
مقدمة شيخنا
الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف أنبيائه وأفضل سفرائه محمّد وعترته الطاهرين
، حجج الله على بريته ، وخلفائه في أرضه.
أمّا بعد : فهذه
ثمرات بحوث حول الاجتهاد والتقليد ، ألقيتها في الدورة الثالثة من دوراتنا
الأُصولية على لفيف من الفضلاء وثلة من العلماء زادهم الله شرفاً وعلماً وعملاً ،
فحرروا ما ألقيت ، وضبطوا ما بينت ، منهم العالم العَلَم الزكي التقي حجة الإسلام
السيد طعّان خليل الموسوي العاملي ـ دامت إفاضاته ـ ، فقد سرحت النظر فيما كتب
وحرّر ، فوجدته موافقاً لما حقّقناه من الأبحاث ، فشكر الله مساعيه الجميلة ،
وبلّغه أمانيه ، وجعله من العلماء العاملين والفقهاء النافعين ، وسدّده في عاجله
وآجله ، إنّه سميع مجيب.
|
جعفر السبحاني
١٠ شعبان المعظم ـ ١٤١٥ ه ـ
الحوزة العلمية
|
مقدمة المؤلف :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف بريّته وأفضل خليقته محمّد وآله الطيّبين
الطّاهرين.
أمّا بعد : لمّا
انتهى شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في دورته الثالثة في البحوث الأصوليّة ـ إلى
خاتمة المباحث ـ أعني : مسألة الاجتهاد والتّقليد ، رأيتها طويلة الذيل مترامية
الأطراف ، فأحببت أن أفردها وأفصلها عن سائر المباحث الأصوليّة التي قمت بتحريرها
وقد عرضت ما كتبت في المقام على شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ فطالع فاستحسن وأجاز
نشره ، وألتمس من إخواني الكرام أن يمنّوا ويتفضّلوا عليّ بالصّفح عمّا يبدو لهم
من خطأ وزلل ، وأن يدعوا لي بالخير في مظانّ الإجابة ، وفّقنا الله جميعاً للعلم
والعمل الخالصين لوجهه الكريم إنّه ذو الفضل العميم ، عليه توكّلت وإليه أنيب.
|
الأقلّ : طعّان خليل الموسويّ
نزيل قم المقدسة
الأوّل من جمادي الآخرة من عام (١٤١٥) ه ـ
|
قال
شيخنا الاستاذ ـ مدّ ظله ـ :
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله ربِّ
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطاهرين.
الكلام في
الاجتهاد والتقليد :
فنقول :
الأركان الثلاثة
لإدارة المجتمع :
إنّ من سَبَرَ الكتب الفقهيّة وأمعنَ النّظرَ في سائر المصادر يقف على
أنّ الشّريعة الإسلاميّة اعتمدت في إدارة المجتمع على أركان ثلاثة ، لكلّ شأنه
وموقفه ، ولا يستغني عنها أهل الدّين في زمان من الأزمنة ، وأنّ رحى الحياة في
جميع الدّوائر تدور عليها.
__________________
الأوّل : السّائسُ
والحاكم :
هذا هو الرّكنُ
الأوّل لإدارة المجتمع ، والمقصود منه وجود قوّة تنفيذيّة تطبّق ما جاء به صاحب
الشّريعة في مجالات مختلفة ، وفي ظلّ هذه القوّة المتمثّلة في الحاكم الإسلاميّ ،
يرفرفُ الأمن في البلاد ، وتجبى الصّدقاتُ والزّكواتُ ، وتجرى الحدود والأحكام على
العصاة والطّغاة ، وتحفظ ثغور البلاد من عداء الكفّار وتسلّلهم إلى أجوائها
وأراضيها ، فيسدّ الحاكم الأمر عليهم إلى غير ذلك من وظائف السّائس في مجال ترويج
الاقتصاد والتجارة وبسط العدل والقسط ، وصيانة الأُمّة من كلّ ظلم وتعدّ وما
شابهها. وتختلف وظائف السّائس قلّة وكثرة حسب اختلاف الحضارات والبيئات المحيطة
به.
قال سبحانه : ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج / ٤١).
وقال الإمام
الرّضا (عليهالسلام) : «إنّا لا نجدُ فرقة من الفرق ولا ملّة من الملل بقوا
وعاشوا إلّا بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدّين والدّنيا ، فلم يجز في
حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لا بُدّ لهم منه ولا قوام لهم إلّا به ،
فيقاتلون به عدوّهم ويقسمون فيئهم ، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من
مظلومهم ...» هذا ، وقد عبّر عن السّائس في الرّوايات بالحاكم والسّلطان
والإمام إلى غير ذلك.
__________________
الثّاني : القاضي
والفاصل للخصومات :
هذا هو الركن
الثّاني لإدارة المجتمع الإسلاميّ بل مطلق المجتمع البشريّ ، لأنّ الحياة الفرديّة
لا تثير أيّ اختلاف ونزاع بخلاف الحياة الاجتماعية ، فإنّ الاختلاف فيها وافر من
جهات ونواحي عديدة ، كالتّزاحم والتّصادم في الحقوق والأموال ، إمّا طمعاً في حقوق
الآخرين وأموالهم وأعراضهم ، وإمّا جهلاً بالحكم والوظيفة العمليّة واعتقاداً
بملكيّة ما ليس يملكه ، فلا مناص حينئذ عن وجود قوّة قضائيّة وسلطة نافذة فاصلة
للخصومات تحلّ العقد ببنان العدل والإنصاف ، وفي ضوء القانون النّازل من الله
سبحانه ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه خطاباً لداود (عليهالسلام) (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (ص / ٢٦).
وقال مخاطباً
لنبيّه : (وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة / ٤٢)
وقال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) (المائدة / ٤٨)
وقال سبحانه : (وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) (المائدة / ٤٩).
وليس المراد من
الحكم في الآيات هو الحكم فيما يرجع إلى الأُصول والعقائد ، بل المراد هو الحكم في
مجال الفروع وذلك بوجهين :
١ ـ قوله سبحانه :
(وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (المائدة / ٤٣)
فانّه بحكم قوله :
(يُحَكِّمُونَكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) صريح في كون مجال الحكم هو الفروع.
٢ ـ ما روي في شأن
نزول الآيات عن الإمام الباقر (عليهالسلام) وجماعة من المفسّرين : انّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم
زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان ، فكرهوا رجمهما ، فأرسلوا إلى يهود المدينة
وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة ... .
والآيات وإن كانت
خطاباً للنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم لكنّه من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» فهي تدل بوضوح
على أنّ القاضي في مظنّة اتباع الهوى ، معرضاً عن الحقّ ، وإنّ المترافعين ربما
يفتنونه عن القضاء بما أنزل الله ، وعليه فلا يتصدى ذلك المقام إلّا من امتحن الله
قلبه ، للتقوى ، وامتلأت جوانحه بالخوف والخشية. ويكفي من السنة ، ما روي : «لسان
القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى
النار» .
وروى المفيد
مرسلاً عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فإنّ من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين» .
إلى غير ذلك من
الآيات والروايات الناصّة على خطورة الموقف وعظمة المسئولية للقاضي.
الثالث : المفتي
والمجتهد :
هذا هو الرّكن
الثّالث لإدارة المجتمع الإسلاميّ ، فإنّ الإسلام ليس مجرّد
__________________
أوراد وطقوس لا تتجاوز عدّة آداب وأدعية يلقيها القسّ في الكنائس كما عليه النّصرانيّة ، بل هو تشريع مسهب كامل
فيه حياة الفرد والمجتمع عاجلاً وآجلاً ، يغنيهم عن الاستعانة بأيّة قوة تشريعيّة
أجنبيّة غربيّة أو شرقيّة ، في مجال العبادات والمعاملات والأحوال الشّخصية
والسياسات والقضاء والشّهادات.
إنّ التّشريع في
الإسلام من خلال ألوان إعجازه وآيات صلته بقوّة غير متناهية ، استطاع إغناء
المجتمع البشريّ ـ في كل ما يمت بصلة إلى حياته الفرديّة والاجتماعيّة والسياسية
والخلقيّة والبيئيّة ـ عن أيّ نظام تشريعيّ آخر.
إنّ هذه الجهات
الثلاثة (الحكومة والقضاء والإفتاء) قد تجتمع في شخص واحد كما في الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوصيائه (عليهمالسلام) وقد لا تجتمع في شخص ، لضرورات اجتماعيّة توجب تقسيم
الوظائف والمناصب ، ومثل هذا لا يعني فصل الدّين عن السياسة.
نعم ، إنّ النّاس
في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا في غنى عن بذل أيّ جهد وتحمّل سعي في الوقوف على ما
جاء به صلىاللهعليهوآلهوسلم في تلك المجالات لإمكان السّؤال منه ، وكان المسلمون
كثيراً ما يسألونه ويستفتونه فيوفّيهم الجواب ، قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ ...) (النساء / ١٧٦).
ولمّا ارتحل الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وتفرّق المسلمون في أنحاء العالم صعب على الجميع الوقوف
على الحكم الشّرعيّ
__________________
من عين صافية ،
لعدم جمع السنّة النبويّة في معجم تصل إليه كلّ يد ، وظهور المسائل المستحدثة غير
الموجودة في الكتاب والسنّة ، واختفاء القرائن الحاليّة المتّصلة بالكتاب والسنّة
، إلى غير ذلك من الأُمور التي دفعت أعلام الأُمّة إلى بذل الجهد في طريق استنباط
الأحكام الشرعية ، وكلّما ازداد البعد عن منبع الوحي ، وكثر تطرّق الجعل والدسّ في
الروايات وعروض الاشتباه والسّهو ، صار الاجتهادُ أمراً مشكلاً لا يتحمّله إلّا
الأمثل فالأمثل.
ولو افترضنا أنَّ
أهل المدينة مثلاً كانوا في غنى عن الاجتهاد بعد رحيل الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للتمكّن من الاتّصال بأهل البيت (عليهمالسلام) ، إلّا أنّ أهل سائر البلاد وخصوصاً البلاد الشّرقيّة يوم
ذاك كخراسان ، كانوا منقطعين عن أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) ولم يكن كلّ النّاس متمكّناً من شدّ الرّحال إلى المدينة
ولقاء الإمام (عليهالسلام) والسؤال منه .
ولذلك لم يكن بدّ
من قيام جماعة تتحمّل مشقّات ومتاعب السّفر والنّفر ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ...) (التوبة / ١٢٢).
وكان المتمثل لهذا
الأمر (الإفتاء) هو المجتهد الّذي يتحمّل جهوداً كثيرة للتّوصل إلى الحكم الشّرعي.
هذا وإنّ لتاريخ
الاجتهاد وسَيْرهِ بين الأُمّة الإسلامية بحثاً مفصّلاً سنقوم بعرضه في بحوثنا حول
تاريخ الفقه وطبقات الفقهاء الّذي هو في يد التأليف بمعاضدة فريق من الفضلاء ، وعليه
، فليس للاخباريّ أن ينكر الاجتهاد بهذا المعنى الّذي فرضته الضرورات الاجتماعيّة
على ذوي المواهب ، وهنا فصلان ، فنقول :
__________________
الفصل الأوَّل
في الاجتهاد
الاجتهاد لغة
واصطلاحاً.
أحكام الاجتهاد.
في تصدّي المقلِّد
للقضاء.
الاجتهاد
التجزّئي.
فيما يتوقّف عليه
الاجتهاد.
الاجتهاد في عصر
الصحابة والتابعين.
شبهة حول الاجتهاد
الدارج في عصرنا.
الاجتهاد لغةً واصطلاحاً
الاجتهاد مأخوذ من
الجهد بضمّ الجيم بمعنى الطّاقة والوسع ، وبفتحها بمعنى المشقّة ، وقيل : هما
لغتان في الوسع والطّاقة ، فإذا كان من باب الافتعال يراد منه إمّا تحمّل الجهد
والمشقّة ، فيقال : اجتهد في حمل الرّحى ولا يقال : اجتهد في حمل الخردلة ، وإمّا
بذل الوسع والطّاقة في طلب الشيء ، ولعلّ المعنيين (تحمل المشقّة وبذل الطّاقة)
متقاربان .
أمّا في اصطلاح
الأُصوليّين ، فقد ذكروا له تعاريف كثيرة سيوافيك مع كثرتها والاجتهاد من المفاهيم
ذات الإضافة ، أي لها إضافة إلى المجتهِد والمجتهَد فيه. وقبل الخوض في بيانهما لا
بدّ من تعريف الاجتهاد القائم بالأمرين المذكورين (المجتهد والمجتهد فيه) فنقول :
١ ـ عرّفه
الغزاليّ : «بذلُ المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشّريعة ، والاجتهاد التّام
أن يبذل الوسع في الطّلب بحيث يحسّ من نفسه بالعجز من مزيد الطّلب» .
__________________
٢ ـ وعرّفه
الآمديّ : «استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من
النّفس العجز عن المزيد فيه» .
٣ ـ وعرّفه
الحاجبيّ : «استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم شرعيّ» .
هذا ويرد على التعريف
الأوّل ـ مضافا إلى اشتماله على الدّور الواضح من أخذ المعرّف في التّعريف ـ أنّ الغاية للمجتهد أعمّ من تحصيل العلم بالحكم الشرعي ،
فربمّا لا يتمكّن من تحصيل العلم به ، ولكن يتمكّن من تحصيل الحجّة القطعيّة عليه
، وكون الحجّة قطعيّة ، لا يلازم كون مفاده قطعيّاً وعلماً واقعياً بالحكم الشرعيّ
كما في الخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام .
ويردُ على
الأخيرين بأنّ الظنّ إمّا أن يقوم دليل قطعيّ على حجيّته أو لا ، وعلى الثّاني لا
عبرة به ولا قيمة له في مجال الاجتهاد ، وعلى الأوّل يكون المدلول ظنيّاً وفي
الوقت نفسه يكون حجّة قطعيّة على الحكم الشرعيّ ، فالأولى حذف الظنّ وإقامة الحجّة
مقامه.
ويتوجّه على
الثّلاثة : أنّ الغاية للمجتهد ليست تحصيل العلم أو الحجّة
__________________
الشّرعية على
الحكم الشّرعيّ بل الأعمّ منه ومن تحصيل الحجّة على الوظيفة الفعليّة ، كالظنّ على
الحكومة والأصول العقليّة كالبراءة والاشتغال العقليّين ، فإنّها حجج عقليّة لا
يستنبط منها حكم شرعي مباشرة ، وأمّا استنباط الحكم الشرعيّ من الحكم العقليّ فهو
ـ على القول بالملازمة ـ أمر آخر غير محتاج إليه.
وربّما يعرّف بما
نقله المحقّق الخراساني بأنّه : «ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشّرعيّ
الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّة قريبة» .
قوله : «فعلاً أو
قوّة قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعليّة الملكة ، والمراد من الأوّل هو
الاقتدار على الاستنباط الفعليّ بلا حالة انتظاريّة غير المراجعة الاختيارية.
والمرادُ من الثاني هو من كانت له حالة انتظارية من غير تلك الجهة أيضاً ، لأجل
عروض عارض خارجيّ كفقد الأسباب والكتب ، لا مطلق الجهات وإلّا يشمل العاميّ
المستعدّ للتعلّم. هذا
ويردُ على التعريف
المذكور : أنّ الغاية من الاجتهاد أعمّ من استنباط الحكم الشّرعيّ الفرعيّ أو
الوظيفة الفعليّة كما في مجاري الأصول.
ثمّ إنّ تفسير
الاجتهاد بالعلم بالأحكام كما في تعريف الغزالي ، يوجب اتّحاد تعريفه مع تعريف
الفقه. وهذا بخلاف ما إذا فسّر بالملكة فيتغاير معه.
واعلم أنّ
الاجتهاد وقع موضوعاً لأحكام عديدة ـ تارة بالمعنى الأوّل أي المستنبط بالفعل ،
وأُخرى بالمعنى الأخير : أي من له الملكة حالة عدم تصدّيه للاستنباط خارجاً وتحصيل
الحجّة على الأحكام الشرعيّة ـ ولا يتوقّف البحث عن هذه الأحكام على تحقيق معنى
الاجتهاد اصطلاحاً ، إذ ليس هو بالمعنى المصطلح موضوعاً للحكم الشرعيّ حتى نبذل
الجهد في تحديده ، بل الموضوع إمّا المستنبط
__________________
فعلاً أو الأعمّ
منهُ ومن المستنبط بالقوّة القريبة.
وأمّا هذه الأحكام
فهي عبارة عن أُمور أربعة :
الأوّل : يجوز
للمجتهد أن يعمل برأي نفسه.
الثاني : يحرم
للمجتهد الرّجوع إلى الغير.
الثالث : يجوز
للعامّي الرّجوع إلى المجتهد وتقليده.
الرابع : ينفذ
قضاءُ المجتهد وحكمه.
أمّا الحكم الأوّل
: جواز العمل برأي نفسه :
فنقول : الموضوع
فيه ليس صاحب الملكة المحضة الّذي لم يتلبّس بعد بالاستنباط فعلاً. بل من تلبّس به
، وأمّا علّة الجواز فلأنّه إمّا عالم بالحكم الواقعيّ وجداناً ، أو تعبداً
بفضل الدليل ، الثابتة حجيته بالدّليل القطعي كما في موارد الطّرق والأصول
الشرعيّة ، وإمّا عالم بالوظيفة الفعليّة العمليّة كما في موارد الأصول العقليّة ،
وما للعالم إلّا العمل بعلمه.
وأمّا الحكم
الثّاني : حرمة رجوعه إلى الغير :
فهل الموضوع
للحرمة مطلق المتمكن من استنباط الأحكام الشّرعية ـ ولو لم يتلبّس بالاستنباط ـ كما
عليه الشّيخ الأعظم والمحقّق الخوئي (رضي الله عنه) وغيرهما ، أو
__________________
المتمكّن المتلبّس
بالاستنباط كما عليه صاحب المناهل؟ نقول :
قال الشيخ
الأنصاريّ (رضي الله عنه) في رسالته الّتي ألّفها في الاجتهاد والتّقليد : «فاعلم
أنّه لا إشكال في أنّه يجوز التّقليد للعامّي الصّرف ، وكذا العالم غير البالغ
مرتبة الاجتهاد ، وهل يجوز لمن له ملكة الاجتهاد ، التقليد فيما لم يجتهد فيه
فعلاً أم يتعيّن عليه الاجتهاد؟ قولان : المعروف عندنا العدم ، بل لم ينقل الجواز
عند أحد منّا ، وإنّما حكي عن مخالفينا على اختلاف منهم في الإطلاق والتفصيلات
المختلفة. نعم اختار الجواز بعض سادة مشايخنا في مناهله ، وعمدة أدلة القائلين
بالمنع عبارة عن الأُمور التالية :
الأوّل : الأصل
بتقريرات مختلفة.
الثاني : عموم
الأدلة الدّالة على وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسنّة في الأحكام خرج منها القاصر
عن ذلك.
وعمدة أدلة الجواز
أمران :
الأوّل : استصحاب
جواز التقليد.
الثاني : عموم
السّؤال من أهل الذكر» .
__________________
أقول :
الظّاهر أنّ
القائل بالجواز في غنىً عن التمسّك بالاستصحاب أو عموم آية الذّكر لأنّ الدّليل الوحيد على جواز الرّجوع إلى أصحاب التّخصّص
هو السيرة (سيرة العقلاء). وما ورد في الشّرع إمّا مؤكّد لها أو مبيّن للمصداق.
فقوله سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ...) مؤكّد لحكم العقل ، وقوله (عليهالسلام) : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أصحابنا
...» مبيّن للمصداق وليس مؤسّساً للحكم.
والذي يجب التركيز
عليه هو شمول السّيرة لأمثال المقام وعدمه. والظّاهر شمولها خصوصاً إذا كان المرجع
أعلم وأفقه من الرّاجع ، وبما يرجّح الرّجوع إليه ، وعند ذلك يسقط الاستدلال على
عدم الجواز بأصالة عدم حجيّة رأي أحد في حقّ أحد.
وأمّا ما دلّ على
الرّجوع إلى الكتاب والسنّة فهو باق على عمومه لم يخرج منه
__________________
أحد حتّى العامّي
غير أنّ الرّجوع تارة يكون مباشرة (بالاجتهاد) وأُخرى بلا مباشرة (بالتّقليد) ،
ومرجع الكلّ في الحقيقة هو الكتاب والسنة ، وليس ما دلّ على الرجوع ، ظاهراً في
خصوص الرّجوع المباشريّ.
وتظهر قوّة جواز
الرّجوع والتّقليد ، لو وقفنا على أنّ مناط حجيّة اجتهاد المجتهد هو الطريقيّة ،
فعليه نقول : تعيّن رجوعه إلى اجتهاد نفسه مع كون كليهما طر يقين إلى الواقع يحتاج
إلى الدّليل.
نعم إذا استنبط
وخالف الآخر لا يصحّ له الرّجوع إلى الغير ، لأنّه يخطّئهُ باجتهاده ، دون ما إذا
لم يستنبط.
فإنّ قلت : إنّه
يعلم أنّه لو قام بالاستنباط لخالف الآخر في بعض آرائه ، ومعه كيف يجوز الرّجوع
إليه.
قلت : إنّ العلم
بالمخالفة ليس في دائرة محصورة ، بل في مجموع أبواب الفقه الكثيرة ، الخارج أكثرها
عن محلّ الابتلاء ، ومثل هذا العلم غير منجّز في باب العلم الاجماليّ.
ثمّ على ما ذكره
الشّيخ يكون الموضوع لجواز الرّجوع إلى نفسه هو المستنبط بالفعل الّذي استنبط
الأحكام الشّرعية الفرعيّة وصار عارفاً بها ، والموضوع لحرمة الرّجوع إلى الغير
أوسع من ذلك وأعمّ ، أي شموله للمستنبط بالقوّة ، وهذا على خلاف ما ذهبنا إليه ،
فإنّ الموضوع لجواز الرّجوع إلى نفسه وحرمة الرّجوع إلى الغير وتقليده ، يكون
شيئاً واحداً وهو المستنبط بالفعل.
أمّا الحكم
الثّالث : جواز رجوع العامّي إلى المجتهد وتقليده :
فسيوافيك دليله في
الفصل الخاصّ بجواز رجوع العامّي إلى المجتهد ، والغرض في المقام هو بيان أحكام
عنوان المجتهد عقلاً أو شرعاً.
فنقول : إنّ جواز
الرّجوع والتّقليد منحصر في من عرف الأحكام واستخرجها من الأدلّة الشّرعية
المتعارفة المقرّرة ، ولا يشمل الواقف على الحكم من الطرق غير المألوفة والمعهودة
، كالرّمل والجفر والاسطرلاب ، وذلك لانصراف الأدلّة عن مثله.
نعم يبقى هنا بحث
وهو : هل يجوز تقليد المجتهد القائل بالانسداد أو لا؟
نقول :
هذا هو الّذي
عنونه صاحب الكفاية في المقام بعد تقسيم الاجتهاد إلى المطلق والمتجزّي ، وكان
عليه أن يبحث فيه قبل ذلك التقسيم ، فإنّه (رحمهالله) سوف يتعرض لأحكام المتجزّي
، وقد اختار ـ قدّه ـ عدم الجواز ، واستدل عليه :
أوّلاً : أنّ
المجتهد الانسداديّ إمّا أن يقول بحجيّة الظنّ من باب الحكومة أو من باب الكشف ،
فعلى الأوّل ليس هو عالماً بالأحكام الشرعية ، لأنّ معناه هو أنّ الاحتياط المطلق
في المظنونات والمشكوكات والموهومات لمّا كان أمراً حرجيّاً أو مخلاً للنّظام ،
استقلّ العقل حينئذ بالتبعيض في الاحتياط بتقديم المظنونات على غيرها ، فيكون
العمل بالظنّ عملاً بالاحتياط ، وهو ليس علماً بالحكم الشّرعيّ ، فلا يشمله دليل
التقليد الذي يركز على رجوع غير العالم إلى العالم ، بل هو أشبه برجوع غير العالم
إلى مثله.
وثانياً : أنّ
مقتضى مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجيّة الظّن عليه لا على غيره ، فلا بدّ في حجيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل
آخر غير دليل التقليد ، وغير دليل الانسداد الجاري في خصوص حقّ المجتهد.
__________________
هذا والّذي يمكن
أن يكون دليلاً على حجيّة الظّن الانسداديّ في حقّ العامّي أمران :
الأوّل : الإجماع
على جواز التّقليد.
الثاني : جريان
مقدّمات دليل الانسداد في حقّ العاميّ بحيث تكونُ منتجة لحجّية الظّن الثابتة
حجّيّته بمقدّماته أيضاً.
والدّليل الأوّل
باطل لعدم الاجماع تحقّقاً ، حيث إنّ المسألة من المستحدثات ، وكذلك الثّاني لعدم
جريان مقدّمات دليل الانسداد في حقّ العامّي ، وذلك لأنّ من مقدّماته (أي المقدّمة
الثالثة) بطلان تقليد المجتهد الانسداديّ للقائل بالانفتاح ، وذلك لأنّ الانسداديّ
يخطّئُ الانفتاحيّ ، فلا يمكن تقليده ، وهذا بخلاف العاميّ ، لتمكّنه من تقليد
الانفتاحيّ.
ولو فرض انحصار
المجتهد بالانسداديّ فلا يلزم من ترك العمل بقوله واللّجوء إلى الاحتياط ، محذور
اختلال النّظام وإن لزم منه العسر ، فيتعيّن عليه الاحتياط وإن استلزم العسر ما
دام قاصراً عن إثبات عدم وجوب الاحتياط مع فرض العسر.
هذا كلّه إذا كان
المجتهد قائلاً بحجيّة الظّن من باب الحكومة ، وأمّا لو كان قائلاً بحجيّته من باب
الكشف ، فالّذي يستنبطه وإن كان حكماً شرعيّاً ، ويكونُ الرّجوع إليه من قبيل رجوع
الجاهل إلى العالم ، إلّا أنّ أدلّة التقليد لا تساعد على جواز الرّجوع إليه
لاختصاص حجّية الظنّ بمن جرت في حقّه مقدّمات الانسداد دون غيره. (انتهى المراد من
كلامه (رضي الله عنه) بتصرّف منّا).
يلاحظ عليه أوّلاً
: أنّ دليل الجواز ، ليس جريان مقدّمات الانسداد في حقّ العامّي حتّى يقابل بما
سمعت ، بل جريان الانسداد في حقّ المجتهد كاف في عموميّة النتيجة وشموليّتها له
ولغيره ، واختصاص حجيّة الظنّ بمن جرت في حقّه
مقدّمات الانسداد
ممنوع ، وذلك لأنّه بعد طيّ العقبات والمراحل ، لا يستنبط إلّا حكماً كليّاً أو
وظيفة كليّة لا شخصيّة لنفسه ، فقيامه بالإجراء كاف في شمول الحجّية .
هذا وإنّ القول
بجريان مقدّمات الانسداد في حقّه دون غيره لعدم وجود مباديها في الغير ، لا يوجب
اختصاص النتيجة به ، وذلك لما ذكرناه من كون الحكم المستنبط والوظيفة كذلك ،
كليّين.
وبالجملة : قوام
مقدّمات الانسداد به وجريانها في حقّه دون غيره ، لا يصير دليلاً على خصوصيّة
النتيجة مع فرض الوظيفة الإلهيّة كليّة لعامّة المكلّفين.
والمقام أشبه
بالتّقليد في نتائج الأُصول ، فإنّه ليس للعاميّ يقين ولا شكّ وليس عارفاً بشرائط
الأُصول ، ومع ذلك يكون الحكم المستنبط بالأُصول نافذاً في حقّ الجميع ، فإنّ
استصحاب النجاسة في الماء المتغيّر الزّائل تغيّرُه بنفسه ، حجّة على الجميع ،
لأنّ المستصحب حكم الله المشترك بين الكلّ ، لا الحكم المتوجّه إلى المستنبط خاصة
، وإن كانت مقدّمات الاستنباط قائمة بالمجتهد وليس للعامّي حظّ فيها.
وثانياً : أنّ
مورد التّقليد لا ينحصر بما إذا كان الموجود حكماً من أحكام الله الفرعية ، بل
يكفي فيه كونه وظيفة لازمة على العباد ، والانسداديّ على الحكومة وإن لم يستنبط
حكم الله الفرعيّ إلّا أنّه استنبط الوظيفة العامّة للعباد ، نظير استنباط
الانفتاحيّ بالأُصول العقليّة كالبراءة والاشتغال العقليّتين.
__________________
ثمَّ إنّ المحقّق
الخراساني (رضي الله عنه) لمّا التفت إلى أنّ منع الرّجوع إلى المجتهد الانسداديّ
بحجّة أنّه غير عالم بالحكم الشرعي يستلزم منع رجوع العامّي إلى المجتهد
الانفتاحيّ فيما إذا انحصر مدركه في الاستنباط بالأُصول العقليّة ، قال مستشكلاً :
«إن قلت : رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها
الأُصول العقلية ليس إلّا الرّجوع إلى الجاهل.
وأجاب ما هذا
حاصله : إنّ رجوع العامّي إلى المجتهد في هذه الموارد إنّما هو لأجل تشخيص الصّغرى
وهو عدم وجود أمارة في هذا المورد ، وأمّا الكبرى فيستقلّ عقل العامّي بها ، فمع
فقد الأمارة المعتبرة تكون الوظيفة الفعليّة هي البراءة أو الاحتياط. (انتهى) .
يلاحظ عليه : إنّ
ما ذكره أشبه بالمزاح ، إذ من المعلوم أنّ تشخيص الصغرى في موارد الشّبهات
البدويّة أو أطراف العلم الإجماليّ من وظائف الفحول الذين كرّسوا حياتهم في تلك
المباحث ، فأين للعاميّ تشخيص الصّغرى في تلك الموارد.
والعجب أنّ
المحقّق الخوئيّ (رضي الله عنه) أيّد المذكور آنفاً بقوله : الرّجوع إلى المجتهد
في موارد الأُصول العقلية ليس من جهة التقليد في الحكم الشرعيّ ، بل من جهة
الرّجوع إليه في تشخيص موضوع حكم العقل ، حيث إنّه من أهل خبرة ذلك ، فيرجع
العامّي إليه في تشخيص أنّ المورد الفلاني لم تقم فيه حجّة على التكليف المحتمل ،
ولم يثبت فيه حكم شرعيّ واقعيّ أو ظاهريّ ، فيستقل عقله بما استقلّ به عقل المجتهد
بعينه. ولو فرض أنّه لم يكن أهلاً لإدراك الأحكام العقليّة المستقلة ، لم يكن مانع
من الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة أيضاً (انتهى المراد من
كلامه رحمهالله).
__________________
يلاحظ عليه : أنّه
مع رجوعه في الصّغرى والكبرى إلى أهل الخبرة ، أليس ذلك هو التقليد في مجاري
الأُصول العقليّة مع فقد حكم الله الشرعي.
وختاماً نقول :
إنّ ما يرجع إليه الانسداديّ في مقام الإفتاء هو نفس ما يرجع إليه الانفتاحيّ ،
فالمرجع عند الجميع هو الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، غاية الأمر يسمّيه
الانفتاحي ظنّاً خاصّاً ، والانسداديّ ظنّاً مطلقاً ، ولا يرجع إلى الظّنون
الممنوعة كالقياس ، نعم يرى الانسداديّ بعض الظّنون حجّة ولا يراه الانفتاحي كذلك
، وليس هذا إلّا كاختلاف الاخباريّ والأُصوليّ من جهة حجيّة بعض الأُمور ، مع
اتّفاقهما على لزوم النظر وبذل الجهد.
الرابع : نفوذ
حكمه وقضائه :
هذا هو الحكمُ
الرّابع المترتّب على عنوان المجتهد والفقيه في لسان الفقهاء ، والبحث فيه عن
أُمور ثلاثة :
الأوّل : ما هو
الدّليل على نفوذ حكم المجتهد المطلق؟
الثاني : هل حكمُ
المتجزّي كحكم المطلق فيما اجتهد واستنبط؟
الثالث : هل يجوز
نصب المقلّد للقضاء فيما إذا مارس القضاء وعرف آدابه وأحكامه تقليداً؟
هذا وإنّ إشباع
الكلام في المقامات الثلاثة موكول إلى كتاب القضاء ، وإنمّا البحث في المقام حسب
المناسب ، غير أنّ المحقّق الخراساني (رضي الله عنه) بدل التركيز على البحث من هذه
المسائل ركّز البحث على جواز القضاء للانسداديّ وعدمه الّذي لا تترتّب عليه ثمرة
في أعصارنا هذه ، فنقول :
ما هو الدّليل على
نفوذ حكم المجتهد المطلق؟
اعلم بأنّ الشريعة
الإسلامية الغرّاء ، تشريع كامل لم يترك شيئاً ممّا له ارتباط بحياة البشر عاجلاً
وآجلاً. فقد عالج تلك النّاحية الحيويّة بنصب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة المعصومين (عليهمالسلام) حكاماً وقضاة ، واللّازم على الأُمّة الرّجوع إليهم (عليهمالسلام) فيما اختلفوا فيه حكماً كان أو موضوعاً ، وليس لأحد
القضاء بين النّاس إلّا بإذن منه سبحانه ، وتوضيحه :
إنّ القضاء بين
الناس لمّا كان ملازماً للتصرّف في أموالهم وأنفسهم ، احتاج التلبّسُ به إلى ولاية
حقيقيّة يمارس في ظلّها ذلك التصرّف ، وليست هي إلّا لله سبحانه ، فلا ولاية لأحد
على أحد ولا ينفذ قول أحد ورأيه في حقّ أحد ، إنمّا الولاية لله سبحانه ، قال
تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (الأنعام ـ ٥٧).
وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ ...) (يوسف ـ ٤٠) ، إلى
غير ذلك من الآيات الحاصرة حقّ الحكومة في الله سبحانه وحده لانحصار الولاية
الحقيقيّة فيه.
ثمّ إنّ من لوازم
القضاء كون الممارس له ، مجانساً لمن يقضي فيهم ، ولأجل ذلك نصب سبحانه أنبياءه وأولياءه (عليهمالسلام) قضاةً للنّاس يحكمون فيهم بما أنزل الله سبحانه ولا
يحيدون عنه قيد شعرة.
قال سبحانه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) (ص ـ ٢٦). وقال
سبحانه في حقّ نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
__________________
أَنْفُسَهُمْ
جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ
تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء ـ ٦٤ و ٦٥).
وقال أيضاً في حقّ
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأُولي الأمر من الأُمّة المفسّرين بالأئمّة المعصومين (عليهمالسلام) (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) (النساء ـ ٥٩).
وليس المراد من
الإطاعة في هذه الآيات ، هي الإطاعة في العمل بالأحكام الشرعية كإقامة الصلاة
وإيتاء الزّكاة وحجّ البيت ، إذ ليس للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا لغيره في تلك المجالات حكم وقضاء حتّى يُطاع ، وإنمّا
دورهم فيها دور المبلّغ والمبيِّن لأحكام الشّريعة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر وليس هو عليهم بمسيطر ، بل المراد الإطاعة في فصل الخصومات وقطع المنازعات
إلى غير ذلك من الموارد التي له فيها حكم طلبيّ أو زجريّ.
فهؤلاء هم القضاة
المنصوبون من الله سبحانه بأسمائهم وخصوصيّاتهم ، وأمّا بعد ارتحال النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوصيائه (عليهمالسلام) أو عدم التمكّن من الوصيّ المنصوب (كما في عصر الغيبة)
فإنّ هذه الناحية لم تترك سدى ، بل عيِّن رجال موصوفون بصفات ومتّسمون بسمات لمنصب
القضاء ، والتفصيل موكول إلى الروايات ، وإليك بعض ما ورد في ذلك المجال من
الرّوايات المعتبرة :
الأُولى : مقبولة
عمر بن حنظلة :
روى الكليني (رضي
الله عنه) عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن
__________________
عيسى عن صفوان بن
يحيى عن دواد بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث
فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال (عليهالسلام) : «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى
الطّاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا ، وإن كان حقّاً ثابتاً له ، لأنّه أخذه
بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)».
قلتُ : فكيف
يصنعان؟ قال (عليهالسلام) : «ينظران (إلى) من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في
حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا
حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرّاد علينا
رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله».
قلت : فإن كان كلّ
رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا النّاظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما
، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال (عليهالسلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث
وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».
(إلى أن قال) :
قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد
الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟
قال (عليهالسلام) «ما خالف العامّة ففيه الرّشاد».
أقول : نبحث
المقبولة سنداً ومتناً. أمّا من جهة السند :
فإنّ من جاء في
السند ، أجلّاء ثقات كما ثبت دون الأخير ، وإليك ترجمتهم إجمالاً :
أ ـ محمد بن يحيى
وهو العطّار القميّ شيخ الكليني وقد أكثر الرواية عنه.
ب ـ محمّد بن
الحسين وهو ابن أبي الخطاب ، أبو جعفر الزّيات الهمدانيّ ، جليل من أصحابنا عظيم
القدر ، كثير الرواية ، ثقة عين ، حسن التّصانيف ، مسكون إلى روايته ، توفي عام (٢٦٢ ه ـ).
ج ـ محمد بن عيسى
العبيديّ اليقطينيّ ، وقد وثّقه النّجاشي وإن راب في حقّه أُستاذ الصّدوق ابن
الوليد ، وليس بشيء بعد توثيق النجاشي إيّاه وغيره.
د ـ صفوان بن يحيى
، ثقة جليل ، توفيّ عام (٢١٠ ه ـ) ، غنيّ عن التّرجمة.
ه ـ داود بن
الحصين ، وهو أسديّ الولاء ، كوفيّ المولد ، قال عنه النجاشي : ثقة ، روى عن أبي
عبد الله وأبي الحسن (عليهماالسلام) وهو زوج خالة عليّ بن الحسن الفضّال ، نعم وصفه الشيخ بكونه واقفيّاً ، إلّا أنَّ النجاشي لم
يتعرّض لوقفه وهو أضبط.
هذا ، ولم يبق في
السند إلّا عمر بن حنظلة ، والكلام فيه مسهب ، وعلى كلّ تقدير سواء ثبتت وثاقته أو
لا فقد تلقّاها المشهور بالقبول ، ولأجل ذلك سمّيت مقبولة ، وعليها المدار في كتاب القضاء
، إضافة إلى أنَّ إتقان الرّواية كاشف عن صدورها عن الإمام (عليهالسلام) ، هذا هو حال السند وإليك دراسة المتن ، فنقول :
__________________
المستفاد منه أنَّ
القاضي لا بدَّ أن يتمتّع بشروط يجب الأخذ بجميعها :
الأوّل : يجب أن
يكون شيعيّاً إماميّاً لقوله (عليهالسلام) «ينظران إلى من كان منكم» وبما أنَّ الزّيديّة كانت منفصلة عن الإمام الصّادق (عليهالسلام) يوم صدور الرواية ، فلا تعمّهم ولا أضرابهم كالاسماعيليّة
، فعليه : المراد هو الفقيه الإمامي الاثنا عشريّ.
الثّاني : أن يحكم
بحكمهم لقوله (عليهالسلام) «فإذا حكم بحكمنا» فلو كان موالياً لهم (عليهمالسلام) وحكم بحكم فقهاء العامّة ، لا ينفذ حكمه.
الثالث : أن يكون
راوياً لحديثهم (عليهمالسلام) لقوله : (عليهالسلام) «روى حديثنا» والمتبادر كونه ممارساً لأحاديثهم ، لا أنّه
روى حديثهم مرّة أو مرّات. (نقل الحديث مقدّمة للشرط التالي).
الرابع : أن يكون
صاحب النّظر والفكر في الحلال والحرام لقوله (عليهالسلام) : «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» وليس المراد من
النظر ، الالتفات إليهما
__________________
دون تأمّل وتدبّر
، بل السّبر في الحلال والحرام المرويّين عنهم (عليهمالسلام) بإمعان ودقة ، قال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران ـ ١٣٧)
، ويؤيد ذلك استعمال الامام (عليهالسلام) لفظ «عرف» فإنّه لا يستعمل إلّا في المورد الّذي سبقه
الاشتباه والخلط ، وعليه ، فالمقبولة تختص بصاحب النّظر ، المعبّر عنه بالمجتهد.
الخامس : أن يكون
على حدّ يقال : إنّه عارف بأحكامهم وهو الفقيه العارف الّذي استنبط أحكامهم (عليهمالسلام) ، فلا يكفي العلم بواحد او أكثر من أحكامهم ، فإنّ الجمع
المضاف «أحكامنا» يفيد العموم ، وعليه : تكون المقبولة ظاهرة في المجتهد المطلق.
هذا ، ويؤيد ذلك
الظهور قوله : «وكلاهما اختلفا في حديثكم» فلو أُريد الاختلاف في مضمون الحديث (دون
النقل) ، فهو شأن الفقيه ، وإن أُريد الاختلاف في نقل الحديث فهو أيضاً لا ينفك عن
الاجتهاد غالباً إن لم يكن دائماً.
وكذلك قوله (عليهالسلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما».
وقول (الراوي) : «أرأيت
إن كان الفقيهان عرفا حكمهُ من الكتاب والسنّة.
فالنّاظر في جميع
القيود الواردة في المقبولة يقف على أنّ الإمام (عليهالسلام) نصب الفقيه الإماميّ ـ الذي يمارس الأحاديث وينظر في
الحلال والحرام ويعرف الأحكام الصّادرة عن الأئمّة (عليهمالسلام) ويعتمد في فتياه على الكتاب والسنة ـ قاضياً. وهذا لا
يصدق إلّا على الفقيه المستنبط لجميع الأحكام الشرعيّة فيما تبتلي به الأُمّة على
مرّ الأيام.
وبالجملة :
الموضوع من يصدر عن الكتاب والسنّة وهو ينطبق في زماننا على المجتهد فقط.
الثانية : مشهورة
أبي خديجة ():
ما رواه الشّيخ
باسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن أبي
الجهم ، عن أبي خديجة ، قال : بعثني أبو عبد الله (عليهالسلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : «إيّاكم إذا وقعت بينكم
خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء
الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم
قاضياً ، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر».
والحديث لا غبار
عليه من حيثُ السند ، أمّا أبو الجهم ، فهو أخو زرارة واسمه بكير بن أعين من أصحاب
الصادق (عليهالسلام) وإنه (عليهالسلام) لمّا بلغه خبر موته قال في حقه : «أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمير المؤمنين (عليهالسلام)». ومن أحفاده الحسن بن الجهم.
وأمّا أبو خديجة
فهو سالم بن مكرم الذي يقول النّجاشي في حقّه : ثقة ثقة ، فلم يبق في السند إلّا رواية الحسين
بن سعيد عن أبي الجهم ، فإنّ الراوي من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي ـ (عليهمالسلام) وتوفي الإمام الرضا (عليهالسلام) عام (٢٠٣ ه ـ) والامام الجواد (عليهالسلام) عام (٢٢٠ ه ـ) والإمام الهادي (عليهالسلام) عام (٢٥٤ ه ـ) ، فكيف فتصحّ روايته عمّن توفيّ (بكير بن
أعين) في عصر الإمام الصادق (عليهالسلام) الّذي توفي عام (١٤٨ ه ـ) ففي السند سقط.
__________________
ولكن يمكن استظهار
الواسطة من سائر الرّوايات التي نقل فيها الحسين ابن سعيد عن بكير بوسائط وإليك
أسماؤهم :
أ ـ حريز بن عبد
الله عن بكير .
ب ـ ابن أبي عمير
عن عمر بن أذينة عن بكير .
ج ـ حمّاد بن عيسى
عن حريز عن عبد الله عن بكير .
د ـ صفوان عن عبد
الله بن بكير عن أبيه بكير بن أعين .
ه ـ حمّاد بن عيسى
عن عمر بن أذينة عن بكير .
وأمّا دراسة المتن
فالظّاهر عن قوله (عليهالسلام) «عرف» هو المعرفة الفعليّة لكون مبادي الأفعال ظاهرة فيها (الفعلية) وقوله (عليهالسلام) «حلالنا وحرامنا» ظاهر في العموم ولو لم يصحّ حمله على
الاستغراق العقلي لأجل عدم كون الرواة في ذلك الزمان عارفين بجميع الأحكام فلا
محيص من حمله على الاستغراق العرفيّ فيكون الموضوع هو العارف ، بالحلال والحرام
فعلاً ، على حدّ يمكن أن يقال في حقّه «قد عرف حلالنا وحرامنا» وبما أنَّ مادّة
العرفان تستعمل في الموارد التي تكون مسبوقة بالاشتباه والخلط كما تقدم ، ثمّ يقف
الإنسان على المراد الصّحيح ، فالعارف إذن هو من له قوّة عرفان الحقّ بتمييزه عن
الباطل ، فعليه يكون العارف
__________________
المفرّق للحقّ عن
الباطل والحلال عن الحرام هو المعادل لصاحب النّظر ، فلا يعمّ المقلّد. وأمّا
شموله للمجتهد المتجزّي فسيوافيك الكلام فيه.
الثالثة :
المشهورة الأُخرى لأبي خديجة :
ما رواه الصدوق في
الفقيه بإسناده عن أحمد بن عائذ بن حبيب الأحمسيّ البجليّ الثقة
عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال قال : قال : أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهماالسلام) : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن
انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا
فتحاكموا إليه» . ورواه في الكافي غير أنّه قال مكان (قضايانا) قضائنا.
والرّواية صحيحة
وسند الصدوق (رضي الله عنه) إلى أحمد بن عائذ في الفقيه بالشكل التالي : عن سعد بن
عبد الله عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ الوشاء عن أحمد بن عائذ .
والكلّ غير الأخير
من أجلّاء الأصحاب وعيونهم. ولا يشكّ في وثاقة الحسن ابن عليّ الوشاء إلّا غير
العارف بأساليب التوثيق في علم الرجال فإنّه وإن لم يصرّح بوثاقته إلّا أنّه جاء
في ترجمته ما مفاده أنّه كان في الدرجة العالية منها (الوثاقة) ، وهذا النجاشي
يعرّفه بأنّه : «من وجوه هذه الطائفة» ، وقد قلنا في
__________________
كتابنا «كليّات في
علم الرجال» : إنّ هذا النوع من التعبير يفيد أن المترجم ـ بالفتح ـ في الدرجة
العالية من الوثاقة .
هذا وإنَّ ظاهر
الرّواية عامّ شامل للمجتهد المطلق والمتجزّي دون المقلّد لقوله (عليهالسلام) «شيئاً من قضايانا» أو «شيئاً من قضائنا» كما في الكافي
وهو صادق عليهما معاً.
ما قد يورد على
المشهورة في شمولها للمتجزّي :
ثمّ إنّه قد يورد
على دلالة المشهورة الثانية على كفاية الاجتهاد غير المطلق بوجوه نذكر بعضاً منها
:
الأوّل : إنّ
القلّة المستفادة من قوله (عليهالسلام) : «شيئاً» إنّما هي بالقياس إلى علومهم (عليهمالسلام) وإن كان كثيراً في حدّ نفسه.
يلاحظ عليه : أنّه
خلاف المتبادر ، فإنَّ الرّواية في قبال ردع الشيعة عن الرّجوع إلى غيرهم ، وعليه
يناسب أن يخاطب الإمام (عليهالسلام) شيعته بأنّه يكفيهم أن يرجعوا إلى من يعلم شيئاً من
قضاياهم ، لا خصوص الواقف على جميع قضاياهم (عليهمالسلام) ، وعندئذ المناسب في جعل الملاك هو نفس علم الرّاوي قلّة
وكثرة ،
__________________
وذلك كقول الناصح
المشفق لأخيه : إذا لم تستطع على العمل الكثير فعليك بما في وسعك. فكأنّ الإمام (عليهالسلام) يقول : إذا فاتكم الرّجوع إلى هؤلاء الحكّام لأخذ حقوقكم
لكونهم طواغيت ، فلا يفوتنّكم الرّجوع إلى عالم من شيعتي ، يعلم شيئاً من قضايانا.
الثاني : إنّ
الرّواية ناظرة إلى القاضي الّذي اختاره الطرفان لفصل الخصومة أي قاضي التحكيم فلو
دلّت على كفاية التجزّي فهو في خصوص مورد قاضي التّحكيم لا المنصوب ابتداءً ، وذلك
إنّ قوله (عليهالسلام) «فإنّي قد جعلته قاضياً» متفرّع على قوله (عليهالسلام) : «فاجعلوه بينكم» وعليه فالاكتفاء بالتجزّي إنمّا هو في
قاضي التحكيم دون المنصوب.
يلاحظ عليه : أنّ
قوله (عليهالسلام) «فاجعلوه بينكم» ليس ناظراً إلى كونه قاضياً مجعولاً من
قبل المتخاصمين حتّى تختصّ الرّواية به ، بل هو يهدف إلى معنى آخر ، وهو أنّ
القاضي المنصوب من قبل السّلطة والدّولة ينفذ حكمه مطلقاً ، سواء رضي الطرفان بذلك
أم لا ، بخلاف القاضي الشيعيّ الّذي يرجع إليه المتخاصمان ، فإنّ نفوذ حكمه مرهون
برضا الطرفين به ، لا أنّ لرضائهما به مدخلية في الحكم والجعل.
وبعبارة أُخرى :
أنّ الإمام (عليهالسلام) نصّب كلّ من يعلم شيئاً من قضاياهم (عليهمالسلام) للحكم والقضاء ، ولكن تحقّق الغاية رهن رضا الطرفين بحكمه
وخضوعهما له ، بعد فرض عدم قوّة تقهر المتخاصمَين على القبول.
حصيلة البحث :
هذا وإنَّ الحقّ
هو : صلاحيّة المتجزّي للقضاء إذا استنبط شيئاً معتدّاً به ، وإنّ قصرت يده عن
معضلات المسائل ، فإنّ أهمّ ما يدلّ على شرطية الاجتهاد المطلق هو قوله (عليهمالسلام) في المقبولة : «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» إلّا
أنّه وارد في قبال المنع عن الرّجوع إلى حكام الجور وقضاتهم ، بمعنى وجوب الرّجوع
إلى من كان نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم ـ (عليهمالسلام) ، لا إلى من نظر في حلال الآخرين وحرامهم وعرف أحكامهم
التي هي مقابل أحكامهم (عليهمالسلام) ، وعليه فمن استنبط شيئاً معتدّاً به من الحلال والحرام
والأحكام ، كان مصداقاً لقوله (عليهالسلام) : «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا».
وبذلك يعلم حال
المشهورة الأُولى لأبي خديجة حيث جاء فيها : «قد عرف حلالنا وحرامنا» ، فإن هذه
الجملة وما في المقبولة ـ من قوله (عليهالسلام) : «قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ـ
تتضمّن وراء المعنى الايجابيّ معنى سلبيّاً وهو نفي الرّجوع إلى الغير ، والواجب
هو الرّجوع إلى من عرف حلالهم وحرامهم نظر فيهما ، وهو صادق في حقّ الطبقة العالية
من المتجزّءين إذا استنبطوا شيئاً معتداً به كما تقدّم.
ويؤيد ذلك أمران :
الأوّل : إن
القضاة الّذين كانت الشّيعة تفزع إليهم في تلك الأيّام ، لم يكونوا إلّا في هذه
الدرجة من العلم والعرفان ، ولم تكن لهم معرفة فعليّة بجميع الأحكام ، لتفرّق
الرّوايات وتشتّتها بين الرّواة ، وعدم وجود جامع بين الحكّام حتّى يكونوا
متدرّعين بالعلم بجميع الأحكام.
الثاني : كان الأمر
في عصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والوصي (عليهالسلام) أيضاً كذلك ، فقد
بعث النبي معاذاً
إلى اليمن وقال له : «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال :
فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال : بسنّة رسول الله ...» . أتظنّ أنّ معاذاً كان مسلّطاً على جميع الأحكام الشرعية
يوم ذاك.
