مقدّمة المؤلف :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فضّل الانسان بالعقول والألباب ، ودلّه على ربوبيته بالحجج والبيّنات ، وجازاه على قدر ما آتاه من تلك النعمة الجسيمة ، ورفع بها درجته في الدنيا والآخرة ، وبعث أنبياءه لإكمال العقول.

أمّا بعد : فهذه رسالة وجيزة تبحث عن الملازمة بين الأحكام العقلية والشرعية ، مقرونة بالبحث عن الحسن والقبح العقليين ، وتتضمن إيضاح موقف الشيخ الأنصاري في تلك المسألتين ، أُلقيت في المؤتمر الذي عُقد بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشييخ الأنصاري (رحمه‌الله) في قاعة كلية القضاء في قم المحمية.

جعفر السبحاني

في الملازمة بين حكمي العقل والشرع

اشتهر بين الأُصوليين أنّ ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ـ خلافاً للأخباريين ـ ويعبّر عنه بقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، وبما أنّ للقاعدة ثمرات كلامية وأُصولية وفقهية ، قد أدينا حق الكلام فيها. وقبل الخوض في المقصود نبحث في أُمور :

الأمر الأوّل : في تعريف الدليل العقلي :

عرِّف الدليل العقلي : ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي.

ولا يذهب عليك أنّ الدليل العقلي أوسع ممّا عرّف به ، فإنّ البراهين الكلامية أو الفلسفية أو الرياضية التي تقام على أُمور عقلية بحتة كحدوث العالم ، وحاجة الممكن إلى الواجب ، أو مساواة زوايا المثلث مع زاويتين قائمتين ، كلّها حجج عقلية ، ومع ذلك لا يدخل في التعريف. وما ذاك إلّا لأنّ الأُصولي يطلب من التعريف ما يناسب هدفه ومرماه ، فهو لا يطلب من الدليل العقلي إلّا الوصول إلى الأحكام الشرعيّة ، لا إلى مسائل تكوينيّة أو رياضية وهندسية ، فلأجل ذلك اختصّ الدليل العقلي عنده بما يوصله إلى الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : في انقسام الدليل العقلي إلى مستقل وغير مستقل :

إنّ الدليل العقلي بما أنّه يقع ذريعة إلى الحكم الشرعي ، ينقسم إلى عقلي مستقل ، وعقلي غير مستقل ، فلو توقف استنتاج الحكم الشرعي على وجود خطاب شرعي من الشارع بالنسبة إلى الصغرى ، فهو من العقليات غير المستقلّة كما هو الحال في وجوب المقدّمة الشرعية كالوضوء فإنّ المقدمة يدل عليها الخطاب الشرعي أعني قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦) وإذا ضُمَّتْ إليه الكبرى ، تنتج وجوبها الشرعي ، وأمّا إذا كانت كلتا المقدّمتين عقليتين والعقل لا يعتمد في الاستدلال إلى مبدأ غيره فهي من المستقلات العقلية كما هو الحال في إدراك العدل والظلم بنحو من الأنحاء أوّلاً ثمّ الحكم عليها بالحسن والقبح ثانياً ، فيقال : تكريم الوالدين ، تقدير للمنعم ، وكلّ ما يعدّ تقديراً للمنعم فهو حسن ، ينتج : تكريم الوالدين حسن ، ولو قلنا بالملازمة تكون النتيجة كون التكريم واجباً شرعاً.

نعم ما لا يتوقف الاستنتاج على حكم عقلي فهو دليل شرعي وإن كان الحكم العقلي موجوداً في مورده أيضاً لفرض عدم تأثير له في الاستنتاج ، فلو دلّ الدليل الشرعي على أنّ من سافر أربعة فراسخ يُقصِّر ودلّ دليل شرعي آخر على الملازمة بين القصر والافطار ، فهذا يكفي في الحكم بوجوب الإفطار لمن سافر أربعة فراسخ من غير حاجة إلى الاستمداد من حكم العقل بامتناع تفكيك المتلازمين وإن كان موجوداً في ظرف الحكم. لأنّ تصريح الشارع بالملازمة بين الحكمين كاف في القول بوجوب الإفطار لهذا الشخص الخاص. (١)

__________________

(١) نعم استنبط الشيخ الأعظم على ما في تقريراته : ٢٣٤ عن عبارة الفاضل التوني في وافيته أنّ لحكم العقل تأثيراً في استنباط الحكم الشرعي في المورد ، ولكن لم يظهر لنا ما نسب إليه من عبارته في الوافية ص ٢١٨. فلاحظ.

الأمر الثالث : في تقسيم الدليل العقلي بنحو آخر :

إنّ الحكم الشرعي المستنتج من الحكم العقلي على قسمين : فتارة لا يتوقّف الاستنتاج على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وأُخرى يتوقّف ، ويعدّ القول بهما من مبادئ الأحكام ولولاهما لكان الاستنتاج عقيماً.

أمّا الأوّل : فهو كالقياس (التمثيل حسب اصطلاح المنطقيين) في فقه أهل السنّة ، وتنقيح المناط أو التمسّك بالعلّة المنصوصة في فقه الشيعة ، فالتشابه بين الخمر والنبيذ ربّما يصير سبباً لوحدة الحكم ، والوقوف على مناط الحكم الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدماً ربّما يصير سبباً لتسرية الحكم إلى غير المنصوص من الموارد. وليس الاستدلال في الموردين مبنياً على التحسين والتقبيح العقليين.

وأمّا الثاني : فهو كالحكم بالبراءة في الشبهات البدئية ، استناداً إلى قبح العقاب بلا بيان أو الحكم بالاشتغال ، استناداً إلى عدم قبحه بعد تمامية البيان ، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية المستنبطة بالعقل عن طريق القول بالتحسين والتقبيح العقليين.

وقد طرح الشيخ القسم الأوّل في رسالة القطع وقال بحجية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية بالنسبة إلى الحكم الشرعي وقد بحثنا عنه في ذلك المقام ، والمطروح في المقام هو القسم الثاني.

الأمر الرابع : في تعدد المسألتين :

لا شكّ أنّ هنا مسألتين ، إحداهما : استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ، والأُخرى : ملازمة ذلك الادراك مع الحكم الشرعي بالوجوب والحرمة. والدليل على التعدد ، هو أنّ بعض الأخباريين كالفاضل التوني يسلِّم المسألة الأُولى بضرورة

الوجدان والعقل ، دون المسألة الثانية (١). ومع ذلك كلّه فالحقّ أن يقال :

إذا كان النظر في الوحدة والكثرة إلى مقام الإثبات ، فلا شكّ أنّ هنا مسألتين إحداهما مستنبطة من الثانية ، فيكون حكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم دليلاً وكاشفاً عن حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة. والدليل على التعدد ، هو كون الثانية في طول الأُولى في مقام الاستكشاف ، مضافاً إلى اختلافهما في المحمول. فهو في الأوّل هو الحسن والقبح وفي الأُخرى الوجوب والحرمة ، مضافاً إلى اختلافهما في النتائج فإنّ ما يترتب على حكم العقل بهما هو المدح والذم ، وما يترتب على حكم الشرع بالوجوب والحرمة هو الثواب والعقاب ، فكل ذلك يصحّح كونهما مسألتين. هذا كلّه إذا ركّزنا النظر على عالم الإثبات ، وأمّا إذا كان النظر مركزاً على عالم الثبوت ، فالحقّ أنّ هنا مسألة واحدة كلّ يتكلم حسب لغته واصطلاحه ، فالعقل إذا يلاحظ بعض الأفعال يحكم عليه بالحسن والقبح ، والشرع إذا يلاحظه ، يحكم عليه بالوجوب والحرمة والحكمان وجهان لعملة واحدة ، ولعلّ هذا التفصيل أولى من الحكم البات بالوحدة أو الكثرة.

الأمر الخامس : ما هو المراد من قولهم :

كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع؟

إنّ هنا وجوهاً واحتمالات :

الف : إنّ ما حكم به العقل ، حكم بمثله الشرع ، وعلى هذا ففي الموارد التي يستقل فيها العقل ، حكمان ، كما أنّ فيها حاكمين.

ب : كلّ ما حكم به العقل ، حكم بعينه الشرع ، ويصدقه ، وعليه يكون هنا

__________________

(١) الوافية : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، وسيوافيك كلام صاحب الفصول في المسألة الثانية أيضاً.

حكم واحد لحاكمين مستقلّين.

ج : كلّ ما حكم به العقل ، فهو عين ما حكم به الشرع ، بمعنى أنّ العقل رسول الشرع باطناً ، والنبيّ رسول الشرع ظاهراً والعقل لسان الشرع ، وعلى هذا فالحكم والحاكم واحد.

والاحتمال الأخير هو الظاهر من المحقّق القمّي قال : إنّ العقل يدرك أنّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده بعنوان اللزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه كذلك ـ إلى أن قال : ـ ولازم ذلك أنّه تعالى طلب منّا الفعل والترك بلسان العقل فكما أنّ الرسول الظاهري يبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهياته ، كذلك العقل يبيّن بعضها. (١)

الأمر السادس : في أنّ القاعدة تستعمل في موردين :

الف : إنّ هنا من يرى جواز خلوّ الواقعة من الحكم الشرعي ، فيقال في مقابله : كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ، بمعنى أنّه لا يصحّ أن تخلو الواقعة عن الحكم الشرعي ، والمقصود إثبات أصل الحكم الشرعي في مورد حكم العقل وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي ، ويكون التطابق بين الحكمين ملحوظاً ضمنياً والمقصود الأصلي وجود نفس الحكم الشرعي لردِّ وهْمِ خلوِّها عنه.

ب : هناك من يزعم إمكان الخلاف بين الحكمين ، مع قبول عدم خلو الواقعة عن الحكم الشرعي أو مع قطع النظر عنه ، فيقال في ردّه : كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فيكون التطابق ملحوظاً أصليّاً ، ووجود أصل الحكم غير ملحوظ أصلاً أو ملحوظاً تبعياً.

__________________

(١) قوانين الأُصول : ٢ / ٢.

الأمر السابع : في أنّ إنكار الملازمة يحتمل وجوهاً :

١ ـ إنكار التحسين والتقبيح العقليين من أصل وأنّ العقل عاجز عن دركهما أي عاجز عن درك حسن الأفعال وقبحها في نفسها أو عاجز عن درك حسنها وقبحها عند الشارع ، بمعنى أنّ العقل بعد درك حسنها وقبحها لنفسه ، غير قادر على الحكم بأنّه كذلك عند الشارع.

٢ ـ إنكار الملازمة بين الحكمين ، مع قبول أصل التحسين والتقبيح كما هو الظاهر من كلام الفاضل التوني والسيد الصدر من الأخباريين.

٣ ـ إنكار وجوب إطاعة الحكم الشرعي المستكشف من طريق الفعل بعد قبول المرحلتين السابقتين ، ويرجع ذلك إلى عدم حجية العلم الحاصل من غير طريق الكتاب والسنّة.

ونحن نبحث عن المسائل الثلاثة بهذا الترتيب :

المسألة الأُولى :

هل التحسين والتقبيح

عقليان أو شرعيان؟

قد عرفت أنّ إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها يتصوّر على وجهين : تارة يبحث عن إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها لنفسه ، واخرى عن إدراكه أنّ ما هو حسن أو قبيح عنده ، حسن وقبيح عند الشارع أيضاً ، ولعلّ هناك من يفرّق بين الإدراكين ، وإن كان اللائح من كلام المفكرين هو الأوّل.

قال علاء الدين القوشجي : «لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائداً إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشارع ، بل انّ ما حسّنه الشارع فهو حسن أو ما قبّحه الشارع فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضية فحسَّن ما قبّحه ، وقبّح ما حسَّنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، ومثّلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن

الوجوب إلى الحرمة. (١)

ثمّ إنّ القائلين بالحسن والقبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الاتصاف بهما إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : ما يكون الفعل بنفسه علّة تامّة للحسن والقبح : وهذا ما يسمّى بالحسن والقبح الذاتيين ، مثل العدل والظلم. فالعدل بما هو عدل ، لا يكون إلّا حسناً أبداً ، ومتى ما وجد ، يمدّح فاعله ويعد محسناً. وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلّا قبيحاً. ومتى ما وجد ، يُذمّ فاعله. ويستحيل أن يكون العدل قبيحاً والظلم حسناً.

الثاني : ما لا يكون الفعل علّة تامّة لأحدهما ، بل يكون مقتضياً للاتّصاف بهما ، بحيث لو خُلِّي الفعل ونفسه ، فإمّا أن يكون حسناً كتعظيم الصديق بما هو هو أو يكون قبيحاً كتحقيره. ولكنّه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه كما إذا كان سبباً لظلم ثالث ، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه كما إذا صار سبباً لنجاته.

ولا ينحصر المثال بهما بل الصدق والكذب أيضاً من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على النفس قبيح ، كما أنّ الكذب الذي فيه نجاة الإنسان البريء حسن. وهذا بخلاف العدل والظلم فلا يجوز أن يتسم العدل ـ بما هو عدل ـ بالقبح ، والظلم ـ بما هو ظلم ـ بالحسن.

الثالث : ما لا علّية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للاتّصاف بأحدهما ، وإنّما

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : عزب عن الشارح أنّ النسخ لا يتعلّق بما يكون حسنه أو قبحه ذاتيّين بل مورده ما إذا كانا ناشئين عن الوجوه والاعتبارات ، كعدّة المرأة حيث كانت في صدر الشريعة سنة فنسخت إلى أربعة أشهر وعشراً ، وقس عليه سائر ما توهّم فيه النسخ أو ثبت فيه.

يتبع الجهات الطارئة والعناوين المنطبقة عليه ، وهذا كالضرب فإنّه حسن للتأديب ، وقبيح للإيذاء.

هذا هو التقسيم الرائج بينهم. والغرض المطلوب في هذا البحث هو تبيين أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل إذا طالعها ، مع قطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها ، أنّها حسنة يجب أن يمدح فاعلها ، أو قبيحة يجب أن يذم. ولا نقول : إنّ كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.

وبعبارة أُخرى : انّ النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي ، فالعدلية يقولون بالأوّل والأشاعرة بالثاني.

إطلاقات الحسن والقبح :

إنّ هناك أُموراً ثلاثة ، متقاربة المفهوم وهي :

١ ـ إطلاقات الحسن والقبح ومعانيها.

٢ ـ ملاكات الحسن والقبح.

٣ ـ ما هو محلّ النزاع بين المثبتين والنافين؟

ونبحث عن الجميع جملة واحدة لأنّها متقاربة المعنى ، والمقصود ، فنقول :

إنّ للحسن أو القبح معنى واحداً ولكل واحد في جميع اللغات معادلا يعبّر بهما عنهما و ـ مع ذلك ـ فله اطلاقات باعتبار ملاكات متفاوتة فلا بأس بالإشارة إلى تلك الملاكات ، وبتعيينها يتعيّن محلّ النزاع :

١ ـ ملاءمة الطبع ومنافرته ، فالصوت الناعم والطعام اللذيذ يلائمان طبيعة الإنسان ، والدواء المرّ ونهيق الحمار ينافرانها ، فيوصف الأوّلان بالحسن ، دون

الأخيرين ولعلّهما يوصفان بالسوء لا بالقبح. والحسن والقبح بهذا الملاك خارج عن محطّ البحث ، لاختلاف الطبائع إذ ربّ غذاء لا يلائم طبع طائفة وهو بالنسبة إلى الطائفة الأُخرى لذيذ حسن ، وهكذا الأصوات والروائح.

٢ ـ موافقة الأغراض الشخصية أو النوعية ومخالفتهما ، فكلّ عمل يؤمِّن الغرض الشخصي فهو حسن ، وخلافه ما يقابله وعندئذ يُصبح الحسن والقبح من الأُمور النسبية وهو بمعزل من التحقيق بخلاف ما إذا كان الملاك تأمين الأغراض النوعية ، فكلّ عمل يؤمّن مصالح النوع الإنساني كالعدل فهو حسن ، ويقابله ما يهدّد مصالحه ويسوقه إلى دار البوار فهو قبيح كالظلم ، فالعدل حافظ للنظام والظلم هادم له ، ومع ذلك كله فهو أيضاً خارج عن محطّ البحث وذلك بوجهين :

الف : إنّ القائلين بالحسن والقبح ذهبوا إلى أنّهما من الصفات الذاتية لبعض الأفعال ولا ينفكان عنها أبداً في حال من الأحوال ، وما هو كذلك لا يمكن أن يعتمد على ملاك خارج عن ذاته ، ككونه مؤمِّناً لمصالح النوع أو مهدّداً لها. فإنّ المقصود من الذاتي هناك ما يكفي وضع الموضوع في وضع المحمول ، أو يلازم تصوّر الموضوع تصوّره ، فجزاء الإحسان بالإحسان ، حسن ، وجزاؤه بالسوء ، قبيح مطلقاً من دون حاجة إلى ملاحظة كونه مدعماً لبقاء النظام أو هادماً له ، والعقل يحكم بهما بملاحظة تصوّر نفس الموضوع بما هو هو ، وما هو كذلك ، يتضمّن بنفسه الملاك ويكون موجوداً في صميمه ، ولا يستمد من ملاك خارج.

ب : إنّ نطاق البحث أعم من فعل الإنسان ، بل الغاية القصوى للمتكلّمين الذين هم الأُسس لطرح هذه المسألة هو معرفة أفعاله سبحانه ، وما يجوز له وما لا يجوز في الدنيا والآخرة ، وما هو كذلك يكون أرفع من أن يكون ملاك اتّصاف فعله بهما ، تأمين المصالح النوعية أو تدميرها.

٣ ـ كون الشيء كمالاً أو نقصاً للنفس كالعلم والجهل والأوّل زين لها والثاني شين وتحسين الفعل أو تقبيحه بهذا الملاك وإن كان صحيحاً ، ولا يشك أحد في أنّ العلم والشجاعة والفصاحة بما أنّها كمال للإنسان متصف بالحسن ، والجهل والجبن والسفاهة ، نقص وقبح ، لكن نطاق النزاع كما عرفت في نقد الوجه الثاني أعم من هذا وما ذكرناه من الوجهين فيه يأتي في الثالث أيضاً.

٤ ـ الحسن ما استحق الثواب عند الله. والقبيح ما استحق العقاب عنده. (١)

يلاحظ عليه بوجهين :

الف : أنّ نطاق البحث أوسع من أفعال العباد ، بل الغاية من طرح المسألة هو معرفة أفعاله سبحانه ووصفه بما يجوز له وما لا يجوز ومعه كيف يكون استحقاق الثواب والعقاب ملاكاً للحكم بالحسن والقبح.

ب : أنّ البحث عن المسألة ، لا يختص بالإلهيين وهناك جماعة لا عهد لهم بما وراء الطبيعة ، ولا يدينون بشريعة ، فأخذوا يبحثون عنها في كتبهم ولعلّ القائل ، يريد منه ما نذكره تالياً.

٥ ـ كون الفعل بنفسه محكوماً بالحسن أو القبح :

إنّ الملاك عند القائلين بالحسن والقبح الذاتيين ، ليس أمراً منضماً إلى الفعل وخارجاً عن ذاته ، بل الملاك وجود خصوصيّة في الفعل تجعله بنفسه موضوعاً لأحد الوصفين. والقائل يدّعيها والنافي ينكرها.

وعلى ضوء هذا لا تصح تسمية ذلك الملاك بالملائمة للطبع أو منافرته ، أو

__________________

(١) گوهر مراد : ٣٤٥ للمحقّق اللاهيجي. وسيوافيك نظره السامي في كتابه الآخر.

