ثم مضى موسى ـ عليهالسلام ـ يستنكر عليهم هذا الطلب ، ويبين لهم أن الله وحده هو
المستحق للعبادة فقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ
إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).
أى قال موسى ـ عليهالسلام مذكرا قومه بنعم الله عليهم الموجبة لإفراده بالعبادة
والخضوع : أغير الله أطلب لكم معبودا أحملكم على العبودية له ، وهو فضلكم على
عالمي زمانكم ، وقد كان الواجب عليكم أى تخصوه بالعبادة ، كما اختصكم هو بشتى
النعم الجليلة. فالاستفهام في الآية الكريمة للإنكار المشرب معنى التعجب لابتغائهم
معبودا سوى الله ـ تعالى ـ الذي غمرهم بنعمه ، وأحاطهم بألوان إحسانه.
و «غير» كما قال
الجمل ـ منصوب على أنه مفعول به لأبغيكم على حذف اللام والتقدير : أأبغي لكم غير
الله إلها ، فلما حذف الحرف وصل الفعل بنفسه وهو غير منقاس. و «إلها» تمييز لغير.
ثم ذكرهم ـ سبحانه
ـ بنعمة إنجائهم من العذاب والتنكيل ، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون ، فقال تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).
«إذ» بمعنى وقت ،
وهي مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى : اذكروا وقت أن أنجيناكم من آل
فرعون. والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث.
وآل الرجل : أهله
وخاصته وأتباعه. ويطلق غالبا على أولى الشأن والخطر من الناس ، فلا يقال آل الحجام
أو الإسكاف.
و (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) يبغون لكم أشد العذاب وأفظعه من السوم وهو مطلق الذهاب ،
أو الذهاب في ابتغاء الشيء. يقال : سامت الإبل فهي سائمة ، أى ذهبت إلى المرعى.
وسام السلعة ، إذا طلبها وابتغاها.
والسوء ـ بالضم ـ كل
ما يحزن الإنسان ويغمه من الأمور الدنيوية أو الأخروية. ويستحيون : أى يستبقون.
يقال : استحياه أى : استبقاه ، وأصله : طلب له الحياة والبقاء.
__________________
والبلاء :
الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر.
والمعنى : واذكروا
يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وتشكروا الله على نعمه وقت أن أنجيناكم من آل
فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ،
ويستبقون نفوس نسائكم ليستخدموهن ويستذلوهن. وفي ذلكم العذاب وفي النجاة منه
امتحان لكم لتشكروا الله على نعمه ، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى
الإذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى.
وجعلت النجاة هنا
من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه هو الآمر بتعذيب بنى إسرائيل ، للتنبيه على أن
حاشيته وبطانته كانت عونا له على إذاقتهم سوء العذاب ، وفي إنزال ألوان الأذلال
بهم.
وجعلت الآية
الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل ـ مع أنه في ظاهره نعمة لهم ـ لأن هذا
الإبقاء على النساء كان المقصود منه الاعتداء على أعراضهن ، واستعمالهن في شتى أنواع
الخدمة ، وإذلالهن بالاسترقاق ، فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل ؛ وعذاب أليم ، تأباه
النفوس الكريمة ، والطباع الحرة الأبية.
قال الامام الرازي
ما ملخصه : في قتل الذكور دون الإناث مضرة من وجوه :
أحدها : أن ذبح
الأبناء يقتضى فناء الرجال ، وذلك يقضى انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا
تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء
جميعا.
ثانيها : أن هلاك
الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة.
فإن المرأة لتتمنى
الموت إذا انقطع عنها الرجال. لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد.
ثالثها : ان قتل
الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل الكد ، والرجاء القوى في الانتفاع به من أعظم
العذاب. فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة.
رابعا : أن بقاء
النساء بدون الذكران من أقاربهن ، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات للأعداء. وذلك نهاية
الذل والهوان .
وقد رجح كثير من
المفسرين أن المراد بالأبناء هنا الأطفال لا البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه
يفيد ذلك ، ولأن قتل الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال
الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال لما قامت أم موسى بإلقائه
في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.
__________________
ويرى بعض المفسرين
أن المراد بالأبناء الرجال ، لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة
النساء ، والنساء هن البالغات.
والذي نرجحه هو
القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإنجاء ، حيث كان آل فرعون
يقتلون الصغار قطعا للنسل ، ويسترقون الأمهات استعبادا لهن ، ويبقون الرجال للخدمة
حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت.
وبهذا تكون الآيات
الكريمة قد ردت على بنى إسرائيل فيما طلبوا أبلغ رد وأحكمه ، ووصفتهم بما هم أهله
من سوء تدبير ، وسفاهة تفكير. فقد بدأت بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، حيث طلبوا
من نبيهم أن يجعل لهم إلها كما لغيرهم آلهة ، ثم ثنت بإظهار فساد ما طلبوه في ذاته
، لأن مصيره إلى الزوال والهلاك ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون الها ، ثم بينت
بعد ذلك بأن العبادة لغير الله لا تجوز بأى حال ، لأنه هو وحده صاحب الخلق والأمر
، ثم ذكرتهم في ختامها بوجوه النعم التي أسبغها الله عليهم ، لتشعرهم بأن ما طلبوه
من نبيهم ، هو من قبيل مقابلة الإحسان بالجحود والنكران ، ولتحملهم على أن يتدبروا
أمرهم ، ويراجعوا أنفسهم ، ويتوبوا إلى خالقهم توبة صادقة نصوحا. ان كانوا ممن
ينتفع بالعظات ويعتبر بالمثلات.
ثم حكت لنا السورة
الكريمة بعد ذلك مشهد تطلع موسى ـ عليهالسلام ـ للقاء ربه ، ووصيته لأخيه هارون قبل ذهابه لهذا اللقاء
العظيم فقالت :
(وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى
لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ
تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ
تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى
صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
قالَ
يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما
آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)
(١٤٤)
قال صاحب الكشاف :
«روى أن موسى ـ عليهالسلام ـ وعد بنى إسرائيل وهو بمصر ، إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب
من عند الله ، فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب
فأمره بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه
فتسوك. فقالت له الملائكة : كنا نشم من فمك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره
الله ـ تعالى ـ ان يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك. وقيل أمره الله أن يصوم
ثلاثين يوما وان يعمل فيها بما يقربه من الله ثم انزل الله عليه في العشر التوراة
وكلمه فيها» .
والمواعدة مفاعلة
من الجانبين ، وهي هنا على غير بابها ، لأن المراد بها هنا أن الله ـ تعالى ـ أمر
موسى أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة تمهيدا لإعطائه التوراة ، ويؤيد ذلك قراءة أبى
عمرو ويعقوب «وعدنا».
وقيل المفاعلة على
بابها على معنى أن الله ـ تعالى ـ وعد نبيه موسى أن يعطيه التوراة وأمره بالحضور
للمناجاة فوعد موسى ربه بالطاعة والامتثال.
وقوله (ثَلاثِينَ) مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف ، أى : إثمام ثلاثين ليلة
أو إتيانها.
والضمير في قوله (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) يعود على المواعدة المفهومة من قوله (واعَدْنا) أى : وأتممنا مواعدته بعشر ، أو أنه يعود على ثلاثين :
وحذف تمييز عشر
لدلالة الكلام عليه ، أى : وأتممناها بعشر ليال.
و (أَرْبَعِينَ) منصوب على الحالية أى : فتم ميقات ربه بالغا أربعين ليلة.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
ما وصى به موسى أخاه هارون فقال : (وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) أى : قال موسى لأخيه هارون حين استودعه ليذهب لمناجاة ربه
: كن خليفتي في قومي ، وراقبهم فيما يأتون ويذرون فإنهم في حاجة إلى ذلك لضعف
إيمانهم ، واستيلاء الشهوات والأهواء عليهم (وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الذين (إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً).
وإننا لنلمح من
هذه الوصية أن موسى ـ عليهالسلام ـ كان متوقعا شرا من قومه ، ولقد
__________________
صح ما توقعه ،
فإنهم بعد أن فارقهم موسى استغلوا جانب اللين في هارون فعبدوا عجلا جسدا له خوار
صنعه لهم السامري.
ثم حكى القرآن ما
كان من موسى عند ما وصل إلى طور سيناء لمناجاة ربه فقال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أى : وحين حضر موسى لموقتنا الذي وقتناه له وحددناه ،
وكلمه ربه ، أى : خاطيه من غير واسطة ملك (قالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أى : قال موسى حين كلمه ربه وسمع منه : رب أرنى ذاتك
الجليلة. والمراد مكنى من رؤيتك. أو تجل لي أنظر إليك وأراك.
و (أَرِنِي) فعل أمر مبنى على حذف الياء. وياء المتكلم مفعول ،
والمفعول الثاني محذوف أى : ذاتك أو نفسك ولم يصرح به لأنه معلوم ، وزيادة في التأدب
مع الخالق ـ عزوجل ـ.
وجملة (قالَ لَنْ تَرانِي) مستأنفة استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : فماذا قال الله ـ تعالى
ـ حين قال موسى ذلك ، فكان الجواب (قالَ لَنْ تَرانِي) أى : لن تطيق رؤيتي ، وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي
أنت عليها في هذه الدنيا فنفى الرؤية منصب على الحالة الدنيوية ، أما في الآخرة
فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أى : لن تطيق رؤيتي يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا ،
ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك ، فإن استقر مكانه أى ثبت مكانه حين أتجلى
له ولم يتفتت من هذا التجلي ، فسوف تراني أى تثبت لرؤيتى إذا تجليت لك وإلا فلا
طاقة لك برؤيتى.
وفي هذا الاستدراك
(وَلكِنِ انْظُرْ) ... إلخ ، تسلية لموسى ـ عليهالسلام ـ وتلطف معه في الخطاب ، وتكريم له ، وتعظيم لأمر الرؤية ،
وأنه لا يقوى عليها إلا من قواه الله بمعونته.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما حدث للجبل عند التجلي فقال : (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أى : فحين ظهر نوره ـ سبحانه ـ للجبل على الوجه اللائق
بجلاله (جَعَلَهُ دَكًّا) أى مدقوقا مفتتا ، فنبه ـ سبحانه ـ بذلك على أن الجبل مع
شدته وصلابته مادام لم يستقر عند هذا التجلي ، فالآدمى مع ضعف بنيته أولى بأن لا
يستقر. والداك والدق بمعنى ، وهو تفتيت الشيء وسحقه وفعله من باب رد.
قال الآلوسى :
وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم ، أو
التأويل بما يليق بجلال ذاته ـ تعالى ـ.
وقوله (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أى : سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلي مغشيا
عليه ، كمن أخذته الصاعقة.
يقال : صعقتهم
السماء تصعقهم صعقا فهو صعق أى : غشى عليه.
وقوله : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أى : فلما أفاق موسى من غشيته ، وعاد إلى حالته الأولى
التي كان عليها قبل أن يخر مغشيا عليه ، قال تعظيما لأمر الله (سُبْحانَكَ) أى تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء (تُبْتُ إِلَيْكَ) من الإقدام على السؤال بغير إذن (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بعظمتك وجلالك أو أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد.
قال أبو العالية :
قد كان قبله مؤمنون : ولكن يقول أنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم
القيامة. قال ابن كثير : وهو قول حسن.
هذا ، وقد توسع
بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية في الحديث عن رؤية الله ـ تعالى ـ وعلى رأس
هذا البعض الإمام الآلوسى ، فقد قال ـ رحمهالله ـ : «واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته ـ سبحانه ـ بهذه
الآية على جوازها في الجملة ، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك ، وقامت
الحرب بينهما على ساق ، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا : إن الآية تدل
على إمكان الرؤية من وجهين :
الأول : أن موسى ـ
عليهالسلام ـ سألها بقوله (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عالما بالاستحالة فالعالم ـ
فضلا عن النبي مطلقا ، فضلا عمن هو من أولى العزم ـ لا يسأل المحال ولا يطلبه. وإن
لم يكن عالما بذلك ، لزم أن يكون آحاد المعتزلة أعلم بالله وما يجوز عليه وما لا
يجوز من النبي الصفي ، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة وحيث بطل القول بالاستحالة
تعين القول بالجواز.
والثاني : أن فيها
تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في ذاته وما علق على الممكن ممكن».
ثم قال ما ملخصه :
واعترض الخصوم على الوجه الأول بوجوه منها أنا لا نسلم أن موسى سأل الرؤية وإنما
سأل العلم الضروري به ـ تعالى ـ إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا. أو أنه سأل رؤية
علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف ، أى : أرنى أنظر إلى علم من أعلامك الدالة
على الساعة. أو أنه سأل الرؤية لا لنفسه ولكن لدفع قومه القائلين (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم
وردعهم عما سألوه تنبيها بالأدنى على الأعلى.
واعترضوا على
الوجه الثاني بأنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن ، لأن التعليق لم يكن على
استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط ، لأن الجبل حال
سكونه كان مستقرا ، بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته.
ثم أورد الآلوسى
بعد ذلك ما رد به كل فريق على الآخر مما لا مجال لذكره هنا .
والذي نراه أن
رؤية الله في الآخرة ممكنة كما قال أهل السنة لورود الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية الصحيحة التي تشهد بذلك ، أما في الدنيا فقد منع العلماء وقوعها ، وقد
بينا ذلك بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) .
ثم حكى القرآن بعد
ذلك ما كرم الله ـ تعالى ـ به موسى ـ عليهالسلام فقال : (قالَ يا مُوسى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي).
الاصطفاء. افتعال
من الصفوة ، وصفوة الشيء خالصه وخياره أى : قال الله تعالى ـ لموسى إنى اخترتك
واجتبيتك على الناس الموجودين في زمانك لأن الرسل كانوا قبل موسى وبعده ، فهو
اصطفاء على جيل معين من الناس بحكم هذه القرينة.
وقوله (بِرِسالاتِي) أى : بأسفار التوراة ، أو بإرسالى إياك إلى من أرسلت
إليهم. و (بِكَلامِي) أى : بتكليمى إياك بغير واسطة قال ـ تعالى ـ (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).
والجملة الكريمة
مسوقة لتسليته ـ عليهالسلام ـ عما أصابه من عدم الرؤية فكأنه ـ سبحانه ـ يقول له : إن
منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه ودم على شكرى.
وقدم الرسالة على
الكلام لأنها أسبق ، أو ليترقى إلى الأشرف.
ثم قال ـ تعالى ـ (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) أى : فخذ يا موسى ما أعطيتك من شرف الاصطفاء والنبوة
والمناجاة وكن من الراسخين في الشكر على ما أنعمت به عليك ، فأنت أسوة وقدوة لأهل
زمانك.
(وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ)
(١٤٥)
__________________
ثم فصل ـ سبحانه ـ
بعض النعم التي منحها لنبيه موسى وقال : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ).
والمراد بالألواح
كما قال ابن عباس ـ ألواح التوراة ، واختلف في عددها فقيل : سبعة ألواح وقيل عشرة
ألواح وقيل أكثر من ذلك. كما اختلف في شأنها فقيل كانت من سدر الجنة ، وقيل كانت
من زبرجد أو زمرد ... إلخ.
والذي نراه تفويض
معرفة ذلك إلى الله ـ تعالى ـ لأنه لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في عددها أو كيفيتها.
والمعنى : وكتبنا
لموسى ـ عليهالسلام ـ في ألواح التوراة من كل شيء يحتاجون إليه من الحلال
والحرام ، والمحاسن والقبائح. ليكون ذلك موعظة لهم من شأنها أن تؤثر في قلوبهم
ترغيبا وترهيبا ، كما كتبنا له في تلك الألواح تفصيل كل شيء يتعلق بأمر هذه
الرسالة الموسوية.
وإسناد الكتابة
إليه ـ تعالى ـ إما على معنى أن ذلك كان بقدرته ـ تعالى ـ وصنعه ولا كسب لأحد فيه
، وإما على معنى أنها كتبها بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو ملك من
ملائكته ـ عزوجل ـ.
قال صاحب المنار :
قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة : وقال بعضهم بل كانت قبل
التوراة. والراجح أنها كانت أول ما أوتيه من وحى التشريع فكانت أصل التوراة
الإجمالى ، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات
تنزل يخاطبه بها الله ـ تعالى ـ في أوقات الحاجة إليها» .
وقوله (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) باعتبار محله وهو النصب لأن من مزيدة كما يرى كثير من
النحاة. أى : كتبنا له فيها كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام.
والضمير في قوله ـ
تعالى ـ (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) يعود إلى الألواح.
والفاء عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والمحذوف هو لفظ قلنا وقوله (بِقُوَّةٍ) حال من فاعل خذها أى : كتبنا له في الألواح من كل شيء ،
وقلنا له خذها بقوة أى بجد وحزم ، وصبر وجلد ، لأنه ـ عليهالسلام ـ قد أرسل إلى قوم طال عليهم الأمد وهم في الذل والاستعباد
، فإذا لم يكن المتولى لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين ، فإنه قد
يعجز عن تربيتهم. ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم.
قال الجمل : وقوله
ـ تعالى ـ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أى التوراة ومعنى بأحسنها
__________________
بحسنها إذ كل ما
فيها حسن ، أو أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، وفعل الخير أحسن من ترك الشر ،
وذلك لأن الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان تحمل على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها
إلى الصواب. أو أن فيها حسنا وأحسن كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور
به والمباح فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا .
وقوله ـ تعالى ـ (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد
والتهديد.
أى : سأريكم عاقبة
من خالف أمرى ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار ، فتلك سنتي التي لا
تتغير ولا تتبدل.
قال ابن كثير :
وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا ما يصير إليه حال
من خالفني على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره وقيل المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه وهي مصر ، كيف
أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فيصيبكم ما أصابهم.
وقيل المراد بها
منازل عاد وثمود والأقوام الذين هلكوا بسبب كفرهم.
وقيل المراد بها
أرض الشام التي كان يسكنها الجبارون. فإنهم لم يدخلوها إلا بعد أربعين سنة من
خروجهم من مصر على يد يوشع بن نون.
والذي نراه أن
الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله في خلقه ، وهذه السنة
تتمثل في أن كل دار تفسق عن أمر ربها تكون عاقبتها الذل والدمار ، ولأنه لم يرد
حديث صحيح يعين المراد بدار الفاسقين.
فالآية الكريمة قد
اشتملت على جانب من مظاهر نعم الله على نبيه موسى ـ عليهالسلام ـ كما اشتملت على الأمر الصريح منه ـ سبحانه ـ له بأن يهيئ
نفسه لحمل تكاليف الرسالة بعزم وصبر ، وأن يأمر قومه بأن يأخذوا بأكملها وأعلاها
بدون ترخيص أو تحايل ، لأنهم قوم كانت طبيعتهم رخوة وعزيمتهم ضعيفة ، ونفوسهم
منحرفة. كما اشتملت على التحذير الشديد لكل من يخرج عن طاعة الله وينتهك حرماته.
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبة من يتكبرون في الأرض بغير الحق فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦)
وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(١٤٧)
قوله ـ تعالى ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) استئناف مسوق لبيان أن أعداء دعاة الحق هم المستكبرون ،
لأن من شأن التكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على وجوه الخير. ومعنى صرف
هؤلاء المتكبرين عن الانتفاع بآيات الله وحججه ، منعهم عن ذلك بالطبع على قلوبهم
لسوء استعدادهم لا يتفكرون ولا يتدبرون ولا يعتبرون.
أى : سأطبع على
قلوب هؤلاء الذين يعدون أنفسهم كبراء ، ويرون أنفسهم أنهم أعلى شأنا من غيرهم ، مع
أنهم أجهل الناس عقلا ، وأتعسهم حالا.
وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِ) صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتطاولون بما ليس بحق وهو
دينهم الباطل ، وسفههم المفرط ، أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله ، أى يتكبرون
متلبسين بغير الحق.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما هم عليه من عناد وجحود فقال : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أى : وإن يروا كل آية من الآيات التي تهدى إلى الحق وترشد
إلى الخير لا يؤمنوا بها لفساد قلوبهم ، وحسدهم لغيرهم على ما آتاه الله من فضله ،
وتكبرهم على الناس. والجملة الكريمة معطوفة على جملة (يَتَكَبَّرُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) داخلة معها في حكم الصلة.
والمقصود بالآية
إما المنزلة فيكون المراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها عن طريق السماع. وإمّا ما
يعمها وغيرها من المعجزات ، فيكون المراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع
والإبصار.
(وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ) أى : الصلاح والاستقامة والسداد (لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أى : لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه لمخالفته لأهوائهم
وشهواتهم (وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الغَيِ) أى : طريق الضلال عن الحق (يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً) أى : طريقا يميلون إليه ، ويسيرون فيه بدون تفكر أو تدبر.
وهذا شأن من مرد على الضلال ، وانغمس في الشرور والآثام. إنه لإلفه المنكرات صار
الحسن عنده قبيحا والقبيح حسنا ، وصدق الله إذ يقول : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَناً).
ثم ختم ـ سبحانه ـ
الآية ببيان الأسباب التي أدت بهم إلى هذا الضلال العجيب فقال ـ تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أى : ذلك المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الدلائل
الدالة على الحق وإعراضهم عن سبيل الهدى. وإقبالهم التام على طريق الغواية ، كائن
بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على بطلان ما هم عليه من أباطيل ، وبسبب أنهم
كانوا عن هذه الآيات غافلين لاهين لا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بما اشتملت عليه
من عظات.
فالله ـ تعالى ـ لم
يخلقهم مطبوعين على شيء مما ذكر طبعا ، ولم يجبرهم ويكرههم عليه إكراها ، بل كان
ذلك بكسبهم واختيارهم للتكذيب بآياته الدالة على الحق.
واسم الإشارة (ذلِكَ) مبتدأ ، وخبره الجار والمجرور بعده ، أى : ذلك الصرف بسبب
تكذيبهم.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أى : بطلت وفسدت وصارت هباء منثورا ، بسبب تكذيبهم لآيات
الله ، وإنكارهم للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.
والاستفهام في
قوله (هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) للنفي : أى : لا يجزون يوم القيامة إلا الجزاء الذي
يستحقونه بسبب أعمالهم في الدنيا. فربك ـ سبحانه ـ لا يظلم أحدا.
وقوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) في خبره وجهان :
أحدهما : أنه
الجملة من قوله : (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) وهل يجزون خبر ثان أو مستأنف.
والثاني : أن
الخبر (هَلْ يُجْزَوْنَ) والجملة من قوله (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) في محل نصب على الحال وقد مضمرة عند من يشترط ذلك ، وصاحب
الحال فاعل كذبوا.
وقوله (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه من
باب إضافة المصدر لمفعوله والفاعل محذوف والتقدير : ولقائهم الآخرة.
والثاني : أنه من
باب إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة» .
ثم قصت السورة
علينا رذيلة من رذائل بنى إسرائيل المتعددة ، وذلك أنهم بعد أن تركهم موسى ـ عليهالسلام ـ وذهب لمناجاة ربه مستخلفا عليهم أخاه هارون ، انتهزوا
لين جانب هارون معهم ، فعبدوا عجلا جسدا له خوار صنعه لهم السامري من الحلي التي
استعارها نساؤهم من نساء قبط مصر.
وحاول هارون ـ عليهالسلام ـ أن يصدهم عن ذلك بشتى السبل ، ولكنهم أعرضوا عنه قائلين (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ
حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) ، وأعلم الله ـ تعالى ـ موسى بما حدث من قومه في غيبته
فعاد إليهم مغضبا حزينا ، فوبخهم على كفرهم وجهالاتهم ، وعاتب بشدة أخاه هارون
لتركه إياهم يعبدون العجل ولكن هارون اعتذر له ، وأقنعه بأنه لم يقصر في نصيحتهم
ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين.
وعلى مشهد من بنى
إسرائيل أحرق موسى العجل ، وقال للسامري رأس الفتنة ومدبرها (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً*
إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً) وبذلك أثبت موسى ـ عليهالسلام ـ لقومه أن المستحق للعبادة إنما هو الله رب العالمين.
واستمع معى إلى
هذه الآيات التي قصت علينا ما حدث منهم بأسلوبها البليغ فقالت :
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ
أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ
__________________
أَخِيهِ
يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
(١٥٢)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)
(١٥٣)
قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ
مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) بيان لما صنعه بنو إسرائيل بعد فراق موسى ـ عليهالسلام ـ لهم ، وذهابه لتلقى التوراة عن ربه. مستخلفا عليهم أخاه
هارون.
والحلي ـ بضم الحاء والتشديد ـ جمع حلى ـ بفتح فسكون ـ كثدي وثدي ـ
وهي اسم لما يتزين به من الذهب والفضة ، وهذه الحلي كان نساء بنى إسرائيل ـ قبيل
خروجهن من مصر ـ قد استعرنها من نساء المصريين ، فلما أغرق الله ـ تعالى ـ فرعون
وقومه ، بقيت تلك الحلي في أيديهن ، فجمعها السامري بحجة أنها لا تحل لهن ، وصاغ
منها عجلا جسدا له خوار ، وأوهمهم بأن هذا إلههم وإله موسى فعبدوه من دون الله.
قال الحافظ ابن
كثير : (وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار ، أو استمر على
كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ، على قولين والله أعلم والمعنى : واتخذ قوم موسى من بعد فراقه لهم لأخذ التوراة
عن ربه عجلا جسدا له صوت البقر ليكون معبودا لهم.
__________________
وقوله (عِجْلاً) مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل. وقيل إن اتخذ متعد إلى اثنين
وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أى : إلها.
و (جَسَداً) بدل من (عِجْلاً) أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا.
قال صاحب الكشاف :
(فإن قلت لم قيل : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) والمتخذ هو السامري؟ قلت فيه وجهان :
أحدهما : أن ينسب
الفعل إليهم لأن رجلا منهم باشره ووجد بين ظهرانيهم ، كما يقال بنو تميم قالوا كذا
، وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد. ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به فكأنهم
أجمعوا عليه.
والثاني : أن يراد
واتخذوه إلها وعبدوه. فإن قلت لم قال من حليهم ولم تكن الحلي لهم إنما كانت عارية
في أيديهم؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسه وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة
على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم ألا ترى إلى قوله
تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها
بَنِي إِسْرائِيلَ) اه.
وقوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا
يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تقريع لهم على جهالاتهم. وبيان لفقدان عقولهم ، والمعنى :
أبلغ عمى البصيرة بهؤلاء القوم ، أنهم لم يفطنوا حين عبدوا العجل ، أنه لا يقدر
على ما يقدر عليه آحاد البشر ، من الكلام والإرشاد إلى أى طريق من طرق الإفادة ،
وليس ذلك من صفات ربهم الذي له العبادة ، لأن من صفاته ـ تعالى ـ أنه يكلم أنبياءه
ورسله ، ويرشد خلقه إلى طريق الخير ، وينهاهم عن طرق الشر!!
ثم أكد ـ سبحانه ـ
ذمهم بقوله (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ) أى : اتخذوا العجل معبودا لهم وهم يشاهدونه لا يكلمهم بأى
كلام ، ولا يرشدهم إلى أى طريق ، ولا شك أنهم بهذا الاتخاذ كانوا ظالمين لأنفسهم
بعبادتهم غير الله ، وبوضعهم الأمور في غير مواضعها.
وفي التعبير عن
ظلمهم بلفظ (كانوا) المفيد للدوام والاستمرار ، إشعار بأن هذا الظلم دأبهم وعادتهم
قبل هذا الاتخاذ وأن ما صدر عنهم ليس بدعا منهم ولا أول مناكيرهم ، فقد سبق لهم أن
قالوا لنبيهم بمجرد أن أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما
لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما كان منهم بعد أن رأوا ضلالهم فقال تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ، قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا
رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى وحين اشتد
__________________
ندمهم على عبادة
العجل ، وتبينوا ضلالهم واضحا كأنهم أبصروه بعيونهم قالوا متحسرين (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم.
وكان هذا الندم
بعد رجوع موسى إليهم من الميقات وقد أعطاه الله التوراة ، بدليل أنه لما نصحهم
هارون بترك عبادة العجل قالوا (لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) وبدليل أن موسى ـ عليهالسلام ـ لما رجع أنكر عليهم ما هم عليه وهذا دليل على أنهم كانوا
مستمرين على عبادته إلى أن رجع موسى إليهم وبصرهم بما هم عليه من ضلال مبين.
ولذلك قال ابن
جرير عند تفسيره لقوله تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ) (ولما ندم الذين
عبدوا العجل الذي وصف ـ جل ثناؤه ـ صفته ، عند رجوع موسى إليهم ، واستسلموا لموسى
وحكمه فيهم ، وكذلك تقول العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف ، وعاجز عن شيء :
قد سقط في يديه وأسقط ، لغتان فصيحتان ، وأصله من الاستئسار ، وذلك بأن يضرب الرجل
الرجل أو يصرعه ، فيرمى به من بين يديه إلى الأرض ليأسره ، فالمرمى به مسقوط في
يدي الساقط به ، فقيل لكل عاجز عن شيء ومتندم على ما فاته : سقط في يديه وأسقط) وعبر ـ سبحانه ـ عن شدة ندمهم بقوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده
مسقوطا فيها ، لأن فاه قد وقع فيها. وكأن أصل الكلام ولما سقطت أفواههم في أيديهم
، أى ندموا أشد الندم.
قال صاحب تاج
العروس : وفي (العباب) هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن ولا عرفته العرب (والأصل فيه
نزول الشيء من أعلى إلى أسفل) ، ووقوعه على الأرض ، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من
الكلام (سقط) لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه ، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب.