وقد كتب الإمام
عليّ بن أبي طالب ـ (عليهالسلام) إلى واليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) في عهده : «ثمّ
اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم ـ إلى أن قال (عليهالسلام): ـ وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج ...» فهل كانت مصر آنذاك تطفح بفقهاء ومجتهدين مسلّطين على جميع
الأحكام الشرعية؟ نعم كانوا يحفظون من الكتاب والسنة وعمل الخلفاء أشياء يقضون
ويحكمون بها ، فلو كان الاجتهاد المطلق شرطاً ، لعطّل باب القضاء في مصر.
نعم كلّما تقدّمت
الحضارة الإسلامية وتفتّحت العقول ، وازداد العلماء علماً وفهماً ، وعدداً وكميّة
، تسنّم منصب القضاء من له خبرة كاملة في الفقه وعلم بحدود الشريعة علماً محيطاً ،
إلّا أنّ ذلك ليس بوازع دينيّ ، بل كان نتيجة لسير العلم وتقدّمه وازدهار الثقافة.
نعم أخذ القضاء في
عصرنا لوناً فنياً ، وصار عملاً يحتاج إلى التدريب والتمرين.
فلا مناص عن إشراف
قاض ذي تجربة وممارسة ، على عمل القضاة المتجزّءين في الاجتهاد حتى تحصل لهم قدم
راسخة لا تزلّ بفضله سبحانه.
__________________
في تصدّي المقلّد
للقضاء :
يتصوّر تصدّي
المقلّد لأمر القضاء على أنحاء ثلاثة :
الأوّل : أن
يستقلَّ في القضاء بلا نصب من جانب من له أهليّة الفتوى ولا وكالة منه ، بل يقضي
على طبق رأي مقلَّده.
الثاني : أن ينصّب
من جانبه لهذا الأمر الخطير.
الثالث : أن
يوكّله في القضاء.
والفرق بين
الأخيرين واضح ، فإنّ القضاء في الثاني عمل نفس القاضي ، بخلاف الثالث فإنّه عملُ
نفس من نصّبه كما هو الحال في جميع موارد الوكالة.
ثمَّ إنّ أمر
القاضي ونهيه يختلف بالقياس إلى أمر الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر ، فإنّ
الأمر والنهي في الثاني إرشاد إلى ما هو تكليف الغير الثابت عليه ، مع قطع النظر
عن أمر الآمر ونهي النّاهي ، وفي هذا المجال المجتهد والمقلّد سواء ، يجوز لكلّ
منهما أمرُ الغير ونهيه إرشاداً إلى تكاليفه الثابتة مطلقاً ، وهذا بخلاف أمر
القاضي ، فإنَّ ما يحكمُ به ليس تكليفاً للغير مع غضّ النظر عن حكمه ، وإنّما يكون
تكليفاً له بعد الحكم والقضاء. مثلاً : لو اختلف العامل والمالك ، فادّعى العامل
ردّ رأس المال وأنكره المالك ، فحكم القاضي بأنّ القول قول المالك حينئذ يتنجّز
على العامل دفعُ العين مع وجودها وإلّا فعليه دفع المثل أو القيمة سواء دفع المال
في الواقع أو لا ، وهذا الإلزام جاء من جانب القاضي بحكمه ، ولم يكن ثابتاً من قبل
، وبما أنّه خلاف القاعدة ـ إذ أنّ الأصل عدم حجيّة رأي أحد في حق أحد ونفوذه ـ احتاج
نفوذه إلى الدّليل وقد عرفت وجود الدليل وثبوته في المجتهد المطلق والمتجزّي الذي
استنبط شيئاً معتدّاً به. وإنمّا الكلام في المقلِّد ، ويقع أوّلاً في النحو
الأوّل ثمّ النحوين الآخرين.
المقام الأوّل :
استقلال المقلِّد في القضاء :
قد عرفت خطورة
منصب القضاء وأنّه لا يتولّاه إلّا المنصوب من جانب الرّسول والأئمة (عليهمالسلام) وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (عليهالسلام) بقوله لشريح : «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه [ما جلسه]
إلّا نبي أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» .
وقال الصادق (عليهالسلام) : «اتّقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنمّا هي للإمام العالم
بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ [كنبيّ] أو وصيّ نبيّ» .
تقدّم قيامُ
الدّليل على نفوذ قضاء الفقيه الجامع للشّرائط أو المجتهد الذي استنبط شيئاً
معتدّاً به ، والكلام هنا في المقلِّد المحض الّذي لا يكونُ حكمه القضائي إلّا على
طبق رأي مقلّده ـ بالفتح ـ ، فهل يجوز له التّصدّي أو لا؟ المشهور : عدم الجواز ،
ويظهر ذلك من خلال تتبّع كلمات الفقهاء وهي كالتالي :
١ ـ قال الشيخ (قدسسره) : «القضاء لا ينعقد لأحد إلّا بثلاث شرائط : أن يكون من
أهل العلم والعدالة والكمال ، وعند قوم بدل كونه عالماً أن يكون من أهل الاجتهاد ،
ولا يكون عالماً حتّى يكون عارفاً بالكتاب والسنّة والإجماع والاختلاف ولسان العرب
، وعندهم والقياس» .
٢ ـ وقال (رضي
الله عنه) أيضا : «لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفاً (عالماً ـ خل ـ)
بجميع ما ولى ولا يجوز أن يشذّ عنه شيء من ذلك ، ولا يجوز أن يقلِّد غيره ثمّ يقضي
به ، وقال الشافعيّ : ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد ولا يكون عامّياً ، ولا يجب
أن يكون عالماً بجميع ما وليه ، وقال في القديم مثل ما قلناه.
__________________
وقال أبو حنيفة : «يجوز
أن يكون جاهلاً بجميع ما وليه إذا كان ثقة ، ويستفتي الفقهاء ويحكم به ، ووافقنا
في العامّي أنّه لا يجوز أن يفتي ...» .
٣ ـ وقال أبو
الصّلاح : «[يعتبر] العلمُ بالحقّ في الحكم المردود إليه ، ـ ثمَّ قال : ـ واعتبرنا
العلم بالحكم لما بيّناه من وقوف صحّة الحكم على العلم ، لكون الحاكم مخبراً
بالحكم عن الله سبحانه وتعالى ونائباً في إلزامه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقبح الأمرين من دون العلم ...» .
٤ ـ وقال المحقّق (رضي
الله عنه) : «وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى ، ولا يكفيه فتوى
العلماء ولا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه ...» .
٥ ـ وقال في
النافع : «ولا ينعقد إلّا لمن له أهليّة الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء ...» .
٦ ـ وقال العلّامة
في القواعد : «وفي حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء» .
٧ ـ وقال الشّهيد
الثّاني في المسالك عند قول المحقق : «وكذا لا ينعقد لغير العالم» : «المراد
بالعالم هنا ، المجتهد في الأحكام الشّرعيّة ، وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع
علمائنا ...» .
٨ ـ وقال العاملي (رضي
الله عنه) (مستدلاً على اشتراط اتّصاف القاضي ـ حال
__________________
الغيبة ـ بكونه
فقيهاً جامعاً لشرائط الافتاء) : «فيدل عليه بعد الإجماع ، الأخبار الموافقة
للاعتبار ، وما كان منها بلفظ (روى حديثنا) فقد أُردف بقوله (عليهالسلام) : «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ، فلا يكفي
مجرّد الرّواية كما توهّمه بعض ، وما كان منها بلفظ : (يعلمُ شيئاً من أحكامنا)
فالمراد أنّه علم ذلك بعد تحصيل الشرائط المذكورة إذ لا يحصل العلم إلّا بها» .
٩ ـ وقال صاحب
الجواهر بعد كلام المحقّق : «ولا يكفيه فتوى العلماء» : «بلا خلاف أجده ، بل في
المسالك وغيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي الاختيار والاضطرار» .
هذا ويكفي في عدم
الجواز ، عدم الدليل وإنمّا الدّليل على القائل ، ولأجل ذلك ربّما أراد بعضهم
استظهار الجواز من بعض الأدلّة وإليك البيان :
الأوّل : إنّ
المستفاد من الكتاب والسنّة صحّة الحكم بالحقّ والعدل والقسط من كلّ مؤمن ، قال
الله تعالى : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء ـ ٥٨).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة ـ ٨).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء ـ ١٣٥).
ومفهوم قوله تعالى
: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)
__________________
(المائدة ـ ٤٧)
وفي أخرى (هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة ـ ٤٤)
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
الثاني : قول
الصادق (عليهالسلام) «القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل
قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ،
ورجل قضى بالحق ، وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في
الجنّة» .
وقال عليّ (عليهالسلام) : «الحكم حكمان : حكمُ الله وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم
الله حكم بحكم الجاهلية» .
الثالث : قول أبي
جعفر (عليهالسلام) : «الحكم حكمان : حكمُ الله عزوجل وحكم أهل الجاهلية ، وقد قال الله عزوجل : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة ـ ٥٠)
وأشهد على زيد بن ثابت ، لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية» .
إلى غير ذلك من
النصوص البالغة بالتّعاضد أعلى مراتب القطع الدّالة على أنّ المدار هو الحكم
بالحقّ الّذي عند محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته (عليهمالسلام) ، وأنه لا ريب في اندراج من سمع منهم (عليهمالسلام) أحكاماً خاصّة مثلاً فيها وحكم فيها بين النّاس وإن لم
تكن له مرتبة الاجتهاد والتصرّف.
يلاحظ على الجميع
: أنّ الآيات والرّوايات ليست بصدد بيان شرائط الحاكم وخصوصياته حتى يتمسّك
بإطلاقها ، وإنما هي بصدد بيان أمر آخر.
__________________
فالآية الأولى
والثانية بصدد بيان خصوصيّات الحكم (لا الحاكم) وأنّه يجب أن يكون حكماً بالعدل
وقضاءً بالقسط ولا يخاف الحاكم من شنآن قوم فيحكم على خلافهما (العدل والقسط) ،
وأين هما من بيان خصوصيّات الحاكم حتّى يتمسّك بإطلاقهما.
ومنه يظهر الجواب
عن الاستدلال بالآية الثالثة فإنّها بصدد النهي عن القضاء بغير ما أنزل الله لا
بصدد بيان خصوصيّات الحاكم .
ومثل الآيات تقسيم
القضاة إلى أربعة ، أو تقسيم الحكم إلى حكمين ، فإنّ الجميع بصدد سوق المجتمع إلى
القضاء بحكم الله لا بحكم الجاهليّة ، لا لبيان شرائط الحاكم وخصوصيّاته من كونه
رجلاً أو امرأة ، مسلماً أو كافراً ، سميعاً أو بصيراً ، مجتهداً أو مقلِّداً كما
هو النزاع.
__________________
فالتمسك بالجميع
غفلة عن شرائط انعقاد الإطلاق .
الرابع : صحيح أبي
خديجة حيث قال (عليهالسلام) : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن
انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً
فتحاكموا إليه» .
ردّ الاستدلال
بوجوه :
أ ـ إنّ الوارد
فيها لفظ العلم ، وهو لا يشمل المقلّد ، لأنّ العلم عبارة عن الاعتقاد الجازم
المطابق للواقع.
يلاحظ عليه : أنّه
خلط بين العلم المصطلح عليه في علم المنطق ، والعلم الوارد في الكتاب والسنّة
والمراد من الأوّل ما ذكر. ومن الثّاني ما قامت عليه الحجّة ، وإلّا لزم عدم صحّة قضاء
نفس المجتهد ، لعدم علمه بالواقع ، والعلم بالحكم الظاهري مشترك بين المجتهد
والمقلِّد.
ب ـ إنّ الرّواية
محمولة على صورة الاضطرار وعدم التمكّن من لقاء من يعرف الأحكام عن أدلّتها
التفصيلية ، والسؤال عنه ، وبما أنّ الشيعة كانوا متفرّقين آنذاك في بلاد نائية ،
ولم يكن في كلّ بلد وصقع من يعرف الأحكام بالدّليل ، اكتفى
__________________
صاحب الشريعة بمن
يعلم شيئاً من الأحكام فيسدّ بذلك باب الرّجوع إلى أبواب الطواغيت.
يلاحظ عليه :
بأنّه حمل تبرّعي لا دليل عليه ، وليس في الرّواية ما يحكى عن كونه وارداً مورد
الاضطرار.
ج ـ إنّ العلم
بشيء من قضاياهم ، مختصّ بالفقيه أو منصرف إليه ، لأنّ العامّي إمّا أن يعتمد على
فتوى الفقيه في القضاء ، فلا يصدق أنّه يعلم شيئاً من قضاياهم (عليهمالسلام) بل هو عالم بفتوى الفقيه وهو طريق إلى حكم الله ، وإمّا
أن يعتمد على إخبار الفقيه بقضاياهم (عليهمالسلام) وهذا غير جائز لأنّه لا يزيد على رواية مرسلة غير جائزة
العمل إلّا بعد الفحص عن الجهات الأربعة : الصدور ، والدّلالة ، وجهة الصّدور ،
وعدم المعارض وأنّى هذا للمقلِّد.
يلاحظ عليه : أنّا
نختار الشقّ الأوّل ، وهو الأخذ بإفتاء الفقيه ، إلّا أنّه عند المقلّد هو حكم
الإمام (عليهالسلام) وقضاؤه ، خصوصاً إذا كان الإفتاء بلفظ الحديث ، كما في
الفقيه والنّهاية ، والإفتاء وإن كان غير التّحديث ، والأوّل مشتمل على إعمال
النظر دون الثاني ، لكنّه لدى العرف يعكس حكم الكتاب والسنّة وحلال الأئمة (عليهمالسلام) وحرامهم.
د ـ ويمكن أن يقال
: إنّ الصادر من الإمام (عليهالسلام) مردّد بين ما نقل ، وبين ما جاء في روايته الأُخرى التي
فيها : «اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً»
.
وقد عرفت أنّ لفظ «العرفان»
لا يستعمل إلّا إذا كان هناك اشتباه يتعقبه التّمييز ، وهو لا يصدق إلّا في حقّ
الفقيه ولا يشمل المقلّد المحض ، ولأجل تردّد لفظ المنقول ، لا يصحّ الاستدلال
بها.
__________________
الخامس : صحيح
الحلبيّ ، قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليهالسلام) ربّما كان بين الرّجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء ،
فيتراضيان برجل منّا؟ فقال (عليهالسلام) : «ليس هو ذاك إنمّا هو الّذي يجبر الناس على حكمه
بالسّيف والسّوط» .
يلاحظ عليه : أنّ
قوله (عليهالسلام) : «ليس هو ذاك» دليل على أنّ الإمام (عليهالسلام) كان يندّدُ بقضاة عصره ، ولمّا سأله السائل عن الرّجوع
إلى رجل من شيعة الإمام (عليهالسلام) ، صرّح الإمام (عليهالسلام) بأنّ هذا ليس ذاك فيكون الكلام مسوقاً لبيان عدم جواز
الرجوع إلى قضاة العامة دون الشيعة ، وأمّا ما هي شرائطهم وخصوصياتهم ، فالرواية
ليست بصدد بيانها حتّى يتمسّك بالإطلاق.
السادس : خبر
محمّد بن حفص عن عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : سألته عن رجل سارق ، دخل على امرأة ليسرق متاعها ،
فلمّا جمع الثياب تابعته نفسه ، فكابرها على نفسها فواقعها [فتحرك ابنها فقام ،
فقتله بفأس كان معه] فلمّا فرغ حمل الثياب وذهب ليخرج ، حملت عليه بالفأس فقتلته ،
فجاء أهله يطلبون بدمه من الغد ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : «اقض على هذا كما وصفت لك ، فقال : يضمن مواليه الّذين
طلبوا بدمه دية الغلام ، ويضمن السارق فيما ترك أربعة آلاف درهم بمكابرتها على
فرجها ، إنّه زان وهو في ماله غريمة ، وليس عليها في قتلها إيّاه شيء [لأنه سارق]
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كابر امراة
__________________
ليفجر بها فقتلته
فلا دية له ولا قود» .
يلاحظ عليه :
أوّلاً : أنّه من
المحتمل أن يكون كلامه (عليهالسلام) هذا : «اقض على هذا كما وصفت لك» أشبه بالمشاكلة لا الحقيقة ، والقاضي واقعاً هو الإمام الصادق (عليهالسلام).
وثانياً : يحتمل
كون ابن طلحة ممّن كان ينطبق عليه المقياس الوارد في المقبولة.
وثالثاً : أنّه
يصحّ الاستدلال بها على صورة النصب أو الوكالة ، والثاني أظهر من الأوّل.
السابع : قد يدّعى
أنّ الموجودين في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّن أمر بالتّرافع إليهم ، قاصرون عن مرتبة الاجتهاد ،
وإنّما يقضون بين النّاس بما سمعوه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد
لمجتهد ، عن منصب القضاء بما علمه ، خالية عن الدّليل .
وأجاب عنه المحقّق
الآشتيانيّ (رضي الله عنه) : بأنّ الشرط الواقعيّ هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد ،
فالمنصوبون من قبل الأئمة (عليهمالسلام) كانوا يعلمون الأحكام وإن
__________________
كانوا غير مجتهدين
، وأمّا زماننا هذا فالعلم فيه لا يحصل إلّا بالاجتهاد ، فليس للاجتهاد موضوعية
إلّا كونه طريقاً إلى العلم بالأحكام ، وهو كان حاصلاً للمنصوبين يوم ذاك دون
مقلّدي أعصارنا. وحاصله : أنّ الميزان هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد ، والعامّي
في السابق كان عالماً بها بخلاف العامّي في أعصارنا .
يلاحظ عليه : إن
كان المراد من العلم ، العلم بالأحكام الواقعيّة فهو لم يكن حاصلاً يوم ذاك
للمنصوبين ولا للمجتهدين في الأعصار المتقدّمة ضرورة أنَّ أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) ربّما كانوا يأخذون الأحكام عن أصحابهم ، وقد كانوا
مبتلين بالأخبار المتعارضة ومشكوك الصّدور ، إلى غير ذلك ممّا لا يوجب العلم
بالحكم الواقعيّ ، ومثله المجتهد ، فإنّ ما يحصّله من أحكام ممّا قامت عليه الحجّة
لا أنّها أحكام واقعيّة.
وإن كان المراد
الأعمّ من الحكم الواقعيّ فهو حاصل لمقلِّدي عصرنا.
والأولى أن يقال :
إنّه لو كان الموضوع لنفوذ القضاء هو المجتهد أو من له قوّة الاستنباط ، صحّ أن
يردّ بما جاء في الاستدلال بخلاف ما لو قلنا بأنّ الموضوع له ، هو من روى حديثهم (عليهمالسلام) ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم ،
__________________
وقد كان صادقاً
على قضاة عصر الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن بعده ، كما كان صادقاً على المتربّين على أيدي الأئمة (عليهمالسلام) من المحدّثين والفقهاء لاتّصالهم بالمعصومين (عليهمالسلام) ، وسماعهم منهم أو عمّن سمع منهم ، وأمّا في عصرنا هذا
فلا يصدق إلّا على من له قوّة الاستنباط ويبذل الجهد بالتتبّع في الروايات والنظر
في حلالهم وحرامهم ، فيعرف ـ أكثر ـ أحكامهم (عليهمالسلام) فالموضوع لنفوذ القضاء واحد في جميع الأعصار ، غير أنّ
بعد العهد واختلاط الصحيح بالسقيم من الروايات ، وما صدر عن تقيّة بما صدر لبيان
الواقع ، صار سبباً لعدم صدقه إلّا على لفيف قليل من العلماء وهم الممارسون
لأحاديثهم ـ (عليهمالسلام) والناظرون في حلالهم وحرامهم والعارفون أحكامهم (عليهمالسلام) ، ولا مجال لصدق ذلك على المقلّد المحض الّذي لا يعرف
شيئاً من الأحكام سوى ما جاء في رسالة مقلّده ـ بالفتح ـ .
المقام الثاني :
في نصب المجتهد المقلّد للقضاء :
ما تقدّم من
الكلام كان في تصدي المقلّد منصب القضاء (استقلالاً) وقد عرفت عدم الدّليل على
جوازه ونفوذ قضائه ، والكلام هنا في تصدّيه للقضاء بعد نصب المجتهد إيّاه للنّظر
في المرافعات والقضاء فيها على طبق ما يراه المجتهد. فنقول :
__________________
إنّ جواز النّصب
للمجتهد رهن أمرين :
١ ـ أن يكون
النّصب جائزاً في نفسه بأن لا تكون الفقاهة شرطاً شرعيّاً للقضاء ، ولو لم يكن
كذلك فلا يجوز للإمام (عليهالسلام) فكيف للمجتهد الّذي هو نائبه ، هذا وإنّ محور البحث حال
الاختيار لا الاضطرار.
٢ ـ إنّ كلّ حكم
يجوز للإمام (عليهالسلام) يجوز للفقيه الجامع للشّرائط ، فالدّعوى الأُولى بمثابة
الصّغرى للثانية وهي كبرى للأُولى.
أمّا الأُولى
فيمكن أن يقال بأنّها غير ثابتة ، لأنّه مع ثبوت دلالة المقبولة والمشهورة على أنّ
المأذون للقضاء من ينطبق عليه عنوان النّاظر في الحلال والحرام والعارف بالأحكام ،
وقلنا بعدم صدق المذكور على المقلِّد ، يصير قضاء المقلِّد كقضاء المرأة ، فكما لا
يصحُّ نصبها للقضاء فكذلك العامّي العارف بمسائل القضاء.
وبعبارة أُخرى :
إذا كان الاجتهاد معتبراً شرطاً في القضاء كالرُّجولة ونحوها ، فكيف يجوز للإمام (عليهالسلام) أن يلغي ما اعتبره الشارع في القضاء وينصب من ليس أهلاً
في ذلك.
ثمّ إنّ هذا على
القول بدلالتهما على شرطيَّة الاجتهاد في القضاء ، ولو قلنا بالعدم ، فيكفينا نفس
الشّك في جواز نصب المقلِّد ، للحكم بعدم الجواز ، والأصل عدم حجيّة رأي أحد في
حقّ أحد ـ كما تقدّم ـ إلّا مع قيام الدّليل عليه.
ومن هنا يعلم عدم
تمامية ما أفاده سيِّدنا الأُستاذ الخميني (قدّه) في ردّ الاستدلال حيث قال : «إنّ
المقبولة دلّت على أنّ الفقيه منصوب من ناحيتهم للقضاء ، وأمّا اختصاص هذا المنصب
للفقيه في نفس الأمر ومحروميّة العامّي عنه كذلك بحيث كانت الفقاهة من شروطه
الشرعية وأنّ ذلك كان بإلزام شرعيّ إلهيّ ،
فلا يستفاد منها» .
يلاحظ عليه : ما
عرفت من أنّه مع فرضنا بأنّ المقبولة والمشهورة ليستا بصدد بيان شرائط من له حقّ
القضاء ، إلّا أنّ نفس الشك في مشروعية قضاء العاميّ العارف بمسائل القضاء عن
تقليد ، كاف في الحكم بعدم الجواز والنفوذ ، وهذا أشبه بالشك في جواز التعبّد
بالظن فإنّ نفس الشك كاف في الحكم بحرمة التعبّد ، ولا يحتاج إلى دليل آخر.
وهذا الأصل وإن لم
يثبت عدم الجواز واقعاً في حقّ الإمام ، لكنّه مانع عن الحكم بالجواز للإمام ،
ومعه لا يمكن أن يثبت للفقيه ، بل الثابت في حقّه ما دلّ الدّليل على ثبوته له لا
ما هو مشكوك الثبوت.
ويمكن أن يستدلّ
على عدم مشروعيّة قضاء العاميّ بصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام
العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» .
فإنّها صريحة في
أنّ القضاء شرّع للأنبياء وأوصيائهم ، ولا ينافي ذلك ما دلّ على جوازه للفقهاء ،
فإنّهم أوصياء الأنبياء بوجه ، فتكون المقبولة حاكمة عليها بالتصرّف في الموضوع وتوسيعه
وإدخال ما لا يدلّ عليه ظاهرها (الصحيحة). وأمّا العامّي فإنّه ليس وصيّاً لنبيّ ،
ولم يدلّ الدّليل على مشروعيّة قضائه.
فتلخص من ذلك ،
عدم ثبوت الصّغرى وهي مشروعية نصب العامّي للقضاء وإن كان النّاصب نبيّاً أو
إماماً.
__________________
ولو افترضنا صحّة
الصغرى ، فيقع الكلام في الكبرى ، وأنّ كلّ ما يجوز للإمام ، هل هو جائز للفقيه أو
لا؟
أقول : هذه المسألة
قد كثر النقاش والكلام فيها من عصر المحقّق النّراقي والشيخ الأنصاري (رضي الله
عنه) إلى زماننا هذا ، خصوصاً بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية ، واختار
المحقّق النّراقي (رضي الله عنه) والسيّد الأستاذ الخميني (قدسسره) ، عموم المنزلة وثبوت الولاية العامّة للفقيه ، وأنّ كلّ
ما يجوز للإمام يجوز للفقيه إلّا ما دلّ على اختصاصه بالنبيّ والوصيّ.
واختار الشّيخ
الأعظم الأنصاري (رضي الله عنه) ، ومن تبعه من تلاميذه ومن بعدهم ، عدم عموم وشمول
الولاية ، بعد الاعتراف بأصلها. والمقام لا يسع لإيراد أدلّة الطرفين ، وذكر الحقّ
في المسألة ، إلّا أنّا سنشير إلى أساس الفكرتين ليكون القارئ على معرفة إجماليّة
بهما :
إنّ الشيخ ومن
تبعه ذهبوا إلى أنّ ما يستدلّ به على ثبوت الولاية العامّة للفقيه ، لا يدلّ على
عموم المنزلة ، والغاية من مساواة الفقهاء لأنبياء بني إسرائيل ونحو ذلك كما
سنذكره ، هي تنزيلهم منزلة الأنبياء فيما يتعلَّق بشئون التّبليغ والتعليم ونحو
ذلك ، لا أنّهم منزّلون منزلة الأنبياء من جميع الجوانب والمقامات ، وذلك
كالمقبولة ، والحديث النّبويّ : «اللهم ارحم خلفائي» ـ ثلاثاً ـ قيل : يا رسول الله ومن
خلفاؤك؟ قال : «الّذين يأتون بعدي ، يروون حديثي وسنّتي» ، أو التوقيع الرّفيع : «وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا
، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله».
__________________
والمروي أيضاً : «مجاري
الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، والأُمناء على حلاله وحرامه» ، والمرسل على أفواه العلماء : «علماءُ أمّتي كأنبياء بني
إسرائيل» .
ثمّ إنّ عدم
الدّلالة على عموميّة وشمولية الولاية يمكن استفادته من أُمور :
الأوّل : إنّ
تعليق الحكم على عنواني النبيّ والرّسول ، دالّ على أنّ الفقهاء وسائط بين الله
والنّاس في تبليغ أحكامه وأوامره ونواهيه ، لا أنّهم كالأنبياء في جميع الجهات ،
فالثابت لهم هو ما يرجع إلى الأنبياء في شئون التبليغ وبيان الحلال والحرام.
الثاني : إنّ هذه
الأدلة ، وردت في تشخيص من تكون بيده مجاري الأمور ، لا في تشخيص الأمور الجارية
وما يجوز وما لا يجوز ، وبعبارة أُخرى : لا إطلاق فيها من هذه الجهة ، وعليه
فالولاية للفقيه إنّما هي في الأُمور التي لا محيص عنها في المجتمع الإسلامي وقد
أحرز الجواز قطعاً ، وبالجملة : الأمور الحسبيّة التي لا يرضى الشارع بإهمالها
وتركها ، كالقضاء والمحافظة على مال الصّغير واليتيم وثغور المسلمين ، ممّا ثبت
وجوب مراعاتها ، ولم يعيّن لها أحد.
هذا ولو شكّ في
جواز أمر ما للمجتهد ـ وإن جاز للنبي والإمام ـ فلا يمكن ثبوته له ، بل نحتاج إلى
الدّليل على ذلك.
الثالث : إنّه على
تقدير تسليم عمومها ، لا بدّ من تنزيلها على أُمور معهودة ،
__________________
وإلّا يلزم كثرة
التخصيص المستهجنة ، إذ للنبيّ والأئمة (عليهمالسلام) من بعده ، شئون كثيرة تختصّ بهم ولا تتجاوز غيرهم ، فلا
عموم للمنزلة والولاية. بل يقتصر على الأمور المعهودة وهي القضاء بين النّاس وبيان
الحلال والحرام ولزوم اتّباع النّاس لهم.
ثمّ إنّ القائلين
بعموم الولاية ، أجابوا عن هذه الإشكالات وعمّا ذكره الشّيخ في المتاجر ، وقد ألّف
السيّد الأستاذ رسالة خاصّة في هذا الموضوع ، وقد أتى فيها بتمام الأدلّة وأشبع
الكلام في ما استظهر من الدّلالة ، ونحن نحيل القرّاء إليها ، والمقام لا يسع لنقل
ما قيل أو يمكن أن يقال في المسألة.
إلّا أنّ للسيّد الأُستاذ
(رضي الله عنه) في خصوص المقام كلام وهو : إنّ المستفاد من قوله (عليهالسلام) : «فليرضوا به حَكَماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» هو
جعل الحكومة مطلقاً للفقيه ، وقد جعلهم الإمام حكّاماً على النّاس : ومن المعلوم
أنّ جعل القاضي من شئون الحاكم والسلطان في الإسلام ، فجعل الحكومة للفقهاء مستلزم
لجواز نصب القضاة ، والحكّام على النّاس شأنهم نصب الأمراء والقضاة وغيرهما ممّا
تحتاج إليه الأُمّة كما كان الأمر كذلك في زمن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والخلفاء الحقيقيّين وغيرهم.
فلو جاز نصب
العاميّ لهم بما أنّهم حكّام ، يجوز للمجتهد أيضاً لأجل تلك المنزلة .
يلاحظ عليه : ليس
المراد من قوله (عليهالسلام) «جعلته حاكماً» هو السّائس
__________________
العامّ والحاكم
المطلق ، بل المراد منه هو القاضي فحسب ، بقرينة قوله (عليهالسلام) في نفس المقبولة : «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه ،
فإنّما بحكم الله قد استخفّ وعلينا ردّ ...» ويؤيّده قوله بعد عدّة فقرات : «الحكم
ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...» ويؤيده قوله (عليهالسلام) في المشهورة : «قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته
عليكم قاضياً» ونظيره في صحيحة أبي خديجة الأُخرى : «فإني قد جعلته قاضياً
فتحاكموا إليه».
وعليه ، فلو جاز
نصب العامّي للقضاء من قبل الإمام (عليهالسلام) ، لا تصلح المقبولة لإثبات جوازه للمجتهد ، بل لا بدّ من
التماس دليل آخر ، والمجعول الثّابت في حقّ الفقهاء في هذه الروايات هو كونهم قضاة
فحسب ، لا حكّاماً.
قضاء المقلِّد عند
الاضطرار :
ما تلوناه عليك من
الأدلّة على عدم جواز تصدّي العامّي للقضاء استقلالاً أو نصباً ، إنمّا هو في حال
الاختيار ، والكلام في حال الاضطرار ، فنقول :
إنّ جواز نصبه
والحال هذه ممكن ، وذلك لأنّ بقاء النّظام رهن فصل الخصومات ورفع المنازعات وعليه
، إذا لم يتمكّن من الرّجوع إلى المجتهد ولم نجوّز نصب العامّي للقضاء تقليداً ،
لزم أحد محاذير ثلاثة وهي :
الأوّل : إمّا أن
ترفع الشّكوى إلى ديوان الظالمين وهو حرام.
الثاني : إمّا أن
نمنع من الترافع إلى الأبد ، وفيه إبطال الحقوق واختلال النّظام ، ورفع الأمان
والحفاظ عن الدّماء والأموال والأعراض.
الثالث : إمّا
وجوب الصّبر إلى التمكّن من الرّجوع إلى الفقيه ، وفيه إيجاب العسر والحرج ، وربما
لا يتمكّن المدّعي والحال هذه من إقامة الشاهد.
فحينئذ نقول :
دفعاً لهذه المحاذير وحفظاً للنّظام ، لا مناص للفقيه من نصب العامّي للقضاء
تقليداً في الشّبهات الموضوعيّة والحكميّة.
فإن قلت : إنّ
الرّجوع إلى المحاكم العاديّة الدوليّة التي لا تحكم على طبق ووفق الكتاب والسنّة
أبداً ، هو حافظ للنظام ومانع من اختلاله ، كما كانت الحال على ذلك قبل الثورة
الإسلامية في إيران.
قلت : إذا دار
الأمر في حفظ النّظام بين الرّجوع إلى المحاكم الدولية وبين النزول عند حكم
المقلِّد العارف بالأحكام الإسلامية عن تقليد ، فإنّ الثاني متعيّن ، لأنّ حرمة
الأوّل مطلقة متأكدة ، قال الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء ـ ٦٠).
ولأجل ذلك نقول : لا مناص في حفظ النّظام من اختيار قضاء المقلِّد وتقديمه على
المحاكم الدّولية بل وجودها وعدمها سواء ، فعلى الفقيه نصب العامّي العارف بالقضاء
، لرفع الخصومات بين الناس من غير فرق بين كون المورد من قبيل الشبهات الموضوعيّة
أو الحكميّة ، وهي من القضايا التي قياساتها معها ، فإنّ ترك المرافعة والقضاء بين
الناس يوجب اختلال النّظام وتضييع الحقوق والأموال ، وإيقاف الأمر إلى التمكّن من
المجتهد النّائي أمر مشكل ، فعليه ، لو كانت الشبهة موضوعيّة ، يعمل بقواعد «المدّعي والمنكر» ونحوها ، ولو كانت
الشّبهة حكمية كمنجّزات المريض وثبوت الشفعة ، إذا كان الشّركاء أزيد من ثلاثة ،
وتحريم عشر رضعات وأمثالها ، فنقول : بما أنّ القضاء فيها لا يحتاج إلى إقامة
بيّنة وجرحها وتعديلها ، يكفي العثور على رأي المجتهد ، والحكم على وفقه.
ومع ذلك يجب على
العامّي العارف ، مراعاة أمور من باب الاحتياط والأخذ بالقدر المتيقّن ، للتأكد من
إصابة الحقّ ، وعليه تجنّب الشّبهات والتشاور في
__________________
القضاء والسّؤال
من سائر العارفين بالقضاء ، فإنّ الرّأي الصادر منه بعد المشاورة أقرب إلى الحقّ
وألصق بالواقع ، وحقّ الرّأي إنمّا هو للمنصوب فقط هذا.
وينبغي التّنبيه
على أمور :
الأوّل : إذا قلنا
بسقوط شرطيّة الاجتهاد ، فيقتصر على العامّي الذي ينصبه المجتهد لا لأجل وجود
الدّليل على الشرطية ـ (لما عرفت من عدم جواز نصب العامّي للقضاء حال الاختيار) ـ بل
لاحتمال مدخليّة نصب المجتهد في هذه الحالة دفعاً للهرج والمرج وحفظاً لنظام
القضاء مع الإمكان.
الثاني : إذا نصب
المجتهد العاميّ العارف بالقضاء له في زمان كان الرّجوع إلى المجتهد موجباً للعسر
والحرج ، فهل يختصّ قضاؤه بخصوص ما لو كان مناط الرجوع موجوداً أو يعمّه وما إذا
كان الرّجوع إليه سهلاً يسيراً؟ هنا وجهان ، والحكم النّابع من العسر والحرج ،
يدور مدارهما فلو كان رفع الشكوى إلى المجتهد سهلاً ، لكان عليه إرجاع المتداعيين
إلى المجتهد وإلّا فيباشر بنفسه ، وتظهر الحقيقة إذا وقفنا على أنّ العسر والحرج
الرّافعين لفعلية الحكم الأوّلي ، منوطان بالعسر والحرج الشخصيّين لا النوعيّين ،
ويمكن أن يقال : إنّ تحديد القضاء بوجود العسر الشخصيّ وعدم كفاية العسر النوعيّ ،
يوجد الغموض في أمر القضاء وربمّا يزيد في العسر والحرج ، والأوّل أحوط والثاني
أقوى ، خصوصاً مع وجود نظام قضائيّ ، يعمل فيه أشخاص كثيرون ، لا يمكن تعليق أمرهم
يوماً دون يوم.
الثالث : إذا نصب
المجتهد العاميّ للقضاء ، يجب عليه العمل بحسب ما يقتضيه تقليده في موازين القضاء
، وليس له أن يتدخّل في ترجيح الآراء بعضها على بعض ، وتقديم المشهور على الشّاذ
إذا كان فتوى مقلّده مطابقة للثاني ، أو ترجيح ما يؤيّد بعض الظنون على الآخر لأنّ
كلّ ذلك من وظائف أصحاب النّظر ومن كلّفوا به.
الرابع : إذا نصب
المجتهد العاميّ للقضاء ، فهل له القضاء بحسب رأي مقلَّده ـ بالفتح ـ أو بحسب رأي
المجتهد الناصب له ، أو يتخيّر؟ الأقوى هو الأوّل ، لأنّه من قبيل دوران الأمر بين
التّعيين والتخيير.
الخامس : إذا كان
هناك من هو أعرف بموازين القضاء من غيره ـ تقليداً ـ يقدّم الأعرف فالأعرف في مقام
النصب ، نعم إذا لم يستعدّ الأعرف للقضاء ، يتعيّن غيره له.
السادس : إذا
تعذّر النّصب من جانب المجتهد ، فعلى المسلمين أن يختاروا أعرفهم بموازين القضاء
ولو عن تقليد.
السابع : ما
يترتّب على قضاء العامّي هو لزوم طاعته وتنفيذ رأيه ، وأمّا عدم جواز نقضه وعدم
جواز تجديد المرافعة لدى التمكّن من المجتهد ، فلا ، لأنّ المذكور من آثار قضاء
المجتهد ، لا العامي العارف بالقضاء ، نعم لا يصحّ النقض إلّا من جانب المجتهد
النّاصب ، لا غيره كي لا يلزم الهرج والمرج.
وعلى كلّ تقدير لو
كان في المجتمع الإسلامي مجتهد جامع للشّرائط ، عليه أن يتكفّل بهذه الأُمور وله
النّصب والعزل والنّقض ، وليس للآخرين التدخّل دفعاً للفوضى واختلال النظام.
المقام الثالث :
في توكيل المقلِّد للقضاء :
هذا هو المقامُ
الثالث ممّا يرجع إلى قضاء المقلِّد وقد عرفت عدم جوازه استقلالاً أو نصباً إلّا
في صورة الضرورة وفرض الحاجة ، وعندئذ يقع الكلام في جواز توكيله له ، وإثباته
يتوقّف على حصول أحد أمرين :
الأوّل : استظهار
كون القضاء قابلاً للنّيابة والتوكيل من أدلّته.
الثاني : وجود
إطلاق في أدلّة الوكالة دالّ على أنّ كلّ أمر قابل للتوكيل ، إلّا
ما قام الدّليل
على عدم قابليّته له.
توضيح المقام :
إنّ الموضوعات من جهة ترتب الأثر عليها مختلفة وهي :
الأوّل : ما
يترتّب عليه الأثر بملاحظة كونه قائماً بفاعل خاصّ ، كالمضاجعة ، فهي محكومة بالحلية
إذا كان المباشر لها الزوج لا غير.
الثاني : ما
يترتّب عليه الأثر بملاحظة أصل وجوده في الخارج من دون لحاظ خصوصيّة للفاعل ، وذلك
كتطهير الثوب بالماء ، فإنّه يطهر مطلقاً سواء كان المباشر للغسل إنساناً بالغاً
أم صغيراً أم غير إنسان من حيوان أو ريح ، فالموضوع هو تحقّق الغسل بالماء كيفما
كان.
الثالث : ما
يترتّب عليه الأثر المقصود بملاحظة قيامه بإنسان عاقل بالغ ، مباشرة أو تسبيباً ،
كالبيع والإجارة والنّكاح والطّلاق.
الرّابع : ما يشكّ
في أنّه من أيّ قسم من هذه الأقسام ، كالقضاء.
نقول : أمّا
الأوّلان فإنّهما لا يقبلان الوكالة ، وذلك لكون الفاعل الخاص في الأوّل موضوعاً
لترتّب الأثر ومثله لا ينفكّ عن اعتبار المباشرة ، وعدم لحاظ الفاعل في الثاني حتى
يكون هناك نائب ومنوب عنه. وأمّا الثالث فإنّه يقبلها بلا شك.
وأما الرابع
كالقضاء ، فلا يمكن التمسّك في إثبات القابليّة له بالعمومات الواردة فيه ، لعدم
كونها بصدد بيان تلك الجهة ، وإليك بعض ما ورد :
الأوّل : ما رواه
الصّدوق في الفقيه بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليهالسلام) أنّه قال : «من وكّل رجلاً على إمضاء أمر من الأُمور ،
فالوكالة ثابتة أبداً حتى يعلمه بالخروج منها ، كما أعلمه بالدّخول فيها» .
والإمعان فيها
يعطي أنّه ليست بصدد بيان قابليّة كلّ «أمر من الأُمور» للوكالة ، بل بصدد بيان
أنّ عمل الوكيل نافذ وماض إلى أن يبلغه العزل.
الثاني : صحيحة
هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في رجل وكّل آخر
__________________
على وكالة في أمر
من الأُمور ، وأشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال : اشهدوا
أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة. فقال (عليهالسلام) «إن كان الوكيل أمضى الأمر الّذي وكّل فيه قبل العزل فإن
الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل ، كره الموكَّل أم رضي» قلت : فإنّ الوكيل
أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما
أمضاه؟! قال (عليهالسلام) : «نعم» قلت له : فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثمّ
ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء؟ قال (عليهالسلام) : «نعم أنّ الوكيل إذا وكِّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض
أبداً ، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلِّغه أو يشافهه بالعزل
عن الوكالة» .
وهذه الرّواية
كسابقتها ليست بصدد بيان أنّ الوكالة في كلِّ أمر ماض ، وإنّما هي بصدد بيان نفوذ
ومضيّ الوكالة في كلِّ ما وكِّل ، وصحة الوكالة ما لم يبلّغ العزل بثقة كما هو
واضح. فإذا شككنا في أنّ القضاء يقبل الوكالة أو لا ، فلا يمكن التمسّك بأمثال هذه
الرّوايات لما ذكرناه ، وعليه فلا دليل على صحّة التوكيل في القضاء .
__________________
في الاجتهاد التجزّئي
يقع الكلام في
مقامين :
الأوّل : في
إمكانه.
الثاني : في
أحكامه.
فنقول : أمّا
الأوّل : فقد يظهر منهم الاختلاف في إمكانه ، فالغزالي والآمديّ وغيرهما يرون جواز
تجزئة الاجتهاد ، ونقل عن أبي حنيفة أنّ الاجتهاد غير متجزّي حيث قال : إنّ الفقيه
هو الّذي له ملكة الاستنباط في الكلّ والمعروف بين الأصحاب هو إمكانه. هذا :
واستدلّ القائل
بالامتناع على أنّ الملكة أمر بسيط وحدانيّ ، والبسيط لا يتجزّأ ، فإن وجدت ملكة
الاستنباط فهو الاجتهاد المطلق وإلّا فلا اجتهاد. وكذا الأمر لو فسّر الاجتهاد
بنفس الاستنباط لا ملكته فإنّه أيضاً أمر بين الوجود والعدم لابين الكلّ والبعض.
__________________
يلاحظ عليه بأحد
أمرين :
الأوّل : أنّه
ملكة بسيطة ذات مراتب متعدّدة ، فهناك مرتبة يمكن بها استنباط المسائل السّهلة أو
مسائل كتاب واحد كالإرث أو الدّماء الثلاثة وهناك مرتبة يمكن بها استنباط المسائل
الصعبة المعضلة. فكونها بسيطة لا ينافي انّها ذات مراتب تختلف شدَّةً وضعفاً.
الثاني : أنّ
الاجتهاد ليس ملكة واحدة ، بل هناك ملكات مختلفة ومتعدّدة ، فإنّ ملكة الاستنباط
في باب المعاملات غيرها في باب العبادات ، والاستنباط في قسم من مسائلها يبتني على
معرفة القواعد الفقهيّة والارتكازات العرفيّة في تلك المجالات من دون حاجة إلى
معرفة فنّ الحديث ورجاله وأسناده وكيفيّة الجمع بين متعارضيه ، وهذا بخلاف أبواب
العبادات فإنّ الاستنباط فيها لا ينفكّ عن هذه الأُمور وغيرها ، وعليه تكون ملكة
الاستنباط فيها ملكتين لا ملكة واحدة ، ولا مانع من حصول إحداهما دون الأُخرى .
قال الغزالي : «وليس
الاجتهاد عندي منصبّاً لا يتجزّأ ... فمن عرف طريق النّظر القياسيّ فله أن يفتي في
مسألة قياسية وإن لم يكن ماهراً في علم الحديث ... ثمّ ضرب أمثلة أُخرى ، مثلاً أن
يكون عارفاً بأُصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصّل الأخبار التي وردت في
مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النّكاح بلا وليّ ، فلا استمداد لنظر هذه
المسألة منها ولا تعلّق لتلك الأحاديث بها ... ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذّميّ
وطريق التصرّف فيه فما ، يضرّه قصوره
__________________
عن علم النحو
الّذي يعرف قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ... وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كلّ مسألة فقد سئل مالك
عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها : لا أدري ، وكم توقّف الشافعي بل
الصحابة في المسائل» .
وقال الآمدي : «وأما
الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلّق بتلك المسألة
، وما لا بدّ منه فيها ، ولا يضرّه في ذلك جهله بما لا تعلّق له بها ممّا يتعلّق
بباقي المسائل الفقهيّة» .
واستدلّ القائل
بالإمكان بوجهين :
الأوّل : إنّ
أبواب الفقه مختلفة مدركاً ، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة ، عقلية أو نقلية مع
اختلاف الأشخاص ، وربّ شخص له مهارة في النقليات دون العقليات وكذلك العكس ، وهذا
يوجب حصول القدرة القويّة في بعضها دون بعض.
الثاني : استحالة
حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزّؤ للزوم الطّفرة .
وأورد عليه : بأنّ
الأفراد (الاستنباطات) كلّها في عرض واحد ، ولا يكون بعضها مقدّمة لبعض آخر حتى
يتوقّف الوصول إلى المرتبة العالية على طيّ المراتب النّازلة ، فلا مانع عقلاً من
حصوله دفعة ـ وبلا تدريج ـ ولو بنحو من الإعجاز من نبيّ أو إمام ، إلّا أن يكون
مراده من الاستحالة ، العاديّة لا العقلية فإنّه لا يمكن عادة حصول الاجتهاد
المطلق دفعة بل هو متوقّف على التدرّج
__________________
شيئاً فشيئاً .
الثاني : في أحكام
المتجزّي :
قد وقفت على إمكان
التّجزّي في الاجتهاد ، فيقع الكلام في أحكامه وهي عبارة عن :
الأوّل : جواز
عمله بما استنبط.
الثاني : جوازُ
رجوع الغير إليه.
الثالث : نفوذ
قضائه.
أمّا الأوّل : فلا
شك في أنّه يجوز له العمل بما استنبط وإلّا فلا بدّ من الاحتياط أو الرجوع الى
الغير ، والأوّل غير واجب باتفاق الكلّ أو حرام لاستلزامه العسر والحرج ، وجواز
الثاني موقوف على تحقّق موضوعه وهو كونه غير عالم أو جاهل سواء كان مستند التّقليد
ما ورد في الآيات والرّوايات من الرّجوع إلى أهل الذّكر والعلم ، أم السيرة
العقلائية ، فإنّ الموضوع على كلّ تقدير هو غير العارف والجاهل ، فلا يعمّ العالم.
وأمّا الثاني :
فإن كان هناك من هو أفقه منه ـ أو على تعبير القوم ـ أعلم منه ، فإن قلنا بوجوب
الرّجوع إليه فلا يجوز الرّجوع إلى المتجزّي في المقام ، بلغ ما بلغ من العلم ،
وإلّا فلا مانع من الرّجوع إليه ، ويكون المتجزّي والمطلق في جواز الرّجوع سيّان.
__________________
نعم ، ربّما يكونُ
رأي المتجزّي أقرب إلى الواقع من المطلق ، كما إذا بذل جهده في باب أو أبواب
مترابطة سنين ، وبرز وبرع وظهرت مقدرته فيه أو فيها ، وإذا كانت الفقاهة أمراً
قابلاً للتفصيل فهذا المتجزّي أكثر فقاهة من المطلق الّذي صرف عمره في جميع
الأبواب ، ولم يتوفّق للدّقة والإمعان في كلّ باب بحسبه.
وقد مضى أنّ مبادئ
الاستنباط في العبادات غيرها في المعاملات ، وأنّ كلاً يحتاج إلى شيء لا يحتاج
إليه الآخر ، بل يحتاج إلى أمر آخر ، فلا مانع أن يكون رأي المتجزّي الملمّ في
العبادات مثلاً أقرب إلى الواقع من المطلق الملمّ في جميع أبواب الفقه إلّا أنّه
لم تظهر الدقّة والبراعة القويتين منه.
فإن قلت : قد مضى
أنّ المقبولة والمشهورة المتقدّمتين غير آبيتين عن الرّجوع إلى المتجزّي إذا
استنبط مقداراً معتدّاً به من الأحكام ، وجازَ قضاؤه ونفذ حكمه ، فلما ذا لا يجوز
أخذ الفتوى منه؟
قلت : إنّ مورد
الروايتين هو القضاء والحكومة وهما غير أخذ الفتوى ، وعدم اشتراط الاجتهاد المطلق
فضلاً عن الأعلمية في نفوذ القضاء ، لا يكون دليلاً على عدم اشتراطهما في الفتوى ،
ضرورة أنّ اشتراط الأعلمية في القاضي موجب لسد باب القضاء في وجه الأُمّة إلّا في
بلد يعيش فيه الأعلم ، وهو واضح البطلان بخلاف اشتراطهما في أخذ الفتوى أو المفتي
، فإنّ فتواه تكفي لجميع الأُمّة.
وأمّا الثالث :
وهو نفوذ قضائه ، فقد عرفت حقّ الكلام فيه ، فلا نعيد.
فيما يتوقّف عليه
الاجتهاد :
يشترط في جواز
العمل بالرّأي فضلاً عن رجوع الغير إلى من يجوز له العمل به ، استنباط الحكم عن
أدلّته الشرعيّة ، وهذا موقوف على تحصيل مقدمات إليك بيانها :
الأوّل : الوقوف
على القواعد العربيّة التي هي المفتاح لفهم مقاصد الكتاب والسنّة وهما المصدران
الأساسيان الرّئيسيان للاستنباط ، ولا يلزم أن يكون العالم مجتهداً في العلوم
العربيّة بل يكفي في ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة فيها.
الثاني : الوقوف
على معاني المفردات حتى يميز المعنى الحقيقيّ عن المجازي والكنايات والاستعارات
التي وردت في الكتاب والسنّة ، ولا يجب أن يكون لغويّاً بحّاثاً في المفردات
وأُصولها.
وليرجع في تفسير
المفردات إلى أُمّهات الكتب ، كالعين للخليل بن أحمد (رضي الله عنه) ولسان العرب
لابن منظور الأفريقي المصري ، والنّهاية في غريب الحديث والأثر للجزريّ (ابن
الأثير) وليس الفقيه في غنى عن الرّجوع إليها بتصوّر وضوح معانيها ، بل هو كلام من
ليس له إلمام بالفقه.
فأين كلمات الصعيد
والكعب والوطن والمفازة والانفاق والمعدن من هذا الوضوح.
ولأجل الوقوف على
مفاهيم كثير من الألفاظ القديمة الصّدور ، فليرجع إلى كتاب المقاييس (مقاييس
اللّغة) لابن فارس بن زكريّا ، فإنّه يذكر أُصول المعاني التي ربّما تشتق منها
المعاني الكثيرة التي لم يكن عنها خبر في عصر صدور الخبر.
الثالث : الوقوف
على المسائل الأُصولية ، فعليها تدور رحى الاستنباط ، والحاجةُ إليها واضحة ، إذ
لو لم يقف العالم على حجيّة خبر الواحد أو لم يحقّق
الوظيفة عند فقدان
النصّ لما أمكن له الاستنباط ، وليس للفقيه مناص من تنقيح هذه المباحث.