دعمه للأغراض ومخالفتها ، أو كونه كمالاً للنفس أو نقصاً لها ، أو موجباً لاستحقاق الثواب أو العقاب ، لأنّ تلك الملاكات ، أُمور خارجة عن ذات الفعل وصحيحه.

وبالجملة : الإثبات والنفي من القائل والمنكر يتوجّهان إلى ادّعاء وجود خصوصية في ذات الفعل تجعله صالحاً للاتّصاف بهما وعدم وجودها ، بحيث يكون الموضوع عند الطرفين ملاحظة نفس الشيء بما هو هو مغسولاً عن أي سبب وعلّة ، أو أيّ ضميمة ووصلة ، فالقائل يقول إنّ هنا أفعالاً تكفي ملاحظتها بنفسها مجردة عن كلّ شيء في الحكم بالتحسين والتقبيح ، والمنكر ينكرها.

وإذا وقفت على ما هو الملاك في ذاك الباب تقدر على تحرير محلّ النزاع فإنّ تحريره ، من ثمرات تعيين الملاك.

وأوّل من حرّر محل النزاع على هذا النحو المحقّق اللاهيجي في كتابيه (١) وبيانه في الرسالة الثانية أوضح وأجلى وبذلك تستغني عن كثير من المباحث الطويلة التي ملأت الكتب الكلامية ، حيث جعلوا الملاك أحد الأُمور الأربعة وحرّروا محلّ النزاع على غير ما ذكرناه فحشّدوا في رسائلهم مباحث لا تمت بالموضوع بصلة.

فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّه كلّما ذكر التحسين والتقبيح العقلي قائماً يراد منه الإطلاق الأخير الذي يُكْمَن ملاكهما في نفس الفعل لا في أمر خارج ، وليس شيء من الإطلاقات الخمسة داخلاً في محلّ النزاع إلّا ما ذكر أخيراً.

__________________

(١) گوهر مراد : ٣٤٥ ؛ سرمايه ايمان : ٣٥ الطبعة الأُولى.

التحسين والتقبيح العقليّان من البديهيات في مجال العقل العملي :

قد وقفت على أنّ محلّ النزاع هو كون الفعل بنفسه موضوعاً للتحسين والتقبيح فعندئذ يطرح السؤال بأنّه كيف يصحّ للعقل القضاء البات على أحد الوصفين بملاحظة نفس الفعل ، وما هو السبب لقضائه؟ ولإيضاح هذا الجانب نقول : إنّ هنا وجهين لتقريب ذلك وإليك تقريرهما :

١ ـ لزوم انتهاء المجهولات إلى المعلوم بالذات في العقل النظري والعملي :

إنّ الحكماء قسّموا العقل إلى عقل نظريّ وعقل عمليّ ، فقال المعلّم الثاني : «إنّ النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان ، والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته».

وقال الحكيم السبزواري في توضيحه : «إنّ العقل النظري والعقل العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل مثل : الله موجود واحد ، وانّ صفاته عين ذاته ، ونحو ذلك.

والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل : «التوكّل حسن» و «الرضا والتسليم والصبر محمود» وهذا العقل هو المستقل في علم الأخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة». (١)

إذا عرفت ذلك نقول : كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، ولو لا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تُعرف إلّا بالانتهاء إلى قضايا ضرورية ،

__________________

(١) تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة : ٣١٠.

وإلّا لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية ، فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظرية من صميم ذاته فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاته بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.

مثلاً : لا يصح تصديق أيّ قضية من القضايا إلّا إذا انتهت إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا ، ولذا تسمى ب ـ «أُمّ القضايا» وذلك كاليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، فانّه لا يحصل اليقين إلّا إذا حصل قبله التصديق بامتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما. وإلّا فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالتساوي. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ اقامة البرهان على المسائل النظرية إنّما تتم إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا التي قد عرفت.

وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما انّ بين مدركات العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوّلية تنتهي إليها القضايا النظرية في ذلك المجال ، فهكذا بين مدركات العقل العملي ، قضايا أوّلية وواضحة يبرهن بها على سائر مسائله غير الواضحة بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صحّ التصديق بقضية من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي ، مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح ، مثل قولنا : «العدل حسن» و «الظلم قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن» و «جزاؤه بالإساءة قبيح».

فهذه القضايا ، قضايا أوّلية في الحكمة العملية ، والعقل العملي يدركها من صميم ذاته ، ومن ملاحظة تلك القضايا بنفسها. وفي ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبتنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهيّة ، سواء أكانت مربوطة بالأخلاق أو تدبير المنزل ، أو سياسة المدن ، التي يبحث عنها

في الحكمة العملية. فإنّ ما يستقل به العقل في مجال العمل إمّا له صلة بالحياة الفردية وهي ما يبحث عنه في علم الأخلاق ، أو بالحياة الاجتماعية المحدودة وهي ما يبحث عنه في نظام الأُسرة وتدبير المنزل ، أو الواسعة المترامية الأطراف وهو ما يبحث عنه في سياسة المدن وإدارة المجتمع.

ولنمثل على ذلك : إنّ العالم الأخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلّمين وأُولي النعمة ، وذلك لأنّ التكريم من شئون جزاء الإحسان بالإحسان ، وهو حسن بالذات ، والإهانة لهم من شئون جزاء الإحسان بالإساءة وهو قبيح بالذات.

والباحث عن أحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بوظائف الزوجية من الطرفين وقبح التخلّف عنها ، ذلك لأنّ القيام بها عمل بالميثاق ، والتخلّف عنها تخلّف عنه ، والأوّل حسن بالذات والثاني قبيح بالذات.

والعالم الاجتماعي الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأنّه يجب أن تكون الضرائب معادلة لمنافع الأفراد ، وذلك لأنّ الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعية وهو قبيح بالذات.

وقس على ذلك كل ما يرد عليك من الأبحاث في الحكمة العملية ، سواء أكانت راجعة إلى الفرد (الأخلاق) أو إلى المجتمع الصغير (البيت) ، أو إلى المجتمع الكبير (السياسة) ، فكل ما يرد فيها ويبحث عنه الباحثون ، بما أنّه من شئون العقل العملي ، يجب أن ينتهي الحكم فيه إيجاباً وسلباً ، صحّة وبطلاناً إلى القضايا الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.

إلى هنا انتهينا إلى أنّه يجب انتهاء الأحكام غير الواضحة ابتداء في مجال العقلين (النظري والعملي) إلى أحكام بديهية مدركة ابتداءً بلا مئونة شيء وذلك دفعاً للدور والتسلسل الذي استند إليه علماء المنطق والحكمة في القسم الأوّل ، أي الحكمة النظرية. والدليل واحد سار في الجميع.

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، وإلّا عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن الاعتماد على ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسموا القضايا العملية إلى أوّلية وثانوية ، أو نظرية وضرورية. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا غير الواضحة ، الواردة في مجال العقل العملي ، لا يتم إلّا إذا انتهى حكم العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. وقد عرفت أنّ المسائل المطروحة في الأخلاق ، الباحثة عن المحاسن والمساوئ ، أي ما يجب الاتصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب. فلا ينال العقل الجزم بكل القضايا العملية إلّا إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العملية حتّى يحصل الجزم بها ويُرتَفع الابهام عن وجهها.

ومن هنا تبيّن الأُمور التالية :

١ ـ أنّ المدّعي للحسن والقبح الذاتيين في غنى عن البرهنة لما بيّناه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك لما عرفت من أنّ الحكم بهما في الجملة من الأُمور البديهية.

٢ ـ أنّ حسن الأفعال أو قبحها على قسمين : قسم منها يُعدّ من المعلومات الأوّلية لكل إنسان تجرّد عن أيّ رأي مسبق يحكم بهما عقله بالبداهة بلا تروّ وفكر. وقسم منها تعلَم حاله بالانتهاء إلى تلك المعلومات الضرورية.

٣ ـ أنّ لفظ البديهي والنظري وإن كانا يستعملان في المعقول النظري دون العملي ، لكن لا محيص عن تعميم الاستعمال إلى قضايا العقل العملي أيضاً أو استخدام لفظ آخر في ذينك المجالين ، كقولنا :

المعلومات الأوّلية والواضحة ، والمعلومات الثانوية أو غير الواضحة.

٤ ـ لا ملاك خارجي في القضاء بأحد الوصفين ، وإنّما الملاك هو اشتمال الفعل على خصوصية ، جعلته واضح الحكم عند العقل بيّن الوصف والحكم.

٢ ـ ملائمة القضايا للفطرة ومنافرتها معها :

إنّ هنا طريقاً آخر ، لإدراك العقل تحسين الأفعال وتقبيحها ، وهو عرض القضايا للفطرة ، التي خلق الإنسان عليها ، وهو خير قاض ومُدرك ، وهي تجد البعض ملائماً لها والبعض الآخر منافراً ، تمدح فاعل البعض ، وتذم فاعل البعض الآخر. وتعبِّر عن الأوّل بالفعل الحسن ، وعن الآخر بالفعل القبيح.

إنّ لوجود الإنسان بعدين مختلفين ، أو جانبين متفاوتين ففي البعد الداني ، هو حيوان فاتك ، لا يعرف سوى البطن والتعدّي على الحقوق ، والأموال وتدمير الحدود والمقررات والترؤس والأنانية ولا يعترف بحقوق أحد ، ولا بحسن فعل ولا قبحه سوى ما يؤمِّن أغراضه المادية وشهواته الحيوانية وقواها الجامحة.

وفي الوقت نفسه له جانب ملكوتي ، رفيع عن الشهوة والغضب ، والغرائز الماديّة ، والميول الحيوانية ، بعيد عن الأنانية والترؤس ، ينظر إلى القضايا من أُفق عال ، دونه غرائزه وميوله الجامحة ، فيجد أُموراً ملائمةً يميل إليه وأُموراً منافرةً ، يتحاشى عنها ، فيقوم بمدح فاعل الأُولى وذم فاعل الثانية. وعلى هذا يكون الانطباق وعدمه والتلائم ، وخلافها ، آية التحسين والتقبيح.

وعلى هذا فالملاك في العقل العملي عبارة عن درك مطابقة القضية وملاءمتها للجانب المثالي من الإنسان غير الجانب الحيواني أو منافرتها له. فالإنسان بما هو ذو فطرة مثالية ، متميز عن الحيوانات ، يجد بعض القضايا ملائمة لذلك الجانب العالي أو منافية له. فيصف الملائم بالحسن ، ولزوم العمل ، والمنافي بالقبح ولزوم الاجتناب.

وإن شئت عبر عنه بالوجدان غير المتأثر من الأُمور اللاشعورية ، فهو يحسّ الملائمة لبعض الأفعال والمنافرة للبعض الآخر.

وممّن يظهر منه هذا الملاك ، المحقّق الخراساني في رسالة خاصة له في الملازمة بين العقل والشرع التي أدرجها في ضمن فوائد أُصولية له قال : إنّه لا مجال لإنكار اختلاف الأفعال بحسب خصوصيات وجودها سعة وضيقاً وخيراً وشراً الموجب لاختلافها بحسب المنافرة والملائمة للقوة العاقلة ، ومع ذا لا يبقى مجال لإنكار الحسن والقبح عقلاً إذ لا نعني بهما إلّا كون الشيء في نفسه ملائماً للعقل فيعجبه أو منافراً فيغربه (كذا) (١) وبالضرورة إنّما يوجبان صحّة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختاراً بما هو فاعل. (٢)

وبما أنّه ربما يتوهم أنّه إذا كان الملاك هو الملائمة والمنافرة للفطرة ، يكون حكم العقل في مجال التحسين والتقبيح منحصراً بأفعال الإنسان ولا يعدو غيره مع انّ الهدف من عقد ذاك البحث هو التعرّف على أفعاله سبحانه ، ولدفع هذا التوهم عقدنا البحث التالي.

سعة دائرة حكم العقل :

إنّ إدراك العقل حسن الأفعال أو قبحها على كلا التقريرين (كون الحكم بهما في بعض الأفعال أمراً بديهياً وفي البعض الآخر منتهياً إليه ، أو كون الميزان الملائمة للجانب العالي من الإنسانية والمنافرة) لا يختص لشخصه أو لصنف خاص أو لكلّ من يطلق عليه الإنسان ، بل يدرك حسن صدوره أو قبحه لكلّ موجود عاقل مختار سواء وقع تحت عنوان الإنسان أو لا ، وذلك لأنّ المقوّم لقضائه

__________________

(١) ولعل الصحيح فيستغربه.

(٢) الفوائد الأُصولية المطبوعة في ذيل تعليقته على الفرائد ص ٣٣٩.

بأحد الوصفين نفس القضية بما هي هي من غير خصوصية للمدرِك. فهو يدرك أنّ العدل حسن عند الجميع ومن الجميع ، والظلم قبيح كذلك ، ولا يختص حكمه بأحدهما بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل.

ثمّ إنّ المخالف في المقام بعض الأشاعرة كالرازي وغيره فإنّهم اعترفوا ـ خلافاً لأسلافهم وإمامهم الشيخ أبي الحسن الأشعري ـ بالتحسين والتقبيح العقليين لكنّهم فصَّلوا وقالوا : إنّ تحسين العقل وتقبيحه معتبر بالنسبة إلى العباد وأمّا بالنسبة إلى الله تعالى فهو باطل.

أمّا الأوّل : فقد استدل عليه بوجوه ، أوضحها ما أفاده الرازي : انّ العقلاء قبل علمهم بالشرائع والنبوّات مطبقين على حسن مدح المحسن ، وحسن ذم المسيء ، فانّ من أحسن إلى محتاج فانّ ذلك المحتاج يجد من صريح عقله حسن مدحه وذكره بالخير ، ولو أساء رجل إليه فانّه يجد من صريح عقله حسن ذمِّه وهذا الحكم حاصل سواء كان ذلك الإنسان مؤمناً يُصدِّق بالأنبياء أو لم يكن كذلك فعلمنا أنّ الحسن والقبح مقرر في عقولهم.

وأمّا إثباتهما في حقّ الله تعالى فمحال واستدل بوجوه نذكر بعضها :

الأوّل : إنّ الذي عقلناه من معنى الحسن ما يكون نفعاً ، أو مؤدّياً إليه والذي عقلناه من معنى القبح ما يكون ضرراً أو مؤدياً إليه ، والرغبة في المنفعة ، والرهبة عن المضرة ، إنّما يعقل حصولهما في حقّ من يصحّ عليه النفع والضرر ، ولما كان ذلك في حقّ الله محالاً ، كان القول بثبوت الحسن والقبح في حقّ الله محالاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الدليل مبنيّ على كون الملاك في التحسين والتقبيح هو كون الفعل نافعاً أو مؤدِّياً إليه أو ضرراً أو مؤدِّياً إليه والله سبحانه أرفع من هذا الملاك. لكنّك عرفت أنّ تفسير التحسين والتقبيح العقليين بهذا المعنى ساقط جداً ، غير

__________________

(١) الرازي : المطالب العالية : ٣ / ٢٩٠.

مطروح للالهي في معرفة ما يجوز له سبحانه أو لا يجوز عليه ، ولا للعالم الاخلاقي في تبيين المُثلِ العليا للإنسان في المجتمع الصغير ، ولا للسائس الواعي في إدارة المجتمع الكبير إذ عندئذ تصير الأخلاق والسياسة ، مفاهيم مادية ، لا يعرّج إليه الإنسان الموضوعي. والعجب أنّه ينقل عن المعتزلة انّهم صرّحوا بأنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً ، أمر مغاير لكونه منشأ للمنفعة والمضرة ، ومع ذلك يصرّ في آخر كلامه بأنّه لا يعقل من الحسن والقبح إلّا المنفعة والمضرة.

الثاني : لو صحّ القبح العقلي وعمّ حكم العقل له سبحانه ، يلزم أن لا يُنعم الله على أحد من عباده لأنّ النعمة إنّما تكون نعمة إذا كانت رافعة للحاجة ، وإيجاد الحاجة في الإنسان ضرر ومضرة وهو قبيح ، فإيصال النعمة إليه لا يمكن إلّا إذا كان مسبوقاً بإيصال ضرر يساويه ، ومن كان الأمر كذلك ، صارت هذه النعمة الحاصلة دافعة لذلك الضرر السالف فتصير هذه الواقعة كمن يجرح إنساناً ثمّ يعالج جراحته ، أو يسرق ديناراً من إنسان ، ثمّ يعطيه ديناراً. (١)

يلاحظ عليه بوجهين :

١ ـ أنّ حاجة الممكن ذاتي له غير مجعول ، وإنّما المجعول وجوده والله سبحانه أوجد الممكن المحتاج بالذات ، لا أنّه أُعطى الحاجة له ، وليس الممكن إلّا مسلوب الضرورة من جانبي الوجود والعدم ، واندفاعه به إلى أحد الطرفين يحتاج إلى علّة ، غير أنّ عدم العلّة كاف في كونه معدوماً ، وما هذا شأنه ، تشكِّل الحاجة ذاته وحاقّه وحقيقته ، فبطل قوله : «إنّ إيصال النعمة إليه لا يمكن إلّا إذا كان مسبوقاً بإيصال ضرر يساويه» وإذا كان المقصود من الضرر هو الحاجة فليس هي واصلة إليه من العلّة ، بل هي واقعية الممكن ولبّه ، وجد أم لم يوجد.

كما بطل قوله : «فتصير هذه الواقعة كمن يجرح إنساناً ثمّ يعالجه» فإن أراد

__________________

(١) المطالب العالية : ٣ / ٢٩١.

من الجراحة الأُولى ، حاجته ، فليست واصلاً من جانب معطي الوجود ومفيض النعم الظاهرة والباطنة ، بل هو مجروح بالذات ، كما بطل قوله : «يغصب من إنسان ديناراً ثمّ يعطيه ديناراً» إذا لم يكن الممكن واجداً لشيء حتّى يؤخذ منه شيء ويصح التشبيه.

٢ ـ أنّ حاجة الإنسان في حياته وإن كانت أمراً غير منكر وكل من الشهوة والغضب آيتا الحاجة لكنّه في ظلّ تينك القوتين ـ عند التعديل ـ يصل إلى قمة الكمال. ولو لا الشهوة ، لانقطع نسله ، ولو لا الشهوة لوقع فريسة للوحوش الضواري ، وهكذا سائر الحوائج المادية والروحية فالحاجة وإن تعد نقصاً ، لكنّها سلّم الترقّي إلى سماء الكمال.

ثمّ إنّه أطال الكلام في إثبات ما يرميه وانا أضنّ بالحبر والورق في أن أُسوّد الصحائف بنقل كلامه فلا نطيل الكلام في نقد هذه الحجة أزيد من هذا.

الثالث : لو كان عقلنا معتبراً في حقّ الله لوجب أن يقبح من الله أن يأمر عباده بمعرفته وطاعته ، لأنّ تحصيل معرفة الله عمل شاق على العبد ولا يحصل منه نفع للشاكر ولا للمشكور وما كان كذلك كان الأمر به قبيحاً بمقتضى تحسين العقل وتقبيحه. (١)

يلاحظ أوّلاً : كيف تكون معرفة الله أمراً شاقاً والحال انّه سبحانه يعدّه أمراً سهلاً ويقول : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (إبراهيم / ١٠).

وثانياً : أنّ المشكور وإن كان لا ينتفع بشكر العباد إلّا أنّ الشاكر ينتفع به وأقلّ ما ينتفع ، وهو انّ الشكر يزيد النعمة قال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (إبراهيم / ٧).

ثمّ إنّ الرازي لما وقف على بعض ما ذكر قال : لا معنى للمنفعة إلّا اللذة

__________________

(١) المطالب العالية : ٣ / ٢٩١.