وأثره يظهر في اليد ، كقوله تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) ولأن اليد هي الجارحة العظمى ، فربما يسند إليها ما لم
تباشره كقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ) . اه.
وقوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ
غَضْبانَ أَسِفاً) بيان للحالة التي كان عليها موسى ـ عليهالسلام ـ عند رجوعه من الطور ، ومشاهدته للعجل الذي عبده قومه ، فهو
كان غاضبا عليهم لعبادتهم غير الله ـ تعالى ـ وحزينا لفتنتهم بعبادتهم عجلا جسدا
له خوار.
قال الإمام الرازي
: في الأسف قولان :
__________________
الأول : أن الأسف
الشديد : الغضب ، وهو قول أبى الدرداء وعطاء عن ابن عباس ، واحتجوا له بقوله تعالى
: (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أى : أغضبونا :
والثاني : أن
الأسف هو الحزن ، وهو قول الحسن والسدى وغيرهما ، واحتجوا له بحديث عائشة أنها
قالت : «إن أبا بكر رجل أسيف أى حزين».
قال الواحدي :
والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن ، والحزن من الغضب ، فإذا جاءك ما تكره ممن
هو دونك غضبت. وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت ، فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنا
والأخرى غضبا» .
وقوله (غَضْبانَ أَسِفاً) منصوبان على الحال من موسى عند من يجيز تعدد الحال. وعند
من لا يجيزه يجعل أسفا حالا من الضمير المستكن في غضبان فتكون حالا متداخلة.
وقول موسى لقومه :
(بِئْسَما
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) ذم منه لهم ، والمعنى : بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابي
عنكم إلى مناجاة ربي ، وبئس الفعل فعلكم بعد فراقي إياكم. حيث عبدتم العجل ،
وأشربت قلوبكم محبته ، ولم تعيروا التفاتا لما عهدت به إليكم ، من توحيد الله ،
وإخلاص العبادة ، والسير على سنتي وشريعتي.
قال الجمل : و «بئس»
فعل ماض لإنشاء الذم ، وفعله مستتر تقديره هو ، و «ما» تمييز بمعنى خلافة ، وجملة
خلفتموني صفة لما. والرابط محذوف ، والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير بئس خلافة
خلفتمونيها من بعدي خلافتكم .
وقوله (مِنْ بَعْدِي) معناه : من بعد ما رأيتم منى توحيد الله ، ونفى الشركاء
عنه ، وإخلاص العبادة له ، أو من بعد ما كنت احمل بنى إسرائيل على التوحيد واكفهم
عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا (اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا
يخالفوه.
وقوله تعالى (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) معناه أسبقتم بعبادة العجل ما أمركم به ربكم وهو انتظاري
حافظين لعهدي ، وما أوصيتكم به من التوحيد وإخلاص العبادة لله حتى آتيكم بكتاب
الله ، فغيرتم وعبدتم العجل قيل : كانوا قد استبطئوا نزوله من الجبل ، فخدعهم
السامري وصنع لهم العجل فعبدوه ، وجعلوا يغنون ويرقصون حوله ويقولون : هذا هو
الإله الحق الذي أنقذنا من الظلم ، قال صاحب الكشاف : يقال عجل عن الأمر إذا تركه
غير تام. ويضمن معنى
__________________
سبق فعدى تعديته
فقال : عجلت الأمر. والمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده
وما وصاكم به ، فبينتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم ، فحدثتم
أنفسكم بموتى فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
وروى أن السامري
قال لهم حين أخرج لهم العجل : هذا إلهكم وإله موسى ، وأن موسى لن يرجع وأنه قد
مات.
وروى أنهم عدوا
عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا .
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن غضب موسى ترتب عليه أمران يدلان على شدة الانفعال : أولهما : قوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أى طرحها من يديه لما اعتراه من فرط الدهش ، وشدة الضجر ،
حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل ، فإلقاؤه الألواح لم يكن إلا غضبا
لله ، وحمية لدينه ، وسخطا على قومه الذين عبدوا ما يضرب به المثل في البلادة.
قال الآلوسى :
قوله ـ تعالى ـ (وَأَلْقَى
الْأَلْواحَ) حاصله أن موسى لما رأى من قومه ما رأى. غضب غضبا شديدا
حمية لدينه فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع
بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا لذلك وداعيا إليه ، وليس فيه ما
يتوهم منه الإهانة لكتاب الله بوجه من الوجوه. وانكسار بعض الألواح حصل من فعل
مأذون فيه ولم يكن غرض موسى ولا مر بباله ولا ظن ترتيبه على ما فعل. وليس هناك إلا
العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله. وقد أنكر بعض العلماء أن يكون شيء منها قد
تكسر ، لأن ظاهر القرآن خلافه. نعم أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال. قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «يرحم الله موسى ،
ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم
وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها» .
وثانيهما : قوله
تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ
أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أى. أخذ موسى بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه غضبا منه ،
لظنه أنه قد قصر في نصحهم وزجرهم عن عبادة العجل. ولكن هارون ـ عليهالسلام ـ أخذ يستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة ، ليسكن من
غضبه الشديد. وليكشف له عن طبيعة الموقف ، وليبرئ ساحته من مغبة التقصير ، فقال له
: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). أى : قال هارون لموسى مستعطفا : يا ابن أمى ـ بهذا النداء
الرقيق وبتلك الوشيجة الرحيمة ـ لا تعجل بلومي وتعنيفى ، فإنى ما آليت جهدا في
الإنكار عليهم ،
__________________
وما قصرت في
نصيحتهم ولكنهم لم يستمعوا إلى ، بل قهروني واستضعفوني ، وأوشكوا أن يقتلوني عند
ما بذلت أقصى طاقتي لأخفف هياجهم واندفاعهم نحو العجل ، فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم
ومحل شماتتهم ، من الاستهانة بي والإساءة إلى ، فإن من شأن الأخوة التي بيننا أن
تكون ناصرة معينة حين يكون هناك أعداء ، ولا تجعلني في زمرة القوم الظالمين ، فإنى
برىء منهم ، ولقد نصحتهم ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين.
وهنا اقتنع موسى ـ
عليهالسلام ـ ببراءة هارون من مغبة التقصير فقال :
(رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أى : قال موسى ليرضى أخاه ، وليظهر لأهل الشماتة رضاه عنه
بعد أن ثبتت براءته : رب اغفر لي ما فرط منى من قول أو فعل فيه غلظة على أخى.
واغفر له كذلك ما عسى أن يكون قد قصر فيه مما أنت أعلم به منى ، وأدخلنا في رحمتك
التي وسعت كل شيء فأنت أرحم بعبادك من كل راحم.
وبهذا يكون القرآن
الكريم قد برأ ساحة هارون من التقصير ، وأثبت أنه قد عرض نفسه للأذى في سبيل أن
يصرف عابدى العجل عن عبادته وفي ذلك تصحيح لما جاء في التوراة (الفصل الثاني
والثلاثين من سفر الخروج) من أن هارون ـ عليهالسلام ـ هو الذي صنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه في غيبة موسى ـ عليهالسلام ـ.
ثم أصدر القرآن
الكريم حكمه الفاصل في شأن عبدة العجل فقال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).
والمعنى. إن الذين
اتخذوا العجل معبودا ، واستمروا على ضلالتهم سيحيق بهم سخط شديد من ربهم ، ولا
تقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ، وسيصيبهم كذلك هوان وصغار في الحياة الدنيا ،
وبمثل هذا الجزاء نجازي المفترين جميعا في كل زمان ومكان ، لخروجهم عن طاعتنا ،
وتجاوزهم لحدودنا ، فهو جزاء متكرر كلما تكررت الجريمة من بنى إسرائيل وغيرهم.
ثم فتح ـ سبحانه ـ
بابه لكل تائب صادق في توبته فقال تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
والمعنى : والذين
عملوا السيئات ثم تابوا من بعد فعلهم لها توبة صادقة نصوحا ، ورجعوا إلى الله ـ تعالى
ـ معتذرين نادمين مخلصين الإيمان له ، فإن الله ـ تعالى ـ من بعد الكبائر التي
أقلعوا عنها لساتر عليهم أعمالهم السيئة ، وغير فاضحهم بها ، رحيم بهم وبكل من كان
مثلهم من التائبين.
وإلى هنا تكون
الآيات الكريمة ـ بعد أن دمغت بنى إسرائيل بما يستحقونه من تقريع ووعيد ـ قد فتحت
أمامهم وأمام غيرهم باب التوبة ليفيئوا إلى نور الحق ، وليتركوا ما انغمسوا فيه من
ضلالات وجهالات.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما فعله موسى بعد أن هدأ غضبه فقال :
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)
(١٥٤)
السكوت في أصل
اللغة ترك الكلام ، والتعبير القرآنى هنا يشخص الغضب كأنما هو كائن حي يدفع موسى
ويحركه ، ثم تركه بعد ذلك. ففي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص آمر ،
ناه. وأثبت له السكوت على طريق التخييل.
قال صاحب الكشاف :
قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ) هذا مثل. كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل
لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجر برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء.
ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من
قبل شعب البلاغة. وإلا ، فما لقراءة معاوية بن قرة «ولما سكن عن موسى الغضب» لا
تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة ، وطرفا من تلك الروعة» .
والمعنى : وحين
سكت غضب موسى بسبب اعتذار أخيه وتوبة قومه أخذ الألواح التي كان قد ألقاها.
وظاهر الآية يفيد
أن الألواح لم تتكسر ، ولم يرفع من التوراة شيء ، وأنه أخذها بعينها.
وقوله (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أى : أخذ موسى الألواح التي سبق له أن ألقاها ، وفيما نسخ
في هذه الألواح أى : كتب هداية عظيمة إلى طريق الحق ، ورحمة واسعة للذين هم لربهم
يرهبون. أى : يخافون أشد الخوف من خالقهم ـ عزوجل ـ.
والنسخ : الكتابة
، ونسخة هنا بمعنى منسوخة أى. مكتوبة ، والمراد وفي منسوخها ومكتوبها هدى ورحمة.
و (هُمْ) مبتدأ. ويرهبون خبره ، والجملة صلة الموصول ، واللام في (لِلَّذِينَ) متعلقة
__________________
بمحذوف صفة لرحمة
أى : كائنة لهم. أو هي لام العلة أى. هدى ورحمة لأجلهم. واللام في لربهم» لتقوية
عمل الفعل المؤخر كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أو هي أيضا لام العلة والمفعول محذوف ، أى : يرهبون
المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والتباهي.
ثم تمضى السورة في
حديثها عن بنى إسرائيل فتحكى لنا قصة موسى مع السبعين الذين اختارهم من قومه فنقول
:
(وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ)
(١٥٦)
قال الآلوسى :
قوله ـ تعالى ـ (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) تتمة لشرح أحوال بنى إسرائيل وقال البعض : إنه شروع في
بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها. واختار ـ من الاختيار بمعنى الانتخاب
والاصطفاء ـ وهو يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل
والأصل من قومه ، والمفعول الأول سبعين» .
أى : اختار موسى
سبعين رجلا من قومه للميقات الذي وقته الله له ، ودعاهم للذهاب معه. وهؤلاء
السبعون كانوا من خيرتهم أو كانوا خلاصتهم ، لأن الجملة الكريمة جعلتهم بدلا من
__________________
القوم جميعا في
الاختيار ، وكأن بنى إسرائيل على كثرتهم لا يوجد من بينهم فضلاء سوى هؤلاء
السبعين.
وتختلف روايات
المفسرين في سبب هذا الميقات وزمانه ، فمنهم من يرى أنه الميقات الكلامى الذي كلم
الله فيه موسى تكليما فقد كان معه سبعون رجلا من شيوخ بنى إسرائيل ينتظرونه في
مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة ، فلما تمت مناجاة موسى لربه طلبوا منه أن
يخاطبوا الله ـ تعالى ـ وأن يكلموه كما كلمه موسى ، وأن يروه جهرة فأخذتهم الصاعقة
، وكان ذلك قبل أن يخبر الله ـ تعالى ـ موسى أن قومه قد عبدوا العجل في غيبته.
والذي نرجحه وعليه
المحققون من المفسرين والسياق القرآنى يؤيده أن هذا الميقات الذي جاء في هذه الآية
غير الميقات الأول ، وأنه كان بعد عبادة بنى إسرائيل للعجل في غيبة موسى ، فقد
عرفنا أن الله قد أخبره بذلك عند ذهابه إليه لتلقى التوراة ، فرجع موسى إليهم
مسرعا ووبخهم على صنيعهم وأحرق العجل ، وأمره الله ـ تعالى ـ بعد ذلك أن يأتيه مع
جماعة من بنى إسرائيل ليتوبوا إليه من عبادة العجل فاختار موسى هؤلاء السبعين ،
وهناك روايات ترجح ذلك منها ما جاء عن محمد بن إسحاق قال : إن موسى ـ عليهالسلام ـ لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عيادة العجل ، وقال
لأخيه والسامري ما قال وحرق العجل وذراه في اليم ، اختار من بنى إسرائيل سبعين
رجلا الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه
التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، فصوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم
إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له
السبعون ـ فيما ذكر لي ـ حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه يا موسى :
اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال : أفعل. فلما دنا موسى من الجيل ، وقع عليه عمود
الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا. وكان موسى
إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر
إليه. ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى ،
يأمره وينهاه ، افعل ولا تفعل ، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا له :
(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد فماتوا جميعا
فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) قد سفهوا ، أتهلك من ورائي من بنى إسرائيل» .
وهكذا نرى أن
هؤلاء السبعين المختارين من بنى إسرائيل قد طلبوا من نبيهم موسى ـ
__________________
عليهالسلام ـ ما لا يصح لهم أن يطلبوه فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك ، أو
بسبب أنهم عند ما عبد بنو إسرائيل العجل في غيبة موسى لم ينهوهم عن المنكر ولم
يأمروهم بالمعروف.
وقوله : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أى : فلما أخذت هؤلاء السبعين المختارين الرجفة قال موسى
يا رب إننى أتمنى لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معى إلى هذا المكان
وأن تهلكني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بنى إسرائيل ، لأنهم سيقولون لي : قد
ذهبت بخيارنا لإهلاكهم.
ويرى بعض المفسرين
أن هذه الرجفة التي أخذتهم وصعقوا منها أدت إلى موتهم جميعا ثم أحياهم الله ـ تعالى
ـ بعد ذلك ، ويرى آخرون أنهم غشى عليهم ثم أفاقوا.
وقد قال موسى هذا
القول لاستجلاب العفو من ربه عن هذه الجريمة التي اقترفها قومه. بعد أن من عليهم ـ
سبحانه ـ بالنعم السابقة الوافرة ، وأنقذهم من فرعون وقومه. فكأنه يقول : يا رب
لقد رحمتهم من ذنوب كثيرة ارتكبوها فيما سبق فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا
على مقتضى كرمك.
ومفعول المشيئة
محذوف ، أى : لو شئت إهلاكهم لأهلكتهم.
وقوله (وَإِيَّايَ) معطوف على الضمير في (أَهْلَكْتَهُمْ) ، وقد قال موسى ذلك تسليما منه لأمر الله وقضائه وإن كان
لم يسبق منه ما يوجب هلاكه ، بل الذي سبق منه إنما هو الطاعة الكاملة لله رب
العالمين.
والاستفهام في
قوله (أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) للاستعطاف الذي بمعنى النفي أى : ألجأ إليك يا مولانا ألا
تهلكنا بذنب غيرنا فلئن كان هؤلاء السفهاء قد خرجوا عن طاعتك ، وانتهكوا حرماتك.
فنحن يا رب مطيعون لك وخاضعون لأمرك.
قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ
بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) استئناف مقرر لما قبله ، و (إِنْ) نافية. والفتنة : الابتلاء والاختبار ، والباء في (بِها) للسببية أى : ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك
وابتلاؤك وامتحانك لعبادك ، فأنت الذي ابتليتهم واختبرتهم ، فالأمر كله لك وبيدك.
لا يكشفه إلا أنت. كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون
منك إليك. ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.
وقوله (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا
وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أى : أنت القائم بأمورنا كلها لا أحد غيرك ، فاغفر لنا ما
فرط منا ، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء ، وأنت خير الغافرين إذ كل غافر سواك
إنما يغفر لغرض نفسانى ، كحب الثناء ، واجتلاب المنافع ، أما أنت ـ با إلهنا ـ فمغفرتك
لا لطلب عوض أو غرض وإثما هي لمحض الفضل والكرم.
ثم أضاف موسى إلى
هذه الدعوات الطيبات دعوات أخرى فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أى : وأثبت لنا في هذه الدنيا ما يحسن من نعمة وطاعة
وعافية وتوفيق ، وأثبتت لنا في الآخرة ـ أيضا ـ ما يحسن من مغفرة ورحمة وجنة عرضها
السموات والأرض.
وقوله (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) استئناف مسوق لتعليل الدعاء فإن التوبة الصادقة تجعل
الدعاء جديرا بالإجابة ، أى : لأنا تبنا إليك من المعاصي التي جئناك للاعتذار
منها. فاكتب لنا الحسنات في الدارين ، ولا تحرمنا من عطائك الجزيل.
وهدنا : بمعنى
تبنا. يقال : هاد يهود إذا رجع وتاب.
وصدرت الجملة
الكريمة ب «إن» المفيدة للتحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها. وقوله : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الجواب ، كأنه قيل :
فماذا قال الله ـ تعالى ـ عند دعاء موسى ، فكان الجواب : قال عذابي ... إلخ.
ثم قال الله ـ تعالى
ـ لموسى ردا على دعائه : يا موسى إن عذابي الذي تخشى أن يصيب قومك أصيب به من أشاء
تعذيبه من العصاة ، فلا يتعين ان يكون قومك محلا له بعد توبتهم ، فقد اقتضت حكمتى
ان أجازي الذين أساءوا بما عملوا وأجازي الذين أحسنوا بالحسنى.
(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) فلا تضيق عن قومك ، ولا عن غيرهم من خلقي ممن هم أهل لها.
وقد استفاضت
الآيات والأحاديث التي تصرح بأن رحمة الله ـ تعالى ـ قد وسعت كل شيء ومن ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : إن لله عزوجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش
على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
من هم أهل لرحمته فقال : (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ).
أى : فسأكتب رحمتي
للذين يصونون أنفسهم عن كل ما يغضب الله ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم.
وتخصيص إيتاء
الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى. لأن إيتاءها كان شاقا على
نفوسهم لحرصهم الشديد على المال.
ولعل الصلاة لم
تذكر مع أنها مقدمة على سائر العبادات. اكتفاء عنها بالاتقاء الذي هو عبارة
عن فعل الواجبات
بأسرها. وترك المنهيات عن آخرها.
وسأكتبها كذلك
للذين هم بآياتنا يؤمنون إيمانا تاما خالصا لا رياء فيه. ولا نقص معه.
ثم أضاف ـ سبحانه
ـ صفات أخرى لمن هم أهل لرحمته ورضوانه.
وهذه الصفات تنطبق
كل الانطباق على محمد صلىاللهعليهوسلم الذي أمر بنو إسرائيل وغيرهم باتباعه فقال تعالى :
(الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي
كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
قُلْ
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(١٥٨)
قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) في محل جر على أنه نعت لقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أو بدل منه. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى : هم
الذين يتبعون ... إلخ.
وقد وصف الله ـ تعالى
ـ رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بأوصاف كريمة تدعو العاقل المنصف إلى اتباعه والإيمان به.
الوصف الأول : أنه
رسول الله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا.
الوصف الثاني :
أنه نبي أوحى الله إليه بشريعة عامة كاملة باقية إلى يوم الدين.
الوصف الثالث :
أنه أمى ما قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم ولا أخذ علمه عن أحد ولكن الله ـ تعالى ـ
أوحى إليه بالقرآن الكريم عن طريق جبريل ـ عليهالسلام ـ ، وأفاض عليه من لدنه علوما نافعة ومبادئ توضح ما أنزله
عليه من القرآن الكريم ، فسبق بذلك الفلاسفة والمشرعين والمؤرخين وأرباب العلوم
الكونية والطبيعية ، فأميته مع هذه العلوم التي يصلح عليها أمر الدنيا والآخرة ،
أوضح دليل على أن ما يقوله إنما هو بوحي من الله إليه.
قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ
جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) .
وقال ـ سبحانه ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) .
الصفة الرابعة :
أشار إليها بقوله (الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) أى هذا الرسول النبي الأمى من صفاته أن أهل الكتاب يجدون
اسمه ونعته مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ووجود اسمه ونعته في كتبهم من أكبر
الدواعي إلى الإيمان به وتصديقه واتباعه ولقد كان اليهود يبشرون ببعثة النبي صلىاللهعليهوسلم قبل زمانه ويقرءون في كتبهم ما يدل على ذلك ، فلما بعث
الله ـ تعالى ـ نبيه بالهدى ودين الحق آمن منهم الذين فتحوا قلوبهم للحق ، وخافوا
مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى ، وأما الذين استنكفوا واستكبروا ، وحسدوا محمدا صلىاللهعليهوسلم على ما آتاه الله من فضله فقد أخذوا يحذفون من كتبهم ما
جاء عن النبي صلىاللهعليهوسلم فيها ، «أو يؤولونه تأويلا فاسدا أو يكتمونه عن عامتهم.
ورغم حرصهم على
حذف ما جاء عن الرسول في كتبهم أو تأويلهم السقيم له ، أو كتمانه عن الأميين منهم.
أبى الله ـ تعالى ـ إلا أن يتم نوره ، إذ بقي في التوراة والإنجيل ما بشر بالنبي صلىاللهعليهوسلم وصرح بنعوته وصفاته ، بل وباسمه صريحا.
وقد تحدث العلماء
الإثبات عن بشارات الأنبياء بمحمد صلىاللهعليهوسلم وجمعوا عشرات النصوص التي ذكرت نعوته وصفاته ، وها نحن
نذكر طرفا مما قاله العلماء في هذا الشأن.
__________________
قال الإمام
الماوردي في (أعلام النبوة) : (وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء ، بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم مما هو حجة على أممهم ، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم ،
بما أطلعه الله ـ تعالى ـ على غيبه ، ليكون عونا للرسل ، وحثا على القبول ، فمنهم
من عينه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى
بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره ، وقد حقق الله ـ تعالى
ـ هذه الصفات جميعها فيه ، حتى صار جليا بعد الاحتمال ، ويقينا بعد الارتياب) .
وجاء في (منية
الأذكياء في قصص الأنبياء) : (إن نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد بشر به
الأنبياء السابقون ، وشهدوا بصدق نبوته ، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال ، حيث صرحوا
باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته ، ومع أن أهل الكتاب حذفوا اسمه من نسخهم
الأخيرة إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا ، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل
جنس وملة وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى ، إذ قد يشترك اثنان في اسم ، ويمتنع
اشتراك اثنين في جميع الأوصاف. لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات
ليبعد صدقها على النبي صلىاللهعليهوسلم فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع
اختلافا لا يخفى على اللبيب أمره ، ولا ما قصد به. ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة
عليهم. لانتشار النسخ بالطبع وتيسير المقابلة بينها» .
وقال المرحوم
الشيخ (رحمة الله الهندي) في كتابه (إظهار الحق) (إن الأخبار الواقعة في حق محمد صلىاللهعليهوسلم توجد كثيرة إلى الآن ـ أيضا ـ مع وقوع التحريفات في هذه
الكتب. ومن عرف أولا طريق أخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر. ثم نظر ثانيا
بنظر الإنصاف إلى هذه الاخبارات وقابلها بالأخبارات التي نقلها الانجيليون في حق
عيسى ـ عليهالسلام ـ جزم بأن الاخبارات المحمدية في غاية القوة) .
وقد جمع صاحب كتاب
(إظهار الحق) وغيره من العلماء والمؤرخين كثيرا من البشائر التي وردت في التوراة
والإنجيل خاصة بالنبي صلىاللهعليهوسلم ومبينة نعوته وصفاته.
ومن أجمع ما جاء
في التوراة خاصا بالنبي صلىاللهعليهوسلم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله
عنهما ـ قال : (قرأت في التوراة صفة النبي صلىاللهعليهوسلم (محمد رسول الله :
عبدى ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا
يجزى بالسيئة
__________________
السيئة ، بل يعفو
ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله) .
كذلك مما يشهد
بوجود النبي صلىاللهعليهوسلم في التوراة ، ما أخرجه الإمام أحمد عن أبى صخر العقيلي قال
: (حدثني رجل من الأعراب فقال : جلبت حلوبة . إلى المدينة في حياة النبي صلىاللهعليهوسلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال
: فتلقاني بين أبى بكر وعمر يمشيان ، فتبعتهم حتى إذا أتوا على رجل من اليهود وقد
نشر التوراة يقرؤها يعزى بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها ،
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي
ومخرجي) فقال برأسه هكذا ، أى : لا ، فقال ابنه : أى والذي أنزل التوراة إنا لنجد
في كتابنا صفتك ومخرجك ، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، فقال
الرسول صلىاللهعليهوسلم «أقيموا اليهودي
عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه.
هذا ، ومن أراد
مزيد معرفة بتلك المسألة فليراجع ما كتبه العلماء في ذلك .
ثم وصف الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم بصفة خامسة فقال تعالى : (يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أى هذا الرسول النبي الأمى الذي يجده أهل الكتاب مكتوبا
عندهم في التوراة والإنجيل من صفاته كذلك أنه يأمرهم بالمعروف الذي يتناول الإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما يتناول مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم
وغير ذلك من الأمور التي جاء بها الشرع الحنيف. وارتاحت لها العقول السليمة ،
والقلوب الطاهرة وينهاهم عن المنكر الذي يتناول الكفر والمعاصي ومساوئ الأخلاق.
ثم وصف الله ـ تعالى
ـ رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بصفة سادسة فقال تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أى : يحل لهم ما حرمه الله عليهم من الطيبات كالشحوم
وغيرها بسبب ظلمهم وفسوقهم عقوبة لهم ، ويحل لهم كذلك ما كانوا قد حرموه على
أنفسهم دون أن يأذن به الله كلحوم الإبل وألبانها ، ويحرم عليهم ما هو خبيث كالدم
ولحم الميتة والخنزير في المأكولات ، وكأخذ الربا وأكل أموال الناس بالباطل في
المعاملات وفي ذلك سعادتهم وفلاحهم.
ثم وصف الله تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم بصفة سابعة فقال تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ).
الإصر : الثقل
الذي يأصر صاحبه. أى بحبسه عن الحركة لثقله ، ويطلق على العهد كما في
__________________
قوله تعالى : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى
ذلِكُمْ إِصْرِي) أى عهدي.
قال القرطبي : «وقد
جمعت هذه الآية المعنيين ، فإن بنى إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال
ثقال فوضع عنهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، كغسل البول ، وتحليل الغنائم
، ومجالسة الحائض ، ومؤاكلتها ومضاجعتها. فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول
قرضه. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها وإذا حاضت المرأة لم
يقربوها. إلى غير ذلك مما ثبت في الصحيح وغيره» .
والأغلال : جمع
غل. وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد. والتعبير بوضع الإصر والأغلال عنهم
استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة والتكاليف الشديدة كاشتراط قتل
النفس لصحة التوبة. فقد شبه ـ سبحانه ـ ما أخذ به بنو إسرائيل من الشدة في
العبادات والمعاملات والمأكولات جزاء ظلمهم بحال من يحمل أثقالا يئن من حملها وهو
فوق ذلك مقيد بالسلاسل ؛ والأغلال في عنقه ويديه ورجليه.
والمعنى : إن من
صفات هذا الرسول النبي الأمى أنه جاءهم ليرفع عنهم ما ثقل عليهم من تكاليف كلفهم
الله بها بسبب ظلمهم. لأنه ـ عليه الصلاة والسلام جاء بالتبشير والتخفيف. وبعث
بالحنيفية السمحة. ومن وصاياه صلىاللهعليهوسلم : «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا».
قال الإمام ابن
كثير : «وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم. فوسع الله على هذه الأمة
أمورها. وسهلها لهم. ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن الله تجاوز
لأمتى ما حدثت به أنفسهم ما لم تقل أو تعمل». وقال : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه» ولهذا قال : أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ
لَنا بِهِ. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).
وثبت في صحيح مسلم
أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه : قد فعلت قد فعلت» .
إذا ، فمن الواجب
على بنى إسرائيل أن يتبعوا محمدا صلىاللهعليهوسلم الذي هذه صفاته ، والذي في اتباعه سعادتهم في دنياهم
وآخرتهم ، ولهذا ختم الله ـ تعالى ـ الآية الكريمة ببيان حالة المصدقين لنبيه فقال
تعالى :
(فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ،
أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
أى : فالذين آمنوا
بهذا الرسول النبي الأمى من بنى إسرائيل وغيرهم وعزروه ، بأن منعوه
__________________
وحموه من كل من
يعاديه ، مع التعظيم والتوقير له ونصروه بكل وسائل النصر (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ) وهو القرآن والوحى الذي جاء به ودعا إليه الناس ، (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أى الفائزون الظافرون برحمة الله ورضوانه.
وبذلك تكون الآية
الكريمة قد وصفت النبي صلىاللهعليهوسلم بأحسن الصفات وأكرم المناقب ، وأقامت الحجة على أهل الكتاب
بما يجدونه في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بأنه ما جاء إلا لهدايتهم وسعادتهم ، وأنهم
إن آمنوا به وصدقوه ، كانوا من (الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).
ثم أمر الله رسوله
أن يبين للناس أنه مرسل إلى الناس كافة ، فقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أى : قل يا محمد لكافة البشر من عرب وعجم ، إنى رسول الله
إليكم جميعا ، لا فرق بين نصراني أو يهودي ، وإنما رسالتي إلى الناس عامة ، وقد
جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية ما يؤيد عموم رسالته.