هذا وإنّ أُصول
الفقه في زماننا وإن كانت متكاملة بالقياس إلى أُصول فقه السابقين ، لكنّها تحتاج
إلى بعض التنقيح والتهذيب وذلك بإعمال أمرين :
الأوّل : حذف ما
لا فائدة في البحث عنه سوى تشحيذ الأذهان كالبحوث المطروحة في مقدمة كتب الأُصول ،
فإن أكثرها تدور بين كونها بحوثاً أدبيّة أو فلسفية ، فلا يلزم البحث عنها. نعم ،
هناك مباحث مهمّة لا بأس بإحلالها مكانها كالبحث عن الحسن والقبح والملازمات
العقلية المستقلّة وغير المستقلّة ، ولو لا هذه المباحث وتنقيحها لما صحّ للفقيه
الاستدلال بالبراءة والاشتغال أو الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة ضدّها أو كون القضية
ذات مفهوم ، وقد بحث عنها صاحب الفصول ، وحذفها صاحب الكفاية وتبعه آخرون.
الثاني : ذكر
الفروع المترتّبة على تلك القواعد الأُصولية حتى يحصل التمرين والتدريب ، فإنّ ذكر
القواعد مجرّدة عن المثال الحقيقي لا يكون مفيداً. ويجب تنقيح المباحث الأُصولية
عن اجتهاد فإنّها مباني الاستنباط ، وإلّا لا يمكن تحصيله ، ولا يقاس هذا بالمبادئ
البعيدة كالقواعد العربيّة ومعاني المفردات فإنّها لا تعد من مبانيه.
الرّابع : علم
الرّجال ومعرفة الثقات والضّعاف ، حتى ينقَّح السّند القويّ من الضّعيف والصحيح من
السقيم ، ومعرفة الراوي والمرويّ عنه والتلاميذ والمشايخ لتمييز السند المتصل عن
المقطوع والمرسل ، ومعرفة مكانة الرّجاليّين في مقدار الاعتماد على أقوالهم.
ثمّ إنّه لو قلنا
بأنّ الملاك في قبول الخبر هو وثاقة الرّاوي وأنّ عمل المشهور به غير جابر له لو
كان ضعيفاً وإعراضه عنه غير موهن له لو كان قويّاً ، تكون
الحاجة إلى علم
الرّجال أساسيّة ، فلا مناص حينئذ للفقيه في كلّ خبر يفتي بواسطته عن استعلام
أحوال الرّواة من حيث الوثاقة والضعف.
وأمّا لو قلنا
بأنّ الملاك هو الوثوق بالصّدور والاطمئنان به ، فبما أنّ إحراز وثاقة الرّاوي
إحدى الطرق إلى تحصيل الاطمئنان بالصّدور ، فلا غنى للفقيه عنه ، ولا ينفعه القول
بأن الشهرة العمليّة جابرة لضعف الرّواية والاعراض موهن لها ومسقط لها عن الحجّية
وذلك لأنّ مواضع الشهرة الجابرة قليلة إذ المراد بها هو عمل قدماء الأصحاب
بالرّواية في عصر الصّادقين وبعدهما ، كعصر الغيبة الصّغرى وأوائل الغيبة الكبرى
إلى عصر المحقّق (الحلي) (رضي الله عنه). وفيما لا شهرة فيه ولا إعراض لا تقلّ
حاجة الفقيه إلى علم الرّجال من حاجته على القول المتقدّم ، والحاصل أنّ الشهرة
العمليّة وإن كانت جابرة والاعراض وإن كان موهناً ، إلّا أنّ مواردهما ـ كما ذكرنا
ـ قليلة ، فلا غنى للفقيه عن علم الرّجال في غير تلك الموارد.
ثمّ الأولى عدم
الاكتفاء في توثيق الرّواة بما ورثناه عن المشايخ كالبرقيّ والكشيّ وابن الغضائريّ
والنّجاشي والشيخ الطوسي ، كما عليه المحقّق الخوئيّ (رضي الله عنه) بل يجب
التعرّف على أحوال الرّواة عن كثب حتّى نعرف مقدار صلته بالرواية وبالمشايخ ،
وعناية الرّواة بالرّواية والإمعان في متون رواياته من حيث الاتفاق وعدمه ووجود
مضمونها في سائر الرّوايات ، وحينئذ تتجلى وثاقة الرّاوي أو عدمها ولو ضمّ المحصل
مع بقيّة القرائن والشواهد لأصبح حال الرّجال كفلق الصبح وهذا النّوع والأسلوب من
التحقيق لا يقوم به إلّا الأمثل فالأمثل من أهل العلم والفقه ، وكان سيّدنا
المحقّق البروجردي (رضي الله عنه) فارس هذا الميدان وبطله الباسل.
الخامس : معرفة
الكتاب والسنّة إذ عليهما تدور رحى الاستنباط ، نعم قلّت عناية الفقهاء بالإمعان
في الآيات واستخراج نكاتها ، إلّا أنّه ظلم بأحد الثقلين
اللّذين تركهما
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بين الأُمّة ، فيجب على الفقيه الإمعان في مفاد الآية
أوّلاً ثمّ الرّجوع إلى الرّوايات الواردة حولها ، ولا تجب معرفة القرآن الكريم
بتمامه ، بل يكفي فيه معرفة آيات الأحكام التي اختلفت الأقوال في عدّها من
ثلاثمائة آية إلى خمسمائة أو تسعمائة آية .
هذا وإنّ الاختلاف
في عدد آيات الأحكام راجع إلى كون الملاك فيها ، هل هو خصوص الدلالة المطابقية أو
الأعمّ منها والدّلالة الالتزاميّة؟ فعلى الأوّل لا يتجاوز عددها عن الثلاثمائة
آية مثل قوله سبحانه : (... فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ...) (البقرة ـ ١٩٦).
وعلى الثاني ربّما يتجاوز عددها عمّا ذكر ، فالفقهاء استنبطوا أحكاماً عديدة من قوله
سبحانه : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى
ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص ـ ٢٧ و ٢٨).
وقد سمعنا عن بعض
مشايخنا أنّ بعض الفقهاء استنبط من سورة المسد (رقم ـ ١١١ ـ مكية) أربعة وعشرين
حكماً شرعيّاً ، بل قال بعضهم : ليس في القرآن آية إلّا وهي مصدر حكم شرعي ـ ولعلّه إغراق.
السادس : معرفة
المذاهب الفقهيّة الرّائجة في عصر الأئمّة (عليهمالسلام) التي كان عمل القضاة عليها ، والنّاس يرجعون إليها ، فإنّ
في معرفة تلك المذاهب تمييز
__________________
ما صدر عن تقيّة
عمّا صدر عن غيرها ، وأمّا المذاهب الأربعة المعروفة فإنّها صارت رائجة بعد
أعصارهم (عليهمالسلام).
ولعلّ أحسن كتاب
في هذا الموضوع كتاب الخلاف للشيخ الطوسيّ (رضي الله عنه) ، ونقترح على مشايخ
الحوزة أن يجعلوا معرفة المذاهب مادة خاصة في تعلّم الفقه حتى يقف الفقيه على
كيفية تطوّر الفقه ويتعرف على الّذين كان لهم مذهب فقهيّ غير أصحاب المذاهب
المعروفة ، وكانوا معاصرين لأئمة أهل البيت (عليهمالسلام) ومنصوبين من جانب الخلفاء وكانت لهم السّلطة والقوّة ،
والأئمة (عليهمالسلام) يتّقون منهم ، والتعرّف على فتاوى هؤلاء هو الميزان
لتمييز التقيّة من غيرها لا فتاوى أمثال الشافعيّ المتوفّى في أوائل عصر الإمام
الجواد (عليهالسلام) (٢٠٤ ه ـ) أو ابن حنبل المتوفّى في عصر الإمام الهادي (عليهالسلام) (٢٤١ ه ـ) .
السابع : معرفة
الشّهرات الفتوائيّة ، وقد وقفت على أهميّتها عند البحث عن حجيّتها ، في محلِّه
وقلنا : إنّ الشّهرة على أقسام ثلاثة : روائية ، عمليّة ، فتوائيّة ، والأخيرة
كاشفة عن وجود النصّ والوسطى توجب خروج المعارض عن الحجيّة.
الثامن : ممارسة
الفروع الفقهيّة حتّى تحصل له ملكة الاستنباط ، ولولاها لما انتقلت الملكة من عالم
القوّة إلى عالم الفعل. وقد كانت مجالس العلماء سابقاً حافلة بذكر الفروع الفقهيّة
وكانت عمليّة التدريب على هذا الأساس ، إلّا أنّه قلّت العناية بها في الآونة
الأخيرة ، وحلّت مكانها البحوث السياسيّة والاجتماعية.
__________________
نعم لو هذّبت
الأصول وزيد عليها ذكر الفروع الفقهيّة المترتّبة عليها ، لحصلت الممارسة بها عند
قراءة الأصول ودراستها ، عسى أن يبعث الله رجلاً يقوم بتلك المهمّة ويذكر شيئاً من
الفروع المتفرّعة على المسائل الأصولية في ذيل كل باب.
التاسع : معرفة
القواعد الفقهية التي هي خير وسيلة لاستخراج حكم جزئيّ من الحكم الكليّ ، وأحسن ما
أُلّف في هذا المجال ، كتاب القواعد والفوائد للشّهيد الأوّل (رضي الله عنه) ثمّ
نضد القواعد للفاضل المقداد السّيوريّ (رضي الله عنه) وتمهيد القواعد للشهيد
الثاني ، وأخيراً القواعد الفقهيّة للسيّد البجنورديّ (رضي الله عنه).
العاشر : معرفة
القواعد الرّياضيّة والهندسيّة وقليلاً من علم الهيئة التي تسهّل في استنباط أحكام
المواريث والقبلة والمقادير الواردة في الكرّ والزّكوات وغيرهما ، وشيئاً من علم
المنطق لتترسّخ في ذهنه إقامة الدّليل على وفق النّظام المنطقيّ.
ولو حصلت عنده هذه
المبادئ ، وجد في نفسه قوّة استطاع معها استنباط أحكام الموضوعات بعد الدقّة
والتأمّل ، ولا تحصل إلّا بعد طول الممارسة والتمرين والاستئناس بالمسائل
والأقوال.
الترتيب المنطقيّ
لإعمال الأدلّة :
إذا عرفت ما
يتوقّف عليه الاجتهاد فالترتيب المنطقي للاستنباط عبارة عن رعاية أُمور :
الأوّل : الإحاطة
بأقوال الفقهاء قدمائهم وجددهم من العامّة والخاصة على حسب الترتيب الزّمني ، فيلاحظ
: الإيضاح لابن شاذان (م ـ ٢٦٠ ه ـ) وفتاوى القديمين : ابن أبي عقيل العمانيّ
المعاصر للكليني وابن الجنيد (الإسكافي) المتوفّى
عام (م ـ ٣٨١ ه
ـ) والمفيد (رضي الله عنه) (م ـ ٤١٣ ه ـ) والشيخ الطوسي (رضي الله عنه) (م ـ ٤٦٠
ه ـ) وابن البرّاج (م ـ ٤٨١ ه ـ) ، وابن حمزة (م ـ ٥٥٠ ه ـ) وابن إدريس (م ـ ٥٩٨
ه ـ) والمحقق (م ـ ٦٧٦ ه ـ) وابن سعي ـ د (م ـ ٦٨٩ ه ـ) والعلّامة (م ـ ٧٢٦ ه
ـ) والشهيد الأوّل (م ـ ٧٨٦ ه ـ) والفاضل المقداد (م ـ ٨٢٦ ه ـ) وابن فهد الحليّ
(م ـ ٨٤١ ه ـ) والمحقّ ـ ق الثاني (الكركيّ العاملي (رضي الله عنه) (م ـ ٩٤٠ ه
ـ) والشهيد الثاني (م ـ ٩٦٦ ه ـ) والأردبيليّ (رضي الله عنه) (م ـ ٩٩٣ ه ـ) إلى
غير ذلك من فحول الأعلام.
ومن كتب أهل
السنّة : يلاحظ المبسوط للسرخسيّ (م ـ ٤٨٣ ه ـ) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد
للقرطبي (م ـ ٥٩٠ ه ـ) والمغني لابن قدامة (م ـ ٦٢٠ ه ـ) مضافاً إلى الخلاف
للشيخ الطوسي والتذكرة للعلّامة من علمائنا للوقوف على أقوال أهل الخلاف.
الثاني : الدقّة
في صور المسألة ، فإنّ الإحاطة بها نصف الاستنباط كما روي عن السيّد المحقّق
اليزديّ الطباطبائي (رضي الله عنه) ، وربّما تكون لبعض الصّور خصوصيّة يتبعها حكم
خاصّ.
الثالث : الرّجوع
إلى الكتاب أوّلاً والتحقيق في مفردات الآية وجملها ، والآيات الواردة في الأحكام
وإن كانت قليلة ، لكن هناك آيات يمكن أن تقع ذريعة للأحكام الشرعية يعرفها من خالط
القرآن عقلاً وروحاً ، وقد ذكرنا نماذج منها في بعض كتبنا .
__________________
الرّابع : ثمّ
الرّجوع إلى السنّة المتواترة والمستفيضة.
الخامس : ثمّ إنّه
ـ لو كانت المسألة ـ بعد دلالة الكتاب والسنّة إجماعيّة ، فلا قيمة للإجماع
لاستمداده من الكتاب والسنّة ، فالدليل عند المجمعين هو المصدران ، وقد وصلنا إلى
ما وصلوا إليه ـ وهذا هو المعبّر عنه بالمدركيّ ـ ، نعم يستدلّ بالإجماع أو
الشّهرة الفتوائية فيما لو لم يكن هناك دليل من الكتاب والسنّة.
السادس : إذا لم
نجد في المصدرين المذكورين ما يدلّ على الحكم ، نرجع إلى الإجماعات المحقّقة
والشهرات الثابتة الكاشفة عن دليل قطعيّ كان بيد الأُمّة ، إذ من المحال عادة
الاتفاق على حكم بلا سند. وقد أثبتنا حجيّة الشّهرة الفتوائية في مبحث الشهرة.
السابع : ثمّ
الرّجوع إلى أخبار الآحاد ، فإنّها حجّة ، فإذا كان هناك تخالف بين القرآن والسنّة
بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، يصحّ تخصيص القرآن وتقييده بها إذا كانت
متواترة أو مستفيضة ، أو آحاداً إلّا أنّه حصل من القرائن القطع بصحّتها أو
الاطمئنان بها دون ما إذا كانت آحاداً ولم يحصل القطع بصحتها أو الاطمئنان بها ،
فإنّها لا تكون مخصّصة للقرآن أو مقيّدة له ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ موقف القرآن
أرفع من أن يخضع لأخبار الآحاد ، وأنّ القدامى كانوا متحرّزين من التصرّف في دلالة
الكتاب بأخبار الآحاد.
الثامن : لو كان
بين السنّة اختلاف بنحو من الأنحاء ، فإن كان من موارد الجمع العرفيّ يجمع وإلّا
يرجع إلى مميزات الحجّة عن اللّاحجّة ـ على مختارنا في الأخبار العلاجيّة ـ أو
المرجحات ـ على مختار البعض ـ أو لا فيتخيّر.
ومع فقدان الدّليل
المعتبر فالمرجع هو الأصول العمليّة.
هذه هي الصّورة
المنطقيّة لإعمال الأدلّة ، ومن المعلوم أنّها تعطي صورة مصغّرة لكيفيّة الاستنباط
، وله ـ وراء ذلك ـ أعمال أُخر يقف عليها الممارس
للاجتهاد.
وهنا كلام للغزالي
في هذا المجال لا بأس بالتعرّض له ، وضعفه يظهر بما ذكرنا ، قال : «يجب على
المجتهد في كلّ مسألة أن يردّ نظره إلى النّفي الأصلي قبل ورود الشرع ، ثمّ يبحث
عن الأدلّة السمعيّة المغيّرة ، فينظر أوّل شيء في الإجماع ، فإن وجد في المسألة
إجماعاً ترك النظر في الكتاب والسنّة ، فإنّهما يقبلان النسخ ، والإجماع لا يقبله
، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنّة دليل قاطع على النسخ ، إذ لا تجتمع
الأُمّة على الخطأ ، ثمّ ينظر في الكتاب والسنّة المتواترة وهما على رتبة واحدة ،
لأنّ كلّ واحد يفيد العلم القاطع ، ولا يتصوّر التعارض في القطعيات السمعيّة إلّا
بأن يكون أحدهما ناسخاً ، فما وجد فيه نصّ كتاب أو سنّة متواترة ، أخذ به ، وينظر
بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره ، ثمّ ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد
ومن الأقيسة ، فإن عارض قياس عموماً أو خبر واحد عموماً فقد ذكرنا ما يجب تقديمه
منها ، فإن لم يجد لفظاً نصّاً ولا ظاهراً ، نظر إلى قياس النّصوص ، فإن تعارض
قياسان أو خبران أو عمومان ، طلب الترجيح كما سنذكره ، فإن تساويا عنده توقف على
رأي وتخيّر على رأي آخر» .
فالترتيب لديه
يتمّ على النّحو التالي :
الأوّل : مقتضى
قاعدة نفي التشريع قبل ورود الشرع.
الثاني : الأدلة
المخالفة لهذا الأصل في هذا المورد بخصوصه.
وهنا يرجع أوّلاً
إلى الإجماع ، فإن وجد كفى الأمر ، وإلّا يرجع ثانياً إلى النصوص المتواترة لفظاً
وسنداً كالكتاب في نصوصه والسنّة المتواترة في نصوصها التي لا تقبل الخلاف.
__________________
ثمّ يرجع ثالثاً
إلى الظواهر والعمومات وما يطرأ عليها من مخصّصات خبريّة أو قياسيّة ، وبعد ذلك
يرجع للأقيسة فإن تعارضت رجّح الأقوى وإلّا فالتوقّف أو التخيير.
يلاحظ عليه بوجوه
:
أوّلاً : أنّ
المراد من النفي الأصليّ هو أصالةُ البراءة ، وهو دليل من تفحّص عن الدّليل
الاجتهاديّ ولم يجده ، فالرّجوع إليها متأخر رتبة عن الرّجوع إلى الدّليل
الاجتهاديّ من الكتاب والسنّة ، فكيف قدّم الأصل العمليّ وهو في المقام ـ البراءة
ـ على الكتاب والسنّة.
وثانياً : كيف
يتصوّر إجماع على خلاف الكتاب والسنّة بتوهّم إمكان كونه ناسخاً لهما ، إذ ليس
لإجماع الأُمّة ـ وكلُّ واحد منهم خاطئ ـ قيمة ووزن ، إلّا إذا كشف عن دليل شرعيّ
، وعندئذ يجب أن يكون للمجمعين على خلافهما دليل من نصّ كتابيّ أو سنّة قطعيّة
فيكونا ناسخين ، ومن المستحيل جدّاً أن يكون هناك إجماع على خلاف الكتاب والسنّة ،
ولا يكون سنده آية أو رواية محفوظين لدى الأُمة.
وثالثاً : كيف
يسوغ لنا التصرّف في دلالة الكتاب بخبر ظنيّ مثل الخبر الواحد وأسوأ حالاً منه
التصرّف في دلالة الكتاب بالقياس الّذي ما أنزل به من سلطان ، وإنّما لجأ إليه أبو
حنيفة وأقرانه لقصور أيديهم عن الدّليل ، إلى غير ذلك من الملاحظات الواضحة في
كلامه.
في التخطئة
والتصويب :
اختلفت أنظارُ
الفقهاء في التخطئة والتصويب ، وهل أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده أو لا؟ واتفقوا
على أنّ الحقّ واحد في موارد وهي :
الأوّل : إنّ
الحقّ في الأُصول والمعارف أمر واحد ، وما وافقه هو الحقّ والصّواب وما خالفه هو
الخطأ ولم يقل أحد من المسلمين إلّا من شذَّ بالتّصويب في العقائد .
قال المرتضى (قدسسره) : «ولا شبهة في أنّ العبادة بالمذاهب المختلفة إنّما يجوز
فيما طريقه العمل دون العلم ، وأنّ الأصول المبنية على العلم نحو التوحيد والعدل
والنبوّة ، لا يجوز أن يكون الحقُّ فيها إلّا واحداً ، لأنّ الله تعالى لا يجوز أن
يكون جسماً أو غير جسم ويرى ولا يرى على وجهين مختلفين ، وبإضافة إلى مكلّفين
متغايرين ، وقد يجوز أن يكون الشيء الواحد حراماً على ـ زيد ـ وحلالاً على ـ عمرو
ـ إلى أن قال : فمن جمع بين أصول الدّين وفروع الشرع ، في هذا الباب فقد ضلّ وأبعد
عن الصّواب» .
وقال الشيخ
الطوسيّ (رضي الله عنه) : «اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغييره عما هو عليه من وجوب
إلى حظر أو من حسن إلى قبح ، فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في
ذلك لا يختلف وأنّ الحقّ في واحد وأنّ من خالفه ضال فاسق ، وربمّا
__________________
كان كافراً وذلك
نحو القول بأنّ العالم قديم أو محدث ، وإذا كان محدثاً هل له صانع أم لا ، والكلام
في صفات الصّانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوّة والإمامة وغير ذلك» .
الثاني : لا شك
أنّ الحقّ في الموضوعات ، كالقبلة وأروش الجنايات وقيم المتلفات واحد ، فأحد
الظنون حقّ وغيره باطل. وأمّا إطلاق التصويب فيها ، فإنّما لغاية كفاية الظنّ في
صحّة الصلاة وعدم الإعادة .
قال المرتضى (قدّه)
بعد التمثيل بما ذكرناه : «وكلّ مجتهد فيما جرى هذا المجرى مصيب ، ألا ترى أنّ من
أدّاه اجتهاده إلى أمارة ظهرت له أنّ القبلة في جهة من الجهات ، لزمته الصلاة إلى
تلك الجهة بعينها ، فإذا أدّى غيره اجتهاده إلى أنّ القبلة في غيرها ، لزمته
الصلاة إلى ما غلب في ظنّه أنّه جهة القبلة ، وكلّ منهما مصيب وإن اختلف التكليف» .
الثالث : ومثل
الأمرين المتقدّمين ، الموضوعات التي ثبتت أحكامها ببداهة ، فلا يتطرّق إليها
التصويب بل الحقّ فيها واحد. قال الشيخ (قدسسره) :
«وكذلك الكلام في
أنّ الظلم والعبث والكذب قبيح على كل حال ، وأنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والانصاف
حسن على كلّ حال وما يجري مجرى ذلك وإنّما قالوا ذلك ، لأنّ هذه الأشياء لا يصحّ
تغيّرها في نفسها ولا خروجها عن صفتها التي هي عليها ... وحكي عن قوم شذاذ لا
يعتمد بأقوالهم أنهم قالوا : إنّ كلّ مجتهد فيها مصيب وقولهم باطل» .
__________________
الرابع : إذا كان
في المسألة نصّ قطعي السّند والدّلالة فلا موضوع للاجتهاد وبالتالي لا موضوع
للتصويب والتّخطئة. قال ابن القيّم ناقلاً عن الشافعي :
«أجمع النّاس على
أنّ من استبانت له سنّة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وتواتر عنه (أي
الشافعيّ) أنّه قال : وإذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط ، وصحّ عنه أنه قال :
إذا رويت عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حديثاً ولم آخذ به ، فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب ، وصحّ عنه
أنّه قال : لا قول لأحد مع سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» .
إذا تبيّن موضع
النّقاش وعلم أنّ النزاع في التخطئة والتصويب في أمر آخر وهو هل أنّ لله في كلّ
حادثة حكماً معيّناً قبل اجتهاد المجتهد أو لا؟
نقول : مذهب
أصحابنا وجماعة من أهل السنّة والأباضيّين إلى أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتّجه إليه
المجتهد فيصيبه تارة ويخطئه أُخرى فالحقّ واحد قد يدرك وقد لا ، ويبدو أنّ النزاع
في التصويب والتخطئة نشأ من تجويز العمل بالقياس وبأخبار الآحاد ، قال الطوسيّ (رضي
الله عنه) :
«واعلم أنّ الأصل
في هذه المسألة القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد ، لأنّ ما طريقه التواتر
وظواهر القرآن فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك ، وإنّما
اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه» .
إذا عرفت ما
ذكرناه ، فاعلم أنّه يظهر من الشيخ أنّ أكثر المتكلّمين والفقهاء
__________________
من غير الشيعة على
التصويب وأنّ المخالف منهم بشر المريسي وأبو بكر الأصمّ ، الأباضيّة والظّاهريّة .
قال (رضي الله عنه)
: «ذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم ،
وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم وأبي الحسن (الأشعري) وأكثر المتكلّمين ، وإليه ذهب
أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن عنهم.
وقد حكى غيره من
العلماء عن أبي حنيفة.
وذهب الأصمّ وبشر المريسي إلى أنّ الحقّ في واحد من ذلك وهو ما يقولون به وأنّ ما
عداه خطأ ، حتى قال الأصمّ : إنّ حكم الحاكم ينقض به ويقولون : إنّ المخطئ غير
معذور في ذلك إلّا أن يكون خطؤه صغيراً وإنّ سبيل ذلك سبيل الخطأ في أصول
الدّيانات.
وذهب أهلُ الظاهر
ـ فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره ـ أنّ الحقّ من ذلك في واحد ، وأمّا
الشافعيّ فكلامه مختلف في كتبه ...
ـ إلى أن قال (رضي
الله عنه) ـ والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين من المتقدّمين
والمتأخّرين وهو الّذي اختاره سيّدنا المرتضى (قدّه) وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد
الله ، أنّ الحقّ في واحد» .
__________________
ويظهر من الغزالي
أنّ مورد النزاع في التصويب والتخطئة هو الواقعة التي لا نصّ فيها ، وليس لله
سبحانه فيها حكم معيّن بل الحكم يتبع الظنّ قال : وقد اختلف الناس فيها واختلفت
الرواية عن الشافعيّ وأبي حنيفة ، وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أنّ كلّ مجتهد في
الظنّيات مصيب ، وقال قوم المصيب واحد واختلف الفريقان جميعاً في أنّه هل في
الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن لله تعالى هو مطلوب المجتهد ، فالّذي ذهب إليه
محقّقو المصوّبة أنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ بل
الحكم يتبع الظنَّ وحُكماً لله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه وهو المختار
وإليه ذهب القاضي.
وذهب قوم من
المصوبة إلى أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطّلب إذ لا بدّ للطلب من مطلوب ،
لكن لم يكلّف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي
لم يؤمر بإصابته بمعنى أنّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه .
وعلى ذلك
فالمصوّبة على فرقتين ، فرقة تنكر وجود الحكم المشترك ، وفرقة تثبته ولكن تنكر
الأمر بإصابته ، ولكن في عدّ الفرقة الثانية من المصوبة نوع خفاء ، فإنّ المخطّئة
تقول بنفس المقالة لأنّ المفروض عدم وجود نصّ في الواقعة ، فمعه كيف يكون مأموراً
بإصابته ، وعليه يصير الحكم الواقعي حينئذ حكماً إنشائيّاً (لا فعلياً).
وعلى كلّ تقدير :
فإنّ فتوى المفتي على قول الفرقة الأُولى أشبه بالأحكام الأوّليّة الثانويّة عندنا
إذ لله سبحانه في ذلك المجال حكم مشخص تابع للمصالح والمفاسد ، ولأجل ذلك تختلف
الأحكام الأوّلية وجوباً وحرمة باختلاف
__________________
الأزمنة والأمكنة
، وسيوافيك معنى الأحكام الأوّلية الثانوية عند البحث عن مدخليّة عنصر الزّمان
والمكان في الاجتهاد ، كما أنّها على قول الفرقة الثانية أشبه بالأحكام الظاهرية
التي توافق الواقع تارة وتخالفه أُخرى ، فعند الموافقة يكون المؤدّى نفس الواقع
وعند المخالفة لا يكون مأموراً بإصابته.
ولمّا كان القول
بإنكار الحكم الإلهيّ في الوقائع التي لا نص فيها ، يحبط من جامعيّة الإسلام في
مجال العقيدة والشريعة ، حاول بعض أهل السنّة تفسير التصويب بمعنى لا يخالف ذلك ،
ومجمل ما أفاد : إنّ القول بالتّصويب ليس بمعنى نفي حكم الله في الواقع ، وإنّ حكم
الله تابع لرأي المفتي ، بل هو في قبال القول بالتأثيم وأنّ المجتهد إذا أخطأ يأثم
، فصار القائل بالتصويب ـ بردّ ذلك المتقدّم ـ يعني نفي الإثم لا إصابة الواقع ،
فعليه يصير النزاع في التصويب والتخطئة لفظياً ، وإليك توضيحه :
إنّ أهل السنّة في
مجال فتوى المفتي على طوائف :
الأُولى : إنّ
المجتهد لم يكلّف بإصابة الواقع لخفائه وغموضه فلذلك لم يكن مأموراً به.
الثانية : أمر
المجتهد بطلبه وإذا أخطأ لم يكن مأجوراً لكن حطَّ الإثم عنه تخفيفاً.
الثالثة : إنّ
المجتهد الذي أخطأ الدّليل القطعيّ آثم غير فاسق ولا كافر ، وهذا قول بشر المريسي
، ونسبه الغزالي والآمدي إلى ابن عليه وأبي بكر الأصمّ ،
__________________
وهؤلاء هم
المؤثّمة .
وعلى ضوء ذلك :
فالمراد من التصويب هو نفي القول بالإثم الذي أصرّ عليه بشر المريسي ، لا إصابة
كلّ مجتهد للحقّ الملازم لنفي الحكم المشترك ، وكيف يمكن نسبة القول بالتصويب
بمعنى نفي حكم الله في الواقعة مع أنّهم رووا في كتبهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا أخطأ فله
أجر .
وممّن جزم بذلك
الشوكاني فقال : «إنّ المجتهد لا يأثم بالخطإ بل يؤجر على الخطأ بعد أن يوفي
الاجتهاد حقّه ، ولم نقل : إنّه مصيب للحق الذي هو حكم الله في المسألة ، فإنّ هذا
خلاف ما نطق به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحديث حيث قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
فقسّم ما يصدر عن
المجتهد في الاجتهاد في مسائل الدّين إلى قسمين : أحدهما ، هو مصيب فيه ، والآخر
هو مخطئ ، فكيف يقول قائل : إنّه مصيب للحق
__________________
سواء أصاب أو أخطأ
، وقد سمّاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مخطئاً ... فمن زعم أنّ مراد القائل بتصويب المجتهد من
الإصابة للحق مطلقاً فقد غلط عليهم غلطاً بيّناً ... إنّ مقصودهم : إنهم مصيبون من
الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي هي مقابلة للخطأ ، فهذا لا يقول به
عالم ومن لم يفهم هذا المعنى فعليه أن يتّهم نفسه .
فتبيّن لنا ممّا
تقدّم أمران :
الأوّل : إنّ
القدر المتيقّن من القول بالتصويب هو الأحكام التي لم يرد فيها نصّ وعوّل أمرها
إلى المجتهدين وبما أنّه ليس فيها واقع محفوظ ، يكون الكلُّ مصيباً كالأحكام
الحكوميّة.
الثاني : إنّه من
المحتمل جدّاً أنّ المراد من التصويب هو نفي الإثم عن المجتهد ، لا إصابة الواقع.
نعم ، ما ذكره
الشوكاني ربما لا ينطبق على بعض تعبيراتهم ، وعلى كلّ تقدير فالتصويب بالمعنى
المشهور باطل عند الإمامية لتضافر الروايات على أنّ حكم الله مشترك بين العالم
والجاهل .
ثمّ إنّ الدّاعي
إلى القول بالتصويب هو الإشكال الموجود في الجمع بين الأحكام الواقعيّة والأمارات
الظنّية التي ثبتت حجيّتها ، مع العلم بأنّ بعضها على خلاف الحكم الواقعي ، فزعموا
أنّه لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقات الأدلّة القائلة
__________________
بعدم اختصاص
مداليلها بالعالمين بل شمولها للجاهلين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين وتفويت المصلحة
أو الإبقاء في المفسدة ، وقد أوضحنا الحال في باب الجمع بين الحكم الواقعي
والظّاهري وأنّ المفاسد كلّها خطابيّة كانت أو ملاكيّة ، مرتفعة ، فلاحظ.
الاجتهاد والأزمنة
والأمكنة :
إنّ تأثّر اختلاف
الأزمنة والأمكنة في استنباط الأحكام الشرعيّة ، كان مطروحاً من السابق في كتب أهل
السنّة وقد عالجوا بها مخالفة الخلفاء لنصوص الكتاب والسنّة ، فصحّحوا المخالفة
باختلاف الظروف ، وأنّ مقتضى المصالح العامّة هو ترك العمل بالنّصوص وتقديم
المصالح عليها ، وقد طرحه ابن القيّم الجوزية في كتاب «أعلام الموقعين» وأتى فيه
بكلام مسهب لا يسعنا نقله وخرج بهذه النتيجة وهي : أنّ للحاكم الإسلامي تقييد
المطلقات والعمومات بملاكات خاصّة ، ولأجل ذلك ، كتب عمر بن الخطاب إلى الناس أن
لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سريّة (ولا) رجل من المسلمين حدّاً وهو غاز حتى يقطع
الدّرب قافلاً لئلّا تلحقه حميّة الشيطان فيلحق بالكفّار . ورأى مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلّا
بإمضائها على الناس ، ورأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع ، ثمّ أضاف ابن
القيّم : «فلمّا تغيّر الزمان وبعد العهد بالسنّة وأثار القوم ، وقامت سوق التحليل
ونفقت في الناس ، فالواجب أن يردّ الأمرُ إلى ما كان عليه في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقلّلها
ويخفّف شرّها» .
هذا ولا يمكن لنا
الموافقة مع كلّ ما ذكره ، فإنّ مآل كلامه أنّ للحاكم
__________________
الإسلامي حقّ
التشريع والتقنين ، مع أنّه يمكن حفظ المصالح وقوّة المسلمين عن طريق آخر سنقف
عليه عند البحث عن الأحكام الأوّليّة والثانوية ، غير أنّ تحقيق الكلام في تأثير
اختلاف الزّمان والمكان موقوف على النظر في أمرين ثابتين غير متغيّرين :
الأوّل : الإسلام
دين عالميّ لا إقليميّ كما إنّه خاتم الأديان ، لا دين بعده ، فالنبي الأكرم خاتم
الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب السّماويّة وشريعته خاتمة الشّرائع لا تشريع بعدها
أبداً ، وقد جاء النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بكلّ ما يحتاج إليه الإنسان آجلاً وعاجلاً فهو في غنى عن
الرّجوع إلى شرع آخر مطلقاً.
الثاني : إنّ من
مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين والتشريع ، وأنّه ليس لنبيّ ولا وصيّ حقُّ
التشريع ، بل واجبهم التبليغ والتبشير والانذار ، وهذا هو الوحي الإلهي يأمر
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ
لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى
إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس ـ ١٥).
هذا وإنّ في كلمات
الإمام علي بن أبي طالب (عليهالسلام) تلميحات إلى تغيير الأحكام بمر الزّمان وتبدّل الأوضاع ،
نشير منها إلى كلمتين :
الأولى : يصفُ
أحكام الله سبحانه : «وبين مثبت في الكتاب فرضه ، ومعلوم في السنّة نسخه ، وواجب
في السنّة أخذه ، ومرخّص في الكتاب تركه وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله» .
الثانية : سئل
الإمام (عليهالسلام) عن قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : غيّروا الشّيب ولا تشبّهوا باليهود ، فقال (عليهالسلام) : «إنمّا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك والدّين قلّ ، فأمّا الآن وقد
__________________
اتسع نطاقه وضرب
بجرانه ، فامرؤٌ وما اختار» .
وروي نظير ذلك في
كلام الإمام الصادق (عليهالسلام) في وجوب دفع الخمس إليهم ، روى يونس بن يعقوب قال : كنت
عند أبي عبد الله (عليهالسلام) فدخل عليه رجل من القماطين ، فقال : جعلت فداك تقع في
أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون.
فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ، ذلك اليوم» .
وفي رواية عن عليّ
بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليهالسلام) ما يدلّ على إيجاب الخمس على الشيعة سنة عشرين ومائتين
فقط .
إذا وقفت على ما
ذكرنا ، فاعلم أنّ تأثير الأزمنة والأمكنة في الاجتهاد والاستنباط يجب أن يفسّر
على وجه لا يصادم الأصول المسلّمة من كونه تشريعاً عالمياً خاتميّاً وأنّه ليس
لغيره سبحانه حقّ التشريع ، وفي الوقت نفسه مرونة الأحكام مع جميع الأزمنة
والأمكنة ، وأنّها لا تصادم أيّة حضارة من الحضارات الإنسانية وإليك بيانه على ضوء
تلك الأُصول :
إنّ الحكم الشرعيّ
ربّما يكون مكتنفاً بخصوصيّات تعدّ مقوّمة للحكم الشرعي فيتغير بتغيّرها ويتبدّل
بتبدّلها ، ولا يعني ذلك رفض الحكم الإلهيّ أو إنكار عالمية التشريع ، وأبديّته ،
بل بمعنى تغيّر الحكم بتغيّر الموضوع والجهات المقوّمة له عند نفس الشارع ، فكما
أنّ الحكم بطهارة الكلب مع صيرورته ملحاً أو تراباً لا يعدّ خلافاً له ، هكذا
تغيّر الحكم بتغيّر الخصوصيّات الأُخر لا يعدّ خلافاً له.
__________________
ثمّ إنّ الخصوصيات
ـ المؤثرة في الحكم تارة تؤثّر في مقام الإفتاء وأُخرى في مقام حكم الحاكم
الإسلامي من جهة الولاية ، فعلى الخبير عدم الخلط بينهما ، وإليك بعض الأمثلة من
كلا القسمين ـ على أقسام :
الأوّل : أن تقع
علّة للحكم ومناطاً له ، كعدم الانتفاع بالدم ونحوه ، فقد ذكر الشيخ الأعظم
الأنصاري (رضي الله عنه) أنّه لا خلاف في حرمة بيع الدم ، وذلك لعدم الانتفاع به
انتفاعاً محلّلاً ، فلم يكن الغرض من البيع يوم ذاك إلا الأكل وهو محرّم
لنجاسته ولو افترضنا تغيّر علّة الحكم ومناطه بأن صار الدّم ذا منفعة محلّلة شائعة
، وبها قامت رحى الحياة في المصدومين والمجروحين ومن تجرى في حقّه الجراحة الطبيّة
، إذ لو لا التزريق بالدم لما نجا كثير منهم ، حينئذ يتبدّل الحكمُ لتبدّل مناطه
وغايته اللّذين هما قيد الموضوع. فالظّروف الحديثة غيّرت الحكم الشرعيّ بتغير
موضوعه ، وصار الدم غير المنتفع به إلّا في الجهة المحرّمة منتفعاً به في الجهة
المحلّلة الشائعة لا النّادرة ، وبذلك يدخل بعض ما كان يعدّ من المكاسب المحرّمة
في عداد المحلّلة ، فلو قيل : إنّ لعنصر الزمان تأثيراً في الاجتهاد ، يعنى به
التأثير في تشخيص الصغرى وبقائها على ما كانت عليه أو تغييرها عمّا كانت عليه ،
قال السيّد الأُستاذ : «لم يكن في تلك الأعصار للدم نفع غير الأكل فالتحريم منصرف
إليه» .
__________________
فلا شبهة في قصور
الأدلة عن إثبات حرمة سائر الانتفاعات في الدم ، فالأشبه جواز بيعه إذا كان له نفع
عقلائيّ في هذا العصر.
الثاني : أن يكون
الحكم مكتنفاً بخصوصية زمانيّة ومكانيّة يدرك العقل السليم باختصاصه بها ،
وارتفاعه مع ارتفاعها ، وهذا أيضاً لا يعني إلّا تغيّر الحكم بتغيّر موضوعه
المحدّد له شرعاً ، فقد تضافرت النّصوص على حليّة الفيء والأنفال للشّيعة في عصر
الغيبة ، ومن الأنفال : الآجام وأراضي الموات ، فإبقاءُ هذا الحكم بنحو الإطلاق في
هذه الأعصار يوجب الهرج والمرج ، ويوجد اختلافاً طبقيّاً هائلاً لامتلاك بعض الناس
كل شيء وحرمان أكثرهم عن كلّ شيء ، إذ لبعضهم قدرة هائلة يقتدر معها على تحجير
الأراضي الشاسعة الكبيرة الواسعة ، واستباحة الآجام والثروات العامّة بقطع الأشجار
وتصديرها ، وهو ممّا لا يرضى به الشارع أوّلاً وإفضائه إلى الفوضى في المجتمع
ثانياً.
فعند ذلك تفرض
الظّروف الزّمانية والمكانيّة على إجراء ذلك الحكم بشكل خاصّ جامع يتكفّل إجراء
أصل الحكم أي حليّة الأنفال للشيعة أوّلاً وحفظ النّظام وبسط العدل والقسط بين
النّاس ثانياً ، بتقسيم الثروات العامّة عن طريق دولة إسلامية مقتدرة تتحفّظ على
جميع الشّئون فيستفيد الغنيّ والفقير والمتمكّن وغيره من الأنفال بالسويّة.
الثالث : إنّ
الأواني والألبسة والمنسوجات كانت في الأزمنة السّابقة قيميّة لعدم انطباق تعريف
المثليّ عليها ، غير أنّ الجهاز الصّناعي اليوم في ذلك المجال ، جعل الكلّ مثليّاً
والمعامل لا تزال تنتج كميّة هائلة من الأواني والمنسوجات لا يختلف واحد عن الآخر
قدر شعرة ، فأصبحت هذه القيميّات بفضل التقدّم الصّناعيّ مثليّات.
الرّابع : ما يباع
بالوزن والكيل قد يباع بالعدد في مكان آخر وكذلك العكس ،
وهذا يختلف
باختلاف البيئات والمجتمعات ، ويلحق لكلّ حكمه ، فيكون ما يباع بالكيل والوزن
مشمولاً لحرمة الرّبا المعاوضي دون ما يباع بالعدد ، فيجب مراعاة أعراف الشّعوب.
الخامس : لا شكّ
أنّ أكثر ما يلبسه المسلمون اليوم كان بالأمس لباس الأعداء وكان تلبّسه يعدّ
تشبّهاً بهم وهو منهيّ عنه ، وقد ورد عنهم (عليهالسلام) : «لا تلبسوا لباس أعدائي» .
ولكن مع مرّ
الزّمان شاع استعماله في أكثر الأمكنة ، فتغيّر الموضوع وصار لباساً عالميّاً وليس
مختصّاً بالكفّار.
الخامس :
نأتي في هذا القسم
من الأمثلة ما تكون المصالح الزّمنيّة والمكانيّة فيها مؤثّرة في اجتهاد الحاكم
كما كانت في الأمثلة السابقة مؤثرة في فتوى المفتي ، فالزّمان والمكان عنصران
مؤثّران في فتوى المفتي واجتهاد الحاكم ، وإليك البيان :
إنّ الأحكام
الإلهيّة تنقسم إلى أحكام أوّلية متعلّقة بعناوين نفسيّة للشّيء وأحكام ثانويّة
تعرض للشيء باعتبار طرُوّ عناوين خارجة عن نفسها عليها ، وذلك مثل وجوب الصلاة
والزّكاة والخمس والحجّ والجهاد أحكام أوّلية تعرض للشيء بما هو هو ، وحرمة الوضوء
والغسل عند كونهما ضرريّين حكم عارض لهما بملاحظة عروض الضرر عليهما ، كما أنّ
إباحة السّفر حكم أوّلي عارض له ،
__________________
ووجوبه باعتبار
كونه مصداقاً لإطاعة أمر الوالدين حكم عارض عليه. ولا منافاة أن يكون للشيء بما هو
هو حكم ، وبما أنّه معروض عنوان آخر حكم آخر ، والعناوين المؤثرة للحكم عبارة عن
أُمور :
الأوّل : الضّرورة
والاضطرار ، الثاني : الضّرر والضّرار ، الثالث : العسر والحرج ، الرابع : التقيّة ، الخامس :
الأهمّ والمهمّ ، السادس : أمر الوالدين ونهيهما ، السابع والثامن والتاسع :
النّذر واليمين والعهد ، العاشر : مقدّمة الواجب أو الحرام.
فاعلم : أنّ عروض
هذه العناوين ربّما توجد أرضية خاصّة لتغيّر الحكم العارض عليه بما هو هو ، فلأجل
ذلك ، صار أكلُ الميتة المحرّم عند الضّرورة والاضطرار جائزاً ، والسّفرُ إلى الحجّ
المندوب عند نهي أحد الوالدين حراماً بالعرض لاستلزامه ما هو محرّم بالذّات وهو
العقوق ، وليس لأيّ مشرّع غضّ النّظر عن هذه العناوين الثانويّة كلّها أو بعضها ،
فإنّ في إيجاب الحكم والإصرار عليه عند الضّرورة والاضطرار ، وتنفيذ الحكم عند
الضّرر يوجب انسحاب الناس عن الدّين وقلّة الرّغبة إليه ، فلم يكن بدّ من ملاحظتها
وتقديمها على أحكام العناوين الأوّليّة ، ولأجل ذلك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ضرر ولا ضرار» ، وقال : ليس شيء ممّا حرّمه الله إلّا وقد أحلّه لمن
اضطرّ إليه.
__________________
دور الحاكم في رفع
التزاحم بين الأحكام الأوّليّة :
إنّ تقدّم
العناوين الثانوية على الأوّلية يحلّ العقد في مقامين :
الأوّل : إذا كان
هناك تزاحم بين الحكم الواقعيّ الأوليّ وأحكام العناوين الثانوية ، فتقدم الثانية
على الأُولى ، إمّا من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفيّ.
الثاني : إذا كان
هناك تزاحم بين الأحكام الواقعيّة بعضها مع بعض بحيث لو لا القضاء والحكومة لفك
العقد وحفظ الحقوق لحصلت مفاسد ، وهنا يأتي دور الحاكم والفقيه الجامع للشرائط
الشاغل منصبه الولاء لا الافتاء ، أي : بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض في
المقام.
بل بمعنى تعيين
أنّ المورد من صغريات أيّ واحد من الحكمين الواقعيين ، ولا يحكم الحاكم في المقام
إلّا بعد دقة وإمعان ودراسة للظروف الزمانية والمكانية ومشاورة العقلاء والخبراء.
وبعبارة أُخرى :
إذا وقع التزاحم بين الأحكام الأوّليّة بعضها مع بعض ، فيقدّم بعضها على بعض في
ظلّ هذه العناوين الثانويّة ، ويقوم به الحاكم الإسلاميّ بفضل الولاية المعطاة له
، فتصير هذه العناوين مفاتيح بيد الحاكم ، يرتفع بها التزاحم والتنافي ، فمعنى
مدخليّة الزّمان والمكان في حكم الحاكم عبارة عن لزوم رعاية المصالح العامّة
الإسلامية في زمانه ومكانه ، حتّى يتّضح أنّ المقام صغرى لأي كبرى من الكبريات ،
وأيّ حكم من الأحكام الواقعية ، فيكون حكمه بتقديم إحدى الكبريين شكلاً إجرائيّاً
لجريان الأحكام الواقعية ومراعاة لحفظ الأهمّ وتخطيطاً لحفظ النّظام وعدم اختلاله.
وبذلك يظهر أنّ
حكم الحاكم الإسلاميّ يتمتّع بميزتين :
الأُولى : إنّ
حكمه بتقديم إحدى الكبريين وحكمه على وفقها ، ليس حكماً مستنبطاً من الكتاب
والسنّة مباشرة وإن كان أساس الولاية وأصلها مستنبطاً ومستخرجاً منهما ، إلّا أنّ
الحاكم لمّا اعتلى منصّة الحكم ووقف على أنّ المقام من صغريات ذلك الحكم الواقعيّ
دون الآخر للمقاييس التي عرفتها ، يصير حكمه حكوميّاً وولائياً في طول الأحكام
الأوّليّة والثّانويّة وليس الهدف من تسويغ الحكم له إلّا الحفاظ على الأحكام
الواقعيّة برفع التزاحم ، ولذلك سمّيناه حكما إجرائيّاً ولائيّاً حكوميّاً لا
شرعيّاً مثل : وجوب الوضوء ـ لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأحكام
الواقعية في ظلّ العناوين الثانوية ، وما يعالج به حكم لا من سنخ المعالج ، ولو
جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين والتشريع.
الثانية : إنّ حكم
الحاكم لمّا كان نابعاً عن المصالح العامّة وصيانة القوانين الإسلامية لا يخرج
حكمه عن إطار الأحكام الأوّليّة والثّانويّة ، ولأجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم
فيها ، في ظلّ العناوين الثانويّة ، نعم ربّما يقال بأنّ ولاية الفقيه أوسع من
إطار الأحكام الأوّلية والثانوية.
والقول بولاية
الفقيه على هذا الحد يرفع جميع المشاكل الماثلة في حياتنا ، فإنّ العناوين
الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع ،
وهي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات ولا تمس بكرامة الكبريات.
ولأجل توضيح
المقام ، نأتي بأمثلة تتبيّن فيها مدخليّة المصالح الزمانية والمكانية في حكم
الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي.
الأوّل : لا شكّ
أنّ تقوية الإسلام والمسلمين من الوظائف الهامّة ، وتضعيف وكسر شوكتهم من
المحرّمات الموبقة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّ بيع
وشراء التنباك أمر
محلّل في الشرع ، والحكمان من الأحكام الأوّلية ولم يكن أيّ تزاحم بينهما إلّا في
فترة خاصة عند ما أعطى الحاكم العرفيّ امتيازاً للشّركة الأجنبية ، فصار بيعه
وشراؤه بيدها ، ولمّا أحسّ الحاكم الشرعيّ آنذاك ـ السيد الميرزا الشّيرازي (قدسسره) ـ انّ استعماله يوجب انشباب أظفار الكفّار على هيكل
المجتمع الإسلامي ، حكم (قدسسره) بأنّ استعماله بجميع أنواع الاستعمال في هذه الفترة
كالمحاربة مع وليّ العصر (عليهالسلام) فلم يكن حكمه نابعاً إلّا من تقديم الأهمّ على المهمّ أو
من نظائره ، ولم يكن الهدف من الحكم إلّا بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح
الإسلام واستقلال البلاد ، ولا يحصل إلّا بترك استعمال التّنباك بيعاً وشراءً
وتدخيناً وغيرها ، فاضطرّت الشّركة حينئذ إلى فسخها.
الثاني : إنّ حفظ
النفوس من الأُمور الواجبة ، وتسلّط النّاس على أموالهم وحرمة التصرّف في أموالهم
أمر مسلّم في الإسلام أيضاً ، إلّا أنّ حفظ النفوس ربّما يتوقّف على فتح الشوارع
في البلاد داخلها وخارجها ولا يحصل إلّا بالتصرّف في الأراضي والأملاك ، فلو
استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو وإلّا فللحاكم في المقام دور وهو ملاحظة الأهمّ
بتقديمه على المهمّ فيقدّم الحكم الأوّل وهو حفظ النفوس على الثاني ، ويحكم بجواز
التصرّف بلا إذن ، غاية الأمر يضمن لصاحب الأراضي قيمتها السوقية.
الثالث : إنّ
إشاعة القسط والعدل ممّا ندب إليه الإسلام وجعله غاية لبعث الرّسل ، قال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ) (الحديد ـ ٢٥).
__________________
ومن جانب إنّ
النّاس مسلّطون على أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا ، فإذا كان هناك تزاحم بين
الحكمين الواقعيين ، كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف
والصّنعة وغيرهم ، فللحاكم الإسلامي ـ حسب الولاية الإلهيّة ـ الإمعان والدّقة
والاستشارة والمشورة في حلّ الأزمة الاجتماعية حتّى يتبيّن له أنّ المقام من
صغريات أيّ حكم من الحكمين فلو لم تحلّ العقد بالوعظ والنصيحة ، فآخر الدّواء
الكيّ ، أي : بفتح المخازن وبيع ما احتكر بقيمة عادلة وتسعير الأجناس وغير ذلك.