والسرور أو دفع الألم والغم والله سبحانه قادر على تحصيل هذه الأُمور من غير واسطة هذه التكاليف.

يلاحظ عليه : أنّ عموم قدرته وإن كان لا ينكر لكن تعلّقت مشيئته الحكمة على التفريق بين الفيض العام فهو يصل إلى كلّ ما يدبّ وإن كان كافراً وجاحداً ، والفيض الخاص الذي لا يفيض إلّا على الخلّص من عباده (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمّد / ١٧) فحكمته تصدّه عن سيادة الفيوض في إيصال النعم ، فيعم العارف والجاحد ، ولو عمّ بعض نعمه كل إنسان مؤمن وكافر ، لمصلحة هو أعرف بها ، لكن قسماً من نعمه رهن استحقاق المورد ولياقته ، وكلّما ازدادت معرفة العبد بمولاه ، ازداد استحقاقاً والفيوض تنزل حسب صلاحيات الأفراد ، ومقدار القابليات والاستعدادات.

ولعمر القارئ أنّ الرازي أعرف بضعف ما ذكره ووهن ما نسجه إلّا أنّ الدفاع عن المنهج الذي تربى عليه ، دفعه إلى نحت هذه الحجج الواهية.

ثمّ إنّ الرازي فتح باباً آخر (الفصل التاسع من فصول كتابه) ذكر فيه خمس عشرة حجة على ردّ تحسين العقل وتقبيحه في أفعاله وأحكامه سبحانه والدلائل كلّها من سنخ ما تلوناه عليك ، فهو قد اتخذ عويصات المعارف ومشاكلها ذريعة على إنكار التحسين والتقبيح ، مع أنّ عدم عرفان المصلحة في موارد ، لا يكون دليلاً على إنكارهما.

مثلاً ذكر في الحجة الأُولى أنّ تكليف من علم أنّه يكفر قبيح عقلاً. وأتى في إثبات مرامه بأمثلة كثيرة مع أنّه سبحانه كلّفه فدلّ على أنّ ما يدركه العقل من المحاسن والقبائح يختص بالإنسان ولا يعمّه سبحانه (١).

يلاحظ عليه : أنّ الواجب على الرازي ومن هو على شاكلته ، أمام هذه العويصات ، هو السكوت والتفويض إلى الله ، لا جعلها ذريعة إلى إنكار أبده

__________________

(١) المطالب العالية : ٣ / ٣٠٥.

البديهيات ، وأوضح الواضحات الذي أطبق عليه عقل العقلاء ، وما تمسك به الرازي في إبطال تسرية أحكام العقل إلى ساحته سبحانه ، ليس إلّا أُموراً غامضة ربما لا يتوفّق الإنسان على حلّ عقدها ، لكن ليس له أن يجعل عدم التوفّق ذريعة لإنكار الواضحات.

على أنّه لو تأمّل الرأي أو رفع إلى مشايخ العلوم العقلية ، لأحلّوا عقدته وقالوا :

إنّه ليس هنا إرادات جزئية مختلفة متعلّقة بآحاد المكلّفين ، بأن تكون هنا إرادات حسب تعدّد المكلّفين حتى يقال كيف يمكن تعلّق إرادة جديّة بإيمان من نعلم أنّه لا يؤمن ، بل إرادة وبعث واحداً إلى عنوان المكلّف وهو بوحدته ، وعموم متعلّقه حجة على الكلّ من غير فرق بين المؤمن والكافر ، والمستعد والجاحد وهذا يكفي في حسن العقاب ، وإن علم أنّه لا يؤمن.

نعم البعث الجزئي لا ينقدح في لوح النفس إذا علم أنّه لا يؤمن أبداً ، ولكن لغاية إتمام الحجة يتعلّق بعث واحد متعلّق بالعنوان العام مصحّح للعقوبة ، فالرازي خلط بين الخطابات القانونية ، والخطابات الشخصيّة (١).

على أنّ هنا جواباً آخر يصحّح توجه الخطاب الشخصي إلى من علم من حاله أنّه يعصي ويطغي قال سبحانه : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى). (طه / ٤٣ ـ ٤٤)

ه لصحمو : أنّ مرجع التكليف هنا إلى إتمام الحجة كما قال سبحانه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ). (النساء / ١٦٥) (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ). (الأنعام / ١٤٩)

__________________

(١) ومن أراد أن يقف على الفرق بين الخطابين فعليه الرجوع إلى بحوثنا في أُصول الفقه.

هل التحسين والتقبيح العقليان من المشهورات؟

قد تعرفت على أنّ كل مورد حكم فيه العقل بالتحسين والتقبيح ، فإنّما يحكم به بدافع من ضميره ، وحافز من صميمه ، وأنّ هذا الحكم عنده من الأحكام البديهية في مجال العقل العملي ، حسب البيان الأوّل ، وأنّه يجد الفعل ملائماً أو منافراً للجانب الفوقاني من وجوده حسب البيان الثاني وعلى ذلك فهو لا يعتمد في قضائه على أيّ أمر خارج عن ذاته ، بحيث لو تبدل ذلك الأمر الخارج لاختلّ قضاؤه.

وهذا ولكن الظاهر من شيخ المشائيين وتبعه جل من تأخّر عنه ، أنّ التحسين والتقبيح من المشهورات التي اتّفقت عليها آراء العقلاء وتسمى الآراء المحمودة ، قال الشيخ الرئيس : «فأمّا المشهورات من هذه الجملة فمنها هذه الأوّليات ونحوها ممّا يجب قبولها لا من حيث هي واجب قبولها ، بل من حيث عموم الاعتراف بها ومنها الآراء المسماة المحمودة ، وربما خصّصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلّا الشهرة وهي آراء لو خلّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسَّه ، ولم يؤدَّب لقبول قضاياها ، والاعتراف بها لم يقض بها الإنسان طاعةً لعقله ، أو وهمه ، أو حسه ، مثل حكمنا أنّ سلب مال الانسان قبيح ، وأنّ الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدِم عليه ، ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس ـ وان صرف عنه الشرع ـ من قبح ذبح الحيوان اتّباعاً لما في الغريزة من الرقّة لمن تكون غريزته كذلك ، وهم أكثر الناس وليس شيء من هذا ما يوجبه العقل الساذج ... وانّه لو خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدباً ولم يُطِع انفعالاً نفسانياً أو خلقيّاً ، لم يقض في أمثال هذه القضايا.

ثمّ إنّ الشيخ قسم المشهورات إلى الأقسام التالية : (١)

__________________

(١) أصل التقسيم مأخوذ من الشيخ ، والأمثلة مأخوذة من كلام صاحب المحاكمات لقطب الدين الرازي ، فلاحظ ولا يخفى أنّ بعض الأمثلة خارجة عن إطار الحكمة العملية.

١ ـ إمّا من الواجب قبولها :

وفسّره المحقّق الطوسي بقوله : «إنّ المعتبر في الواجب قبولها ، كونها مطابقة لما عليه الوجود فالمعتبر في المشهورات كون الآراء عليها مطابقة».

٢ ـ وإمّا من التأديبيّات الصلاحية كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح.

٣ ـ وما يطابق عليها الشرائع كقولنا : الطاعة واجبة.

٤ ـ وإمّا خلقيات كقولنا : كشف العورة قبيح.

٥ ـ وإمّا انفعاليات كقولنا : مراعاة الضعفاء محمودة.

٦ ـ وإمّا استقرائيات كقولنا : تكرار الفعل مملّ أو دفع الخصم واجب.

٧ ـ وأيضاً انّ المشهورات إمّا مشهورات على الإطلاق وإمّا بحسب صناعة كقولنا : التسلسل محال.

٨ ـ أو أرباب ملّة كقوله : الإله واحد ، والربا حرام.

بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه بأنّ الكل أعظم من الجزء. (١)

تحليل مقال الشيخ الرئيس :

يلاحظ عليه أوّلاً :

أنّ القياس إمّا برهاني وإمّا جدلي وإمّا خطابي ، وإمّا شعري وإمّا سفسطي.

والقياس البرهاني يتألف من اليقينيات التي أُصولها ستة : ١ ـ الأوّليات ٢ ـ المشاهدات ٣ ـ التجريبيات ٤ ـ الحدسيات ٥ ـ المتواترات ٦ ـ الفطريات.

والقياس الجدلي يتألف من مقبولات الخصم أو المسلّمات بين العقلاء

__________________

(١) شرح الإشارات والتنبيهات : ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، قسم المنطق.

المعبر عنها بالمشهورات.

وعندئذ نقول : إذا لم يكن حكم العقل بالتحسين والتقبيح من الأحكام العقلية اليقينية الداخلة في إحدى الأُصول الستة (الأوّليات في مجال العقل العملي) ، وكانت من المشهورات التي لا مدرك له إلّا الشهرة التي لو خلِّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه ، ولم يؤدَّب بقبول قضاياها لم يقض لها ، لزم أن يكون التحسين والتقبيح عقلائيّاً (لا عقلياً) تطابق عليه العقلاء من دون استناد إلى برهان ودليل ، وهو خلاف ما يدّعيه القائلون بهما.

وثانياً : أنّ لازم ذلك عدم صحّة الاحتجاج بهما في المسائل الكلامية والأُصولية مطلقاً ، لأنّ الاحتجاج فرع كون القضية أمراً برهانياً ، غير محدّد بحدّ ، ولا محصور بإطار ، نافذاً في حقّ العباد وخالقهم ، وإذا لم يكن كذلك وكان أمراً مقرراً بين العقلاء فكيف يمكن الاحتجاج به على الله سبحانه ، لأنّ الاحتجاج فرع كونه مقبولاً لدى المحتج عليه وهو فرع كونه برهانياً عاماً ، لا يعرف لنفوذه حدّاً وهذا يشبه الاحتجاج بمسلمات قوم ، على قوم آخر وبقوانين بلد ، على أهالي بلد آخر ، لا يعترفون بقوانينه.

وبعبارة ثانية : أنّ صحّة الاحتجاج فرع وحدة المنطق بين الطرفين ، وهو فرع كونه أمراً قطعيّاً إمّا برهانياً ، أو ضرورياً عند الطرفين وإذا لم يكن كذلك بل اتفق عليه أحد الطرفين بلا برهان ، فلا يصلح به الاحتجاج على من لم يتفق عليه الآخر.

نرى أنّ الأُصولي يحتج بقبح العقاب بلا بيان على الله سبحانه ، ويقول لو كان العمل الفلاني حراماً عند الشارع كان عليه البيان ، لأنّ العقاب على ارتكاب الحرام من دون بيان ظلم وهو قبيح على الله سبحانه ، والاحتجاج إنّما يصحّ إذا كان قبح عقاب الظلم أمراً معترفاً عليه من جانب الشارع ، وإذا لم يكن كذلك وإنّما اعترف به العقلاء وأخذوها أمراً مسلّماً بلا بينة ولا برهان ، فلا يكون نافذاً في حقّه سبحانه الذي لم يعترف به ، بخلاف ما إذا كان أمراً برهانياً أو ضرورياً يقينياً ،

لا يعرف لحجيته ، حداً ، ويكون مقبولاً معترفاً به عند خالق العباد ، والعباد.

والحاصل : أنّ هذه النظرية التي ابتدعها الشيخ الرئيس وتبعه المحقّق الطوسي ، في شرحه على الإشارات وقطب الرازي في محاكماته يهدم أساس الحسن والقبح العقليين ، ويدمّر كل ما بنى عليه من الأُصول والقواعد في الكلام وأُصول الفقه.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس قد أكّد على ما ذكره في الإشارات ، في بعض كتبه ، وصار ذلك أُسوة للمتأخّرين عنه فترى أنّ المحقّق الطوسي في شرح الإشارات ، وقطب الدين الرازي ، في محاكماته ، والمحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية وتلميذه المظفر اقتفوا أثره وتلقوه كلاماً قيّماً لا يقبل الخدشة ، ولنذكر كلامهم حتى يقف القارئ على أنّ الخطأ تسرَّب من كلام الشيخ إلى كتبهم ولحسن ظنّهم به تلقوه حقيقة واضحة.

ولنذكر كلامه في النجاة :

قال : أمّا الذائعات فهي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إمّا شهادة الكل مثل «إنّ العدل جميل» وإمّا شهادة الأكثر وإمّا شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالف فيه الجمهور. وليست الذائعات من جهة ما هي هي ، ممّا يقع التصديق بها من الفطرة ، فإنّ ما كان من الذائعات ليس بأوّليّ عقلي فانّها غير فطرية ، ولكنّها متقررة عند الأنفس ، لأنّ العادة تستمر عليها منذ الصبا ، وبما دعا إليها محبة التسالم والإصلاح المضطر إليهما الإنسان ، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو سنن قديمة بقيت ولم تنسخ ، أو الاستقراء الكثير.

وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الذائع والفطري فاعرض قولك : «العدل جميل» و «الكذب قبيح» على الفطرة التي عرّفنا حالها قبل هذا الفصل ، وتكلّف الشك فيهما ، تجد الشك متأتياً فيهما وغير متأت في «أنّ الكل أعظم من الجزء وهو

حقّ أولى». (١)

ثمّ إنّ الشيخ قد فسّر الفطرة في مقام آخر وقال : «أن يتوهم الإنسان نفسه ، حصل في الدنيا ، دفعة وهو بالغ عاقل ، لكنّه لم يسمع رأياً ، ولم يعتقد مذهباً ، ولم يعاشر أُمّة ، ولم يعرف سياسة ، لكنّه شاهد المحسوسات ، وأخذ منها الخيالات ، ثمّ يعرض منها ، على ذهنه شيئاً ، ويتشكّك فيه. فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به. وإن لم يمكنه الشك ، فهو ما توجبه الفطرة». (٢)

يلاحظ على كلام الشيخ :

أنّه لو صحّ تفسير الفطرة بما ذكره لأصبح حسن الإحسان وقبح الظلم أو حسن جزاء الإحسان بالإحسان ، وقبح جزاء الإحسان بالسوء» ، من الفطريات التي لا يشك فيه أحد. فإنّ الإنسان مهما كان بسيطاً لا تتجلّى القضيتان عنده سواسية ولو سوّى بينهما ، يكون ذلك دليلاً على عدم كونه إنساناً سوياً وليس قضاؤه لقبح الأوّل وحسن الثاني لأجل كونه متألّماً من الظلم أو مسروراً من العدل ، بل يقضي بهما مع غضّ النظر عن صلتهما بحياته.

نظرية المحقّق اللاهيجي :

ثمّ إنّ أوّل من نفض الغبار عن وجه الحقيقة هو العلّامة المحقّق الشيخ عبد الرزاق اللاهيجي (ت ١٠٧٢ ه‍ ـ) في رسالته المسماة ب ـ «سرمايه ايمان» فانّه ذهب إلى ما حقّقناه وأقمنا برهانه وقال ما هذا تعريبه :

«الحق أنّ حسن العدل والصدق ، وقبح الظلم والكذب أمر ضروري والعقل في المقام غني عن حكم الشارع.

__________________

(١) النجاة : ٦٣ ، قسم المنطق.

(٢) الجوهر النضيد : ١٩٨ ، ٦٢.

فإن قلت : إنّ الحكماء جعلوا حسن العدل وقبح الظلم من المقبولات التي هي من مواد القياس الجدلي ، واتّفاقهم عليهما لأجل كونه الأوّل محصلاً للمصالح النوعية والثاني مستلزماً لمفاسدها ومع ذلك كيف يمكن أن يعدّا من القضايا البديهية أو الضرورية التي من شعب اليقينيات.

قلت : ضرورية القضيتين وغناء العقل في مقام إصدار الحكم عن التأمّل والتروّي بمرحلة يعدّ إنكاره مكابرة ، وتعليل الحسن والقبح بوجود المصالح والمفاسد العامة ، لا ينافي كونهما من الأحكام الضرورية البديهية الغنيّة عن التعليل ، وذلك لأنّه لا مانع من أن تعد قضية من اليقينيات باعتبار ، ومن المقبولات العامة باعتبار آخر ، ويكون من مبادئ البرهان من جهة ، ومبادئ الجدل من جهة أُخرى ، حتّى أنّ كونهما مقبولين للغاية ليس لاستلزامهما المصلحة أو المفسدة بل لقضاء الفطرة بهما مع قطع النظر عن المصالح والمفاسد وربما لا يعرفون المصالح والمفاسد». (١)

وممّن وقف على حقيقة الحال ، هو الحكيم السبزواري في شرح الأسماء الحسنى فقال : إنّ الحقّ هو عقلية الحسن والقبح للعلم الضروري باستحقاق المدح على العدل والإحسان ، والذم على الظلم والعدوان وهذا العلم حاصل للكل ، وإن لم يتديّن بدين ، ولهذا يحكم به منكروا الشرائع أيضاً كالبراهمة.

وأيضاً انّ العلم بحسن ما حسّنه الشارع ، أو قبح ما قبّحه يتوقف على أنّ الكذب قبيح لا يصدر عنه وذلك إمّا بالعقل والتقدير انّه معزول وبالشرع فيدور.

ثمّ قال : وقد يستشكل دعوى الضرورة في القضية القائلة بأنّ العدل حسن والظلم قبيح بأنّ الحكماء جعلوهما من المقبولات العامة التي هي مادة الجدل فجعلهما من الضروريات التي هي مادة البرهان غير مسموع ثمّ أجاب وقال : إنّ ضرورية هذه الأحكام ، بمرتبة لا تقبل الإنكار بل الحكم ببداهتها أيضاً بديهي ـ

__________________

(١) سرمايه ايمان : ٦٠ ـ ٦٢ بتلخيص.

إلى أن قال : ـ إنّ القضية الواحدة يمكن أن تدخل في اليقينيات والمقبولات من جهتين فيمكن اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين. (١)

ولم نقف على كلام لغيرهما يدعم كون التحسين والتقبيح أمراً بديهياً ، ويرفض كونهما من المشهورات المحضة.

كلام المحقّق الاصفهاني :

إنّ المحقّق الاصفهاني تأثّر بكلام الشيخ الرئيس فقد بسط الكلام في تشييد مقاصده وقال : إنّ وصف الفعل بالحسن والقبح يكون لأجل أحد أمرين :

١ ـ إذا أساء إنسان إلى غيره فانّه بمقتضى ورود ما ينافره عليه وتألّمه منه ، ينقدح في نفسه الداعي إلى الانتقام منه والتشفّي من الغيظ الحاصل لسببه ، بذمّه وعقوبته فالسببية للذم هنا واقعية وسلسلة العلل والمعلولات مترتبة واقعاً.

٢ ـ فيما إذا كان الغرض من الحكم بالمدح والذم حفظ النظام وبقاء النوع بلحاظ اشتمال العدل والإحسان على المصلحة العامة ، والظلم والعدوان على المفسدة العامة فتلك المصلحة العامة تدعو إلى الحكم بمدح فاعل ما يشتمل عليها ، وتلك المفسدة تدعو إلى الحكم بذمّ فاعل ما يشتمل عليها فيكون هذا التحسين والتقبيح من العقلاء موجباً لانحفاظ النظام ورادعاً عن الاخلال به.

ما يناسب الحكم العقلائي الذي تصح نسبته إلى الشارع بما هو رئيس العقلاء هو القسم الثاني دون الأوّل الذي لا يناسب الشارع بل لا يناسب العقلاء بما هم عقلاء وهو الذي يصح التعبير عنه بالتأديبيات الصلاحية. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ حصر ملاك التحسين والتقبيح العقليين بالأمرين غير تام

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ١٢٥.

بل هناك ملاكان آخران أوضحنا حالهما فيما مضى :

أوّلهما : كون الحكم من الأحكام الواضحة للعقل العملي.