أما في القرآن
الكريم ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).
وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).
وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).
أى وأنذر من بلغه
القرآن ممن سيوجد إلى يوم القيامة من سائر الأمم وفي ذلك دلالة على عموم رسالة
النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى أن أحكام القرآن تعم الثقلين إلى يوم الدين.
وأما في السنة فمن
ذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة
شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت
لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،
وبعثت إلى الناس عامة» .
وفي صحيح مسلم عن
أبى موسى الأشعرى ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «والذي نفسي بيده
لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» .
قال الإمام ابن
كثير : والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو
معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه رسول إلى الناس كلهم ه.
__________________
ثم وصف الله تعالى
ذاته بما هو أهل له من صفات القدرة والوحدانية فقال تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أى : قل ـ يا محمد ـ للناس إنى رسول إليكم من الله الذي له
التصرف في السموات والأرض ، والذي لا معبود بحق سواه والذي بيده الأحياء والإماتة
، ومن كان هذا شأنه فمن الواجب أن يطاع أمره ، وأن يترك ما نهى عنه ، وأن يصدق
رسوله. ثم بنى ـ سبحانه ـ على هذه النعوت الجليلة التي وصف بها نفسه الدعوة إلى
الإيمان فقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أى : فآمنوا أيها الناس جمعا بالله الواحد الأحد وآمنوا ـ أيضا
برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم النبي الأمى الذي يؤمن بالله ، وبما أنزل عليه وعلى من
تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه واسلكوا سبيله ، واقتفوا آثاره ، في كل ما يأمر به
أو ينهى عنه رجاء أن تهتدوا إلى الصراط المستقيم.
وفي وصفه صلىاللهعليهوسلم بالأمية مرة ثانية ، إشارة إلى كمال علمه ، لأنه مع عدم
مطالعته للكتاب ، أو مصاحبته لمعلم. فتح الله له أبواب العلم ، وعلمه ما لم يكن
يعلم من سائر العلوم التي تعلمها الناس عنه ، وصاروا بها أئمة العلماء وقادة
المفكرين ، فأكرم بها من أمية تضاءل بجانبها علم العلماء في كل زمان ومكان.
وبذلك تكون
الآيتان الكريمتان قد وصفتا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأشرف الصفات وأقامتا أوضح الحجج وأقواها على صدقه في
نبوته ، ودعتا اليهود بل الناس جميعا إلى الإيمان به لأنه قد بشرت به الكتب
السماوية السابقة ولأنه صلىاللهعليهوسلم ما جاءهم إلا بالخير ، وما نهاهم إلا عن الشر. ولأن شريعته
تمتاز باليسر والسماحة ، ولأن أنصاره وأتباعه هم المفلحون ، ولأن رسالته عامة للجن
والانس ، ومن كانت هذه صفاته ، وتلك شريعته ، جدير أن يتبع ، وقمين أن يصدق ويطاع
، وما يعرض عن دعوته إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا.
ثم بين القرآن
الكريم أن قوم موسى لم يكونوا جميعا ضالين. وإنما كان فيهم الأخيار وفيهم الأشرار
فقال ـ تعالى ـ :
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)
(١٥٩)
أى : ومن قوم موسى
جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله ، وبالحق ـ أيضا ـ يسيرون
في أحكامهم فلا يجورون ، ولا يرتشون ، وإنما يعدلون في كل شئونهم.
والمراد بهم أناس
كانوا على خير وصلاح في عهد موسى ـ عليهالسلام ، مخالفين لأولئك السفهاء من قومه.
وقيل المراد بهم
من آمن بالنبي صلىاللهعليهوسلم عند بعثته.
وهذا لون من ألوان
عدالة القرآن في أحكامه ، وإنصافه لمن يستحق الإنصاف من الناس. إنه لا يسوق أحكامه
معممة بحيث يندرج تحتها الصالح والطالح بدون تمييز ، كلا وإنما القرآن يسوق أحكامه
بإنصاف واحتراس ، فهو يحكم للصالحين بما يستحقون ، وتلك هي العدالة التي ما أحوج
الناس في كل زمان ومكان إلى السير على طريقها ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ :
(لَيْسُوا سَواءً.
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ).
وقوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ
لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).
وقوله (بِالْحَقِ) الباء للملابسة ، وهي مع مدخولها في محل الحال من الواو في
يهدون. أى : يهدون الناس حال كونهم ملتبسين بالحق.
ثم ذكر القرآن بعض
النعم التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل ، وكيف وقفوا من هذه النعم موقف الجاحد
الكنود فقال ـ تعالى :
(وَقَطَّعْناهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ
قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ
عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ
اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (١٦١)
فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)
(١٦٢)
قوله (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أَسْباطاً أُمَماً) أى : فرقنا قوم موسى وصيرناهم اثنتي عشرة أمة تتميز كل أمة
عن الأخرى.
والأسباط في بنى
إسرائيل كالقبائل في العرب. والسبط : ولد الولد فهو كالحفيد. وقد يطلق السبط على
الولد.
وكان بنو إسرائيل
اثنتي عشرة قبيلة من اثنى عشر ولدا هم أولاد يعقوب ـ عليهالسلام ـ قالوا : والظاهر أن قطعناهم متعد لواحد لأنه لم يضمن
معنى ما يتعدى لاثنين ، فعلى هذا يكون اثنتي عشرة حالا من مفعول (قَطَّعْناهُمُ) وهو ضمير الغائبين «هم».
ويرى الزمخشري
وغيره أن «قطعناهم» بمعنى صيرناهم وأن (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان ، وتمييز اثنتي محذوف لفهم المعنى والتقدير
وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة.
و (أَسْباطاً) بدل من ذلك التمييز ، و (أُمَماً) بدل بعد بدل من اثنتي عشرة.
والجملة الكريمة
معطوفة على ما قبلها من أخبار بنى إسرائيل ، لمشاركتها لها في كل ما يقصد به من
العظات والعبر.
وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ
اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً).
الاستسقاء : طلب
السقيا عند عدم الماء أو حبس المطر. وذلك عن طريق الدعاء لله ـ تعالى ـ في خشوع
واستكانة ، وقد سأل موسى ـ عليهالسلام ـ ربه أن يسقى بنى إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش
بعد ما كانوا في التيه.
فعن ابن عباس أنه
قال : كان ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عينا من ماء لكل
سبط منهم عين يشربون منها» .
وقيل : كان
الاستسقاء في البرية ولكن الآثار التي تدل على أنه كان في التيه أصح وأكثر.
__________________
والمعنى : وأوحينا
إلى موسى حين طلب منه قومه الماء أن اضرب بعصاك الحجر فضربه فخرج منه الماء من
اثنتي عشرة عينا ليروا بأعينهم مظاهر قدرتنا ، وليشاهدوا دليلا من الأدلة المتعددة
التي تؤيد موسى في أنه صادق فيما يبلغه عن ربه ـ عزوجل.
وقوله (إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) يفيد أن الذي سأل ربه السقيا هو موسى وحده ، لتظهر كرامته
لدى ربه عند قومه ، وليشاهدوا بأعينهم كيف أن الله ـ تعالى ـ قد أكرمه حيث أجاب
دعاءه ففجر لهم الماء من الحجر.
وال في (الْحَجَرَ) لتعريف الجنس ، أى : اضرب أى حجر شئت بدون تعيين ، وقيل
للعهد ، ويكون المراد حجرا معينا معروفا لموسى ـ عليهالسلام ـ بوحي من الله ـ تعالى ـ وقد أورد بعض المفسرين في ذلك
آثارا حكم عليها المحققون من العلماء بالضعف ، ولذا لم نعتد بها.
والذي نرجحه أن «أل»
هنا لتعريف الجنس ، لأن انفجار الماء من أى حجر بعد ضربه أظهر في إقامة البرهان
على صدق موسى ـ عليهالسلام ـ وأدعى لإيمان بنى إسرائيل وانصياعهم للحق بعد وضوحه ،
وأبعد عن التشكيك في إكرام الله لنبيه موسى ، إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين
لأمكن أن يقولوا إن انفجار الماء منه لمعنى خاص بهذا الحجر ، وليس لكرامة موسى عند
ربه ـ عزوجل ـ.
والفاء في قوله (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ
عَيْناً) معطوفة على محذوف والتقدير : فضرب فانبجست ..
قال بعضهم : والانبجاس
والانفجار واحد. يقال بجست الماء أبجسه فانبجس ، بمعنى فجرته فانفجر.
وقيل : إن
الانبجاس خروج الماء من مكان ضيق بقلة ، والانفجار خروجه بكثرة.
ولا تنافى بين
قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة (فَانْفَجَرَتْ) وبين قوله هنا (فَانْبَجَسَتْ) لأنه انبجس أولا ثم انفجر ثانيا. وكذا العيون يظهر الماء
منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.
وكانت العيون
اثنتي عشرة عينا بحسب عدد أسباط بنى إسرائيل إتماما للنعمة عليهم حتى لا يقع بينهم
تنازع أو تشاجر.
وقوله (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عينا. أى :
قد عرف كل سبط من أسباط بنى إسرائيل مكان شربه فلا يتعداه إلى غيره ، وفي ذلك ما
فيه من استقرار أمورهم ، واطمئنان نفوسهم ، وعدم تعدى بعضهم على بعض.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
نعما أخرى مما أنعم به عليهم فقال : (وَظَلَّلْنا
عَلَيْهِمُ الْغَمامَ).
الغمام : جمع
غمامة وهي السحابة : وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض.
أى : وسخرنا لبنى
إسرائيل الغمام بحيث يلقى عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس.
وقوله (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوى) معطوف على ما قبله.
والمن : اسم جنس
لا واحد له من لفظه ، وهو ـ على أرجح الأقوال ـ مادة صمغية تسقط من الشجر تشبه
حلاوته حلاوة العسل.
والسلوى : اسم جنس
جمعى واحدته سلواة ، وهو طائر برى لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسمانى ، كانت
تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضا بدون تعب.
وتظليلهم بالغمام
وإنزال المن والسلوى عليهم كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله ـ تعالى
ـ : (قالَ فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ).
أين الطعام؟ فأنزل
الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل والسلوى وهو طائر يشبه السمانى فكان
يأتى أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ،
فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فشرب كل سبط من عين. فقالوا : هذا الشراب فأين الظل!
فظلل الله عليهم بالغمام فقالوا : هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم
كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم ثوب فذلك قوله ـ تعالى ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) .
وقوله (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أى : وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم ، واشكروا ربكم
على هذه النعم لكي يزيدكم منها.
وقوله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) معطوف على محذوف أى : فعصوا أمر ربهم وكفروا بهذه لنعم
الجليلة وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويرى البعض أنه لا
حاجة إلى هذا التقدير ، وأن جملة (وَما ظَلَمُونا) معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بنى
إسرائيل.
والتعبير عن ظلمهم
لأنفسهم بكلمة «كانوا» والفعل المضارع «يظلمون» يدل على أن
__________________
ظلمهم لأنفسهم كان
يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان «كان يسيء إلى الناس» إلا إذا كانت الإساءة
تصدر منه المرة تلو الأخرى.
قال ابن جرير عند
تفسيره لهذه الجملة الكريمة ما ملخصه : «هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما
ترك منه وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ،
وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم وما ظلمونا» فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله : (وَما ظَلَمُونا) أى : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك
وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة
عليها ومنقصة لها. فان الله ـ تعالى ـ لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم
ظالم ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، لنفسه يظلم الظالم ،
وحظها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل» .
وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا
الْبابَ سُجَّداً) ... إلخ. تذكير لهم بصفة جليلة مكنوا منها فما أحسنوا
قبولها ، وما رعوها حق رعايتها ، وهي نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن
ذلك.
قال الآلوسى :
وقوله (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) معمول لفعل محذوف تقديره : اذكر. وإيراد الفعل هنا مبينا
للمفعول جريا على سنن الكبرياء «مع الإيذان بأن الفاعل غنى عن التصريح. أى : أذكر
لهم وقت قولنا لأسلافهم» .
والقرية هي البلدة
المشتملة على مساكن ، والمراد بها هنا بيت المقدس ـ على الراجح ـ وقيل المراد بها
أريحاء.
والحطة : كجلسة :
اسم للهيئة ، من الحط بمعنى الوضع والإنزال ، وأصله إنزال الشيء من علو. يقال :
استحطه وزره : سأله أن يحطه عنه وينزله.
وهي خبر مبتدأ
محذوف أى : مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما
رفعت لتعطى معنى الثبات.
والمعنى : واذكروا
أيها المعاصرون للعهد النبوي من بنى إسرائيل وقت أن قيل لأسلافكم اسكنوا قرية بيت
المقدس بعد خروجهم من التيه ، وقيل لهم كذلك كلوا من خيراتها أكلا واسعا ، واسألوا
الله أن يحط عنكم ذنوبكم ، وادخلوا من بابها خاضعين خاشعين شكرا لله على
__________________
نعمه ، فإنكم إن
فعلتم ذلك غفرنا لكم خطيئاتكم.
وقوله ـ تعالى ـ (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها ، حيث أذن
لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أى مكان شاءوا.
وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً) إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم عمله نحو خالقهم ، وتوجههم إلى
ما يعينهم على بلوغ غاياتهم بأيسر الطرق وأسهل السبل لأن كل ما كلفهم الله ـ تعالى
ـ به أن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم خطيئاتهم ، وأن يدخلوا من باب المدينة التي
فتحها الله عليهم مخبتين.
وقوله (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) مجزوم في جواب الأمر.
وهذه الجملة
الكريمة بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم وإغراء لهم على
الامتثال والشكر ـ ولو كانوا يعقلون ـ لأن غاية ما يتمناه العقلاء هو غفران
الذنوب.
وقوله ـ تعالى ـ (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وعد بالزيادة من خيرى الدنيا والآخرة لمن أسلم وجهه لله
وهو محسن.
وقد أمر الله ـ تعالى
ـ أن يفعلوا ذلك ، وأن يقولوا هذا القول ، لأن تغلبهم على أعدائهم نعمة من أجل
النعم التي تستدعى منهم الشكر الجزيل لله ـ تعالى ـ. ولهذا كان النبي صلىاللهعليهوسلم يظهر أقصى درجات الخضوع ، وأسمى ألوان الشكر عند النصر
والظفر وبلوغ المطلوب ، فعند ما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا وهو
خاضع لربه ، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكرا لله على نعمة الفتح ،
وبعد دخوله مكة اغتسل وصل ثماني ركعات سماها بعض الفقهاء صلاة الفتح.
ومن هنا استحب
العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات عند أول
دخولها شكرا لله ، وقد فعل ذلك سعد بن أبى وقاص عند ما دخل إيوان كسرى. فقد ثبت أنه
صلى بداخله ثماني ركعات.
ولكن ماذا كان من
بنى إسرائيل بعد أن أتم الله لهم نعمة الفتح.
لقد حكى القرآن ما
كان منهم من جحود وبطر فقال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).
قال صاحب الكشاف :
«أى وضعوا مكان حطة قولا غيرها ، يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار
فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ، ولم يمتثلوا أمر الله ، وليس الغرض
أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر
مستقل بمعنى ما
أمروا به لم يؤخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف
هنا وما أشبه ذلك» .
وقال الإمام ابن
كثير : «وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من
الخضوع بالقول والفعل. فقد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا فدخلوا يزحفون على أستاههم
رافعي رؤوسهم. وأمروا أن يقولوا حطة ـ أى احطط عنا ذنوبنا ـ فاستهزأوا وقالوا حنطة
في شعيرة. وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه
وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته» .
وأخرج البخاري عن
أبى هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «قيل لبنى إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة
فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا. حبة في شعيرة» .
والعبرة التي تؤخذ
من هذه الجملة الكريمة أن من أمره الله ـ تعالى بقول أو فعل فتركه وأتى بآخر لم
يأذن به الله دخل في زمرة الظالمين ، وعرض نفسه لسوء المصير.
وقوله ـ تعالى ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) تصريح بأن ما أصابهم من عذاب كان نتيجة عصيانهم وتمردهم
وجحودهم لنعم الله.
والرجز : هو
العذاب ، سواء أكان بالأمراض المختلفة أو بغيرها.
وفي النص على أن
الرجز قد أتاهم من السماء إشعار بأنه عذاب لا يمكن دفعه ، وأنه لم يكن له سبب أرضى
من عدوى أو نحوها ، بل رمتهم به الملائكة من جهة السماء فأصيب به الذين ظلموا دون
غيرهم.
هذا وقد وردت في
سورة البقرة آيتان تشبهان في ألفاظهما هاتين الآيتين اللتين معنا هنا في سورة
الأعراف ، أما آيتا سورة البقرة فهما قوله ـ تعالى ـ :
(وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا
الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ).
وقد عقد الإمام
الرازي مقارنة بين أسلوب الآيتين في كل من السورتين فقال ما ملخصه : إن ألفاظ
الآيتين في سورة الأعراف تخالف ألفاظ آيتي سورة البقرة من وجوه :
__________________
الأول : أنه قال ـ
سبحانه ـ في سورة البقرة : (وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وهنا قال : وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية.
الثاني : أنه قال
في سورة البقرة : (فَكُلُوا) بالفاء ، وقال هنا (وَكُلُوا) بالواو.
الثالث : أنه قال
في سورة البقرة : (رَغَداً) وهذه الكلمة غير مذكورة هنا.
الرابع : أنه قال
في سورة البقرة : (وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وقال هنا على التقديم والتأخير.
الخامس : أنه قال
في سورة البقرة : (نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطاياكُمْ) وقال هاهنا (نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطِيئاتِكُمْ).
السادس : أنه قال
في سورة البقرة : (وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ) وهاهنا حذف حرف الواو.
السابع : أنه قال
في سورة البقرة : (فَأَنْزَلْنا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقال هاهنا (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ).
الثامن : أنه قال
في سورة البقرة : (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) وقال هاهنا (بِما كانُوا
يَظْلِمُونَ).
واعلم أن هذه
الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ، ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة
من وجوه.
الأول : وهو أنه
قال في سورة البقرة (ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ) وقال هاهنا اسكنوا ، فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولا
ثم سكناها ثانيا.
الثاني : أنه هناك
قال (فَكُلُوا) بالفاء وهنا بالواو. والفرق أن الدخول حالة مخصوصة ، فإنه
إنما يكون داخلا في أول دخوله ، وأما ما بعد ذلك فيكون سكونا لا دخولا ، إذا ثبت
هذا فنقول : الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم أن يحسن ذكر فاء
التعقيب بعده ، فلهذا قال : (ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ فَكُلُوا) وأما السكون فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلا معه لا
عقيبه ، فظهر الفرق.
وأما الثالث :
وأنه ذكر هناك (رَغَداً) ولم يذكره هنا ، فالفرق أن الأكل عقيب دخول القرية يكون
ألذ ، لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ، ولما كان الأمر كذلك ذكر كلمة «رغدا»
وأما الأكل حال سكون القرية فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ولم تكن
اللذة فيه متكاملة. فلا جرم ترك قوله (رَغَداً) فيه.
وأما الرابع : وهو
قوله هناك (وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وهنا على العكس ،
فالمراد التنبيه
على أنه لا منافاة في ذلك ، لأن المقصود هو تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع
له ، فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير.
وأما الخامس : وهو
أنه قال هناك (خَطاياكُمْ) وقال هنا (خَطِيئاتِكُمْ) فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي
مغفورة عند الإتيان بهذا التضرع والدعاء.
وأما السادس : وهو
قوله هناك (وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ) بالواو ، وقال هنا (سَنَزِيدُ) بحذفها ، فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين :
بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف
مرتب على تقدير قول القائل ماذا بعد الغفران فقيل : إنه سيزيد المحسنين.
وأما السابع : وهو
الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا ، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها.
فكأنه ـ سبحانه ـ بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيرا.
وأما الثامن : فهو
الفرق بين قوله هناك (يَفْسُقُونَ) وقوله هنا (يَظْلِمُونَ) فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم
، وبكونهم فاسقين لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله. فالفائدة في ذكر هذين الوصفين
التنبيه على حصول هذين الأمرين منهم.
ثم قال : فهذا ما
خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة ، وتمام العلم بها عند الله ـ تعالى
ـ» .
وبذلك تكون الآيات
الكريمة قد بينت أن بنى إسرائيل مكنوا من النعمة فنفروا منها ، وفتحت لهم أبواب
الخير فأبوا دخولها ، فكانت عاقبتهم أن محقت النعم من بين أيديهم ، وسلط الله
عليهم عذابا شديدا من عنده بسبب ظلمهم وفسوقهم عن أمره.
وفي ذلك إثارة
لحسرة اليهود المعاصرين للعهد النبوي على ما ضاع من أسلافهم بسبب انتهاكهم لحرمات
الله وتحذير لهم من سلوك طريق آبائهم حتى لا يصيبهم ما أصابهم من عذاب أليم.
ثم تحدث القرآن
بعد ذلك عن رذيلة أخرى من رذائل بنى إسرائيل الكثيرة ، وهي تحايلهم على استحلال
محارم الله بسبب جهلهم وجشعهم وضعف إرادتهم.
وذلك أن الله ـ تعالى
ـ أخذ عليهم عهدا بأن يتفرغوا لعبادته في يوم السبت ، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون
سائر الأيام ، واختبارا منه ـ سبحانه ـ لإيمانهم ووفائهم بعهودهم أرسل
__________________
إليهم الحيتان في
يوم السبت دون غيره ، فكانت تتراءى لهم على الساحل في ذلك اليوم ، قريبة المأخذ ،
سهلة الاصطياد.
وهنا سال لعاب
شهواتهم ومطامعهم وفكروا في حيلة لاصطياد هذه الحيتان في يوم السبت فقالوا : لا
مانع من أن نحفر إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك في يوم السبت أحواضا تناسب
إليها المياه ومعها الأسماك ، ثم نترك هذه الأسماك محبوسة في الأحواض في يوم السبت
ـ لأنها لا تستطيع الرجوع إلى البحر لضآلة الماء الذي في الأحواض. ثم نصطادها بعد
ذلك في غير يوم السبت ، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا في يوم السبت وبين ما
تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك.
ولقد نصحهم
الناصحون بأن عملهم هذا هو احتيال على محارم الله ، وأن حبس الحيتان في الأحواض هو
صيد لها في المعنى ، وهو فسوق عن أمر الله ونقض لعهوده.
ولكنهم لجهلهم
واستيلاء المطامع على نفوسهم لم يعبئوا بنصح الناصحين بل نفذوا حيلتهم الشيطانية ،
فغضب الله عليهم ومسخهم قردة ، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم وموعظة
للمتقين.
واستمع إلى سورة
الأعراف وهي تحكى لنا هذه القصة بأسلوبها البليغ فتقول :
(وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)
فَلَمَّا
عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)
(١٦٦)
قوله ـ تعالى ـ (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ... إلخ. معطوف على اذكر المقدر في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا). والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم وضمير الغيبة للمعاصرين له من اليهود.
أى : سل يا محمد
هؤلاء اليهود المعاصرين لك كيف كان حال أسلافهم الذين تحايلوا على استحلال محارم
الله فإنهم يجدون أخبارهم في كتبهم ولا يستطيعون كتمانها.
والمقصود من
سؤالهم تقريعهم على عصيانهم ، لعلهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الحق ، ولا يعرضوا
أنفسهم لعقوبات كالتي نزلت بسابقيهم ، وتعريفهم بأن هذه القصة من علومهم المعروفة
لهم والتي لا يستطيعون إنكارها ، والتي لا تعلم إلا بكتاب أو وحى ، فإذا أخبرهم
بها النبي الأمى الذي لم يقرأ كتابهم كان ذلك معجزة له. ودليلا على أنه نبي صادق
موحى إليه بها.
قال الإمام ابن كثير
عند تفسيره للآية الكريمة : (أى واسأل ـ يا محمد ـ هؤلاء اليهود الذين بحضرتكم عن
قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على اعتدائهم واحتيالهم في
المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم «لئلا يحل بهم ما حل
بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هي «أيلة» وهي على شاطئ بحر القلزم ، أى ـ البحر
الأحمر ـ) .
وقال الإمام
القرطبي : وهذا سؤال تقرير وتوبيخ ، وكان ذلك علامة لصدق النبي صلىاللهعليهوسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم وكانوا يقولون :
نحن أبناء الله وأحباؤه ، لأنا من سبط إسرائيل. ومن سبط موسى كليم الله ، ومن سبط
ولده عزير فنحن أولادهم ، فقال الله ـ عزوجل ـ لنبيه سلهم ـ يا محمد ـ عن القرية. أما عذبتهم بذنوبهم ،
وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة .
وجمهور المفسرين
على أن المراد بهذه القرية. قرية (أيلة) التي تقع بين مدين والطور ، وقيل هي قرية
طبرية ، وقيل هي مدين.
ومعنى كونها (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : قريبة منه ، مشرفة على شاطئه ، تقول كنت بحضرة الدار أى
قريبا منها.
وقوله (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أى يظلمون ويتجاوزون حدود الله ـ تعالى ـ بالصيد في يوم
السبت ويعدون بمعنى يعتدون ، يقال : عدا فلان الأمر واعتدى إذا تجاوز حده.
__________________
وقوله تعالى (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) بيان لموضع الاختبار والامتحان.
و (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) ظرف ليعدون. وحيتان جمع حوت وهو السمك الكبير. وشرعا : أى
: شارعة ظاهرة على وجه الماء. جمع شارع ، من شرع عليه إذا دنا وأشرف وكل شيء دنا
من شيء فهو شارع ، وقوله : شرعا حال من الحيتان.
والمعنى : إذ
تأتيهم حيتانهم في وقت تعظيمهم ليوم السبت ظاهرة على وجه الماء دانية من القرية
بحيث يمكنهم صيدها بسهولة ، فإذا مر يوم السبت وانتهى لا تأتيهم كما كانت تأتيهم
فيه ، ابتلاء من الله ـ تعالى ـ لهم.
قال ابن عباس : (اليهود
أمروا باليوم الذي أمرتم به ، وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم
الله ـ تعالى ـ به ، وحرم عليهم الصيد فيه ، وأمرهم بتعظيمه ، فإذا كان يوم السبت
شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في
السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم الله به ، فذلك معنى قوله تعالى (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) .
وقال الإمام
القرطبي : (وروى في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود ـ عليهالسلام ـ وأن إبليس أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أخذها يوم
السبت ، فاتخذوا الحياض ، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها ، فلا
يمكنها الخروج منها لقلة الماء. فيأخذونها يوم الأحد) .
وقوله تعالى (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) معناه : بمثل هذا الابتلاء ، وهو ظهور السمك لهم في يوم
السبت ، واختفائه في غيره نبتليهم ونعاملهم معاملة من يختبرهم ، لينالوا ما
يستحقونه من عقوبة بسبب فسقهم وتعديهم حدود ربهم ، وتحايلهم القبيح على شريعتهم ،
فقد جرت سنة الله بأن من أطاعه سهل له أمور دنياه ، وأجل له ثواب أخراه ، ومن عصاه
أخذه أخذ عزيز مقتدر.
ثم بين ـ سبحانه ـ
طوائف هذه القرية وحال كل طائفة فقال تعالى (وَإِذْ قالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً ، قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
والذي يفهم من
الآية الكريمة ، ـ وعليه جمهور المفسرين ـ أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق.
__________________
١ ـ فرقة المعتدين
في السبت ، المتجاوزين حدود الله عن تعمد وإصرار.
٢ ـ فرقة الناصحين
لهم بالانتهاء عن تعديهم وفسوقهم.
٣ ـ فرقة اللائمين
للناصحين ليأسهم من صلاح العادين في السبت.
وهذه الفرقة
الثالثة هي التي عبر القرآن الكريم عنها بقوله : (وَإِذْ قالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) أى : قالت فرقة من أهل القرية ، لإخوانهم الذين لم يألوا
جهدا في نصيحة العادين في السبت ، لم تعظون قوما لا فائدة من وعظهم ولا جدوى من
تحذيرهم ، لأن الله تعالى قد قضى باستئصالهم وتطهير الأرض منهم ، أو بتعذيبهم
عذابا شديدا ، جزاء تماديهم في الشر ، وصممهم عن سماع الموعظة فكان رد الناصحين
عليهم (مَعْذِرَةً إِلى
رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
فهم قد عللوا
نصيحتهم للعادين بعلتين :
الأولى : الاعتذار
إلى الله ـ تعالى ـ من مغبة التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والثانية : الأمل
في صلاحهم وانتفاعهم بالموعظة حتى ينجو من العقوبة ، ويسيروا في طريق المهتدين.
وقيل : إن أهل
القرية كانوا فرقتين ، فرقه أقدمت على الذنب فاعتدت في السبت ، وفرقة أحجمت عن
الأقدام ، ونصحت المعتدين بعدم التجاوز لحدود الله ـ تعالى ـ فلما داومت الفرقة
الواعظة على نصيحتها للفرقة العادية ، قالت لها الفرقة العادية على سبيل التهكم
والاستهزاء : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا في زعمكم؟ فاجابتهم
الناصحة بقولها. معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
والذي نرجحه أن
أهل القرية كانوا ثلاث فرق كما قال جمهور المفسرين ـ لأن هذا هو الظاهر من الضمائر
في الآية الكريمة ، إذ لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية (ولعلكم تتقون) بكاف
الخطاب ، بدل قولهم (ولعلهم يتقون) الذي يدل على أن المحاورة قد دارت بين الفرقة
اللائمة ، والفرقة الناصحة.