الرابع : لا شكّ
أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية والخارجية ، إلّا أنّ إجراء ذلك ،
إن كان موجباً لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين ،
فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين على الآخر حسب ما يرى من المصالح.
الخامس : لو رأى
الحاكمُ أنّ بيع العنب إلى جماعة لا يستعملونه إلّا لصنع الخمر وتوزيعه بالخفاء
أورث فساداً عند بعض أفراد المجتمع وانحلالاً في شخصيّتهم ، فله أن يمنع من بيع
العنب إلى هؤلاء.
إلى غير ذلك من
المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه المفتي أو الحاكم غضّ النّظر عن الظروف
المحيطة به ، حتى يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين على الآخر وتشخيص
الصغرى كما لا يخفى.
هذا كلّه حول
مدخلية الزمان والمكان في الاجتهاد في مجالس الإفتاء والحكم ، وأمّا سائر ما يرجع
إلى ولاية الفقيه فنتركه إلى محلّه ، وليس المقصود في المقام إلّا أمراً واحداً
وهو كونُ الزمان والمكان مؤثّرين في المقامين فقط.
في تبدّل رأي
المجتهد :
إذا بدا للمجتهد
فتغيّر رأيه سواء اتخذ رأياً آخر أم لا كما إذا توقّف.
يقع الكلام في حكم
أعماله السابقة من عبادات ومعاملات وأعمال مقلّديه.
والنسبة بين هذه
المسألة وما تقدّم في باب الأوامر من مبحث الإجزاء عموم وخصوص من وجه ، فالبحث
السابق عامّ لشموله امتثال الأوامر الواقعيّة والثانوية كالاضطرار ، وخاصّ
لاختصاصه بالعبادات التي ورد فيها الأمر ، وأمّا المقام فهو عامّ لشموله ما لم يرد فيه أمر
كالمعاملات ، وخاصّ لاختصاصه بامتثال الأوامر الظاهريّة كالامارات والأُصول ،
وأمّا الأقوال فإليك بيانها :
الأوّل : الإجزاء
مطلقاً ، حكاه سيّدنا المحقّق البروجرديّ (رضي الله عنه) عن القدماء ولم يفصّل
بشيء ، ولكن من البعيد جدّاً قولهم بالإجزاء فيما إذا لم يكن حكم من الشارع لا
ظاهراً ولا واقعاً كموارد القطع ، فإذا قطع بعدم وجوب السورة في الصلاة ، وأتى بها
بلا سورة ، فلا دليل على الإجزاء إذ لم يرد من الشارع كلام في العمل بالقطع حتّى
تصل النّوبة إلى دلالته على الإجزاء أو لا .
__________________
الثاني : التفصيل
بين كون الامارة حجّة من باب الطريقيّة والسّببيّة فالقول بالإجزاء في الثاني دون
الأوّل.
الثالث : التفصيل
بين العمل بالامارة والعمل بالأُصول فالاجزاء في الثاني دون الأوّل.
الرابع : التفصيل
بين ما إذا انكشف الخلاف بحجّة معتبرة وما إذا انكشف الخلاف بعلم وجدانيّ فيجزي في
الأوّل لعدم التّفاوت بين الاجتهادين ، ولا يجزي في الثاني لأقوائيّته.
ثمّ إنّ الكلام
يقع تارة فيما إذا كان العمل بالامارة والأصل لأجل استكشاف كيفيّة التكليف في
أجزائه وشرائطه وموانعه ، وأُخرى في استكشاف أصل التكليف وأنّ الواجب هل هو الجمعة
أو الظهر؟
وإليك الكلام في
الموضع الأوّل :
العمل بالأمارة
لاستكشاف كيفيّة التكليف :
المعروف بين
المتأخّرين هو أنّ العمل بالامارة يوجب عدم الإجزاء إذا بان الخلاف ، وحاصل ما
أفادوه :
إنّ العمل
بالامارة عند العقلاء لأجل كونها كاشفة وحاكية عن الواقع فقط ، ولو لم تكن لها هذه
الخصوصية لتركوها في سبيلها ، والشارع أمضى عمل العقلاء لهذه الخصوصية المرتكزة في
أذهانهم. وعليه يكون الأمر بالعمل بها لأجل إدراك
الواقع والوصول
إليه ، فإذا لم يدرك العامل بها الواقع ولو عن قصور يكون الواقع باقياً بحاله ،
وهذا مجرى قاعدة الاشتغال القاضية بأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقيني ،
وفي المقام لا بدّ من الاتيان مجدّداً لتحصيل براءة الذمّة وسقوط التكليف
المتوجّه.
هذا وقيام الظاهر
النّاقص مقام الواقع التّام المنكشف ، في تحقّق المأمور به ، يحتاج إلى دليل مثل
جعل النّاقص مكان الكامل ، كما في مورد «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس».
يلاحظ عليه : أنّ
ما ذكروه صحيح بلا إشكال ، وأنّ قيام الظاهر الناقص مقام الواقع التّام يتوقف على
الدليل ، وعندي أنّ الدّليل على الإجزاء موجود وذلك أنّ الأمر بالعمل بالامارة في
مقام استكشاف كيفيّة العمل الّذي أمر به المولى ، يلازم عرفاً بأنّ المولى راض في
الإتيان على طبق مؤدّى الامارة على حدّ كاشفيتها ، فإذا كان الكشف عن الواقع تسعين
بالمائة والخطأ بمقدار عشرة بالمائة فقد رضي المولى بذلك ، ورفع اليد عن الموارد
الخاطئة ، فقوله : خذ وظائفك وتكاليفك عن فلان ، بمعنى الاكتفاء في مقام الامتثال
بما أدّى قوله والعفو عمّا تخلّف عنه.
ويكفي في ذلك
ملاحظة ما ذكروه من الأدلّة على حجيّة الامارات ، كآية النبأ أو الأحاديث الآمرة
بالعمل بخبر الواحد إذا كان ثقة ، أو السيرة العقلائية في
__________________
العمل بأخبار
الثقات إلى غير ذلك ممّا استدلّ به القوم على حجيّة قول العدل أو الثقة.
فإنّك إذا قارنت
هذه الأدلّة التي تأمر بالعمل بقول الثقات إلى أدلّة الشرائط والأجزاء ، يتجلّى
فهم الملازمة بين الأمر بالعمل بأخبار الثقات في تشخيص أجزاء المأمور به وشرائطه
وسائر خصوصيّاته ، والاكتفاء بما أتى به المكلّف طابق الواقع أو لا.
وللتقريب نذكر
مثالين :
الأوّل : لو أمر
المولى عبده بأن يهيّئ له دواءً وأمره أن يسأل صيدليّاً عن نوعيّة أجزائه وكميتها
وكيفيّة تركيبها ، فاتّبع العبد إرشادات الصيدليّ الّذي جعل قوله حجّة في المقام ،
وصنع الدواء ، ثمّ ظهر أنّ الصيدليّ كان قد أخطأ في بعض إرشاداته في مورد أو
موردين ، فإنّ العرف يعدّون العبد طائعاً وممتثلاً لأمر مولاه ، ويرون عمله مسقطاً
للتكليف من دون ايجابه بالقيام للامتثال مجدّداً اللهم إلّا أن يأمر به المولى
ثانياً.
الثاني : إذا أمر
المولى عبده ببناء بيت ، وأمره أن يرجع في كلّ ما يتعلّق بالبناء إلى مهندس مختص
ومعمار ماهر خبير ، فاتبع العبد أوامرهما ، وبنى البيت ، لكن تبيّن خطأ المهندس أو
المعمار ، فإنّ العبد معذور والعمل مجز ، اللهم إلّا أن يأمره بالإعادة ثانياً.
وهذه الارتكازات
تدلّ على الملازمة بين الأمر بالرّجوع إلى الثقة والخبير ، والاكتفاء في امتثال
الأمر بما أتاه من خلال إرشاداتهما وهدايتهما ، وهذا يعطي أنّ الشارع اكتفى في
دائرة المولويّة والعبوديّة فيما يرجع إلى مقاصده ومراميه بما يؤدّيه
أخبار الثقات ولو
بان وانكشف الخلاف ، فإنّه يرفع اليد عن مقاصده تسهيلاً على العباد .
وليس ذلك بتصويب ،
لأنّ التصويب عبارة عن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم ، وعدم توجهها إلى الجاهل
أبداً ، والمقام خلاف ذلك ، لأنّا نفترض أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم
والجاهل من دون تفاوت بينهما ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى تسهيلاً على العباد
اكتفى في امتثال أوامره ونواهيه بإخبار الثقات لأنّه يراها مطابقة للواقع بنسبة
عالية «تسعين بالمائة» ومتخلّفة عنه «عشرة بالمائة» فأوجبت المصلحة التسهيليّة رفع
اليد عن هذا العدد الضئيل من موارد التخلّف لما في إلزام العبد بتحصيل العلم وترك
العمل بخبر الواحد من مفسدة العسر والحرج الممنوعة ، واختلال النّظام.
فإن قلت : إنّ
لسان الامارة لسان الطريقيّة فلا أثر لها سوى الحكاية عن الواقع والكاشفيّة
والمرآتيّة ، والمفروض عدم إيصالها إلى الواقع ، ولازم الاشتغال القطعيّ لزوم
الإتيان مجدّداً.
قلت : هذا صحيح ،
ولازمه ترتيب الأثر على الحجّة الثانية المبطلة للامارة الأُولى لو لا الملازمة
العرفيّة التي ذكرناها والتي تفيد أنّ المولى سبحانه اكتفى في مقام الامتثال بما
أدّت إليه الامارة.
__________________
فإن قلت : إنّ
لسان الامارة لسان الإخبار وليس لسان الجعل ، فهي حينئذ تقبل الصدق والكذب بخلاف
لسان الأُصول فإنّه لسان الحكومة على أدلّة الشرائط والأجزاء ، كأصالة الطّهارة
والحليّة ، فلأدلتهما حكومة على أدلّة الشرائط كقوله (عليهالسلام) : «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّ أصالة الطهارة محققة للطهور
في ظرف الشك ، والشاك بالطهارة واجد لها ، وكذلك بالنسبة لقاعدة الحل ، فإنّ
المشكوك محكوم بالحلية تكليفاً ووضعاً. وعلى ضوء ذلك فالواقع باق بحاله.
قلت : هذا صحيح
ومعنى ذلك أنّ الإجزاء في العمل بالأصل مدعم بدليلين الأوّل قائم بلسانه والثاني
الملازمة العرفيّة القاضية باكتفاء المولى في مقام الامتثال على طبق المؤدى ، إلّا
أنّ هذا الدّليل الثاني مشترك بين الأصل والامارة.
وبذلك يظهر عدم
تماميّة ما أورده سيّدنا الأُستاذ (رضي الله عنه) على القائل بالإجزاء من أنّ لازم
ذلك هو التناقض ببيان أنّ لازم إيجاب العمل على طبق الامارة بما أنّها كاشفة هو
عدم الإجزاء ، لأنّ لازم الكشف كون الواقع هو الميزان دون مؤدّى الامارة ، وهو
يناقض القول بالإجزاء الّذي مقتضاه كون المحور هو مؤدّى الامارة .
وجه عدم التماميّة
:
أوّلاً : أنّ
الكاشفيّة عن الواقع ليست علّة للأمر بالعمل بها ، حتى يدور الحكم مدار وجودها
وعدمه. بل هي من قبيل الحكمة ومصالح التشريع التي يكفي كونها موجودة في أكثر
الموارد.
وإن شئت قلت :
نظراً إلى أنّ الامارة مطابقة للواقع غالباً فقد دعا الشارع إلى اعتبارها مطلقاً
سواء وافقت الواقع أم خالفته.
__________________
وثانياً : أنّ
دليل الإجزاء ليس نفس الامارة الكاشفة عن الواقع ، وإنّما هو الملازمة العرفيّة
المتقدّمة بين الأمر بالعمل بها والاكتفاء بها في مقام الإطاعة في تحصيل مقاصد
الشّارع وأغراضه بما تؤدّي إليه لكونها غالبة المطابقة.
وكذلك يظهر النّظر
أيضاً فيما ذكره من أنّ لسان أدلة حجيّة الامارة هو التحفّظ على الواقع لا التصرّف
فيه وقلبه على طبق مؤدّاها لدى التخلّف ، وإلّا لخرجت الامارة عن الاماريّة .
وذلك للفرق بين
رفع اليد عن الواقع فعلاً لا إنشاءً وبين قلب الواقع إلى مفاد الامارة فإنّ الّذي
يخالف الطريقية هو الثاني لا الأوّل كما لا يخفى.
وبعبارة أُخرى :
أنّ لازم القول بالتخطئة هو وجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل ولو إنشاءً ،
وثمرة ذلك الحكم الإنشائي هو أنّه مع حصول العلم به يصير فعليّاً أو منجّزاً وهذا
كاف لرفع التصويب الباطل. وأمّا كونه فعليّاً أو منجّزاً حتى في حقّ الجاهل فلا
دليل عليه إن لم يكن الدليل على خلافه ، وكم له من نظير : كما إذا أتمّ المكلّف
الصلاة اعتماداً على قاعدة الفراغ والتجاوز ، فبان الخلاف ، فإنّ صلاته صحيحة ، أو
نسي قراءة الحمد أو السورة بعد الركوع أو غير ذلك من الموارد التي حكم فيها بالصحة
لقاعدة «لا تعاد» مع كون المذهب هو التخطئة كما لا يخفى.
وبما ذكرنا من
دعوى الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة واكتفاء الشّارع في مقام امتثال أوامره
بما أدّت إليه الامارة ، يظهر ضعف ما أفاده صاحب المحاضرات من التفريق بين
الطريقية والسببية وأنّ الحقّ على الأوّل هو عدم
__________________
الإجزاء لأنّ
المأتيّ به ليس بمأمور به وما أمر به ليس بمأتيّ به ، والمفروض أنّ الصحة إنّما
تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج ، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت
والقضاء في خارجه ، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقة المأتي به للمأمور به .
وذلك : لمنع عدم
مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، فإنّ الملازمة العرفيّة كاشفة عن عدم إيجاب الجزء
أو الشرط مجدّداً بعد قيام الدليل الاجتهادي على عدم وجوبه فعلاً ، فيكون الواجب
الفعلي في حقّه ما أتى به.
هذا كلّه ، إذا
استند في استكشاف كيفيّة الحكم وأجزاء المكلّف به إلى الأمارة وأمّا لو كان
المستند في هذا المجال هو الأصول ـ كأصالة الحليّة والطّهارة ـ فالدّالُ على
الإجزاء إضافة إلى الملازمة العرفيّة المتقدّمة هو أنّ نتيجة كون المشكوك حلالاً
أو طاهراً ، حكومة هذه الأصول على أدلّة الأجزاء والشرائط فلو قال المولى : صلّ في طاهر وقال : كلّ مشكوك طاهر ،
يكونُ مفاد الدّليلين عند المقارنة جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك للمصلي ،
ومنها الاتيان بالصّلاة مع المشكوك ، وبعبارة أُخرى : تكونُ النتيجة أنّ ما يطلبه
الدّليل الأوّل موجود في مشكوك الطّهارة أو الحليّة. فإذا صلّى المكلّف به فقد أتى
بصلاة جامعة الأجزاء والشرائط وإن كان نجساً في الواقع ، وذلك لأنّ الشرط الواقعيّ
للصّلاة هو الأعمّ من الطّهارة الواقعيّة والظّاهريّة ، وربّما حكم يترتّب على
الطّهارة الواقعيّة وآخر يترتّب على الأعمّ منها
__________________
ومن الظاهريّة ،
وعلى الفقيه الملمّ بالفقه تمييز كلّ واحد من الآخر.
ثمّ إنّ للمحقّق
النّائينيّ (قدسسره) إشكالات خمسة على القول بحكومة دليل الطّهارة على دليل
الشرطيّة ، نقلناها عنه وأوضحنا حالها في مبحث الإجزاء فلاحظ.
ولنكتف بهذا
المقدار في المقام ، وأمّا حكم المقلّد لو تبدّل رأي المجتهد فسيوافيك بيانه في
مبحث التقليد إن شاء الله تعالى.
الاجتهاد في عصر
الصحابة والتّابعين :
إذا كان الاجتهاد
بمعنى بذل الطاقة لاستنباط الحكم الشرعيّ عن أدلّته ، فقد تحقّقت هذه الظّاهرة
بوضوح بعد عصر النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث إنّ الصحابة والتّابعين واجهوا بعد رحيله صلىاللهعليهوآلهوسلم قضايا مستجدّة لم يرد فيها نصّ في المصدرين الأساسيّين
الرئيسيّين ، فحاولوا استنباط أحكامها الشرعية منهما ببذل الجهد بالتأمّل في
الكتاب والسنّة تارة والسؤال من ذاك وذاك أُخرى ، والذي حملهم على الاجتهاد هو
وفود أسئلة كثيرة من مختلف البلدان المفتوحة إلى المدينة ولم يكن بدّ من الاجابة
عليها.
غير أنّ الآيات
المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعية لمّا كانت قليلة ، وكانت السنّة المحفوظة عن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مجال الأحكام لا تتجاوز الخمسمائة حديث لم يجدوا بدّاً
من تأسيس أُصول وقواعد ، ما أنزل الله بها من سلطان ، فبنوا عليها اجتهاداتهم ،
وإليك بعض تلك القواعد :
__________________
أ ـ الاستحسان ، وأوّل من رجعَ إليه «عبد الله بن عمر» وتبعه أبو حنيفة
وصار أصلاً واسعاً في فقه الأحناف ، غير أنّ الإماميّة والشّافعية والظّاهرية
والأوزاعيّة والثوريّة رفضوه ولم يعتدّوا به ، حتّى أنّ الشافعيّ ألّف كتاباً
باسم «إبطال الاستحسان» وقال : من استحسن فقد شرّع.
__________________
وتلت هذه القاعدة
قواعد أُخرى حسبوها مباني للاستنباط نذكرها بلا تفصيل :
ب ـ السّيرة
العمليّة لأهل المدينة.
ج ـ المصالح
المرسلة .
د ـ سدّ الذّرائع .
ه ـ ـ فتح
الذّرائع .
فقد جعلوها من قبل
أكثر المذاهب أُصولاً للاستنباط وعليها بنوا ما أسندوا إلى الله من أحكام.
و ـ القياس ،
والمراد منه : «استنباط حكم ما للمقيس بعلّة قد ثبتت في المقيس عليه» وهذا هو
المسمّى بالتمثيل في المنطق ، وليس المراد منه القياس
__________________
المنطقيّ البرهاني
المركّب من مقدّمات يقينيّة منتجة حكماً مثلها. وقد اعتمدت على القياس أئمّة
المذاهب الأربعة ولكن رفضته الإمامية والظّاهريّة ، وقد قال الإمام الصادق (عليهالسلام) : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين» .
ولمّا لم يكن خبر
الواحد حجّة عند أبي حنيفة بخلاف الآخرين ، توغّل هو وأصحابه في الرّأي واستنباط
الأحكام من هذه الأُصول ، حتّى قيل إنّه لم يصحّ عند أبي حنيفة في الحديث إلّا
سبعة عشر حديثاً ، بخلاف الآخرين حيث قالوا بحجيّة السنّة وإن رويت بطريق الآحاد ،
ولأجل ذلك شاعت السنّة عند غير الأحناف وصار ذلك سبباً لتشقيق الأُمّة إلى أهل
الحديث والسنّة وأهل الرأي ، والغالب على أهل الحجاز هو الأوّل كما أنّ الغالب على
أهل العراق هو الثاني.
وقد استمرّ
اجتهادهم على تلك الأُصول وغيرها إلى أواخر القرن السابع وكثرت المذاهب وتشتّتت
الآراء بوجه غير محمود حتّى صدر الأمر بإغلاق باب الاجتهاد والرّجوع إلى فقه
الأئمّة الأربعة وصار الأساس في الفتوى والحكم هو فقههم وآراؤهم فقط.
فكانت هذه النتيجة
أمراً قطعيّاً لاجتهاد مبنيّ على أُصول لم يرد فيها نصّ من الشّارع.
ثمّ إنّ للمقريزيّ
كلاماً حول انتشار المذاهب وانغلاق باب الاجتهاد لا بأس بذكره ، قال : «تولّى
القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرّشيد بعد سنة (١٧٠) إلى أن صار قاضي
القضاة ، وكان لا يولّي القضاء إلّا من أراده ، ولمّا كان من
__________________
أخصّ تلامذة أبي
حنيفة فكان لا ينصب للقضاء في بلاد خراسان والشام والعراق وغيرها ، إلّا من كان
مقلّداً لأبي حنيفة ، وكان من المسبّبين لانتشار مذهب الحنفيّة في البلاد. وفي
أوان انتشار مذهب الحنفيّة في المشرق انتشر مذهب «مالك» في بلاد إفريقية والمغرب ،
من خلال «زياد بن عبد الرحمن» فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل
مذهب مالك إلى «مصر» سنة (١٦٠) هو «عبد الرحمن بن القاسم».
ثمّ قال : وانتشر
مذهب محمد بن إدريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها عام (١٩٨) ، وكان المذهب في «مصر»
لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد «جوهر» بجيوش مولاه «المعزّ لدين الله أبي تميم
معدّ» الخليفة الفاطميّ إلى «مصر» سنة (٣٥٨) فشاع فيها مذهب الشيعة حتّى لم يبق
فيها مذهب سواه.
ثمّ إنّ المقريزيّ
بيّن بعد ذلك بدء انحصار المذاهب في أربعة وقال :
فاستمرّت ولاية
القضاة الأربعة من سنة (٦٦٥) حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من
مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة ، وعقيدة الأشعريّ وعملت لأهلها
المدارس والخوانك والزّوايا والرّبط في سائر ممالك الإسلام وعودي من تمذهب بغيرها
، وأنكر عليه ، ولم يولَّ قاض ولا قبلت شهادة ولا قدِّم للخطابة والإمامة
والتّدريس أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول
هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعملُ على هذا إلى اليوم».
انتهى المراد من كلامه بتصرّف منّا .
__________________
وهذه الكلمة
الأخيرة «وتحريم ما عداها» تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام ، حيث إنّه قد مضى من
الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلّا
ربّهم ، ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب الأربعة أبداً ، ثمّ
فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنّسبة إلى الأحكام الفرعيّة في غاية من السّعة
والحريّة ، وكان عاميّهم يقلّد من اعتمد عليه من المجتهدين وكان المجتهدون
يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة على طبق الموازين المقرّرة عندهم في العمل
بالسنّة النبويّة.
فأيّ شيء أوجب في
هذا التاريخ على عامة المسلمين «عاميّهم ومجتهدهم» أن لا يخرج أحد في الأحكام
الشرعيّة عن حدّ تقليد الأئمّة الأربعة ، وبأيّ دليل شرعيّ صار اتّباع أحد المذاهب
الأربعة واجباً تخييريّاً ، والرّجوع إلى ما ورائها حراماً وإثماً ، مع علمنا
بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفيّة انتشارها وتأثير العوامل في تقدّم بعضها على
غيرها بالقهر والغلبة من الدّولة والحكومة كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن
الفوطيّ في «الحوادث الجامعة ص (٢١٦) في وقائع سنة (٦٤٥)» يعني قبل انقراض بني
العبّاس بإحدى عشر سنة في أيام «المستعصم» الّذي قتله «هولاكو» سنة (٦٥٦) فلاحظ
ذلك الكتاب .
هذا بالنسبة إلى
أهل السنّة ، وأمّا الشّيعة ، فتختلف عنهم في الحاجة إلى الاجتهاد بعد رحيل النبيّ
الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك لأمرين :
الأوّل : إنّ
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن كان خاتم النبيّين وكتابه خاتم الكتب السّماويّة
وبموته انقطع الوحي وخبر السّماء عن الأرض ، إلّا أنّ العترة الطاهرة
__________________
على طبق حديث
الثقلين ـ المتواتر عند الفريقين ـ هم خزنة علم الرّسول وحفظة السنّة المحمّدية ،
وعندهم ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة وعلى ضوء ذلك لم تكن الحاجةُ ملحّة
بفتح باب الاجتهاد للتمكّن من السنّة عن طريق الرّجوع إلى العترة (عليهالسلام) مع كون الرّاجعين إليها في جانب القلّة بالنسبة إلى
غيرهم.
الثاني : لمّا كان
الحكم والقضاء بيد الخلفاء وأُمرائهم والعلماء الحافّين بهم كانت الأسئلة موجّهة
ووافدة إليهم من الدّاخل والخارج ، ولم يكن للشيعة مناص عن ذلك إلّا القليل ،
فكانوا يرجعون إلى عليّ أمير المؤمنين (عليهالسلام) والسبطين (عليهماالسلام) وعليّ بن الحسين (عليهالسلام) أحياناً ، ولذلك لم تكن هناك حاجة إلى الاجتهاد وبذل
الجهد في طريق الاستنباط.
نعم ، لمّا كثرت
الشيعة وضرب بجرانها أطراف الأرض وانتشرت في الحجاز والعراق وغيرهما وتفرّق
علماؤهم في البلاد وصعب التمكّن في كلّ زمان من السؤال عن العترة (عليهمالسلام) بدت ظاهرة الاجتهاد بينهم للضّرورة والحاجة ، خصوصاً بعد
انتشار علوم الباقرين ومآثر الصادقين (عليهماالسلام) في الأطراف والأكناف وتربّى في أحضانهما أصحاب الفتيا
والاجتهاد ، ويعرف ذلك من راجع طبقات تلاميذهما القدامى والجدد .
هذا وسوف نقوم
بنشر أسماء فقهاء الشيعة مع تراجمهم الإجمالية في كتاب خاص باسم «طبقات الفقهاء
وتاريخ الفقه» بإذن الله سبحانه ، وقد قام لفيف من أصحابنا بتأليفها وتصنيفها طوال
سنين ، وفّقهم الله لإكماله.
__________________
شبهة حول الاجتهاد
الدّارج في عصرنا :
ربّما يختلج في
أذهان بعض القصّر من النّاس عدم مشروعية الاجتهاد الدّارج في أعصارنا هذه مستدلاً
بأنّ الفقه فيها أخذ لنفسه صورة فنيّة ، وجاء على طراز سائر العلوم العقليّة
الفكرية بعد ما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنيّة على سماع
الأحكام من النبيّ والأئمة (عليهمالسلام) وبثها بين الناس من دون اجتهاد من الرّاوي في تشخيص حكم
الله تعالى بترجيح دليل على آخر أو تقييده أو تخصيص واحد بالآخر إلى غير ذلك من
الأُصول الدّارجة في زماننا.
الجواب :
إنّ ذلك أشبه شيء
بالشّبهة ويمكن الإجابة عنها بوجهين :
الأوّل : إنّ
الاجتهاد بالمعنى الوسيع وإعمال النظر في الرّوايات والتدقيق في دلالتها وترجيح
بعضها على بعض ، كان موجوداً في أعصارهم ، دارجاً بين أصحابهم (عليهمالسلام) ، فإنّ الاجتهاد وإن توسّع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاً
عظيماً ، إلّا أنّ أصله بالمعنى الجامع بين عامّة مراتبه كان دارجاً في تلك العصور
، وإنّ الأئمة (عليهالسلام) أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم ، وكانت السيرة آنذاك هي
الرّجوع إليهم من دون تزلزل وتردّد ، والدالُّ على وجود الاجتهاد بهذا المعنى
آنذاك عدّة من الرّوايات وهي كالتّالي :
الأُولى : ما رواه
ابن إدريس (رضي الله عنه) في «مستطرفات السرائر» نقلاً عن هشام بن سالم عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «إنمّا علينا أن نلقي إليكم الأُصول وعليكم أن
تفرّعوا» .
__________________
الثانية : ما روي
عن كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرّضا (عليهالسلام) قال : «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع» .
أقول : إنّ
التفريع الّذي هو استخراج الفروع عن الأصول الكليّة الملقاة وتطبيقها على مواردها
وصغرياتها ، إنّما هو شأن المجتهد وما هو إلا الاجتهاد ، نعم التفريع والاجتهاد
يتفاوت صعوبة لتفاوت نطاقه حسب مرور الزّمن ، فإذا قال الإمام (عليهالسلام) : «لا تنقض اليقين بالشك» أو روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ضرر ولا ضرار» كان على المخاطبين وعلى علماء الأعصار
المستقبلة استفراغ الوسع في تشخيص صغرياتها ، وما يصلح أن يكون مصداقاً له وما لا
يصلح ، وهذا ما نسمّيه بالاجتهاد.
الثالثة : ما رواه
الصّدوق (رضي الله عنه) في «معاني الأخبار» عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد
الله (عليهالسلام) يقول : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ
الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» .
أقول : إنّ عرفان
معاني الكلام ليس إلّا تشخيص ما هو الأظهر بين المحتملات بالفحص عن القرائن
الحافّة بالكلام ، وبعرض أخبارهم (عليهمالسلام) على الكتاب والسنّة إلى غير ذلك ممّا يوضّح به المراد
ويعيّن المفاد ، وليس هذا إلّا الاجتهاد.
الرابعة : ما رواه
الصّدوق (رضي الله عنه) في عيونه بإسناده عن الرضا (عليهالسلام) قال : «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط
مستقيم ، ثمّ قال (عليهالسلام) : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه
القرآن ، فردّوا متشابهها إلى
__________________
محكمها ، ولا
تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا» .
أقول : إنّ ردّ
المتشابه إلى محكمه ، بجعل أحدهما قرينة على الآخر ، وتحقّقه موقوف على الاجتهاد.
الخامسة :
الرّوايات الواردة في تعليم أصحابهم (عليهمالسلام) كيفيّة استفادة أحكام الفروع من الذّكر الحكيم ، رواية
زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قوله : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض
الرأس وبعض الرّجلين؟ فضحك فقال (عليهالسلام) : «يا زرارة ، قاله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونزل به الكتاب من الله عزوجل ، لأنّ الله عزوجل قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسّل ، ثمّ قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي
لهما أن يغسّلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرّجلين
بالرّأس كما وصل اليدين بالوجه فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلهما بالرّأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ
فسّر ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للنّاس فضيّعوه» .
السادسة : ما في
رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعد ما سأل الإمام (عليهالسلام) عن حكم المسح على المرارة ، قال (عليهالسلام) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحجّ ـ ٧٨) ،
امسح عليه» .
أقول : لقد أوضح
للسائل كيفيّة الاستنباط ، وردّ الفروع إلى أُصولها ، ونظير ما
__________________
تقدّم بل أقوى منه
ما في مرسلة يونس الطويلة الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة فإنّ فيها
موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد ، وغير ذلك من الرّوايات المرشدة إلى دلالة الكتاب
وكيفيّة الاستدلال ، وهي منبثّة في طيّات أبواب الفقه فراجع.
السابعة : قول
الباقر (عليهالسلام) لزرارة ومحمّد بن مسلم حيث سألاه (عليهالسلام) وقالا له : ما تقول في الصلاة في السّفر كيف هي؟ وكم هي؟
فقال (عليهالسلام) : «إنّ الله عزوجل يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (النساء ـ ١٠١)
فصار التقصير في السّفر واجباً كوجوب التمام في الحضر» قالا : قلنا له : قال الله عزوجل : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) ولم يقل «افعلوا» فكيف أوجب ذلك؟ فقال (عليهالسلام) : «أوليس قد قال الله عزوجل في الصّفا والمروة : (فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة ـ ١٥٨) ، ألا
ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزوجل ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير ، شيء صنعه
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وذكره الله في كتابه» .
__________________
الثامنة : مقبولة
عمر بن حنظلة ، وقد تقدّمت ، وفيها إرشاد إلى كيفيّة استنباط الحكم من
الكتاب والسنّة ، وعلاج الخبرين المتعارضين بعرضهما عليهما ، وهذا واضح لمن
تأمّلها ، وهي صريحة بوجود الاجتهاد ـ بالمعنى الدارج في زماننا ـ في عصر الصادق (عليهالسلام).
التاسعة : روى
العباس ابن هلال عن أبي الحسن الرضا (عليهالسلام) ، قال : ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد
الحرام فأتيا محمّد بن علي (عليهالسلام) فقال لهما : «بما تقضيان»؟ فقالا : بكتاب الله والسنّة ،
قال (عليهالسلام) : «فما لم تجداه في الكتاب والسنّة»؟ قالا : نجتهد رأينا
، قال (عليهالسلام) : «رأيكما أنتما؟! فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا
ترضعان صبيّين في بيت وسقط عليهما فماتتا وسلم الصّبيان»؟ قالا : القافّة ، قال (عليهالسلام) : «القافة ـ يتجهّم منه لهما ـ» قالا : فأخبرنا؟ قال : «لا»!!
قال ابن داود مولى
له : جعلت فداك بلغني أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليهالسلام) قال : «ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله وألقوا سهامهم
إلّا خرج السّهم الأصوب» ، فسكت .
العاشرة : روى
الحسن الصيقل عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : قلت : رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحلّ له حتى تنكح
زوجاً غيره ، فتزوّجها رجل متعة أتحلّ للأوّل؟ قال (عليهالسلام) : «لا ، لأنّ الله تعالى يقول : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها ...) والمتعة ليس فيها
طلاق» .
__________________
الحادية عشرة :
روى الحسن بن الجهم قال : قال لي أبو الحسن الرّضا (عليهالسلام) : «يا أبا محمّد ، ما تقول في رجل تزوّج نصرانيّة على
مسلمة»؟ قال : قلت : جعلت فداك وما قولي بين يديك؟ قال (عليهالسلام) : «لتقولنَّ فإنّ ذلك يعلم به قولي». قلت : لا يجوز تزويج
نصرانيّة على مسلمة ولا غير مسلمة.
قال (عليهالسلام) : «ولم»؟ قلت : لقول الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...) (البقرة ـ ٢٢١).
قال (عليهالسلام) : «فما تقول في هذه الآية :
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
...)؟» (المائدة ـ ٥).
قلت : فقوله : (لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) نسخت هذه الآية. فتبسّم (عليهالسلام) ثمّ سكت .
الثانية عشرة : عن
جعفر بن سماعة أنّه سأل عن امرأة طلّقت على غير السنّة : ألي أن أتزوّجها؟ فقال :
نعم ، فقلت له : ألست تعلم أنّ عليَّ بن حنظلة روى : إيّاكم والمطلَّقات ثلاثاً
على غير السنّة ، فإنّهنَّ ذوات الأزواج؟ فقال : يا بنيّ رواية عليّ بن أبي حمزة
أوسع على الناس ، روى عن أبي الحسن (عليهالسلام) أنّه قال : «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم ،
وتزوّجوهنَّ فلا بأس بذلك» .
فقدّم الخبر
الثاني على الأوّل بإحدى ملاكات التقديم ، هذا وإلى غير ذلك من الرّوايات الكثيرة
الظاهرة في وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة (عليهمالسلام).
__________________
الفصل الثاني
في التقليد
ونكتفي فيه بالبحث
عن مسائل سبع :
١ ـ التقليد لغة
واصطلاحاً.
٢ ـ الدّليل على
جوازه للعامّي.
٣ ـ في وجوب تقليد
الأعلم وعدمه.
٤ ـ في تقليد
الميّت ابتداءً.
٥ ـ في البقاء على
تقليد الميّت.
٦ ـ في العدول عن
تقليد مجتهد إلى آخر.
٧ ـ في تبدّل رأي
المجتهد.
ولنشرع بالبحث
فيها حسب الترتيب :
المسألة الأُولى :
التقليد لغة واصطلاحاً :
التقليد من
القلادة وهي التي تجعل في العنق تكون للإنسان والفرس والبدنة التي تهدى ونحوها.
قال ابن فارس :
«قلد : القاف
واللّام والدّال أصلان صحيحان ، يدلّ أحدهما على تعليق شيء على شيء وليّه به ،
والآخر على حظ ونصيب (القِلْد) فالأوّل التقليد : تقليد البدنة وذلك أن يعلّق في
عنقها شيء ليعلم أنّها هدي ـ إلى أن قال ـ ويقال : قلّد فلان فلاناً قلادة سوء :
إذا هجاه بما يبقى عليه وَسْمُه ، فإذا أكّدوه قالوا : قلّده طوق الحمامة : أي لا
يفارقه كما لا يفارق الحمامة طوقها» .
وقال ـ ابن منظور
ـ بعد بيان أنّه مأخوذ من القلادة ـ : «قلّدت المرأة فتقلّدت هي ، وفي الحديث :
قلّدوا الخيل ـ إلى أن قال : ـ ومنه التقليد في الدّين وتقليد الولاة الأعمال ،
وتقليد البدن : أن يجعل في عنقها شعار يعلم به أنّها هدي ، وقلّده الأمر : ألزمه
إيّاه» .
__________________
قال الخليل : «وتقلّدت
السيف والأمر ونحوه : ألزمته نفسي ، وقلّدنيه فلان : أي : ألزمنيه وجعله في عنقي» .
وقال الطريحيّ :
وفي حديث الخلافة : «فقلَّدها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً (عليهالسلام) أي : ألزمه بها أي جعلها في رقبته وولّاه أمرها» .
هذه الكلمات تعرب
عن أنّ المادّة إذا صيغت من باب التفعّل كما إذا قال : تقلّدت السيف أو تقلّدت
المرأة ، يكون معناه : تقلّد الفاعل بشيء من السيف والقلادة ، وأمّا إذا استعملت
من باب التفعيل كما إذا قال : قلّدت الخيل ، أو قلّدت المرأة ، يكون معناه تقلد
المفعول بشيء يصلح التقلّد به ، فاحفظ فإنه ينفعك فيما يأتي.
وقد عرّف التقليد
اصطلاحاً بمعاني عديدة :
أ ـ الأخذ بفتوى
الغير للعمل بها ، وبعبارة أُخرى : تعلّمها للعمل.
ب ـ الالتزام
بالعمل بفتوى الغير وإن لم يتعلّم فضلاً عن أن يعمل ، وإلى ذلك يرجع قول السيّد
محمّد كاظم الطباطبائي اليزديّ (رضي الله عنه) في عروته ، حيث يقول : التقليد هو
الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ فتواه ، فإذا
أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فيها ، كفى في تحقّق التقليد .
ج ـ الاستناد إلى
فتوى الغير في مقام العمل. ولعلّ هذا هو المراد من تفسيره بنفس العمل ، فلا يتحقّق
التقليد بنفس العمل ما لم يكن مستنداً إلى فتوى الغير
__________________
عند العمل ، وبذلك
يعلم عدم تماميّة ما أورده المحقّق الخراساني حيث قال : ولا يخفى أنّه لا وجه
لتفسيره بنفس العمل ، ضرورة سبقه عليه ، وإلّا كان بلا تقليد ، فافهم ولعلّ الأمر بالفهم إشارة إلى ما ذكرناه ، من أنّ التقليد
يتحقّق بنفس العمل إذا كان مقترناً بالاستناد ، ولا يشترط سبقه عليه ، بل يكفي
تحقّقه به.
إذا عرفت ما
ذكرناه ، فاعلم أنّ الظاهر أنّ التقليد اصطلاحاً ، هو نفسه لغة ، وقد سبق أنّ
المادّة إذا صيغت من باب التفعيل تكون بمعنى جعل القلادة في عنق الغير ، وإذا صيغت
من باب التفعّل تكون بمعنى جعل القلادة في عنق النفس ، ففرق بين قولنا : قلّدتُه ،
وتقلّدتُ أو قلّدت المرأة وتقلّدت هي ، فالمقلِّد ، من يجعل القلادة في عنق الغير
، والمتقلِّد من يجعل القلادة في عنق نفسه ، فإذا كان البحث مركّزاً على تحقيق
معنى التقليد ، يكون معناه من يقلّد الآخر ، فلا ينطبق إلّا على المعنى الثالث ،
وليس هنا شيء يشبه القلادة إلّا عمله ، فكأنّه يتلقّاه قلادة ويجعل في عنق المجتهد
، بمعنى جعله مسئولاً عن صحّة عمله وفساده وبراءة ذمّته واشتغالها ، وهذا لا
يتحقّق إلّا بنفس العمل لا بالأخذ ولا بالالتزام ، وليس العامّي إلّا مقلّداً ـ بالكسر
ـ وأمّا المجتهد فهو المقلّد ـ بالفتح ـ أو المتقلّد ـ بالكسر ـ.
ويؤيد ذلك أمران :
١ ـ ما رواه
الكلينيّ بسند صحيح عن أبي عبيدة (الحذَّاء) قال : قال أبو جعفر (عليهالسلام) : «من أفتى النّاس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة
الرّحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» .
__________________
٢ ـ ما رواه عبد
الرّحمن بن الحجّاج ، قال : كان أبو عبد الله (عليهالسلام) قاعداً في حلقة ربيعة ، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرّأي
عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت ، قال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة
الرّأي ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له
الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : «هو في عنقه ، قال : أو لم يقل : وكلُّ مفت ضامن» .
وأمّا إذا فسّرنا
التقليد بالالتزام أو بالأخذ ينعكس الأمر ، ويكون معناه : أنّ المقلِّد يجعل فتوى
المجتهد ورأيه قلادة لنفسه أو يتّخذها ربقة في عنقه فلا يفتحها إلّا إذا بلغ درجة
الاجتهاد ، ولكنّه يناسب معنى المتقلِّد لا المقلِّد ، وعلى ما ذكرناه فالمجتهد
مقلَّد ومتقلِّد والعامي مقلِّد محض.
فإن قلت : هل ورد
عنوان التقليد موضوعاً لحكم شرعيّ ، حتّى نبذل الجهد في تحقيق معناه أوّلاً؟
قلت : لم يرد
عنوان التقليد في النّصوص إلّا في الحديث المنقول في التفسير المنسوب إلى الإمام
العسكريّ (عليهالسلام) حيث روي عنه (عليهالسلام) بعد الكلام في العلماء الفُسّاق : «فأمّا من كان من
الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ،
فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشّيعة لا كلّهم ...» والرّواية ليست بحجّة لإرسالها ، بل هو أشبه بكلام العلماء
، حتّى ضعّفه الحرّ العامليّ (رضي الله عنه) وقال : «إنّ هذا الحديث لا يجوز عند
الأُصوليين الاعتماد عليه في الأُصول ولا في الفروع لأنّه خبر واحد مرسل ، ظنّي
السّند والمتن ، ضعيفاً عندهم» .
__________________
فإن قلت : إنّ
عنوان التقليد وقع موضوعاً لعدّة أحكام أوردوها في الرّسائل العمليّة في باب
التقليد أعني :
١ ـ يجب على كلّ
مكلّف أن يكون في جميع عباداته ومعاملاته وعاداته ، مجتهداً أو مقلّداً أو
محتاطاً.
٢ ـ عمل العاميّ
بلا تقليد ولا احتياط باطل.
٣ ـ حكم عمل
المقلِّد إذا عدل المجتهد عن رأيه إلى آخر أو إلى التوقف والاحتياط.
٤ ـ حكم العدول من
تقليد الحيّ إلى غيره المساوي ، وعدمه ، مع العلم بالمخالفة.
٥ ـ حكم البقاء
على تقليد الميت وعدمه.
قلت : ليس التقليد
فيها بما هو هو ، موضوعاً لحكم شرعيّ ، ولا يتوقّف الحكم فيها على تحقيق معنى
التقليد ، بل يمكن الحكم وإن لم نحقّق معناه.
أمّا الأوّل :
فالحكم فيه عقليّ لا شرعيّ ، وما هو الموضوع إنمّا هو رجوع الجاهل إلى العالم (لا
عنوان التقليد) ورجوع غير الوارد إلى المتخصّص ، سواء حصل له العلم أم لا ، وليست
لعنوان التقليد مدخليّة فيه ، وأخذه فيه كناية عن رجوع الجاهل إلى العالم.
وأمّا الثاني :
فالموضوع للصحّة والبطلان هو مطابقة العمل للواقع وعدمها ، والإتيان بالعمل
مطابقاً لرأي المجتهد وعدمه هو طريق إلى استكشاف مطابقته للواقع وعدمها ، سواء
أسمّي ذلك تقليداً أم لا ، فلا دخالة لعنوان التقليد ، ولأجل
ذلك يصحّ العمل ـ إذا
كان عبادة ـ من الجاهل القاصر أو المقصّر الغافل فيما لو أتيا بالعمل مع قصد القربة وكان مطابقاً لفتوى
المجتهد الّذي يجب الرّجوع إليه فعلاً. بل ربّما يقال بالصحّة إذا كان مطابقاً
لفتوى من كان يجب الرّجوع إليه حين العمل.
وكذلك الحال لو لم
يكن العمل عبادة ، كما لو عقد على امرأة بالفارسيّة أو غسل المتنجّس بالبول مرّة
بلا تقليد ، فيصح له ترتيب الأثر إذا وافق عمله رأي من يجب عليه الرّجوع إليه فعلاً ، وعلى
قول إذا وافق رأي من كان يجب عليه الرّجوع إليه حين العمل من غير تأثير للتّقليد
الفعليّ. فالميزان للصحّة إمّا كون العمل مطابقاً لفتوى من كان يجب عليه تقليده
حين العمل فيحكم بالإجزاء ، أو مطابقاً لفتوى من يجب عليه تقليده فعلاً ويحكم
بالإجزاء ، فالمؤثر تحقّق أحد الأمرين لا عنوان التقليد.
وأمّا الثالث :
فالحكم بالإجزاء وعدمه بالنّسبة لأعمال المجتهد ومقلّديه راجع إلى براءة الذمّة
وسقوط التّكليف بالعمل بالرأي السابق وعدمهما.
وأمّا الرّابع :
فجواز العدول وعدمه راجع إلى سعة وضيق حجيّة فتوى المجتهد ، فإن كانت حجّة في خصوص
ما عمل ، جاز له العدول إلى غيره في غيره ، وإن كانت حجّة فيما أخذ وتعلّم ، جاز
له في غير ما تعلّم ، وإن كانت حجّة في كلّ ما التزم به إجمالاً ، لم يجز مطلقاً.
فالميزان هو تحديد موضوع حجيّة رأي المجتهد هل
__________________
هو عند الالتزام
بفتواه إجمالاً أو تفصيلاً أو بعد ما أخذ وتعلّم أو عند ما استند في مقام العمل
إلى فتواه ، فعلى الأوّل لم يجز العدول وعلى الثاني لم يجز فيما أخذ وتعلّم وعلى
الثالث لم يجز بعد الاستناد في مقام العمل ، وبالجملة لا يكون ، لتحقّق عنوان
التقليد تأثير في الحكم ، وجواز العدول وعدمه رهن سعة حجيّة فتوى المجتهد وضيقها.
وأمّا الخامس :
فهو مبنيّ على تحديد معقد الإجماع المدّعى الدّال على عدم جواز الرّجوع إلى الميّت
، فإن دلّ على الإطلاق لم يجز ، سواء كان عنوان التقليد متحقّقاً بالعمل أو بالأخذ
والتعلّم أو بالالتزام ، وإن دلّ على خصوص ما لم يعمل أو لم يأخذ ويتعلّم أو لم يلتزم
، جاز البقاء حسب دلالة عنوان الدّليل.
فعليه ، لم نجد
مورداً يكون عنوان التقليد بنفسه موضوعاً للحكم الشرعيّ ، ولأجل ذلك لا فائدة في
البحث عن مفهوم التقليد ومناطه وإن عرفت ما هو المناط فيه.
إكمال : عرّف
الغزاليّ التقليد بقوله : «هو قبول قول بلا حجّة ، وقال : وليس ذلك طريقاً إلى
العلم لا في الأصول ولا في الفروع ، وذهب الحشويّة والتّعليميّة
__________________
إلى أن طريق معرفة
الحقّ ، التقليد ، وأنّ ذلك هو الواجب وأنّ النّظر والبحث حرام ...» .
أقول : ما ذكره
إنّما يتمّ في تقليد العقائد ، فإنّ المطلوب لتحقّق التقليد فيها هو الالتزام
القلبيّ ، فيكفي في صدقه القبول ، وأمّا الفروع ، فلا يصدق فيها إلّا بالاتيان
بالفعل استناداً إلى قول الغير ، كما عرفت.
وعرّفه الآمديّ
بقوله : «أمّا التقليد ، فعبارة عن العمل بقول الغير ، من غير حجّة ملزمة ، وهو
مأخوذ من تقليده بالقلادة ، وجعلها في عنقه ، وذلك كالأخذ بقول العامّي ، وأخذ
المجتهد بقول من هو مثله ، وعلى هذا فالرّجوع إلى قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإلى ما أجمع عليه أهل العصر من المجتهدين ورجوع العاميّ
إلى قول المفتي وكذلك عمل القاضي بقول العدول ، لا يكون تقليداً ، لعدم عروّه عن
الحجّة الملزمة» .
ويظهر ذلك من ابن
الحاجب حيث قال : فالتّقليد : العمل بقول غيرك من
__________________
غير حجّة ، وليس
الرّجوع إلى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإلى الإجماع والعاميّ إلى المفتي والقاضي إلى العدول
بتقليد لقيام الحجّة ... .
يلاحظ عليه :
أمّا أوّلاً :
فلأنّه لا دليل على أخذ قوله «من غير حجّة ملزمة» في حدّ التقليد ، بل هو صادق في
كلا الموردين ، غاية الأمر ، يكون التقليد في الأوّل مرفوضاً ومذموماً ، بخلاف
الثاني ، فهو مقبول ومستحسن لا أنّه لا يصدق عليه التقليد.
وثانياً : إن أراد
من الحجّة الملزمة ، الحجّة الإجمالية ، فالتقسيم والتفريق صحيح ، لخلوّ الأوّل
عنها دون الثاني ، وإن أراد منها ، الحجّة التفصيليّة في كلّ مسألة ، والدّليل
الخاصّ في كلّ مورد ، فالقسمان يشتركان في عدمها فيهما ، ولعلّ الآمديّ لمّا وقف
على ورود الذمّ على الأوّل دون الثاني ، توهّم كون أحدهما مصداقاً للتّقليد دون
الثاني. مع أنّهما من أقسامه لكن الأوّل مذموم دون الثاني.
* * *
__________________
المسألة الثانية :
في جواز التقليد :
هذه هي المسألة
الثانية من المسائل السبع التي أوعزنا إليها في صدر الفصل.
فاعلم أنّ البحث
في جواز التقليد يقع في مقامين :
الأوّل : ما يمكن
أن يعتمد عليه العاميّ عند التقليد.
الثاني : ما
يستدلّ به المجتهد على جوازه.
هذا ، وليس البحث
الثاني مغنياً عن الأوّل ، لما ستعرف من أن مسألة جواز تقليد العاميّ ليست مسألة
تقليديّة ، بل يجب عليه أن يستقلّ بذلك عقله ودركه ، والوجوب الوارد في كلماتهم «يجب
على العاميّ أن يكون محتاطاً أو مقلّداً» وجوب عقليّ لا شرعيّ. فنقول :
المقام الأوّل : ما
يصحّ للعاميّ أن يعتمد عليه في أمر التقليد :
إذا وقف العاميّ
على أنّ لله سبحانه أحكاماً إلزاميّة في مجالي الفعل والترك ، وأنّه سبحانه لا
يرضى بترك ما أمر ، وفعل ما نهى عنه ، يحكم عليه عقله بامتثالها ، إمّا عن طريق
العلم والقطع أو عن طريق ما جعله المولى حجّة له ، أمّا الأوّل
فلا حاجة معه إلى
الرّجوع إلى الغير لأنّ المفروض وقوفه على نفس الواقع ، والقطع حجّة ذاتيّة.
أمّا الثاني ،
فعليه أن يتحرّى في ذلك المجال ، ويقف على ما هو حجّة بينه وبين ربّه ، حتى يكون
معذوراً عنده ، إذا خالف الواقع.