وثانيهما : أنّه إذا كان الفعل ملائماً للفطرة والجانب المثالي منه أو منافراً ، من غير نظر إلى كونه محصلاً للغرض الشخصي كالتشفّي والانتقام ، أو المصلحة النوعية كبقاء النظام وعدمه ، فيوصف بالحسن أو القبح بمجرّد التوجه إلى الموضوع. فلاحظ ما مرّ.

والذي يدل على ذلك : أنّ الموضوع لا يختص بفعل الإنسان حتى يدور أمره بين كونه محصلاً للغرض الشخصي أو النوعي ، بل يعم فعله سبحانه الرفيع من هذه الغايات والواقع في قمة الوجود ، مثلاً يوصف تأديبه الطفل في الآخرة بكونه قبيحاً ، وليس هناك عن الانتقام ولا الاخلال بالنظام حديث ولا خبر.

والذي أوقعه فيما أوقعه ، هو اقتفاؤه أثر الشيخ الرئيس ، وجعله مسألة الحسن والقبح من المشهورات التي لا واقع له إلّا اعتراف العامة ولم يجد وجهاً لاعتراف العامة بهما ، سوى كون العدل من أسباب بقاء النظام الإنساني والعدل من منافياته.

ولا محيص للمتكلّم الإسلامي ولا الفقيه الأُصولي ، في تصحيح ما بنى على ذلك الأصل من الأحكام والأُصول من سلوك ما سلكناه وإلّا ينهدم كل ما بنى.

ثمّ إنّ شيخنا المظفر تبع ما ذكره المحقق الاصفهاني بحماس وقال : «وتسمّى هذه الأحكام العقلية العامة ، الآراء المحمودة ، والتأديبات الصلاحية وهي من قسم من القضايا المشهورات التي هي قسم برأسها ، في مقابل القضايا الضروريات فهذه القضايا غير معدودة من قسم الضروريات ـ إلى أن قال : ـ ومن هنا يتضح أنّ العدلية إذا قالوا بالحسن والقبح العقليين ، يريدون أنّ الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة ، المعدودة من التأديبات الصلاحية وهي التي تطابقت عليها رأي العقلاء بما هم عقلاء.

والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء أي إنّ واقعها ذلك ... الخ. (١)

وبعد الإحاطة بما ذكرناه تقدر على القضاء بين الكلمات.

* * *

أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين :

قد تعرفت على محلّ النزاع وكما تعرفت على ملاك التحسين والتقبيح ، وقلنا : إنّ القائل بهما في غنى عن إقامة البرهان لكونهما من الأحكام الضرورية في الحكمة العملية ، ومع ذلك يناسب أن نشير إلى أدلّة القوم من المثبت والنافي فنقول :

استدل المثبت بوجوه :

الأوّل : ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : «ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً» (٢) أي أنّا لو قلنا بأنّ الحسن والقبح يثبتان من طريق الشرع ، يلزم من ذلك ، عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.

توضيحه : أنّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب ، فلا اشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسناً وما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح والشارع لا يرتكب القبيح ، ولا يتصور في حقّه ارتكابه.

وأمّا لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر الشارع بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه حتى

__________________

(١) أُصول الفقه : ١ / ٣٣٥.

(٢) كشف المراد : ١٨٦.

نعتقد بمضمونه لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو اخباره فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار. فيلزم على قول الأشعريّ أن لا يتمكن الانسان من الحكم بحسن شيء لا عقلاً ولا شرعاً.

وإن شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر ، كالصدق والكذب ، وأخبرنا الله سبحانه عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

الثاني : ما أشار إليه المحقّق الطوسي أيضاً بقوله : «ولجاز التعاكس» (١) أي في الحسن والقبح.

توضيحه : أنّ الشارع على القول بشرعية الحسن والقبح ، يجوز له أن يُحَسِّن أو يقبِّح ما حسَّنه العقل أو قبَّحه. وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كلّ إنسان يقضي بأنّه لا يصحّ أن يذم المحسن أو يمدح المسيء. قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء» (٢) والإمام يهدف بكلمته هذه إلى إيقاظ وجدان عامله ، ولا يقولها بما أنّها كلام جديد غفل عنه عامله.

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، ويحكمون بذلك مستندين إلى العقل. وهؤلاء المادّيون والملحدون المنتشرون في شرق الأرض وغربها يرفضون الشرائع والدين من أساسه ولكن يعترفون بحسن أفعال وقبح بعضها الآخر.

ولأجل ذلك يغرّون شعوب العالم بطرح مفاهيم خداعة ، بدعاياتهم الخبيثة ،

__________________

(١) كشف المراد : ١٨٦.

(٢) نهج البلاغة : قسم الرسائل برقم ٥٣.

نظير دعم الصلح والسلام ، وحفظ حقوق البشر ، والعناية بالاسرى والسجناء ، ونبذ التمييز العنصري ، إلى غير ذلك ممّا يستحسنه الذوق الإنساني والعقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون تلك القضايا ليصلوا من خلالها إلى أهدافهم ومصالحهم الشخصية. ولو لا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية والإلحاد في العالم.

والحاصل : أنّ هناك أفعالاً لا يشك أحد في حسنها سواء ورد حسنها في الشرع أم لم يرد. كما أنّ هناك أفعالاً قبيحة عند الكل ، سواء ورد قبحها في الشرع أم لا. ولأجل ذلك لو خيّر العاقل (الذي لم يسمع بالشرائع ، ولا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي ، خالي الذهن من العقائد كلّها) بين أن يَصدق ويُعطى ديناراً ، أو يَكذب ويُعطى ديناراً ، ولا ضرر عليه فيهما فانّه يرجح الصدق على الكذب. ولو لا قضاء الفطرة بحسن الصدق وقبح الكذب لما فرّق بينهما ، ولما اختار الصدق دائماً.

وهذا يعرب عن أنّ العقل له قدرة الحكم والقضاء في أُمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليِّه المنعم وقبح مخالفته ، وانّ المحسن والمسيء ليسا بمنزلة سواء ، ونحو ذلك.

الرابع : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى شيء. ولو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدى الكاذبين. وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة الأنبياء ، فانّ أيّ نبيّ أتى بالمعجزة عقيب الادّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

وهذه النتيجة الباطلة من أهمّ وأبرز ما يترتب على إنكار القاعدة. وبذلك سدّوا باب معرفة النبوة.

* * *

أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين :

استدلت الأشاعرة على نفي التحسين والتقبيح العقليين بوجوه نأتي بها :

الدليل الأوّل : الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء :

توضيحه : أنّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ، ولا زاجر ، ولا حاظر ، ولا من رسم له الرسوم ، وحدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا ، لأنّا تجاوزنا ما حدَّ ورسم لنا ، وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلما لم يكن البارى مملوكاً ولا تحت أمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه. قيل له : أجل ولو حسّنه لكان حسناً ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض.

فإن قالوا : فجوزوا عليه أن يكذب ، كما جوزتم أن يأمر بالكذب.

قيل لهم : ليس كلّ ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به. (١)

يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فانّنا نسأل الشيخ الأشعري عن أنّه سبحانه إذا أولِمَ طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب مع كون الطفل بريئاً لم يصدر منه ذنب ، ورأى الأشعرى ذلك بأُم عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، ونفس الحسن؟! أو أنّه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً منكراً؟

ومثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل غير متجاوز عنه ، بحجة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء؟ أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟

وأمّا ثانياً : فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت يقدر على كل أمر

__________________

(١) الأشعري : اللمع : ص ١١٧.

ممكن ـ كما عرفت ـ من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكل ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع تدخّل في شئون ربّ العالمين ، ولكن الواقع ليس ذلك.

توضيحه : أنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية ، يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كل زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل بذلك فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال : إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه وأنّ أيّ فعل يصدر منه أو لا يصدر منه ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه ، بل هو ـ بالنظر إلى الله تعالى وصفاته التي منها الكمال والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.

وبعبارة أُخرى : أنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكل كمال ، والغنيّ عن كل شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقّق الصارف عنه ، وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ كلاً من الفعل والترك بالاختيار ، وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح. ولا يهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل ، بل الله بحكم أنّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح. وليس دور العقل هنا إلّا دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.

وباختصار : أنّ فعله سبحانه ـ مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضوياً ومتحرّراً عن كل قيد وشرط ، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، وإنّما هو واقعية وحقيقة كشف عنه العقل ، كما كشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتصور أنّ فعله سبحانه متحرّر عن كلّ قيد وحدّ ، لغاية حفظ شأن الله سبحانه ، وسعة قدرته أشبه بالمغالطة ، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض تجرّد فعله عن كلّ قيد وشرط.

وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استدل به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليين. ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري من أتباع مذهبه ودعاة طريقه.

الدليل الثاني : لو كان التحسين والتقبيح ضرورياً لما وقع الاختلاف :

قالوا : لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، لكن التالي باطل بالوجدان.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : «ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصوّر». (١)

توضيحه : أنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصوّر أطرافها. وقد قرّر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب : فالأوّليات أبده من المشاهدات بمراتب. والثانية أبده من التجربيات ، والثالثة أبده من الحدسيات ، والرابعة أبده من المتواترات ، والخامسة أبده من الفطريات. والضابطة في ذلك أنّ ما لا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره ، وذلك مثل الأوّليات ، وهكذا.

__________________

(١) كشف المراد : ١٨٦.

فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

وباختصار : أنّ العلوم اليقينية ، مع كثرتها ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب ودرجات ، وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته ، وعلى ذلك فلا مانع من أن يقع الاختلاف في بعض العلوم الضرورية لدوافع خاصة ، وهي في المقام تصور أنّ الحكم بالحسن والقبح تحديد لسلطنته سبحانه ، فلأجل ذلك رفضت الأشاعرة هذا العلم الضروري للحفاظ على عموم سلطته تعالى.

الدليل الثالث : لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغيرا :

إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لما اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن ، والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح ، وذلك فيما إذا تضمن الكذب إنقاذ نبيّ من الهلاك ، والصدق إهلاكه.

فلو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عند ما استفيدت به عصمة دم نبيّ عن ظالم يقصد قتله (١)

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : «وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان التخلص». (٢)

توضيحه : أنّ الكذب في هذه الصورة على قبحه إلّا أنّ ترك إنقاذ النبيّ أقبح من الكذب ، فيحكم العقل بارتكاب أقلّ القبيحين تخلصاً من ارتكاب الأقبح. على أنّه يمكن التخلّص عن الكذب بالتعريض (أي التورية).

وباختصار : أنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق فيكون تركه أقبح من

__________________

(١) الآمدي : الأحكام : ١ / ١٢١.

(٢) كشف المراد : ١٨٧.

الكذب فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.

أضف إلى ذلك : أنّ الاستدلال مبنيّ على كون قبح الكذب وحسن الصدق ، كقبح الظلم وحسن العدل ، ذاتيين لا يتغيران. وأمّا على ما مرّ من أنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على أقسام :

منها : ما يكون الفعل علّة تامة لأحدهما ، فلا يتغير حسنه ولا قبحه بعروض العوارض كحسن الإحسان وقبح الإساءة.

ومنها : ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، وهكذا في جانب القبح. وقد تقدّم أنّ حسن الصدق وقبح الكذب من هذا القبيل.

ومنها : ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، وإنّما يوصف بأحدهما بطرو عنوان كالضرب جزاء أو إيذاء.

إنّ الآمدي ـ أحد المتكلّمين من الأشاعرة ـ نقل وجوهاً سبعة لإنكار التحسين والتقبيح العقليين ونحن نضنّ بالقلم والحبر والورق عن نقلها والردّ عليها ، ولأجل الوقوف على ضالتها نذكر واحداً منها :

لو كان الكذب قبيحاً لذاته ، للزم منه أنّه إذا قال : «إن بقيت ساعة كذبت» أن يكون الحسن منه في الساعة الأُخرى ، الصدق أو الكذب ، والأوّل ممتنع لما يلزمه من كذب الخبر الأوّل وهو قبيح ، فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب. (١)

انظر إلى هؤلاء ، كيف يستدلّون على مسألة كلامية أو أُصولية أو أخلاقية بهذه الوجوه التافهة ، وهم بدل أن يرجعوا إلى فطرتهم وقضاء عقولهم ، صاروا يستدلون بهذه اللغز والأحاجي. ومع ذلك نقول : إنّ وظيفته في الساعة الأُخرى هو

__________________

(١) الاحكام : ١ / ١٢٠ ـ ١٢١.

الصدق ، وهو ليس بقبيح واستلزامه كذب الخبر الأوّل ليس بقبيح ، لأنّ تعهده على الكذب كان قبيحاً ، وكان نقضه حسناً وهذا نظير ما إذا أخبر عن قتل الإنسان البريء في الساعة الثانية ، لكن الحسن منه ليس هو القتل ، بل تركه ، لأنّ فيه صيانة الدم المحترمة. والوجوه الباقية من هذه القبيل والآمدي وإن لم يقبلها ، لكن نقل هذه الحجج الواهية ، ليس من شئون الكاتب الواعي.

وأمّا ما استند هو عليه في ردّ الحسن العقلي فليس بأقصر من هذه الوجوه فلاحظ. (١)

* * *

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أنّ هناك أفعالاً يستقل العقل بحسنها وقبحها ، ويقضي بهما من دون أن يستعين بالشرع ، ويرى حسنها وقبحها مطرداً في جميع الفاعلين ، من غير اختصاص بالخالق أو المخلوق. وقد ذكرنا ملاك قضائه وهو إمّا كون القضية من البديهيات أو كونها ملاءمة أو منافرة للشخصية العِلْوية المثالية التي خلق الإنسان عليها.

ثمّ إنّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين إنّما يتم على القول بأنّ الإنسان فاعل مختار ، وأمّا على القول بأنّه مجبور في أفعاله ، فالبحث عنهما منفي بانتفاء موضوعه ، لأنّ شيئاً من أفعال المجبور لا يتصف بالحسن ولا بالقبح عقلاً. وبما أنّ الأشاعرة يصورون الإنسان فاعلاً مجبوراً ، فلازم مقالتهم نفي التحسين والتقبيح العقليين ، وقد اعترف الأشاعرة بذلك (٢)

* * *

__________________

(١) الاحكام : ١ / ١٢٣.

(٢) كشف المراد : ١٨٧.

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز :

إنّ التدبّر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّه يسلّم استقلال العقل بالتحسين والتقبيح خارج إطار الوحي ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبح.

١ ـ قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (١)

٢ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ). (٢)

٣ ـ (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

٤ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (٤)

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف قبل تعلّق الأمر أو النهي بها ، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته ، كما يعرف سائر الموضوعات كالماء والتراب. وليس عرفان الإنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يتّخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته :

٥ ـ يقول تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي

__________________

(١) سورة النحل / ٩٠.

(٢) سورة الأعراف / ٣٣.

(٣) سورة الأعراف / ١٥٧.

(٤) سورة الأعراف / ٢٨.

الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (١)

٦ ـ ويقول سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (٢)

٧ ـ ويقول سبحانه : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). (٣)

فالتدبر في هذه الآيات لا يدع مجالاً لتشكيك المشكّكين في كون التحسين والتقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنية من دون حاجة إلى حجة ظاهرية.

ولنكتف بهذا المقدار ـ قال الشيخ الأعظم ـ : إنّ إكثار الكلام فيها ربما يعدّ من العبث ، حيث إنّه لا يفيد غير ما هو المعلوم لنا منها بسلامة الوجدان مع أنّ لنا فيه غنى عن تجشّم البرهان. (٤)

واعلم أنّ البحث عن الحسن والقبح يعدّ من المبادئ الأحكامية التي يبحث فيها عن أحوال الأحكام الشرعية ، مثل البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء بعنوانين ، فانّه ـ عند البعض ـ من المبادئ الأحكامية. وأمّا البحث عن المسألة الثانية أي وجود الملازمة بين حكم العقل بالحسن ، أو القبح والحكم الشرعي فهو من المسائل الأُصولية وإليك الكلام فيها :

__________________

(١) سورة ص / ٢٨.

(٢) سورة القلم / ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) سورة الرحمن / ٦٠.

(٤) مطارح الأنظار ، رسالة «الأدلة العقلية» : ٢٣٥.

المسألة الثانية :

ثبوت الملازمة بين

حكم العقل وحكم الشرع

قد عرفت فيما سبق أنّ هنا مسائل ثلاث ، وقد مضى البحث عن الأُولى وهي بمنزلة الصغرى للمسألة الثانية ، أعني : وجود الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، بمعنى انّه إذا ثبت حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلاً أن يحكم الشرع على طبقه أو لا؟ فالمعتزلة على الملازمة ، فهو عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي. دون غيرهم وأمّا أصحابنا فالأخباريون على إنكار الملازمة ، والأُصوليون على ثبوتها ، إلّا صاحب الفصول فقد أنكرها. وقبل الخوض في المقصود ، لا بدّ من التنبيه على أمر مهم له دور في القضاء الصحيح في المسألة وهو :

إنّ محل النزاع غير مُنقَّح في كلمات القوم ، ويظهر من الردود على نفي الملازمة بين حكمي العقل والنقل انّه حصل الخلط فيما عقد له هذا البحث.

فنقول : إنّ هنا مسألتين :

الأُولى : إذا استقل العقل بالتحسين والتقبيح ، ومدح المحسن وذم المسيء ، فهل يستقل بأنّ الأمر كذلك عند الشارع ، فهو أيضاً باعث إلى الإحسان ، وزاجر عن الظلم ، ويمدح المحسن ويذم المسيء ، ويثيب الأوّل ، ويعاقب الثاني أو لا؟ وعلى ذلك فالبحث في كلا الطرفين (العقل والشرع) مركز ، على إدراك العقل حسن الفعل وقبحه. لا على إدراكه مصلحة في الفعل أو مفسدة فيه ، شخصية كانت أو نوعية.

الثانية : إذا استقل العقل بوجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه ، ولزوم حيازة الأُولى ، والاجتناب عن الثانية ، فهل يكشف ذلك عن كونه واجباً أو حراماً عند الشرع أو لا ، بحيث يكون العلم بالمصالح والمفاسد ، من مصادر التشريع الإسلامي ، أو لا؟

أقول : هذه مسألة مسألة ثانية لا صلة لها بالأُولى لما عرفت من أنّ موضوع البحث في الأوّل هو حسن الأفعال وقبحها ، مع قطع النظر عن كونها حاملة لمصلحة أو مفسدة ، وهذا بخلاف الثانية فالموضوع فيه كون الفعل ذا مصلحة ومفسدة ، وربما لا يكون اشتماله على المصلحة أو المفسدة بديهياً ، ولا يثبت إلّا بإقامة البرهان أو بالاستقراء أو بالبحث والنقاش وعلى كلّ تقدير فإنّها خارجة عن محط البحث ، وأشبه ببحوث أهل السنّة ، ومبانيهم ، فأنّ العقل عندنا أقصر من أن يحيط بمصالح الأُمور ومفاسدها ومزاحماتها وموانعها حتى يصبح من مصادر التشريع بهذا المعنى.

وممّن صرّح بذلك ، الشيخ المحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية وتلميذه المظفر وإليك نقل كلامهما.

قال المحقّق الاصفهاني : «أمّا استتباع حكم العقل النظري للحكم الشرعي المولوي فمجمل القول فيه انّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات

تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت ضابط ، ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع ، وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها ، نعم لو اتّفق إدراك مصلحة حاصلة لبعض الأحكام بحيث كانت في نظر العقل تامة الاقتضاء فهل يحكم الفعل بحكم الشارع على طبقها أملا ...»؟ (١)

وقال الشيخ المظفر ، بعد تقرير البحث بنفس تقريرة أُستاذه : «... وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية ، فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامّتين اللتين يساوي في إدراكهما جميع العقلاء ، فانّه ـ أعني العقل ـ لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك ، يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل أو يحتمل انّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع ، غير ما أدرك العقل أو انّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ، وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشارع.