قال الإمام
القرطبي عند تفسيره الآية الكريمة : إن بنى إسرائيل افترقت ثلاث فرق «فرقة عصت
وصدت ، وكانوا ، نحوا من سبعين ألفا ، فرقة نهت واعتزلت ، وكانوا نحوا من اثنى عشر
ألفا ، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وأن هذه الطائفة هي التي قالت للناهية ، لم
تعظون
قوما ـ عصاة ـ الله
مهلكهم ، أو معذبهم على غلبة الظن. وما عهد حينئذ من فعل الله تعالى بالأمم
العاصية؟) .
وقوله (مَعْذِرَةً) بالنصب على أنها مفعول لأجله أى : وعظناهم لأجل المعذرة ،
أو منصوبة على أنها مصدر لفعل مقدر من لفظها أى : نعتذر معذرة وقرئت «معذرة»
بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : موعظتنا معذرة وقد اختار سيبويه هذا الوجه
وقال في تعليله : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا ولكنهم قيل لهم لم
تعظون؟ فقالوا موعظتنا معذرة.
ثم بين ـ سبحانه ـ
عاقبة كل من الفرقة الناهية والعاصية فقال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أى : فلما لج الظالمون في طغيانهم ، وعموا وصموا عن
النصيحة أنجينا الناصحين ، وأخذنا العادين بعذاب شديد لا رحمة فيه بسبب خروجهم على
أوامر الله.
والآية الكريمة
صريحة في بيان أن الذين أخذوا بالعذاب البئيس هم الظالمون المعتدون وأن الذين نجوا
هم الناهون عن السوء ، أما الفرقة الثالثة التي لامت الناهين عن السوء على وعظهم
للمعتدين ، فقد سكتت عنها.
ويرى بعض المفسرين
: أنها لم تنج ، لأنها لم تنه عن المنكر. فضلا عن أنها لامت الناصحين لغيرهم.
ويرى جمهور
المفسرين : أنها نجت ، لأنها كانت كارهة لما فعله العادون في السبت ولم ترتكب شيئا
مما ارتكبوه ، وإذا كانت قد سكتت عن النصيحة ، فلأنها كانت يائسة من صلاح المعتدين
، ومقتنعة بأن القوم قد أصبحوا محل سخط الله وعذابه ، فلا جدوى وراء وعظهم ، وإلى
هذا الرأى ذهب صاحب الكشاف وغيره.
قال صاحب الكشاف :
(فإن قلت : الأمة الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ـ من
أى الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم من فريق المعذبين. قلت من فريق الناجين ،
لأنهم من فريق الناهين ، غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهي حال
المنهي ، وأن النهى لا يؤثر فيه ، سقط عنه النهى ، وربما وجب الترك لدخوله في باب
العبث ، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين
للتعذيب ، لتعظهم وتكفهم عما هم فيه ، كان ذلك عبثا منك ، ولم يكن إلا سببا للتلهى
بك ، أما الآخرون فإنهم لم يعرضوا عنهم ، إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس
الأولين ، ولم يخبروهم كما
__________________
خبروهم. أو لفرط
حرصهم وجدهم في أمرهم ، كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى
آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) .
وقال الإمام ابن
كثير : (ويروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال عند ما سئل عن مصير الفرقة
اللائمة ، ما أدرى ما فعل بهم ، ثم صار إلى نجاتهم لما قال له غلامه عكرمة : ألا
ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقال (لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) قال عكرمة : فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا فكساني حلة) .
والذي نرجحه أن
مصير هذه الفرقة مفوض إلى الله ، لأنه لم يرد نص صحيح في شأنها ، فإن الآية
الكريمة قد ذكرت صراحة عاقبة كل من الناصحين والعادين ولم تذكر مصير الفرقة
اللائمة للناصحين ولعل ذلك مرجعه إلى أنها وقفت من العادين في السبت موقفا سلبيا
استحقت معه الإهمال ، إن لم تكن بسببه أهلا للمؤاخذة.
ثم فصل ـ سبحانه ـ
ما عوقبوا به من العذاب البئيس الذي أصابهم فقال تعالى : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ
قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أى فلما تكبروا عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون ، قلنا لهم
كونوا قردة صاغرين فكانوا كذلك.
قال الآلوسى : (والأمر
في قوله تعالى (قُلْنا) تكويني لا تكليفى ، لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به ،
وهذا كقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد
التمثيل) .
وقيل في تفسير
الآية : إن الله تعالى ـ عاقب القوم أو لا بالعذاب البئيس الذي يتناول البؤس والشقاء
والفقر في المعيشة ، فلما لم يرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم ، مسخهم مسخا خلقيا وجسميا
، فكانوا قردة على الحقيقة ، وهو الظاهر من الآية ، وعليه الجمهور :
وقيل : مسخهم مسخا
خلقيا ونفسيا ، فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها ، وهذا
مروى عن مجاهد.
وتلك العقوبة كانت
جزاء إمعانهم في المعاصي ، وتأبيهم عن قبول النصيحة ، وضعف إرادتهم أمام مقاومة
أطماعهم ، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإنسان ، فكانوا حيث
أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان.
__________________
هذا وقد استدل
العلماء بهذه الآيات الكريمة على تحريم الحيل القبيحة التي يتخذها بعض الناس ذريعة
للتوصل إلى مقاصدهم الذميمة. وغاياتهم الدنيئة ومطامعهم الخسيسة.
وقد أفاض الإمام
ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) في إيراد الأدلة الدالة على هذا التحريم ،
فقال ما ملخصه : (ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله ، الحيل والمكر
والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه ، ومضادته في أمره ونهيه ،
وهي من الباطل الذي اتفق السلف على ذمه ، فإن الرأى رأيان : رأى يوافق النصوص
وتشهد له بالصحة والاعتبار ، وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به. ورأى يخالف النصوص
وتشهد له بالإبطال والإهدار ، وهو الذي ذموه وأهدروه.
وكذلك الحيل نوعان
: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله ـ تعالى ـ به وترك ما نهى عنه ، والتخلص من
الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له ، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي ،
فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات ، وتحليل المحرمات
، وقلب المظلوم ظالما ، والظالم مظلوما ، والحق باطلا ، والباطل حقا. فهذا الذي
اتفق السلف على ذمه ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ... ثم قال :
إن الله تعالى
أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة ، لما تحايلوا على إباحة ما حرمه الله ـ تعالى
ـ عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد ، أخذوه
يوم الأحد.
قال بعض الأئمة :
ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ، ممن يتلبس بعلم الفقه
وهو غير فقيه ، إذ الفقيه من يخشى الله ـ تعالى ـ بحفظ حدوده ، وتعظيم حرماته ،
والوقوف عندها ، وليس المتحيل على إباحة محارمه ، وإسقاط فرائضه ، ومعلوم أنهم لم
يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى ـ عليهالسلام ـ وكفرا بالتوراة ، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ،
ظاهره ظاهر الإيفاء ، وباطنه باطن الاعتداء ، ولهذا مسخوا قردة ، لأن صورة القردة
فيها شبه من صورة الإنسان ، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم
يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض مظاهره دون حقيقته ، مسخهم سبحانه قردة
يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا ، وفي الحديث الشريف (لا ترتكبوا
ما ارتكبت اليهود ، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) .
وفي الصحيحين عن
أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال :
__________________
(قاتل الله اليهود
، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها) .
وعن ابن عباس ـ رضى
الله عنهما ـ قال : «بلغ عمر ـ رضى الله عنه ـ أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله
سمرة. ألم يعلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ـ أى
أذابوها ـ فباعوها) .
وبهذا تكون الآيات
الكريمة قد دمغت العادين في السبت من اليهود ، برذيلة الجهالة وضعف الإرادة ،
وتحايلهم القبيح على استحلال محارم الله ، مما جعلهم أهلا للعذاب الشديد والمسخ
الشنيع ، جزاء إمعانهم في المعصية وصممهم عن سماع الموعظة ، وما ربك بظلام للعبيد.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما توعد به أولئك اليهود من عقوبات بسبب كفرهم وفسوقهم وإفسادهم في الأرض فقال ـ تعالى
ـ :
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
وَقَطَّعْناهُمْ
فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
(١٦٨)
قوله (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) منصوب على المفعولية بمقدر معطوف على (وَسْئَلْهُمْ) أى : واذكر يا محمد لليهود وقت أن تأذن ربك.
وتأذن بمعنى آذن ،
أى : أعلم. يقال : آذن الأمر وبالأمر أى : أعلمه. وأذن تأذينا : أكثر الإعلام.
وأجرى مجرى فعل
القسم كعلم الله وشهد الله ، ولذلك جيء بلام القسم ونون التوكيد في جوابه وهو قوله
ـ تعالى ـ «ليبعثن عليهم ... إلخ».
__________________
وقوله (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بقوله (لَيَبْعَثَنَ).
والمعنى : واذكر
يا محمد وقت أن أعلم الله ـ تعالى ـ هؤلاء اليهود وأسلافهم بأنهم إن غيروا وبدلوا
ولم يؤمنوا بأنبيائهم ، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم سوء العذاب
كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك من صنوف العذاب إن ربك لسريع العقاب لمن أقام على
الكفر ، وجانب طريق الحق ، وإنه لغفور رحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وهذا من باب
قرن الترغيب بالترهيب حتى لا ييأس العاصي من رحمة الله بسبب ذنوبه السابقة إذا هو
أقبل على الله بالتوبة والعمل الصالح كما قال ـ تعالى ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).
ولقد يبدو للبعض
أن هذا الوعيد لليهود قد توقف بسبب ما نرى لهم الآن من دولة وصولة ولكن الذي
نعتقده أن هذا الوعيد ما توقف مع ما لهم من دولة ، فإنهم ما زالوا محل احتقار
الناس وبغضهم ، وحتى الدول التي تناصرهم إنما تناصرهم لأن السياسة تقتضي ذلك بينما
شعوب هذه الدول تكره أولئك اليهود وتزدريهم وتنفر منهم.
وما قامت لليهود
تلك الدولة إلا لأن المسلمين قد فرطوا في حق خالقهم ، وفي حق أنفسهم ، ولم يأخذوا
بالأسباب التي شرعها الله لهم لحرب أعدائهم فكانت النتيجة أن أقام اليهود دولة لهم
في قلب البلاد الإسلامية وعند ما يعود المسلمون إلى الأخذ التام الكامل بتعاليم
دينهم وإلى مباشرة الأسباب التي شرعها الله مباشرة سليمة ، عند ما يفعلون ذلك تعود
إليهم عزتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة.
وصدق الله إذ يقول
: (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ).
هذا وقوله ـ تعالى
ـ (وَقَطَّعْناهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَماً) إخبار عن عقوبة أخرى من عقوباتهم المتنوعة بسبب كفرهم
وجحودهم ، وتتمثل هذه العقوبة في تفريقهم في الأرض ، وتمزيقهم شر ممزق حتى لا تكون
لهم شوكة.
و (أُمَماً) حال من مفعول (قَطَّعْناهُمْ) أو مفعول ثان لقطعناهم على أنه بمعنى صيرناهم.
أى : أن هؤلاء
اليهود قد مزقناهم في الأرض شر ممزق بسبب عصيانهم وفسوقهم ، وصيرناهم فرقا متقطعة
الأوصال ، مشتتة الأهواء. وقوله (مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) بيان لحالهم.
أى : من هؤلاء
اليهود قلة آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فصلح حالها ، وحسنت
عاقبتها ، ومنهم كثرة منحطة عن رتبة أولئك المؤمنين الصالحين ، بسبب فسوقهم عن
أمر الله ،
وانتهاكهم لحرماته.
والجملة من
المبتدأ والخبر ، في موضع نصب على أنها صفة ل (أُمَماً).
وقوله (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) الجار والمجرور خبر مقدم و (دُونَ ذلِكَ) نعت لمنعوت محذوف هو المبتدأ والتقدير : ومنهم ناس أو
جماعة دون ذلك.
وهذه الجملة
الكريمة تدل على أن القرآن الكريم يستعمل الإنصاف والعدالة وتقرير الحقائق مع
أعدائه وأتباعه على السواء ، فهو يمدح من يستحق المديح ، ويذم من هو أهل الذم ،
وما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى التخلق بهذه الأخلاق.
وقوله ـ تعالى ـ (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى عاملناهم معاملة المبتلى الممتحن تارة بالنعم الكثيرة
كالصحة والخصب وسعة الأرزاق ، وتارة بالنقم المتنوعة كالجدب والأمراض والشدائد ،
لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم ، ويتركون ما نهوا عنه من المعاصي والسيئات.
يقال : بلاه يبلوه
بلوا ، وابتلاه ابتلاء ، إذا جربه واختبره ، ولقد كانت نتيجة هذا الابتلاء
والاختبار أن تكشفت الحقائق عن أن الكثرة من بنى إسرائيل سلكت طريق الضلالة
والغواية ، والقلة هي التي آمنت وأصلحت ولذا عاقب الله تلك الكثرة بالعقوبة التي
تناسبها جزاء وفاقا.
هذا ، وما أخبر به
القرآن من أن الله ـ تعالى ـ قد توعد بنى إسرائيل وأخبرهم بأنه سيسلط عليهم إلى
يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب بسبب كفرهم وفسوقهم قد شهد بصدقه التاريخ ،
وأيدته الحوادث ، وهذه نماذج قليلة من تلك العقوبات التي نزلت بهم في الأزمنة
المختلفة .
أولا : بعد وفاة
سليمان ـ عليهالسلام ـ حوالى سنة ٩٧٥ ق م انقسمت مملكته إلى قسمين : مملكة
الشمال ، واسمها (إسرائيل) ومقرها (السامرة) وتتكون من الأسباط العشرة.
ومملكة الجنوب
واسمها (يهوذا) ومقرها (أورشليم) وتتكون من سبطي يهوذا وبنيامين.
وقد استمرت
المنازعات بين المملكتين مدة طويلة ، انتهت بانقضاض (سرجون) ملك آشور على مملكة
الشمال (إسرائيل) سنة ٧٢١ ق. م. فقتل الآلاف من رجالها ، وأسر البقية منهم
__________________
فرحلهم إلى ما
وراء نهر الفرات ، وقضى على هذه المملكة قضاء لم تقم لها بعده قائمة.
وأما مملكة الجنوب
(أورشليم) فقد حاولت أن تتشبث بالبقاء ، ولكن معاول الهدم غزتها من الشرق ومن
الجنوب وكانت نهايتها على يد بختنصر البابلي سنة ٥٨٦ ق م.
ويصور أحد الكتاب
الغربيين قصة النكبات التي أدت إلى زوال مملكة (يهوذا وإسرائيل) فيقول : (هي قصة
نكبات وقصة تحررات لا تعود عليهم إلا بإرجاء النكبة القاضية ، هي قصة ملوك همج
يحكمون شعبا من الهمج ، حتى إذا وافت سنة ٧٢١ ق م «محت يد الأسر الآشورى مملكة
إسرائيل من الوجود ، وزال شعبها من التاريخ زوالا تاما ، وظلت مملكة يهوذا تكافح
حتى أسقطها البابليون سنة ٥٨٦ ق م.
ثانيا : استرد
اليهود بعض أنفاسهم بعد وقوعهم تحت حكم الفرس من حوالى سنة ٥٣٦ إلى سنة ٣٣٢ ق م
فقد عادوا في هذه الفترة إلى فلسطين ، ووقعوا تحت سيطرة الإسكندر المقدونى سنة ٣٣٠
ق م.
وفي سنة ٣٢٠ ق م.
سار إليهم (بطليموس) خليفة الإسكندر ، فهدم القدس ، ودك أسوارها ، وأرسل منهم مائة
ألف أسير إلى مصر ، لأنهم ثاروا عليه.
ثالثا : في سنة ٢٠
ق م تقريبا ، وقع اليهود تحت سيطرة السلوقيين السوريين بعد انتصارهم على البطالسة
، ورأى بعض الحكام السلوقيين من اليهود تمردا وعصيانا ، فأنزلوا بهم أشد العقوبات
في عدة مواقع ، وكان من أبرز المنكلين باليهود (انطوخيوس) ما بين سنة ١٧٠. وسنة
١٦٨ ق م فقد هاجم (أورشليم) وهدم أسوارها وهيكلها. ونهب ما فيها من أموال وقتل من
أهلها أربعين ألفا في ثلاثة أيام وباع مثل ذلك العدد عبيدا منهم ولم يفلت من يده
إلا اليهود الذين هربوا إلى الجبال ، وقد أقام (انطوخيوس) قمة على أحد الجبال
ليشاهد منها كل من يقترب من اليهود إلى أورشليم ليقتله ، وقد وصل به الحال أنه
أكره عددا كبيرا منهم على ترك الديانة اليهودية وجعل هيكلهم في أورشليم معبدا
لإلهه.
رابعا : وفي سنة
٦٣ ق م أغار الرومان بقيادة (بامبيوس) على أورشليم فاحتلوها ، واستمر احتلالهم حتى
سنة ٦١٤ م. وخلال احتلال الرومان لفلسطين قام اليهود بعدة ثورات باءت كلها بالفشل
، ولقوا بسبب تمردهم وعصيانهم من الرومان ألوانا من القتل والسبي والتشريد.
كان من أشهرها ما
أنزله بهم «تيطس الرومانى» سنة ٧٠ م فقد اقتحم في هذه السنة أورشليم فدمرها تدميرا
، وقتل الآلاف من اليهود وأحرق هيكلهم.
خامسا : بعد هذه
النماذج التي سقناها لما أنزله الرومان من عقوبات على اليهود ، نتابع سيرنا في سرد
بعض العقوبات التي أنزلها المسلمون باليهود بسبب بغيهم وخياناتهم فنقول :
بعد هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، عامل اليهود القاطنين والمجاورين لها معاملة
طيبة ، وعقد معهم معاهدة ضمنت لهم حقوقهم ولكنهم نقضوا عهودهم ، ولم يتركوا وسيلة
من وسائل الكيد للإسلام والمسلمين إلا فعلوها ، وحاول الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يثنيهم عن جحودهم وبغيهم ولكنهم لم يستجيبوا له. فعاقب صلىاللهعليهوسلم كل طائفة منهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم وخيانتهم وتكفل
للمسلمين أن يعيشوا في مأمن من شرورهم ، ومن بين العقوبات التي أنزلها النبي صلىاللهعليهوسلم بهم إجلاؤه لبنى قينقاع ولبنى النضير عن المدينة ، وقتله
لبنى قريظة وإهداره لدم بعض كبرائهم ككعب بن الأشرف وسلام بن أبى الحقيق ،
ومحاربته ليهود خيبر ومصالحته لهم بعد مقتل عدد كبير منهم ، ورفعهم راية الأمان ،
والاستسلام ، وقبولهم الشروط التي اشترطها عليهم النبي صلىاللهعليهوسلم.
ولقد كان من آخر
الكلمات التي نطق بها الرسول صلىاللهعليهوسلم قبل وفاته قوله موصيا أصحابه أخرجوا اليهود من جزيرة العرب
لا يبقى في جزيرة العرب دينان) .
وفي عهد عمر بن
الخطاب ـ رضى الله عنه ـ تم إخراج جميع اليهود من جزيرة العرب ، استجابة لوصية
الرسول صلىاللهعليهوسلم.
سادسا : وفي ختام
عرضنا لبعض العقوبات التي نزلت باليهود في الأزمنة المختلفة جزاء إجرامهم وإثارتهم
للفتن نسوق بعض الأمثلة لما حل بهم على أيدى بعض الدول الأوربية.
(أ) ففي بريطانيا
: لقى اليهود في بعض العهود ألوانا من التعذيب ، وصنوفا من القتل والتشريد.
١ ـ من ذلك أن
الملك الإنجليزى (يوحنا) أصدر أمرا بحبسهم في جميع أنحاء مملكته.
وفي سنة ١٣٢٨ م
جأر الشعب البريطانى بالشكوى من اليهود ، فأصدر الملك ادوارد الأول أمرا بطرد
اليهود من جميع البلاد البريطانية في غضون ثلاثة أشهر ، إلا أن الشعب البريطانى لم
يصبر على اليهود حتى تنقضي تلك المدة ، بل أخذ يقتل منهم العشرات والمئات وفي قلعة
(بورك) التي احتمى بها عدد كبير من اليهود أحرق الإنجليز أكثر من خمسمائة يهودي
وقد اضطر الملك إلى ترحيلهم قبل انقضاء المدة لئلا يفتك الشعب بهم جميعا في كل
مكان ، وظلت بريطانيا خالية من اليهود طوال ثلاثة قرون تقريبا. ولكن عادوا إليها
سنة ١٦٥٦ م في عهد الطاغية (كرومويل) الذي اغتصب الملك (شارل الأول) بعد أن قدم له
اليهود الأموال الطائلة في سبيل بلوغ أغراضه.
__________________
(ب) وفي فرنسا :
تعرض اليهود في أزمنة مختلفة لنقمة الشعب الفرنسى وغضبه ، لأنهم دمروا اقتصاده
الوطنى ، وخنقوه بالربا الفاحش ، والمعاملات السيئة.
١ ـ ففي عهد (لويس
التاسع) تدهورت الحالة الاقتصادية في فرنسا فأصدر أمرا بإلغاء ثلث ما لليهود على
الفرنسيين من ديون ، ثم أصدر أمرا بإحراق جميع كتبهم المقدسة ، وخاصة التلمود. وقد
قال أحد المؤرخين إنهم أحرقوا في باريس وحدها محمول أربع وعشرين مركبة من نسخ
التلمود وغيرها) .
٢ ـ وخلال تولى (فيليب
الجميل) حكم فرنسا. أنزل الفرنسيون باليهود صنوفا من القتل والنهب والتشريد ، ثم
طردوا من فرنسا نهائيا ، ولكنهم عادوا إليها بعد أن دفعوا (لفيليب) ثلثى الديون
التي لهم في فرنسا.
٣ ـ وفي سنة ١٣٢١
م هاجمهم الشعب الفرنسى وذبح عددا كبيرا منهم ، ونكل بهم تنكيلا شديدا ، ثم طردوا
من فرنسا بعد أن نهبت أموالهم ولم يستطيعوا العودة إليها إلا في أواسط القرن
السادس عشر.
٤ ـ وفي أوائل
القرن التاسع عشر حاول (نابليون) أن يستغلهم لبلوغ مطامعه ، ولكنهم خانوه ،
فاحتقرهم ، وبطش بعدد منهم ، وقال عنهم إنهم حثالات البشر وجراثيمه.
ولم ينج اليهود من
بطش الشعب الفرنسى إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
(ج) وفي إيطاليا ،
حاربهم البابوات حربا شعواء وأطلقوا عليهم اسم (الشعب المكروه) وأغروا الشعب
الإيطالى بهم فأعمل فيهم القتل والتشريد وقد أصدر البابوات مراسيم عديدة لتكفير
اليهود وتسفيه ديانتهم القائمة على التلمود.
وفي سنة ١٢٤٢ م
أعلن البابا (جريجورى) التاسع اتهامات صريحة ضد التلمود الذي يطعن في المسيح
والمسيحية ، وأصدر أوامره بإحراقه فأحرقت جميع نسخه.
وفي سنة ١٥٤٠ ثار
الشعب الإيطالى على اليهود ثورة عارمة قتل فيها الآلاف منهم وطردوا من بقي حيا
خارج إيطاليا.
(د) وفي أسبانيا :
ذاق اليهود من الشعب الأسبانى وملوكه صنوف الذل وألوان الهوان ، ولم يظفروا
بالراحة إلا في أيام الحكم الإسلامى لأسبانيا. ولنكتف بذكر عقوبة واحدة من
العقوبات المتعددة التي نزلت بهم في تلك البلاد.
__________________
في عهد الملك (فرديناند)
وزوجته (إيزابلا) وصلت موجة السخط على اليهود أقصاها ؛ لتغلغلهم في الحياة
الأسبانية ، واستيلائهم على اقتصادها وإشعالهم نار الخلافات الدينية بين الطوائف
... فرأى الملك وزوجته أن خير وسيلة لوقاية البلاد من شرورهم هي طردهم من أسبانيا
طردا نهائيا.
وفي ٣١ من مارس
سنة ١٩٥٢ صدر المرسوم التالي عن الملك (فرديناند) : (يعيش في مملكتنا عدد غير قليل
من اليهود ، ولقد أنشأنا محاكم التفتيش منذ اثنتي عشرة سنة. وهي تعمل دائما على
توقيع العقوبة على المذنبين ، وبناء على التقارير التي رفعتها لنا محاكم التفتيش ،
ثبت بأن الصدام الذي يقع بين المسيحيين واليهود يؤدى إلى ضرر عظيم ، ويؤدى بالتالى
إلى القضاء على المذهب الكاثوليكى ، ولذا قررنا نفى اليهود ذكورا وإناثا خارج حدود
مملكتنا وإلى الأبد وعلى اليهود جميعا الذين يعيشون في بلادنا وممتلكاتنا ومن غير
تميز في الجنس أو الأعمار أن يغادروا البلاد في غضون فترة أقصاها نهاية يوليو من
نفس العام ، وعليهم ألا يحاولوا العودة تحت أى ظرف أو سبب .
وبمقتضى هذا
القرار طرد اليهود شر طردة من أسبانيا بعد أن أرغموا على ترك ذهبهم ونقودهم ، وبعد
أن نفثوا سمومهم في أسبانيا زهاء سبعة قرون وكان عددهم عند ما خرجوا منها مطرودين
يبلغ نصف مليون نسمه ويعتبر بعض اليهود هذا القرار وما تلاه من طرد وتشريد أسوأ من
خراب أورشليم.
(ه) وفي روسيا :
كان يعيش نصف يهود العالم تقريبا خلال القرن التاسع عشر وقد استعملوا طول مدة
إقامتهم في روسيا كل وسائلهم الخبيثة للتدمير والتخريب ، ففتحوا الحانات وتاجروا
في الخمور ، وأقرضوا بالربا الفاحش ، واستولوا على الكثير من أموال الدولة بالطرق
المحرمة ، وقتلوا الكثير من أبناء الشعب الروسى عند ما مكنتهم الظروف من ذلك
وكونوا الجمعيات السرية التي عملت على هدم نظام الحكم القيصري واستمرت في نشاطها
حتى أزالته بواسطة الثورة الشيوعية في سنة ١٩١٧ م هذه الثورة التي كان معظم قوادها
من اليهود. ولم ينس الروس لليهود ما قاموا به نحوهم من عدوان واستغلال ، فانقضوا
عليهم عدة مرات للتخلص منهم وأعملوا فيهم الذبح والقتل بلا رحمة ، وكان من أبرز
المذابح التي أوقعها الروس باليهود مذبحة سنة ١٨٨١ م ومذبحة سنة ١٨٨٢ م فقد حاول
الفلاحون الروس أن يدمروا اليهود تدميرا في هاتين السنتين.
__________________
وعند ما نشر
الكاتب الروسى (نيلوس) نسخا قليلة من (بروتوكولات حكماء صهيون) سنة ١٩٠٢ م التي
تفضح نيات اليهود الإجرامية تجاه العالم أجمع ، جن جنونهم خوفا وفزعا. وعمت
المذابح ضدهم في روسيا حتى لقد قتل منهم في إحداها نحو عشرة آلاف يهودي.
(و) وفي ألمانيا :
انتشر اليهود في كثير من مدنها منذ القرن الثامن الميلادى ، وسكنوا على ضفاف نهر
الراين. واستغلوا الشعب الألمانى أسوأ استغلال حتى كادوا يستولون على أمواله عن
طريق الربا الفاحش واستخدام الوسائل المختلفة لجمع المال الحرام. ولقد هاج الشعب
الألمانى ضدهم في أوقات مختلفة ، واستعمل معهم كل وسائل القتل والسلب والطرد.
يقول صاحب كتاب (تاريخ
الإسرائيليين) وظل القتل والذبح منتشرا في اليهود إلى أن صدرت الأوامر بطردهم من
أنحاء ـ ألمانيا ـ في أزمنة متتابعة ، وذلك ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر
، حتى لم يكد يبقى منهم واحدا فيها) .
وكان آخر ما لاقوه
من عذاب وتقتيل وتشريد على يد «هتلر» ابتداء من توليه الحكم في ألمانيا سنة ١٩٣٣
إلى أن سقط حكمه سنة ١٩٤٥.
وفي كل البلاد
التي نزل بها اليهود ، تعرضوا لنقمة السكان وغضبهم وازدرائهم ، يستوي في ذلك
تاريخهم القديم والوسيط والحديث ، لقد أنزل العالم بهم ضربات قاصمة ، وعقوبات
صارمة ، شملت التنكيل والطرد والسجن والقتل ومصادرة الأموال.
ويقرر أحد الكتاب
الغربيين أن كل الأمم المسيحية اشتركت في اضطهاد اليهود وإنزال مختلف العقوبات بهم
، وكانت القسوة مع اليهود تعد مآثرة يمتدح المسيحيون بعضهم بعضا عليها .
هذا ، والشيء الذي
نؤكده بعد سرد هذه النماذج من العقوبات التي نزلت باليهود في مختلف العصور والأمم
، هو أن اليهود هم المسئولون عن كل اضطهاد وقع بهم ، وأنهم مستحقون لهذه العقوبات
لأسباب من أهمها :
أولا : أنانيتهم
وأطماعهم التي لا حدود لها «فقد سوغت لهم أنانيتهم أن العالم ملك لهم بكل من فيه
وما فيه ، وأن عليهم متى حلوا في أى دولة أن ينهبوا خيراتها بكل وسيلة وإن يجمعوا
أموالها بأى طريقة ، فإن المال هو معبود اليهود من قديم.