وبعبارة أُخرى :
إنّ هذا الحكم اجتهاديّ لا تقليديّ ، يدركه عقل العاميّ بعد التدبر والتفكّر ، ولو
كانت المسألة تقليدية لدار ، إذ لو كانت كذلك ، توقف التقليد فيها على مجوّز له ،
فلو كان المجوّز حكم العقل ، لا غنى عن التقليد في نفس هذه المسألة أيضاً ، ولو
كان المجوّز الشرع ، لا يصحّ له الاعتماد عليه إلّا بالتقليد ، وهو يتوقف على
مجوّز ثان ، فإمّا يتسلسل أو يدور ، فلا محيص لقطع التسلسل ودفع الدّور عن كون
المسألة عقليّة مدركة للعاميّ بأدنى تأمّل.
فإن قلت : إنّ
أقصى ما يحكم به عقله هو لزوم تحصيل الحجّة في مجال الحياة ، وأمّا أنّ الحجّة هي
قول الفقيه وفتوى المفتي ، فهو ممّا لا يستقلّ به العقل ، وبعبارة أُخرى : العقل
يستقلّ بالكبرى أي لزوم تحصيل الحجّة ، وأمّا أنّ قول المفتي ورأي المجتهد حجّة
بينه وبين الله ، فليس هذا من المستقلّات العقليّة ، فلا بدّ في إثبات لزوم
الرّجوع إليه من التماس دليل.
قلت : إنّ العقل
يستقلّ في أنّ الحجّة للعاميّ هي فتوى الفقيه ، بعد الوقوف على السيرة العقلائية
السائدة في جميع الأعصار وهي لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، وهذا أصل قام عليه صرح
الحياة من أقدم العصور إلى يومنا هذا ، ولولاه لانهارت الحياة وانقضّ عمودها ، إذ
من المستحيل أن يستقلّ كلّ فرد متحضّر بإنجاز جميع حاجاته من جميع النواحي ، فلا
محيص من تقسيم الحاجات الأوّليّة والثانويّة حتّى يتحمّل كلّ جانب من جوانب الحياة
عدّة من أفراد المجتمع لتحلّ العقدة ،
ولأجل ذلك نرى أنّ
أصحاب التخصّصات في العلوم والفنون يرجعون في غير اختصاصهم إلى أهل الخبرة فيه ،
ولا شكّ أنّ المتخصّص في معرفة الأحكام والفرائض هم الفقهاء الذين صرفوا أعمارهم
في التعرّف والاطّلاع عليها ، وهم العلماء الأمناء على أحكام الله ، العدول في
مسيرة الحياة ، لا يحيدون عن بيان الحقّ قدر شعرة ، وهم المتخصّصون الواقفون على
حقيقة الأمر ، فعليه يلزم على الجاهل الرّجوع إليهم والتمسّك بعروتهم الوثقى.
فالرّجوع إلى
علماء الدّين ، وإناخة المطايا في ساحاتهم ، ممّا أطبقت عليه عقلاء العالم منذ
نزول الشرائع السماويّة من عصر نوح (عليهالسلام) إلى زماننا هذا ، فلم نجد أحداً يرجع فيما يمت إلى الدّين
بصلة إلى غير أهله وكانت لعلماء الدّين مكانة خاصّة في قلوب النّاس ، فإنّهم
المعالجون لأمراض النّاس الرّوحيّة والصّائنون لهم عن عذاب الله وغضبه وسخطه
فالسّيرة بأصلها ـ أي رجوع الجاهل إلى العالم وأن العالم في أُمور الدّين هو
المجتهد العارف بكتاب الله وسنّته ـ ليست أمراً خفيّاً على العامي.
وعليه فلا حاجة
إلى ما ذكره المحقّق الخوئيّ من أنّ هذه السّيرة ـ رجوع الجاهل إلى العالم ـ وإن
جاز أن لا يلتفت إليها العاميّ مفصّلاً إلّا أنّها مرتكزة في ذهنه بحيث يلتفت
إليها ويعلم بها تفصيلاً بأدنى إشارة وتنبيه. وربّما يتصوّر أنّه يصحّ للعاميّ أن
يستند إلى دليل الانسداد لإثبات كون فتوى الفقيه حجّة وتقريبه : «أنّ كلّ واحد
يعلم بثبوت أحكام إلزاميّة في حقّه ، كما يعلم أنّه غير مفوّض في أفعاله بحيث له
أن يفعل ما يشاء ويترك ما يريد ، وهذان العلمان ينتجان استقلال العقل بلزوم الخروج
عن عهدة التّكاليف الواقعية ، المنجّزة بعلمه ، وطريق الخروج عنها منحصر في
الاجتهاد والاحتياط والتقليد. أمّا الاجتهاد فهو غير متيسّر على
الكثير بل على
الجميع ، لأنّ كلّ مجتهد كان برهة من الزمان مقلّداً أو محتاطاً لا محالة ، وكونه
مجتهداً منذ بلوغه وإن كان قد يتّفق إلّا أنّه أمر نادر جدّاً ، فلا يمكن أن يكون
الاجتهاد واجباً عينيّاً على كلّ أحد ، بل لعلّه خلاف الضرورة بين المسلمين. وأمّا
الاحتياط فهو كالاجتهاد غير ميسور له ، لعدم تمكّنه من تشخيص موارده على أنّا لا
نحتمل أن تكون الشريعة المقدّسة مبتنية على الاحتياط ، إذاً يتعيّن على العاميّ
التقليد لانحصار الطريق به. وبهذا الطريق يستكشف العقل أنّ الشارع قد نصب في
الشريعة طريقاً آخر إلى الأحكام الواقعيّة بالإضافة إلى العاميّ ، فلا يسوغ له أن
يأخذ بالعمل بمظنوناته ويترك مشكوكاته وموهوماته ، وذلك لأنّه ليس للمقلّد ظنّ
بالأحكام ، فإنّه ليس من أهل النّظر والاجتهاد ، على أنّ ظنّه كشكّه ووهمه لا
أقربيّة له إلى الواقع بالنّسبة إلى شقيقيه ، لعدم ابتنائه على النّظر في أدلّة
الأحكام فليس له طريق أقرب إلى الواقع من فتوى مقلّده» .
يلاحظ عليه : هذا
لا يكون مستنداً إلّا للعاميّ المجالس للعلماء العارف بالطّرق الثلاثة إجمالاً :
الاجتهاد والاحتياط والتقليد ، وما لكلّ من الأثر ، أمّا أكثر النّاس فإنّهم غير
ملتفتين إلى الطرق الثلاثة ، وما للأوّلَيْن من الآثار والتّبعات ، وعلى ذلك فما
ذكرناه أوّلاً أتقن.
المقام الثاني :
ما يمكن أن يعتمد عليه المجتهد في جواز التقليد :
ما تقدّم كان فيما
يمكن أن يستدلّ به العاميّ على جواز التقليد فهل هناك أمر آخر يمكن أن يستدلّ به
المجتهد على جوازه ، وراء السيرة التي تعدّ دليلاً على الجواز لدى العاميّ
والمجتهد؟.
__________________
فنقول : ربّما
يستدلّ ببعض الآيات :
١ ـ آية النفر :
قال سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ) (التوبة ـ ١٢٢).
وجه الدّلالة
ببيان أُمور أربعة :
١ ـ إذا وجب
النّفر ، بحكم لو لا التّحضيضية وجب كلُّ ما يترتب عليه في الآية من التفقّه
والإنذار والتحذّر عند الإنذار ، وإلّا لزمت لغويّة النّفر.
٢ ـ ليس المراد من
الحذر ، الحالة النفسانيّة من الخوف والوجل ، السائدين على القلب والرّوح ، بل
المراد ما يقوم به المتحذّر من الأعمال ليدفع بها الشّر عنه وما يخاف منه ، قال
سبحانه : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (النساء ـ ٧١)
فالمراد : خذوا أسلحتكم لأنّها الآلة التي بها يتقى عند الحذر ، فانفروا في جماعات
ومتفرّقين أو انفروا مجتمعين.
٣ ـ إنّ وجوب
التحذّر عند الإنذار مطلق سواء أفاد العلم أم لا.
٤ ـ إنّ كون
المنذر متفقّهاً ، يحكي عن كونه متوغّلاً في الدّين متدبّراً فيه ، أُصوله وفروعه
، كيف ، وقد نفر لتلك الغاية ، وهو لا يصدق على ناقل الخبر والرّواية إلّا إذا عرف
كميّة كبيرة من النّصوص القرآنيّة والرّوائيّة وصار بالتدبّر فيها إنساناً فقيهاً
في الدّين عالماً به عن طريق النّظر والفكر.
إذا عرفت ذلك ،
فدلالة الآية على رجوع العامي إلى الفقيه لأخذ أحكام دينه ، أوضح من دلالته على
حجيّة رواية الرّاوي ونقله الحديث ، وإن لم يكن متفقهاً في الدّين ، خصوصاً إذا
كان قليل الرّواية وبعيداً عن مجالس العلماء والرّواة.
ومع ذلك لا تختصّ
دلالتها على حجيّة قول المفتي ورأيه بل تعمّ كلّ كلام صادر من الفقيه في مجال
الدّين ، سواء أكان رأياً مستنبطاً من الكتاب والسنّة أم مجرّد نقل عن المعصوم (عليهالسلام) فالكلُّ حجّة.
وعلى ضوء ذلك :
إذا كان الإنذار واجباً ، كان الإفتاء واجباً بحكم أنّه محقّق للإنذار ، وإذا كان
التحذّر واجباً كان العمل بقوله واجباً لأنّه الغاية القصوى من التحذّر.
يلاحظ عليه أوّلاً
: أنّ الظاهر من الآية هو الإنذار بالمعنى المطابقي ، وهذا شأن الواعظ والخطيب
اللّذين ينذران النّاس بما أوعد الله في كتابه العصاة والطّغاة بالنّار والعذاب
المهين ، ويتلوان عليهم مثلاً قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء ـ ١٠) أو
قوله تعالى : (... وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (التوبة ـ ٣٤) ،
وأمّا ما يقوم به الفقيه فليس إلّا بيان الأحكام من الواجبات والمحرّمات ،
والمستحبّات والمكروهات وليس في بيانه لهذه أيّ إنذار إلّا بالدّلالة الالتزاميّة
وهو غير منصرف الآية.
وثانياً : أنّ
الآية ليست بصدد بيان لزوم التحذّر عند الإنذار حتى يؤخذ بإطلاقها وأنّه يجب
التحذّر سواء أفاد العلم أم لا ، بل الآية بصدد بيان أنّ النّفر بصورة عامّة أمر
غير ممكن ، فلم لا تنفر من كلّ فرقة طائفة لغاية التفقّه والإنذار والتحذّر عنده ،
وأمّا ما هو شرائط المنذر والمتحذّر عند الإنذار ، فالآية ساكتة عن ذلك ، وبذلك
تسقط دلالة الآية على حجّية قول المفتي والرّاوي إذا لم يفد العلم ، فلاحظ ما
ذكرناه في باب حجيّة خبر الواحد .
__________________
٢ ـ آية السؤال :
قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا
رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) (الأنبياء ـ ٧).
دلّت الآية على
وجوب السؤال عند الجهل ، وليس السؤال هو المقصود بالذّات ، بل المقصود هو القيام
بما يقتضيه الوقوف على الجواب.
فلو كان أمراً
اعتقاديّاً لزمه الاعتناق والتسليم ظاهراً وباطناً ، ولو كان من الفروع والأحكام
لزمه العمل به ، وحاصل الآية : أنّه يلزم على الجاهل السّؤال حتى يقف على الحقيقة
ويعمل بوظيفته أمامها ، ولا شك أنّ الفقهاء هم أهل الذّكر في مجال الأحكام والفروع
، فعلى الجاهل أن يرجع إليهم.
فإن قلت : إنّ أهل
الذّكر فُسّر بأئمة أهل البيت (عليهمالسلام) وروي عن عليّ (عليهالسلام) أنّه قال : «نحن أهل الذّكر» وروي ذلك عن أبي جعفر (عليهالسلام) ويعضده أنّ الله تعالى سمّى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذكراً رسولاً في قوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ...) (الطلاق ـ ١٠ و ١١)
.
قلت : إنّ الآية
تحثّ على السّؤال من أهل الذّكر ، وهو أمر كليّ تختلف مصاديقه حسب اختلاف المقامات
والموضوعات ، فأهل الذّكر بالنّسبة إلى أحوال الأُمم البادية والحضارات المتبدّدة
هم المطّلعون على تواريخ الأُمم الماضية ، وبالنّسبة إلى مضامين التوراة والإنجيل
ومحتوياتهما ، وما جرى على أنبياء الله ورسله من المقادير هم أهل الكتاب ، وهكذا
... وأمّا المرويّ عن عليّ (عليهالسلام) وأبي جعفر (عليهالسلام) إنمّا هو من باب تطبيق الآية على المصداق الأتمّ والأكمل
، فهم أدرى
__________________
بالحقائق من سائر
النّاس.
فإن قلت : إنّ
مورد الآية هو الأُصول الاعتقاديّة بشهادة ما تقدّمها من الآيات ، حيث إنّ
المشركين تعجّبوا كيف يبعث الله رسولاً يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، قال
سبحانه حاكياً عنهم : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...) (الأنبياء ـ ٣)
فدعاهم سبحانه إلى السّؤال منّ أهل الذّكر حتى يوقفهم على حقيقة الحال وأنّه
سبحانه بعث قبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كثيراً لهداية الناس كما قال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا
يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) (الأنبياء ـ ٨) ،
وبما أن المطلوب فيها ليس هو الاعتقاد تعبّداً بل حصول العلم واليقين ، فلا تكون
الآية دليلاً على جواز الرّجوع إلى الفقيه الذي يكون المطلوب فيه هو القبول
تعبّداً.
قلت : إنّ الكبرى
الواردة في الآية (أهل الذّكر) مطلقة ، غير أنّه دلّ الدّليل من الخارج على لزوم
تحصيل العلم في مورد الآية ، وهذا لا يوجب اختصاص مضمونها بموردها ، ونظير ذلك آية
النّبأ ، فإنّ موردها الموضوعات والمعروف بين الفقهاء فيها هو اشتراط تعدّد المخبر
، مع أنّ الآية ـ على فرض دلالتها ـ مطلقة من هذه الجهة ، ولكن شرطيّة التعدّد
فيها لا تضرّ بالاستدلال بها ، غاية الأمر يقيّد إطلاقها في المورد بضمّ فرد آخر
إليه حتى يحتجّ بها ، والجامع بين المقامين هو إطلاق الآية ، غاية الأمر يقيّد
إطلاقها بالنّسبة إلى المورد إمّا بحصول العلم واليقين أو بانضمام فرد آخر.
والّذي يمكن أن
يقال حول الاستدلال بالآية هو أنّها ليست إلّا إرشاداً لحكم العقل الحاكم على لزوم
رجوع الجاهل إلى العالم كي يقف على وظيفته وليس مفادها أمراً آخر وراء ما حكم به
العقل.
٣ ـ الروايات
الإرجاعية :
الرّوايات
الإرجاعيّة أجلى وأوضح دليل على جواز رجوع الجاهل إلى الفقيه في أخذ الأحكام وقد
ذكرنا قسماً وافراً منها عند البحث عن حجيّة خبر الواحد ، هذا وفي مضامينها إرجاع
الإمام (عليهالسلام) إلى من كانوا من الفقهاء وأصحاب النّظر كيونس بن عبد
الرّحمن وزكريّا بن آدم القمي ومعاذ بن مسلم النحويّ وأبان ابن تغلب ومحمد بن مسلم
الثقفي وأضرابهم ممّن كانوا يجمعون بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ويميّزون
النّاسخ عن المنسوخ والصّادر عنهم (عليهالسلام) تقيّة عن الوارد لبيان الحكم الواقعيّ ، ولا يقف على ذلك
إلّا الفقيه الممارس للفتوى.
وإليك بعض النّصوص
الإرجاعية :
١ ـ عن الفضل بن
شاذان عن عبد العزيز ابن المهتدي ـ وكان خير قميّ رأيته ، وكان وكيل الرّضا (عليهالسلام) وخاصّته ـ قال : سألت الرّضا (عليهالسلام) فقلت : إنّي لا ألقاك في كلِّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني؟
فقال (عليهالسلام) : «خذ عن يونس ابن عبد الرحمن» .
٢ ـ عن عليّ بن
المسيّب الهمدانيّ قال : قلت للرّضا (عليهالسلام) : شقّتي بعيدة ولستُ أصلُ إليك في كل وقت ، فممّن آخذ
معالم ديني؟ قال (عليهالسلام) : «من زكريّا بن آدم القميّ المأمون على الدّين والدّنيا»
قال عليّ بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت
إليه .
__________________
٣ ـ روى معاذ بن
مسلم النحويّ عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «بلغني أنّك تقعد في الجامع تفتي الناس»؟ قلت : نعم
وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج ، إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرّجل فيسألني عن
الشيء ، فإذا عرفته بالخلاف لكم ، أخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرّجل أعرفه
بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم ، ويجيء الرّجل لا أعرفه ولا أدري من هو
فأقول : جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا ، فأدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال لي :
«اصنع كذا فإنّي كذا أصنع» .
٤ ـ قال أبو جعفر (عليهالسلام) لأبان بن تغلب «اجلس في مجلس المدينة وأفت النّاس ، فإنّي
أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» قال النجاشي : قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لما أتاه نعيه : «أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان».
وقال أيضاً : «عظيم
المنزلة في أصحابنا لقي عليّ بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله (عليهمالسلام) ، روى عنهم وكانت له عندهم منزلة وقدم ، وكان قارئاً من
وجوه القرّاء ، فقيهاً ، لغويّاً سمع من العرب وحكى عنهم» .
٥ ـ عن عبد الله
بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ، ويجيء
الرّجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال : «ما يمنعك من
محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً» .
__________________
ولا أظنّ أحداً
يتصوّر أنّ من يؤخذ عنه معالم الدّين ، أو يكون مأموناً على الدّين والدّنيا ، أو
يفتي النّاس حسب مذاهبهم ، أو يفتخر الإمام الصادق (عليهالسلام) بجلوسه في المسجد وإفتائه النّاس ، كان يعدّ من الرّواة
العاديين الّذين لا شغل لهم إلّا نقل النّصوص ، ولأجل ذلك عُدّوا من الطبقة
الأُولى من الفقهاء في تلك العصور. غاية الأمر كان الافتاء غالباً بلفظ النّصوص
لكن بعد الإحاطة بها وتطبيق الأُصول على الفروع.
فكرة إنكار
الاجتهاد في عصر الأئمّة (عليهمالسلام):
ربّما يتصوّر أنّ
الرّوايات الإرجاعية لا تشمل فقهاء الأعصار المتأخرة ، لأنّ الإرجاع كان إلى رواة
الأحاديث والأخبار ونقلة النّصوص المسموعة أو المرويّة عنهم (عليهمالسلام) ، وأين هذا من الرّجوع إلى الفقهاء المستنبطين للأحكام
ببذل الجهد من الكتاب والسنّة ويفتون بآرائهم وإن كانت مستندة إليهما. سلّمنا وجود
الاجتهاد بينهم ، لكنّ الفارق بين الاجتهادين أظهر من أن يخفى ، فإنّ الاجتهاد في
العصور المتقدّمة كان سهلا سطحياً لا صعباً عميقاً كما هو الحال في العصور
المتأخرة حيث إنّه اتخذ لنفسه قالباً فنيّاً دقيقاً.
يلاحظ عليه : أنّ
الاجتهاد كان ظاهرة طبيعيّة ظهرت بعد رحيل الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وابتلاء المسلمين ـ الذين تخلّوا عن العترة الطاهرة ـ بمسائل
جديدة لم يجدوا لها حلّا في ظاهر الشرع ، فبذلوا الجهد للإجابة عنها كيفما كان ولو
من خلال ظوابط ومقاييس ما أنزل الله بها من سلطان.
إنّ تاريخ الفقه
وإن كان يقسّم من أخذت عنهم الفتوى إلى طائفتين :
١ ـ الصحابة
والتّابعون. ٢ ـ الفقهاء والمجتهدون.
ولكنّه لا يعني
بذلك عدم الاجتهاد في الطائفة الأُولى ، وإنّما التقسيم على أساس الغالب ، فقد كان
الغالب على عصر الصحابة والتّابعين نقل الحديث والأثر كما كان السّائد على عصر
الطائفة الثانية هو الاجتهاد واستخراج الأحكام في ظلّ مقاييس وضوابط ، وإلّا فقد
احتفل التاريخ بوجود فقهاء من التابعين مثل :
١ ـ الحسن البصريّ
(م ـ ١١٠ ه ـ) .
٢ ـ الزهريّ (م ـ ١٢٤
ه ـ).
٣ ـ ابن شبرمة (م
ـ ١٤٤ ه ـ) .
٤ ـ الأعمش (م ـ ١٤٨
ه ـ) .
إلى غير ذلك من
المجتهدين المفتين وإن كانوا خاطئين في كيفيّة الاجتهاد والاستنباط ، وقد كتب
الإمام السجاد (عليهالسلام) رسالة قارعة إلى الزّهريّ مفتي البلاط الأمويّ ندّد به
فيها .
__________________
وأمّا فكرة
الاجتهاد بين أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) وخصوصاً أصحاب الباقرين والكاظمين (عليهمالسلام) فحدّث عنه ولا حرج ، ويكفي لذلك الإمعان في الأسئلة
والأجوبة التي دارت بين الصادقين وأصحابهما ، وهي أوضح دليل على وجود الاجتهاد في
الطبقة العليا منهم ، فلاحظ ما دار بين الإمام الصادق (عليهالسلام) وزرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهما من المناظرات في فقه
القرآن والسنّة ولتطلب من كتب الرّجال والحديث ، وقد أتينا ببعضها فيما سبق فلاحظ.
نعم ، إنّ
الاجتهاد في العصور المتقدمة كان يسيراً لا عسيراً ، لجهات متعدّدة أهمّها قرب
العهد من عصر المعصومين وتمكّن البعض من الحضور لديهم واستفتائهم ، وعدم تطرّق
التقطيع والتحريف للأحاديث ، وتمييز الصّادر عن تقيّة عن غيره بسهولة ، ـ ومع ذلك
كلّه ـ لم يكن الإفتاء بلفظ الحديث إلّا بعد تخصيص العامّ بالخاصّ والمطلق
بالمقيّد وتقديم الصادر لبيان الواقع على الصادر عن تقيّة ، إلى غير ذلك من
الأُصول المبتني عليها صرح الاجتهاد.
والتفاوت بين الاجتهاد
بسهولة المتقدّم وصعوبة المتأخّر لا يكون فارقاً وموجباً لانصراف الرّوايات عن
القسم الثاني مع اشتراكهما في استنباط الأحكام الشرعيّة من الأدلّة على ضوء
الأُصول التي أطبقت العقلاء على اعتبارها وأمضاها الشارع أو لم يردع عنها.
نعم هناك لفيف من
الآيات ربّما كانت ذريعة لنفي التقليد واستند إليها معاشر الأخباريين من أصحابنا ،
وإليك عناوينها قبل الخوض في بحثها.
١ ـ الآيات
الذامّة للتقليد.
٢ ـ الآيات
الناهية عن اتّباع الظنّ.
٣ ـ الآيات التي
تنكر عمل أهل الكتاب.
وإليك الكلام في
توضيح المراد منها.
١ ـ الآيات الذامّة
للتّقليد :
هناك بعض الآيات
الذامّة لتقليد الآباء وهي كثيرة نذكر منها :
١ ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الزخرف ـ ٢٠).
٢ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ
فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (الزخرف ـ ٢١).
٣ ـ (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا
عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف ـ ٢٢).
٤ ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف ـ ٢٣).
فالآيات تندّد
بالتقليد وتذمّه ومع ذلك كيف يصير مجازاً في مورد الأحكام؟
والإجابة عنها
واضحة بعد الوقوف على أنّها كانت من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل ، والّذي دعاهم
إلى التّبعيّة هو العصبيّة لطريقة الآباء والأجداد ، لا كونهم من أصحاب البصيرة
والتدبّر في أمر التوحيد والعبادة ، وأين ذلك من العاميّ المقلّد لأهل الخبرة في
مجال الدّين مع علم العاميّ بأنّه من أهلها.
٢ ـ الآيات
الذامّة لاتّباع الظنّ :
لقد تضافرت الآيات
في النّهي عن اتّباع الظنّ نذكر ما يلي :
١ ـ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام ـ ١١٦).
٢ ـ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام ـ ١٤٨).
٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات ـ ١٢).
٤ ـ (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم ـ ٢٨).
وفتوى المجتهد لا
تتجاوز عن كونها أمراً ظنيّاً ، فيكون تقليده من أفراد اتّباع الظنّ.
والإجابة عن ذلك
واضحة بعد الوقوف على أنّ المراد من الظنّ هو الترجيح لأمر بلا دليل من العقل ولا
الشّرع ، ولا مستند لمتّبع الظنّ سوى الخضوع للعواطف والعصبيّات ، وأين هذا من
الرّجوع إلى علماء الدّين الّذين أفنوا أعمارهم ونذروا للشّرع أنفسهم في تحصيل الحقائق
وكشفها وحلّ معضلات المسائل ، بل القسم الثاني خارج من العمل بالظنّ موضوعاً ،
لأنّه لا يتلقّاه الآخذ ظنّاً ، وعلى تسليمه فهو طريق مدعم ومعتضد بالعقل والشّرع
كما عرفت.
٣ ـ الآيات التي
تنكر عمل أهل الكتاب :
إنّ بعض الآيات
تنكر عمل أهل الكتاب في الرّجوع إلى الأحبار والرّهبان واتخّاذ أقوالهم حججاً
بينهم وبين ربّهم. بل عدّ الله سبحانه عملهم عبادة لهم ، قال سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة ـ ٣١) وقد
روي عن الصادق (عليهالسلام) أنّه قال : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو
دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث
لا يشعرون» .
وفي حديث آخر عنه (عليهالسلام) : «والله ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم ولكن أحلّوا لهم
حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم» .
والإجابة عن
الاستدلال بها أوضح ممّا سبق ، وأين عملهم من عمل فقهاء الإسلام من بذل الجهد ،
ليحرّموا ما حرّم الله ويحلّوا ما أحلّ الله بلا تغيير ولا تحريف.
هذا وإنّ صاحب
الوسائل عقد بابين في المقام وهما :
١ ـ باب عدم جواز
تقليد غير المعصوم (عليهالسلام) فيما يقول برأيه وفيما لا يعمل فيه بنصّ عنهم (عليهمالسلام) .
__________________
٢ ـ باب وجوب
الرّجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشّيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهمالسلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم .
أقول : إنّ
النّاظر في روايات البابين لا يجد رواية تدلّ على بطلان تقليد العاميّ لفقهاء
الدّين الّذين يفتون على طبق الكتاب والسنّة والعقل فيما للعقل مجال الحكم ،
والرّوايات الواردة فيها ناظرة إلى فقهاء العامّة الّذين كانوا يفتون على طبق
ضوابط ما أنزل الله بها من سلطان كالقياس والاستقراء النّاقص والاستحسان ،
والرّجوع إلى من باع آخرته بدنياه ، فأين هذه الرّوايات من فتوى علماء الشّيعة
النّابعة عن الكتاب والسنّة والأدلّة التي قام الدّليل القطعيّ على حجيتها.
وأظنّ أنّ الشيخ
الحرّ العامليّ تأثر من محيطه وبيئته اللّتين كان يعيش فيهما ، حيث كانت الفكرة
الأخباريّة سائدة في زمانه ، فقد توفّي عام (١١٠٤ ه ـ) وعاش في عصر المجلسيّين
الأوّل والثاني رحمهمالله. وكان رفض الاجتهاد وذمّ التقليد شعاراً لأكثر فضلاء تلك
الدّورة إلى أن جاء المحقق البهبهانيّ فخدم الأُمّة
__________________
الإسلامية بآرائه
مقتلعاً جذور الفكرة الأخبارية بإفاداته ، رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ
الباقين منهم.
__________________
المسألة الثالثة :
في وجوب تقليد الأعلم وعدمه :
إذا اختلف الأحياء
في العلم والفضيلة فمع علم المقلّد بالاختلاف على وجه التفصيل أو الإجمال ، هل يجب
الأخذ والعمل بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضاً؟ قولان.
ولنذكر صور
المسألة وإن كان بعضها خارجاً عن العنوان التفصيلي :
١ ـ إذا علم
العاميّ موافقة الأعلم لغيره في الفتوى بتفاصيلها.
٢ ـ إذا علم
مخالفتهما في الفتوى تفصيلاً أو إجمالاً.
٣ ـ إذا شكّ في
مخالفتهما فيها.
أمّا الصورة
الأُولى : فهي خارجة عن محلّ النزاع ، ولا جدوى للبحث فيها كما سيتبيّن لك إن شاء
الله.
وأمّا الصورة الثانية
: فهي محلُّ الكلام بين الأعلام فمن قائل بتعيُّن الفاضل إلى قائل بالتَّخيير كما
عليه أكثر الأُصوليّين من العامّة ، والمسألة معنونة في كتب الأُصول عند الفريقين (الشيعة
والسنّة) ننقل بعض كلماتهم :
١ ـ قال الحاجبي :
مسألة : «المختار أنّ للمقلِّد عند تعدّد المجتهدين أن يقلِّد من شاء ، وإن
تفاضلوا ، وعن أحمد وابن سريج ، يجب عليه النظر في الأرجح ، لنا : القطع بأنّ
المفضولين باتّفاق في زمان الصحابة وغيرهم كانوا يفتون
ويستفتون ، مع
الاشتهار والتكرّر ، ولم ينكر أحد ، فدلّ على أنّه جائز» .
٢ ـ وقال القاضي :
«إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعتقاده يتخيّر ، لأنّ المفضول أيضاً من أهل
الاجتهاد لو انفرد ، فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثّر» .
ونقل عن العضديّ
موافقته مع القاضي.
ولكن ذهب الغزاليّ
إلى تعيّن تقليد الأعلم ، وقال : «الأولى عندي أنّه يلزمه اتّباع الأفضل ، فمن
اعتقد أن الشافعيّ (رحمهالله) أعلم والصواب على مذهبه أغلب ، فليس له أن يأخذ
بمذهب مخالفه بالتّشهّي ...» .
وأمّا الشيعة فقد
استقصى الشيخ الأنصاريّ أقوالهم في رسالة خاصّة له في تقليد الأعلم وقال : «إنّ
تقديم الفاضل هو خيرة :
١ ـ السيّد في
الذّريعة ، ٢ ـ المحقّق في المعارج ، ٣ ـ العلّامة في كتابي نهاية الأُصول
والتهذيب ، ٤ ـ عميد الدّين في غنية اللبيب في شرح التهذيب ، ٥ ـ الشّهيد في
الدّروس والقواعد والذكرى ، ٦ ـ المحقّ ـ ق الثاني في جامع المقاصد ، ٧ ـ الشّهيد
الثاني في تمهيد القواعد ٨ ـ الشييخ حسن في المعالم ، ٩ ـ بهاء الدّين العامليّ في
الزبدة. ١٠ ـ الشيخ صالح المازندرانيّ في حاشية المعالم ، ١١ ـ السيّد عليّ في
الرياض ، وهو قول كلِّ من وصل إلينا كلامهم وإن ذهب جماعة ممّن تأخّر عن الشهيد
إلى القول بالتّخيير بين الفاضل والمفضول» .
هذا وإليك نقل بعض
الكلمات من مصادرها :
١ ـ قال السيد
المرتضى : «وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع
__________________
وأدين ، فقد
اختلفوا ، فمنهم من جعله مخيّراً ، ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدّم في العلم
والدّين ، وهو أولى لأنّ الثقة هاهنا أقرب وأوكد ، والأُصول كلّها بذلك شاهدة» .
٢ ـ وقال المحقّق
: «ويجب عليه الاجتهاد في معرفة الأعلم والأورع ، فإن تساويا تخيّر في استفتاء
أيّهما شاء ، وإن ترجّح أحدهما من كلّ وجه تعيّن العمل بالراجح ، وإن ترجّح كل
واحد منهما على صاحبه بصفة ، فالأقوى الأخذ بقول الأعلم» .
٣ ـ وقال العلّامة
: «ولو أفتاه اثنان فصاعداً ، وإن اتّفقوا ، وإلّا اجتهد في الأعلم الأورع فقلّده
، فإن تساويا تخيّر ، وإن ترجّح أحدهما بالعلم والآخر بالزّهد تعيّن الأعلم ،
ويعلم الأعلم بالتّسامح والقرائن لا بالبحث عن نفس العلم ، إذ ليس على العاميّ ذلك
ـ إلى أن قال : ـ ولا يجوز للعاميّ تقليد المفضول مع وجود الأفضل ، لأنّ ظنّ
إصابته أضعف ، وإذا تساوى المفتيان فقلّد العاميّ أحدهما ، لم يجز له الرّجوع عنه
في ذلك الحكم ، والأقرب جوازه في غيره» .
٤ ـ قال صاحب
المعالم : «وأمّا مع الاختلاف ، فإن علم استواءهم في المعرفة والعدالة ، تخيّر
المستفتي في تقليد أيّهم شاء ، وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض تعيّن
عليه تقليده ، وهو قول الأصحاب الّذين وصل إلينا كلامهم ، وحجّتهم عليه ، أنّ
الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد ، ويحكى عن بعض النّاس القول بالتّخيير هنا أيضاً ،
والاعتماد على ما عليه الأصحاب ، ولو ترجّح بعضهم بالعلم والبعض بالورع ، قال
المحقّق (رضي الله عنه) يقدّم الأعلم لأنّ الفتوى تستفاد
__________________
من العلم لا من
الورع ، والقدر الّذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار
برجحان ورع الآخر ، وهو حسن» .
وبما أنّ المسألة
من المسائل التفريعيّة ومن الفقه المستنبط ، لا جدوى في التوغّل في الأقوال ، لأنّ
كلاً من القائل بالتّعيين والتخيير استند إلى دليل عقليّ أو شرعيّ ، فيكون المتّبع
هو الدّليل لا قوله وكلامه ، وليس الاتفاق ـ على فرض ثبوته ـ كاشفاً عن دليل وصل
إليهم ولم يصل إلينا ، فاللّازم هو عرض المسألة على الأدلة ، فنقول : يقع الكلام
في مقامين :
الأوّل : ما هي
وظيفة العاميّ في تلك المسألة ـ مع غضّ النظر عن رأي العلماء ـ هل يستقلّ عقله
بالرّجوع إلى الفاضل أو بالتخيير بينهما؟
الثاني : ما هو
مقتضى الأدلّة عند المجتهد هل يستفاد منها لزوم الرّجوع إلى الفاضل أو يستفاد
التّخيير؟
أمّا الأوّل : فلا
شكّ أنّ وظيفته ، هي الرّجوع إلى الفاضل ، ويستقلّ عقله بذلك كما يستقلّ بعدم
تقليد المفضول ، وذلك ببيانين :
الأوّل : لا شك
أنّه ورد التكليف بتقليد الفاضل ، ولكن نشك في أنّ الوجوب فيه تعيينيّ أو تخييريّ
، فمقتضى الإطلاق هو الأوّل ، لحاجة الثاني إلى بيان زائد ، والإطلاق ينفيه.
يلاحظ عليه : أنّا
نقطع بعدم ورود خطاب خاصّ بالنسبة إلى تقليد الفاضل ، حتّى يتردّد الأمر فيه بين
كون التكليف تعيينيّاً أو تخييريّاً ، والخطاب الوارد لا يتجاوز عن لزوم الرّجوع
إلى أهل الذّكر ، وهو كليّ ينطبق على جميع المصاديق ، سواء كانا متفاضلين أو
متساويين ، والتحديد بفرد خاصّ يحتاج إلى دليل.
__________________
نعم ، سيوافيك عدم
الاطلاق في الأدلّة الارجاعيّة ، إذا كان أهل الذكر والتحذير مختلفين ، وهذا أمر
آخر.
الثاني : إنّ قول
الفاضل متيقن الحجيّة دون المفضول ، فهو مشكوك الحجيّة ، والاشتغال اليقينيّ
يستدعي الفراغ اليقينيّ ، وهذا هو المعتمد.
نعم ، له أن
يقلِّد في تلك المسألة رأي الفاضل ، فإذا أجاز تقليد المفضول جاز له تقليده ،
ولكنّه ليس تقليداً له ابتداءً ، بل هو في الحقيقة تقليد للفاضل ، وبتقليده تصير
فتاوى المفضول حجّة.
ولا يجوز له
الرّجوع في تلك المسألة إلى المفضول ابتداءً ، لاستلزامه الدّور ، لأنّه برجوعه إليه
في خصوص هذه المسألة (جواز تقليد المفضول) فرع جواز الرّجوع إليه مطلقاً ، لتندرج
المسألة تحته ، وهذا متوقّف على جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وهذا هو الدّور
الصريح.
إلى هنا تبيّن عدم
جواز الرّجوع إلى المفضول إلّا مع إجازة الفاضل.
المقام الثاني :
ما هو مقتضى الادلة فى المسألة :
يقع الكلام تارة
في مقتضى الأصل الأوّليّ ، وأُخرى في مقتضى الأدلّة الاجتهادية.
أمّا الأوّل : لا
شك انّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ، وعدم حجيّة رأي أحد على أحد ، خرج منه متابعة
قول الفاضل بالاتفاق من المجوّزين تخييراً بينه وبين المفضول والموجبين للعمل
بقوله تعييناً ، فإنّه المجمع عليه ، وتبقى متابعة المفضول تحت عموم حرمة العمل
بما وراء العلم.
وربمّا يقرّر
الأصل بأنحاء أُخر :
ألف : إنّ أصالة
حرمة العمل بما وراء العلم قد انقطعت بما دلّ على مشروعيّة التقليد في الجملة ،
ولا ريب أنّه إن كان المجتهدان متساويين في العلم
كان قول كلّ منهما
حجّة ، وكان المكلّف مخيّراً بينهما ، فلو زال التساوي في العلم يستصحب التخيير
السابق ، ويتمّ الأمر في غير هذه الصّورة بعدم القول بالفصل.
يلاحظ عليه : ـ مع
أنّه منقوض بمثله أوّلاً وذلك فيما إذا كان أحدهما أفضل من الآخر ثمّ حدث التساوي
، فيستصحب الوجوب التعيينيّ ، ويتمّ الأمر في غير هذه الصّورة بعدم القول بالفصل ـ
أنّ التّخيير في صورة التساوي من أحكام العقل ، وهو إنّما يستقل به عند التساوي ،
ويستقلّ بعدمه عند ارتفاعه ، فلا شكّ في حكم العقل حتى يستصحب ولا معنى أن يكون
حكمُ الشرع اوسع فيما يستقلّ به العقل من الإثبات والنّفي.
ب : إنّ الأمر
دائر بين كون المكلف به هو الرّجوع إلى مطلق الفقيه ، حتى يكون مخيّراً ، والرّجوع
إلى خصوص الأعلم من الفقهاء ، ولا شكّ أنّ الثاني فيه كلفة زائدة ليست في الأوّل ،
فينتفي بحكم البراءة ، كما لو دار الأمر بين كون الواجب هو مطلق الرّقبة أو خصوص
الرّقبة المؤمنة.
يلاحظ عليه : أنّه
قياس مع الفارق ، لأنّ الحكم في المقيس عليه تعلّق بعنوان دائر بين الإطلاق
والتقييد ، فإذا كان القيد مشكوكاً ينفى وجوبه بحكم البراءة ، بخلاف المقام ، إذ
ليس هنا دليل شرعيّ دائر بين تقليد مطلق المجتهد والمجتهد الفاضل ، بل الدّليل هو
حرمة العمل بالظنّ إلّا ما خرج ، وهنا دار أمر الخارج بين الأقلّ والأكثر ، والأصل
في غير الأقلّ محكّم.
ج : لا شكّ أنّ
قول المفضول حجّة بلا إشكال ، بشهادة جواز الرّجوع إليه عند التساوي ، والقول
بوجوب الرّجوع إلى الفاضل وترجيحه لدى التعارض منفيّ بالأصل ، لأنّ الأصل في
الترجيح كالحجّة في العدم ، إلّا إذا ثبت.
يلاحظ عليه : أنّ
أصالة عدم الترجيح لإثبات حجيّة قول المفضول ، لا تقاوم العمومات الدّالة على حرمة
العمل بالظنّ خرج منها الفاضل ويبقى الباقي تحتها.
إلى هنا تبيّن أنّ
الأصل الأوّليّ هو الرّجوع إلى الفاضل دون المفضول ، هذا كلّه حول الأصل الأوّلي.
ما هو مقتضى
الأدلّة الاجتهادية :
نقول : أمّا آية
النفر ـ على فرض دلالتها ـ وآية السّؤال ، والروايات الإرجاعيّة ، فهي لا تشمل
مورد اختلاف الفتويين ، شأن جميع أدلّة الحجيّة ، فلا محيص من التماس دليل آخر ،
وليس في المقام ما يمكن الاستدلال به إلّا السيرة العقلائيّة ، وهي في مورد
الاختلاف تقدّم الفاضل على المفضول ، خصوصاً في مهام الأُمور وأعاليها.
ثمّ إنّ سيّدنا
الأُستاذ ـ مد ظله ـ احتمل أنّ تقديم الفاضل على المفضول عند العقلاء من باب حسن
الاحتياط ، لا من باب اللّزوم ، بقرينة رجوعهم إلى المفضول بمجرّد تحقّق أعذار غير
وجيهة كبعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقّة الوصول وإن كانت قليلة وأمثال ذلك ممّا
يعلم بأنّه لو حكم العقل إلزاماً بالترجيح لما كانت تلك الأعذار وجيهة لدى العقل
والعقلاء ، هذا مع علمهم إجمالاً باختلاف الرّأي بين أصحاب الفنّ.
يلاحظ عليه : أنّ
مراجعتهم للمفضول مع وجود الفاضل لأحد أمرين :
الأوّل : إمّا
لعدم علمهم بالمخالفة في مورد المراجعة ، وإن كان لهم علم بوجود الخلاف بين أصحاب
الفنّ إجمالاً ، ولكن لمّا كانت سائر الموارد خارجة عن ابتلائهم ولم يكن لهم علم
في خصوص المورد ، فإنّهم يرجعون إلى المفضول مع وجود الفاضل ، وربّما يعتقدون
بوحدة النّظر والتشخيص بينهم ، لابتلاء أصحاب الفنّ بمثله في كلّ يوم مرّات ،
ولأجل ذلك لا يكون وجود الفاضل سبباً لتعطيل فتوى المفضول.
الثاني : إمّا
أنّهم يتسامحون في المراجعة إلى المفضول في أغراضهم العاديّة دون مهامّ الأُمور
وأعاليها ، ومثله لا يكون دليلاً على المسامحة في الأُمور الدينيّة التي لا يعلوها
غرض وهدف.
هذا وقد جاءت
الإشارة إلى سيرة العقلاء في بعض الرّوايات فعن صحيح عيص بن القاسم قال : سمعت أبا
عبد الله (عليهالسلام) يقول : «عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له ، وانظروا
لأنفسكم ، فو الله إنّ الرّجل ليكون له الغنم فيها الرّاعي ، فإذا وجد رجلاً هو
أعلم بغنمه من الّذي هو فيها ، يخرجه ويجيء بذلك الرّجل الّذي هو أعلم بغنمه من
الّذي كان فيها ...» .
هذا كلّه إذا لم
تكن فتوى غير الأعلم مطابقة للاحتياط ، وفتوى الأعلم مخالفة له ، كما إذا أفتى
الأوّل بنجاسة الغسالة والآخر بطهارتها ، أو أفتى الأوّل بوجوب التسبيحات الأربعة
ثلاثاً ، وأفتى الفاضل بوجوب الواحدة ، إذ حينئذ جاز ترك قول الفاضل والأخذ برأي
المفضول ، إلّا أنّ هذا في الحقيقة عمل بالاحتياط الموجود في فتوى المفضول دون
الفاضل.
هذا هو تحليل
المسألة وبيان دليلها ، وليس وراء ما ذكرنا شيء يعتمد عليه في إثبات وجوب الرّجوع
إلى الفاضل سوى وجوه ضعيفة ذكرها الشيخ (رضي الله عنه) في رسالته وهي :
١ ـ الإجماع على
وجوب الرّجوع إلى الفاضل كما وقفت عليه من خلال كلماتهم ، قال الشيخ الأنصاريّ (رضي
الله عنه) :
«ولا يجوز
الاجتراء في الإفتاء في مثل هذه المسألة التي بمنزلة الإفتاء في جميع الفقه ،
بخلاف المنقول من الأصحاب ، كيف ولا نرى منهم الاختلاف مع وجود ذلك فيما هو أهون
من المقام كما لا يخفى على من تتبّع فتاواهم ، ولا وجه للوسوسة
__________________
بعدم حجيّة
الإجماع المنقول في المقام كما عرفت» .
يلاحظ عليه : أنّ
الإجماع في مثل المقام لا يكون كاشفاً عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا ، ولا شكّ
أنّهم اعتمدوا على بعض الوجوه التي سنذكرها ، وعليه يصبح الإجماع مدركيّاً خاضعاً
للدّليل ، فيجب تقييم دليلهم لا الاعتماد على اتّفاقهم.
٢ ـ مقبولة عمر بن
حنظلة وفيها : الحكم ما حكم به أعدلهما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت
إلى ما يحكم به الآخر .
٣ ـ ما رواه
الصّدوق عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع
بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي
الحكم؟ قال (عليهالسلام) : «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ
حكمه ولا يلتفت إلى الآخر». .
٤ ـ حديث موسى بن
أكيل عن أبي عبد الله (عليهالسلام) عند اختلاف الحكمين قال (عليهالسلام) : «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه» .
هذا وقد أورد على
الاستدلال بأنّ مورد الرّوايات هو الحكم والقضاء ، والترجيح فيها بالأفقهيّة لا
يكون دليلاً على لزومه في الإفتاء لأنّ أمر القضاء لا يقبل التخيير ولا التفويض
ولا الإهمال ، فلا مناص عن الترجيح بشيء من الأُمور ، وهذا بخلاف الإفتاء إذ لا مانع
من التخيير بين الرّأيين ، فلا يكون الترجيح في الرّوايات دليلاً على الترجيح في
المقام.
__________________
أقول : فيها أيضاً
تلميح إلى الترجيح في الإفتاء ، لأنّ اختلاف الحكمين قد ينشأ من الاختلاف في
الأُمور الخارجيّة وأُخرى من الاختلاف في الفتوى ، ومورد الثاني هو الرّواية ،
فيكون دليلاً صريحاً على الترجيح بالأعلميّة عند اختلاف أرباب الفتوى في القضاء
ومومياً إليه في غيره كما لا يخفى.
٥ ـ قول أمير
المؤمنين (عليهالسلام) في عهده إلى مالك الأشتر : «ثمّ اختر للحكم بين النّاس
أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي
بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً ، بمراجعة الخصم وأصرّهم على تكشّف الأُمور ...» .
يلاحظ عليه : أنّ
المتبادر من الأفضل بقرينة الجمل المتعقّبة هو المتجلي بالفضائل النّفسانيّة من
كونه خاضعاً للحقّ ، غير لجوج ، وآخذاً له إذا عرفه ، حتى أنّ المراد من «آخذهم
بالحجج» هو المحتاط في أُموره ، وأين ذلك من الأفقهيّة.
٦ ـ قول رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من تعلّم علماً ليماري به السّفهاء ، أو ليباهي به
العلماء ، أو يصرف به النّاس إلى نفسه ، يقول : أنا رئيسكم ، فليتبوّأ مقعده من
النّار ، إنّ الرّئاسة لا تصلح إلّا لأهلها ، فمن دعى النّاس إلى نفسه وفيهم من هو
أعلم منه ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة» .
يلاحظ عليه : أنّ
المراد من الرّئاسة هي الإمامة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويلزم أن يكون
__________________
أعلم الناس ، ومن
دعا النّاس إلى رئاسة وإمامة نفسه وفي الأُمّة من هو أعلم منه ، لا ينظر إليه الله
يوم القيامة ، وأين ذلك من أخذ الفتوى من الفقيه البعيد عن الرّئاسة أحياناً أو
كثيراً.
وكذلك ما روي عن
الصادق (عليهالسلام) أنّه قال لعمرو بن عبيد (من المعتزلة) في حديث طويل آخره
، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من ضرب النّاس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين
من هو أعلم منه ، فهو ضالّ متكلّف» .
٧ ـ ما في عيون
المعجزات عن الجواد (عليهالسلام) أنّه قال مخاطباً عمّه :
«يا عمّ إنّه عظيم
عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم ، وفي
الأُمّة من هو أعلم منك» .
وروي في موضع آخر
، محذوف الذّيل ، أي قوله : «وفي الأُمّة من هو أعلم منك» ولعلّه أصحّ
لأنّ ذمّ الإمام (عليهالسلام) عمّه كان لجهله «بما لم تعلم» لا على قلّة علمه ، كما هو
مقتضى الذّيل ، وعلى كلّ حال الرّواية مرسلة لا يحتجّ بها.
٨ ـ إنّ فتوى
الأعلم أقرب إلى الواقع من غيرها ، فيجب الأخذ بها عند التّعارض ، لأنّ الأخذ
بالأقرب لازم عند التّعارض ، وربمّا تردّ الصّغرى بأنّه قد تكون فتوى غير الأعلم
أقرب إلى الواقع لموافقتها للمشهور ولفتيا أساطين المذهب ومحقّقيهم الّذين هم أعلم
من الحيّ بمراتب .
يلاحظ عليه : أنّ
الملاك في الترجيح بالنسبة إلى المقلّد هو الأقربيّة الدّاخليّة القائمة بنفس
المفتي وهي الأعلميّة ، وأمّا الأقربيّة الخارجيّة القائمة بأُمور خارجة
__________________
عن نفس المفتي
ككون رأيه موافقاً للشهرة أو الأمارة وغير ذلك ، فلا يتمكّن المقلّد من الوقوف
عليها ، فلا يصحّ أن يكون مثل ذلك ملاكاً للتّكليف ، وهذا بخلاف الترجيح بأمر
داخلي قائم بنفس المفتي.
نعم يرد عليه أنّه
لا دليل على الترجيح بالأقربيّة النّسبيّة ما لم تصل إلى حدّ يجعل أحدهما حجّة
والآخر غير حجّة كما هو الحال في المشهور والشاذّ ، وأمّا ما وراء ذلك فحسنه لا
ينكر إلّا أنّه لا دليل على لزوم الترجيح .
هذا مجموع ما يمكن
الاستدلال به على لزوم تقديم الفاضل وبقي الكلام في أدلة المجوِّزين ، فنقول :
استدلّوا بوجوه :
الأوّل : إطلاقات
الكتاب والسنّة والرّوايات الارجاعيَّة.
يلاحظ عليه : بما
سبق من أنّها بصدد بيان أصل الرّجوع ولا إطلاق لها بالنّسبة إلى صورة التّعارض حتى
ما ورد بصورة العموم البدليّ «فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا» فإنّه لا يتجاوز عن قول القائل : «ارجع إلى الأطباء»
فالكلّ منصرف عن صورة التعارض ، نعم يصحّ التعويل على هذه الإطلاقات عند عدم العلم
بالاختلاف والتّعارض ، وهذا بخلاف التعويل عليها مع العلم بالاختلاف ، فإنّ ادّعاء
وجود الإطلاق عند العلم بالاختلاف متوقِّف على صدورها
__________________
مع العلم بوجود
الاختلاف بين هؤلاء المفتين والعلم باطلاع النّاس على اختلافهم في الفروع الفقهيّة
، وأنّى للقائل اثباته. هذا ، وإنّ من يصرُّ على التمسك بها يجب عليه أن يثبت أمرين
:
١ ـ وجود الاختلاف
بين أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) في كثير من الأحكام.
٢ ـ علم الناس
بوجود الاختلاف بينهم مع اطلاع الأئمة (عليهمالسلام) عليه بطريق عاديّ ، ومع ذلك أطلق الارجاع. ولكن أنّى
إثبات ذينك الأمرين.