ولأجل هذا نقول : إنّه ليس كل ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به العقل وإلى هذا يشير إمامنا الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقل» ، ولأجل هذا نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الأدلّة الشرعية على الأحكام». (٢)

وبما ذكرنا يتبيّن لك انّ بعض ما رُدَّ به على القاعدة فهو خارج عن حريم النزاع وإنّما هو راجع إلى المسألة الثانية التي هي خارجة عن محط البحث ولننقل كلام النافين والمثبتين

حتى يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره :

١ ـ كلام الزركشي وهو من النافين :

ذهب الزركشي إلى أنّ الحسن والقبح ذاتيان ، والوجوب والحرمة شرعيان

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٣٠.

(٢) اصول الفقه : ١ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

وانّه لا ملازمة بينهما. والمعتزلة لا ينكرون انّ الله تعالى هو الشارع للأحكام ، وإنّما يقولون : إنّ العقل يدرك انّ الله تعالى شرّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما ، فما كان حسناً ، جوّزه الشارع وما كان قبيحاً منعه فصار عند المعتزلة حكمان ، أحدهما عقلي والآخر شرعي تابع له.

ثمّ نقل قولاً آخر وأسماه قولاً متوسطاً وهو انّه قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب يتوقف على الشرع وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني وأبو الخطاب من الحنابلة وذكره الحنفية ونقلوه عن أبي حنيفة نصّاً وهو المنصور ـ ثمّ قال : ـ إنّ هاهنا أمرين : الأوّل : إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ، الثاني : انّ ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد في الشرع ، ولا تلازم بين الأمرين ، بدليل (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي بقبيح فعلهم (وَأَهْلُها غافِلُونَ) (الأنعام / ١٣١) ومثله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من القبائح (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ...) (القصص / ٤٧). (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً إنّ البحث مركز على ما لو استقل العقل بحسن الأفعال أو قبحها فهو يلازم ذلك ـ عند العقل ـ حكمه بالحسن والقبح أيضاً أولا ، وعليه فما نقله عن المعتزلة من أنّ العلم بالمصالح والمفاسد طريق إلى الحكم الشرعي ، كأنّه خارج عن محيط النزاع.

وبعبارة أُخرى ليس النزاع فيما إذا وقف العقل على مصالح الأحكام ومفاسدها وملاكاتها وانّه هل يلازم ذلك ـ عند العقل ـ حكم الشارع أيضاً على وفقها أو لا؟ بل النزاع فيما إذا استقل بحسن فعل أو قبحه ، وانّه هل يلازم حكم الشارع بهما أيضاً أو لا ، وبين الموضوعين بون بعيد ، والقول بالملازمة في الجهة الثانية لا يلازم القول في الأُولى لما تقرر في محلّه من انّه لا سبيل للعقل بما هو عقل

__________________

(١) تشنيف المسامع بجمع الجوامع : ١ / ١٣٣ ـ ١٣٩ كما في التعليق على الوافية : ١٧٥ ـ ١٧٧.

إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية (١) ، إذ يحتمل أن يكون المناط لحكم الشرع غير ما أدركه العقل ، أو انّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشرع. وقد عرفت حق القول قبل نقل كلام الزركشي كل ذلك يصيد الفقيه من حصول القطع بالمناط الذي هو السبب التام للحكم الشرعي.

وثانياً : أنّ طرف الملازمة بعد حكم العقل بالحسن والقبح ، هو حكم الشارع بهما. لا الثواب والعقاب ، كما هو لائح من كلامه ونقضه وابرامه ، نعم بعد ثبوت الملازمة وثبوت حكم الشرع بهما ، يترتب عليه العقاب أو الثواب لمخالفة حكمه أو موافقته.

وثالثاً : لا دلالة لما استدل به من الآيات على كونهما متوقّفين على خطاب صادر من الشارع ولا يكفي الحكم الاستكشافي ، وذلك لأنّ الآية الأُولى النافية للعقاب إلّا بعد بيان الشارع ناظرة إلى الغافلين من الناس بشهادة قوله : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) ، ولا صلة لها بمن هو واقف على مراد الشارع عن طريق العقل فلا تنفي الآية صحّة العقاب لغير الغافلين ، العارفين بكون الفعل قبيحاً عند العقل وغير مرضيّ لدى الشرع.

ورابعاً : أنّ المراد من قوله : (بِظُلْمٍ) هو الشرك بدليل قوله سبحانه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان / ١٣) وقوله سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام / ٨٢) وليس الشرك من القبائح التي يقف عليه الإنسان بصرافة ذهنهم وإنّما يدرك قبحه ، الأفذاذ من الناس ، وغير المتأثّرين بطريق الآباء والأجداد ، وإلّا فربما يتجلّى ذلك الأمر القبيح عند المشركين أمراً حسناً ، وقد كانوا يستدلون على حسن أفعالهم بأنّهم يعبدون الأوثان ، لأجل التقرّب إلى الله سبحانه. وعلى ذلك فإناطة العقاب في

__________________

(١) إلّا المصالح والمفاسد العامّتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء كما في كلام شيخنا المظفر.

هذا المورد ، بإرسال الرسل لا يكون دليلاً على إناطة سائر القبائح الواضحة به ، وبالجملة الإناطة في مورد خاص لا يكون دليلاً على الإناطة في مورد عام.

وبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بالآية الثانية ، لأنّها نزلت في حقّ قريش بشهادة قوله قبل هذه الآية : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص / ٢٦) والقدر المتيقّن من قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ، هو الشرك السائد على الجاهلية ، الذي ربما يخفى قبحه على سواد الناس ، فقد علّق العقاب به على إرسال الرسل ، لا كلّ قبيح واضح ، ولأجل ذلك كانوا يُسألون يوم القيامة عن وأد البنات ، قال سبحانه : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير ٣ ـ ٤).

٢ ـ كلام صاحب الوافية وهو من النافين للملازمة :

ثمّ إنّ صاحب الوافية ممّن قال بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولكنّه لم يلتزم بالملازمة وقال : «والحقّ ثبوت الحسن والقبح العقليين ، ولكن في إثبات الحكم الشرعي ـ كالوجوب والحرمة ـ بهما نظر وتأمل ، لأنّ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) (الإسراء / ١٥) ظاهر في أنّ العقاب لا يكون إلّا بعد بعثة الرسول فلا وجوب ولا تحريم إلّا وهو مستفاد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأيضاً انّ العقل يحكم بانّه يبعد من الله توكيل بعض أحكامه إلى مجرّد إدراك العقول مع شدة اختلافها في الإدراكات من غير انضباطة بنص أو شرع ، فانّه يوجب الاختلاف والنزاع ، مع أنّ رفعه من إحدى الفوائد لإرسال الرسل ونصب الأوصياء (عليهم‌السلام). (٢)

__________________

(١) سيوافيك الاستدلال بهذه أيضاً على نفي الملازمة بشكل آخر في آخر المبحث.

(٢) الوافية : ١٧٣ ـ ١٧٤.

يلاحظ عليه : أنّ بعث الرسول ، كناية عن البيان الواصل وحصول اليقين أو إقامة الحجة عليه ، ولأجل ذلك لو بعث الرسول ، ولم يصل البيان إلى العبد ، لما كان مسوِّغاً للعقاب وعلى ذلك لو حصل له اليقين بالصغرى ، أي التحسين والتقبيح العقليين وحصل اليقين بالكبرى : إنّ الشارع أيضاً حسّن ما حسّنه العقل وقبّح ما قبّحه ، يكون ممّن وصل إليه البيان ولأجله عُدَّ العقل ، في رواية هشام عن الكاظم (عليه‌السلام) رسولاً من باطن ، قال : «يا هشام إنّ لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ، أمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (١)

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكره في ذيل كلامه ، دليل على خروجه عن محطِّ البحث إذ ليس الكلام في الاعتماد على الإدراكات العقلية في إدراكات المصالح والمفاسد حتى يرد عليه قوله : «بأنّه يبعد من الله توكيل بعض أحكامه إلى مجرّد إدراك العقول مع شدّة اختلافها في الإدراكات من غير انضباطة بنص أو شرع فإنّه يوجب الاختلاف» وذلك لأنّ مسألة التحسين والتقبيح من الأُمور البديهية التي لا يختلف فيهما العقول غير المتأثرة عن الشبهات ، ولا صلة لها بما ذكر».

٣ ـ كلام الصدر في نفي كون المكشوف حكماً :

يرى السيد الصدر ، صحّة الملازمة ولكن يقول : انّ المكشوف عن طريق الملازمة لا يسمّى حكماً شرعياً ولا يترتّب عليه الثواب والعقاب قال : «إنّا إذا أدركنا العلّة التامة للحكم العقلي بوجوب شيء أو حرمته مثلاً ، يصح أن يحكم عليه بأنّ الشارع حكم أيضاً بمثل الحكم العقلي عليه ، ولكن لمّا فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا لا يترتّب عليه الثواب ، وإن كان يترتّب على نفس الفعل شيء من قرب وبعد ، فلا يكون واجباً أو حراماً شرعياً ـ إلى أن قال : ـ وبالجملة وجود

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٦.

الإضافة التي يُعبّر عنها بالخطاب معتبر في تحقّق حقيقة الحكم وليس مجرّد التصديق من الشارع بأنّ شيئاً خاصاً ممّا يحسن فعله أو تركه ، وكذا إرادته من المكلّف أن يفعل أو يترك أو رضاه من فعل ومقته لآخر ، حكماً شرعياً من دون أن يصير المكلّف مخاطباً بالفعل بأن يصل إليهم قول النبي : أن صلِّ وصُم ، وكذا إخبار الشرع بأنّ هذا الشيء واجب أو حرام أو طلبه (١) قبل بلوغ الخطاب ، ليس حكماً فعلياً ، وبما انّ الثواب والعقاب مترتّبان على التكليف الخطابي والقاعدة لا تثبت الخطاب حتى يترتّبا عليه.

وقال في آخر كلامه : إنّ غاية ما يمكن أن يدركه العقل هو بعض الجهات المحسِّنة والمقبِّحة ويجوز أن يكون هنا جهة أُخرى في الواقع لم يحصلها فيمكن أن تكون معارضة ولا يكون الحكم كما أدركه. (٢)

وأشكل عليه الشيخ الأعظم بوجوه نذكر المهمّ منهما :

الأوّل : انّ للحكم الشرعي إطلاقات :

١ ـ قد يطلق ويراد به الخطاب الفعلي التنجيزي الصادر منه تعالى أو أحد أُمنائه وإليه ينظر تعريفهم له بأنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين.

٢ ـ قد يطلق ويراد به الخطابات الشأنية التي صدرت عن الشارع ، وإن لم يعلم بها المكلّف لعدم وصولها إليه من ممانعة مانع داخلي أو خارجي ، فهي مخزونة عند أهلها ، وهي التي يقول بثبوتها المخطِّئة وبعدمها المصوّبة ، ويشارك الأوّل في مجرّد الجعل ويمايزه من حيث عدم الفعلية.

٣ ـ قد يطلق ويراد به الإرادة الجازمة والكراهة الثابتة في الواقع ، متعلّقة بالمراد في الأُولى ، وبالمكروه في الثانية على وجه يصير المُظهِر لهما ، عند إرادة

__________________

(١) عطف على قوله : وكذا إرادته من المكلّف أي وكذا طلبه ....

(٢) مطارح الأنظار : رسالة في الأدلة العقلية : ٢٣٦.

إظهارهما ، هو الأمر اللفظي والنهي كذلك ، فالإرادة هذه في الحقيقة ، روح الطلب ولبُّه بل هي عينه ، بحيث لو أراد الشارع جعل حكم فلا بدّ من أن يكون مطابقاً له.

إذا عرفت ذلك فنقول :

الف : إن أراد القائل انّ حكم العقل بوجوب شيء وإدراكه العلّة التامة المقتضية للوجوب ، لا يلازم صدور الخطاب على وجه يصدق انّه حكم تنجيزي صادر من الشارع فمسلّم.

ب : وإن أراد من الحكم ، الحكم الشأني ، وانّ حكم العقل لا يلازم ذلك ، فهو أيضاً مسلّم.

ج : وإن أراد من الحكم ، بمعنى طلبه وإرادته وانّه لا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، وبين إرادته وكراهته فهو محجوج بقطع العقل الخارج عن شوائب الوهم بخلافه ، فانّ العقل إذا أدرك حسن الشيء على وجه به يستحق فاعله الثواب وجزاء الخير ، فقد أدرك من كل عاقل حكيم شاعر ، فكيف بمن هو خالقهم؟ وكذلك إذا أدرك قبح الشيء ، والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى ممّا لا يقبل الإنكار فكأنّها نار في منار.

وأمّا الثواب والعقاب ، فالحكم بالمعنى الثالث هو مدارهما ، ألا ترى انّه لو علم العبد بعدم إرادة المولى قتل ولده ، أو أراد إكرامه فقتله ، أو أكرمه فيعد عندهم عاصياً ومطيعاً من دون أن تدانيه شبهة وليس لصدور اللفظ المعبر عنه بالخطاب مدخلية في ذلك.

بل يمكن إثبات الحكم بالمعنى الأوّل بضمّ مقدّمة خارجية (١) وهو قولهم

__________________

(١) وربما يستدل على الملازمة بين الارادة والكراهة ، والخطاب التنجيزي بقاعدة اللطف وهي غير تامّة في المقام.

بعدم جواز خلو الواقعة عن الأحكام كما تدل عليه جملة من الأخبار.

والحاصل : أنّ القول بعدم ترتّب الثواب والعقاب إلّا على الأمر والنهي اللفظيين ، فهو منقوض بالإجماع والضرورة والسيرة.

الثاني : انّ ما أفاده من أنّ الجهات المدركة في المستقلّات العقلية ليست علّة تامّة ممّا لا يصغى إليه بعد موافقة الوجدان بأنّ الجهة المدركة من الإحسان والظلم ، حسب وجداننا هي العلّة التامّة. (١)

٤ ـ كلام للمحقّق القمّي وهو من المثبتين :

إنّ المحقّق القمّي فصّل الكلام في إثبات الملازمة وبيّنها بأتم البيان وردّ في خلال استدلاله ، على الأخباريين الذين قالوا : «إنّ الثواب والعقاب فرع الموافقة والمخالفة وبما انّهما لا يتحقّقان إلّا بخطاب الشارع الوارد في الكتاب والسنّة وحيث لا أمر ونهي فيهما فلا طاعة فلا ثواب ، ولا عصيان ولا عقاب». وبما انّ كلامه يتضمن بيان دليل المثبتين ننقله بطوله. قال :

تبيّن عندنا معاشر الإمامية وفاقاً لأكثر العقلاء من أرباب الديانات وغيرهم من الحكماء والبراهمة والملاحدة وغيرهم بالأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، بل بالضرورة الوجدانيّة ، التي لا تعارضها شبهة وريبة أنّ العقل يُدرِك الحسن والقبح ، بمعنى انّ بعض الأفعال بحيث يستحق فاعله من حيث هو فاعله ، المدحَ وبعضها بحيث يستحق فاعله كذلك الذم ، (٢) وإن لم يظهر من الشرع خطاب فيه ويظهر عنده هذا الحسن والقبح في الموادّ المختلفة على مراتبهما المرتّبة فيها بحسب نفس الأمر. فقد يدرك في شيء حسناً لا يرضى بتركه ، ويحكم بلزوم الإتيان به وفي

__________________

(١) مطارح الأنظار ، رسالة في الأدلّة العقلية : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢) إشارة إلى ما هو الملاك في وصف الأفعال بالحسن والقبح وهو نفس مختار المحقّق اللاهيجي ـ قدس‌سرهما ـ الذي أقمنا برهانه.

بعضها قبحاً يحكم بلزوم تركه ، وقد يجوِّز الترك في بعضها والفعل في بعضها هكذا ، فكذلك من الواضح انّه يدرك انّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده ، بعنوان اللزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه بعنوان اللزوم ، وانّها ممّا يستحق بها عن الله المجازاة إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ ، ولازم ذلك انّه تعالى طلب منّا الفعل والترك بلسان العقل.

فكما انّ الرسول الظاهر يُبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهيّاته ، فكذلك العقل يبيِّن بعضها ، فمن حكم عقله بوجود المبدئ الحكيم القادر ، العدل الصانع العالم ، يحكم بانّه يجازي العبد القويّ بسبب ظلمه على العبد الضعيف ، بالعقاب ، وكذلك الودعيّ الذي ائتمنه عبد من عباده لا سيما إذا كان ذلك العبد محتاجاً غاية الاحتياج ، بسبب ترك ردها إليه ، ويجازي العبد القويَّ الرفيع ، برأفته على العبد الضعيف العاجز المحتاج ، بالثواب فلو لم يكن نهانا عن الظلم وأمرنا برد الوديعة ، ولم يكن الظلم وترك الرد مخالفة له ، لما حكم العقل بمؤاخذة الله وعقابه ، فانّ القبح الذاتي يكفي فيه محض استحقاق الذم ، فيثبت من ذلك انّ الظلم حرام شرعاً وردّ الوديعة واجب شرعاً.

وما توهم بعض المتأخّرين تبعاً لبعض العامة من «انّ حكم العقل هو محض استحقاق المدح والذم لا ترتب الثواب والعقاب أيضاً الذي هو لازم حكم الشرع ، فلم يدل الحكم العقلي على الحكم الشرعي» ، فهو مبني على الغفلة عن مراد القوم من الحكم العقلي ، وحسبان انّ حكم العقل إنّما هو الذي ذكروه في مبحث ادراك العقل للحسن والقبح قبالاً للأشاعرة المنكرين لذلك ، وقد عرفت أنّ العقل يحكم بأزيد من ذلك أيضاً.

مع أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في العقل والجهل أيضاً هو ذلك وانّه ممّا يثاب ويعاقب وأنّه ممّا يكتسب به الجنان وغير ذلك.

مع أنّه يمكن أن يقال ـ بعد ما ثبت انّ لكل أمر من الأُمور حكماً من الله

تعالى بالضرورة والأخبار ، وثبت من الأخبار أنّها موجودة عند المعصومين وإن لم يصل إلينا كلّها ـ أنّ كل ما يُدرك العقل قبحه فلا بدّ أن يكون من جملة ما نهى الله تعالى عنه ، وما يدرك حسنه لا بدّ أن يكون ممّا أمر به ، فإذا استقل العقل بإدراك الحسن والقبح بلا تأمّل في توفيقه على شرط أو زمان أو مكان أو مع تقييده بشيء من المذكورات ، فيحكم بأنّ الشرع أيضاً حكم به كذلك ، لأنّه تعالى لا يأمر بالقبح ولا ينهى عن الحسن ، بل أنّه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر.

وقد يقال (١) إنّ الثواب والعقاب إنّما يترتّبان على الإطاعة والمخالفة لا غير والإطاعة والمخالفة لا تتحقّق إلّا بموافقة الأوامر والنواهي من الكتاب والسنّة ومخالفتهما وحيث لا أمر ولا نهي ولا خطاب فلا إطاعة فلا ثواب ولا عقاب.