وأنانية اليهود
وجشعهم وأكلهم أموال الناس بالباطل ، جعلهم محل نقمة العالم وغضبه ،
__________________
ولقد فطن بعض
الزعماء العقلاء إلى خطر تغلغل اليهود في بلاده ، فأخذ يطردهم منها ، ويحذر أبناء
أمته من شرورهم ، ومن هؤلاء الزعماء العقلاء (بنيامين فرانكلين) أحد رؤساء
الولايات المتحدة ، فإنه ألقى خطابا سنة ١٧٨٩ قال فيه : (هناك خطر عظيم يهدد
الولايات المتحدة الأمريكية ، وذلك الخطر هو (اليهود). أيها السادة : حيثما استقر
اليهود ، تجدونهم يوهنون من عزيمة الشعب ، ويزعزعون الخلق التجارى الشريف. إنهم لا
يندمجون بالشعب. لقد كانوا. حكومة داخل الحكومة. وحينما يجدون معارضة من أحد فإنهم
يعملون على خنق الأمة ماليا كما حدث للبرتغال وأسبانيا ... إذا لم يمنع اليهود من
الهجرة بموجب الدستور. ففي أقل من مائتي سنة سوف يتدفقون على هذه البلاد بأعداد
ضخمة تجعلهم يحكموننا ويدمروننا ويغيرون شكل الحكومة التي ضحينا وبذلنا لإقامتها
دماءنا وحياتنا وأموالنا وحريتنا. إذا لم يستثن اليهود من الهجرة فإنه لن يمضى
أكثر من مائتي سنة ليصبح أبناؤنا عمالا في الحقول لتأمين الغذاء لليهود .. ، إنى
أحذركم أيها السادة. إذا لم تستثنوا اليهود من الهجرة إلى الأبد فسوف يلعنكم
أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم ، إن عقليتهم تختلف عنا حتى لو عاشوا بيننا عشرة
أجيال. والنمر لا يستطيع تغيير لونه. اليهود خطر على هذه البلاد. وإذا دخلوها فسوف
يخربونها ويفسدونها) .
وللتعليق على هذا
الخطاب نقول : ما أصدق ما توقعه (فرانكلين) لو لا أنه قد أخطأ التقدير في المدة
اللازمة لتحويل أمريكا إلى بقرة حلوب لليهود ، فقد قدر (فرانكلين) هذه المدة
بمائتي سنة أى في سنة ١٩٨٩ ، بينما استطاع اليهود أن يسخروا سياسة أمريكا وأسلحتها
، وأموالها وعلمها ونفوذها وخيراتها ، لمنفعتهم الخاصة في مدة تقل عما توقعه بأكثر
من خمسين سنة.
ثانيا : غرورهم
وتعاليهم : فاليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباؤه ، وشعبه المختار. ومن قديم
الزمن وهم يقسمون العالم إلى قسمين متقابلين : قسم إسرائيل وهم صفوة الخلق وأصحاب
الحظوة عند الله ، وقسم آخر يسمونه الأمم (الجوييم) أى غير اليهود ومعنى (جوييم)
عندهم ، وثنيون وكفرة وبهائم وأنجاس. وقد أدى هذا الغرور والتعالي باليهود إلى
إهدار كل حق لغيرهم عليهم ، وأن من حق اليهود أن يسرقوا من ليس يهوديا وأن يغشوه
ويكذبوا عليه ويقتلوه إذا أمنوا اكتشاف جرائمهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك
الرذيلة التي تمكنت من اليهود بقوله. (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ،
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
__________________
وكتب اليهود ـ لا
سيما التلمود ـ طافحة بالوصايا التي تبيح لهم أن يعاملوا غيرهم بمعاملة تخالف
معاملتهم مع بعضهم ، من ذلك ما جاء في التلمود : إذا خدع يهود أحدا من الأمم وجاء
يهودي آخر واختلس من الأمم بعض ما عنده بنقص الكيل أو زيادة الثمن ، فعلى
اليهوديين أن يقتسما الغنيمة التي أرسلها إليهما (يهواه) ويهواه هو إله اليهود.
ونتيجة لهذا
الغرور والتعالي الذي تميز به اليهود ، وأهدروا بسببه كل حق أو كرامة لسواهم من
الناس ، قام غيرهم من الأمم ليدافع عن حقه الذي سلبوه منهم ، وليوقع بهم أقسى
العقوبات جزاء غرورهم الكاذب ، وتعاليهم الباطل.
ثالثا : عزلتهم
وعصبيتهم وخيانتهم للبلاد التي آوتهم فهم متعصبون متحزبون ، لا يجمعهم حب بعضهم
لبعض ولكن تجمعهم كراهية من ليس على ملتهم ، كما يجمعهم الحقد على العالم بأسره.
وقد أصبحت العزلة والعصبية والعنصرية طابع اليهود الذي لا محيد لهم عنه.
ويصف الدكتور (ويزمان)
أول رئيس لإسرائيل طابع العزلة في اليهود بقوله : (وكان اليهود في موتول (مسقط
رأسه) بروسيا ، يعيشون كما يعيش اليهود في مئات المدن الصغيرة والكبيرة منعزلين
منكمشين ، وفي عالم غير عالم الناس الذين يعيشون معهم).
ولعل أدق صورة
للتحريض على العزلة والتمسك بها ، ما ذكره (سلامون شحتر) في خطابه بمدرسة اللاهوت
اليهودية العليا حيث قال : (إن معنى الاندماج في الأمم هو فقدان الذاتية. وهذا
النوع من الاندماج مع ما يترتب عليه من النتائج ، هو ما أخشاه أكثر مما أخشى
المذابح والاضطهادات) .
وقد تسبب عن
عزلتهم وعصيبتهم أمور خطيرة ، فقد نظروا إلى من سواهم من الأمم نظرة كلها عداء
وريبة وحذر ، وصار طابعهم في كل زمان ومكان عدم الإخلاص لاية هيئة دينية أو
دنيوية. وعدم الولاء للأوطان التي يعيشون فيها ويأكلون من خيراتها ، وإنما يجعلون
ولاءهم لجماعتهم ومصالحهم الخاصة دون غيرها ، لأن اليهودي يهودي قبل كل شيء ، مهما
تكن جنسيته ، ومهما يعتنق من عقائد ومبادئ في الظاهر ، وإذا تعارضت جنسيته مع
يهوديته ناصر يهوديته ، وحاول أن يشيع الخراب والدمار في الأمة التي هو فرد من
أفرادها خصوصا إذا أمن العقاب والصهيونية العالمية تأمر اليهود في كل مكان أن
يجعلوا ولاءهم لإسرائيل وليس للدولة التي يعيشون فيها.
تقول جولدامايير
وزيرة خارجية إسرائيل سابقا : (إن اليهود المقيمين خارج إسرائيل طوائف
__________________
مشتتة تعيش في
المنفي ، وأنهم مواطنون إسرائيليون قبل كل شيء ، ويتحتم عليهم الولاء المطلق لهذه
الدولة الجديدة مهما تكن جنسيتهم الرسمية التي يسبغونها على أنفسهم ، وإن اليهودي
الإنجليزى الذي ينشد بحكم إنجليزيته نشيد (حفظ الله الملكة) لا يمكن أن يكون في
نفس الوقت صهيونيا) .
وما أكثر الحوادث
التي قام فيها اليهود بدور العيون والجواسيس على الأوطان التي يعيشون فيها لحساب
أعدائها ، واظهر مثل على ذلك ما قام به اليهود المقيمون في ألمانيا من خيانات لها
خلال الحرب العالمية الأولى ، وكان ثمرة هذه الخيانات هزيمة ألمانيا ، ومنح اليهود
جزاء غدرهم الوطنى وعد (بلفور) من الحكومة البريطانية سنة ١٩١٧ م.
وقد عدد (هتلر)
خيانات اليهود لألمانيا فذكر منها استنزاف أموال الشعب بالربا الفادح وإفساد
التعليم والسيطرة لصالحهم على المصارف والبورصة والشركات التجارية ، والسيطرة على
دور النشر ، والتدخل في سياسة الدولة لغير مصلحة ألمانيا وفي القمة من خياناتهم
التجسس ضد ألمانيا الذي احترفه عدد كبير منهم.
ويختم هتلر حديثه
الطويل عن اليهود بقوله (وإذا قيض لليهودي أن يتغلب على شعوب هذا العالم ، فسيكون
تاجه إكليل جنازة البشرية ، وعند ما يستأنف كوكبنا السيار طوافه في الأثير كما فعل
منذ ملايين السنين لن يكون هناك بشر على سطحه .. لهذا أعتقد أنى تصرفت معهم حسبما
شاء خالقنا ، لأنى بدفاعى عن نفسي ضد اليهودي ، أنما أناضل في سبيل الدفاع ، عن
عمل الخالق) .
وإذن فعزلة اليهود
، وعصبيتهم ، وخيانتهم للأوطان التي آوتهم ، كان جزاؤها العادل ما حل بهم من دمار
وتشريد خلال العصور المختلفة.
رابعا : اضطهادهم
لغيرهم متى ملكوا القدرة الظاهرة أو الخفية لذلك وتاريخ اليهود ملطخ بجراثم القتل
والذبح والنهب والسلب والغدر والبطش بغيرهم وملئ بالمجاز التي قاموا بها ضد الشعوب
التي كان لهم النصر عليها ، وقد ساعدهم على ذلك ما أمرتهم به كتبهم من قتل وإذلال
لغيرهم متى واتتهم الفرصة عليه ، ففي سفر الخروج ما نصه.
(حين تقترب من
مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن إجابتك فكل الشعب الموجود فيها يكون
للتسخير ، ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا
__________________
دفعها الرب إلهك
إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا ،
وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إياها فلا تستبق منها نسمة ما) .
ولقد طبق اليهود
هذه التعاليم أسوأ تطبيق في كل أدوار تاريخهم فلقد قتلوا في روما وحدها مائة ألف
مسيحى سنة ٢١٤ م بإيعاز من الإمبراطور (مارك أوريل).
وما لنا نذهب
بعيدا في الاستشهاد على إجرامهم ، ومعارك فلسطين ما زالت ماثلة في أذهاننا ، يقول
أحد الكتاب المعاصرين : (إن مذبحة دير ياسين كانت من أبشع المذابح التي ارتكبها
اليهود. فقد قتلوا مائتين وخمسين إنسانا في قرية صغيرة ومثلوا بأجسامهم ، وذبحوا
الأطفال في أحضان أمهاتهم وأمام أعينهن). وحدث ما يشبه هذه المذابح في كثير من مدن
فلسطين كحيفا ويافا وقبية وكفر قاسم.
والحق ، أن مفاهيم
اليهود الباطلة ، وأنانيتهم الطاغية ، وطباعهم اللئيمة وأخلاقهم الفاسدة ،
وعصبيتهم الذميمة ، وقلوبهم القاسية ، واستباحتهم لقتل غيرهم ، وإهدار كرامته ، كل
ذلك جعلهم محل نقمة العالم وغضبه ، وبسبب هذه الأخلاق المرذولة سلط الله عليهم من
يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، ومن يمزقهم شر ممزق.
ويعجبني في هذا
المقام قول المؤرخ اليهودي «يوسيفوس» «لا توجد أمة في الأرض في كل أجيال التاريخ
منذ بدء الخليقة إلى الآن تحملت ما تحمل بنو إسرائيل من الكوارث والآلام ، على أن
هذه الكوارث والآلام لم تكن إلا من صنع بنى إسرائيل أنفسهم».
والآن ، بعد سرد
هذه العقوبات التي حلت ببني إسرائيل في مختلف العصور تأييدا لقوله ـ تعالى ـ (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) بسبب أعمالهم السيئة نعود إلى السورة الكريمة فنراها
تحدثنا عن لون من ألوان الدعاوى الباطلة التي حكاها القرآن عنهم ، وهو زعمهم أن
ذنوبهم مغفورة لهم ، وأنهم مهما فعلوا من ذنوب ، وارتكبوا من موبقات ، واستحلوا من
أموال حرام ، فلن يحاسبهم الله على ذلك إلا حسابا يسيرا لأنهم أبناؤه وأحباؤه ،
واستمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى ذلك عنهم فتقول :
__________________
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ
الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُصْلِحِينَ)
(١٧٠)
قال الإمام
القرطبي : الخلف ـ بسكون اللام ـ الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، الخلف ـ بفتح
اللام ـ البدل ، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابى : الخلف ـ بفتح اللام ـ الصالح
، وبسكونها الطالح ، ومنه قيل للردى من الكلام خلف ـ بسكون اللام ـ ومنه المثل
السائر «سكت ألفا ونطق خلفا» قال لبيد.
ذهب الذين يعاش في
أكنافهم ـ وبقيت في خلف كجلد الأجرب.
فخلف في الذم
بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، وفي الحديث الشريف (يحمل
هذا العلم من كل خلف عدو له) وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر .
والعرض ـ بفتح
الراء ـ متاع الدنيا وحطامها من المال وغيره.
قال صاحب الكشاف :
قوله تعالى : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هذَا الْأَدْنى) أى حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها
، وفي قوله هذا تخسيس وتحقير ، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب
، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام
على تحريف الكلم للتسهيل على العامة) .
والضمير في قوله (مِنْ بَعْدِهِمْ) يعود إلى اليهود الذين وصفهم الله في الآية السابقة بقوله (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً
مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
والمعنى : فخلف من
بعد أولئك القوم الذين قطعناهم في الأرض أمما خلف سوء ، ورثوا
__________________
كتاب الله وهو
التوراة فقرأوه وتعلموه ، ووقفوا على ما فيه من تحليل وتحريم وأمر ونهى ولكنهم لم
يتأثروا به بل خالفوا أحكامه ، واستحلوا محارمه مع علمهم بها ، فهم يتهافتون على
حطام الدنيا ومتاعها ويتقبلون المال الحرام بشراهة نفس. ويأكلون السحت أكلا لما
ويقولون وهم والغون في المعاصي ومصرون على الذنوب : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا ولا
يؤاخذنا بما أكلنا من أموال ، لأننا من نسل أنبيائه ، فنحن شعبه الذي اصطفاه من
سائر البشر ، إلى غير ذلك من الأقاويل التي يفترونها على الله وهم يعلمون.
وجملة (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) مستأنفة لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه. وقيل :
هي حال من الضمير في ورثوا.
ثم أخبر ـ سبحانه
ـ عنهم بأنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة فقال تعالى : (وإن
يأتهم عرض مثله يأخذوه) أى : أنهم يأخذون عرض الحياة الدنيا ويعرضون عن شريعة الله
التي أنزلها عليهم في التوراة ويزعمون أن الله لا يؤاخذهم بما فعلوا. ثم هم بعد
ذلك لا يتوبون إلى الله ولا يستغفرونه ، وإنما حالهم أنهم إن لاح لهم عرض حرام آخر
مثل الذي أخذوه أولا بالباطل ، تهافتوا عليه من جديد واستحلوه وأكلوه في بطونهم ،
وبدون توبة أو ندم.
قال مجاهد قوله
تعالى (وَإِنْ يَأْتِهِمْ
عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) لا يشرف لهم شيء من متاع الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو
حراما ، ويتمنون المغفرة (ويقولون سيغفر لنا) وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
وقال السدى : (كانت
بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم
على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ،
فيقال له ما شأنك ترتشى في الحكم؟ فيقول سيغفر لي ، فيطعن عليه البقية الآخرون من
بنى إسرائيل صنعه فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه قبل الرشوة ،
ويقول : (وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه) .
ثم أنكر ـ سبحانه
ـ عليهم ما زعموه بقولهم : (سيغفر لنا) وهم مصرون على معصيتهم فقال تعالى : (ألم
يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه).
والمعنى : لقد أخذ
الله العهد في التوراة على هؤلاء المرتشين في أحكامهم : والقائلين سيغفر الله
فعلنا هذا ألا يقولوا على الله إلا القول الحق ، ولا يخبروا عنه إلا بالصدق ولا
يخالفوا أمره.
__________________
ولا ينقضوا عهده ،
ولا يتجاوزوا حدوده ، وقد درس هؤلاء الكتاب ، أى : قرءوه وفهموه ، ولكنهم لم
يعملوا بما أخذ عليهم من عهود ولم يتبعوا أوامر كتابهم ونواهيه ، لأنهم درسوه ولم
يتأثروا به ، ولم تخالط تعاليمه شغاف قلوبهم ، فضيعوه واشتروا به ثمنا قليلا فبئس
ما يشترون.
وقوله (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا
الْحَقَ) بدل من ميثاق الكتاب أو عطف بيان له. وقيل إنه مفعول لأجله
أى : لئلا يقولوا.
وجملة (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) معطوفة في المعنى على قوله تعالى (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ
الْكِتابِ) أى أن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق في التوراة ودرسوه.
قال ابن دريد : (كان
يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا
منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له .
ثم بين الله لهم
أن ما أعده في الآخرة للمتقين الذين يتعففون عن السحت وعن أكل أموال الناس بالباطل
خير من متاع الدنيا وزهرتها الذي آثره هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب فقال
تعالى : (وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أى : والدار الآخرة وما أعده فيها من نعيم لأولئك الذين
يتقونه حق تقاته في السر والعلن ، خير من عرض هذا الأدنى الذي استحله هؤلاء اليهود
بدون حق وآثروه على ما عند الله من نعيم مقيم وثواب جزيل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ـ يا من أكلتم أموال الناس بالباطل وقلتم سيغفر الله لنا
ذنوبنا ـ هذا الحكم الواضح ، الذي لا يخفى على ذي عقل سليم ، لم تطمسه الشهوات ،
ولم يستحوذ عليه الشيطان.
وفي هذا إشارة إلى
أن الطمع في متاع الحياة الدنيا هو الذي جعل بنى إسرائيل يقولون على الله غير
الحق. ويتشبعون من المال الحرام بدون تعفف ويبيعون دينهم بدنياهم.
قال الإمام
الآلوسى : (والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع
إصرارهم على الذنوب وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون ، وعن
ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ إنهم وبخوا على إيجابهم على الله ـ تعالى ـ غفران
ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ثم لا يتوبون منها.
وقد أطبق أهل
السنة على ذم المتمنى على الله ، ورووا عن شداد بن أوس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من
أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى) ومن هنا قيل : إن القوم ذموا بأكلهم
أموال الناس بالباطل وباتباعهم أنفسهم هواها
__________________
وتمنيهم على الله
ـ سبحانه ـ الأمانى ، ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها ،
وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها ، وقالوا على الله ما ليس بحق من القول) .
ثم أثنى الله ـ تعالى
ـ على من تمسك بكتابه ، فأحل حلاله وحرم حرامه ، ولم يتقول على الله الكذب فقال
تعالى : (وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
والمراد بالكتاب
التوراة أو القرآن أو جنس الكتب السماوية عموما.
والمعنى : والذين
يستمسكون بأوامر الكتاب الذي أنزله الله ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم إنا لا
نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا دينهم ودنياهم والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وخص الصلاة بالذكر
مع دخولها فيما قبلها إظهارا لمزيتها لكونها عماد الدين وناهية عن الفحشاء
والمنكر.
وبذلك تكون
الآيتان الكريمتان قد وبختا اليهود لافترائهم على الله الكذب وردتا عليهم في
دعواهم أن ذنوبهم مغفورة لهم مع تعمدهم أكل أموال الناس بالباطل ، وبينتا لهم طريق
الفلاح لكي يسيروا عليها ، إن كانوا ممن ينتفع بالذكر ، ويعتبر بالمثلات.
ثم ختمت السورة
الكريمة حديثها الطويل عن بنى إسرائيل بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم ،
وبأمرهم بالإيمان والعمل الصالح فقالت :
(وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
(١٧١)
والآية الكريمة
معطوفة على ما سبق من أحوال بنى إسرائيل بتقدير : اذكر.
ونتقنا : من النتق
وهو الزعزعة والرفع والجذب بشدة ، يقال : نتق الشيء ينتقه وينتقه ، جذبه واقتلعه.
__________________
والمراد بالجبل
جبل الطور الذي سمع موسى عليه الكلام من ربه.
قيل : «إن موسى
لما أتى بنى إسرائيل بالتوراة وقرأها عليهم وسمعوا ما فيها من التغليظ كبر ذلك
عليهم ، وأبوا أن يقبلوا ذلك ، فأمر الله الجبل فانقطع من أصله حتى قام على رءوسهم
مقدار عسكرهم ، فلما نظروا إليه فوق رءوسهم خروا ساجدين ، فسجدوا كل واحد منهم على
خده وحاجبه الأيسر ، وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا من أن يسقط فوقهم .
أى : واذكر يا
محمد وذكر بنى إسرائيل المعاصرين لك وقت أن رفعنا الجبل فوق آبائهم الذين كانوا في
عهد موسى حتى صار كأنه غمامة أو سقيفة فوق رءوسهم لنريهم آية من الآيات التي تدل
على قدرتنا وعلى صدق نبينا موسى ـ عليهالسلام ـ.
قال بعض العلماء :
«ورفع الجبل فوقهم لإرشادهم آية من آيات الله تقوى إيمانهم بأن التوراة منزلة من
عند الله ، وقوة الإيمان من شأنها أن تدفع إلى العمل بما في الكتاب المنزل بجد
واجتهاد» .
وقوله (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أى : ووقع في نفوسهم أن الجبل ساقط عليهم إذا لم يستجيبوا
لما أمرهم به نبيهم ـ عليهالسلام ـ.
قال الجمل : وقوله
(وَظَنُّوا) فيه أوجه :
أحدها : أنه في
محل جر نسقا على نتقنا المخفوض بالظرف تقديرا.
والثاني : أنه حال
، و «قد» مقدرة عند بعضهم ، وصاحب الحال الجبل.
أى : كأنه ظلة في
حال كونه مظنونا وقوعه بهم.
والثالث : أنه
مستأنف فلا محل له. والظن هنا على بابه ، وقيل بمعنى اليقين».
وقوله (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) مقول لقول محذوف دل عليه المعنى.
والتقدير : وقلنا
لهم خذوا ما آتيناكم بقوة ، أى تمسكوا به واعملوا بما فيه يجد ونشاط ، وتقبلوه
بحسن استعداد وبدون تقصير أو تردد.
والمراد بقوله : (ما آتَيْناكُمْ) التوراة التي أنزلها الله على موسى لتكون هدى ونورا لهم.
وقوله (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أى : احفظوه وتدبروه وتدارسوه واعملوا به بلا تعطيل لشيء
منه.
__________________
قال القرطبي :
وهذا هو من المقصود من الكتب : العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان فحسب ، فقد روى
النسائي عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوى
إلى شيء منه» .
و «لعل» في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إما للتعليل فيكون المعنى : خذوا الكتاب بجد وعزم ،
واعملوا بما فيه بصدق وطاعة لتتقوا الهلاك في دنياكم وآخرتكم. وإما للترجى ، وهو
منصرف إلى المخاطبين فيكون المعنى : خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ولا
تنسوه وأنتم ترجون أن تكونوا من طائفة المتقين.
ولكن بنى إسرائيل
لم يذكروا ولم يتدبروا بل نقضوا العهد ، ولجوا في المعصية ، فاستحقوا لعنة الله
وغضبه ، وما ربك بظلام للعبيد.
وبذلك تكون سورة
الأعراف قد حدثتنا ـ من بين ما حدثتنا ـ من مطلعها إلى هنا عن هداية القرآن الكريم
، وعن يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب ، وجنة ونار ، وعن النداءات التي وجهها
الله ـ تعالى ـ لبنى آدم تذكيرا وتوجيها وتعليما حتى يسعدوا في دينهم ودنياهم ،
وعن أحوال السعداء والأشقياء في الآخرة وما يدور بينهم من مناقشات ومحاورات ، وعن قصة
آدم وإبليس وعن قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع أقوامهم ، ثم أفاضت السورة
الكريمة في حديثها عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.
والهدف الأول الذي
قصدته السورة مما عرضته من قصص وتوجيهات وإرشادات هو إثبات وحدانية الله ، وإخلاص
العبادة له ، وحمل الناس على السير في الطريق المستقيم ، وقد استعملت السورة في
عرضها لتلك الحقائق أساليب الترغيب والترهيب ، والتذكير بالنعم والتحذير من النقم
، وإقامة الحجج ودفع الشبه.
ثم بدأت السورة
بعد أن انتهت من حديثها عن بنى إسرائيل وحتى نهايتها تحدثنا عن قضية التوحيد من
زاوية جديدة عميقة ، زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر ، ولنتصاحب سويا ـ أيها
القارئ الكريم ـ متأملين فيما ساقته لنا السورة الكريمة في الربعين الأخيرين منها
من آيات تزخر بالأدلة العقلية والمنطقية التي تثبت وحدانية الله وتبطل الشرك
والشركاء ، مستعينة في ذلك بما تهدى إليه الفطرة البشرية والطبيعة الانسانية.
تدبر معى قوله ـ تعالى
ـ :
__________________
(وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا
إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا
بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)
وَكَذلِكَ
نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
(١٧٤)
قال صاحب المنار :
هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع
في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للايمان به وتمجيده وشكره ، في إثر بيان
هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بنى إسرائيل. فالمناسبة بين هذا وما
قبله ظاهرة ، ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة أو سياق على سياق .
قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الظهور : جمع ظهر وهو العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو
قوام بنيته.
والذرية : سلالة
الإنسان من الذكور والإناث.
وقوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل بعض من قوله (مِنْ بَنِي آدَمَ) و (ذُرِّيَّتَهُمْ) مفعول أخذ.
والمعنى : واذكر
أيها الرسول وذكر كل عاقل وقت أن استخرج الله ـ تعالى ـ من أصلاب بنى آدم ذريتهم ،
وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها ـ سبحانه ـ في أرحام الأمهات ، وجعلها علقة
ثم مضغة ، ثم جعلها بشرا سويا ، وخلقا كاملا مكلفا.
قال الآلوسى :
وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن
الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من
التمهيد للاستفهام الآتي. وقيل إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته
الآية من الميثاق ، فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج.
والتعبير بالرب
لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية.
وقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أى : أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل
__________________
وحدانيته ، وعجائب
خلقه ، وغرائب صنعته ، وبما أودع في قلوبهم من غريزة الإيمان ، وفي عقولهم من
مدارك تهديهم إلى معرفة ربهم وخالقهم.
وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) مقول لقول محذوف : أى : قائلا لهم ـ بعد أن أشهدهم على
أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل الوحدانية ـ ألست بربكم ، ومالك أمركم ، ومربيكم على
الإطلاق ، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شئونكم (قالُوا بَلى شَهِدْنا) أى : قالوا بلى شهدنا على أنفسنا عن عقيدة وإقناع بأنك أنت
ربنا وخالقنا ولا رب لنا سواك ، فإن آثار رحمتك وعجائب خلقك ، ومظاهر قدرتك تجعلنا
لا نتردد في هذه الشهادة.
و (بَلى) حرف جواب ، وتختص بالنفي فلا تقع إلا جوابه فتفيد إبطاله
سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام ولذلك قال ابن عباس وغيره ، لو قالوا نعم
لكفروا. لأن نعم حرف تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب.
قال صاحب الكشاف :
وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته
ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة
والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا :
بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام
الله ـ تعالى ـ وفي كلام رسوله صلىاللهعليهوسلم وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى ـ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما تمثيل وتصوير للمعنى» .
والمقصود من الآية
الكريمة الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته ـ تعالى ـ معرفة فطرية لازمة لهم
لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال ـ تعالى ـ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ).
والفطرة هي معرفة
ربوبيته ـ سبحانه ـ :
وقد وردت أحاديث
كثيرة تشهد بأن الناس قد فطرهم الله ـ تعالى ـ على معرفته ، ومن ذلك ما جاء في
الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما من مولود الا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ـ أى سالمة الأذن ـ هل تحسون فيها من
جدعاء ـ أى مقطوعة الأذن.
وفي صحيح مسلم عن
عياض بن حمار قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم : يقول الله ـ تعالى ـ إنى
__________________
خلقت عبادي حنفاء
، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ـ أى صرفتهم عن دينهم ـ وحرمت عليهم ما
أحللت لهم».
وروى الطبري عن
الحسن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كل نسمة تولد على
الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها» ولذلك يتبين لنا أن
المعنى الإجمالى للآية الكريمة أن الله ـ تعالى ـ نصب للناس في كل شيء من مخلوقاته
ـ ومنها أنفسهم ـ دلائل توحيده وربوبيته ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها
تمكنا تاما من معرفته والاستدلال بها على التوحيد والربوبية حتى صاروا بمنزلة من
إذا دعى إلى الإيمان بها سارع إليه بدون شك أو تردد.
فالكلام على سبيل
المجاز التمثيلى لكون الناس قد فطرهم الله ـ تعالى ـ على معرفته والإيمان به ،
وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته ، ولا إخراج للذرية ولا
قول ولا إشهاد بالفعل.
وعلى هذا الرأى
سار المحققون من مفسري السلف والخلف :
ويرى بعض المفسرين
أن معنى الآية الكريمة : أن الله ـ تعالى ـ مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذر ،
وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق ، وألهمهم ذلك الإقرار ، ثم أعادهم إلى ظهر أبيهم
آدم ، واستشهدوا لذلك بأحاديث وآثار ليست صحيحة الاسناد ، وما حسن إسناده منها فقد
أوله العلماء بما يتفق مع منطوق الآية الكريمة.
وقد رد أصحاب الرأى
الأول على هذا البعض بردود منها : أن الله ـ تعالى قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل من آدم ، وقال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل من ظهره ، وقال (ذُرِّيَّتَهُمْ) ولم يقل ذريته. قال (إِنَّما أَشْرَكَ
آباؤُنا) ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك ، لأن آدم حاشاه من الشرك بالله
ـ تعالى :
قال الإمام ابن
كثير بعد أن ساق عددا كبيرا من الأحاديث في هذا المعنى : ومن ثم قال قائلون من
السلف والخلف : إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في
حديث أبى هريرة وعياض والأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
سبب الاشهاد وعلله فقال : (أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أى : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا ، أو منعا من أن
تقولوا يوم القيامة معتذرين عن شرككم : إنا كنا عن هذا الأمر وهو إفراد الله ـ تعالى
ـ بالربوبية غافلين لم ننبه إليه ، لأنهم
__________________
ما داموا قد خلقوا
على الفطرة ، ونصب الله لهم في كل شيء من مخلوقاته ما يدل على وحدانيته ، وجاءتهم
الرسل فبشرتهم وأنذرتهم. فقد بطل عذرهم ، وسقطت حجتهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ
سببا آخر لهذا الاشهاد فقال : (أَوْ تَقُولُوا
إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ).