هذا هو الجواب
الإجماليّ وأمّا التفصيليّ فيتوقّف على دراسة كلّ واحد بحياله ، ولو درست لوقفت
على أن الغاية من الجميع هو دفع الشيعة عن الرّجوع إلى علماء السّوء والجور ،
وأمرهم (عليهمالسلام) بالتمسّك بمن أناخ مطيّته على باب أهل البيت (عليهمالسلام) ، وأمّا الرّجوع إليهم في كلّ الأحوال حتى مع فرض التّعارض
والتّخالف فليست الأحاديث بصدد بيانها.
الثاني : استقرار
سيرة أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) على الأخذ بفتاوى أرباب النظر والاجتهاد من دون فحص عن
الأعلميّة مع القطع باختلافهم في العلم والفضيلة ، ويكفي في ذلك ملاحظة تجويز
التكلّم بهشام وأضرابه دون غيرهم.
يلاحظ عليه : بما
مرّ من أنّه لا شكّ أنّ الآخذين كانوا قاطعين باختلاف أصحاب الأئمّة (عليهمالسلام) في العلم والفضيلة ، ولكن هل كانوا عالمين باختلافهم في
الفتوى؟ ثمّ هل كان ذلك بمرأى ومسمع من الأئمة (عليهمالسلام) ومع ذلك أرجعوهم إليهم على وجه الإطلاق؟ فإنّ كلّ ذلك غير
ثابت.
الثالث : إنّ رجوع
جمع أهل الإسلام إلى الأعلم المنحصر في واحد أو اثنين عسر لا يتحمّل في العادة
فيكون منفيّاً في الشريعة.
يلاحظ عليه :
بالنقض بالرّجوع إلى الإمام المعصوم الواحد أوّلاً ، وبالحلّ من
أنّ الوجوب فيما
إذا لم يلزم عسر لا فيما لزم ثانياً ، وشهادة الحال على خلافه ثالثاً خصوصاً بعد
انتشار أمر الطباعة التي سهّلت أُموراً كثيرة ، فالرسالة المطبوعة المنتشرة في
نطاق واسع تقوم مقام حضور الأعلم في المجتمعات ، إلى غير ذلك من الوجوه الواهية
التي ذكرها الشيخ الأعظم (قدّه) نقلاً عن المجوّزين .
وخلاصة الكلام :
إنّ الشكّ في حجيّة فتوى المفضول كاف في القطع بعدم حجّيتها ما لم يدل دليل قاطع
عليها. هذا ، وكانت الشيعة في الأزمنة السابقة متفرّقة في البلاد والأصقاع ولم تكن
المواصلات متوفرة مثل اليوم ، وكان الرّجوع إلى الأعلم المنحصر في واحد أو
المتردّد بين اثنين في الأقطار الشيعيّة أمراً متعسّراً ، ولذلك كانوا يقلّدون
الفاضل من قطرهم وبلدهم وإن لم يكن فاضلاً مطلقاً ، ولا شكّ أنّ المحقّق (رضي الله
عنه) في عصره (٦٠٢ ـ ٦٧٦ ه ـ) والعلّامة الحليّ في زمانه (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه ـ)
والشهيد في وقته (٧٣٤ ـ ٧٨٦ ه ـ) كانوا أعلم العلماء ، ولكنّ الشّيعة المتواجدين
في خراسان وما والاها كانت منقطعة عن بلاد هؤلاء إلّا شيئاً لا يذكر ، فكان
التكليف بتقليد هؤلاء تكليفاً متعسّراً جدّاً.
ما هو المراد من
الأعلم :
إنّ المتبادر من
الأعلم ـ قياساً على نظائره ـ هو الأكثر علماً بأن يكون اختلاف الفاضل والمفضول في
زيادة العلم وقلّته ، وشدّته وضعفه ، ولكنّ المراد منه في المقام غير ذلك ، إذ هو
الأقوى ملكة أو الأكثر خبرة من غيره ، والأعرف بدقائق الفقه ومباني الاستنباط.
وفي الرّوايات ما
يشير إلى كلا الوجهين ، فالعمدة في بعضها على كثرة المعلومات ، يقول (عليهالسلام) : «اعرفوا منازل النّاس أو منازل شيعتنا أو منازل
__________________
الرّجال منّا على
قدر رواياتهم عنّا» ، والعمدة في البعض الآخر على الأعرفيّة بدقائق الكلام
ومعانيه ، فقد روى داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ
الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» .
وخطب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مسجد الخيف ، وقال : «نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، وبلَّغها من لم تبلغه ، يا
أيّها النّاس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فرُبّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه
إلى من هو أفقه منه» .
ترى أنّ النبيّ
الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم يركّز على الأفهميّة ، لا على الأكثريّة علماً ، هذا ولا
تعارض بين الصنفين ، فمكانة الرّجل من حيث كثرة الصلة بأهل البيت (عليهمالسلام) وقلّتها تعرف من كثرة الرّواية وقلّتها ، فرُبّ راو ليس
له من الفقه إلّا رواية أو روايتان ، وهذا يدلّ على قلّة صلته بهم (عليهمالسلام) وأمّا مكانته من حيث الفقاهة والتوغّل فيها فتعرف من
أعرفيّته بدقائق كلامهم (عليهمالسلام) ومعانيه ، والحاصل : أنّ الملاك هو الذّكاء في مقام
الاستنباط ، والتفرّس في فهم الكلام ، ولنذكر نموذجاً :
إذا ماتت الزّوجة
وتركت أُختين وزوجاً ، فإنّ الفريضة تعول ، لأنّ للأختين الثلثين وللزّوج النّصف ،
وليس في المال ثلثان ونصف ، فعند ما واجه المسلمون الواقعة تحيّر الجاهلون
فالتجئوا إلى إيراد النّقص على الجميع ، ولكن أهل الذّكاء والفراسة فهموا من
القرآن ما لم يفهمه الآخرون ، فهذا ابن عباس تبعاً لأُستاذه أمير
__________________
المؤمنين (عليهالسلام) قال : «... كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلّا إلى
فريضة فهذا ما قدّم الله ، وأمّا ما أخّر فلكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق
لها إلّا ما بقي ، فتلك التي أخّر ... فأمّا الّذي قدّم فالزّوج له النّصف ، فإذا
دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الرّبع ، لا يزيله عنه شيء ، ... وأمّا التي أخّر
ففريضة البنات والأخوات ، لها النّصف والثّلثان ، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم
يكن لهنّ إلّا ما بقي ، فتلك التي أخّر ...» .
وتتركّز قوّة
الملكة وشدّتها على أمرين :
١ ـ الذّكاء
المتوقّد والفهم القويم.
٢ ـ كثرة الممارسة
والتمرين ، بحيث يصير الفقه مخالطاً لفكره وذهنه وروحه ودمه.
وحينئذ يكون أقوى
استنباطاً وأدقّ نظراً في استنباط الأحكام من مبادئها وأعرف بالكبريات وكيفيّة
تطبيقها على الصّغريات بجودة ذهنه وحسن سليقته ، وعليه يصحّ كلام المحقّق
الأصفهانيّ من أنّ نسبة الأعلم إلى غيره في هذه الخصوصيّات كنسبة العالم إلى
الجاهل.
وما ربّما يقال من
أنّ تشخيص الأدقّ نظراً والأمتن استنباطاً الذي يرجع إليه عنوان الأعلم ، من
الأُمور الصّعبة ، فكيف يكون العاميّ ملزماً بتقليد ما ليس في إمكانه ، غير تامّ ،
إذ ليس تشخيص ذاك بأسهل من تشخيص أصل الاجتهاد ، فإنّ لكلّ علم وفنّ رجالاً حاذقين
يعرفون مراتب الرّجال ومواهبهم وصلاحيّاتهم ، كما أنّ للقصعة والثريد رجالاً ، وقد
قيل : «من دقّ باباً ولجّ ولج».
* * *
__________________
الصورة الثالثة :
إذا شكّ في اختلافهما في الفتوى :
إذا لم تحرز
المخالفة بين فتوى الفاضل والمفضول ، هل يجب الرّجوع إلى الفاضل أو يجوز الرّجوع
إليهما اختياراً؟
يقع الكلام في
مقتضى الأصل العمليّ تارة ومقتضى الأدلّة الاجتهاديّة أُخرى.
أمّا الأصل فهو
نفس الأصل في الصورة المتقدّمة ، أي أصالة عدم حجيّة رأي أحد على أحد إلّا ما قام
الدّليل القطعيّ على حجيّته وهو رأي الأعلم ، وأمّا غيره فهو مشكوك الحجيّة ،
والشكّ فيها مساوق للقطع بعدمها ، وإن شئت قلت : إنّ العمل بفتوى الأعلم معذّر
قطعاً بخلاف العمل بفتوى غيره فإنّه مشكوك المعذّريّة ، والعقل يحكم بالأخذ بما هو
مقطوع المعذّريّة.
وأمّا الأدلّة
الاجتهاديّة ، فالحقّ عدم تعيّن الرّجوع إلى الفاضل وذلك لإطلاق الآيات ،
والرّوايات الإرجاعيّة محكّمة مع عدم العلم بالمخالفة في المقام ، ولا مانع من
شمولها للمقام من غير فرق بين آية السؤال وغيرها وإن كانت دلالة بعضها لا تخلو من
خفاء ، وقوله (عليهالسلام) : «عليك بزكريّا بن آدم ...» ، مطلق يعمّ ما لو كان معه
من هو أعلم منه ، ما لم تعلم المخالفة ، وهكذا سائر الإرجاعات ، وليست السيرة في
المقام رادعة عنها ، لاختصاصها بما إذا أحرزت المخالفة بينهما ، ولأجل ذلك نرى
الرّجوع من العقلاء إلى مطلق أهل الخبرة عند عدم العلم بالمخالفة ولو عمّت السيرة
لهذه الصّورة أيضاً ، للزم أن يكون أكثر الخبراء عاطلين عن عملهم.
وأمّا سائر
الأدلّة التي استدلّ بها على لزوم تقليد الأعلم ، فقد عرفت عدم دلالتها على
الرّجوع إليه ، غير السيرة وقد عرفت حالها.
وبعبارة أُخرى :
لا شكّ أنّ بين من أمر الأئمّة (عليهمالسلام) باستفتائهم لم
يكونوا في درجة
واحدة ورتبة متساوية ، كيف وأصحاب الإجماع كلّهم كانوا فقهاء ومراجع للنّاس في
الفتيا ولكنّهم ـ مع الاعتراف بفضل الكلّ ـ كانوا على درجات متفاوتة في الفقاهة ـ ومع
ذلك ـ فقد أمر النّاس باتّباعهم واقتفائهم من دون حصر الأمر بالرّجوع في الأعلم
منهم. فالفرق بين الصورة الثانية والثالثة هو عدم المقتضي في الأُولى مع وجود
المانع ، لعدم شمول الإطلاقات صورة العلم بالمخالفة ، والسيرة على حصر الرّجوع إلى
الأفضل ، بخلاف الأُخرى فالإطلاق لأجل عدم العلم بالمخالفة محكّم ، والسيرة على
عدم تعيّن الرجوع إلى الأفضل.
فإن قلت : مع خروج
صورة العلم بالمخالفة بين الفاضل والمفضول عن تحت الإطلاقات ، فعند الشكّ
بالمخالفة لا يصحّ التمسّك بها لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشّبهة
المصداقيّة ، فقوله (عليهالسلام) عليك بالأسديّ أو بيونس ابن عبد الرّحمن مثلاً ، مطلق ،
خرج منه ما إذا كان الرّأي مخالفاً لرأي الفاضل ، ومع فرض الشكّ في المخالفة يوجب
الشكّ في كون المفضول باقياً تحت العامّ أو خارجاً منه ، ومعه لا يصحّ التمسّك.
قلت : إنّ الخارج
عن تحت الإطلاقات هو العلم بالمخالفة لا صورة نفس المخالفة الواقعيّة ، فما لم
تحرز المخالفة بين المرجعين فالإطلاق محكّم.
وربمّا يجاب تارة
بأن المخصّص (السيرة) إذا كان لبيّاً ، جاز التمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة
، وأُخرى بإمكان إحراز عدم عنوان المخصّص بأصالة عدم تحقّق المخالفة بينهما ،
فببركة هذا الأصل يمكننا إحراز أنّ المشتبه هو من الأفراد الباقية تحت العامّ .
يلاحظ على الأوّل
: بما قدّمناه في مبحث العامّ والخاصّ ، بأنّه لا فرق في المخصّص بين كونه لفظيّاً
أو لبيّاً. فإذا لم يجز التمسّك به في الأوّل عند الشكّ في
__________________
كونه باقياً تحت
العامّ أو خارجاً عنه ، كذلك لا يجوز التمسّك به في الثاني ، فالخاصّ مطلقاً يجعل
العامّ حجّة في غير عنوان الخاصّ ، فالسيرة تجعل قول المفضول حجّة في غير ما إذا
كانت بينه وبين الفاضل مخالفة ، ومع الشكّ فيها يتردّد أمر المفضول بين كونه
باقياً تحت العامّ أو خارجاً عنه وداخلاً تحت الخاصّ (السيرة) بلا فرق بين كون
المخصّص لفظيّاً أو لبيّاً.
ويلاحظ على الثاني
: بما تقدّم منّا مراراً وتكراراً أنّه أصل مثبت ، لأنّ المعلوم هو عدم المخالفة
من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أي لم يكن أيّ رأي لهما قبل بلوغ رتبة الاجتهاد
، فلم تكن بينهما أيّة مخالفة ، والمقصود إثباته هو سلب المخالفة بعد تحقّق
الموضوع من باب السالبة بانتفاء المحمول ، وأيّ أصل مثبت أوضح من ذلك .
في وجوب الفحص عن
الأعلم :
هذا كلّه مع العلم
بالتّفاضل وعدم العلم بالمخالفة وكان الأعلم معيّناً ، وقد عرفت عدم وجوب تقليد
الأعلم للسيرة ، ومع عدم تعيّن الفاضل هل يجب الفحص عنه أو لا؟ هنا صور نذكرها :
١ ـ إذا كان
التفاضل والاختلاف مجهولين.
٢ ـ إذا كان
التفاضل والاختلاف معلومين.
٣ ـ إذا كان
التفاضل معلوماً والاختلاف مجهولاً.
٤ ـ إذا كان
الاختلاف معلوماً والتفاضل مجهولاً.
وعلى كلّ تقدير ،
هل يجب الفحص عن الأعلم أو لا؟
__________________
أمّا الصورة
الأُولى : فالإطلاقات محكّمة ، لعدم العلم بالمخالفة والخارج من تحت العامّ هو
العلم بالمخالفة بين رأيي الفاضل والمفضول ، ثمّ إنّ أصل التفاضل مجهول فضلاً عن
مجهوليّة المخالفة.
وأمّا الصورة
الثانية : فالفحص عن الفاضل واجب ، لأنّه يعلم أنّ رأي الفاضل حجّة دون المفضول
للعلم بالمخالفة ، ومعه كيف يمكن التخيير بينهما ، فاللّازم هو الفحص عن الأعلم
والرّجوع إليه.
وأمّا الصّورة
الثالثة : فبما أنّ المخالفة مجهولة ، فالإطلاقات محكّمة ، والتخيير ثابت ، وهذه
الصّورة ليست بأقوى ممّا إذا عرف الفاضل ولم تحرز المخالفة.
وأمّا الصورة
الرّابعة : فبما أنّ الاختلاف معلوم ، فلو كانا متساويين ، فكلا الرّأيين حجّة ،
ومع التفاضل فأحدهما حجّة دون الآخر ، ومع التردّد لا يمكن الحكم بالتّخيير ،
لاحتمال كون المورد من مصاديق الصورة الثانية ، فيجب الفحص عن الأعلم ، حتى يتبيّن
له أنّ الواقعة من مصاديق الصورة الثانية أو الرّابعة.
ثمّ إنّه لو قلّد
الأعلم ، وكان يفتي بجواز الرّجوع إلى غيره ـ على مقتضى اجتهاده ـ جاز للمقلّد
العمل به أيضاً ، وقد نقل الشيخ الأنصاريّ (قدّه) عن بعض معاصريه منعه ذلك ولم
يعلم وجهه. هذا وجواز الرّجوع إلى المفضول نتيجة الرّجوع إلى الأعلم ، وصحّة عمله
مترتبة على صحّة تقليده.
لو قلَّدَ أحد
المجتهدين بواسطة التفاضل ، ثمّ انعكست النسبة بينهما لسبب من الأسباب ، فهل يجب
البقاء على تقليد الأوّل ، أو الرّجوع عن تقليده ، إلى الثاني ، أو يتخيّر بينهما؟
دليل الأوّل هو
الأصل ، لأنّه لمّا كان الأوّل أفضل ، كان تقليده واجباً ، فالأصل بقاؤه.
ودليل الثاني هو
وجود المقتضي بصيرورة الثاني أعلم من الأوّل وعدم المانع ، لأنّ وجوب تقليد الأوّل
كان لأعلميّته ، والمفروض أنّه خرج عن ذلك العنوان
وتلبّس به الثاني
، وهذا من العناوين التقييديّة للموضوع في نظر العقل والعرف.
ودليل الثالث هو
دوران الأمر بين المحذورَين ، لاحتمال وجوب البقاء على تقليد الأوّل وحرمة العدول
عنه ، واحتمال وجوب تقليد الثاني فيتخيّر حينئذ.
والأقوى هو
الثاني.
ومنه يعلم حكم
تقليد المفضول لتعذّر الوصول إلى الفاضل ، ثمّ ارتفع العذر ، فيجب عليه الأخذ بقول
الفاضل وفتواه والعدول عن تقليد المفضول ، وكذلك يظهر الحال فيما لو قلّد مجتهداً
لاعتقاد أعلميّته ثمّ بان الخلاف ، فيجب العدول عن تقليده إلى الأعلم.
التبعيض في
التقليد :
إنّ هنا نظريّة
خاصّة لنا ، وهي التبعيض في التقليد ، حسب انقسام الفقه إلى العبادات والمعاملات
والإيقاعات والسّياسات ، فلو فرضنا أعلميّة مجتهد من آخر في باب العبادات دون سائر
الأبواب ، وفرضنا مجتهداً آخر على عكس ذلك ، فالواجب على حسب التقرير السابق
التّبعيض في التقليد.
والتقليد التّام
في شخص واحد لا يتمّ إلّا إذا كان أقوى ملكة من غيره في جميع أبواب الفقه ، وهو
وإن كان ميسوراً في القرون السابقة إلّا أنّه ليس بميسور في عصورنا هذه بعد توسّع
الفقه وتشعّب مسائله ، وابتناء قسم منها على اطلاعات خاصّة في بعض العلوم ، وهذا
يفرض علينا تقسيم التّخصّصات في الفقه لإحراز الأعلمية بواقعيّتها وحقيقتها في كلّ
حسب تخصّصه ، ويتفرّع عليه التبعيض في التقليد ، وهذا وإن كان غريباً بدواً إلّا
أنّه بلحاظ ما ذكرناه لا غرابة فيه ، خصوصاً بالنّسبة للعصور الآتية. وقد أوضحنا
نظريّتنا في مقدّمة كتاب «المواهب في تحرير أحكام المكاسب» فراجعه .
__________________
المسألة الرابعة :
في تقليد الميِّتِ ابتداءً :
أكثر الأصحاب على
منع الرّجوع إلى الميّت في أخذ الفتوى والعمل بها ، والأخباريّون منهم على الجواز
، وسيوافيك أنّ مخالفتهم تلك مبنية على إبطالهم التقليد من أصل. وربمّا يفصّل بين
تقليده ابتداءً وتقليده بقاءً ، فيمنع الأوّل دون الثاني ، وسيأتي البحث عن البقاء
في عنوان خاصّ ، والكلام مركّز على تقليده ابتداءً.
اعلم أنّ أكثر
الأصحاب على منع الرّجوع إلى الميّت ، ونحن وإن لم نقف على عنوان المسألة في كلمات
فقهائنا قبل العلّامة الحليّ (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه ـ) ولكنّه كاشف عن استمرار السيرة على
المنع ، وإليك نقل ما وقفنا عليه من الكلمات مباشرة أو بواسطة رسالة الشيخ
الأنصاريّ (رضي الله عنه) المطبوعة في ذيل مطارح الأنظار فنقول :
١ ـ قال العلّامة
في النّهاية : «قال آخرون : إن حكى عن ميّت لم يجز الأخذ بقوله ، إذ لا قول للميّت
لانعقاد الإجماع مع خلافه بعد موته دون حياته ، فدلّ على أنّه لم يبق له قول ...» .
وقال في التهذيب :
«وهل لغير المجتهد الفتوى بما يحكيه عن المجتهد ، الأقرب أنّه إن حكى عن ميّت لم
يجز العمل به ، إذ لا قول للميّت ولهذا لا ينعقد
__________________
الاجماع لو خالف
حيّاً ...» .
٢ ـ وقال عميد
الدّين في منية اللّبيب في شرح التهذيب : «وفصّل آخرون فقالوا : إن حكى عن ميّت لم
يجز له العمل به ، إذ لا قول للميّت لانعقاد الإجماع الواجب اتّباعه بعد موته مع
مخالفته حال حياته ، ولو كان قوله معتبراً لما كان كذلك ، فإذن لا يبقى للميّت قول
...» ثمّ ذكر فائدة التعرّض لمذهب المجتهدين الماضين.
٣ ـ وقال فخر
المحققين (م ٧٧١ ه ـ) في إيضاح الفوائد : «ولا يكفيه فتوى العلماء ولا تقليد
المتقدّمين فإنّ الميّت لا قول له وإن كان مجتهداً» .
٤ ـ وقال الشهيد (٧٣٤
ـ ٧٨٦ ه ـ) في الذكرى : «وهل يجوز العمل بالرّواية عن الميّت ، ظاهر العلماء
المنع منه محتجّين بأنّه لا قول له ...» .
٥ ـ وقال المحقق
الثاني (م ٩٤٠ ه ـ) في جامع المقاصد بعد نقل كلام العلامة : «فإنّ الميّت لا قول
له وإن كان مجتهداً : ممّا يدلّ على ذلك أنّ الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيّاً
وينعقد بعد موته ، ولا يعتدّ حينئذ بخلافه» .
وقال في رسائله : «واشترط
الأكثر كونه حيّاً».
وقال : «وما
ينسبونه بزعمهم إلى المتأخّرين ممّن لم يضرب في فنّ الأُصول بسهم من جواز تقليد
الموتى فهو مردود لا يلتفت إليه» .
٦ ـ وقال الشهيد
الثاني (٩١١ ـ ٩٦٦ ه ـ) في مسالكه : «وقد صرّح
__________________
الأصحاب في هذا
الباب من كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيره باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل
بقوله ، وانّ
الميّت لا يجوز العمل بقوله ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من
أصحابنا وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور وتحقيق المسألة في موضع آخر» .
٧ ـ وقال المحقّق
المقدّس الأردبيليّ (م ٩٩٣ ه ـ) : «وأمّا عدم جواز تقليد الميّت مطلقاً فهو مذهب
الأكثر وقال : «... وكذا العمل بقول الميّت عند عدم الحيِّ أصلاً وإلّا يلزم الحرج
والضّيق المنفيّان عقلاً ونقلاً ...» .
٨ ـ وقال صاحب
المعالم (م ١٠١١ ه ـ) : «وهل يجوز العمل بالرّواية عن الميت ظاهر الأصحاب الإطباق
على عدمه ومن أهل الخلاف من أجازه وقال : «يظهر من اتّفاق علمائنا المنع من
الرّجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحيّ بل قد حكى الإجماع فيه صريحاً بعض
الأصحاب» .
٩ ـ وعن الكفاية
للسبزواريّ نقل الاتفاق عن بعضهم .
١٠ ـ وقال الفيض
الكاشاني (م ١٠٩١ ه ـ) : «إنّه مختار أكثر المجتهدين بحيث كاد أن يكون إجماعاً
بينهم» .
١١ ـ وحكى المولى
البهبهانيّ (م ١٢٨٠ ه ـ) في فوائده الإجماعية على الاشتراط . هذا ، وأمّا المخالفون فهم جملة من المتأخرين وأشدّهم
خلافاً الأخباريّة فذهب الاسترآباديّ والفيض الكاشاني فيما حكي عنهما إلى الجواز
مطلقاً ، ونسبه الشهيد في محكيّ الذكرى إلى بعض وهو المحكيّ عن القميّ والسيّد
الجزائري في منبع الحياة ـ وقد أثار الخلاف في القرن الثالث عشر المحقّق القميّ
__________________
وجعل المناط حصول
الظنّ الأقوى سواء من قول الحيّ أم الميّت ـ وفصّل الفاضل التوني (م ١٠٧١ ه ـ)
فجوّز التقليد إذا كان المجتهد ممّن لا يفتي إلّا بمنطوقات الأدلة ومدلولاتها
الصريحة كالصّدوقين وغيرهما من القدماء ، وإن لم يعلم من حاله ذلك ، كمن يعمل
باللّوازم غير البيّنة والأفراد الخفيّة والجزئيّات غير البيّنة الاندراج فيشكل
تقليده حيّاً كان أو ميتاً .
وفيه : أنّ ما
ذكره ليس تفصيلاً ، لأنّه يرى جواز تقليد المفتي الأخباريّ العامل بمنطوقات الأدلة
ومدلولاتها الصّريحة دون غيره ، حيّاً كان أو ميتاً.
كما أنّ التفصيل
المنقول عن الأردبيليّ (قدسسره) من الجواز عند فقد المجتهد الحيّ مطلقاً أو في عصر ما ،
ليس تفصيلاً ، لأنّ محلّ البحث هو جواز تقليده مع التمكّن من المجتهد الحيّ كما لا
يخفى لا مطلقاً وإن لم يتمكّن منه.
نعم شذّ المحقّق القميّ
من المتأخّرين ، فأجاز الرجوع إلى الميّت بناءً على مبناه من انسداد باب العلم
ولزوم العمل بالظنّ قال : «... نحن مكلّفون في أمثال زماننا ، وسبيل العلم
بالأحكام منسدّ ، والتّكليف بما لا يطاق قبيح فليس لنا إلّا تحصيل الظنّ بحكم الله
الواقعيّ ، فإذا تعيّن المظنون فهو ، وإن تردّد بين أمور فالمكلّف به هو أحدها ...»
وحاصله : أنّ الميزان هو العمل بالظنّ من غير فرق بين كونه حاصلاً من قول
الحيّ أو الميّت.
وقال شيخنا
الأنصاري (رضي الله عنه) ـ بعد ذكر خيرة الأخباريين من أصحابنا على عدم اشتراط
الحياة في المفتي ـ : «ووافقهم المحقّق القمي من المجتهدين» .
__________________
وهذه النقول
المتضافرة تحكي عن شهرة القول بين الأصحاب وندرة المخالف ، على أنّ الشيخ يؤوّل
الخلاف المشار إليه في كلمات البعض برجوعه إلى العامّة فلو جعله العلّامة أقرب ،
فإنّما هو في قبال العامّة ، ولو نسبه الشهيد في الذّكرى إلى البعض فالمقصود بعض
العامّة الذي هو أعمّ من بعض الخاصّة ، وخلاف الاخباريين راجع إلى الخلاف في جواز
التقليد وحرمته ، فهم يحرّمون التقليد مطلقاً ويلزمون الإفتاء بلفظ النصّ ، فلا
فرق بين الحيّ والميّت .
إذا وقفت على
كلمات علمائنا الأبرار ، فلنرجع إلى دراسة أدلّة المسألة فنقول :
يقع الكلام تارة
في مقتضى الأصل العمليّ ، وأُخرى في مقتضى الأدلة الاجتهادية.
أمّا الأوّل : فقد
عرفت عند البحث عن تقليد الأعلم أنّ الأصل عدم حجيّة رأي أحد على أحد ، إلّا ما
خرج بالدّليل يقيناً وليس هو إلّا تقليد الحيّ الّذي اتّفق عليه المجوّز والمانع ،
فيبقى الباقي تحت الأصل.
وأمّا الثاني :
فقد استدلّ المانعون بوجهين :
الأوّل :
الإجماعات المنقولة المتضافرة من عصر العلّامة إلى يومنا هذا ، فإنّها
__________________
وإن كانت لا تكشف
عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا ، إذ من البعيد أن يصل إلى العلامة ومن بعده دليل
شرعيّ على شرطية حياة المفتي ولا يصل إلينا ، لكن ـ مع هذا الاعتراف ـ فهو يكشف عن
أنّ شعار الشيعة كان على تقليد الحيّ لا الميّت.
وذلك لأنّ انكباب
الفرقة المحقّة على جانب طيلة قرون وعدم الانحياز عنه إلى غيره ، كاشف عن أمر
إيجابيّ راسخ وثابت وهو لزوم تقليد الحيّ ، وأمر سلبيّ وهو عدم جواز تقليد الميّت.
الثاني : إنّ
تقليد الميّت إذا كان خالياً من الإشكال في عالم الثّبوت فليس خالياً عنه في عالم
الإثبات ، وذلك لأنّ الأموات إمّا أن يتساووا في الفضل والفضيلة وإمّا أن يكون
بينهم أعلم. فعلى الأوّل فبما أنّهم مختلفون في الفتوى في مسائل كثيرة ، فلا تشمل
أدلّة الحجيّة المقام ، لما عرفت من أنّ دليل الحجيّة في كلّ من الامارة والأصل لا
يعمّ صورة التعارض كما هو واضح ولا واحداً من المتعارضين وذلك لعدم الدّليل من
الخارج على التّخيير إلّا في تعارض الإمارات على ما مرّ. ومقتضى القاعدة في المقام
التساقط ، فلا محيص من افتراض وجود الأعلم بين الأموات ، وبما أنّ هذا الشرط لا
يختصّ بالأموات فلا بد من افتراض وجود الأعلم من بين الأموات والأحياء ، ولازم ذلك
وجوب الرّجوع إلى الميّت ـ بحكم أنّه أعلم ـ طيلة قرون وانحصار أمر التقليد مدّة
مديدة في شخص واحد وهذا ممّا لا يلتزم به فقيه ، مضافاً إلى المفاسد المترتبة كما
سيأتي.
فتلخّص أنّ تقليد
الميّت إذا كان خالياً عن الدّخل في عالم الثبوت فليس خالياً عنه في عالم الإثبات.
أدلّة المجوّزين :
استدلّ المجوّز
بوجوه :
الأوّل : إطلاقات
الآيات والرّوايات كآية النفر والسّؤال ، والرّوايات الإرجاعيّة إلى رواة الأحاديث
أو إلى أشخاص معيّنين ، وهذه لا اختصاص لها بالأحياء منهم.
وأورد عليه
المحقّق الخوئي (رضي الله عنه) بأنّ الأدلّة ناظرة إلى عنوان حياة المنذر والمحذّر
والمفتي ، وكيف يخفى ظهورها في الحيّ ، فإنّ وجوب التحذّر عند إنذار المنذر ،
ووجوب السّؤال من أهل الذّكر لا ينفكّ عن كونهم أحياءً ومثله سائر الروايات
الإرجاعيّة التي هي قضايا ظاهرة في الفعلية .
يلاحظ عليه : أنّ
ظهور الأدلّة في كون المرجوع إليهم أحياءً ممّا لا ينكر ، إلّا أنّ الكلام في
مساعدة العرف ـ في التعبّد بظواهرها وعدم الخروج عنها بإلغاء الخصوصيّة ـ القائل
بأنّ المتّبع هو كلام المفتي ورأيه ونظره سواء كان حيّاً أو لا. وليس هذا مبتدعاً
في حياة العقلاء ، فإنّ الآراء محترمة بنفسها والموت ليس ضائراً بقيمتها ورفعتها.
قال سبحانه : (... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (الأنعام ـ ١٩) ،
فنسب الإنذار بالقرآن إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مطلقاً من أدرك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وتشرّف برؤيته ومن لم يدركه ولم يتشرّف بحضوره صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا أنّ القرآن بلغه ، وما هذا إلّا لأنّ المتكلّم وسيلة
في الإبلاغ والإنذار والمهمّ هو نفس البلاغ ومحتوى المنذر به ، فإذا كان هذا حال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الّذي هو أفضل الخلق والبريّة فكيف حال الرّاوي والمفتي.
__________________
والأولى أن يقال :
إنّ إلغاء الخصوصيّة وإن كان أمراً لا ينكر ، لكنّ الكلام في وجود المقتضي وهو
الشّمول لصورة التّعارض والاختلاف والمفروض المخالفة في الفتوى والتّضارب في
الآراء عند الأموات ، وقد عرفت أنّ دليل الحجيّة غير شامل لتلك الصّورة ، فلا يمكن
للعاميّ الاحتجاج بآرائهم مع اختلافها ولا تكفيه الإطلاقات في مقام الاحتجاج.
الثاني : سيرة
العقلاء على الرّجوع إلى الحيّ والميّت في مشكلات العلوم ومعضلاتها ، والاحتجاج
بقولهما على السواء في العلوم والحقوق ورجوع الفقهاء إلى أقوال اللّغويين في دقائق
المعاني اللّغويّة ولم يخطر ببال أحد أنّهم أموات.
يلاحظ عليه : أنّ
جريان السيرة على ذلك صحيح ، إلّا أنّها في غير باب الأحكام ، فإنّ الإجماعات
المتضافرة على تقليد الأحياء والإعراض عن تقليد الأموات بكلمة واحدة ، كاشفة عن
وجود سيرة في خصوص باب الأحكام مستمرّة إلى عصر المعصومين (عليهمالسلام) فالاحتجاج بالسيرة الدّارجة بين العقلاء مع وجود سيرة
خاصة في أخذ الأحكام على خلافها بين الشيعة ليس بتامّ ، وعليه فالمحكّم في المقام
هو أصالة عدم حجيّة رأي أحد على أحد إلّا مع قيام الدّليل.
الثالث : التمسّك
بالاستصحاب وقرّره الشيخ (قدسسره) بوجوه أربعة :
الأوّل : إنّ
المجتهد الفلانيّ كان ممّن يجوز الأخذ بفتواه ، والعمل مطابقاً لأقواله وقد شكّ
بعد الموت أنّه هل يجوز اتّباع أقواله أو لا ، فيستصحب.
الثاني : إنّ
للمقلّد الفلاني الأخذ بفتوى المجتهد الفلانيّ حال الحياة وبعد الموت يشكّ فيه ،
فيستصحب الجواز المعلوم في السّابق.
الثالث : إنّ هذه
الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلانيّ ، ونشكّ في ذلك فيستصحب حكمها.
الرّابع : إنّ
المكتوب في الرّسالة الفلانيّة كان جائز العمل فيستصحب بعد الموت .
والعناية في الوجه
الأوّل بالمفتي وفي الثاني بالمستفتي وفي الثالث بالفتوى ، وفي الرابع بنتيجته.
وقرّره سيّدنا
الأُستاذ ـ دام ظله ـ بالوجوه الثلاثة الأُول .
ولو أردنا التعبير
المختصر ، نقول : إنّ فتوى الميت كانت حجة قبل الموت والأصل بقاء حجّيتها بعده.
وقد أورد على
الاستدلال به في المقام بعدم اجتماع ركني الاستصحاب أعني : اليقين في الحدوث ،
والشكّ في البقاء.
أمّا الأوّل :
فلعدم العلم بحجيّة فتواه إلّا في حقّ الموجودين في زمانه ولا علم لنا بحجيّة
فتواه في حقّ غيرهم. وبعبارة أُخرى : إن كانت القضيّة بنحو القضيّة الخارجية فلا
فائدة بالنّسبة للمكلّفين بعد موته ، وإن كانت بنحو القضيّة الحقيقيّة فهي وإن
كانت عامّة غير مختصّة بالموجودين في زمانه ، إلّا أنّ التنجيزي منه غير جار ،
لعدم إدراك زمانه ، فلا يقين بالنّسبة لمن بعد موته ، والتعليقي منه ليس بحجّة بأن
يقال : لو كانوا موجودين لكانت فتواه حجة عليهم والأصل بقاؤها.
يلاحظ عليه : أنّ
المستصحب ليس هو الحكم الجزئيّ المتعلّق بالمستصحب حتى يقال إنّ التنجيزيّ غير جار
والتعليقي ليس بحجّة ، بل المستصحب عبارة عن الحكم الكليّ المتعلّق بعنوان
المكلّفين ، فيقال : كان قوله حجّة في حقّ المكلّفين والأصل بقاؤه ، فإذا ثبت
بقاؤه على العنوان كان حجّة على المكلّف المستصحب أيضاً. وبذلك تظهر صحّة جريان
الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة الكليّة ،
__________________
والإشكال والجواب
في الجميع واحد.
مثلاً لو شكّ في
شمول قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ...) (آل عمران ـ ٩٧)
لمن لم يدركوا زمن النّزول ، فإنّ المستصحب ليس الوجوب الجزئيّ المتعلّق بشخص
المكلّف المقيّد بكونه موجوداً حين النزول حتى لا يصح الاستصحاب إلّا بنحو التعليق
منه ، بل المستصحب هو الحكم الكليّ المتعلّق بعنوان المكلّف ، وإثبات بقائه به كاف
في كونه حجّة عليه أيضاً لكونه من مصاديق النّاس.
وبذلك يظهر عدم
تماميّة ما ذكره المحقّق الخوئيّ (رضي الله عنه) حيث قال : «إنّ المراد بالحجيّة
المستصحبة إن كان هو الحجيّة الفعليّة ، فلا يقين بحدوثها ، لأنّ المتيقّن عدم
الحجيّة الفعليّة بالإضافة إلى العاميّ المتأخّر عن عصر المجتهد الميّت ، لوضوح
أنّ الفعليّة إنّما تتحقّق بوجود المكلف العاميّ في عصر المجتهد ، والمفروض عدم
تحقّقه ، فليست فتاوى الميّت حجّة فعلية على العاميّ غير الموجود في عصره لتستصحب
حجيّتها الفعليّة. وإن أُريد بها الحجيّة التعليقيّة أعني الحجيّة الشأنيّة ، فهي
وإن كانت متيقّنة على الفرض ، إلّا أنّها ليست بمورد للاستصحاب ، وذلك للشكّ في
سعة دائرة الحجيّة الشأنيّة وضيقها وعدم العلم بأنّها هي الحجيّة على خصوص من أدرك
المجتهد وهو حيّ ، أو أنّها تعمّ من لم يدركه كذلك ، وبعبارة أُخرى : إنّا نشكّ في
أنّ حجيّة رأي المجتهد وفتواه مقيّدة بحالة حياته أو أنّها غير مقيّدة بها ، فلا
علم لنا بثبوت الحجيّة الشأنيّة بعد الممات ليمكن استصحابها حتى على القول بجريان
الاستصحاب في الأحكام ...» .
ووجه ظهور عدم
التماميّة : إنّ المختار هو الشقّ الأوّل وهو استصحاب الحكم المنجّز ولكنّه ليس
الحكم الجزئيّ المتوقّف على وجود المكلّف ، بل هو عبارة
__________________
عن الحكم الكليّ
والحجيّة الكليّة المجعولة على عنوان المكلّفين على نحو القضيّة الحقيقيّة. نعم
يحتمل دخالة حياة المفتي في بقاء الحكم ، وبما أنّها ليست مقوّمة للموضوع فتستصحب
حجيّة الفتوى الصادرة على عنوانها الكليّ ، وانطباقه على المكلّف المستصحب أمر
قهريّ عقليّ ، ومع ثبوت الحكم الكليّ واستمراره إلى زمان المكلّف المستصحب ، انطبق
الحكم المستصحب عليه بلا إشكال .
هذا كلّه حول
الأوّل ، وأمّا الثّاني أي الشكّ في البقاء ، فربّما يقال بعدم الشكّ في البقاء
لأنّه فرع بقاء الموضوع وهو ليس بباق ، قال الشيخ الأنصاري (قدّه) : «إنّ المناط
هو الظنّ وهو مرتفع بعد الموت ، فلا أقلّ إمّا من الشكّ في بقائه أو ارتفاعه ، على
تقدير تسليم كون الموضوع هو الظنّ ، وإمّا من الشكّ في تعيين الموضوع ، وعلى
التقديرين لا مسرح للاستصحاب» ثمّ أورد على نفسه بأنّ الموضوع هو : «القول الّذي
لا يعقل فيه القول بالارتفاع والبقاء ، ضرورة أنّه من الأُمور غير القارّة التي
وجودها عبارة عن حدوثها ، ولا بقاء لها ، وكذلك فإنّها في وجه غير معقول البقاء ،
وفي وجه غير معقول الارتفاع» فأجاب بأنّه «لا إشكال عند القائلين بالفتوى والتقليد
والاجتهاد ، أنّ المدار في الفتوى هو الظنّ ، ولذلك لو زالت الملكة أو تغير
اجتهاده وإن لم يكن هناك قول لا يجوز التعويل على القول السابق» .
يلاحظ عليه : أنّه
لا فرق بين نقل الرّواية والفتوى ، فكما أنّ جزم الرّاوي في حال الإخبار ، يجعل
الرّواية حجّة وإن مات ، ومات جزمه ، فكذلك جزم المفتي
__________________
حين الإفتاء بأنّ
هذا حكم الله يجعل الفتوى حجّة دائماً وإن مات وذهب جزمه وظنّه.
وبالجملة : انّ
ظنّه أو جزمه في حال الإخبار والإفتاء من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض ، فلا يتوقّف ثبوت الحجيّة أو جواز العمل به ،
على وجود الواسطة دائماً ، وإنّما يكفي وجودها آناً ما ، في إضفاء وصف الحجيّة
عليه وجواز العمل به.
وأورد المحقّق
الخراساني (رضي الله عنه) على الاستصحاب بأنّه لا مجال له وقال :
«لعدم بقاء موضوعه
عرفاً ، لعدم بقاء الرّأي معه ، فإنّه متقوّم بالحياة ، بنظر العرف ، وإن لم يكن
كذلك واقعاً ، حيث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميّت ورأيه ، ولا ينافي ذلك
صحّة استصحاب بعض أحكام حال حياته ، كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه ، فإنّ
ذلك إنّما يكون فيما لا يتقوّم بحياته عرفاً بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته ،
وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعاً ، وبقاء الرّأي لا بدَّ منه في جواز
التَّقليد قطعاً ، ولذا لا يجوز التَّقليد فيما إذا تبدّل الرّأي أو ارتفع ، لمرض
أو هرم إجماعاً» .
يلاحظ عليه : أنّه
عبارة أُخرى عمّا ذكره الشيخ (رضي الله عنه) والاختلاف في التعبير عن موضوع
المستصحب ، فعبر عنه الشيخ (رضي الله عنه) بالظنّ والمحقّق الخراساني (رضي الله
عنه) بالرّأي ، ويرد عليه ما أوردناه على كلام الشيخ (رضي الله عنه) وأنّ العبرة
بالرأي لكونه طريقاً إلى الواقع ، ولا يشترط في طريقيّته كونه موجوداً وباقياً بل
يكفي الوجود في زمن ما ،
__________________
والأصل بقاء
الحجيّة.
ثمّ إنّه (قدسسره) تفطّن لما ذكر وقال :
«لا يقال : نعم
الاعتقاد والرّأي وإن كان يزول بالموت ، لانعدام موضوعه إلّا أنّ حدوثه في حال
حياته كاف في جواز تقليده في حال موته ، كما هو الحال في الرّواية.
فإنّه يقال : لا
شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه من بقاء الرّأي والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو
تبدّل ونحوهما ، لما جاز قطعاً» .
يلاحظ عليه : أنّ
الفتوى كالرّواية ، فإنّ الجزم حين الإفتاء أو الإخبار بأنّه حكم الله ، يعني
جعلهما حجّة ، ولذا لو تردّد الرّاوي بعد فترة من النقل في صحّة جزمه حين الإخبار
سقطت الرواية عن الاعتبار ، والفرق بين الرّواية والفتوى في كون الأوّل نقلاً
للحكم بلا إمعان النظر بخلاف الثاني وإن كان صحيحاً ، لكنّ المناط في كليهما لعروض
الحجيّة واحد وهو الجزم حين الإخبار أو الإفتاء.
وأمّا الاستشهاد
على أنّ حجيّة الفتوى تدور مدار بقاء الرّأي لعدم جواز تقليد من زال رأيه بالتّبدل
أو بعروض الجنون أو الهرم الموجب للنّسيان ، فليس بتامّ ، لأنّ حجيّة كلّ من
الرّواية والفتوى مقيّدة بعدم انكشاف الخلاف ، ولذا لو شكّ الرّاوي في صحّة جزمه
بعد النّقل لسقطت الرّواية عن الحجيّة. وأمّا عدم جواز تقليد من عرض عليه الجنون
أو النّسيان ، فلسقوط المفتي عن الأنظار عند عروضهما ، ولصيانة المرجعيّة الدينيّة
عن الوهن ، فلذلك منع من تقليدهم ، وهذا بخلاف الموت فإنّه لا يعدّ وهناً بل
انتقالاً من دار إلى دار وهنيئاً لمن أخذ من ممرّه لمقرّه ، هذا وقد ذكرنا في مبحث
المشتقّ أنّ موضوع الأحكام على قسمين :
__________________
قسم يدور الحكم
فيه مدار صدق الموضوع ، فبارتفاعه يرتفع الحكم ، مثل قوله (عليهالسلام) : «لا يصلّ ـ ى خلف الفاسق» أو «المسكر حرام» ولا يكون
صدق الموضوع آناً ما كافياً ، وقسم يكفي في بقاء الحكم صدق الموضوع آناً ما ، كما
في قوله : «لا تصلّ خلف المحدود» أو «اقطع يد السّارق واجلد الزّاني» ، وغير ذلك ،
وتمييز أحد القسمين عن الآخر رهن لطف في القريحة.
والحقّ : «إنّ
الاستصحاب لا غبار عليه ، لو لا نقل الإجماع المتضافر على خلافه ، والأصل حجّة حيث
لا دليل وإلّا عجوز عليل.
وأظنّ أنّ المشايخ
لاتّخاذهم الموقف السلبيّ بالنّسبة إلى تقليد الميّت انجرّوا إلى هذه الإشكالات
التي لا تتجاوب مع مبانيهم ، فإنّهم (قدسسرهم) ذهبوا إلى أنّ الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقية ـ
وكأنّهم نسوا ما ذكروه في أُصولهم ـ فعمدوا إلى استصحاب الحكم الجزئيّ المقيّد
بالوجود مع إمكان استصحاب الحكم الكليّ الّذي ينطبق قهراً على كلّ مكلّف عبر
الزّمان.
مضاعفات تقليد
الميّت السلبيّة :
هذا مقتضى الأدلّة
الاجتهاديّة ، غير أنّ هنا كلمة ترجع إلى بيان مضاعفات تقليد الميّت التي تصدّ
الفقيه عن تجويزه ، وتتلخّص في أُمور :
الأوّل : قد عرفت
فيما مضى أنّ للظّروف الزّمانيّة والمكانيّة مدخليّة تامّة في حقل استنباط الأحكام
الشرعيّة وأنّها من مغيّرات الموضوع ومبدّلاته ، وفي ظلّ تغيّر الموضوع يتغيّر
الحكم الشّرعيّ ، وأنّ تطوّر الصناعات في حياة البشر في مختلف المجالات قد أثّر في
كثير من الموضوعات فصيّر القيميّ مثليّاً ، وفاقد المنفعة المحلّلة واجدها ، كالدم
وغيره من الموضوعات ، وغير خفيّ أنّه لا يطّلع عليها إلّا الفقيه العالم بالموضوع
وأحواله عن كثب ، وأمّا من انقطعت صلته بالحياة فلا يتمكّن من ذلك.
الثاني : أنّ
تطوّر العلوم الدينيّة كالأصول والفقه وما يتّصل بها من اللّغة والرّجال صار سبباً
لاستكمال الفقاهة في المتأخرين ، فإنّهم واقفون على ما لدى المتقدّمين مضافاً إلى
ما وصلوا إليه في ظلّ الجهد والمثابرة ، فلا عتب علينا إذا قلنا : إنّ الشيخ
الأنصاري (قدّه) أقوى ملكة وأدقّ نظراً بالنّسبة إلى المتقدّمين من فقهائنا ، ولا
يعني ذلك الحط من منزلة المتقدّمين ، فلا شكّ أنّ علومهم وأفكارهم كانت وسيلة
وذريعة لارتقاء المتأخرين إلى تلك الدّرجة ، ولكن للمتأخّرين أيضاً جهد بليغ في
طريق الفقاهة ، فلو قلنا بلزوم تقليد الأعلم لو كان ميّتاً يشكل الإرجاع إلى من
تقدّم من الفقهاء وإن كانوا من أقطاب وأركان ودعائم المذهب الإماميّ.
الثالث : إنّ في
إرجاع النّاس إلى الميّت توقيفاً لركب العلم عن التّكامل ، وفيه تضييق وتحديد
للشريعة الغرّاء المستمرّة والممتدّة إلى يوم القيامة. ولا يشكّ أحد أنّ تكامل
الفقه عند الشيعة رهن رجوع الناس إلى الأحياء من المجتهدين ، فإنّ ذلك صار سبباً
إلى دراسة الفقه وممارسته عبر القرون ، فلو كفى العاميّ الرّجوع إلى العالم الميّت
وفتاواه ، لما بذل العالم الحيّ الجهد في طريق استكشاف الحكم الشّرعيّ ، مضافاً
إلى أنّ في عدم رجوع العوام إلى الميّت ، حفظاً للشريعة من الاندراس وطروء التصحيف
والتحريف عليها.
وقد حكى شيخ
الشريعة الأصفهاني من الأعلام كلاماً يعجبني نقله هنا ، قال : «إنّ عدم محاباة
العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة التي أعظم الله بها عليهم النعمة ،
حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابَيْن المؤدّية إلى تحريف ما فيهما واندراس
تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلّا بيّنوه ، ولفاعل فعلاً
فيه تحريف إلّا قوّموه ، حتى اتّضحت الآراء ، وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة الواضحة
البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها ، وشفاء القلوب
بها من أدوائها ،
مأمونة من التحريف ، مصونة عن التّصحيف .
ولم نجد إلى الآن
نصّاً تاريخيّاً يدلّ على رجوع الشيعة إلى الميّت من الفقهاء إلّا ما نقله
النّجاشي في حقّ الحسن بن أبي عقيل حيث قال : «... له كتب في الفقه والكلام منها
كتاب المتمسّك بحبل آل الرسول ، كتاب مشهور في الطّائفة ، وقيل : ما ورد الحاجّ من
خراسان إلّا طلب واشترى منه نسخاً ...» .
وعلى كلّ تقدير
فقد نسبه النّجاشي إلى القيل معرباً عن عدم جزمه به.
* * *
__________________
المسألة الخامسة :
في البقاءِ على تقليد الميّت :
إنّ مسألة البقاء
على تقليد الميّت والتي يعبّر عنها بالتقليد الاستمراريّ ، من المسائل المستحدثة
في القرن الثالث عشر عصر صاحب الفصول والجواهر ، ولم تكن معنونة قبلهما في كتب
القوم ، ومن هناك اختلفت كلمتهم ، فمن قائل بجواز البقاء مطلقاً إلى مانع كذلك ،
ومفصّل بين ما إذا عمل بفتاواه وما إذا لم يعمل بها وغير ذلك من التفصيل ، وإليك
دراسة القولين فنقول :
إنّ مقتضى الأصل
الأوّليّ معلوم في المقام ، إنّما الكلام في مقتضى الأدلّة الاجتهاديّة ، ولا شكّ
أنّ مقتضاها جواز البقاء لوجود المقتضي وعدم المانع.
أمّا الأوّل :
فلوجود السيرة بين العقلاء حيث إنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم فيما
جهله ، بين كون العالم باقياً على حياته عند العمل بقوله وعدمه.
وأمّا الثاني :
فلأنّ المانع من جواز التقليد كان اثنين :
١ ـ تضافر
الإجماعات المنقولة على المنع ، الكاشفة عن وجود السيرة بين المتشرّعة على المنع
في خصوص الأحكام إلّا أنّ القدر المتيقن هو تقليد الميّت ابتداءً لا استمراراً.