وفيه أنّ انحصار الإطاعة والمخالفة في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته دعوى بلا دليل ، بل هما موافقة طلب الشارع ومخالفته وإن كان ذلك الطلب بلسان العقل ، ونظير ذلك أنّ الله تعالى إذا كلّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل (عليه‌السلام) وإتيان كلام ، وامتثله فيقال : إنّه أطاع الله جزماً فانّ العقل فينا نظير الإلهام فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والقول (٢) «بأنّ القدر الثابت من الأدلّة انّ ما يجوز اتباعه وتجب متابعته هو ما حصل القطع به أو الظن من قول المعصوم أو فعله أو تقريره دون غيره ، فالكلام في هذا الدليل العقلي مثل الكلام في جواز العمل بالرؤيا إذا رأى أحداً من المعصومين (عليهم‌السلام) وحكم بحكم ولا دليل على جواز العمل بهذا الحكم ، فهو كلام ظاهري» ، إذ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردِّ الوديعة وحرمة الظلم ، يدّعي القطع بأنّ الله تعالى خاطبه بذلك بلسان العقل ، فكيف يجوز العمل بالظن بخطاب الله تعالى وتكليفه ، ولا يجوز العمل مع اليقين به؟ فإن كان ولا بدّ من

__________________

(١) ردّ على كلام السيد الصدر وقد مرّ.

(٢) ردّ على مقالة الأخباريين.

المناقشة فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل وأنّه لا يمكن ذلك ، وأنت خبير بأنّ دعوى ذلك بعيد عن السداد ، ولا يرد هذا على من ادّعى ذلك (حصول القطع) إذ لم يدل دليل على امتناعه إن لم يسلَّم البرهان ، على وقوعه فإذا ادّعاه مدّع فكيف نكذِّبه؟ نعم لا نمنع تفاوت الأفهام في ذلك وندرة المواضع التي يستقل العقل بإدراك الحكم ، وذلك لا يوجب نفي الحكم رأساً ولا يرد نقضاً على من جزم بذلك ، فإنّ كل مجتهد مكلّف بمؤدّى فهمه قطعياً كان أو ظنيّاً ومعذور في خطئه. (١)

٥ ـ كلام لصاحب الفصول وهو من النافين :

إنّ صاحب الفصول حرّر محل النزاع أوّلاً وقال : «نزاعهم في المقام يرجع إلى مقامين :

الأوّل : إذا أدرك العقل جهات الفعل من حسن وقبح فحكم بوجوبه أو حرمته أو غير ذلك فهل يكشف ذلك عن حكمه الشرعيّ ويستلزم أن يكون قد حكم الشارع أيضاً على حسبه ومقتضاه من وجوب أو حرمة أو غير ذلك ، أو لا يستلزم ذلك ، ثمّ إنّ عدم الاستلزام يتصوّر على وجهين :

١ ـ أن يُجوَّز حكم الشارع على خلافه ، وعلى هذا تُنفى الملازمة من الجانبين ، فلا يستلزم حكم العقل حكم الشرع ولا حكم الشرع حكم العقل.

٢ ـ أن يُجوَّز أن لا يكون للشارع فيما حكم العقل فيه بوجوب أو حرمة مثلاً ، حكم أصلاً لا موافقاً ولا مخالفاً. ذلك بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً ، وعلى هذا تُنفى الملازمة من جانب واحد ، وأمّا الجانب الآخر فتجوز الملازمة.

__________________

(١) القوانين المحكمة : ٢ : / ٢ ـ ٤. شكر الله مساعيه وقد أغنانا بيانه عن إعادة المقال وإقامة البرهان على المختار وفي كلامه إشارة إلى ما هو المختار عندنا في إدراك الحسن والقبح وقد أوعزنا إليه أيضاً في التعليقة.

الثاني : إنّ عقولنا إذا أدركت الحكم الشرعي وجزمت به فهل يجوز لنا اتّباعها ويثبت بذلك الحكم في حقّنا أو لا؟.

أمّا المقام الأوّل فالحقّ أنّه لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، ويدل على ذلك أُمور :

الف : حسن التكليف الابتلائي فانّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحق فاعله من حيث إنّه فاعله ، المدح في نظره ، استخباراً لأمر العبد وإظهاراً لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصوراً على حسن الفعل لما حسن ذلك. ثمّ نقل اعتراضات ثلاثة عن بعض المعاصرين ونقدها على وجه استغرق النقد ورقة واحدة كبيرة (١) ونحن نركز على أصل الاستدلال ونقول :

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع إذ ليس البحث في أنّ حسن التكليف مقصور على حسن الفعل حتى ينازع بأنّ الأوامر الاختيارية خالية عن حسن الفعل ، بل النزاع في أنّ حسن الفعل يلازم التكليف أو لا ، وبين الأمرين بون بعيد ، فلا تُعدّ الأوامر الامتحانية نقضاً للقاعدة وإنّما تُعدّ نقضاً لو كانت القاعدة «حسن التكليف يستلزم حسن الفعل» مع أنّها غير ذلك. وإنّما هي : حسن الفعل يستتبع التكليف أو لا.

وإن شئت قلت : اختلفت العدلية القائلة بلزوم تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد ، في لزوم كون المتعلّق مشتملاً عليهما ، أو كفاية كون التكليف مشتملاً على المصلحة فالمحقّقون من الأُصوليين على الثاني ، وما ذكر صاحب الفصول من الأمثلة إنّما تصلح أن يكون ردّاً على القول الأوّل القائل بلزوم اشتمال المتعلّق عليهما ، بأنّه يكفي كون التكليف ذا مصلحة ، وأين هذا من المقام من وجود الملازمة بين إدراك الحسن ووجوبه شرعاً.

ب : التكاليف التي ترد مورد التقية إذا لم يكن في نفس العمل تقية ، وإرادة

__________________

(١) الفصول : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

في الأخبار المأثورة عن الأئمّة (عليهم‌السلام) فإنّ تلك التكاليف متصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلّف عن مكايد الأعادي وإن تجرّد ما كلِّف به عن الحسن الابتدائي ، وطريانه بعد التكليف من حيث كونه امتثالاً وطاعة لا يقدح في ذلك ، لأنّ الكلام في الجهة المتفرع عليها التكليف لا في الجهة المتفرعة على التكليف. (١)

يلاحظ عليه : بنفس ما سبق ، فإنّ الكلام ليس في أنّ حسن التكليف مقصور على حسن المتعلّق حتى يصح النقض بالتكاليف الصادرة عن تقية ، بل الكلام في أنّه كل ما حسن الفعل ، حسن التكليف شرعاً لا أنّ كل ما حسُن التكليف ، حسُن الفعل حتى يعد المورد نقضاً عليه وبين المسألتين بون بعيد.

ج : أنّ كثيراً من علل الشرائع غير مطردة ، ومع ذلك يصح التكليف فيما يفقد تلك الحِكَم ، كالاعتداد ، المعلّل بعدم اختلاط المياه مع أنّه يجب مع القطع بعدم الاختلاط كالغائب عنها زوجها ، كتشريع غسل الجمعة لرفع رياح الآباط مع ثبوت استحبابه مع عدمها ، وكراهة الصلاة في الأودية لكونها مظنّة لمفاجأة السيل مع ثبوتها مع القطع بعدمها وقضية ذلك ، حسن التكليف مع عدم الحسن أو القبح في الفعل.

يلاحظ عليه : بنفس ما سبق في الدليلين السابقين فانّه خارج عن محط النزاع ، إذ لو صحّ ما ذكر فإنّما يتوجه إلى عكس القاعدة لا إلى نفسها ، أي لا يرد النقص على قولنا : «كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ، بل يتوجّه النقص إلى عكسه أي كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل ، فالحكم الشرعي في المقام موجود دون الحكم العقلي ، والكلام في أصل القضية لا في عكسها ، وأمّا عدم حكمه بما حكم به الشرع ، فإنّما هو لأجل عدم إحاطته بما أحاط به الشرع وإلّا لحكم بمثله ، غاية الأمر أنَّ العقل لأجله القصور ، يكون ساكتاً في المقام ، أو معتقداً بصحته

__________________

(١) الفصول : ٣٣٩.

وصدوره من أهله ووقوعه في محله إجمالاً ـ كما سيوافيك ـ.

د : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الأُمّة رفعاً للكلفة كقوله : «لو لا أن أشقّ على أُمتي لأمرتهُمْ بالسِّواك» فالفعل الشاقّ قد يكون حسناً ، بل واجباً عقلياً ، لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف ، فالحسن موجود مع عدم الأمر.

وقرّره الشيخ الأعظم بوجه واضح وقال : لأنّ الفعل إمّا أن يكون حسنه في الواقع على وجه يقتضي الأمر بها إلزاماً أو لا ، فعلى الأوّل تنتفي الملازمة ، والثاني ينافي الامتنان ، فإنّ ترك الإلزام بما لا ملزم فيه لا يعدّ امتناناً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الكلام فيما يستقل العقل بإدراكه ، من حسن الإحسان وقبح الظلم ، وما يرجع إليهما كالعمل بالميثاق وإعانة الضعيف ونقض الميثاق ، والخيانة بالأمانة ممّا يستقل العقل بحسن الفعل وقبحه ، وأمّا السواك ، فليس العقل يستقل بحسنه بما هو هو ، نعم دلّت التجاريب على دوره في صحة المزاج ، فيدخل في باب إحراز المصالح والمفاسد ، وعندئذ يدخل في باب العلم بالمصالح والمفاسد ، وقد عرفت انّه خارج عن محط البحث لعدم إحاطة العقل بمناطات الأحكام وعلل الإلزام ، غاية الأمر ، العلم بالمقتضي لا بالعلّة التامة لاحتمال وجود موانع عن تأثيره.

والحاصل : أنّه لو كان العقل يستقل بحسن السواك من صميم ذاته كحسن الإحسان كان عدم إلزام الشارع نقضاً للقاعدة ، ولكنّه ليس ممّا يستقل ، غاية الأمر وقف العقل على فائدة السواك ، كوقوفه على سائر المصالح المقتضية لا العلل التامّة ، وقد عرفت أنّه غير كاف في باب استكشاف الأحكام.

إلى هنا تبيّن انّ ما استدل به صاحب الفصول لا صلة لها بالبحث ، فهي بين

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٤١.

ما يرجع إلى أنّ حسن التكليف لا يدل على حسن الفعل ، وبين ما يرجع إلى أنّ العلم بالمصالح والمقتضيات لا تصلح ، لأن يقع دليلاً على استنباط الأحكام ، وقد عرفت خروج المسألتين عن موضوع الكلام في المقام. وإليك الكلام في ما بقي

ه ـ : الصبي المراهق إذا كان كامل العقل ، لطيف القريحة تثبت فيه الأحكام العقلية في حقّه كغيره من الكاملين ، ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه.

يلاحظ عليه بوجوه :

١ ـ نلتزم بثبوت الأحكام الشرعية في حقه النابعة من الأحكام العقلية كحرمة الظلم ، ووجوب ردّ الأمانة ولو عصى وارتكب لم يكتب كما هو الحال في المكلّف بالنسبة إلى المعاصي الصغيرة إذا اجتنب الكبائر قال سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ). (النساء / ٣١)

٢ ـ إنّ الكلام فيما إذا كان الحسن علّة تامّة للتكليف ولم يكن مقروناً بمانع أو مبتلى بمزاحم ، وليس المقام كذلك ، فإنّ المصلحة العامّة أوجبت أن يكون حدّ البلوغ هو السنّ الخاص ، فلا يكلّف ما لم يبلغ ذاك النصاب وإن صلح للتكليف لأجل توقّده ، وذلك لأنّ تعليق التكليف على الصلاحيات الفردية يوجب الفوضى في عالم التكليف ، ولأجل إيصاد هذا الباب ألغى الصلاحيات الفردية واكتفى بالسن في البنين والبنات وعلى ضوء ذلك لم يكن محيص ، عن عدم الاعتداد بالذكاء الشخصي وإن كان صالحاً للتكليف ولم يكن الحسن في المقام علّة تامّة للتكليف.

٣ ـ إنّ المقام ليس من فروع الحسن والقبح ، بل من قبيل إحراز المصالح للتكليف ، وقد قلنا إنّ العقل أقصر من أن يحيط بالمصالح في المفاسد ، ويصحّح من مصادر التشريع بهذا المعنى كما لا يخفى.

وبهذه الأجوبة الثلاثة يسقط النقض عن الاعتبار.

و : أنّ العبادات الشرعية لو تجرّدت عن قصد الأمر لتجرّدت عن وصف الوجوب ، فتلك الأفعال لا تخلو إمّا أن تكون واجبات عقلية مطلقاً ، أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل فلحكم العقل بوجوبها باعتبار عدم قصد الامتثال وعدم حكم الشارع بوجوبه ، وأمّا على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل.

يلاحظ عليه : أنّا نختار الشقّ الأوّل هو انّ الواجب عند العقل ذات الأفعال مجرّدة عن نيّة الأمر ، لكن العقل غير متفرد ، بل هو كذلك عند الشرع بناء على أنّ قصد الأمر ، لا يدخل تحت الأمر ، لأنّه من الانقسامات الطارئة بعد تعلّق الأمر ، وإن كان التحقيق خلافه. فالواجب عند العقل والشرع سيّان.

ولو قلنا بجواز أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ، فالواجب عند الشرع والعقل هو الفعل المقترن إتيانه بقصد القربة ، لا الفعل المقترن بقصد القربة ، لعدم ترتّب الأثر إلّا عليه.

وبالجملة : لا فرق بين العقل والشرع في متعلّق الوجوب ، وإنّما الحكم دائر مدار إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، فلو قيل بامتناع الأخذ فالواجب عند الجميع هو ذات الفعل ، وإن قيل بإمكان الأخذ ، فالواجب عند الشرع والعقل هو الفعل مع قصد القربة ، فالواجب عندهما أمر واحد.

ونختار الشق الثاني ، بأنّ الواجب واجبات عقلية بشرط الأمر بها وما رتّب عليه من أنّه يلزم أن لا يكون حسن التكليف متعلّقاً على حسن الفعل مدفوع بأنّه يكفي فيه كونه مقتضياً للمصلحة وإن لم يكن علّة تامّة.

والحاصل : أنّ هذه الوجوه التي اعتمد عليها صاحب الفصول ، لا صلة للأكثر ، بالمقام وأمّا ما له صلة به فليس شاهداً على مدّعاه.

الاستدلال على الملازمة بالدليل النقلي :

إذا لم يكن ما قرّر من الدليل العقلي على الملازمة ، مقنعاً لصاحب الفصول لم يكن له نفي الملازمة حتى يستقصي الأدلّة في المقام مع أنّ في الكتاب والسنّة إلماعات إليها.

إنّ الظاهر من الآيات أنّ الفاظ المعروف والمنكر ، والطيبات والخبائث وما يعادلها كانت دارجة عندهم ومستعملة لديهم ، فكانوا يعرفونها بفطرتهم وبصرافة ذهنهم ، وانّ الغاية من بعث الرسول الأكرم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الخبائث وتحليل الطيّبات ، فهذه الآيات تدل على الملازمة وإنّ المعروف عند العرف ، مطلوب عند الشرع والمنكر لديهم مبغوض عنده.

قال سبحانه في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (الأعراف / ١٥٧) وقال عزّ من قائل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل / ٩٠)

وقال لقمان لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (لقمان / ١٧)

وقد روي عن أبي جعفر انّه سأله رجل عن طول الجلوس في بيت الخلاء ... فقال : «دع القبيح لأهله فإنّ لكلّ شيء أهلاً».

إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يصف الأنبياء بأنّهم مذكّرون لما تقضي به فطرة الإنسان ويقول : «فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن

العقول». (١)

وكم للإمام وأولاده من كلمات ناصعة دالّة على أنّ كثيراً من تعاليم الشرائع شرحاً لما كتبه سبحانه بقلم قضائه على صحيفة وجود الإنسان وفطرته ، وقد طوينا الكلام عن نقلها وقد أشبعنا الكلام في منشوراتنا التفسيرية. (٢)

وما ذكره صاحب الفصول في خلال كلامه من احتمال خلو الواقعة عن الحكم رأساً ، فهو لا يوافق ما تضافر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع من قوله : «ألا ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويبعّدكم عن النار إلّا وقد أمر الله بقائه ، ألا ما من شيء يقرّبكم إلى النار ويبعّدكم عن الجنّة إلّا وقد نهاكم عنه». (٣)

٦ ـ كلام للمحقّق الخراساني :

إنّ المحقّق الخراساني وافق صاحب الفصول في نظريته ونفي الملازمة بين الحكمين وقدّم لتحقيق مرامه أمرين ، والمهم هو الأمر الثاني الذي نأتي بخلاصته.

«إنّ مجرّد حسن فعل أو قبحه عقلاً ، لا يوجب إرادة العقلاء إيّاه ، بحيث يبعثون إليه عبيدهم أو يزجرونهم عنه ، كما يُحسِّنون أو يُقبِّحون عليه لو اتفق صدوره من أحد ، بل لا بدّ في حصولهما من دواع وأغراض أُخر ، فربما يكون لهم داع إلى صدور الحسن من العبد ، وربما لا يكون.

والحاصل ، أنّ مجرد حسن فعل لا يكون داعياً لإرادته من الغير ، وبدونه لا يكاد أن تتعلق لصدوره منه إرادة ، وتشهد به مراجعة الوجدان حيث لا تجد من أنفسنا حصول الإرادة بمجرّد ملاحظة حسن فعل الإنسان ، فربما لا نريد الاحسان

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١.

(٢) لاحظ «مفاهيم القرآن الجزء الأوّل : ص ٣٥.

(٣) البحار : ٧٠ / ٩٦ ح ٣.

من الغير (كما إذا كان عدواً) إلى حدّ ، بل نكرهه وإن كان مستحقاً للتحسين لو فعله.

ويشهد على هذا أنّه كثير ما يختار العقلاء فعل القبيح وترك الحسن ، والسرّ هو أنّ الداعي الذي هو سبب الإرادة ، يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وغلبة الشهوات والتفاوت في الملكات وملاحظة نظام الكائنات.

فإن قلت : هذا في العقلاء وأمّا الخالق تعالى شأنه ، لأجل أنّ الإرادة والكراهة فيه تعالى ليس إلّا علمه بمصلحة الفعل ومفسدته ولا حسن ولا قبح إلّا بالمصلحة والمفسدة.

قلت : إنّ علمه تعالى ليس بحسب المصداق إرادة تشريعية موجبة لبعث العباد نحوَ المراد ، وذلك لإمكان اجتماع علمه بها مع ما يمنع عقلاً عن البعث والزجر كما في صورة مزاحمة ما فيه المصلحة الملزِمة ، بما كان أهم منه لقبح البعث حينئذ إلى غير الأهم ، وكذا البعث إليهما ، أو لعدم الاستعداد بعدُ في العباد لقرب عهدهم من الإسلام بحيث يوجب بعثُهم وحملُهم على جميع الأحكام ، النفرةَ عن الإسلام ، أو لسبب لا نعرفه كما في الصبيّ الذي نطعت (١) قريحته وحسن زكاه ، ضرورة انّ أفعاله ذات مصلحة ومفسدة مع أنّه من المعلوم بالضرورة انّه لا يتعلّق بها زجر وبعث شرعاً حقيقة.

ثمّ استنتج ممّا ذكره :

١ ـ جواز خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي كما في الصبيّ والمجنون مطلقاً وكافة الناس في صدر الإسلام في الجملة لما عرفت من أنّ حسن شيء وقبحه لا يكون داعياً إلى فعله وتركه كما يريده أو يكرهه ، وما لم يكونا بمجردهما داعيين لم تكن ملازمة بينهما وبين التحريم والإيجاب بمعنى الكراهة والإرادة اللتين هما روح الخطاب ويكونان منشأين لانتزاع البعث والزجر أو التحريم والوجوب.