أى. وفعلنا ذلك ـ أيضا
منعا لكم من أن تقولوا يوم الحساب : إن آباءنا هم الذين سنوا هذا الإشراك وساروا
عليه فنحن قد اتبعناهم في ذلك بمقتضى أننا أبناؤهم ، وننهج نهجهم من بعدهم ، فإن
قولكم هذا غير مقبول بعد أن هيأ الله لكم من الأسباب ما يفتح قلوبكم لنور الحق لو
كنتم مستعدين لقبوله.
والاستفهام في
قوله (أَفَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) للإنكار. أى : أنت يا ربنا حكيم وعادل فهل تؤاخذنا بما فعل
آباؤنا من الشرك وأسسوا من الباطل أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول
وأقوال الرسل؟ إنك يا ربنا قد وعدت أنك لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء ونحن قد سلكنا
طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل فكيف تؤاخذنا؟.
والجواب على ذلك
أن الإقرار بالربوبية والتوحيد هو في أصل فطرتكم فلم لم ترجعوا إليه عند ما دعاكم
رسولنا الكريم إلى وحدانية الله ونبذ الشركاء إن انقيادكم للاباء بعد أن وهبكم
الله العقول المفكرة ، وأرسل إليكم الرسل مبشرين ومنذرين لن يعفيكم من المسئولية ،
ولن ينقذكم من العذاب.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ
وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى : ومثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبنى آدم الآيات
والدلائل ليستعملوا عقولهم ، ولعلهم يرجعون إلى فطرتهم وما استكن فيها من ميثاق ،
وإلى خلقتهم وما كمن فيها من ناموس. فالرجوع إلى الفطرة القويمة كفيل بغرس عقيدة
التوحيد في القلوب ، وردها إلى بارئها الواحد القهار الذي فطرها على الحق ، وصرفها
عن الجهل والتقليد.
هذا ، وقد أخذ
العلماء من هذه الآيات أمورا من أهمها :
١ ـ فساد التقليد
في الدين ، وأنه ـ تعالى ـ قد أزاح العذر ، وأزال العلل بحيث أصبح لا يعذر أحد
بكفره أو شركه.
٢ ـ أن معرفته ـ تعالى
ـ فطرية ضرورية. قال ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).
وروى الترمذي عن
عمران بن الحصين قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم لأبى : يا حصين كم إلها تعبد
اليوم. قال أبى :
سبعة ؛ ستة في الأرض وواحدا في السماء قال. فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك. قال : الذي
في السماء.
فالله ـ تعالى ـ فطر
الخلق كلهم على معرفة فطرة التوحيد ، حتى من خلق مجنونا لا يفهم شيئا ما يحلف إلا
به. ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس .
ثم ضرب ـ سبحانه ـ
مثلا لمن لا يعمل بعلمه فقال ـ تعالى ـ :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ(١٧٥) وَلَوْ شِئْنا
لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)
(١٧٧)
قال صاحب المنار :
هذا مثل ضربه الله ـ تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها
وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها ، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم ، بل كان
عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات ، لأن العلم الذي لا يعمل به لا
يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ، أو
كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له ، كالثوب الخلق يلقيه
صاحبه ، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر :
خلقوا ، وما
خلقوا لمكرمة
|
|
فكأنهم خلقوا
وما خلقوا
|
رزقوا ، وما
رزقوا سماح يد
|
|
فكأنهم رزقوا
وما رزقوا
|
__________________
فحاصل معنى المثل
: أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم
الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه ، لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل
واعتبار وإخلاص» .
وقوله ـ تعالى ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أى : اقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك
الإنسان الذي آتيناه آياتنا بأن علمناه إياه ، وفهمناه مراميها ، فانسلخ من تلك
الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، أو الحية من جلدها.
والمراد أنه خرج
منه بالكلية بأن كفر بها ، ونبذها وراء ظهره ، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات
وإرشادات.
وحقيقة السلخ كشط
الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه
انسلخ منه. وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة وقوله : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ
الْغاوِينَ) أى : فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من
زمرة الضالين الراسخين في الغواية ، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين :
وفي التعبير بقوله
(فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطانُ) مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره ، جعل كأنه إمام للشيطان
والشيطان يتبعه ، فهو على حد قول الشاعر :
وكان فتى من جند
إبليس فارتقى
|
|
به الحال حتى
صار إبليس من جنده
|
قال الجمل : أتبعه
فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعد
لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان.
وثانيهما : أن
يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره :
فأتبعه الشيطان خطواته ، أى جعله تابعا لها :
وقوله (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه.
والضمير في قوله (لَرَفَعْناهُ) يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول (الَّذِي) والضمير في قوله (بِها) يعود إلى الآيات. ومفعول المشيئة محذوف.
أى : ولو شئنا
رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعناه لأننا
__________________
لا يستعصى على
قدرتنا شيء ، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك
أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون.
وقد بين القرآن
هذا المعنى في قوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أخلد إلى الأرض : أى ركن إليها. وأصل الإخلاد اللزوم
للمكان من الخلود.
أى : ولو شئنا
لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذي ركن إلى
الدنيا ، واطمأن بها ، واستحوذت بشهواتها على نفسه ، واختار لنفسه طريق التسفل
المنافى للرفعة ، واتبع هواه في ذلك فلم ينتفع بشيء من الآيات التي آتيناه إياه.
أى : أن مقتضى هذه
الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين ، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من
أوتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى ، فتغلب المانع على المقتضى ، فهو كما
قال القائل :
قالوا فلان عالم
فاضل
|
|
فأكرموه مثلما
يقتضى
|
فقلت : لما لم
يكن عاملا
|
|
تعارض المانع
والمقتضى
|
قال الآلوسى : وما
ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه ـ تعالى ـ ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد
، مع أن الكل من الله ـ تعالى ـ ، إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه. ومن
هنا قال صلىاللهعليهوسلم اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» .
وقوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ).
اللهث : إدلاع
اللسان بالنفس الشديد. يقال : لهث الكلب يلهث ـ كسمع ومنع ـ لهثا ولهاثا ، إذا
أخرج لسانه في التنفس.
والمعنى : فمثل
هذا الإنسان الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له
سواء ، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ـ أيضا
ـ ، فهو دائم اللهث في الحالين. لأن اللهث طبيعة فيه ، وكذلك حال الحريص على
الدنيا ، المعرض عن الآيات بعد إيتائها ، إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة
لا يقبل الوعظ ، وإن تركت وعظه فهو حريص ـ أيضا ـ على الدنيا وشهواتها.
والإشارة في قوله (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات ، أى :
__________________
ذلك المثل البعيد
الشأن في الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين
عن الهدى بعد أن كان في حوزتهم.
وقوله (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) أى : إذا ثبت ذلك ، فاقصص على قومك أيها الرسول الكريم
المقصوص عليك من جهتنا لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال.
والفاء في قوله (فَاقْصُصِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والقصص مصدر بمعنى اسم
المفعول ، واللام فيه للعهد ، وجملة الترجي في محل نصب على أنها حال من ضمير
المخاطب أو في موضع المفعول له. أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم ، أو رجاء لتفكرهم.
وقوله : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا) استئناف مسوق لبيان كمال قبحهم بعد البيان السابق. و (ساءَ) بمعنى بئس وفاعلها مضمر. و (مَثَلاً) تمييز مفسر له ، والمخصوص بالذم قوله ـ تعالى ـ (الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا).
أى : ساء مثلا مثل
أولئك القوم الذين كذبوا بآياتنا حيث شبهوا بالكلاب إما في استواء الحالتين في
النقصان وأنهم ضالون وعظوا أم لم يوعظوا ، وإما في الخسة ، فإن الكلاب لا همة لها
إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن خير الهدى والعلم وأقبل على هواه صار
شبيها بالكلب ، وبئس المثل مثله ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليس لنا مثل السوء. العائد في هبته كالكلب يعود في
قيئه».
وقوله (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) معطوف على (كَذَّبُوا) داخل معه في حكم الصلة بمعنى أنهم جمعوا بين أمرين قبيحين
: التكذيب وظلمهم أنفسهم أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم وحدها بارتكابهم
تلك الموبقات والخطيئات. فإن العقوبة لا تقع إلا عليهم لا على غيرهم.
هذا ، والذي ذهب
إليه المحققون من العلماء أن هذه الآيات الكريمة المثل فيها مضروب لكل إنسان أوتى
علما ببعض آيات الله ، ولكنه لم يعمل بمقتضى علمه ، بل كفر بها ونبذها وراء ظهره
وصار هو والجاهل سواء.
وقيل : إن الآيات
الكريمة واردة في شخص معين ، واختلفوا في هذا المعين.
فبعضهم قال إنها
في أمية بن أبى الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولا وتمنى أن
يكون هو هذا الرسول ، فلما أرسل الله ـ تعالى ـ نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم حسده ومات كافرا.
وبعضهم قال : نزلت
في أبى عامر الراهب الذي سماه النبي صلىاللهعليهوسلم : «الفاسق» كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج
إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق.
وبعضهم قال : إنها
في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون صفة النبي صلىاللهعليهوسلم ومخرجه ، فلما بعثه الله ـ تعالى ـ كفروا به.
وبعضهم قال : إنها
نزلت لتحكى قصة رجل من علماء اليهود اسمه بلعم ابن باعوراء أوتى علم بعض كتب الله
ثم انسلخ منها بأن كفر بها ونبذها بعد أن رشاه اليهود.
والذي نراه أن
الرأى الأول الذي عليه المحققون من المفسرين هو الراجح ، وأن هؤلاء الذين ذكروا
يندرجون تحته ، لأنه لم يرد نص صحيح يعين اسم الذي وردت الآيات في حقه ، فوجب أن
نحملها على أنها وارد في شأن كل من علم الحق فأعرض عنه واتبع هواه.
ثم يعقب القرآن
على هذا المثل ببيان أن الهداية والضلال من الله وأن هناك أقواما من الجن والإنس
قد خلقوا لجهنم بسبب إيثارهم طريق الشر على طريق الخير قال ـ تعالى ـ :
(مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)
(١٧٩)
قوله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أى : من يوفقه الله ـ تعالى ـ إلى سلوك طريق الهدى
باستعمال عقله وحواسه بمقتضى سنة الفطرة فهو المهتدى حقا ، الواصل إلى رضوان الله
صدقا.
(وَمَنْ يُضْلِلْ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أى : ومن يخذله ـ سبحانه ـ بالحرمان من هذا التوفيق بسبب
إيثاره السير في طريق الهوى والشيطان على طريق الهدى والإيمان ، فأولئك هم
الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.
وأفرد ـ سبحانه ـ المهتدى
في الجملة الأولى مراعاة للفظ (مَنْ) ، وجمع الخاسرين في الثانية مراعاة لمعناها فإنها من صيغ
العموم.
وحكمة إفراد
المهتدى للإشارة إلى أن الحق واحد لا يتعدد ولا يتنوع ، وحكمة جمع الثاني وهو قوله
(الْخاسِرُونَ) للإشارة إلى تعدد أنواع الضلال ، وتنوع وسائله وأساليبه.
وقوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِ) كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله ومفصل له. و «الذرء»
الخلق. يقال : ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذرءا ، أى : خلقهم. واللام في (لِجَهَنَّمَ) للعاقبة والصيرورة.
أى : ولقد خلقنا
لدخول جهنم والتعذيب بها كثيرا من الجن والانس وهم الكفار المعرضون عن الآيات
وتدبرها ، الذين علم الله منهم أزلا اختيارهم الكفر فشاءه منهم وخلقه فيهم وجعل
مصيرهم النار لذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ
صفاتهم التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها) أى : لا يفقهون بها الآيات الهادية إلى الكمالات مع أن
دلائل الإيمان مبثوثة في ثنايا الكون تدركها القلوب المتفتحة ، والبصائر
المستنيرة.
وجملة (لَهُمْ قُلُوبٌ) في محل نصب صفة أخرى لقوله (كَثِيراً) وجملة (لا يَفْقَهُونَ بِها) في محل رفع صفة لقلوب.
وقوله (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) أى : لهم أعين لا يبصرون بها ما في هذا الكون من براهين
تشهد بوحدانية الله ، مع أنها معروضة للأبصار مكشوفة للأنظار ، فهم كما قال ـ تعالى
ـ ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) فهم لهم أعين ترى وتبصر ولكن بدون تأمل أو اعتبار ، فكأن
وجودها وعدمه سواء.
وقوله (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أى : لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ ، أى
أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.
قال صاحب الكشاف :
«هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم : وجعلهم في أنهم لا يلقون
أذهانهم إلى معرفة الحق ، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار ، ولا
يسمعون ما يتلى عليهم من آيات سماع تدبر كأنهم عدموا فهم القلوب ، وإبصار العيون
واستماع الآذان ، وجعلهم ـ لإعراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه ، وأنه لا يأتى
منهم إلا أفعال أهل النار ـ مخلوقين للنار ، دلالة على توغلهم في الموبقات ،
وتوغلهم فيما يؤهلهم لدخول النار» .
__________________
وقوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات المذكورة كالأنعام
السارحة التي لا تنتفع بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.
وقوله (بَلْ هُمْ أَضَلُ) تنقيص لهم عن رتبة الأنعام ، أى : بل هم أسوأ حالا من
الأنعام ، إذ أن الأنعام ليس لها سوى الاستعدادات الفطرية التي تهديها أما الإنسان
فقد زود إلى جانب الفطرة بالقلب الواعي ، والعقل المدرك ، والعين المبصرة ، وزود
بالقدرة على اتباع الهدى أو اتباع الضلال ، فإذا لم يفتح بصره وقلبه وسمعه على
الحق فإنه يكون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية.
وقوله (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أى أولئك المنعوتون بما ذكرهم الكاملون في الغفلة عما فيه
صلاحهم وخيرهم وسعادتهم ، بسبب استحواذ الهوى والشيطان عليهم ولا يظلم ربك أحدا.
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ حال المخلوقين لجهنم بسبب غفلتهم وإهمالهم لعقولهم وحواسهم ، أعقبه ببيان العلاج
الذي يشفى من ذلك ، وبالنهى عن اتباع المائلين عن الحق فقال ـ تعالى ـ :
(وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(١٨٠)
قال القرطبي :
قوله ـ تعالى ـ (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أمر بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ومجانبة الملحدين
والمشركين. قال مقاتل وغيره من المفسرين : نزلت الآية في رجل من المسلمين كان يقول
في صلاته : يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركي مكة : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم
يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فنزلت» .
والأسماء : جمع
اسم ، وهو اللفظ الدال على الذات فقط أو على الذات مع صفة من صفاتها سواء كان
مشتقا كالرحمن ، والرحيم ، أو مصدرا كالرب والسلام.
والحسنى : تأنيث
الأحسن أفعل تفضيل ، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها ، لإنبائها عن أحسن
المعاني وأشرفها.
والمعنى : ولله ـ تعالى
ـ وحده جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات فادعوه أى سموه واذكروه
ونادوه بها.
__________________
روى الشيخان عن
أبى هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة والله وتر
يحب الوتر».
قال الآلوسى :
والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه ـ عزت أسماؤه ـ في التسعة والتسعين ، ويدل على ذلك
ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من أصابه هم أو
حزن فليقل : اللهم إنى عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي في يدك ماضى فىّ حكمك ،
عدل فىّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو
علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي
ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزنى ... إلخ» فهذا الحديث صريح في عدم الحصر.
وحكى النووي اتفاق
العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها
دخل الجنة ، وهو لا ينافي أن له ـ تعالى ـ أسماء غيرها» .
ثم قال ـ تعالى ـ (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
ذروا : فعل أمر لم
يرد في اللغة استعمال ماضيه ولا مصدره ، وهو بمعنى الترك والإهمال.
ويلحدون من
الإلحاد وهو الميل والانحراف ، يقال : ألحد إلحادا إذا مال عن القصد والاستقامة ،
وألحد في دين الله : حاد عنه ؛ ومنه لحد القبر لأنه يمال بحفره إلى جانبه بخلاف
الضريح فإنه يحفر في وسطه.
والمعنى : ولله ـ تعالى
ـ أشرف الأسماء وأجلها فسموه بها أيها المؤمنون ، واتركوا جميع الذين يلحدون في
أسمائه ـ سبحانه ـ بالميل بألفاظها أو معانيها عن الحق من تحريف أو تأويل أو تشبيه
أو تعطيل أو ما ينافي وصفها بالحسنى اتركوا هؤلاء جميعا فإنهم سيلقون جزاء عملهم
من الله رب العالمين.
ومن مظاهر إلحاد
الملحدين في أسمائه ـ تعالى ـ تسمية أصنامهم بأسماء مشتقة منها ، كاللات : من الله
ـ تعالى ـ ، والعزى : من العزيز ، ومناة : من المنان وتسميته ـ تعالى ـ بما بوهم
معنى فاسدا ، كقولهم له ـ سبحانه ـ : يا أبيض الوجه كذلك من مظاهر الإلحاد في
أسمائه ـ تعالى ـ ، تسميته بما لم يسم به نفسه في كتابه ، أو فيما صح من حديث
رسوله ، إلى غير ذلك مما يفعله الجاهلون والضالون.
ثم تمضى السورة
الكريمة في هديها وتوجيهها فتفصل صنوف الخلق ، وتمدح من يستحق المدح وتذم من يستحق
الذم فتقول :
__________________
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢)
وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(١٨٤)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
وقوله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) معطوف على قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) قبل ذلك ، لأن كلتيهما تفصيل لإجمال قوله ـ تعالى ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي).
أى : وممن خلقنا
للجنة ـ لأنه في مقابلة (وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ) ـ أمة يهدون بالحق ، أى : يدعون إليه ويسيرون عليه ، وبه
يعدلون أى : به يقضون وينصفون الناس.
وقد وردت آثار
تفيد أن المراد بهذه الأمة : الأمة المحمدية ففي الصحيحين عن معاوية بن أبى سفيان
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا تزال طائفة من
أمتى على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة ، وفي رواية : «حتى يأمر
الله وهم على ذلك» :
وقال قتادة :
بلغنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأ هذا الآية يقول : هذه لكم ، وقد أعطى القوم
بين أيديكم مثلها.
وعن الربيع بن أنس
ـ في هذه الآية ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما
نزل».
وقد استدل بعض
العلماء بهذه الآية على أن الإجماع حجة في كل عصر ، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد
إلى قيام الساعة.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
حال المكذبين فقال. (وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).
الاستدراج : ـ كما
قال القرطبي ـ هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة. والدرج لف الشيء ، يقال :
أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل : هو من الدرجة ، فالاستدراج أن
يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة»
.
وقال صاحب الكشاف
: الاستدراج : استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ،
ومنه : درج الصبى إذا قارب بين خطوه ، وأدرج الكتاب. طواه شيئا بعد شيء ، ودرج
القوم : مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم. وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم
في الغي ، فكلما جدد عليهم نعمة ، ازدادوا بطرا وجددوا معصية ، فيتدرجون في
المعاصي بسبب ترادف النعم ، ظانين أن متواترة النعم محبة من الله وتقريب. وإنما هي
خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج من الله ـ تعالى ـ نعوذ بالله منه» .
وقد قيل : إذا
رأيت الله ـ تعالى ـ أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج.
وقوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الإملاء : الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير ، مشتق من
الملاوة والملوة ، وهي الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان : الليل والنهار.
ويقال : أملى له
إذا أمهله طويلا ، وأملى للبعير : إذ أرخى له في الزمام ووسع له في القيد ليتسع المرعى.
والكيد كالمكر ،
وهو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى
ينتهى إلى ما يسوءه من مخبره وغايته. وإضافته إلى الله ـ تعالى ـ يحمل على المعنى
اللائق به ، كإبطال مكر أعدائه أو إمدادهم بالنعم ثم أخذهم بالعذاب.
ومتين : من
المتانة بمعنى الشدة والقوة. ومنه المتن للظهر أو للحم الغليظ.
والمعنى. والذين
كذبوا بآياتنا سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم بكثرة النعم بين
أيديهم ، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من
الاستدراج. وأمهل لهؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر ، وأمد لهم في أسباب الحياة
الرغدة ، إن كيدي شديد متين لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وفي الحديث الشريف الذي رواه
الشيخان عن أبى موسى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
__________________
وقوله (وَأُمْلِي لَهُمْ) جوز بعضهم أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أى : وأنا أملى لهم.
وقيل هو معطوف على قوله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) وقيل هو مستأنف.
ثم أمر ـ سبحانه ـ
هؤلاء الظالمين بالتفكر والتدبر فقال : (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ، ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).
الهمزة للإنكار
والتوبيخ ، وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من سياق القول ، والواو للعطف على مقدر
يستدعيه المقام.
والجنة : مصدر
كالجلسة بمعنى الجنون. وأصل الجن الستر عن الحاسة.
والمعنى : أكذب
هؤلاء الظالمون رسولهم صلىاللهعليهوسلم ولم يتفكروا في أنه ليس به أى شيء من الجنون ، بل هو أكمل
الناس عقلا ، وأسدهم رأيا ، وأنقاهم نفسا.
والتعبير (بِصاحِبِهِمْ) للإيذان بأن طول مصاحبتهم له مما يطلعهم على نزاهته عما
اتهموه به ، فهو صلىاللهعليهوسلم قد لبث فيهم قبل الرسالة أربعين سنة كانوا يلقبونه فيها
بالصادق الأمين ، ويعرفون عنه أسمى ألوان الإدراك السليم والتفكير المستقيم.
قال الجمل : وجملة
«ما بصاحبهم من جنة» في محل نصب معمولة ليتفكروا فهو عامل فيها محلا لا لفظا لوجود
المعلق له عن العمل وهو ما النافية.
ويجوز أن يكون
الكلام قد تم عند قوله (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا) ثم ابتدأ كلاما آخر إما استفهام إنكار وإما نفيا. ويجوز أن
تكون «ما» استفهامية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم. والتقدير : أى شيء
استقر بصاحبهم من الجنون» .
وقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيان لوظيفته صلىاللهعليهوسلم أى : ليس بمجنون كما زعمتم أيها المشركون وإنما هو مبالغ
في الإنذار ، مظهر له غاية الإظهار. فهو لا يقصر في تخويفكم من سوء عاقبة التكذيب
، ولا يتهاون في نصيحتكم وإرشادكم إلى ما يصلح من شأنكم.
ثم دعاهم القرآن
إلى النظر والاستدلال العقلي فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ).
الملكوت : هو
الملك العظيم زيدت فيه اللام والتاء للمبالغة كما في جبروت.
والجملة الكريمة
مسوقة لتوبيخهم على إخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية إثر تقريعهم على عدم
تفكرهم في أمر نبيهم صلىاللهعليهوسلم.
__________________
أى : أكذبوا ولم
يتفكروا في شأن رسولهم صلىاللهعليهوسلم وما هو عليه من كمال العقل ، ولم ينظروا نظر تأمل واعتبار
واستدلال في ملكوت السموات من الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، وفي ملكوت الأرض من
البحار والجبال والدواب وغيرها ، ولم ينظروا كذلك فيما خلق الله مما يقع عليه اسم
الشيء من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف مما يشهد بأن لهذا الكون خالقا
قادرا هو المستحق وحده للعبادة والخضوع.
وقوله (مِنْ شَيْءٍ) بيان «لما» وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير
مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده.
وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ
اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) في محل جر معطوف على ما قبله ، و (أَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، وخبرها عسى مع
فاعلها الذي هو (أَنْ يَكُونَ).
والمعنى : أو لم
ينظروا ـ أيضا ـ في اقتراب آجالهم ، وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه
إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت لهم ونزول العذاب بهم وهم في أتعس حال.
إنهم لو تفكروا في
أمر رسولهم صلىاللهعليهوسلم ولو نظروا فيما خلق الله من مخلوقات بعين التدبر والاتعاظ
، لآمنوا وهدوا إلى صراط العزيز الحميد.
وقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أى : إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو أكمل كتب الله بيانا ،
وأقواها برهانا ، فبأى كلام بعده يؤمنون؟.
والجملة الكريمة
مسوقة للتعجب من أحوالهم. ولقطع أى أمل في إيمانهم لأنهم ما داموا لم يؤمنوا بهذا
الرسول المؤيد بالمعجزات ، وبهذا الكلام المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية ،
فأحرى بهم ألا يؤمنوا بغير ذلك.
ثم عقب القرآن على
هذا التوبيخ والتهديد للمشركين بقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
أى : من يرد الله
إضلاله بسبب اختياره للضلالة ، وصممه عن الاستماع للحق فلا قدرة لأحد على هدايته ،
وهو ـ سبحانه ـ يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم متحيرين مترددين.
ثم بينت السورة
الكريمة أن أمر الساعة مرده إلى الله ـ تعالى ـ ، وأن السائلين عن وقتها من الأحسن
لهم أن يستعدوا لها بدل أن يكثروا من السؤال عن زمن مجيئها فقالت :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ
إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها
عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(١٨٨)
قال الآلوسى : عن
ابن عباس أن قوما من اليهود قالوا : يا محمد ، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا. إنا
نعلم متى هي ، وكان ذلك امتحانا منهم ، مع علمهم أن الله ـ تعالى ـ قد استأثر
بعلمها. وأخرج ابن جرير عن قتادة أن جماعة من قريش قالوا : يا محمد أسر إلينا متى
الساعة لما بيننا وبينك من القرابة فنزلت» .
وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها) استئناف مسوق لبيان بعض أنواع ضلالهم وطغيانهم.
والساعة في الأصل
اسم لمدار قليل من الزمان غير معين ، وتطلق في عرف الشرع على يوم القيامة وهو
المراد بالسؤال هنا.
وأطلق على يوم
القيامة ساعة إما لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله قدر
يسير عند الله ـ تعالى ـ.
و (أَيَّانَ) ظرف زمان متضمن معنى متى. و (مُرْساها) مصدر ميمى من أرساها إذا أثبته وأقره ، ولا يكاد يستعمل
الإرساء إلا في الشيء الثقيل كما في قوله ـ تعالى ـ (وَالْجِبالَ أَرْساها) ونسبته هنا إلى الساعة باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام. و (أَيَّانَ) خبر مقدم ومُرْساها) مبتدأ مؤخر.
__________________
والمعنى : يسألك
يا محمد هؤلاء القوم عن الساعة قائلين أيان مرساها؟.
أى متى إرساؤها
واستقرارها ، أو متى زمن مجيئها وحصولها؟.
وقوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) جواب عن سؤالهم : أى : قل أيها الرسول الكريم : علم الساعة
أو علم قيامها عند ربي وحده ليس عندي ولا عند غيرى من الخلق شيء منه.
والتعبير بإنما
المفيد للحصر للاشعار بأنه ـ سبحانه ـ هو الذي استأثر بعلم ذلك ولم يخبر أحدا به
من ملك مقرب أو نبي مرسل.
وقوله (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) بيان لاستمرار إخفائها إلى حين قيامها وإقناط كلى عن إظهار
أمرها بطريق الإخبار.
والتجلية : الكشف
والإظهار. يقال : جلى لي الأمر وانجلى وجلاه تجلية بمعنى : كشفه وأظهره أتم
الإظهار.
والمعنى : لا يكشف
الحجاب عن خفائها ، ولا يظهرها للناس في الوقت الذي يختاره إلا الله وحده.
قال بعضهم :
والسبب في إخفاء الساعة عن العباد لكي يكونوا دائما على حذر ، فيكون ذلك أدعى
للطاعة وأزجر عن المعصية ، فإنه متى علمها المكلف ربما تقاصر عن التوبة وأخرها.
ثم عظم ـ سبحانه ـ
أمر الساعة فقال (ثَقُلَتْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : كبرت أو شقت على أهلها لخوفهم من شدائدها وأهوالها
وما فيها من محاسبة ومجازاة ، وعن السدى : أن من خفى عليه علم شيء كان ثقيلا عليه.
أو المعنى : ثقلت
عند الوقوع على نفس السموات حتى انشقت وانتثرت نجومها وكورت شمسها ، وعلى نفس
الأرض حتى سيرت جبالها ، وسجرت بحارها ، وقوله : «لا تأتيكم إلا بغتة» أى : لا
تأتيكم إلا فجأة وعلى حين غفلة من غير توقع ولا انتظار.
وقد وردت أحاديث
متعددة تؤيد وقوع الساعة فجأة ، ومنها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا
يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ـ أى ناقته ذات
اللبن ـ فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه ـ أى يطليه بالجص أو الطين ـ فلا
يسقى فيه. ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فمه فلا يطعمها».
ثم قال ـ تعالى ـ (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها
قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
أى : يسألونك يا
محمد هذا السؤال كأنك حفى عنها أى : كأنك حفى عنها أى : كأنك عالم بها. من حفى عن
الشيء إذا بحث عن تعرف حاله بتتبع واستقصاء ومن بحث عن شيء وسأل عنه استحكم علمه
به ، وعدى (حَفِيٌ) بعن اعتبارا لأصل معناه ، وهو السؤال والبحث.