٢ ـ ذكرنا أنّه لو
كان تقليد الميّت ابتداءً خالياً من المانع في عالم الثّبوت ، إلّا أنّه مقرون به
في عالم الإثبات ، حيث يلزم من ذلك رجوع الشيعة طيلة قرن أو أزيد إلى الميّت وهو
ممّا لا يلتزم به فقهاء الشيعة ، ولكن هذا المانع مفقود في التقليد
الاستمراريّ لأنّ
الباقين على تقليد الميّت هم الّذين أدركوا حياته وهم بعض الشيعة. وأمّا البالغون
بعد وفاته فواجبهم الرّجوع إلى الحيّ فلا تلزم المفسدة السابقة بل ولا المضاعفات
التي تقدّم ذكرها.
أضف إلى ذلك أنّ
الرّوايات الإرجاعيّة تعمّ المقام ، فإنّ من أرجعه الإمام (عليهالسلام) إلى الأسديّ أو يونس بن عبد الرّحمن أو زكريّا بن آدم ،
ما كان يشكّ في أنّه إذا أخذ معالم دينه عنهم ثمّ وافتهم المنيّة ، هل تبقى
الحجيّة وتستمرّ بعد الوفاة أو لا؟ وليس للعاميّ ترك ما أخذ وتعلّم ، بمجرّد موتهم
بحجّة أنّ تقليد الميّت استمراراً أيضاً غير جائز.
هذا هو الحقّ
القراح في المقام.
ولكنّ المحقّق
الخراساني (قدسسره) ب ـ دل أن يبحث عن المقتضي للجواز أو المانع عنه ، بحث عن
الاستصحاب في المقام الّذي ربّما يتمسّك به ، وذهب إلى أنّ الاستصحاب في المقام
غير واجد للشّرط أي كونه حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعيّ ، وإليك نصّ كلامه :
«إنّ جواز التقليد
إن كان بحكم العقل وقضيّة الفطرة فإنّه لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصابه من
التّكليف والعذر فيما أخطأ ، وهو واضح ، وإن كان بالنّقل فكذلك ، على ما هو
التّحقيق من أنّ قضيّة الحجيّة شرعاً ليس إلّا ذلك ، لا إنشاء أحكام شرعيّة على
طبق مؤدّاها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلّده ، لعدم القطع به سابقاً ، إلّا على ما
تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب ، ولا دليل على حجيّة رأيه السابق في اللّاحق.
وأمّا بناءً على ما هو المعروف بينهم ، من كون قضيّة الحجيّة الشّرعيّة جعل مثل ما
أدّت إليه من الأحكام الواقعيّة التّكليفيّة أو الوضعيّة شرعاً في الظّاهر ،
فلاستصحاب ما قلّده من الأحكام وإن كان مجال ، بدعوى بقاء الموضوع عرفاً ، لأجل
كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من
مقوّمات المعروض ،
إلّا أنّ الإنصاف عدم كون الدّعوى خالية عن الجزاف ، فإنّه من المحتمل ـ لو لا
المقطوع ـ أنّ الأحكام التقليدية عندهم أيضاً ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق ،
بحيث عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدّل الرأي ونحوه ، بل إنّما
كانت أحكاماً لها بحسب رأيه ، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند
التبدّل ، ومجرّد احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة استصحابها ، لاعتبار إحراز بقاء
الموضوع ولو عرفاً» .
يلاحظ عليه :
أنّه لا يعتبر في
صحّة الاستصحاب ، سوى صحّة التعبّد بالبقاء شرعاً ، بحيث لا يعدّ أمراً لغواً ،
فالتعبّد ببقاء قباب المساجد أمر لا يترتب عليه الأثر الشرعيّ ، فيكون لغواً ،
وهذا بخلاف التعبّد ببقاء حجيّة رأي المفتي الرّاحل ، فإنّ جعل الحجيّة لقوله سواء
كانت تأسيسيّة ـ على خلاف التحقيق ـ أو إمضائيّة كما هو الحقّ ، لم يكن أمراً
لغواً من جانب الشّارع حدوثاً ، ولأجل تلك الغاية يصحّ التعبّد بالبقاء ، إذ لو لا
صحّة تعبّده بالبقاء لما صحّ التعبّد بالحدوث أيضاً فما هذا التفريق إذاً؟
وبالجملة : ما هو
المسوّغ للتعبّد حدوثاً هو نفسه المسوّغ للتعبّد بقاءً ، هذا
__________________
وليس الاستصحاب
مبنيّاً على استتباع حجيّة فتوى المفتي في إنشاء أحكام مماثلة ظاهراً لفتاواه حتى
يترتّب عليه ما فصّله (قدسسره) فإنّ القول بالاستتباع رأي عازب أو قول كاذب ، بل ملاكه
هو استصحاب نفس الحجيّة الممضاة التي يترتّب عليها شرعاً عند الإبقاء ما كان
يترتّب عليها حدوثاً ، وما قيل في الاستصحاب من اعتبار كون المستصحب حكماً شرعياً
أو موضوعاً لحكم شرعيّ ، ليس أمراً جامعاً بل الملاك الجامع هو عدم كون التعبّد به
أمراً لغواً في عالم التشريع ، فإذا لم يكن التعبّد بالحدوث لأجل وجود الغاية
أمراً لغواً ، فهكذا الابقاء.
فإن قلت : أنّ
الأثر المترتّب عليه هو جواز الرّجوع عرفاً في أخذ الأحكام وما أشبهه وراء مسألتي
التنجيز والتعذير.
قلت : نعم ، ولكن
لا حاجة في شمول أدلّة الاستصحاب له إلى لحاظه ، بل يكفي كون الحجيّة أمراً
مجعولاً له ولو بالإمضاء.
جواب آخر لسيّدنا
الأُستاذ (رضي الله عنه):
ثمّ إنّ لسيّدنا
الأُستاذ جواباً آخر يدفع الإشكال في بعض الصور دون البعض حيث قال (رضي الله عنه)
: «إنّ الحاجة إلى الاستصحاب في الحكم بجواز البقاء ، إنّما هو فيما إذا كانت فتوى
الميّت مخالفة للحيّ الّذي يفتي بجواز البقاء إذ لو كانا متوافقي الفتوى وكانت
عامّة فتاواه موافقة لرأي المجتهد الحيّ ، لكان له إرجاع العاميّ إلى الميّت من
دون حاجة إلى الاستصحاب ، لقيام الحجّة عنده على صحّة هذه الفتاوى ، وليست الغاية
إلّا الوصول إلى هذه الأحكام من دون دخالة التّقليد والأخذ بالرّأي.
فلو أدرك مكلّف في
زمان بلوغه مجتهدين متساويين في العلم مختلفين في الفتوى ، فقد تسالم الأصحاب على
كونه مخيراً في الأخذ بواحد منهما لدليل شرعيّ
دالّ على التخيير
الشّرعيّ واصل إليهم وإن لم يصل إلينا ، أو لأجل السيرة المستمرّة إلى زمن الأئمّة
(عليهمالسلام) ، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخييريّ» .
يلاحظ عليه : ـ مضافاً
إلى أنّ التّخيير عقليّ لا شرعيّ ، اللهمّ إلّا بالإمضاء ـ أنّ ما أفاده مختص بما
إذا أدرك مجتهدين متساويين ، وهو مع كونه أمراً نادراً ، لا ينفع في غير حقّ غير
المدرك إلّا بعدم القول بالفصل وهو كما ترى.
فالحقّ أنّه لا
حاجة إلى الاستصحاب في إثبات جواز البقاء ، بل يكفي الدّليل الاجتهاديّ خصوصاً
الرّوايات الإرجاعيّة فإنّ الإمام (عليهالسلام) أرجع عليّ بن المسيّب إلى زكريّا بن آدم ولم يكن في خلده
أو خلد أيّ عاقل معاصر معه من أنّ جواز العمل بما أخذه كان مختصّاً بحال الحياة ،
إذ لو كان مقيّداً بحياته لكان للإمام (عليهالسلام) أن ينبّه على ذلك في رواية ، خصوصاً أنّ السّائل يصير
منقطعاً عن الإمام (عليهالسلام) بعد السّؤال.
اشتراط التعلّم في
جواز البقاء :
إنّ جواز البقاء
هل يشترط فيه العمل بما تعلّمه وأخذه ، أو يكفي فيه التعلّم وإن لم يعمل؟
لقد بنى بعضهم
الخلاف على تفسير التقليد ومعناه ، فمن فسّره بالاستناد إلى قول الغير في مقام
العمل فلا بدّ من اشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء ، فمع عدم العمل بفتواه حال
الحياة كان من التّقليد الابتدائيّ. ومن فسّر التقليد بالأخذ أو الالتزام بالعمل
بفتوى المفتي ، كفى في الحكم بجواز البقاء مجرّد الأخذ أو الالتزام حال الحياة ،
هذا.
__________________
والحقّ أنّ
المسألة غير مبنيّة على تحقيق معنى التقليد ، بل هي مبنيّة على سعة وضيق الدّليل القائم على جواز
البقاء على التقليد ، ولا محيص للفقيه عن دراسة الأدلّة فنقول :
إذا كان المستند
لتجويز البقاء على تقليد الميّت هو الاستصحاب ، كفى في ذلك وجود التَّعاصر ، وكون
المقلِّد بالغاً حال حياة المجتهد الرّاحل ، ففتواه كانت حجّة والأصل بقاؤها على
الحجيّة. وبما أنّه أشبه بتقليد الميّت ابتداءً فمن المحتمل قويّاً شمول معقد
الإجماعات المنقولة لهذا القسم من البقاء ، ومنه يظهر حال ما لو كان المستند هو
السيرة العقلائيّة ، فإنّ التمسّك بها على سعتها ، يوجب إلحاق بعض أقسام البقاء
بالتّقليد الابتدائيّ ، فلا محيص عن التنزّل عن هذه السّعة إلى دائرة أضيق فنقول :
١ ـ كفاية
الالتزام بالعمل بفتاواه في جواز البقاء.
٢ ـ لزوم الأخذ
والتعلّم والذّكر لفتاواه ، فيجوز البقاء فيما تعلّم وكان ذاكراً له.
٣ ـ اشتراط
الاستناد في مقام العمل إلى فتواه فيجوز البقاء في ما عمل به.
والتّحقيق عدم
اشتراط الثالث ، وذلك أنّ مقتضى الرّوايات الإرجاعيّة حجيّة فتوى المفتي على
المقلّد وإن لم يعمل بها حال حياة المفتي. كما أنّ مقتضى السيرة العقلائية الجارية
على رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله ، عدم الفرق بين كون العالم باقياً على
الحياة عند العمل بقوله وعدمه. ولم يكن يدور في خلد أحد ممّن أرجعهم الإمام (عليهالسلام) إليهم أنّ العمل بما أخذ وتعلّم حال حياة المفتي ، شرط في
جواز البقاء بعد رحيله.
فيدور الأمر بين
شرطيّة الأخذ والتعلّم مع الذّكر في جواز البقاء ، وبين كفاية مجرّد الالتزام
بالعمل بفتاواه كما التزم به السيّد الطباطبائي (قدسسره) في العروة ، ولكن
__________________
لا شبهة في عدم
صدق الرّجوع إلى الميّت ابتداءً فيما لو تعلّم خصوصاً إذا كان ذاكراً له ، بل هو
رجوع إلى ما تعلّمه في حال حياة المفتي ، بخلاف ما إذا لم يتعلّم واقتصر على مجرّد
الالتزام ، فإنّ الرّجوع إلى الميّت أشبه بالتّقليد الابتدائي وقد تقدم عدم جوازه.
وعليه فالأحوط ـ إن
لم يكن أقوى ـ البقاء في خصوص ما تعلّم إذا كان ذاكراً له .
هذا تحقيق المسألة
على وجه كليّ فيما إذا كانت فتوى الحيّ مخالفة لفتوى الميّت ، وإلّا فلا شكّ في
جواز البقاء إذ لا خصوصيّة للشّخص وإنّما المهمّ هو العمل بالطريق والمفروض وحدته
فيهما لتوافقهما في الفتوى.
ثمّ إنّ البقاء ـ فيما
إذا كانت هناك مخالفة ـ تارة يكون واجباً ، وأُخرى غير جائز وثالثة جائزاً.
أمّا الأوّل ففيما
إذا كان الميّت أعلم من الحيّ المجوّز للبقاء ، فلو أحرز المقلّد أعلميّة الميّت
وجب البقاء على تقليده بإجازة الحيّ.
وأمّا الثّاني
ففيما إذا انعكس الأمر كما هو واضح.
وأمّا الثالث
ففيما إذا كانا متساويين أو كان الميّت أعلم ، لكن كانت فتوى الحيّ غير الأعلم
مطابقة للاحتياط.
ثمّ إنّ الحكم
بالتّخيير فيما إذا كانا متساويين ، إمّا لأجل الإجماع على التّخيير كما ادّعاه
الشّيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) وتبعه سيّدنا الأُستاذ وإن كان مورد تأمّل لكون المسألة من المسائل المستحدثة ،
وإمّا لأجل أنّ الوظيفة عندئذ هي العمل
__________________
بالاحتياط ، لأنّ
الاشتغال اليقينيّ يستدعي الامتثال اليقينيّ وهو حاصل بالجمع بين الفتويين ، لكن
لمّا كان الامتثال اليقينيّ بالاحتياط أمراً متعسّراً على المكلّفين غالباً ، تصل
النّوبة حينئذ إلى الامتثال الاحتماليّ وهو الأخذ بآراء أحد المجتهدين المتساويين
، وعليه فالنتيجة متّحدة ، غير أنّ الطريق عندنا غير الطريق عند الشيخ (قدسسره) ومن تبعه.
فروع :
الأوّل : إذا قلّد
من لا يجوّز البقاء على تقليد الميّت ، ومات فقلّد من يجوّزه ، هل له البقاء على
تقليد الأوّل أو لا؟
الجواب : نعم له
البقاء عليه في المسائل غير مسألة عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ، لأنّ البقاء
في سائر المسائل لا يجتمع مع البقاء في خصوص تلك المسألة ، لأنّ لازم شمول البقاء
لسائر المسائل هو جواز العمل بفتوى الميّت ـ ومع ذلك ـ لو شمل جواز البقاء في نفس
تلك المسألة كان معناه عدم جواز البقاء في تلك المسائل ، وما يلزم من فرض وجوده (جواز
البقاء) عدمه ، لغو في عالم الاعتبار ومحال في عالم التّكوين ، وشموله لخصوص تلك
المسألة دون سائر المسائل وإن كان أمراً ممكناً رافعاً للمحذور لكنّه لا يترتّب
عليه حينئذ أثر عمليّ سوى عدم البقاء.
ولك أن تقول : إنّ
فتوى الحيّ بجواز البقاء على تقليد الميّت لا تشمل خصوص نظر الميّت في تلك المسألة
، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون البقاء جائزاً واقعاً أو غير جائز ، فعلى الأوّل لا
يصحّ الرّجوع إلى الميّت في تلك المسألة لكون فتواه مخالفةً للواقع ، وعلى الثاني
لا يجوز الرّجوع إلى الحيّ فيها ، لأنّه يجوّزه والواقع على خلافه.
الثاني : إذا بقي
على تقليد الميّت من دون أن يقلّد الحي في مسألة البقاء ، فما حكم أعماله الصادرة
منه؟
الجواب : إنّ حكمه
حكم من كانت وظيفته تقليد الأعلم فقلّد غيره ، أو كان واجبه التقليد فلم يقلّد
أصلاً ، وكان قد أتى بأعمال عباديّة وغيرها وتمشّى قصد القربة منه في العبادات ،
فليس له الاجتزاء بعمله حتى تستكشف صحّته بالرّجوع إلى نظر المجتهد الحيّ وهذا هو
المراد من قولهم : عمل العاميّ بلا تقليد ولا احتياط باطل ، ولا يرادُ منه البطلان
بمعنى الحكم بالإعادة أو القضاء فعلاً ، بل ينتظر حتى يستبين الحال ، فإن كان عمله
مطابقاً لفتوى الحيّ حكم بالصحّة وإلّا فبالبطلان.
نعم ، في المورد :
أي إذا قلّد مجتهداً فمات واستمرّ في مقام العمل على طبق فتاواه من دون تقليد
الحيّ في مسألة البقاء ، ثمّ قلّده وكان ممّن يجوز البقاء ـ مع فرض المخالفة
بينهما في الفتوى ـ يمكن أن يقال بالصحة أيضاً لأنّ المفروض أنّ الحجّة الفعلية هي
البقاء حين العمل وإن لم يكن المقلّد ملتفتاً إلى ذلك حينه. فعمله كان مطابقاً
لفتوى الحيّ بواسطة تجويز البقاء على تقليد الميّت ولو مع فرض المخالفة بين الميّت
والحيّ في الفتوى.
الثالث : إذا لم
يجوّز المجتهد الحيّ البقاء على تقليد الميّت ، لا يجوز له البقاء على تقليده سواء
أكان الميّت مجوّزاً للبقاء أم لا ، حيث إنّ مسألة البقاء نظريّة اجتهاديّة ، فليس
له الاكتفاء بفتوى الميّت إلّا بالحجّة وبما أنّه عاميّ انحصرت الحجّة في المجتهد
الحيّ.
* * *
المسألة السادسة :
العدول من تقليد مجتهد إلى آخر :
إذا عدل من الميّت
إلى الحيّ ، فهل له العدول منه إلى الميّت أو لا؟
قال السيّد
الطباطبائيّ (قدسسره) في العروة الوثقى بعدم الجواز مطلقاً ولم يفصّل .
ولعلّه لأجل عدم
المجوّز للرّجوع إلى الميّت بعنوان البقاء على التقليد ، وذلك لأنّ التقليد عنده
هو الالتزام وقد زال بالرّجوع إلى الحيّ ، فليس له تقليده حتّى يقال بالبقاء عليه.
يلاحظ عليه : بما
ذكرناه مراراً من أنّ عنوان التقليد مطلقاً ليس موضوعاً لحكم شرعيّ فليس صدق عنوان
البقاء متوقّفاً على تحقيق معنى التقليد ومفهومه ، حتى يقال بزوال التقليد بعد
العدول. فلا أساس حتى يبنى عليه فاللازم ملاحظة الأدلّة في المقام فنقول :
إنّ البحث فيما
إذا كان مسوّغ البقاء موجوداً وهو كونه متعلّماً لفتاواه وذاكراً لها ، وإلّا فلا
مسوّغ للبقاء ، والرّجوع إليه بعد العدول من قبيل الرّجوع إلى الميّت ابتداءً وهو
واضح جدّاً ، لا حاجة للبحث عنه وعليه تكون الصور ثلاثة :
الأُولى : إمّا أن
يكون الحيّ أعلم من الميت.
الثانية : إمّا أن
يكون الميّت أعلم من الحيّ.
الثالثة : إمّا أن
يكونا متساويين.
__________________
فعلى الأُولى : لا
مسوّغ للعدول إلى الميّت لوجوب تقليد الأعلم.
وعلى الثانية : لم
يكن تقليد الحيّ غير الأعلم صحيحاً ، وكانت الوظيفة هي البقاء في الفتاوى التي
يتذكّرها ، فيجب عليه الرّجوع إلى الميّت.
وعلى الثالثة :
لقد كان مخيّراً بين المجتهدين ، وبما أنّه متذكّر لفتاوى الميّت لا يعدُّ الرّجوع
إليه رجوعاً إلى الميت ابتداءً ، فلا مانع منه . واختلاف أعماله ـ في فترة عدوله إلى الحيّ وقبل رجوعه إلى
الميّت ـ غير مضرّ ، لأنّه قام بها عن دليل وحجّة شرعيّة ، كما لو قلّد مجتهداً
فمات ، فقلّد آخر ـ مع اختلافهما في الفتوى ـ فأعماله السابقة صحيحة لصدورها عن
حجّة ، وسيوافيك البيان في مبحث العدول.
العدول من الحيِّ
إلى الحيِّ :
هل يجوز العدول من
الحيّ إلى الحي مطلقاً ، أو لا يجوز كذلك أو فيه التفصيل بين كون الثاني أعلم
وعدمه ، ومحلّ الكلام فيما إذا كان بين المجتهدين اختلاف في الفتوى ، وأمّا صورة
المسألة فثلاث :
الأُولى : أن يكون
الأوّل أعلم من الثاني.
الثانية : أن يكون
الأمر على العكس.
الثالثة : أن
يكونا متساويين.
أمّا على الأُولى
: فلا يجوز العدول ، لما تقدّم من عدم جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل.
أمّا على الثانية
: فيجب الرّجوع إلى الثاني ، وليس وجهه إلّا سيرة العقلاء
__________________
الجارية على
الرّجوع إلى الفاضل في مهامّ الأُمور ، وهي دليل اجتهاديّ متقدّم على الأصل
موافقاً كان أو مخالفاً.
وربّما يستدلّ
بالأصل العقليّ أي دوران الأمر بين التعيين والتّخيير لأنّ حجيّة فتوى الأعلم
قطعيّة وحجيّة غير الأعلم مشكوكة ، فلا يخرج عن العهدة إلّا بالأخذ بما تكون
البراءة معه قطعيّة.
يلاحظ عليه : أنّ
الأصل محكوم بالأصل الشرعيّ وهو أصالة بقاء حجيّة فتوى من كان على تقليده والأصل
العقليّ إنّما يحتجّ به مع عدم ورود بيان من الشّارع.
وأمّا الثالثة :
أي : إذا كانا متساويين مع العلم بالخلاف ، فهل يجوز العدول من أحدهما إلى الآخر
أو لا؟
استدلَّ للجواز
بوجوه :
الأوّل : التمسّك
بإطلاق دليل حجيّة الفتوى ، حيث إنّ حجيّة كلّ منهما غير مشروطة بعدم الأخذ
بالآخر.
يلاحظ عليه : أنّ
دليل الحجيّة في كلّ مقام لا يشمل صورة التعارض ، لأنّ معناه جعل الحجيّة لكلّ من
المتعارضين وهو كما ترى.
الثاني : الإجماع
على التّخيير.
يلاحظ عليه : أنّ
الإجماع على فرض ثبوته دليل لبيّ يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو التّخيير
الابتدائي لا الاستمراريّ.
الثالث : استصحاب
التّخيير الثّابت بالإجماع ، لأنّ المكلّف قبل الأخذ بأحدهما كان مخيّراً بين
أحدهما بالإجماع ، فيشكّ في بقائه ، ولكون الإجماع دليلاً لبيّاً غير قابل
للاحتجاج به بعد الأخذ ، فيتمسّك بالاستصحاب كما هو شأن كلّ مقام يكون الدّليل
الاجتهاديّ (اللبيّ) قاصراً ، فيثبت الحكم الشرعي في الحال اللّاحقة بالاستصحاب.
يلاحظ عليه : أنّ
التخيير على فرض ثبوته مجهول الموضوع فهو مردّد بين كونه باقياً قطعاً ومرتفعاً
كذلك. فلو كان الموضوع من تعارض عنده الفتويان فهو باق قطعاً ، ولو كان من لم تقم
عنده الحجّة ، فهو مرتفع قطعاً ، والعلم ببقاء الموضوع من شرائط جريان الاستصحاب.
ثمّ إنّه ربّما يعترض على استصحاب الحجيّة التخييريّة بأمرين :
الأوّل : إنّه من
الاستصحاب التعليقي المعارض بالاستصحاب التنجيزيّ ، فلا مرجع إلّا الأصل العقليّ
وهو أصالة التعيين عند التردّد في الحجيّة بين التعيين والتخيير .
الثاني : إنّ
الفتوى الثانية ـ بعد ما اتّصفت الفتوى الأُولى بالحجيّة الفعليّة من جهة أخذ
المكلّف بها ـ لا يعقل اتّصافها بالحجيّة التّخييريّة حدوثاً ، كما لا يعقل بقاؤها
عليها ، سواء أكان المستصحب حجيّة الفتوى المأخوذ بها سابقاً أم كان هو الحكم
الفرعي الذي أدّت إليه الفتوى المأخوذ بها ، بل ذلك في الحكم الفرعيّ أوضح ، لأنّه
حكم تعيينيّ منجّز على المكلّف بأخذه الفتوى المؤدّية إليه ، فإنّ التخيير إنّما
هو في الحجيّة والمسألة الأُصوليّة ، دون الحكم الفرعيّ لتعينه بالأخذ بما أدّت
إليه ، إذاً كان استصحاب الحجيّة الفعليّة أو الحكم الفرعيّ المتنجّز معارضاً لاستصحاب
الحجيّة التّخييريّة الثّابتة على الفتوى الثّانية .
يلاحظ عليه : أنّ
مفاد الحجيّة التّخييريّة هو كون كلّ من الفتويين صالحاً للاحتجاج وهو حكم تنجيزيّ
دلّ عليه الإجماع. والمستصحب هو ذاك الحكم التّنجيزيّ أي أصالة بقاء كلّ على
الصّلاحيّة ، وليست حجيّة الفتوى مشروطة بالأخذ حتى تكون تعليقيّة.
وبذلك يظهر ما في
الإيراد الثّاني من معارضة الاستصحابين ، فإنّ كون
__________________
الفتوى الأُولى
حجّة فعليّة ، ليس بمعنى نفي الحجيّة عن الأُخرى ، بل كلاهما حجّة فعليّة بمعنى
أنّ العمل بكلّ منهما مؤمّن من العقاب وصالح للاحتجاج ، نعم يلزم التّعارض لو قلنا بأنّ جعل الحجيّة لكلّ واحد
من الفتويين يلازم جعل حكم مماثل فيلزم جعل حكمين مماثلين متضادَّين ، وهذا
النَّوع من التعارض ـ على فرض صحّته ـ راجع إلى باب إمكان التعبّد بالامارات ، ولا
صلة له بالمقام.
إلى هنا تبيّن
أنّه ليس للقائل بالجواز دليل رصين ، وإليك دراسة قول القائل بالمنع.
استدلّ : بأنّ عدم
الجواز هو مقتضى الأصل العقليّ المتقدّم (عند الدّوران بين التّعيين والتّخيير)
للشكّ في حجيّة فتوى من يريد العدول إليه ، والعلم بحجيّة فتوى من يريد العدول عنه
، وفي مثله يبنى على عدم حجيّة مشكوك الحجيّة .
يلاحظ عليه : أنّه
لا تصل النّوبة إلى الأوّل (الأصل العقليّ) إلّا بعد اليأس عن تحصيل الدّليل ، هذا
من جانب ، ومن جانب آخر ليس للرّأي خصوصيّة إلّا كونه طريقاً وكاشفاً عن الواقع ،
وهو مشترك بينهما ، فالفتوى الأولى والثّانية سيّان في الحجيّة والكاشفيّة.
إذا علمت هذا ،
فإنّ مقتضى القاعدة هي سقوط الفتويين عن الحجيّة والرّجوع إلى الاحتياط ، ولكن
لمّا كان الاحتياط أمراً متعسّراً لتوقّفه على العلم بالفتاوى وكيفيّة الاحتياط
كفى الامتثال الاحتماليّ وهو العمل بإحداهما ، وكونه بحكم العقل فهو مستقلّ
بالتخيير في كلتا الحالتين ، فالأقوى جواز العدول في المتساويين بشرط أنّ لا يؤدّي
وينتهي العدول إلى اللّعب بالتّقليد وإنّ كان الأحوط عدم العدول والله العالم.
__________________
إذا قلَّد من يقول
بحرمة العدول حتّى إلى الأعلم :
إذا قلّد من يقول
بحرمة العدول حتّى إلى الأعلم ، ثمّ اطّلع على مجتهد أعلم من الأوّل فما هي وظيفته؟
إنّ وظيفته هي
الرّجوع إلى الأعلم وذلك ببيانين ، وموضع البحث فيما إذا كانت بينهما مخالفة :
الأوّل : إنّ
المقلّد بعد الاطّلاع على الأعلم يشكّ في حجيّة فتوى الأوّل القائل بحرمة العدول
حتّى إلى الأعلم. فيجب عليه رفع الشكّ وذلك بأحد أُمور ثلاثة :
الأوّل : الرّجوع
إلى المجتهد الأوّل في ذلك الأمر وهو غير مثمر لاستلزامه الدّور الواضح.
الثّاني : الرّجوع
إلى الإطلاقات من آية النّفر والسّؤال والرّوايات الإرجاعية العامّة أو الخاصة ،
لكنّك عرفت عدم شمولها لصورة التّعارض.
الثالث : استصحاب
التّخيير ، ولكنّه فرع وجود حالة سابقة له ، متيقّنة الحجيّة مشكوكة لاحقاً والفرض
أنّه قلّد غير الأعلم مع عدم الاطّلاع على الأعلم وعلى المخالفة ثمّ وقف عليهما ،
ومعه كيف يكون محكوماً بالتّخيير ، ويبقى على تقليد الأوّل؟ فلا محيص عن الرّجوع
إلى الأعلم.
الثاني : أمّا
البيان الثّاني فإنّك قد عرفت أنّه يجب الرّجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة ،
فإذا اطّلع على الأعلم وعلى المخالفة وجب الرّجوع إليه.
* * *
إذا كان هناك
مجتهدان متساويان في العلم كان للمكلّف تقليد أيّهما شاء ، أمّا في صورة الاتّفاق
فواضح ، وأمّا في صورة الاختلاف في الفتوى ، فالمستند للتّخيير إمّا هو الإجماع
الّذي ادّعاه الشيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) ، أو ما ذكرناه من أنّ المرجع بعد
التّساقط هو الاحتياط ، وبما أنّه متعسّر فلا مناص عن التنزّل من الامتثال القطعيّ
إلى الاحتماليّ وهو تقليد أحدهما كما عرفت.
إنّما الكلام في
تبعيض التّقليد ، فإن أُريد منه التّبعيض حسب الأبواب ، كأن يقلّد في مجال
العبادات شخصاً وفي مجال المعاملات آخر فلا مانع من ذلك.
وإن أُريد منه
التبعيض في عمل واحد أي في أجزائه وشرائطه ، فإنّما يجوز إذا لم ينته إلى مخالفة
كلا المجتهدَيْن بحيث يصير العمل الواحد باطلاً في نظرهما معاً وإن كان قد أخذ
برأيهما.
فلو افترضنا أنّ
أحدهما يقول بعدم وجوب السّورة وبوجوب التّسبيحات الأربع ثلاثاً ، والآخر يقول
بوجوب السّورة واستحباب التّسبيحات الأربع ثلاثاً ، فصلّى المكلّف بلا سورة وبدون
تثليث التسبيحات ، فهو وإن رجع في كلّ مورد إلى الحجّة ، لكن المجموع من حيث هو
باطل عندهما ، وإن كان سبب الحكم بالبطلان مختلفاً كما هو معلوم. وعليه
يجوز العدول بشرط أن لا ينتهي إلى المخالفة القطعيّة العمليّة في واقعة واحدة.
* * *
__________________
المسألة السابعة :
في عدول المجتهد عن رأيه :
أو تبدّل الاجتهاد :
عدول المجتهد عن
رأيه تارة يقع موضوعاً لحكم فقهيّ ، وأُخرى لحكم أصولي ، والأوّل : كما إذا تبدّل
رأي المجتهد إلى رأي آخر؟ فهل يجوز البقاء على الرّأي الأوّل أو يجب العدول إلى
الرّأي الثّاني؟
ومثله ما إذا
تبدّل إلى التوقف والاحتياط ، فهل يؤخذ بالأوّل أو يجب العمل بالاحتياط أو الرّجوع
إلى مجتهد آخر؟ والحكم في هذه الموارد واضح ، إذ لا معنى للتمسّك بالرّأي الأوّل
بعد زواله فلا محيص عن الأخذ بالرّأي الثاني في الصورة الأُولى والاحتياط أو
الرّجوع إلى مجتهد آخر في الصورة الثّانية.
وأمّا الثاني : أي
موضوعاً لحكم أُصوليّ ، فلو تبدّل رأيه إلى آخر فهل يحكم بصحّة أعماله السّابقة
وأعمال مقلّديه مطلقاً ، أو لا كذلك ، أو يفصّل بين ما إذا كان مستند حكمه
الامارات فالإعادة أو الأُصول فلا؟
حكى سيّد مشايخنا
المحقّق البروجرديّ (قدسسره) ذهاب القدماء إلى الإجزاء مطلقاً ، واختار هو (أُستاذنا
المحقق البروجرديّ) التّفصيل وتبعه السيّد الأُستاذ ـ قدّه ـ ، والحقّ هو ما نسب إلى القدماء ، ولا يعلم وجهه إلّا بعد
تحليل دليل القائل بعدم الإجزاء في الامارات ، وحاصله : أنّ الامارات طريق كاشف عن
الواقع كما عليه السّيرة العقلائيّة الجارية على العمل بالامارات ، والشارع أمضى
__________________
هذه السيرة لأجل
هذه الخصيصة ، فالمدار عند الشارع والمطلوب هو إدراك الواقع. ومن المعلوم أنّ
الأمر بالعمل على طبق مؤدّى الامارات لا يقلب الواقع إلى طبق مؤدّاها ، وعليه
فالواقع باق بحاله ، فمع انكشاف بطلان الامارة السابقة وعدم كونها طريقاً إلى
الواقع ، لم يسقط التكليف إلّا بالإعادة أو القضاء.
يلاحظ عليه : أنّا
لا ننكر شيئاً ممّا ذكر من الأمور من أنّ حجيّة الامارات لكونها طرقاً إلى الواقع
، وأنّ الشارع أمضاها لكونها كذلك ، وأنّ الامارات لا تقلب الواقع إلى مجاريها ،
وكلّ ذلك ينتج عن أنّ المطلوب الأوّلي عند الشّارع إدراك الواقع ، إلّا أنّ في
المقام نكتة وهي أنّ الأمر بالعمل بالامارة في مقام استكشاف كيفيّة العمل الّذي
أمر به المولى يلازم عرفاً ـ كما تقدم ـ رضى المولى في الإتيان على طبق مؤدّى
الامارة على حدّ كاشفيّتها ، فالشّارع اكتفى في دائرة المولويّة والعبوديّة فيما
يرجع إلى مقاصده ومراميه بما تؤدّيه الامارة وإن بان الخلاف ، فرفَعَ يده عن
مقاصده وإدراك الواقع المحبوب تسهيلاً على العباد.
فلو أمر المولى
عبده بصنع دواء أو غذاء ، وأمر بالرّجوع في صنعهما إلى صيدليّ وطبّاخ معيّنين ،
فرجع العبد إليهما وقام بالواجب ثمّ بان الخطأ ، كان العبد معذوراً لأدائه الوظيفة
المطلوبة منه ، والحكم بالإعادة يحتاج إلى أمر جديد وبذلك تقف على أنّ تبدّل
الرّأي لا يؤثّر في صحّة الأعمال السّابقة (للمجتهد والمقلِّد) ، لتحقّق الامتثال
بالوظيفة المطلوبة حسب توجيه المولى وإرشاده.
وأمّا الإجزاء في
مورد الأصول فقد تقدّم الكلام فيه عند البحث عن الإجزاء ولا نعيد.
خاتمة المطاف :
لا شك أنّ لاختلاف
الفقهاء في فتاواهم أسباباً ليس المقام لبيان تفصيلها ، ولكن نشير هنا إلى سبب
خاصّ وهو تعارض الروايات المروية عن أهل البيت (عليهمالسلام) ، وبما أنّ لشيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ تحليلاً رائعاً
، في هذا المقام ، وقد طرحه عند البحث عن تعارض الأدلّة [في الثالث والعشرين من
شهر جمادي الأُولى من شهور عام ١٤١٤ ه ـ] فناسب نقله هنا إكمالاً للفائدة ، ولو
ساعدنا الزمان سنقوم بنشر ما أفاده شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ من الأفكار
البديعة في المبحث المذكور.
قال شيخنا
الأُستاذ ـ حفظَه الله تعالى ـ :
عند ما نطالع
كتابي الوسائل والمستدرك مثلاً ، نرى أنَّه ما من باب من أبوابِ الفقه إلّا وفيه
اختلاف في رواياته ، وهذا ممَّا أدَّى إلى رجوع بعض ممَّن استبصروا عن مذهبِ
الإماميَّة.
قال شيخنا الطوسي (رحمهالله)
في أوائل تهذيبهِ : «سمعت شيخنا أبا عبد الله (المفيد (رحمهالله) أيَّده الله ،
يذكر أنَّ أبا الحسين الهارونيّ العلويّ كان يعتقد الحقَّ ويدينُ بالإمامَة ،
فرجعَ عنها لمَّا التبس عليه الأمر في اختلافِ الأحاديثِ ، وتركَ المذهَبَ ودانَ
بغيره لما لم يتبيَّن له وجوه المعاني فيها ، وهذا يدلُّ على أنَّه دخلَ فيه على
غيرِ بصيرة واعتقدَ المذهب من جهةِ التقليد ، لأنَّ الاختلاف في الفروع لا يوجب
ترك ما ثبت بالأدلَّة من الأُصول» انتهى.
__________________
أقول : إنَّ هذه الاختلافات
تعود إلى أسباب وعوامل عديدة لها شواهدها على ذلك.
منها : أ ـ التقطيع
في الروايات من قبل الرّواةِ عنهم (عليهمالسلام):
وهو ظاهر لمن راجع
كتبَ الأحاديث ، فأدّى ذلك إلى ظهورِ التنافي وبروز الاختلاف. وكذلك الحال في
روايات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عند العامَّة. كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنَّ الله خَلَقَ آدمَ على صورتهِ». وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً : «أَنتَ ومالُك لأبيك».
ففي الحديثِ
الأوَّل : الضمير في «صورتهِ» يعودُ إلى «الله» ظاهراً. ولما نُقلَ الحديثُ إلى
الإمام علي بن موسى الرضا (عليهالسلام) قال : «قاتَلَهم الله ، لقد حَذَفوا أوَّل الحديث : إنَّ
رسولَ الله مرَّ برجلين يتسابَّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبهِ : قبَّحَ اللهُ
وجهكَ ، ووجه من يشبهكَ ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا عبد الله ، لا تقُل هذا لأخيكَ ، فإنَّ الله عزوجل خلقَ آدمَ على صورتهِ» رواه الصّدوق في التّوحيد .
فلو رجعَ القومُ
إلى أئمّة الهدى وسفينة النَّجاة (عليهمالسلام) ، لوقفوا على أنَّ الحديث نُقلَ مبتوراً. وروى الصّدوق
أيضاً بسنَدهِ عن عليّ (عليهالسلام) قال : سمعَ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رجلاً يقول لرجل : قَبَّحَ اللهُ وجهَكَ ووجه من يشبهكَ ،
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «مَه ، لا تقل هذا ، فإنَّ الله خلقَ آدمَ على صورته» .
فالضمير في «صورته»
يعودُ إلى الرَّجل الَّذي يُسَبّ ويُسبُّ من يشبهه وهو آدم (عليهالسلام). هذا.
ويظهر من الحديث
الثاني «أنت ومالكَ لأبيك» أنَّ للأبِ ولاية على أموالِ ولدهِ كما فهمَه العامَّة
، وقال الخاصَّةُ : له الولاية بمقدار الضَّرورة من النَّفقةِ الواجبة على الولدِ
مع فقرِ وعوزِ الأب.
__________________
وهذا الحديث له
صدر وذيل ، ومع الإمعانِ والتأمّل في مجموع المرويّ يتبيَّن عدم الولاية في أموالِ
الولدِ ، وإن هو إلّا حكم أخلاقي وإرشاد إنسانيّ.
روى في الوسائل عن
الحسين بن أبي العلا قال : قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ما يحلُّ للرَّجل من مالِ ولدهِ؟
قال (عليهالسلام) : «قوتُه (قوت خ) بغير سرف إذا اضطرَّ إليه».
فقلت له : فقول
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للرَّجل الّذي أتاه ، فقدَّم أباه فقال له : «أنت ومالك
لأبيك»؟
فقال (عليهالسلام) : «إنَّما جاء بأبيه إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله هذا أبي ، وقد ظلمني ميراثي عن أُمّي
، فأخبره الأب أنَّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، وقال : «أنتَ ومالكَ لأبيكَ» ، ولم
يكن عند الرجل شيء ، أَوَكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يحبس الأب للابن؟!» .
فمع مراقبة
وملاحظة مجموع الحديث بِصَدْرِهِ وذيله ، يظهر عدمُ الدلالة على ولاية الأب في
أموالِ ولدِه ، ولو كان لدى الأب مال لم يجز له التّصرّف في أموالِ ولدِه كما
يدلُّ عليه قوله (عليهالسلام) : «ولم يكن عند الرَّجل شيء».
ومنها : ب ـ رعايةُ
عادَةِ بَلَد السائل :
لو كان السائل
عراقيّاً ، ذكر الإمام (عليهالسلام) الاصطلاح العراقي ، ولو كان
__________________
مكّياً ذكر
الاصطلاح المكّيّ ، فإذا تدبَّرنا هذا لارتفع التَّنافي والاختلاف.
روى الحر العامليّ
(رحمهالله) في وسائله باب مقدار الكرِّ بالأرطال عن ابن أبي عمير عن بعضِ أصحابنا
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكرُّ من الماء الذي لا ينجّسه شيء ألف ومائتا
رطل» .
والظاهر أنَّ هذا
البعض عمر بن أُذينَة حيث إنَّ أكثر نقل ابن أبي عمير عن ابن أُذينَة ، وهما
عراقيَّان.
وروى عن محمَّد بن
مسلم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (في حديث) قال : «والكرُّ ستمائة رطل» . الرَّاوي طائفيّ ثقفيّ سكن بعد ذلك الكوفة.
والرَّطل المكّيّ
رطلانِ بالعراقي.
ومنها : ج ـ الإفتاءُ
مراعاة لمصلحة السائل :
روى في الوسائل
باب الإرث عن سلمة بن محرز أنَّه سأل الإمام الصَّادق (عليهالسلام) عن رجل مات وأوصى إليَّ بتركته وتركَ ابنةً ، قال : فقال
لي : «أعطها النصف» ، قال : فأخبرتُ زرارة بذلك ، فقال لي : اتّقاك ، إنَّما
المالُ لها ، قال : فَدَخَلتُ عليه بعد ، فقلتُ : أصلحكَ الله ، إنَّ أصحابنا
زعموا أنّك اتّقيتني؟ فقال (عليهالسلام) : «لا والله ما اتَّقيتك ، ولكنّي اتَّقيتُ عليك أن
تُضمَّن ، فهل علمَ ذلك أحد؟» قلت : لا ، قال (عليهالسلام) : «فأعطها ما بقي» .
ومنها : د ـ الدسُّ
في الرِّوايات (خصوصاً في العقائد):
اعلم بأنَّه في
زمن الأئمَّة (عليهمالسلام) كانت الروايات تُستنسخُ ، فدسّ أعداؤهم ـ الذين أعرَضوا
عن مذهبِ الهُدى وانتحلوا مذهبَ الضَّلال ـ روايات
__________________
وأحاديث موضوعة
خصوصاً في الأُمور الاعتقاديَّة ، ومن هؤلاء المغيرة بن سعيد ، ففي رجال الكشي عن
أبي الحسن الرضا (عليهالسلام) :
«كان المغيرة بن
سعيد يكذب على أبي جعفر (عليهالسلام) فأذاقه الله حرَّ الحديد».
وعن أبي عبد الله (عليهالسلام) : «لعنَ الله المغيرة بن سعيد إنَّه كان يكذبُ على أبي
فأذاقه الله حرَّ الحديد» .
وعن الصادق (عليهالسلام) : «... فإنَّ المغيرة بن سعيد لعنه الله ، دَسَّ في كتب
أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي ...» .
وعن هشام بن الحكم
أنَّه سمع أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : «كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي ،
ويأخذُ كتبَ أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحابِ أبي ، يأخذون الكتبَ من أصحاب
أبي ، فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسُّ فيها الكفرَ والزَّندقةَ ، ويسندها إلى
أبي ثمَّ يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يثبتوها (يبثّوها خ) في الشيعة. فكلَّما
كان في كتب أصحاب أبي من الغلوِّ فذاك ما دسَّه المغيرة بن سعيد في كتبهم» .
ومن هؤلاء «الخطابية»
ومنهم محمَّد بن مقلاص ، معروف بأبي زينب الأسدي الكوفي (أبو الخطاب) ومنهم محمَّد
بن موسى بن الحسن بن الفرات ، قتله إبراهيم بن شكله.
يقول الإمام الرضا
(عليهالسلام) : «آذاني محمَّد ابن الفرات ، آذاه الله وأذاقه حرَّ
الحديد ، آذاني لعنَه الله ، أذى ما آذى أبو الخطاب لعنه الله جعفر بن محمَّد (عليهالسلام) بمثله ، وما كذب علينا خطابيّ مثل ما كذب محمَّد بن
الفرات ، والله ما من أحد
__________________
يكذبُ علينا إلّا
ويذيقه الله حرَّ الحديد» .
وعن زرارة قال :
قال ـ يعني أبا عبد الله (عليهالسلام) ـ : «إنَّ أهلَ الكوفة قد نزل فيهم كذَّاب ، أمَّا
المغيرة فإنَّه يكذب على أبي ـ يعني أبا جعفر (عليهالسلام) ـ ، قال : حدّثه إنَّ نساء آلِ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا حِضنَ ، قضين الصَّلاة ، وكذب والله ، عليه لعنةُ الله
، ما كان من ذلك شيء ، ولا حدَّثهُ. وأمّا أبو الخطاب فكذب عليَّ ، وقال : إنّي
أمرتُه أن لا يصلّي هو وأصحابه المغربَ حتى يروا كوكب كذا يُقالُ له القندانيّ.
والله إنَّ ذلك لكوكب ما أعرفهُ» .
إلى غير ذلك من
الأحاديث فلتطلب من مظانّها لا سيَّما رجال الكشي.
ومن الوضاعين :
فارس بن حاتم القزوينيّ ، وحسن بن محمّد بن بابا القمّي ، ومحمّد بن نصير النميري وغيرهم في زمن الإمام عليّ بن محمَّد العسكري (عليهالسلام) وغيره ، هذا.
والوضّاعون
الكذّابون عند العامَّة كثيرون وكثيرون ، وقد كتب المحقق الأمينيّ في غديره بحثاً وافياً بعنوان : نظرةُ التنقيبِ في الحديث وسلسلة
الكذابين والوضاعين. وذكر أيضاً أنَّ مجموع ما لا يصحّ من الأحاديث لشرذمة قليلة
فحسب من أُولئك الجمِّ الغفير ، يُقدَّر بأربعمائة وثمانية آلاف وستمائة وأربعة وثمانين
حديثاً (٤٠٨٦٨٤) .
وقال في أواخر
بحثه : «هذا شأنُ من لا يوثقُ به وبحديثهِ عند القوم ، وأمَّا
__________________
من يوصَف بالثِّقة
فهناك مشكلة عويصة لا تنحل ، وتجعل القارئ في بهيتة ، فلا يعرف أيُّ مثقف قطُّ ما
الثقة وما معناها وأيُّ ملكة هي ، وما يراد منها ، وبما ذا تتأتّى ، وأيُّ خلّة
تضادّها وتناقضها ، فهلمَّ معي نقرأ تاريخ جمع نُصَّ على ثقتهم ، نظراء : ... (٢)
عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام السبط الشَّهيد. قال العجليّ : ثقة.
(٣) : عمران بن
حطّان رأس الخوارج صاحب الشّعر المعروف في ابن ملجم المراديّ. وثَّقه العجليّ
وجعله البخاري من رجال صحيحه وأخرج عنه ...» .
وقال أيضاً في
سلسلة الزهّاد الكذّابين : «فمن هنا ترى كثيراً من الوضَّاعين المذكورين بين إمام
مقتدى ، وحافظ شهير ، وفقيه حجَّة ، وشيخ في الرواية ، وخطيب بارع ، وكان فريق
منهم يتعمَّدون الكذب خدمَةً لمبدإ ، أو تعظيماً لإمام ، أو تأييداً لمذهب ، ولذلك
كثر الافتعال ووقع التضارب في المناقب والمثالب بين رجال المذاهب ، وكان من تقصر
يده عن الفرية على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالحديث عنه فإنَّه يبهتُ الناس باختلاق أطياف حول المذاهب
ورجالاتها» .
ومنها ه ـ النقل
بالمعنى مع عدم ضبط الراوي :
إنّ النقل بالمعنى
يوجد اضطراباً في الأحاديث لو لم يكن اللفظ كافياً في إفادة مراد الإمام (عليهالسلام). وكذلك عدم الضبط مع كون الراوي ثقةً ، فتضطربُ الأحاديث
وتتنافى لحذفِ بعض الكلم والجمل الدَّخيلة في فهم الحديث. كما في
__________________
روايات عمَّار
السَّاباطي .
ومنها و ـ :
التَّقية :
فإنَّها تارةً
تكون من السلطان الجائر ، وأُخرى من فقهاء البلدِ ، وثالثة حفظاً لحرمة السَّائل
كما مرَّ.
وظهرت أحاديث
التقية بجلاء ووضوح في عصري الباقر والصادق (عليهماالسلام).
روى في الكافي في
باب اختلاف الحديث في الموثَّق عن زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : سألته عن مسألة فأجابني ، ثمّ جاءه رجل فسأله عنها
فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ،
فلمَّا خرج الرجلان قلت : يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما
يسألان ، فأجبت كلَّ واحد منهما بغير ما أجبتَ به صاحبه؟ فقال (عليهالسلام) : «يا زرارة إنَّ هذا خير لنا وأبقى لكم ، ولو اجتمعتم
على أمر واحد لصدَّقكم النَّاس علينا ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم». قال : ثمّ قلت
لأبي عبد الله
__________________
(عليهالسلام) : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنَّة أو على النار لمضوا ،
وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه» .
وروى في الوسائل
عن يحيى بن عمران أنَّه قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليهالسلام) في السنجاب والفنك والخزِّ ، فقلت : جعلت فداك أحبُّ أن
لا تجيبني بالتقيَّة ، فكتب (عليهالسلام) بخطِّه إليَّ : «صلِّ فيها» .
فالرواية قد تصدر
عن تقيَّة فيسقى ناقلها من جراب النُّورة وقد تصدرُ عن غير تقيَّة فيسقى ناقلها من
عين صافية.
هذا ومن أراد مزيد
الاطّلاع في أحاديث التقيَّة فليراجع كتاب الحدائق الناضرة .
ونكتفي بهذا
البيان الإجمالي في بعض العوامل والأسباب المؤدّية إلى اختلاف وتنافي الروايات.
تمّ الكلام في
مسائل التّقليد وبه تمّت الدّورة الأصولية الثالثة بعون الله تعالى ، وذلك في
صبيحة يوم الاثنين ، الرّابع عشر من شهر ذي القعدة الحرام من شهور عام (١٤١٤) ه ـ ،
في قم المحميّة حرم أهل البيت (عليهمالسلام).
والحمد لله ربّ
العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين
الطّاهرين
الميامين ، واللّعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين
|
نزيل قم المقدَّسة
طعان خليل الموسوي
|
__________________
التعليقات
هذه تعليقات
لمواضع مختلفة من رسالة القول المفيد في الاجتهاد والتقليد علقتها عليها إيضاحاً
للحالِ ولما كان أكثرها مفصّلاً أحببتُ أن أجعلها في آخر الكتاب.
السيد طعان خليل العاملي
التعليقات
تعليقة ص : ١٠ ، س
: ١٨ ـ قوله : ... فَلَيْسَ للأخباريّ أن ينكر الاجتهاد.
الأخباريّ ـ كما
نقله المحقّق القميّ ـ ينكر الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم
الشّرعيّ ، بدعوى انفتاح باب العلم ، حيث إنّ أخبارنا قطعيّة ، فتجب متابعتها ولا
يعمل بالظنّ ، ولا يجوز التّقليد والإفتاء أيضاً ، بل يجب على كلّ فرد الرّجوع إلى
كلام الصّادقين المعصومين ـ عليهمالسلام ـ ومتابعته.
وقيل : إنّ مراد
كلّ من عبّر ـ من أصحابنا ومنهم العلّامة في تهذيبه ـ في تعريف الاجتهاد بتحصيل
الظنّ بحكم شرعيّ هو الظنّ الخاصّ المعتبر ـ الّذي تعبّدنا به الشارع ، وثبتت
حجيّته بالدّليل القطعي ـ وعليه لا وجه لإنكار الاخباريّ الاجتهاد بهذا المعنى ،
فليس استفراغ الوسع هو في تحصيل الظنّ بما هو هو المنهيّ عنه في أكثر من آية.