__________________

(١) تحذَّقت.

٢ ـ وبذلك يظهر عدم ترتّب الثواب والعقاب ، فانّهما مترتّبان على الإرادة والكراهة وهما غير ثابتين بمجرّد حسن الفعل الكراهة ، فما أفاده شيخنا العلّامة ردّاً على السيد الصدر من أنّ الثواب والعقاب ليس دائرين مدار الخطاب ، بل مدار الإرادة والكراهة وإن كان في غاية الجودة ، لكن عرفت أنّ مجرّد حسن الفعل أو قبحه لا يستلزمان الإرادة والكراهة ، وذلك لأنّه ليس كل حسن ، موافقاً للغرض وكل قبيح مخالفاً له ، وبدونهما لا يكاد أن يكون الشيء مراداً ومكروهاً ولا كل موافق للغرض ، مراداً فعلاً كما في صورة تزاحم الواجب بالأهم.

وقد عرفت ممّا ذكر موارد انفكاك حكم العقل بالحسن والقبح عن حكم الشرع وذلك :

إمّا لعدم قابلية المحل للطلب المولوي كالإطاعة والعصيان.

وإمّا لوجود المانع كما في صور المزاحمة بالأهم.

وإمّا لوجود علّة غير معلوم كما في فعل الصبي المميز وكثير من أفعال الأنام في صدر الإسلام. (١)

يلاحظ عليه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما أفاده من أنّ الإنسان ربما يحسن الشيء ولا يريده ، كما لا يريد الإحسان من عدوه وربّما يُقبّح الشيء ولا يكره ، كما في الظلم على العدو ، إنّما يتم في الأفراد الغارقة في الأغراض الشخصية والمصالح المادية ، وأمّا الإنسان المنسلخ عنها ، فالايمان فيه يدعو إلى العمل ولا ينفك عنه.

فالقوّة العاقلة التي هي رئيس القوى إذا كانت معجبة للشيء أو مشمئزّة عنه ، تطلب فعل الأوّل وترك الثاني وإنّما ينفك الإيمان عن العمل ، إذا كانت القوّة العاقلة ، محكومة بالدواعي النفسانية والأغراض المادية ، وهي خارجة عن البحث.

__________________

(١) الفوائد الأُصولية : ٣٤١ ـ ٣٤٣.

وعلى الجملة إذا أدرك العقل المجرّد عن الرواسب انّ الاحسان ، حسن ، وإنّ فعله كمال له فيطلبه ، وانّ الظلم قبيح وارتكابه نقص له ، فيزجر عنه أو يشمئز عنه.

وبعبارة أُخرى : إذا أدرك انّ الفعل كمال ، أو هو نقص له ، فكيف يتوقف عن الأمر بتحصيله مع أنّ الميل إلى الكمال ، أمر فطري جُبِّل عليه الإنسان ، ولأجل ذلك لا ينفك ذاك العلم عن الطلب والزجر ، ما دام زمام القضاء بيد القوّة العاقلة.

وثانياً : أنّ الكلام فيما إذا كان الحسن والقبح علّة تامة ، للمدح والذم ، أو الطلب والزجر ، لا مقتضياً متوقفاً على العلم بعدم الابتلاء بمصلحة أهم ، أو بمفسدة أشدّ من ترك مصلحة الحسن ، أو غير ذلك فانّ المخالفة في هذه الموارد ، لا تعدّ نقضاً للقاعدة حتى في مورد الصبي المراهق ، العارف بالحرام والحلال ، الصالح للتكليف ، لما مرّ من انّ حفظ التحديد المضروب على نوع تختلف أفراده إدراكاً وتعقّلاً ، قوّة وضعفاً ، يستلزم عدم الإيجاب عليه ، حفظاً للمصلحة العامة. وإيجابه عليه بالخصوص يوجب العسر في تشخيص الموضوع ، بخلاف ما إذا علّق التكليف على البلوغ المحدّد المشخص بعلائم ثلاثة خصوصاً السنّ.

وبالجملة كل مورد ، يحتمل عدم كون الحسن والقبح علّة تامة للطلب والزجر وكونه مبتلى بمزاحم ومانع ، أو ما أشبهه فلا يحكم بالملازمة أبداً ، وما ذكر من الموارد فهي من مصاديق ذلك.

بقي الكلام فيما أورد من النقض في باب الإطاعة والعصيان ، فالعقل يحكم بوجوب الأوّل وحرمة الثاني دون الشرع ولو حكم فإنّما يحكم إرشادياً ، فتخيّل من ذلك انفكاك حكم العقل عن الشرع.

ولكن القول بالملازمة فيما إذا أمكن الحكم المولوي للشارع كما في موارد العدل والظلم والصدق والكذب ، وأمّا الإطاعة والعصيان ، فلأنّه لا يجوز أن يتعلّق بهما حكم مولوي من الشارع لاستلزامه أن لا ينتهي حكم الشارع إلى حدّ ، بيانه :

انّه إذا كشف العقل ، تعلّق أمر مولوي من الشارع بالطاعة والنهي عن

العصيان ، فلهذا الحكم المنكشف أيضاً ، طاعة وعصيان ، يستقل العقل فيهما بما استقل به سابقاً ، ولو قلنا بالملازمة يكشف عن تعلّق أمر مولوي بهما أيضاً فيلزم أن لا ينتهي الأمر المكشوف إلى حدّ ، ولأجل ذلك للعقل في هذا المورد ، حكم دون الشرع ومثله لا يعدّ نقضاً للقاعدة كما لا يخفى لأنّها فيما إذا أمكن التعلّق.

٧ ـ كلام للمحقّق الاصفهاني :

إنّ الشيخ المحقّق الاصفهاني ممّن أصفق على التحسين والتقبيح العقليين على ما تقدّم ، ولكنّه ممّن لم يقبل الملازمة بين حكمي العقل والشرع في ذلك المجال وقال ما هذا حاصله : إنّ التكليف لا يمكن أن يكون داعياً على كل تقدير ، ولكل مكلّف عموماً إلّا بلحاظ ما يترتّب على موافقته من الثواب ، وعلى مخالفته من العقاب ، وحيث إنّ المفروض انّ العدل يوجب استحقاقَ المدح (١) ، والظلم يوجب استحقاق الذم (٢) عند العقلاء ومنهم الشارع ، فهو كاف في الدعوة من قبل الشارع بما هو عاقل ، ولا مجال لجعل الداعي بعد ثبوت الداعي من قبله ، فإنّ اختلاف حيثية العاقلية وحيثية الشارعية لا يرفع محذور ثبوت داعيين متماثلين مستقلّين في الدعوة بالاضافة إلى فعل واحد ، لأنّ الواحد لا يعقل صدوره من علّتين مستقلتين في الدعوة ـ إلى أن قال ـ :

نعم لو قلنا بأنّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء نفس استحقاق المدح أو الذم دون استحقاق الثواب والعقاب أمكن أن يقال : إنّه لا يدعو على كل تقدير ولكلّ مكلّف ، لإمكان عدم المبالاة بالمدح والذم فلا بدّ من البعث والزجر المترتّب عليهما الثواب والعقاب ، فحينئذ يبقى للمولوية مجال.

__________________

(١ ـ ٢) يريد من المدح والذمّ المعنى الأعم الشامل للثواب والعقاب لا مجرّد المدح والذم غير الشامل للثواب والعقاب ، ويدل على ما ذكرنا ، ذيل كلامه وإلّا فلا يتم الاستدلال.

إلّا أنّ المدح والذم اللذين يترتب عليهما حفظ النظام عند العقلاء ما يعم الثواب ، والعقاب ، أعني : المجازاة بالخير والمجازاة بالشر ـ إلى أن قال : ـ اتضح من جميع ما ذكرنا انّ ما يستقل العقل بحسنه أو قبحه ، وإن لم يمكن الحكم من الشارع على خلافه ، لكنّه لا يعقل أن يحكم مولوياً على وفاقه أيضاً ، بل يحكم بحسنه أو قبحه على حدّ سائر العقلاء.

ثمّ إنّه (قدس‌سره) عطف على العدل والظلم ، الصدق والكذب ، فحكم بأنّ الحكم المولوي بالإضافة إلى الصدق والكذب بذاته ـ أي لو خلّيا وطبعهما أو بعنوان معلوم الحسن والقبح عند العقلاء كذلك ، لأنّ الصدق والكذب من حيث نفسهما عدل في القول ، وجور فيه وقد عرفت حال العدل والجور وكذا الصدق المعنون بعنوان إهلاك المؤمن ، ظلم عليه ، والكذب المنجي له إحسان إليه فحالهما حال العدل والظلم. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه قد مرّ في الأمر الخامس من مقدّمات البحث انّ للملازمة تفسيرات ثلاثة ، أعني : به كلّ ما حكم به العقل ، حكم بمثله الشرع أو يحكم بعينه الشرع ، أو هو عين حكم الشرع وقد مرّ الفرق بين الأقوال فلو صحّ ما ذكره فإنّما يتوجه على التفسيرين الأوّلين دون الثالث إذ عليه انّ هناك إدراكاً واحداً ، وحكماً وحاكماً فارداً. وهذا أيضاً أحد الأقوال فتثبت الملازمة إجمالاً.

وثانياً : أنّ للعقل في ما يرجع إليه من القضايا إدراكاً أوّلاً ، وحكماً ثانياً ولا يغني الأوّل من الثاني ، وقد ورثنا هذه النظرية من سيدنا الأُستاذ (قدس‌سره) حيث كان يقول : إنّ للعقل وراء الإدراك في مجال الأحكام العملية ، حكماً. وعلى ضوء ذلك فالمدرَك وإن كان عاماً ، لا يعرف لشموله حدّاً ، فهو أدرك ما يدركه كل موجود حيّ مختار ، من غير فرق بين الخالق والمخلوق ، ولكن حكمه لا يعدو نفسه ، إذ حكم الحاكم لا يتجاوز عن دائرة نفسه ، بمعنى انّ الحكم حكمه ، لا حكم

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

غيره سواء كان إنساناً أو غيره ، ومثله لا يكون مغنياً عن حكم الله سبحانه إلّا إذا كان اتخذ العقل لنفسه موقف الكاشفية عن حكم سائر العقلاء وخالقهم ، وعندئذ يصلح للدلالة إلى حكم الشرع ، والدلالة إلى حكمه فرع وجوده ، فما لم يكن هناك حكم من الحيّ المختار الواجب ، لما كان للدلالة وجه وللكاشفية معنى. وعليه لا يغني حكم العقل عن حكم الشرع ، فيكون الملاك باقياً لحكمه.

ثالثاً : أنّ حكم العقل والعقلاء في مجال التحسين والتقبيح لا يتجاوز عن الإعجاب والمدح والذم في حدّ اللسان والبيان وأمّا الإثابة والعقوبة فهو خارج عن إطار حياتهم ، وإنّما هما من شئون المولوية والعبودية فالمولى هو الذي يعاقب أو يثيب استحقاقاً أو تفضّلاً ، أو استحقاقاً في العقوبة وتفضّلاً في المثوبة على الخلاف في كيفيتهما.

وعلى ذلك فالحقّ ما ذكره أخيراً من أنّ كثيراً من الناس لا يبعثهم المدح والذم إلى الإتيان بالواجب وترك المحرّم ، بخلاف ما إذا ترتّب عليهما الثواب والعقاب وعندئذ تمسّ الحاجة إلى البعث والزجر الناشئين من الإرادة والكراهة ، مباشرياً ، أو بواسطة كشف العقل.

وإن شئت قلت : إنّ موقف العقل في إدراكه وحكمه ، موقف المدرك الناصح المرشد ، وليس هناك من المولوية والعبودية أثر ، فلا يترتّب لهذا الحكم أثر شرعي سوى ما يدركه نفس الإنسان من المدح والذم وهذا بخلاف الحكم الصادر من الشارع ، فانّه يصدر ممّن له المولويّة ، وقد أصدر الأمر بما له هذه الخصوصية.

ورابعاً : كيف يمكن عطف الصدق والكذب على العدل والظلم ، والقول بأنّه لا يتعلّق بهما الأمر والنهي ، مع كون السنّة بل الكتاب مشحونين بتعلّق البعث والزجر بهما. ونحن في غنى عن ذكر النماذج فضلاً عن البسط في الكلام.

٨ ـ كلام للشيخ المظفر :

إنّ الشيخ المظفر (قدس‌سره) لم يتجاوز عمّا ذكره أُستاذه الجليل المحقّق الاصفهاني وقد قرّر ما نقلناه عنه وقال في تقرير الملازمة : أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي انّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء ، على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع أو على قبحه لما فيه من الاخلال بذلك ـ فإنّ الحكم هذا يكون بادئ رأي الجميع فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم ، لأنّه منهم بل رئيسهم فهو بما هو عاقل ، ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء لا بدّ أن يحكم بما يحكمون ولو فرضنا انّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع وهذا خلاف الفرض.

ـ إلى أن قال : ـ لو ورد من الشارع أمر في مورد حكم العقل ، فهل هو أمر مولويّ أي أمر منه بما هو مولى ، أو أنّه أمر إرشادي أي أمر لأجل الارشاد إلى ما حكم به العقل ، والحقّ أنّه للإرشاد ، حيث يفرض انّ حكم العقل هذا كاف لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانياً ، بل يكون عبثاً ولغواً ، بل هو مستحيل ، لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.

ثمّ نبّه بما أفاده أُستاذه في آخر كلامه من أنّه لو كان ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذم فقط على وجه لا يلزم منه استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى فيمكن ألّا يكون نفس إدراك استحقاق المدح والذم كافياً لدعوة كلّ أحد إلى العقل إلّا الأفذاذ من الناس فلا يستغني أكثر الناس عن الأمر من المولى المترتّب على موافقته الثواب ، وعلى مخالفته العقاب في مقام الدعوة إلى الفعل. (١)

يلاحظ عليه : بمثل ما سبق في تحليل كلام أُستاذه ، لكن نضيف عليه في

__________________

(١) أُصول الفقه : ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

المقام انّ تفسير التحسين والتقبيح العقليين بما جاء في كلامه ، لا يمكن المساعدة معه ، لما ذكرنا انّ ملاكهما ليس تطابق العقلاء عليه أوّلاًً ، ولا كونهما ، مشتملين على المصالح والمفاسد العامة ، ثانياً. وقد عرفت أنّ نطاق البحث أوسع ممّا ذكره وأنّ الغاية القصوى من البحث معرفة أفعال الباري وما يجوز له وما لا يجوز عليه ، وكون العدل مبقياً للنظام والجور هادماً له ، يرجع إلى نظام الحكم بين الإنسان وأين هو من فعله سبحانه الخارج عن تلك الدائرة.

حصيلة البحث :

قد بان ممّا نقلنا من كلمات الأعلام وما ذكرنا حوله من المناقشات ، انّ أصل التحسين والتقبيح من البديهيات العقلية في مجال الإدراكات العقل العملي ، وأمّا كون الفعل كذلك عند الله ، فهو أوضح من أن يخفى ، لأنّ العقل يدرك قضية عامة وانّه كذلك لدى كل موجود حيّ مختار ، وأمّا الملازمة بين الحكمين ، فلأنّ الموضوع لدى العقل للحكم ، هو نفس الموضوع عند الله سبحانه ، فكان الحسن والقبح ، والمدح والذم ، والبعث والزجر من لوازم الفعل عنده فلا وجه لتفكيك اللازم عن الملزوم في موطن دون موطن.

وإن شئت قلت : إنّ العقل يدرك أنّ هذا الفعل حسن أو قبيح ، وانّه مستحق للمدح أو الذم وانّه يجب أن يفعل أو لا يفعل ، فإذا كان المدرَك بهذه السعة ، فلا يصح التفكيك بين الخالق والمخلوق ، والتفكيك أشبه بأن تكون زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين عند الإنسان دون الله ، فالجميع من الحسن والقبح والمدح والذم ، والبعث والزجر ، من لوازم نفس الشيء بما هو هو ، يترتب الجميع عليه عند من حضره بمفهومه.

* * *

اكمال :

قد تقدّم عند مناقشة نظرية الفاضل التوني إنّ نفاة الملازمة استدلوا بقوله سبحانه : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الاسراء / ١٥) ببيان انّ الآية حاكية عن نفي العقاب ، الملازم لنفي الحكم الشرعي ، مع ثبوت الحسن والقبح من بعض الموارد.

وبعبارة أُخرى أنّ إطلاق الآية يحكي عن عدم التعذيب ، الملازم لنفي الحكم الشرعي مطلقاً ، من غير فرق بين الفروع والأُصول ، ومن غير فرق بين ما يُدرك العقل حسنَ الفعل أو قبحه ، وعدم ادراكه ، فيلزم نفي الحكم الشرعي مع وجود الحكم العقلي.

أقول : إنّ الآية شغلت بال المفسّرين فقد ذكروا في المقام وجوهاً لا يسع المقام لذكرها.

وذهب العلّامة الطباطبائي انّ الآية بشهادة ما قبلها وما بعدها (١) ناظرة إلى العذاب الدنيوي بعقوبة الاستئصال ، وهذا هو الموقوف على بعث الرسول ، لا العذاب الأُخروي ، ولا العذاب الدنيوي ـ بغير صورة الاستئصال ـ وأمّا هما ففيه التفصيل ، فإنّ الأُصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد ، فإنّما نلحقها آثار قبولها وتبعات ردِّها ، من غير توقّف على نبوة أو رسالة ، وبالجملة أُصول الدين وهي التي يستقل العقل ببيانها تستتبع المؤاخذة الإلهية على ردّها. بمجرّد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول.

وأمّا الفروع فتستقرّ المؤاخذة الأُخروية على الفروع بالبيان النبوي ولا تتم

__________________

(١) لاحظ الآية ١٦ و ١٧ من نفس السورة.

الحجة فيها لمجرّد حكم العقل. (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان العذاب الدنيوي ولو كان بصورة الاستئصال ، متوقفاً على بعث الرسل ، كان العذاب الأُخروي أَولى بأن يكون متوقفاً عليه وعند ذلك ، يعود الإشكال ، فيما يستقل به العقل من الأُصول ، فهو يحكم بلزوم الاعتناق ، والثواب ، والعقاب ، مع أنّ الشرع يجعله متوقفاً على بعث الرسل.

والأَولى أن يقال : إنّ الآية بمنطوقها ومفهومها الأولوي ، ناظرة إلى ما لا يستقل العقل من الأُصول والفروع التي لو لا بعث الرسل لما وقف عليها جمهور الناس إلّا الأفذاذ منهم ، فالتعذيب في مثلها يتوقف على بيان سماوي ، دون ما يقف عليه الناس بفطرتهم وعقولهم النيّرة ، فالمخالفة والعصيان فيها يستتبع العقاب وإن لم يكن بيان من الله سبحانه. فلاحظ وقد أطنب الشيخ الأعظم في رسالته في تبيين مفاد الآية ، وما ذكرناه أولى بالتصديق. والله العالم.

إنّ قصّة ابني آدم دليل واضح على أنّ الأُصول التي يستقل العقل بحسنها أو قبحها يعاقب ويثاب عليها وإن لم يدعمها الشرع ـ لأجل عدم وجود الشريعة ـ فإنّ آدم وإن كان نبيّاً ولكن لم تكن له شريعة ، وكان المفروض على أبناء آدم يوم ذلك رعاية الأُصول التي يستقل العقل بحكمها والله سبحانه يصف قاتل هابيل بأنّه كان من الخاسرين قال : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ). (المائدة / ٣٠)

* * *

__________________

(١) الميزان : ١٣ / ٦٠.