قال صاحب الكشاف :
(كَأَنَّكَ حَفِيٌّ
عَنْها) عالم بها. وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ
في المسألة عن الشيء والتنقير عنه. استحكم علمه فيه ورصن ـ أى ثبت وتمكن ـ ، وهذا
التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، واحتفاء البقل ، استئصاله ، وأحفى في
المسألة إذا ألحف ـ أى ألح وتشدد ـ وحفى بفلان وتحفى به : بالغ في البر به .. وقيل
: إن قريشا قالت له إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة؟ فقيل : يسألونك عنها
كأنك حفى تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى علمها عن غيرهم ، ولو
أخبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في اخبارك به ، لكنت مبلغه للقريب والبعيد من غير
تخصيص ، كسائر ما أوحى إليك.
ثم قال : فإن قلت
: لم كرر يسألونك وإنما علمها عند الله؟ قلت : للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وعلى هذا تكرير العلماء والحذاق» .
وقال صاحب
الانتصاف : وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلقى إلا في الكتاب العزيز ، وهو أجل
من أن يشارك فيها. وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرار أن الكلام إذا بنى على
مقصد واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده ، طرى
بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته ، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ،
وسيأتى ، وهذا منها فإنه لما ابتدأ الكلام. بقوله «يسألونك عن الساعة أيان مرساها»
ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله (قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) إلى قوله (بَغْتَةً) أن يدمغ تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو
المضمن في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ
عَنْها) وهو شديد التعلق بالسؤال وقد بعد عهده ، فطري ذكره تطرية
عامة ، ولا تراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله
بما تقدم. فمن ثم قيل (يَسْئَلُونَكَ) ولم يذكر المسئول عنه وهو «الساعة» اكتفاء بما تقدم ، فلما
كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه» .
هذا ، وإذا كان
علم الساعة مرده إلى الله وحده ، فإن هناك نصوصا من الكتاب والسنة تحدثت عن
أماراتها وعلاماتها ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :
__________________
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. فَأَنَّى
لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ).
والأشراط : جمع
شرط ـ بفتح الشين والراء ـ وهي العلامات الدالة على قربها ، وأعظم هذه العلامات
بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم إذ بها كمل الدين وما بعد الكمال إلا الزوال.
وقد ثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ويفرج بين إصبعيه
الوسطى والسبابة.
وفي حديث جبريل المشهور
أنه سأل النبي صلىاللهعليهوسلم عن الساعة ، فقال له ما المسئول عنها بأعلم من السائل ،
وسأخبرك عن أشراطها :
«إذا ولدت الأمة
ربها ـ أى سيدها ـ ، وإذا تطاول رعاة الإبل في البنيان».
ومن علامات الساعة
ـ كما صرحت بذلك الأحاديث ـ قبض العلم ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ،
ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا
فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» ومنها ـ أى من علامات الساعة ـ كثرة الزلازل
، وتقارب الزمان ـ أى قلة البركة في الوقت بحيث يمر الشهر كأنه أسبوع ـ ، وظهور
الفتن وكثرة الهرج ـ أى القتل إلى غير ذلك من العلامات التي وردت في الأحاديث
النبوية ، وقد ساق بعض المفسرين وعلى رأسهم ابن كثير جملة منها .
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يبين للناس أن كل الأمور بيد الله ـ تعالى ـ ، وأن علم
الغيب كله مرجعه إليه ـ سبحانه ـ فقال :
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أى : لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما.
وقوله (لِنَفْسِي) متعلق بأملك. أو بمحذوف وقع حالا من (نَفْعاً) والمراد : لا أملك ذلك في وقت من الأوقات.
وقوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء متصل. أى لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا في وقت من
الأوقات إلا في وقت مشيئة الله بأن يمكنني من ذلك ، فإننى حينئذ أملكه بمشيئته.
وقيل : الاستثناء
منقطع ، أى لكن ما شاء الله من ذلك كائن.
__________________
وقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أى : لكانت حالي ـ كما قال الزمخشري ـ على خلاف ما هي عليه
من استكثار الخير ، واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها
ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ، ورابحا وخاسرا في التجارات ومصيبا
ومخطئا في التدابير» .
قال الجمل : فان
قلت : قد أخبر صلىاللهعليهوسلم عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم
معجزاته فكيف نوفق بينه وبين قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ) .. إلخ.؟ قلت : يحتمل أنه قاله على سبيل التواضع والأدب ،
والمعنى : لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي.
ويحتمل أن يكون
قال ذلك قبل أن يطلعه الله على علم الغيب. فلما أطلعه الله أخبر به كما قال ـ تعالى
ـ (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ، ثم بعد
ذلك أظهره ـ سبحانه ـ على أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة
على صحة نبوته .
ثم بين القرآن
وظيفة الرسول صلىاللهعليهوسلم في قوله (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى : ما أنا إلا عبد أرسلنى الله نذيرا وبشيرا ، وليس من
مهمتى أو وظيفتي معرفة علم الغيب.
وقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق بقوله (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) جميعا لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالإنذار والتبشير ،
ويجوز أن يتعلق بقوله (بَشِيرٌ) وحده ، وعليه يكون متعلق النذير محذوف أى : للكافرين. وحذف
للعلم به :
وبهذا الإعلان من
جانب الرسول صلىاللهعليهوسلم للناس عن وظيفته ، تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص
التجريد المطلق من الشرك في أية صورة من صوره ، وتنفرد الذات الإلهية بخصائص لا
يشاركها فيها بشر ولو كان هذا البشر محمدا صلىاللهعليهوسلم فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية ، ويقف العلم البشرى ،
وتقف القدرة البشرية ، إذ علم الغيب إنما هو لله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض
ولا في السماء.
ثم تحدثت السورة
بعد ذلك عن مظاهر قدرة الله وأدلة وحدانيته ، فذكرت الناس بمبدأ نشأتهم ، وكيف أن
بعضهم قد انحرف عن طريق التوحيد إلى طريق الشرك ، وساقت ذلك في صورة القصة لضرب
المثل من واقع الحياة فقالت :
__________________
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
(١٩٠)
قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) استئناف مسوق لبيان ما يقتضى التوحيد الذي هو المقصد
الأعظم.
أى. إن الذي يستحق
العبادة والخضوع ، والذي عنده مفاتح الغيب هو الله الذي خلقكم من نفس واحدة هي نفس
أبيكم آدم ، وجعل من نوع هذه النفس وجنسها زوجها حواء ، ثم انتشر الناس منهما بعد
ذلك كما قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).
وقوله (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أى : ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر ، لأن الجنس إلى الجنس
أميل وبه آنس. وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى
ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه.
فالأصل في الحياة
الزوجية هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار وهذه نظرة الإسلام إلى تلك الحياة
قال ـ تعالى ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).
والضمير المستكن
في (لِيَسْكُنَ) يعود إلى النفس ، وكان الظاهر تأنيثه لأن النفس من
المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها وهي قوله (واحِدَةٍ) إلا أنه جاء مذكرا هنا باعتبار أن المراد من النفس هنا ـ آدم
عليهالسلام ـ «ولو أنث على حسب الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى ،
فكان التذكير كما يقول الزمخشري ـ أحسن طباقا للمعنى.
وقوله (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ).
الغشاء : غطاء
الشيء الذي يستره من فوقه ، والغاشية ؛ الظلة التي تظل الإنسان من سحابة أو غيرها.
والتغشى كناية عن الجماع. أى فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوجة التي هي الأنثى
وتدثرها لقضاء شهوتهما (حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً). أى : حملت منه محمولا خفيفا وهو الجنين في أول حملة لا
تجد المرأة له ثقلا لأنه يكون نطفة ثم مضغة ، ولا ثقل له يذكر في تلك الأحوال (فَمَرَّتْ بِهِ) أى : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير نقصان ولا إسقاط. أو
المعنى : فاستمرت به كما كانت من قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت من غير مشقة وتلك
هي المرحلة الأولى من مراحل الحمل.
وتأمل معى ـ أيها
القارئ الكريم ـ مرة أخرى قوله ـ تعالى : (فَلَمَّا تَغَشَّاها
حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) لترى سمو القرآن في تعبيره ، وأدبه في عرض الحقائق. إن
أسلوبه يلطف ويدق عند تصوير العلاقة بين الزوجين ، فهو يسوقها عن طريق كناية بديعة
تتناسب مع جو السكن والمودة بين الزوجين وتتسق مع جو الستر الذي تدعو إليه الشريعة
الإسلامية عند المباشرة بين الرجل والمرأة ، ولا نجد كلمة تؤدى هذه المعاني أفضل
من كلمة (تَغَشَّاها).
ثم تأتى المرحلة
الثانية من مراحل الحمل فيعبر عنها القرآن بقوله : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ).
أى : فحين صارت
ذات ثقل يسبب نمو الحمل في بطنها ، فالهمزة للصيرورة كقولهم : أتمر فلان وألبن أى
: صار ذا تمر ولبن.
أى : وحين صارت
الأم كذلك وتبين الحمل ، وتعلق به قلب الزوجين ، توجها إلى ربهما يدعوانه بضراعة
وطمع بقولهما : (لَئِنْ آتَيْتَنا
صالِحاً) أى لئن أعطيتنا نسلا سويا تام الخلقة ، يصلح للأعمال
الإنسانية النافعة (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) لك على نعمائك التي من أجلها هذه النعمة واستجاب الله
للزوجين دعاءهما ، فرزقهما الولد الصالح فماذا كانت النتيجة؟.
لقد كانت النتيجة
عدم الوفاء لله فيما عاهداه عليه ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أى : فحين أعطاهما ـ سبحانه ـ الولد الصالح الذي كانا
يتمنيانه ، جعلا لله ـ تعالى ـ شركاء في هذا العطاء ، وأخلا بالشكر في مقابلة هذه
النعمة أسوأ إخلال ، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان ، أو إلى الطبيعة
كما يزعم الطبعيون أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة
والشكر.
وقوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه فيه معنى التعجب من أحوالهم. أى : تنزه ـ سبحانه ـ وتقدس
عن شرك هؤلاء الأغبياء الجاحدين الذين يقابلون نعم الله بالإشراك والكفران.
والضمير في (يُشْرِكُونَ) يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء : هذا
والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله
ـ تعالى ـ أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ،
وأعطاهم الذرية ، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم ، ولكنهم جحدوا نعمه
وأشركوا معه في العبادة والشكر آلهة أخرى (فَتَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ويرى بعض المفسرين
أن المراد بهذا السياق آدم وحواء ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد ـ بسنده
ـ عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها
سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحى الشيطان
وأمره.
وقد أثبت ابن كثير
في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه ، ثم قال : قال الحسن : عنى الله ـ تعالى ـ بهذه
الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود
والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا. قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير
وأولى ما حملت عليه الآية ، ونحن على مذهب الحسن البصري في هذا ، وأنه ليس المراد
من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وقال صاحب الانتصاف
: والأسلم والأقرب أن يكون المراد ـ والله أعلم ـ جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه
إلى معين. وكأن المعنى خلقكم جنسا واحدا ، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ،
فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين
كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم : «بنو
فلان قتلوا قتيلا» يعنى من نسبة البعض إلى الكل .
والذي نراه أن
الآيتين واردتان في توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله ـ تعالى ـ لأن
الأحاديث والآثار التي وردت في أنهما وردتا في شأن آدم وحواء لتسميتهما ابنهما
بعبد الحارث اتباعا لوسوسة الشيطان لهما ـ ليست صحيحة ، كما أثبت ذلك علماء
الحديث.
ثم أخذت السورة
بعد ذلك في توبيخ المشركين ، وفي إبطال شركهم بأسلوب منطقي حكيم فقالت :
__________________
(أَيُشْرِكُونَ ما لا
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ
ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ)
(١٩٨)
قوله ـ تعالى ـ (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً
وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أى : أيشركون به ـ تعالى ـ وهو الخالق لهم ولكل شيء ، ما
لا يخلق شيئا من الأشياء مهما يكن حقيرا ، بل إن هذه الأصنام التي تعبد من دون
الله مخلوقة ومصنوعة ، فكيف يليق بسليم العقل أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق
القادر.
والاستفهام
للإنكار والتجهيل. والمراد بما في قوله (ما لا يَخْلُقُ
شَيْئاً) أصنامهم ، ورجع الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها ، كما أن
إرجاع ضمير الجمع إليها في قوله (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لرعاية معناها.
وجاء بضمير
العقلاء في (يُخْلَقُونَ) مسايرة لهم في اعتقادهم أنها تضر وتنفع.
ثم قال ـ تعالى ـ :
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أى : أن هذه الأصنام فضلا عن كونها مخلوقة ، فإنها لا
تستطيع أن تجلب لعابديها نصرا على أعدائهم ، بل إنها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها
شرا ، ومن هذه صفته كيف يعبد من دون الله؟ قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
عجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على المطلوب
من غير تحصيله للطالب فقال : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أى : وإن تدعو أيها المشركون هذه الأصنام إلى الهدى
والرشاد لا يتبعوكم ، أى أنهم لا ينفعوكم بشيء ولا ينتفعون منكم بشيء.
وقوله (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله.
أى : مستو عندكم
دعاؤكم إياهم وبقاؤكم على صمتكم ، فإنه لا يتغير حالكم في الحالين ، كما لا يتغير
حالهم بحكم أنهم جماد.
ثم مضى القرآن في
دعوته إياهم إلى التدبر والتعقل فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ).
أى : إن هذه
الأصناف التي تعبدونها من دون الله ، أو تنادونها لدفع الضر أو جلب النفع (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أى : مماثلة لكم في كونها مملوكة لله مسخرة مذللة لقدرته
كما أنكم أنتم كذلك فكيف تعبدونها أو تنادونها؟.
وأطلق عليها لفظ (عِبادٌ) ـ مع أنها جماد ـ وفق اعتقادهم فيها تبكيتا لهم وتوبيخا.
وقوله (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أى : فادعوهم في
رفع ما يصيبكم من ضر ، أو في جلب ما أنتم في حاجة إليه من نفع (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أن هذه الأصنام قادرة على ذلك.
ثم تابع القرآن
تقريعه لهذه الأصنام وعابديها فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها).
الاستفهام للإنكار
، والمعنى : أن هذه الأصنام التي تزعمون أنها تقربكم إلى الله زلفى هي أقل منكم
مستوى لفقدها الحواس التي هي مناط الكسب إنها ليس لها أرجل تسعى بها إلى دفع ضر أو
جلب نفع ؛ وليس لها أيد : تبطش بها أى تأخذ بها ما تريد أخذه ، وليس لها أعين تبصر
بها شئونكم وأحوالكم وليس لها آذان تسمع بها أقوالكم ، وتعرف بواسطتها مطالبكم ،
فأنتم
أيها الناس تفضلون
هذه الأصنام بما منحكم الله ـ تعالى ـ من حواس السمع والبصر وغيرها فكيف يعبد
الفاضل المفضول ، وكيف ينقاد الأقوى للأضعف؟.
ثم أمر الله ـ تعالى
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يناصبهم الحجة وان يكرر عليهم التوبيخ فقال : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ
كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين هبطوا بعقولهم
إلى أحط المستويات نادوا شركاءكم الذين زعمتموهم أولياء ثم تعاونوا أنتم وهم على
كيدي وإلحاق الضر بي من غير انتظار أو إمهال ، فإنى أنا معتز بالله ، وملتجئ إلى
حماه ومن كان كذلك فلن يخشى شيئا من المخلوقين جميعا.
وهذا نهاية التحدي
من جانب الرسول صلىاللهعليهوسلم لهم والحط من شأنهم وشأن آلهتهم.
ثم بين لهم
الأسباب التي دعته إلى تحديهم وتبكيتهم فقال (إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
أى : قل يا محمد
لهؤلاء الضالين إننى ما تحديتكم وطلبت كيدكم وكيد أصنامكم ـ إن كنتم أنتم وهم
تقدرون على ذلك على سبيل الفرض ـ إلا لأنى معتز بالله وحده ، فهو ناصري ومتولى
أمرى ، وهو الذي نزل هذا القرآن لأخرجكم به من الظلمات إلى النور ، وقد جرت سنته ـ
سبحانه ـ أن يتولى الصالحين وأن يجعل العاقبة لهم.
قال الحسن البصري
: إن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلىاللهعليهوسلم بآلهتهم فقال ـ تعالى ـ (قُلِ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ) الآية ـ ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلى
بوجه من الوجوه. وهذا كما قال هود ـ عليهالسلام ـ لقومه ردا على قولهم. (إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ـ قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا
أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا
تُنْظِرُونِ).
ثم قال ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أى : والذين تعبدونهم من دون الله أو تنادونهم لدفع الضر
أو جلب النفع لا يستطيعون نصركم في أى أمر من الأمور ، وفضلا عن ذلك فهم لا
يستطيعون رفع الأذى عن أنفسهم إذا ما اعتدى عليهم معتد.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) أى : إلى أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم من النصر
على الأعداء أو غير ذلك (لا يَسْمَعُوا) أى : لا يسمعوا شيئا مما تطلبونه منهم ، ولو سمعوا ـ على
سبيل الفرض ـ ما استجابوا لكم لعجزهم عن فعل أى شيء.
وقوله (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ
لا يُبْصِرُونَ) بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع ، أى :
وترى هذه الأصنام كأنها تنظر إليك بواسطة تلك العيون الصناعية
التي ركبت فيها
ولكنها في الواقع لا تبصر لخلوها من الحياة.
وبذلك تكون هذه
الآيات الكريمة قد وبخت المشركين وآلهتهم أعظم توبيخ ، وأثبتت بالأدلة المنطقية
الحكيمة ، وبوسائل الحس والمشاهدة أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ،
وأن الذين قالوا في شأنها (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) هم قوم غافلون جاهلون ، قد هبطوا بعقولهم إلى أحيط الدركات
، لأنهم يتقربون إلى الله زلفى عن طريق ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا ،
بل لا يستطيع أن يدفع الأذى عن نفسه.
وفي الوقت نفسه
فالآيات دعوة قوية لكل عاقل إلى أن يجعل عبادته وخضوعه لله الواحد. القهار.
ثم تتجه السورة
الكريمة بعد ذلك إلى شخص الرسول صلىاللهعليهوسلم فترسم له ولكل عاقل طريق معاملته للخلق على وجه يقيه شر
الحرج والضيق فتقول.
(خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)
(١٩٩)
العفو : يطلق في
اللغة على خالص الشيء وجيده ، وعلى الفضل الزائد فيه ، وعلى السهل الذي لا كلفة
فيه.
أى : خذ ما عفا
وسهل وتيسر من أخلاق الناس ، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة.
ولا تطلب منهم ما يشق عليهم ويرهقهم حتى لا ينفروا ، وكن لينا رفيقا في معاملة
أتباعك ، فإنك (لَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أى : مر غيرك بالمعروف المستحسن من الأفعال ، وهو كل ما
عرف حسنه في الشرع ، فإن ذلك أجدر بالقبول من غير نكير ، فإن النفوس حين تتعود
الخير الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال ، يسلس قيادها ، ويسهل توجيهها.
(وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ) الذين لا يدركون قيم الأشياء والأشخاص والكلمات فيما يبدر
منهم من أنواع السفاهة والإيذاء لأن الرد على أمثال هؤلاء ومناقشتهم لا تؤدى إلى
خير ، ولا تنتهي إلى نتيجة. والسكوت عنهم احتزام للنفس ، واحترام للقول ، وقد يؤدى
الإعراض عنهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها.
وهذه الآية على
قصرها تشتمل ـ كما قال العلماء ـ على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان
لأخيه الإنسان ، وهي طريق قويم لكل ما تطلبه الإنسانية الفاضلة لأبنائها الأبرار ،
وقد جاءت في أعقاب حديث طويل عن أدلة وحدانية الله ـ تعالى ـ وأبطال الشرك
والشركاء ، لكي
تبين للناس في كل
زمان ومكان أن التحلي بمكارم الأخلاق إنما هو نتيجة لإخلاص العبادة لله الواحد
الأحد ، الفرد الصمد.
قال القرطبي : هذه
الآية من ثلاث كلمات ، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.
فقوله (خُذِ الْعَفْوَ) دخل فيه صلة القاطعين والعفو عن المذنبين ، والرفق
بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) صلة الأرحام ، وتقوى الله في الحلال والحرام ، وغض الأبصار
، والاستعداد لدار القرار.
وفي قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الحض على التعلق بالعلم ، والإعراض عن أهل الظلم ،
والتنزّه عن منازعة السفهاء ، ومساواة الجهلة الأغنياء ، وغير ذلك من الأخلاق
المجيدة والأفعال الرشيدة» .
ثم يرشد القرآن
المسلمين في شخص الرسول الكريم صلىاللهعليهوسلم إلى ما يهدئ غضبهم ويطفئ ثورتهم فيقول :
(وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا
مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)
(٢٠٢)
النزغ والنخس
والغرز بمعنى واحد ، وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا ونحوها في الجلد.
أى : وإن تعرض لك
من الشيطان وسوسة تثير غضبك ، وتحملك على خلاف ما أمرت به من أخذ العفو والأمر
بالمعروف والإعراض عن الجاهلين ، فالتجئ إلى الله ، واستعذ بحماه ، فإنه ـ سبحانه
ـ سميع لدعائك ، عليم بكل أحوالك. وهو وحده الكفيل بصرف وسوسة الشياطين عنك ،
وصيانتك من همزاتهم ونزغاتهم.
__________________
ثم بين ـ سبحانه ـ
حالة المتقين فقال (إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).
طائف من الطواف
والطواف بالشيء أى : الاستدارة به أو حوله. يقال : طاف بالشيء إذا دار حوله.
والمراد به هنا وسوسة الشيطان وهمزاته.
أى : إن الذين
اتقوا الله ـ تعالى ـ وصانوا أنفسهم عن كل ما يغضبه إذا مسهم شيء من وسوسة الشيطان
ونزغاته التي تلهيهم عن طاعة الله ومراقبته (تَذَكَّرُوا) أى : تذكروا أن المس إنما هو من عدوهم الشيطان فعادوا
سريعا إلى طاعة الله ، وإلى خوف مقامه ونهوا أنفسهم عن اتباع همزات الشياطين.
والجملة الكريمة
مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين ، وأن
الإخلال بها من طبيعة الضالين.
وفي قوله (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) إشعار بعلو منزلتهم ، وقوة إيمانهم ، وسلامة يقينهم لأنهم
بمجرد أن تطوف بهم وساوس الشيطان أو بمجرد أن يمسهم شيء منه فإنهم يتذكرون عداوته
، فيرجعون سريعا إلى حمى ربهم يستجيرون به ويتوبون إليه.
وفي التعبير عن
الوسوسة بالطائف إشعار بأنها وإن مست هؤلاء المتقين فإنها لا تؤثر فيهم ، لأنها
كأنها طافت حولهم دون أن تصل إليهم.
وقوله (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أى : فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ، وخطوات الشيطان ،
فينتهون عنها.
وفي هذه الآية
الكريمة ما يهدى العقول ، ويطب النفوس ، إذ هي تبين لنا أن مس الشيطان قد يغلق
بصيرة الإنسان عن كل خير ، ولكن التقوى هي التي تفتح هذه البصيرة ، وهي التي تجعل
الإنسان دائما يقظا متذكرا لما أمره الله به أو نهاه عنه ، فينتصر بذلك على وساوس
الشيطان وهمزاته وتبقى لهم بصيرتهم على أحسن ما تكون صفاء ونقاء وكشفا.
أما الذين لم
يتقوا الله ، ولم يلجئوا إلى حماه ، ولم يخالفوا الشيطان فقد عبر عنهم القرآن
بقوله : (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ).
يمدونهم من المد ،
وهو الزيادة يقال : مده يمده أى : زاده. والغي : الضلال ، مصدر غوى يغوى غيا
وغواية.
أى : وإخوان
الشياطين من المشركين والغافلين تزيدهم الشياطين من الضلال عن طريق الوسوسة
والإغراء بارتكاب المعاصي والموبقات (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أى : ثم لا يكف هؤلاء
الشياطين عن إمداد
أوليائهم من الإنس بألوان الشرور والآثام حتى يهلكوهم. ويجوز أن يعود الضمير
لإخوانهم : أى ثم لا يكف هؤلاء الناس عن الغي والضلال مهما وعظهم الواعظون وأرشدهم
المرشدون.
و (يُقْصِرُونَ) من أقصر عن الشيء إذا كف عنه ونزع مع القدرة عليه.
ثم بين ـ سبحانه ـ
لونا من ألوان غوايتهم وضلالهم فقال :
(وَإِذا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى
إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ)
(٢٠٣)
الاجتباء : افتعال
من الجباية بمعنى الجمع ، يقال : جبيت الماء في الحوض أى جمعته ، ومنه قيل للحوض
جابية :
والمعنى : وإذا لم
تأت أيها الرسول هؤلاء المشركين بآية من القرآن وتراخى الوحى بنزولها ، أو بآية
مما اقترحوه عليك من الآيات الكونية ، إذا لم تفعل ذلك قالوا لك بجهالة وسفاهة (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أى : هلا جمعتها من عند نفسك واخترعتها اختراعا بعقلك ، أو
هلا ألححت في الطلب على ربك ليعطيك إياها ويجمعها لك.
قل لهم يا محمد
على سبيل التبكيت ردا على تهكمهم بك (إِنَّما أَتَّبِعُ ما
يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أى إنما أنا متبع لا مبتدع فما يوحيه الله إلى من الآيات
أنا أبلغه إليكم بدون تغيير أو تبديل.
ثم أرشدهم ـ سبحانه
ـ إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات فقال
: (هذا بَصائِرُ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
أى : هذا القرآن
بمنزلة البصائر للقلوب ، به تبصر الحق. وتدرك الصواب وهو هداية لكم من الضلالة ،
ورحمة من العذاب لقوم يؤمنون به ، ويعملون بإرشاداته ووصاياه.
وكما افتتحت
السورة بالثناء على القرآن (كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ) فقد اتجهت في أواخرها إلى أمر الناس بحسن الاستماع إلى هذا
القرآن ، وإلى تدبره والعمل به فقالت :
(وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
(٢٠٤)
أى وإذا قرئ
القرآن الذي ذكرت خصائصه ومزاياه عليكم فاستمعوا له بتدبر وخشوع ، واصغوا إليه
بأسماعكم وكل جوارحكم لتفهموا معانيه ، وتفقهوا توجيهاته ، وأنصتوا لقراءته حتى
تنقضي تعظيما له ، وإكبارا لشأنه ، لكي تفوزوا برحمة الله ورضاه.
وبعض العلماء يحمل
القراءة في الآية على القراءة خلف الإمام في الصلاة ، أى أن على المؤتم أن يستمع
إلى قراءة الإمام بتدبر وخشوع ، واستدلوا على ذلك بأحاديث في هذا المعنى. وبعضهم
يجعل الآية عامة في وجوب الاستماع إلى قراءة القرآن بتدبر وإنصات وخشوع في الصلاة
وفي غير الصلاة وحملوا الأحاديث التي أوردها أصحاب الرأى الأول على العموم أيضا.
والذي نراه أن
الآية تأمر بوجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة ،
لأن تعاليم الإسلام وآدابه تقتضي منا أن نستمع إلى القرآن بتدبر وإنصات وخشوع ،
ليؤثر تأثيره الشافي في القلوب ، وليقودها إلى الطاعة والتقوى ، فتنال المغفرة
والرحمة.
ثم اختتمت السورة
الكريمة بالحديث عن ذكر الله الذي هو طب القلوب ودواؤها وعافية الأبدان وشفاؤها
فقالت :
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)
(٢٠٦)
أى : استحضر عظمة
ربك ـ جل جلاله ـ في قلبك. واذكره بما يقربك إليه عن طريق قراءة القرآن والدعاء
والتسبيح والتحميد والتهليل وغير ذلك.
وقوله (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أى. اذكره متضرعا متذللا
له وخائفا منه ـ سبحانه ـ :
وقوله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) معطوف على قوله (فِي نَفْسِكَ) أى : اذكر ربك ذكرا في نفسك ، وذكرا بلسانك دون الجهر.
والمراد بالجهر :
رفع الصوت بإفراط ، وبما دونه مما هو أقل منه ، وهو الوسط بين الجهر والمخافتة ،
قال ابن عباس : هو أن يسمع نفسه.
وقوله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) متعلق باذكر ، والغدو جمع غدوة وهو ما بين طلوع الفجر
وطلوع الشمس.
والآصال جمع أصيل
وهو من العصر إلى الغروب.
أى : اذكر ربك
مستحضرا عظمته ، في كل وقت ، وراقبه في كل حال ، لا سيما في هذين الوقتين لأنهما
طرفا النهار ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا برعاية ربه.
قيل : وخص هذان
الوقتان بالذكر لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد. وما بينهما من أوقات الغالب
فيها الانقطاع لأمر المعاش.
ثم نهى ـ سبحانه ـ
عن الغفلة عن ذكره فقال : (وَلا تَكُنْ مِنَ
الْغافِلِينَ) الذين شغلتهم الدنيا عن ذكر الله.
وفيه إشعار بطلب
دوام ذكره ـ تعالى ـ واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية.
قال بعض العلماء :
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن للذكر آدابا من أهمها :
١ ـ أن يكون في
النفس لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى الإجابة ، وأبعد من الرياء.
٢ ـ أن يكون على
سبيل التضرع وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير.
٣ ـ أن يكون على
وجه الخيفة أى الخوف والخشية من سلطان الربوبية وعظمة الألوهية من المؤاخذة على
التقصير في العمل لتخشع النفس ويخضع القلب.
٤ ـ أن يكون دون
الجهر لأنه أقرب إلى حسن التفكر ، وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال : رفع
الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبي صلىاللهعليهوسلم يا أيها الناس : اربعوا على أنفسكم ـ أى هونوا على أنفسكم
ـ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من
عنق راحلته».