تعليقة ص : ١٤ ، س
: ١٣ ـ قوله : ... وإقامة الحجَّة مقَامَه.
ذكر أنّه من
الواضح كون المقصود من هذه التعاريف تفسير الاجتهاد في الفقه ، بمعنى استنباط
الأحكام الفرعيّة ، ومن المعلوم أنّ تحديد الاجتهاد ب ـ «تحصيل الحجّة على الحكم
الشرعيّ» يناسب الاجتهاد في علم الأصول المعدّ لتمهيد القواعد وبيان الأدلّة على
الأحكام. فالباحث عن مسألة حجيّة خبر الثقة أو العدل مثلاً ـ من خلال إقامة الأدلة
القطعيّة على الحجية من الآيات والروايات وسيرة العقلاء ونحوها ـ يستفرغ وسعه في
تحصيل الحجّة كخبر الثقة مثلاً على الحكم الشرعيّ. وقد عرّف علم الأُصول بأنّه : «علم
بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة» والقواعد هي الحجج على الأحكام الشرعية
، مع أنّ الاجتهاد في الفقه هو تحصيل الحكم الفرعيّ من الدّليل بعد الفراغ عن
إثبات دليليّته في علم الأُصول ، وليس هو تحصيل الدّليل على الحكم.
تعليقة ص : ١٥ ، س
: ١٣ ـ قوله : ... كما في مجاري الأُصول.
أي العقليّة دون
الأصول العمليّة الشرعيّة بناءً على كونها أحكاماً ظاهريّة ، هذا وأورد على تعريف
الاجتهاد بالملكة : بامتناع تعريف ما يكون من مقولة بمقولة أُخرى ، إذ الاجتهاد «افتعال»
وهو نفس استنباط الحكم من دليله ، وليس ملكة حتى يكون استخراج الأحكام من أدلّتها
أثراً لها ، كما في مثل ملكة الشجاعة أو العدالة أو السخاوة من الملكات الخلقيّة
الحاصلة من الأفعال المسانخة لآثارها ، فالشّجاع بعد تكرّر مصاديق الشّجاعة منه
كمنازلة الأبطال والإقدام في المخاطر والمخاوف ، تحصل له ملكة الشّجاعة ، وبعد
حصولها تكون الأفعال الصّادرة منه آثاراً لتلك القوّة الرّاسخة في نفسه ، ومسانخة
للأفعال السّابقة على حصول وتحقّق الملكة ، فما سبق منه من الأفعال وما تأخّر ـ بعد
حصول الملكة ـ متماثلان. وهذا بخلاف الاجتهاد الّذي هو استنباط الأحكام الفرعيّة
المتوقّف ـ والمتّأخر عن حصول الملكة ـ على الاستنباط المنوطة بإتقان مبادئ
الاجتهاد ـ وأهمّها علم الأصول ـ الدّخيلة في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ.
فالعمل والاستنباط متأخّران عن الملكة من غير أن يكون لهما دخل في حصول ملكة
الاستنباط ، وعليه لا وجه لدعوى الملازمة بين حصول الملكة (ملكة الاستنباط) وبين
الاستنباط الخارجيّ ، فإنّ صاحب الملكة قد لا يتصدّى لاستخراج الأحكام الشرعيّة
ومعرفتها كما لو
اختار الاحتياط في أعماله. وعلى ما تقدّم من كون الاجتهاد من مقولة الفعل والملكة
من مقولة الكيف النفسانيّ أو غيرها ، لا وجه لتعريفه بالملكة ، إذ لا معنى لتعريف
شيء بما يباينه ، والمقولات متباينة وأجناس عالية.
تعليقة ص : ١٥ ، س
: ١٥ ـ قوله : ... يوجب اتّحاد تعريفه مع تعريف الفقه.
قال صاحب المعالم
عند افتتاحه عنوان بحثه بتعريف الفقه : «الفقه في اللّغة مطلق الفهم. وفي الاصطلاح
: العلم بالأحكام الشّرعية الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية.
هذا والعلم
بالأحكام الشرعية أعمّ من كونه علماً بالحكم الواقعي والظّاهري والثاني كما لو كان
الطريق إلى الواقع ظنيّاً. وظنيّة الطريق لا تنافي علميّة الحكم الظاهريّ ، أو أن
يراد من العلم ما هو أعمّ منه ومن الظنّ وهو ترجيح أحد الطرفين.
قال في المعالم : «هذا
الاستعمال شائع لا سيّما في باب الأحكام الشرعيّة ، فإنّه كثيراً ما يقال : حصل
العلم بالحكم الفلانيّ ويراد به رجحان ذلك الحكم في النّظر».
تعليقة ص : ١٦ ، س
: ١٢ ـ قوله : ... كما في موارد الأُصول العقليَّة.
مع القطع بأحد هذه
الأُمور لا يمكنه تقليد غيره ، لأنّه مع الاعتقاد برأي الغير ، لا معنى للتّقليد ،
ومع عدمه يكون من باب رجوع العالم إلى الجاهل وهو ممنوع.
تعليقة ص : ١٨ ، س
: ٦ ه ـ ٣ تتمَّة كلام صاحب تنقيح المقال حول إسحاق ...
قال : ويستفاد من
توقيعه ـ عليهالسلام ـ هذا ، جلالة الرّجل وعلوّ رتبته ، وكونه هو الرّاوي غير
ضائر بعد تسالم المشايخ على نقله ـ انتهى ـ وقيل لإثبات اعتبار آراء الفقهاء ـ إضافة
إلى نقلهم الرّوايات ـ بهذا الحديث : أنّه بناءً على عموم لفظ «الحوادث» إمّا
بنفسه بمعنى كون أداة التعريف للاستغراق ، وإمّا بمقتضى التعليل ، لو كانت أداة
التعريف للعهد إلى خصوص الحوادث التي سألها إسحاق بن يعقوب ، والتعليل هو قوله ـ عليهالسلام ـ : «فإنّهم حجّتي عليكم» ، فبناء على عموم «الحوادث»
للسؤال عن الشبهة الحكميّة ، يدلّ التّوقيع على حجيّة فتاوى الفقهاء أيضاً ، كما
يدلّ على حجيّة رواياتهم ، وذلك لأنّ الحادثة المسئول عن حكمها ربّما لا تكون
منصوصة حتّى يجيب الفقيه السّائل بقراءة ألفاظ الحديث ، فلا بدّ أن يشمل هذا
التوقيع حجيّة
جواب رواة الأحاديث مطلقاً سواء كان الجواب بقراءة نصّ الحديث أو كان بالاجتهاد
وإعمال النظر. ولعلّ النّكتة في التعبير ب ـ «رواة أحاديثنا» دون التعبير ب ـ «العلماء
والفقهاء» هي التنبيه على أنّ علماء الفرقة المحقّة ليس لهم رأي من عند أنفسهم في
قبال الأئمة المعصومين ـ عليهمالسلام ـ.
تعليقة ص : ١٨ ، س
: ٨ ـ قوله : ... والظاهر شمولها (السِّيرة).
فيه أوّلاً ـ كما
قيل ـ من أنّ الثابت ببناء العقلاء وديدنهم ، أنّ الّذي يجوز له الرّجوع هو الجاهل
المحتاج إلى عمل لا يعرف حكمه ولا كيفيّة إيجاده ، وهو العامّي المحض العاجز عن
الاستنباط وفهم مداليل الأدلّة والحجج المجعولة ، واستعمالها والفحص عن المخصّصات
والمقيدات والمعارضات ، وتشخيص المقيّد والمخصّص والجمع بين المتعارضات.
وثانياً : إنّ
الإطلاق والتّقييد من شئون الدّليل اللفظيّ لا اللبيّ ، والسيرة من الثاني ، فلا
يمكن إذن أخذ الإطلاق منها بدون القطع به ، والتمسّك بالإطلاق فرع ثبوته ووجوده.
وعليه : فإثبات جواز الرّجوع ـ للقادر على الاستنباط ـ إلى الغير ، بالسيرة ، هو
من قبيل إثبات حكم لمورد ما بدليل أو حجّة يشكّ شمولهما للمورد وهو باطل. حينئذ
يبقى عموم الآيات النّاهية عن العمل بالظنّ شاملاً للقادر على الاستنباط وإن لم
يستنبط فعلاً ، لإمكانه من تحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ إمّا بالعلم الوجداني ،
أو التعبديّ ، فإنّ العمل على طبق فتوى الغير أقصى ما يفيد الظنّ بالواقع ،
والرّجوع إليه عمل بما وراء العلم. فلا موجب للعذر والأمن من العقوبة عقلاً بحيث
يحكم بالإجزاء ، ومع حصول الشكّ في الفراغ يحكم العقل بلزوم الاستنباط الفعليّ ،
والمقام من صغريات التّعيين والتّخيير في الحجّية ـ بعد العلم الإجماليّ بالأحكام
المنجّزة ـ ، وعليه فالمرجع هو قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم الأخذ بما هو مقطوع
الحجّية.
هذا إضافة إلى عدم
نقل الجواز عن أحد من العلماء إلّا المنسوب إلى السيّد المجاهد صاحب المناهل (ره)
كما عن الشيخ (ره) في رسالته ، وقد تقدّم في المتن.
تعليقة ص : ١٩ ، س
: ٢ ـ قوله : ... إنّ الرجوعَ تارة يكون مباشرة وأُخرى بلا مباشرة.
المحكيّ عن الشيخ
الأنصاريّ (ره) في رسالته : دعوى انصراف الأدلّة النقليّة عمّن له ملكة الاجتهاد ،
والمذكور في رسالة الاجتهاد والتقليد للمحقّق الأصفهاني (ره) عدم المعنى
لإطلاق تلك
الأدلّة بالنسبة إلى المتمكّن من الاستنباط ، لأنّ أدلّة الأحكام الشرعية شاملة
لمثل هذا الشخص ، فالأحكام الواقعيّة منجّزة في حقّه من طريق الامارات المعتبرة
لتمكّنه من الاستفادة منها. هذا ولا أقلّ من إجمال الدّليل بالنسبة إليه واحتمال
حرمة التقليد عليه ، فاللّازم هو الاحتياط ، ولا تصل النوبة إلى تقليد الغير ـ كما
قيل ـ.
تعليقة ص : ١٩ ، س
: ٦ ـ قوله : تعيّنُ رجوعه إلى اجتهاد نفسهِ مع كون ...
قيل : إنّ رجوعه
إلى من يحتمل انكشاف خطئه إذا راجع الأدلّة إن لم يكن قاطعاً بأنّه لو راجع
الأدلّة لخطّأه في كثير من استدلالاته ـ مع تحقّق العلم الإجمالي بالأحكام ـ يكون
من قبيل الرّجوع إلى الجاهل ـ باعتقاده ـ لأنّه قد يرى خطأه ، وعليه : لا يمكن
إحراز خروجه عن عهدة التكليف لعدم إحراز كون عمله على طبق الحجّة الشرعيّة ،
فالمرجع في المقام هو أصالة الاشتغال والاحتياط.
تعليقة ص : ١٩ ، س
: ١٣ ـ قوله : ... ومثل هذا العلم غير منجَّز في باب ...
فيه : أنّه مصادرة
، حيث إنّ حجيّة رأي الغير في حقّه أوّل الكلام ـ كما قيل ـ والأصل عدم الحجيّة
ولما تقدّم في التعليقة السابقة ، من انصراف الأدلّة عمّن له ملكة الاجتهاد وإن لم
يستنبط فعلاً ، ولاحتمال تخطئته للغير : إذن لا يمكن تحصيل المؤمِّن والمعذِّر ،
لعدم إحراز كون رجوعه إلى الغير على طبق الحجّة الشرعية.
تعليقة ص : ٢١ ، س
: ١٩ كلام صاحب الكفاية في عدم جواز الرجوع إلى ...
كفاية الأُصول : ٢
/ ٤٢٤ ـ ٤٢٥. وقيل : إنّ الإشكال إنمّا يتوجّه إذا كان دليل التقليد هو المقبولة
ونحوها ، ممّا اعتبر في الموضوع عنوان العارف بأحكامهم ـ عليهمالسلام ـ. فالانسداديّ ـ بناءً على الحكومة ـ خارج عن عنوان «العالم»
الّذي هو موضوع أدلّة التقليد ، لاعترافه بعدم علمه بالأحكام إذ لا طريق له إليها
من العلم والعلميّ ، ولا أقلّ من الشك في حجيّة رأيه على الغير والمرجع هو أصالة
عدم الحجيّة. هذا ونوقش ـ بناءً على الكشف ـ أيضاً من عدم كون الظنّ المطلق كالظنّ
الخاصّ محرزاً للواقع ليصير الظنّ المطلق بمقتضى أدلّة التقليد حجّة في
حقّ غير
الانسداديّ أيضاً وذلك للفارق بين الظنّ الخاصّ والمطلق ـ بناء على الكشف ـ حيث
إنّ دليل اعتبار الظنّ الخاصّ مطلق كآية النبأ ، فإنّها على تقدير دلالتها على
حجيّة خبر العادل لا تدلّ على تقيّد حجيّته بقيد وبشخص دون آخر ، وهذا بخلاف الظن
المطلق فإنّ حجيّته منوطة بالانسداد المتوقّف على المقدمات ، فمن تمّت عنده هذه
المقدّمات يثبت له اعتبار الظنّ دون من لم تتمّ له كالعامّي ، إذ من مقدّماته
بطلان التقليد والاحتياط وهما غير ثابتين للجاهل العامّي لإمكانه تقليد من يرى
انفتاح بابي العلم والعلميّ.
هذا ولو كان دليل
التقليد غير المقبولة ونحوها ، بل السيرة العقلائية فإنّه مع فرض كون الانسداديّ
أعلم من غيره ، فالسيرة قائمة على تقديم قوله على غيره حتى لو كان قائلاً بالحكومة
، مع تماميّة المقدّمات عند العاميّ بلزوم تقليد الأعلم في مورد العلم بالمخالفة ـ
كما قيل ـ.
تعليقة ص : ٢٤ ، س
: ٢ ملاحظة الشيخ الأُستاذ على السيّد الخوئي (ره).
قال السيّد
الخوئيّ (ره) في التنقيح : ١ / ٢٥٠ «... إنّ تشخيص صغريات القاعدتين (قبح العقاب
بلا بيان وصحته وتنجّز الواقع) أو كبراهما ليس من الأحكام الشرعيّة ليكون العلم
بها تفقّهاً في الدّين ، وإنمّا هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الاطّلاع
فإنّه الّذي جرت عليه السّيرة.
هذا وقد قيل : إنّ
أدلّة التقليد ممّا لا تنحصر بالآيات والرّوايات كي يدّعى أنّها تجوّز الرّجوع إلى
العالم بالأحكام الشرعية لا الجاهل بها ، والمجتهد الانفتاحي في تلك الموارد هو
جاهل بها كالانسدادي عيناً ، بل عمدة أدلّتها هي سيرة العقلاء وهي مستقرة على
الرّجوع إلى أهل الخبرة من كلّ فنّ لا إلى خصوص العالم بالأحكام الشرعية ،
والانفتاحيّ هو ممّن يصدق عليه عنوان أهل الخبرة حتّى في الموارد التي يكون المرجع
فيها الأُصول العقليّة دون الشرعية».
تعليقة ص : ٢٨ ، س
: ١٤ ه ـ ٤
قال الشيخ (ره) في
كتاب العدّة : ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ، في آخر فصل في ذكر خبر الواحد : «إنّا وجدنا
الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثّقت الثقات منهم وضعّفت الضعفاء ،
وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يُعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح
منهم وذمّوا
المذموم ، وقالوا : فلان متهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلّط ، وفلان مخالف
في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها
، وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرّجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم
، حتّى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً طعن في اسناده وضعفه بروايته ، هذه عادتهم
على قديم وحديث لا تنخرم. والمقصود من استثناء الرجال ـ كما في حاشية العدّة ـ التصانيف
التي رواها الرّجال مثل ما روي عن ابن الوليد أنّه قال : «ما تفرّد به محمّد بن
عيسى من كتب يونس لا يعتمد عليه». انتهى فلاحظ.
تعليقة ص : ٣٤ ، س
: ١٠ ـ قوله : ... وإن كان كثيراً في حدِّ نفسه.
قال السيّد الخوئي
(ره) في مباني تكملة المنهاج : ١ / ٨ ، حول ما قد يستدلّ على نصب القاضي ابتداءً
والمراد به هو المجتهد العالم بالأحكام من الكتاب والسنة : «ثمّ إنّ قوله ـ عليهالسلام ـ : «يعلم شيئاً من قضايانا» لا يراد به العلم بشيء ما ،
فإنّ علومهم ـ عليهالسلام ـ لا يمكن لأحد الإحاطة بها ، فالعالم بالأحكام ـ مهما بلغ
علمه ـ فهو لا يعلم إلّا شيئاً من قضاياهم ، فلا بدّ من أن يكون ذلك الشيء مقداراً
معتداً به حتّى يصدق عليه أنّه يعلم شيئاً من قضاياهم ، والمراد به هو المجتهد
العالم بالأحكام من الكتاب والسنة» انتهى.
فائدة : نقل أنّ
صاحب الجواهر (قده) لمّا اشتدّت عليه سكرات الموت قال بعد ما أفاق من الإغماء :
رأيت ملكاً يقول لملك الموت : أرفق وألطف به ، فإنّ عنده شيئاً من علم جعفر ـ عليهالسلام ـ ، ومن المعلوم أنّ الشّيء الذي كان عنده ـ قدّه ـ كان
كثيراً في نفسه لكنّه كان شيئاً من علم جعفر ـ عليهالسلام ـ.
تعليقة ص : ٣٥ ، س
: ٩ ـ قوله : ... إنَّما هو في قاضي التَّحكيم دون المنصوب.
مباني تكملة
المنهاج : ١ / ٨ ـ ٩ ، وقال (ره) : «ويؤكد ذلك أنّ قوله ـ عليهالسلام ـ : «يعلم شيئاً من قضايانا» لا دلالة فيه بوجه على اعتبار
الاجتهاد ، فإنّ علومهم ـ عليهمالسلام ـ وإن لم تكن قابلة للإحاطة بها إلّا أنّ قضاياهم وأحكامهم
في موارد الخصومات قابلة للإحاطة بها ولا سيّما لمن كان في عهدهم ـ عليهمالسلام ـ ، وعليه فمن كان يعلم شيئاً من قضاياهم ـ عليهمالسلام ـ يجوز للمترافعَين أن يتحاكما إليه ، وينفذ حكمه فيه وإن
لم يكن مجتهداً وعارفاً بمعظم الأحكام». هذا
واختار (ره) عدم
اعتبار الاجتهاد في قاضي التحكيم حيث قال (ره) : «وأمّا قاضي التحكيم فالصحيح أنّه
لا يعتبر فيه الاجتهاد خلافاً للمشهور ...».
تعليقة ص : ٤٨ ، س
: ١٢ ملاحظة الشيخ الأُستاذ على كلام المحقّق ...
الظاهر أنّ مراده (ره)
من العلم بالأحكام الشرعية الفرعيّة في زماننا هو الحاصل عن الأدلة التفصيليّة ،
سواء كان وجدانيّاً أم تعبّدياً ، فلا حظّ للمقلّد منه.
تعليقة ص : ٥١ ، س
: ٤ ملاحظة الشيخ الأُستاذ على ما أفادَهُ الإمام الخميني (ره) ...
قال الإمام
الخميني (ره) في تهذيب الأُصول : ٢ / ٥٣٢ بعد ذكر صحيحة سليمان بن خالد التي تلت
إيراده (ره) على الاستدلال بالمقبولة : «وعلى أي حال ، فالصحيحة ظاهرة في اختصاص
ذلك المنصب للأنبياء وأوصيائهم ، والفقهاء إمّا داخلون [داخل] تحت قوله : أو وصيّ
نبيّ ، بحكم الرّوايات ، أو خارجون [خرجوا] عن الحصر (فإنّ الحكومة إنمّا هي
للإمام ...) بالأدلة الماضية ، ويبقى [وبقي] الباقون تحت المنع ، على أنّ الشك في
جواز نصب النبيّ العاميَّ كاف في عدم جواز نصب الفقيه إياه للقضاء ، إذ من الممكن
اشتراط الفقاهة مع عدم إطلاق يصحّ الاتكالُ عليه». انتهى.
تعليقة ص : ٥٤ ، س
: ٨ ـ قوله : ... ما قيل أو يمكن أن يقال في المسألة ...
راجع كتاب البيع :
٢ / ٤٥٩ ـ ٤٨٩ للإمام الخميني (ره) وكذلك مصباح الفقاهة : للسيّد الخوئي (ره) ٥ /
٣٤ ـ ٥٣ والتنقيح في شرح العروة الوثقى للسيّد الخوئي (ره) : ١ / ٤١٩ ـ ٤٢٥ ومستند
العروة الوثقى للسيّد حسن الحجّة الكوه كمري : ١٩٨ ـ ٢٠٩ ، وإرشاد الطالب إلى
التعليق على المكاسب للميرزا الشيخ جواد التبريزي : ٣ / ٢٦ ـ ٤٢.
تعليقة ص : ٥٥ ، س
: ٩ ملاحظة الشيخ الأُستاذ حول استفادة الإمام الخميني (ره) ...
هذا ولا بأس
بالتعرّض إلى ما ذكره الإمام الخميني (ره) عند بحثه عن مفاد المقبولة ، ليزداد
الأمر وضوحاً ، فإنّه بعد ما بيّن شمول الحكم للقضاء الّذي هو شأن القاضي ، والحكم
من الولاة والأمراء قال : ثمّ إنّ قوله ـ عليهالسلام ـ : «منازعة في دين أو ميراث» لا شبهة في شموله للمنازعات
التي تقع بين
الناس فيما يرجع فيه إلى القضاة ، كدعوى أنّ فلاناً مديون وإنكار الطرف ، ودعوى
أنه وارث ونحو ذلك ، وفيما يرجع فيه إلى الولاة والأمراء كالتنازع الحاصل بينهما
لأجل عدم أداء دينه أو إرثه بعد معلوميته ، وهذا النحو من المنازعات مرجعها
الأمراء ، فإذا قتل ظالم شخصاً من طائفة ، ووقع النزاع بين الطائفتين ، لا مرجع
لرفعه إلّا الولاة ، ومعلوم أنّ قوله «في دين أو ميراث» من باب المثال ، والمقصود
استفادة التكليف في مطلق المنازعات ، واستفسار المرجع فيها ، ولهذا أكّد الكلام
لرفع الإبهام بقوله : «فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة» ومن الواضح عدم تدخّل
الخلفاء في ذلك العصر ، بل مطلقاً في المرافعات التي ترجع إلى القضاة وكذلك العكس.
فقوله ـ عليهالسلام ـ : «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى
الطاغوت» انطباقه على الولاة أوضح ، بل لو لا القرائن لكان الظاهر منه خصوص الولاة
، وكيف كان لا إشكال في دخول الطغاة من الولاة فيه ، سيّما مع مناسبات الحكم
والموضوع ، ومع استشهاده بالآية التي هي ظاهرة فيهم في نفسها ، بل لو لا ذلك يمكن
أيضاً أن يقال بالتعميم ، للمناسبات المغروسة في الأذهان ، فيكون قوله بعد ذلك : «فكيف
يصنعان؟» استفساراً عن المرجع في البابين ، واختصاصه بأحدهما سيّما بالقضاة في
غاية البعد لو لم نقل بأنّه مقطوع الخلاف. وقوله ـ عليهالسلام ـ «فليرضوا به حكماً» تعييناً للحاكم في التنازع ، فليس
لصاحب الحقّ الرّجوع إلى ولاة الجور ولا إلى القضاة ، ولو توهِّم من قوله ـ عليهالسلام ـ : «فليرضوا» اختصاصه بمورد تعيين الحكم ، فلا شبهة في
عدم إرادة خصوصه ، بل ذكر من باب المثال ، وإلّا فالرجوع إلى القضاة الّذي هو
المراد جزماً لا يعتبر فيه الرضا من الطرفين.
فاتّضح من جميع
ذلك أنّه يستفاد من قوله ـ عليهالسلام ـ : «فإنّي قد جعلته حاكماً» أنّه ـ عليهالسلام ـ قد جعل الفقيه حاكماً فيما هو من شئون القضاء وما هو من
شئون الولاية ، فالفقيه وليّ الأمر في البابين ، وحاكم في القسمين ، سيّما مع
عدوله ـ عليهالسلام ـ عن قوله «قاضياً» إلى قوله «حاكماً» فإنّ الأوامر أحكام
، فأوامر الله ونواهيه أحكام الله تعالى ، بل لا يبعد أن يكون القضاء أعمّ من قضاء
القاضي وأمر الوالي وحكمه ، قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ ...) الأحزاب ـ ٣٦).
وكيف كان لا ينبغي
الإشكال في التعميم. بل يمكن الاستشهاد بأنّ المراد من القضاء المربوط بالقضاة غير
ما هو مربوط بالسلطان ، بمشهورة أبي خديجة «... فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ،
وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر».
فإنّ الظاهر من
صدرها إلى قوله ـ عليهالسلام ـ «قاضياً» هي المنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة ، ومن
تحذيره بعد ذلك من الإرجاع إلى السلطان الجائر ، وجعله مقابلاً للأوّل بقوله ـ عليهالسلام ـ : «وإيّاكم ...» هي المنازعات التي يرجع فيها إلى السلطان
لرفع التجاوز والتّعديّ لا لفصل الخصومة. انتهى (كتاب البيع : ٢ / ٤٧٩ و ٤٨٠).
هذا وإنّ الإمام
الخميني (ره) جعل العمدة في لزوم الحكومة والولاية هو حكم العقل ، وأنّ ما هو دليل
الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة وليّ الأمر ـ عجل الله فرجه الشريف
ـ قال (ره) في كتاب البيع : ٢ / ٤٦١ : «إنّ الأحكام الإلهيّة سواء الأحكام
المربوطة بالماليات أو السياسيّات أو الحقوق لم تنسخ ، بل تبقى إلى يوم القيامة ،
ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهيّ
وتتكفّل لإجرائه ، ولا يمكن إجراء أحكام الله إلّا بها ، لئلّا يلزم الهرج والمرج
، مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأكيدة ، واختلال أمور المسلمين من الأمور
المبغوضة ، ولا يقوم ذا ، ولا يسدّ عن هذا إلّا بوال وحكومة. مضافاً إلى أنّ حفظ
ثغور المسلمين عن التهاجم وبلادهم عن غلبة المعتدين واجب عقلاً وشرعاً ، ولا يمكن
ذلك إلّا بتشكيل الحكومة ، وكلّ ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون ، ولا يعقل
ترك ذلك من الحكيم الصانع ، فما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة ،
بعد غيبة وليّ الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) سيّما مع هذه السنين المتمادية
... فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الملّة الإسلاميّة وعدم تعيين تكليف لهم؟
أو رضي الحكيم بالهرج والمرج واختلال النّظام؟ ولم يأت بشرع قاطع للعذر لئلّا تكون
للنّاس عليه حجّة.
وما ذكرناه وإن
كان من واضحات العقل ، فإنّ لزوم الحكومة لبسط العدالة والتعليم والتربية وحفظ
النظم ورفع الظلم وسدّ الثغور والمنع عن تجاوز الأجانب من أوضح أحكام العقول من
غير فرق بين عصر وعصر أو مصر ومصر ، ومع ذلك فقد دلّ عليه الدّليل الشرعيّ أيضاً
...».
وقال (ره) في ص
٤٦٤ : «أمّا في زمان الغيبة فالولاية والحكومة وإن لم تجعل لشخص خاصّ ، لكن يجب
بحسب العقل والنقل أن تبقيا بنحو آخر لما تقدّم من عدم إمكان إهمال ذلك ، لأنّهما
ممّا تحتاج إليه الجامعة الإسلامية ...» وقال (ره) في ص ٤٦٦ : «فالعقل والنقل
متوافقان في أنّ الوالي لا بدّ وأن يكون عالماً بالقوانين وعادلاً في النّاس وفي
إجراء الأحكام ، وعليه فيرجع أمر الولاية إلى الفقيه العادل وهو الّذي يصلح لولاية
المسلمين ...» انتهى المراد من
كلامه (ره).
تعليقة ص : ٥٧ ، س
: ١٥ الثَّاني ـ قوله : ... وربَّما يزيد في العسر والحرج.
أجيب عنه بأنّ :
المسافرة إلى المجتهد ليست من الأمور التي لا تعرف سهولتها وصعوبتها كما لا يخفى.
تعليقة ص : ٥٨ ، س
: ٣ الرابع ـ قوله : ... مِن قبيل دوران الأمر ...
قيل : إنّ المقصود
بيان تكليف المجتهد وأنّه بأيّ شيء يفتي لا تكليف المقلّد ، فإنّه يجب استظهار
الحال من السؤال عن المجتهد الناصب على أيّ حال ، والظاهر أنّ المرجع فيه نظر
الناصب ، ولو للقاعدة المشار إليها من الأخذ بالقدر المتيقّن ، أو لأنّ الطرق
المخالفة لرأيه غير فاصلة للقضاء كما هو الشأن في جميع الأُمور المختلفة.
تعليقة ص : ٥٨ ، س
: ١٠ السَّابع ـ قوله : ... وأمّا عدم جواز نقضهِ وعدم ...
قيل : إنّ العقل
إنمّا يستقل بأنّ قضاء المقلّد في جميع الفروض المتقدمة ، فائدته رفع الفتنة
والفساد ومحافظة الحقوق فحسب ، وأمّا حرمة النقض أو عدم جواز تجديد المرافعة ، فهي
أُمور ثابتة من الأدلّة الشرعية.
تعليقة ص : ٥٨ ، س
: ١٥ ـ قوله : ... واختلال النّظام.
الأُمور السّبعة
المذكورة في التنبيه مقتبسة من رسالة القضاء للميرزا حبيب الله الرشتي (ره) الجزء
الأوّل باب : ما يختصّ بأحكام المقلّد المنصوب للقضاء (ص ٦٠ ـ ٦١ ـ ٦٢ ـ ٦٣).
تعليقة ص : ٩٢ ، س
: ١٧ ـ قوله : الميزَة الثانية من حكم الحاكم الإسلاميّ.
قال الإمام
الخميني (ره) في تحرير الوسيلة ـ ج (١) كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ختام
فيه مسائل ـ مسألة (٢) / ٤٨٢ :
في عصرِ غيبَة
وليّ الأمر وسلطان العصر عجَّل الله فرجه الشريف يقوم نوّابُه العامَّة
ـ وهم الفقهاء
الجامعُونَ لشرائط الفتوى والقضاء ـ مقامَه في إجراء السِّياسات وسائر ما للإمام ـ
عليهالسلام ـ إلّا البدأة بالجهاد.
وقال (ره) في كتاب
البيع : ٢ / ٤٦٧ : فللفقيه العادل جميع ما للرّسول والأئمة ـ عليهمالسلام ـ ممّا يرجع إلى الحكومة والسّياسة ، ولا يعقل الفرق لأنّ
الوالي ـ أيّ شخص كان ـ هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهيّة ، والآخذ
للخراج وسائر الماليّات والمتصرّف فيها بما هو صلاح المسلمين ، فالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يضرب الزّاني مائة جلدة ، والإمام ـ عليهالسلام ـ كذلك والفقيه كذلك ، ويأخذون الصّدقات بمنوال واحد ، ومع
اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي وتجب إطاعتهم». وقال (ره) في
موضع آخر ص ٤٨٩ : «ما ثبت للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام ـ عليهالسلام ـ من جهة ولايته وسلطنته ثابت للفقيه ، وأمّا إذا ثبت لهم
ـ عليهمالسلام ـ من غير هذه النّاحية فلا ، فلو قلنا بأنّ المعصوم ـ عليهالسلام ـ له الولاية على طلاق زوجة الرّجل أو بيع ماله ، أو أخذه
منه ولو لم يقتض المصلحة العامّة لم يثبت ذلك للفقيه». وقال (ره) : في ص ٤٦٦ : «ولا
يلزم من ذلك أن تكون رتبتهم كرتبة الأنبياء أو الأئمة ـ عليهمالسلام ـ فإنّ الفضائل المعنويّة أمر لا يشاركهم ـ عليهمالسلام ـ فيه غيرهم». وقال (ره) في ص ٤٩٦ و ٤٩٧ : «إنّ للفقيه
جميع ما للإمام ـ عليهالسلام ـ إلّا إذا قام الدّليل على أنّ الثابت له ـ عليهالسلام ـ ليس من جهة ولايته وسلطنته ، بل لجهات شخصيّة تشريفاً له
، أو دلّ الدّليل على أنّ الشيء الفلاني وإن كان من شئون الحكومة والسّلطنة ، لكن
يختصّ بالإمام ـ عليهالسلام ـ ولا يتعدّى منه ، كما اشتهر ذلك في الجهاد غير الدّفاع ،
وإن كان فيه بحث وتأمُّل.
تعليقة ص : ٩٦ ، س
: ٦ ـ قوله : الرابع ... لعدم التفاوت بين الاجتهادَين ...
قيل : البحث هنا
في جهة كشف الامارة عن الواقع لا في جهة حجيّتها ، وجهة الكشف عن الواقع لا تصلح
للجعل والتعبّد ، لأنّه (الكشف) من الأُمور الحقيقيّة الوجدانيّة ، وما هو صالح
لهما إنمّا هو جهة الحجيّة لعدم المنع عقلاً من تنزيل الامارة الغير التّامة الكشف
عن الواقع ، منزلة القطع في الحجّية.
وما يمكن أن يقال
من أنّ لوازم الامارات واجبة الاتّباع ، فحينئذ إذا دلّت الامارة على حكم
فبالملازمة يحرم نقيضها الّذي هو مدلول الامارة الأُخرى ، مدفوع ، بأنّ ذلك إنمّا
هو في ظرف إحراز الامارة لا قبل إحرازها ، فإنّ حجيّة الدّليل تابعة لإحرازه
ووصوله ، وقد أُحرز سابقاً ،
فلا معنى لسقوطه
عن الحجيّة في ظرف إحرازه ، ثمّ بعد العثور على الدّليل اللّاحق ، كان هو الحجّة
في حقّه لأنّه المحرز فعلاً.
تعليقة ص : ٩٧ ، س
: ٧ ـ قوله : ... كما في مورد «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس».
خصّ الشّيخ
النائيني (ره) حديث «لا تعاد» بالنّاسي وحكم بعدم شموله للجاهل بدعوى أنّ الجاهل
بوجوب شرط أو جزء التارك له ، عامد ، ومن المعلوم أنّ العامد مخاطب بخطاب (اقرأ) ،
مثلاً : إن كانت السورة واجبة وقد تركها والمخاطب بخطاب أعد أو لا تعد هو الناسي
بعد التفاته إذ يستحيل انبعاثه نحو العمل حال نسيانه ـ قال السيد الخوئي (ره) ـ ولكن
أجبنا عن هذا سابقاً في محلّه بأنّ الجاهل وإن كان قسماً من العامد فلا يخاطب
بالخطاب المذكور حينما هو تارك ، إلّا أنّه بعد فراغه عن العمل أو بعد تجاوز محلّ
التدارك لا مانع من توجيه هذا الخطاب إليه وهذا ظاهر. (الرأي السّديد في الاجتهاد
والتقليد والاحتياط والقضاء ، تقريراً لأبحاث آية الله السيّد الخوئي (ره) بقلم
الشيخ عرفانيان : ٢٢).
تعليقة ص : ١٠٦ ،
س : ١٣ ـ قوله : ... وصار الأساس في الفتوى والحكم ...
يقول السيّد محمّد
رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار ـ ج ٢ ص ٨٢ وما بعدها ،
نقلاً عن أستاذه الشيخ محمّد عبده : ولما تصدّى بعض العلماء في القرن الثاني
والثالث لاستنباط الأحكام واستخراج الفروع من أصولها ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ كانوا
يذكرون الحكم بدليله على هذا النمط ، فهم متفقون مع الصحابة والتابعين على أنّه لا
يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدّين ما لم يعرف دليله ويقتنع به.
قال الأُستاذ
الإمام في الدّرس :
إنّه نقل عن
الأئمة الأربعة النّهي عن الأخذ بقولهم من غير معرفة دليلهم والأمر بترك أقوالهم
لكتاب الله أو سنّة رسوله إذا ظهرت مخالفة لهما أو لأحدهما. وقد سبق لنا في المنار
إيراد كثير من هذه النصوص عنهم معزوّة إلى كتبها ورواتها. ـ ثمّ سرد في المنار
العديد من ذلك ومنه ما قال ـ : في روضة العلماء قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولاً
وكتاب الله يخالفه؟ قال : اتركوا قولي لكتاب الله ، فقيل : إذا كان خبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يخالفه؟ فقال : اتركوا قولي لقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقيل : إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال : اتركوا قولي
لقول الصحابة ـ ثمّ قال في المنار ـ وبعد هذا
كلّه جاء الكرخيّ
يقول : إنّ الأصل قول أصحابهم فإن وافقته نصوص الكتاب والسنّة فذاك وإلّا وجب
تأويلها ، وجرى العمل على هذا ، فهل العامل به مقلّد لأبي حنيفة أم الكرخي؟ ...
وعن مالك بن أنس :
إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي ، فكلّ ما وافق الكتاب والسنّة فخذوه ،
وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه ، ثمّ حذا المنتسبون إلى هذا الإمام
الجليل حذو المنتسبين إلى أبي حنيفة ، فهل هم على مذهبه وطريقته القويمة؟ وأمّا
الإمام الشافعيّ والإمام أحمد فالنّصوص عنهما في هذا المعنى أكثر ... (انتهى).
تعليقة ص : ١٢١ ،
س : ٣ ـ قوله : التقليد اصطلاحاً ـ ج ـ كلام المحقّق الخراساني.
وقيل : «قد يجعل
المانع من تفسيره بالعمل محذور الدّور ، ضرورة سبق كلّ متوقّف عليه ، على ما
يتوقّف عليه ، فلو توقفت صحّة العمل على التقليد لم يعقل أن يكون هو بنفسه محقّقاً
لعنوان التّقليد ، وإلّا لزم توقّف الشّيء على ما ينتزع عنه ، المتأخّر عنه وهو
محال. وهذا وإن كان وجهاً للقائل بالالتزام ، إلّا أنّ الظّاهر من تعليل الماتن
بقوله : «وإلّا لكان بلا تقليد ... النّظر إلى محذور خلوّ العمل الأوّل عن تقليد
لا هذا ، وإلّا كان عليه أن ينبّه عليه بقوله : «وإلّا لدار» أو ما يقرب منه».
تعليقة ص : ١٢٢ ،
س : ٥ ـ قوله : التقليد اصطلاحاً هو نفسه لغةً ...
هذا وقيل :
الظّاهر أنّ مقصود جمع ممّن فّسروه بالأخذ تارة والقبول أُخرى ، هو العمل أيضاً ،
لشيوع إطلاقهما عليه ، كما في الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين في قوله ـ عليهالسلام ـ «بأيّهما أخذت من باب التّسليم وسعك» و «الأخذ بما اشتهر
بين أصحابك ، وبقول الأفقه والأصدق والأوثق من الحاكمين» كما في المقبولة ، وما
ورد في الرّجوع إلى بعض أجلّة الأصحاب. وكذا الحال في لفظ القبول ، كقوله ـ عليهالسلام ـ في المقبولة : «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ...» فإنّ
القبول هو العمل بالحكم في مقابل الردّ الّذي هو ترك العمل به وفرضه كالعدم.
مثلاً : إذا حكم
الحاكم بكون يوم الجمعة أوّل شوّال ولم يفطر النّاس فيه ، اعتماداً عليه ، فقد
نقضوا حكمه ، فقبول الحكم هو الإفطار استناداً إليه ، لا إلى السفر ونحوه ،
فالإفطار المستند إلى السّفر أجنبيّ عن الحكم ونقض له ، ولذا يشكل قصر الصلاة فيه
، لكون هذا
السفر مصداقاً
للسّفر المحرّم.
وعليه ، فلا ينبغي
إنكار ظهور القبول ـ كالأخذ ـ في العمل. ولو سلّمنا عدم ظهورهما فيه وكونهما أعمّ
من الالتزام والعمل ، فاللازم إرادة خصوص العمل منهما حملاً للظّاهر على النّص أو
الأظهر ، وهو العمل الّذي فسّر به التّقليد ، أو حملاً للمطلق على المقيّد بعد
التّنافي المتحقّق لأجل قبوله للزّيادة والنّقيصة. هذا وإنّ سيرة العقلاء على رجوع
الجاهل إلى العالم ـ وسيأتي البحث عنها في المسألة الثانية في جواز التقليد ـ تقتضي
كون التّقليد بمعنى العمل ، إذ ليس بناؤهم على الالتزام القلبيّ بقول أهل الخبرة ـ
كما قيل ـ.
تعليقة ص : ١٢٢ ،
س : ١٢ ـ قوله : قلت : لم يَرِدْ عنوان التَّقليد في ...
قال صاحب الوسائل
في خاتمتها ج (٢٠) / ٥٩ ـ ٦٠ «ونروي تفسير الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ ـ عليهماالسلام ـ ، بالأسناد ، عن الشيخ أبي جعفر الطوسي عن المفيد عن
الصّدوق ، عن محمّد بن القاسم المفسّر الاسترآباديّ عن يوسف بن محمّد بن زياد
وعليّ بن محمّد بن سيّار ـ قال الصّدوق والطبرسي : وكانا من الشيعة الإمامية ـ عن
أبويهما ، عن الإمام ـ عليهالسلام ـ ، وهذا التفسير ليس هو الّذي طعن فيه بعض علماء الرّجال
، لأنّ ذاك يروي عن أبي الحسن الثالث ـ عليهالسلام ـ وهذا عن أبي محمّد ـ عليهالسلام ـ ، وذاك يرويه سهل الدّيباجيّ عن أبيه ، وهما غير مذكورين
في سند هذا التّفسير أصلاً. وذاك فيه أحاديث من المناكير ، وهذا خال من ذلك وقد
اعتمد عليه رئيس المحدّثين ابن بابويه ، فنقل منه أحاديث كثيرة في كتاب «من لا
يحضره الفقيه» وفي سائر كتبه ، وكذلك الطبرسي وغيرهما من علمائنا.
تعليقة ص : ١٣٥ ،
س : ١٩ ـ قوله : ... من باب تطبيق الآية على المصداق ...
قال العلّامة
السيّد محمّد حسين الطباطبائي (ره) في ميزانه : ١ / ٤١ و ٤٢ بعد ما ذكر روايات
عديدة ـ في تفسير «الصّراط المستقيم» من سورة الفاتحة ـ في أنّه أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ أو الإمام المفترض الطّاعة أو أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ أو حبّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته ـ عليهمالسلام ـ : «أقول : وفي هذه المعاني روايات أُخر ، وهذه الأخبار
من قبيل الجري وعدّ المصداق للآية ، واعلم أنّ الجري (وكثيراً ما نستعمله في هذا
الكتاب) اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ ففي تفسير العيّاشي عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا
جعفر ـ عليهالسلام ـ
عن هذه الرواية «ما
في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلّا وله حدّ ولكلّ حدّ مطّلع» ما
يعني بقوله لها ظهر وبطن؟ قال ـ عليهالسلام ـ : «ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم
يكن بعد ، يجري كما تجري الشّمس والقمر ، كلّما جاء منه شيء وقع» ـ الحديث ـ وفي
هذا المعنى روايات أُخر ، وهذه سليقة أئمّة أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ فإنّهم ـ عليهمالسلام ـ يطبّقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من
الموارد وإن كان خارجاً عن مورد النزول ، والاعتبار يساعده ، فإنّ القرآن نزل هدى
للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل ، وما بيّنه من
المعارف النظريّة حقائق لا تختصّ بحال دون حال ولا زمان دون زمان ، وما ذكره من
فضيلة أو رذيلة أو شرّعه من حكم عمليّ ، لا يتقيّد بفرد دون فرد ، ولا عصر دون عصر
لعموم التّشريع ، وما ورد من شأن النّزول ، لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي
الحكم بانقضائها ويموت بموتها ، لأنّ البيان عامّ والتّعليل مطلق فإنّ المدح
النّازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النّازل في حقّ آخرين ، معلّلاً بوجود
صفات فيهم ، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النّزول مع وجود عين تلك الصّفات في قوم
آخرين بعدهم ، وهكذا ، والقرآن أيضاً يدلّ عليه ، قال تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ) المائدة ـ ١٦) وقال : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) حم السجدة ٤١ ـ ٤٢) ، وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الحجر ـ ٩) والرّوايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم ـ عليهمالسلام ـ أو على أعدائهم أعني : روايات الجري ، كثيرة في الأبواب
المختلفة ، وربّما تبلغ المئين ... (انتهى) وراجع الميزان : ١٤ / ٢٥٧.
تعليقة ص : ١٩٥ ،
س : ١٨ حول الملاحظة على كلام السيّد الحكيم (ره)
الظاهر منافاته
لما تقدَّم منه (حفظه الله) في الملاحظة على الوجهِ الثاني والثالث للجواز.
تعليقة ص : ٢٠٩ ،
س : ٦ ـ قوله : خاتمة المطاف ـ (و) التقيَّة.
عن سالم أبي خديجة
عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : سأله إنسان وأنا حاضِر فقال : ربَّما دَخَلتُ
المسجد وبعض أصحابنا يصلّون العصر وبعضهم يصلّي الظّهر ، فقال ـ عليهالسلام ـ : أنا أمرتهم بهذا ، لو صلّوا على وقت واحد عُرفُوا
فأُخذوا برقابهم» الوسائل ج ٣ الباب ٧ من أبواب المواقيت ح ٣ ص ١٠١. وراجع ج ١٧ /
٥٠٣ ـ الباب ١٣ من أبواب ميراث الإخوة والأجداد ح ٣ والباب ٥ من أبواب ميراث
الأعمام والأخوال ح ٢ ص ٥٠٨.
فهرس الرسالة الثالثة
«القول المفيد في الاجتهاد والتقليد»
مقدمة
للأستاذ المحاضر سماحة الشيخ جعفر السبحاني ـ مد ظله ـ........................ ٣
مقدمة
المؤلف.................................................................... ٤
الأركان
الثلاثة لإدارة المجتمع....................................................... ٥
الأول : السائس والحاكم...................................................... ٦
الثاني : القاضي والفاصل للخصومات.......................................... ٧
الثالث : المفتي والمجتهد........................................................ ٨
الفصل الأوّل
الاجتهاد
الاجتهاد
لغة واصطلاحا......................................................... ١٣
أحكام
الاجتهاد................................................................ ١٦
الحكم الأول : جواز عمل المجتهد برأي نفسه................................... ١٦
الحكم الثاني : حرمة رجوع المجتهد إلى
الغير.................................... ١٦
الحكم الثالث : جواز رجوع العامي إلى
المجتهد وتقليده........................... ١٩
الحكم الرابع : نفوذ قضاء المجتهد وحكمه...................................... ٢٤
ما
هو الدليل على نفوذ حكم المجتهد المطلق؟.............................. ٢٥
مقبولة
عمر بن حنظلة.................................................. ٢٦
مشهورة
ابي خديجة..................................................... ٣١
المشهورة
الأخرى لأبي خديجة............................................ ٣٣
ما
قد يورد على المشهورة في شمولها للمتجزي............................... ٣٤
حصيلة البحث............................................................ ٣٦
في
تصدي المقلد للقضاء : وفيه ثلاثة مقامات...................................... ٣٨
١ ـ استقلال المقلد في القضاء................................................ ٣٩
٢ ـ في نصب المجتهد المقلد للقضاء............................................ ٤٩
قضاء
المقلد عند الاضطرار.............................................. ٥٥
٣ ـ في توكيل المقلد للقضاء.................................................. ٥٨
الاجتهاد
التجزئي............................................................... ٦١
في إمكان الاجتهاد التجزئي................................................. ٦١
في أحكام المتجزي.......................................................... ٦٤
فيما
يتوقف عليه الاجتهاد....................................................... ٦٦
الترتيب المنطقي لإعمال الادلة............................................... ٧١
في التخطئة والتصويب...................................................... ٧٦
الاجتهاد والازمنة والامكنة................................................... ٨٤
دور الحاكم في رفع التزاحم بين الأحكام
الاولية................................. ٩١
في تبدل رأي المجتهد........................................................ ٩٥
العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف.................................... ٩٦
الاجتهاد
في عصر الصحابة والتابعين............................................ ١٠٣
شبهة
حول الاجتهاد الدارج في عصرنا والجواب عنها............................... ١١٠
الفصل الثاني
التقليد
التقليد
لغة وإصطلاحا......................................................... ١١٩
في
جواز التقليد ، وفيه مقامين.................................................. ١٢٨
الأول : ما يصح للعامي أن يعتمد عليه في
أمر التقليد......................... ١٢٨
الثاني : ما يمكن أن يعتمد عليه المجتهد
في جواز التقليد........................ ١٣١
١
ـ آية النفر........................................................ ١٣٢
٢
ـ آية السؤال....................................................... ١٣٤
٣
ـ الروايات الإرجاعية................................................ ١٣٦
فكرة إنكار الاجتهاد في عصر الأئمّة ـ عليهم
السلام ـ......................... ١٣٨
الآيات
الناقية للتقليد.......................................................... ١٤١
١ ـ الآيات الذامة للتقليد.................................................. ١٤١
٢ ـ الآيات الذامة لاتباع الظن.............................................. ١٤٢
٣ ـ الآيات التي تنكر عمل أهل الكتاب..................................... ١٤٣
في
وجوب تقليد الأعلم وعدمه.................................................. ١٤٦
ما هي وظيفة العامي في مسألة تقليد الأعلم؟................................ ١٤٩
ما هو مقتضي الأدلة عند المجتهد؟.......................................... ١٤٩
ما هو مقتضي الأدلة في مسألة تقليد الأعلم؟................................ ١٥٠
ما هو مقتضي الأدلة الاجتهادية............................................ ١٥٢
ما هو المراد من الأعلم..................................................... ١٥٩
إذا شك في اختلافهما في الفتوى........................................... ١٦٢
في وجوب الفحص عن الاعلم............................................. ١٦٤
التبعيض في التقليد........................................................ ١٦٦
في
تقليد الميت ابتداء.......................................................... ١٦٧
أدلة المجوزين.............................................................. ١٧٣
١
ـ إطلاق الآيات والروايات........................................... ١٧٣
٢
ـ سيرة العقلاء..................................................... ١٧٤
٣
ـ التمسك بالاستصحاب........................................... ١٧٤
مضاعفات تقليد الميت السلبية............................................. ١٨٠
في
البقاء على تقليد الميت...................................................... ١٨٣
جواب لسيدنا الأستاذ ـ قدس سره ـ......................................... ١٨٦
اشتراط التعلم في جواز البقاء............................................... ١٨٧
العدول
من تقليد مجتهد إلى آخر................................................ ١٩٢
العدول من الحي إلى الحي.................................................. ١٩٣
إذا قلد من يقول بحرمة العدول حتى إلى
الأعلم............................... ١٩٧
في
عدول المجتهد عن رأية او تبدل الاجتهاد....................................... ١٩٩
خاتمة
المطاف : في تعارض الروايات.............................................. ٢٠١
أسباب التعارض.......................................................... ٢٠٢
١
ـ التقطيع في الروايات من قبل الرواة عنهم ـ عليهم السلام ـ............... ٢٠٢
٢
ـ رعاية عادة بلد السائل............................................ ٢٠٣
٣
ـ الافتاء مراعاة لمصلحة السائل....................................... ٢٠٤
٤
ـ الدس في الروايات................................................. ٢٠٤
٥
ـ النقل بالمعنى مع عدم ضبط الراوي.................................. ٢٠٧
٦
ـ التقية........................................................... ٢٠٨
التعليقات.................................................................... ٢١١
فهرس
محتويات الرسالة......................................................... ٢٢٩
|