٥ ـ أن يكون
باللسان لا بالقلب وحده ، وهو مستفاد من قوله (وَدُونَ الْجَهْرِ) لأن معناه ومتكلما كلاما دون الجهر ، فيكون صفة لمعمول حال
محذوفة ، معطوفا على (تَضَرُّعاً) أو هو معطوف على (فِي نَفْسِكَ) أى : اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر .
__________________
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
ما يقوى دواعي الذكر ، وينهض بالهمم إليه ، بمدحه للملائكة الذين يسبحون الليل والنهار
لا يفترون فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ) وهم ملائكة الملأ الأعلى. والمراد بالعندية القرب من الله
ـ تعالى ـ بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزهه ـ سبحانه ـ عن ذلك.
(لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ) بل يؤدونها حسبما أمروا به بخضوع وطاعة.
(وَيُسَبِّحُونَهُ) أى : ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله على ابلغ وجه.
(وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أى : يخصونه وحده بغاية العبودية والتذلل والخضوع ، ولا
يشركون معه أحدا في عبادة من عباداتهم.
أما بعد : فهذه هي
سورة الأعراف التي سبحت بنا سبحا طويلا وهي تحدثنا عن أدلة وحدانية الله ، وعن
هداية القرآن الكريم ، وعن مظاهر نعم الله على خلقه ، وعن اليوم الآخر وما فيه من
ثواب وعقاب ، وعن بعض الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم ، وكيف كانت عاقبة هؤلاء
الأقوام ، وعن سنن الله ـ تعالى ـ في إسعاد الأمم وإشقائها ، وغير ذلك من أصول
التشريع وآداب الاجتماع ، وشئون البشر.
وقد استعملت
السورة في أوامرها ونواهيها وتوجيهاتها أساليب التذكير بالنعم ، والتخويف من النقم
، وإيراد الحجج المقنعة ، ودفع الشبهات الفاسدة.
وهذا تفسير لها
تناولنا فيه بالشرح والتحليل ما اشتملت عليه من توجيهات سامية ، وآداب عالية ،
ومقاصد جليلة ، وحجج باهرة ، ومواعظ مؤثرة.
والله نسأل أن
يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا لنا يوم الدين.
والحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأنعام»
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
|
المقدمة
|
٤
|
٢١
|
ومن أظلم ممن افترى
|
٥٥
|
|
تمهيد بين يدي السورة
|
٥
|
٢٢
|
ويوم نحشرهم جميعا
|
٥٥
|
١
|
الحمد لله الذي خلق
|
٢٧
|
٢٣
|
ثم لم تكن فتنتهم إلا
|
٥٧
|
٢
|
هو الذي خلقكم من طين
|
٣٢
|
٢٤
|
انظر كيف كذبوا
|
٥٧
|
٣
|
وهو الله في السموات وفي الأرض
|
٣٥
|
٢٥
|
ومنهم من يستمع إليك
|
٥٧
|
٤
|
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم
|
٣٥
|
٢٦
|
وهم ينهون عنه
|
٥٩
|
٥
|
فقد كذبوا بالحق لما جاءهم
|
٣٦
|
٢٧
|
ولو ترى إذ وقفوا على النار
|
٦٠
|
٦
|
ألم يروا كم أهلكنا
|
٣٨
|
٢٨
|
بل بدا لهم ما كانوا
|
٦١
|
٧
|
ولو نزلنا عليك كتابا
|
٤٠
|
٢٩
|
وقالوا إن هي
|
٦٢
|
٨
|
وقالوا لو لا أنزل عليه ملك
|
٤٢
|
٣٠
|
ولو ترى إذ وقفوا
|
٦٢
|
٩
|
ولو جعلناه ملكا
|
٤٣
|
٣١
|
قد خسر الذين
|
٦٣
|
١٠
|
ولقد استهزئ برسل
|
٤٣
|
٣٢
|
وما الحياة الدنيا إلا لعب
|
٦٤
|
١١
|
قل سيروا في الأرض
|
٤٤
|
٣٣
|
قد نعلم إنه ليحزنك
|
٦٥
|
١٢
|
قل لمن ما في السموات والأرض
|
٤٥
|
٣٤
|
ولقد كذبت رسل
|
٦٧
|
١٣
|
وله ما سكن في الليل
|
٤٧
|
٣٥
|
وإن كان كبر عليك
|
٦٨
|
١٤
|
قل أغير الله أتخذ وليا
|
٤٨
|
٣٦
|
إنما يستجيب الذين
|
٦٨
|
١٥
|
قل إنى أخاف إن عصيت
|
٤٩
|
٣٧
|
وقالوا لو لا نزل
|
٦٩
|
١٦
|
من يصرف عنه
|
٤٩
|
٣٨
|
وما من دابة في الأرض
|
٧٠
|
١٧
|
وإن يمسسك الله بضر
|
٥٠
|
٣٩
|
والذين كذبوا بآياتنا
|
٧١
|
١٨
|
وهو القاهر فوق عباده
|
٥١
|
٤٠
|
قل أرأيتكم إن أتاكم
|
٧٢
|
١٩
|
قل أى شيء أكبر شهادة
|
٥٢
|
٤١
|
بل إياه تدعون
|
٧٣
|
٢٠
|
الذين آتيناهم الكتاب
|
٥٤
|
٤٢
|
ولقد أرسلنا إلى أمم
|
٧٣
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
٤٣
|
فلو لا إذ جاءهم
|
٧٤
|
٧٠
|
وذر الذين اتخذوا
|
١٠١
|
٤٤
|
فلما نسوا ما ذكروا به
|
٧٤
|
٧١
|
قل أندعو من دون الله
|
١٠٣
|
٤٥
|
فقطع دابر القوم
|
٧٥
|
٧٢
|
وأن أقيموا الصلاة
|
١٠٥
|
٤٦
|
قل أرأيتم إن أخذ الله
|
٧٥
|
٧٣
|
وهو الذي خلق
|
١٠٥
|
٤٧
|
قل أرأيتكم إن أتاكم
|
٧٦
|
٧٤
|
وإذ قال إبراهيم
|
١٠٧
|
٤٨
|
وما نرسل المرسلين
|
٧٧
|
٧٥
|
وكذلك نرى إبراهيم
|
١٠٩
|
٤٩
|
والذين كذبوا بآياتنا
|
٧٧
|
٧٦
|
فلما جن عليه الليل
|
١٠٩
|
٥٠
|
قل لا أقول لكم
|
٧٧
|
٧٧
|
فلما رأى القمر
|
١١٠
|
٥١
|
وأنذر به الذين
|
٧٩
|
٧٨
|
فلما رأى الشمس
|
١١٠
|
٥٢
|
ولا تطرد الذين
|
٧٩
|
٧٩
|
إنى وجهت وجهى
|
١١٢
|
٥٣
|
وكذلك فتنا
|
٨١
|
٨٠
|
وحاجه قومه
|
١١٢
|
٥٤
|
وإذ جاءك الذين
|
٨١
|
٨١
|
وكيف أخاف
|
١١٤
|
٥٥
|
وكذلك نفصل الآيات
|
٨٢
|
٨٢
|
الذين آمنوا ولم يلبسوا
|
١١٥
|
٥٦
|
قل إنى نهيت
|
٨٣
|
٨٣
|
وتلك حجتنا
|
١١٧
|
٥٧
|
قل إنى على بينة
|
٨٤
|
٨٤
|
ووهبنا له إسحاق
|
١١٩
|
٥٨
|
قل لو أن عندي
|
٨٥
|
٨٥
|
وزكريا ويحيى
|
١١٩
|
٥٩
|
وعنده مفاتح الغيب
|
٨٧
|
٨٦
|
وإسماعيل واليسع
|
١١٩
|
٦٠
|
وهو الذي يتوفاكم
|
٩٠
|
٨٧
|
ومن آبائهم وذرياتهم
|
١٢٢
|
٦١
|
وهو القاهر فوق عباده
|
٩٢
|
٨٨
|
ذلك هدى الله
|
١٢٢
|
٦٢
|
ثم ردوا إلى الله
|
٩٤
|
٨٩
|
أولئك الذين آتيناهم
|
١٢٢
|
٦٣
|
قل من ينجيكم من
|
٩٤
|
٩٠
|
أولئك الذين هدى الله
|
١٢٣
|
٦٤
|
قل الله ينجيكم
|
٩٥
|
٩١
|
وما قدروا الله
|
١٢٤
|
٦٥
|
قل هو القادر
|
٩٦
|
٩٢
|
وهذا كتاب
|
١٢٨
|
٦٦
|
وكذب به قومك
|
٩٧
|
٩٣
|
ومن أظلم ممن افترى
|
١٢٩
|
٦٧
|
لكل نبأ مستقر
|
٩٧
|
٩٤
|
ولقد جئتمونا فرادى
|
١٣١
|
٦٨
|
وإذا رأيت الذين
|
٩٨
|
٩٥
|
إن الله فالق الحب
|
١٣٤
|
٦٩
|
وما على الذين يتقون
|
١٠٠
|
٩٦
|
فالق الإصباح
|
١٣٧
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
٩٧
|
وهو الذي جعل لكم
|
١٣٨
|
١٢٤
|
وإذا جاءتهم آية
|
١٧٢
|
٩٨
|
وهو الذي أنشأكم
|
١٣٩
|
١٢٥
|
فمن يرد الله أن يهديه
|
١٧٤
|
٩٩
|
وهو الذي أنزل من السماء
|
١٤٠
|
١٢٦
|
وهذا صراط ربك
|
١٧٥
|
١٠٠
|
وجعلوا لله شركاء الجن
|
١٤٤
|
١٢٧
|
لهم دار السلام
|
١٧٥
|
١٠١
|
بديع السموات والأرض
|
١٤٦
|
١٢٨
|
ويوم يحشرهم جميعا
|
١٧٦
|
١٠٢
|
ذلكم الله ربكم
|
١٤٧
|
١٢٩
|
وكذلك نولي
|
١٧٩
|
١٠٣
|
لا تدركه الأبصار
|
١٤٧
|
١٣٠
|
يا معشر الجن والإنس
|
١٨٠
|
١٠٤
|
قد جاءكم بصائر
|
١٤٨
|
١٣١
|
ذلك أن لم يكن ربك
|
١٨٢
|
١٠٥
|
وكذلك نصرف
|
١٤٩
|
١٣٢
|
ولكل درجات
|
١٨٣
|
١٠٦
|
اتبع ما أوحى إليك
|
١٥١
|
١٣٣
|
وربك الغنى ذو الرحمة
|
١٨٣
|
١٠٧
|
ولو شاء الله ما أشركوا
|
١٥١
|
١٣٤
|
إن ما توعدون لآت
|
١٨٤
|
١٠٨
|
ولا تسبوا الذين
|
١٥١
|
١٣٥
|
قل يا قوم اعملوا
|
١٨٤
|
١٠٩
|
وأقسموا بالله
|
١٥٤
|
١٣٦
|
وجعلوا لله مما ذرأ
|
١٨٥
|
١١٠
|
ونقلب أفئدتهم
|
١٥٦
|
١٣٧
|
وكذلك زين لكثير
|
١٨٨
|
١١١
|
ولو أننا نزلنا
|
١٥٧
|
١٣٨
|
وقالوا هذه أنعام
|
١٨٩
|
١١٢
|
وكذلك جعلنا لكل نبي
|
١٥٨
|
١٣٩
|
وقالوا ما في بطون هذه
|
١٩٠
|
١١٣
|
ولتصغى إليه أفئدة
|
١٦٠
|
١٤٠
|
قد خسر الذين
|
١٩٢
|
١١٤
|
أفغير الله أبتغى
|
١٦١
|
١٤١
|
وهو الذي أنشأ
|
١٩٣
|
١١٥
|
وتمت كلمة ربك
|
١٦٢
|
١٤٢
|
ومن الأنعام حمولة
|
١٩٦
|
١١٦
|
وإن تطع أكثر
|
١٦٣
|
١٤٣
|
ثمانية أزواج
|
١٩٧
|
١١٧
|
إن ربك هو أعلم
|
١٦٣
|
١٤٤
|
ومن الإبل اثنين
|
١٩٧
|
١١٨
|
فكلوا مما ذكر اسم الله
|
١٦٤
|
١٤٥
|
قل لا أجد في ما أوحى
|
٢٠٠
|
١١٩
|
وما لكم ألا تأكلوا
|
١٦٥
|
١٤٦
|
وعلى الذين هادوا
|
٢٠٣
|
١٢٠
|
وذروا ظاهر الإثم
|
١٦٧
|
١٤٧
|
فإن كذبوك فقل
|
٢٠٥
|
١٢١
|
ولا تأكلوا مما لم يذكر
|
١٦٧
|
١٤٨
|
سيقول الذين أشركوا
|
٢٠٥
|
١٢٢
|
أو من كان ميتا
|
١٦٩
|
١٤٩
|
قل فلله الحجة البالغة
|
٢٠٩
|
١٢٣
|
وكذلك جعلنا
|
١٧٠
|
١٥٠
|
قل هلم شهداءكم
|
٢١٠
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
١٥١
|
قل تعالوا أتل
|
٢١١
|
١٥٩
|
إن الذين فرقوا
|
٢٢٨
|
١٥٢
|
ولا تقربوا مال اليتيم
|
٢١٩
|
١٦٠
|
من جاء بالحسنة
|
٢٢٩
|
١٥٣
|
وأن هذا صراطي
|
٢٢١
|
١٦١
|
قل إننى هداني ربي
|
٢٣٠
|
١٥٤
|
ثم آتينا موسى الكتاب
|
٢٢٢
|
١٦٢
|
قل إن صلاتي
|
٢٣٠
|
١٥٥
|
وهذا كتاب أنزلناه
|
٢٢٤
|
١٦٣
|
لا شريك له وبذلك
|
٢٣١
|
١٥٦
|
أن تقولوا إنما
|
٢٢٤
|
١٦٤
|
قل أغير الله أبغى
|
٢٣١
|
١٥٧
|
أو تقولوا لو أنا
|
٢٢٥
|
١٦٥
|
وهو الذي جعلكم
|
٢٣١
|
١٥٨
|
هل ينظرون إلا
|
٢٢٦
|
|
|
|
فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأعراف»
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
|
المقدمة
|
٢٣٦
|
٢٢
|
فدلاهما بغرور
|
٢٥٨
|
|
تمهيد بين يدي السورة
|
٢٣٧
|
٢٣
|
قالا ربنا ظلمنا
|
٢٥٩
|
١
|
المص
|
٢٤١
|
٢٤
|
قال اهبطوا بعضكم
|
٢٥٩
|
٢
|
كتاب أنزل إليك
|
٢٤٣
|
٢٥
|
قال فيها تحيون
|
٢٥٩
|
٣
|
اتبعوا ما أنزل إليكم
|
٢٤٥
|
٢٦
|
يا بنى آدم قد أنزلنا
|
٢٥٩
|
٤
|
وكم من قرية
|
٢٤٥
|
٢٧
|
يا بنى آدم لا يفتننكم
|
٢٦١
|
٥
|
فما كان دعواهم
|
٢٤٥
|
٢٨
|
وإذ فعلوا فاحشة
|
٢٦٢
|
٦
|
فلنسألن الذين
|
٢٤٦
|
٢٩
|
قل أمر ربي بالقسط
|
٢٦٣
|
٧
|
فلنقصن عليهم بعلم
|
٢٤٧
|
٣٠
|
فريقا هدى وفريقا
|
٢٦٣
|
٨
|
والوزن يومئذ الحق
|
٢٤٨
|
٣١
|
يا بنى آدم خذوا زينتكم
|
٢٦٤
|
٩
|
ومن خفت موازينه
|
٢٤٨
|
٣٢
|
قل من حرم زينة الله
|
٢٦٥
|
١٠
|
ولقد مكناكم في الأرض
|
٢٤٩
|
٣٣
|
قل إنما حرم ربي
|
٢٦٦
|
١١
|
ولقد خلقناكم ثم
|
٢٤٩
|
٣٤
|
ولكل أمة أجل
|
٢٦٧
|
١٢
|
قال ما منعك
|
٢٥١
|
٣٥
|
يا بنى آدم إما يأتينكم
|
٢٦٧
|
١٣
|
قال فاهبط منها
|
٢٥٢
|
٣٦
|
والذين كذبوا بآياتنا
|
٢٦٨
|
١٤
|
قال أنظرنى إلى
|
٢٥٣
|
٣٧
|
فمن أظلم ممن افترى
|
٢٦٨
|
١٥
|
قال إنك من
|
٢٥٣
|
٣٨
|
قال ادخلوا في أمم
|
٢٦٩
|
١٦
|
قال فبما أغويتنى
|
٢٥٣
|
٣٩
|
وقالت أولاهم لأخراهم
|
٢٧٠
|
١٧
|
ثم لآتينهم
|
٢٥٤
|
٤٠
|
إن الذين كذبوا بآياتنا
|
٢٧٠
|
١٨
|
قال اخرج منها
|
٢٥٥
|
٤١
|
لهم من جهنم مهاد
|
٢٧٢
|
١٩
|
ويا آدم أسكن
|
٢٥٥
|
٤٢
|
والذين آمنوا وعملوا
|
٢٧٢
|
٢٠
|
فوسوس لهما الشيطان
|
٢٥٦
|
٤٣
|
ونزعنا ما في صدورهم
|
٢٧٣
|
٢١
|
وقاسمهما إنى لكما
|
٢٥٧
|
٤٤
|
ونادى أصحاب الجنة
|
٢٧٤
|
|
|
|
٤٥
|
الذين يصدون عن
|
٢٧٦
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
٤٦
|
وبينهما حجاب
|
٢٧٧
|
٧٤
|
واذكروا إذ جعلكم
|
٣١٠
|
٤٧
|
وإذا صرفت أبصارهم
|
٢٧٩
|
٧٥
|
قال الملأ الذين
|
٣١١
|
٤٨
|
ونادى أصحاب الأعراف
|
٢٧٩
|
٧٦
|
قال الذين استكبروا
|
٣١٢
|
٤٩
|
أهؤلاء الذين أقسمتم
|
٢٧٩
|
٧٧
|
فعقروا الناقة
|
٣١٢
|
٥٠
|
ونادى أصحاب النار
|
٢٨٠
|
٧٨
|
فأخذتهم الرجفة
|
٣١٣
|
٥١
|
الذين اتخذوا دينهم
|
٢٨٠
|
٧٩
|
فتولى عنهم
|
٣١٣
|
٥٢
|
ولقد جئناهم بكتاب
|
٢٨١
|
٨٠
|
ولوطا إذ قال
|
٣١٤
|
٥٣
|
هل ينظرون إلا
|
٢٨٢
|
٨١
|
إنكم لتأتون
|
٣١٥
|
٥٤
|
إن ربكم الله
|
٢٨٣
|
٨٢
|
وما كان جواب
|
٣١٧
|
٥٥
|
ادعوا ربكم تضرعا
|
٢٨٧
|
٨٣
|
فأنجيناه وأهله
|
٣١٧
|
٥٦
|
ولا تفسدوا في الأرض
|
٢٨٩
|
٨٤
|
وأمطرنا عليهم
|
٣١٨
|
٥٧
|
وهو الذي يرسل الرياح
|
٢٩٠
|
٨٥
|
وإلى مدين أخاهم
|
٣١٩
|
٥٨
|
والبلد الطيب يخرج
|
٢٩٣
|
٨٦
|
ولا تقعدوا بكل
|
٣٢١
|
٥٩
|
لقد أرسلنا نوحا
|
٢٩٥
|
٨٧
|
وإن كان طائفة
|
٣٢٢
|
٦٠
|
قال الملأ من قومه
|
٢٩٧
|
٨٨
|
قال الملأ الذين
|
٣٢٣
|
٦١
|
قال يا قوم ليس بي
|
٢٩٨
|
٨٩
|
قد افترينا على الله
|
٣٢٦
|
٦٢
|
أبلغكم رسالات ربي
|
٢٩٨
|
٩٠
|
وقال الملأ الذين
|
٣٢٨
|
٦٣
|
أو عجبتم أن جاءكم
|
٣٠٠
|
٩١
|
فأخذتهم الرجفة
|
٣٢٨
|
٦٤
|
فكذبوه فأنجيناه
|
٣٠٠
|
٩٢
|
الذين كذبوا شعيبا
|
٣٢٩
|
٦٥
|
وإلى عاد أخاهم هودا
|
٣٠١
|
٩٣
|
فتولى عنهم وقال
|
٣٢٩
|
٦٦
|
قال الملأ الذين
|
٣٠٣
|
٩٤
|
وما أرسلنا في قرية
|
٣٣١
|
٦٧
|
قال يا قوم ليس
|
٣٠٣
|
٩٥
|
ثم بدلنا مكان السيئة
|
٣٣٣
|
٦٨
|
أبلغكم رسالات ربي
|
٣٠٣
|
٩٦
|
ولو أن أهل القرى
|
٣٣٤
|
٦٩
|
أو عجبتم أن جاءكم
|
٣٠٤
|
٩٧
|
أفأمن أهل القرى
|
٣٣٦
|
٧٠
|
قالوا أجئتنا
|
٣٠٥
|
٩٨
|
أو أمن أهل القرى
|
٣٣٦
|
٧١
|
قال قد وقع عليكم
|
٣٠٦
|
٩٩
|
أفأمنوا مكر الله
|
٣٣٧
|
٧٢
|
فأنجيناه والذين
|
٣٠٧
|
١٠٠
|
أو لم يهد للذين يرثون
|
٣٣٧
|
٧٣
|
وإلى ثمود أخاهم
|
٣٠٨
|
١٠١
|
تلك القرى نقص
|
٣٣٩
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
١٠٢
|
وما وجدنا لأكثرهم
|
٣٤٠
|
١٣٠
|
ولقد أخذنا آل
|
٣٥٥
|
١٠٣
|
ثم بعثنا من بعدهم
|
٣٤١
|
١٣١
|
فإذا جاءتهم الحسنة
|
٣٥٧
|
١٠٤
|
وقال موسى يا فرعون
|
٣٤٤
|
١٣٢
|
وقالوا مهما تأتنا
|
٣٥٨
|
١٠٥
|
حقيق على أن لا أقول
|
٣٤٤
|
١٣٣
|
فأرسلنا عليهم
|
٣٥٩
|
١٠٦
|
قال إن كنت جئت
|
٣٤٥
|
١٣٤
|
ولما وقع عليهم الرجز
|
٣٦٠
|
١٠٧
|
فألقى عصاه فإذا
|
٣٤٥
|
١٣٥
|
فلما كشفنا عنهم
|
٣٦٠
|
١٠٨
|
ونزع يده فإذا
|
٣٤٥
|
١٣٦
|
فانتقمنا منهم
|
٣٦٢
|
١٠٩
|
قال الملأ من قوم
|
٣٤٦
|
١٣٧
|
وأورثنا القوم
|
٣٦٢
|
١١٠
|
يريد أن يخرجكم
|
٣٤٦
|
١٣٨
|
وجاوزنا ببني إسرائيل
|
٣٦٤
|
١١١
|
قالوا أرجه وأخاه
|
٣٤٧
|
١٣٩
|
إن هؤلاء متبر
|
٣٦٦
|
١١٢
|
يأتوك بكل ساحر
|
٣٤٧
|
١٤٠
|
قال أغير الله أبغيكم
|
٣٦٧
|
١١٣
|
وجاء السحرة فرعون
|
٣٤٨
|
١٤١
|
وإذ أنجيناكم من
|
٣٦٧
|
١١٤
|
قال نعم وإنكم
|
٣٤٨
|
١٤٢
|
وواعدنا موسى
|
٣٦٩
|
١١٥
|
قالوا يا موسى إما أن
|
٣٤٨
|
١٤٣
|
ولما جاء موسى
|
٣٧١
|
١١٦
|
قال ألقوا فلما
|
٣٤٨
|
١٤٤
|
قال يا موسى إنى
|
٣٧٣
|
١١٧
|
وأوحينا إلى موسى أن
|
٣٤٩
|
١٤٥
|
وكتبنا له في الألواح
|
٣٧٣
|
١١٨
|
فوقع الحق وبطل
|
٣٤٩
|
١٤٦
|
سأصرف عن آياتي
|
٣٧٦
|
١١٩
|
فغلبوا هنالك
|
٣٥٠
|
١٤٧
|
والذين كذبوا
|
٣٧٧
|
١٢٠
|
وألقى السحرة ساجدين
|
٣٥٠
|
١٤٨
|
واتخذ قوم موسى
|
٣٧٨
|
١٢١
|
قالوا آمنا برب العالمين
|
٣٥٠
|
١٤٩
|
ولما سقط في أيديهم
|
٣٨١
|
١٢٢
|
رب موسى وهارون
|
٣٥١
|
١٥٠
|
ولما رجع موسى
|
٣٨١
|
١٢٣
|
قال فرعون آمنتم به
|
٣٥١
|
١٥١
|
قال رب اغفر لي
|
٣٨٤
|
١٢٤
|
لأقطعن أيديكم
|
٣٥١
|
١٥٢
|
إن الذين اتخذوا
|
٣٨٤
|
١٢٥
|
قالوا إنا إلى ربنا
|
٣٥٢
|
١٥٣
|
والذين عملوا السيئات
|
٣٨٤
|
١٢٦
|
وما تنقم منا إلا أن
|
٣٥٢
|
١٥٤
|
ولما سكت عن موسى
|
٣٨٥
|
١٢٧
|
وقال الملأ من قوم
|
٣٥٣
|
١٥٥
|
واختار موسى قومه
|
٣٨٦
|
١٢٨
|
قال موسى لقومه
|
٣٥٤
|
١٥٦
|
واكتب لنا في هذه
|
٣٨٩
|
١٢٩
|
قالوا أوذينا من
|
٣٥٤
|
١٥٧
|
الذين يتبعون الرسول
|
٣٩٠
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
رقم الآية
|
الآية المفسرة
|
الصفحة
|
١٥٨
|
قل يا أيها الناس إنى
|
٣٩٥
|
١٨٣
|
وأملى لهم إن كيدي
|
٤٤٤
|
١٥٩
|
ومن قوم موسى
|
٣٩٦
|
١٨٤
|
أو لم يتفكروا ما بصاحبهم
|
٤٤٥
|
١٦٠
|
وقطعناهم اثنتي
|
٣٩٧
|
١٨٥
|
أو لم ينظروا في ملكوت
|
٤٤٥
|
١٦١
|
وإذ قيل لهم اسكنوا
|
٤٠١
|
١٨٦
|
من يضلل الله فلا
|
٤٤٦
|
١٦٢
|
فبدل الذين ظلموا
|
٤٠٢
|
١٨٧
|
يسألونك عن الساعة
|
٤٤٧
|
١٦٣
|
واسألهم عن القرية
|
٤٠٦
|
١٨٨
|
قل لا أملك لنفسي
|
٤٥٠
|
١٦٤
|
وإذ قالت أمة منهم
|
٤٠٩
|
١٨٩
|
هو الذي خلقكم من
|
٤٥٢
|
١٦٥
|
فلما نسوا ما ذكروا
|
٤١٠
|
١٩٠
|
فلما آتاهما صالحا جعلا
|
٤٥٣
|
١٦٦
|
فلما عتوا عما نهوا
|
٤١١
|
١٩١
|
أيشركون ما لا يخلق
|
٤٥٥
|
١٦٧
|
وإذ تأذن ربك
|
٤١٣
|
١٩٢
|
ولا يستطيعون لهم نصرا
|
٤٥٦
|
١٦٨
|
وقطعناهم في الأرض
|
٤١٤
|
١٩٣
|
وإن تدعوهم إلى الهدى
|
٤٥٦
|
١٦٩
|
فخلف من بعدهم خلف
|
٤٢٥
|
١٩٤
|
إن الذين تدعون من دون
|
٤٥٦
|
١٧٠
|
والذين يمسكون
|
٤٢٨
|
١٩٥
|
ألهم أرجل يمشون بها
|
٤٥٦
|
١٧١
|
وإذ نتقنا الجبل
|
٤٢٩
|
١٩٦
|
إن وليي الله الذي
|
٤٥٧
|
١٧٢
|
وإذ أخذ ربك
|
٤٣١
|
١٩٧
|
والذين تدعون من
|
٤٥٧
|
١٧٣
|
أو تقولوا إنما أشرك
|
٤٣٤
|
١٩٨
|
وإن تدعوهم إلى الهدى
|
٤٥٧
|
١٧٤
|
وكذلك نفصل الآيات
|
٤٣٤
|
١٩٩
|
خذ العفو وأمر بالعرف
|
٤٥٨
|
١٧٥
|
واتل عليهم نبأ الذي
|
٤٣٥
|
٢٠٠
|
وإما ينزغنك من الشيطان
|
٤٥٩
|
١٧٦
|
ولو شئنا لرفعناه
|
٤٣٦
|
٢٠١
|
إن الذين اتقوا إذا
|
٤٦٠
|
١٧٧
|
ساء مثلا القوم
|
٤٣٨
|
٢٠٢
|
وإخوانهم يمدونهم في
|
٤٦٠
|
١٧٨
|
من يهد الله فهو المهتدى
|
٤٣٩
|
٢٠٣
|
وإذا لم تأتهم بآية
|
٤٦١
|
١٧٩
|
ولقد ذرأنا لجهنم
|
٤٤٠
|
٢٠٤
|
وإذا قرئ القرآن
|
٤٦٢
|
١٨٠
|
ولله الأسماء الحسنى
|
٤٤١
|
٢٠٥
|
واذكر ربك في نفسك
|
٤٦٢
|
١٨١
|
وممن خلقنا أمة يهدون
|
٤٤٣
|
٢٠٦
|
إن الذين عند ربك
|
٤٦٤
|
١٨٢
|
والذين كذبوا بآياتنا
|
٤٤٣
|
|
|
|
|