الكلام في عكس القاعدة :

إذا كانت القاعدة هي الملازمة بين حكمي العقل والشرع بمعنى انّه إذا حكم العقل بحكم ، حكم به الشرع أيضاً ، يكون عكسها هو الملازمة بين حكمي الشرع والعقل وانّه إذا حكم الشرع بحكم ، حكم به العقل أيضاً. فنقول : إنّ في عكس القاعدة احتمالين :

الأوّل : انّ كل ما حكم به الشرع حكم به العقل بمعنى انّه صدر من أهله ووقع في محلّه وإن لم يقف على مناط الحكم وملاكه. وهذا المعنى أصفق عليه كل وصف الله سبحانه بالعدل والحكمة وانّ أفعاله نزيهة عن البعث واللغو ، وإنّ الترجيح بلا مرجح باطل ويدل عليه العقل ، مضافاً إلى النقل قال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص / ٢٧) وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (المؤمنون / ١١٥)

الثاني : انّ كلّما حكم به الشرع ، حكم به العقل على طبقه حكماً انشائياً فعليّاً وهذا يحتمل وجهين :

١ ـ أن يحكم به بالفعل سواء وقف على جهات الفعل أو لا.

٢ ـ أن يحكم به مشروطاً بأنّه لو وقف على جهات الفعل لحكم به.

أمّا الأوّل فباطل بضرورة الوجدان. وكيف يصحّ له الحكم مع عدم العلم بجهات الفعل.

وأمّا الثاني : فهو لازم المعنى الأوّل الذي اتّفقت على صحّته العدلية على وجه الإطلاق إذ لو وصفناه بالحكمة وبراءة عمله عن اللغو والعبث والترجيح بلا مرجّح ، يلزم التطابق بين الحكمين بشرط أن يقف العقل على مناطه وملاكه.

بل يستفاد من بعض الآيات انّ كلّ ما أمر به النبي داخل في القسط وما نهى عنه داخل في الإثم والفحشاء والبغي والشرك ، والأكثر لو لا الجميع ممّا يستقل العقل على قبحه. فكيف لا تكون هناك ملازمة بينهما بعد الوقوف على الملاك ، قال سبحانه : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف / ٢٩) وقال سبحانه : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (الأعراف / ٣٣)

* * *

المسألة الثالثة :

في إطاعة الحكم الشرعي

المستكشف بالعقل وعصيانه

لقد تبيّن ممّا سبق انّ العقل يُدرك حسنَ بعضِ الأفعال وقبحه ويمدَح الفاعلَ أو يذُمُّ ، ويحكم بالإتيان أو تركه كما يدرك انّ الفعل بوصفه وحكمه ، كذلك عند الشارع وأنّه أيضاً يمدح الفاعل أو يذمّه ، يطلب الفعل أو يزجره عنه.

وعندئذ يقع الكلام في أنّ الحكم الشرعي المستكشَف بالعقل ، هل له وجوب الطاعة وحرمة المخالفة أو لا ، بل يخصّان بالحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة.

الأُصوليون من أصحابنا على الأوّل ، والأخباريون منهم على الثاني. والحقّ هو الأوّل ويظهر بالنظر إلى أمرين :

١ ـ شريعة الإسلام بما أنّها خاتمة الشرائع ، وقد أغنت الإنسان عن كل

تشريع سواها ، أعطت لكلّ واقعة حكمها ، سواء كان لها وجود في عصر الرسول الأكرم أو لا ، ويؤيد ذلك ، ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجة الوداع قال : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلّا أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ، ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه». (١) وعلى ضوء ذلك فنحن نقطع بأنّ للشارع فيها حكماً شرعياً قطعاً.

٢ ـ إذا حصل القطع من طريق القول بالملازمة بأنّ حكم الشارع في هذه الواقعة ، هو ذا ، فلا وجه في التوقف في لزوم إطاعته وحرمة عصيانه ، مع العلم بأنّ القطع في مورد العلم بالأحكام ، طريقي محض ، وليس موضوعاً للحكم حتّى يلاحظ لسان دليله ، وانّه هل اخذ ، على وجه الإطلاق أو على وجه خاص.

ومع هذين الأمرين لا يشك العقل في لزوم إطاعته وحرمة عصيانه.

نعم المختار عند الأخباريين عدم حجية الحكم المستكشف عن طريق العقل. وانّه لا اعتبار بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة وقد استندوا في ذلك إلى روايات نذكر بعضها :

١ ـ استدل الفاضل التوني بما رواه حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قال لي : اكتب ، فأملى علي : إنّ من قولنا إنّ الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولاً ، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام (٢) ولم يذكر الفاضل كيفية الاستدلال ، غير انّ الشيخ الأعظم ناب عنه في البيان وقال : وجه الدلالة انّ قوله : «ارسل» عطف على الموصول لعدم الاعتداد بالارسال لولاه لتمام الحجة بدونه فيدل على أنّ الله لا يحتج بالعقل وحده وهو المطلوب. (٣)

__________________

(١) البحار : ٧٠ / ٩٦ ح ٣.

(٢) الكافي : ١ / ١٦٤ ، كتاب التوحيد ، باب حجج الله على خلقه ، الحديث ٤.

(٣) مطارح الأنظار : ٢٤٧ ولا يخفى ما في العبارة من الخفاء لأنّ لفعل عطف على الصلة لا على الموصول.

يلاحظ عليه : أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ ، لأنّه صريح في أنّه يحتج بأُمور ثلاثة : ١ ـ ما آتاهم وعرّفهم. ٢ ـ بما أرسل إليهم من الرسل. ٣ ـ بما أنزل عليهم من الكتب. ولكلّ من الحجج موقف. والمقصود من الأوّل هو العقول النيِّرة ، والفطريات السليمة فهي حجة في مواطنها وإن لم يكن فيها بيان من الرسول وآية من الكتاب.

والحاصل : أنّ قوله «ثمّ أرسل إليهم» ليس تفصيلاً لما سبق ، بل هو من قبيل عطف المباين على المباين ، فتكون الحجج ثلاثة وتكون الرواية على خلاف مقصود المستدل أدلّ.

٢ ـ استدل أيضاً بصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «بني الإسلام على خمسة أشياء : أمّا لو انّ رجلاً قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان». (١)

ومحلّ الشاهد في الخبر قوله : «ويكون جميع أعماله بدلالته إليه» إذ لو كانت دلالة العقل كافية لم يوجب أخذ جميع الأعمال عنه.

والحقّ أنّ الرواية أصحّ ما استدل به في المقام وهو يدل على سقوط العقل عن الحجية في مجال الأعمال والأحكام ، لا العقائد والأُصول لقوله (عليه‌السلام) : «ويكون جميع أعماله» ، ولا يلزم من رفض العقل فيها ، رفضه مطلقاً.

يلاحظ عليه : أنّه كما للآيات أسباب نزول فهكذا للروايات أسباب صدور لا يمكن تفسيرها صحيحاً إلّا بالوقوف على تلك الأسباب. انّ الرواية ونظائرها ممّا جمعها الأمين الاسترآبادي في «الفوائد المدنية» ناظرة إلى فقهاء العامة الذين استبدوا بالافتاء من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت الذين جعلهم الله أعدال

__________________

(١) الكافي : ٢ / ١٨ كتاب الإيمان والكفر ، باب دعائم الإسلام ، الحديث ٥.

الكتاب وقرنائه ، أمثال ابن شبرمة وابن أبي ليلى ، والثوري وقتادة والأوزاعي ، وإليك بعض ما يدل على ذلك :

أ ـ قال أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «فليذهب الحسن البصري يميناً وشمالاً ، فو الله ما يوجد العلم إلّا هاهنا». (١)

ب ـ وقال أيضاً : «فليذهب الناس حيث شاءوا ، فو الله ليس الأمر إلّا من هاهنا». (٢)

ج ـ وقال أيضاً لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : «شرّقا أو غرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت». (٣)

د ـ في حديث أبي بصير : «فليشرِّق الحكم وليغرِّب ، أما والله لا يصيب العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل». (٤)

وبذلك يعلم معنى قول أبي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث : «امّا انّه شرّ عليكم أن تقولُوا بشيء ما لم تسمعوه عنه» (٥)

وأين هؤلاء من علماء الشيعة الذين لا يصدرون في الأُصول والفروع إلّا عن كلماتهم ، غير انّه إذا لم يجدوا شيئاً فيما روي عنهم ، وقضت عقولهم بشيء ببداهة ، أخذوا أخذ المتيقّن بيقينه ، والقاطع بقطعه.

والدليل على ذلك ، انّ صاحب الوافية خص المنع بالفروع واستثنى الأُصول ، مع أنّ إطلاق أكثر الروايات يقتضي المنع ولا يحفظ الإطلاق إلّا باختصاص الروايات على المعرضين عن أهل البيت بتاتاً. كما لا يخفى.

* * *

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٧ ، ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٣ و ٢٤.

ثمرات مسألة التحسين والتقبيح :

إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين خصوصيات ، تحتلّ المسألة مع ملاحظتها ، مكانة خاصة ، فتارة تعد من المسائل الكلامية ، وأُخرى من المسائل الأُصولية ، وثالثة من مبادئ المسائل الأخلاقية.

فبما انّها تقع في طريق معرفة فعله سبحانه من حيث الجواز والامتناع ـ حسب حكمته البالغة ـ تعدّ مسألة كلامية ، وتترتّب عليها ثمرات.

وبما أنّها صغرى لقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، يعدّ البحث عن الموضوع من المبادئ الأحكامية التي يبحث فيها عن عوارض الأحكام الخمسة ، والبحث عن الملازمة من المسائل الأُصوليّة التي لها دور في استنباط كثير من الأحكام العملية.

وبما أنّ الاعتقاد بالحسن والقبح الذاتيين هو الدعامة الوحيدة للدعوة إلى محاسن الأخلاق أو الكفّ عن مساوئها. تعدّ من مبادئ مسائل علم الأخلاق ولو لا القول بالحسن والقبح الذاتيين لما صحّ البحث عن الفضائل والرذائل في نطاق وسيع. مع أنّ العالم الأخلاقي ربما يواجه إنساناً ضعيف العقيدة لا يصلحه إلّا التحليل النفسي والتذكار العقلي ، ولا يصلحه نقل القول عن الشرع والشريعة وهو فرع وجود اعتقاد رصين ، بحسن الأفعال وقبحها ، ولأجل ذلك يجب على العالم الأخلاقي أن يبحث عن الحسن والقبح بحثاً علمياً حتّى يتضح له انّ لهما جذوراً في الفطرة الإنسانيّة وانّهما لا تخضعان لأيّ عامل خارجي ، وإلّا تصبح الأخلاق عنده آداباً عرفية ، أو تأخذ لنفسها لون عادات قومية. وبالنتيجة تكون خاضعة للمواضعة والاعتبار ، تتغير بتغير الظروف والأجواء وتؤثر عليها أذواق الأقدام وثقافاتهم المختلفة.

فهذه الجهات الثلاثة أعطت لمسألة الحسن والقبح مكانة مرموقة يبحث عنها العلماء كلٌّ حسب اختصاصه ويطلب كل منها منشودته الضالة.

إنّ القول بالأخلاق الثابتة (التي لا تضعضعها عواصف الحضارات وتغيّر الظروف) لا يتحقّق إلّا بدعم القول بالحسن والقبح الذاتيين.

إنّ خاتمية الشريعة الإسلامية الغرّاء تستدعي ثبات قوانينها ودساتيرها على مرّ الحقب والأعوام إلى يوم البعث مع أنّ الظروف والبيئات التي يعيش فيها الإنسان ليست على وتيرة واحدة وهي ما زالت في التغيّر والتبدّل ، وعندئذ يُطرح هناك سؤال وهو : كيف يمكن إدارة المجتمع المتغيّر ، بقوانين ثابتة مع أنّها أشبه بالجمع بين النقيضين؟!

إنّ طروء الحضارات وبزوغ نجم العلم والثقافة الإنسانيّة تستدعي لنفسها قوانين حسب معطياتها ، فكيف يصح التمسّك بأهداب الشريعة الثابتة لتدبير الأُمور المتكونة بعدها بكثير؟

هذا وذاك دعاني إلى تبيين ثمرات هذا البحث ليقف القارئ على مكانة تلك المسألة ولنذكر ثمراتها ضمن أُمور ثلاثة :

الف : الثمرات الكلامية للمسألة :

إذا كانت المسألة ، من المسائل الكلامية فلها ثمرات في هذا العلم نشير إليها :

١ ـ وجوب معرفة الله سبحانه :

إنّ مسألة لزوم معرفة المنعم التي تهدف إلى مسألة معرفة الله سبحانه. شغلت بال المتكلّمين قرونا وأجيالاً فالمنكرون للحسن والقبح زعموا انّ معرفته سبحانه بالشرع (١) ثمّ وقعوا في مشكلة الدور حيث إنّه لم يثبت وجوده سبحانه ولا الشرائع السماوية ، فكيف يمكن أن يثبت وجوب معرفته في ظلّ الشرع؟ وأمّا

__________________

(١) الأحكام : ١ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

المثبتون لهما فقد قالوا بوجوب المعرفة عقلاً لأجل استقلاله بحسنها ، أوّلاً وحثّه إليها ثانياً ، واحتمال الوقوع في الضرر في تركها ثالثاً ، كل ذلك يثبت كون المعرفة من الواجبات العقلية قبل ثبوت الشريعة.

٢ ـ تنزيه فعله سبحانه عن العبث :

قد تشاجر القوم في أفعاله سبحانه هل هي معلّلة بالأغراض أو لا؟ قالت الأشاعرة بخلوّها عن الغايات حذراً من استكماله سبحانه بغايات أفعاله وهو كمال مطلق وفوق الكمال.

وقالت العدلية باشتمالها على الغايات وإلّا لأصبح فعله عبثاً لغواً لا يليق بساحته. والغايات غايات للفعل لا للذات ، وترجع إلى العباد لا إلى الذات ، ومقتضى القول بقبح العبث تعيّن القول الثاني ، وقد عرفت دفع مشكلة الاستكمال.

٣ ـ لزوم تكليف العباد :

إذا كانت ساحته سبحانه نزيهة عن العبث لكونه قبيحاً ، فلازمه إيصال كل موجود إلى غايته وكماله الممكن حسب حكمته البالغة غير أنّ الموجود الفاقد للشعور ، أو الاختيار يصل إلى الغاية التي خلقت لأجلها ، تكويناً وأمّا الإنسان فالغاية المتوخاة من خلقته رهن أعمال خاصة اختيارية لا تتحقّق إلّا بإرشاده سبحانه وتكليفه ليريه طريق السعادة والشقاء ، ويرشده إلى ما يمدّه في طريق الكمال ويزجره عمّا ينافيه.

٤ ـ لزوم بعث الأنبياء :

إذا كانت الغاية المتوخاة من خلق الإنسان لا تحقّق إلّا في ظلّ التكليف ، يلزم بعث الأنبياء لبيان تكاليف العباد ، فالهداية التشريعية التي هي عبارة أُخرى

عن التكليف لا ينالها العباد إلّا عن طريق بعث إنسان فوقهم مماثل لهم في الخلقة ، وفوقهم في الخُلْق ، وإلّا فلا تتحقّق الغاية المتوخاة عن غير هذا الطريق.

٥ ـ لزوم تجهيز الأنبياء بالدلائل والمعاجز :

إنّ بداهة العقل تحكم بعدم جواز الخضوع لادّعاء مدّع إلّا بعد ثبوته بالدليل والبرهان ، فمقتضى الحكمة الإلهية تجهيز الأنبياء بالدلائل حتى تتحقّق الغاية المتوخاة من بعثهم ولولاها لأصبح بعثهم سدى وعملاً بلا غاية وهو قبيح.

٦ ـ لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة :

إذا كان مقتضى الحكمة الإلهية دعوة الأنبياء بالبرهان ، فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة لاستقلال العقل بذلك أوّلاً ودفعاً للضرر المحتمل ثانياً.

وأمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال فليس له أن يثبت لزوم النظر إلّا عن طريق الشرع وهو بعد غير ثابت. فتأتي مشكلة الدور.

٧ ـ العلم بصدق دعوى المتحدّي بالمعجزة :

إذا اقترنت دعوة مدّعي النبوة بالمعاجز والبيّنات ، وتحدّى بدليل ، جميع الناس ـ فعند ذاك ـ يحكم العقل بصدقه ، لأنّه من القبيح إعطاء البيّنة المغرية إلى يد الكاذب. وإليه ينظر قوله سبحانه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقة / ٤٤ ـ ٤٧) فالمجهّز بالمعاجز التي تؤثّر في نفوس الناس لا يكذب ، ولو كذب وتقوّل به ـ على فرض المحال ـ لقضى سبحانه على حياته فالآية واردة في حقّ أُولئك الأنبياء لا في حقّ كل مدّع للنبوة ولو لم يكن مجهزاً بالمعاجز والكرامات.

٨ ـ قبح التكليف بما لا يطاق :

إذا كانت القدرة من شرائط التكليف والعقل يقبح تكليف غير القادر فيصبح قبح التكليف بما لا يطاق أمراً ضرورياً ، وقد خالفت الأشاعرة في هذه المسألة فجوّزوها اغتراراً بظواهر بعض الآيات البدوية. مثل قوله سبحانه مخاطباً الملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (البقرة / ٣١) غافلين عن أنّ الغاية منه هو إظهار عجز الملائكة لا الامتثال.

٩ ـ الانسان مخيّر لا مسيّر :

إذا كان التكليف فرع القدرة وهي رهن كون المكلّف قادراً على الفعل والترك ، فتصبح مسألة الاختيار من الضروريات ، وهي انّ الإنسان المكلّف مخيّر بين الفعل والترك لا مسيّر. وليس مدفوعاً إلى جانب واحد من الفعل والترك ، وقد خالفت الجبرية في هذه المسألة مع العدلية.

ولمّا كان القول بخلق الأعمال موجباً للجبر أضافت الأشاعرة على خلق الأعمال مقولة الكسب حتى يردّوا عن أنفسهم إشكال الجبر ، وقالوا : إنّ الله خالق لأفعال البشر والإنسان كاسباً وقد عرّفنا مدى صحته في أبحاثنا الكلامية. (١)

١٠ ـ الله عادل لا يجور :

من أبرز نتائج القول بالتحسين والتقبيح العقليين كونه سبحانه عادلاً بين العباد لا يحيف ولا يجور حسب حكمته البالغة ، فلا يعاملهم بالظلم.

هذه ثمرات عشر من الثمرات الكلامية المترتّبة على المسألة وليست الثمرة منحصرة بما ذكرنا إذ هناك نتائج كلامية غير ذلك لم نذكرها روماً للاختصار.

__________________

(١) راجع كتاب «بحوث في الملل والنحل» : ٢ / ١٢٥ ـ ١٥٦.

ب ـ الثمرات الأُصولية للمسألة :

قد عرفت أنّ للمسألة بعداً كلاميّاً وبعداً أُصولياً وقد تعرفت على نتائجها الكلامية فلنذكر نتائجها الأُصوليّة :

١ ـ قبح العقاب بلا بيان :

إنّ هذه النتيجة ـ مع كونها قابلة للاندراج بين النتائج الكلامية ـ ثمرة أُصولية ، وقد بنى الأُصوليون عليها مسألة البراءة عن التكليف عند الشكّ فيها قائلاً إنّ العقاب بلا بيان قبيح ، فلو كان المشكوك واجباً أو محرّماً كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي أو الثانويّ ، وإذ لم يرد حكمه بأي عنوان ، نستكشف كون الوظيفة هي البراءة.

٢ ـ الاشتغال عند الشكّ في المكلّف به :

إنّ العقل وإن كان حاكماً بقبح العقاب بلا بيان ، لكنّه مستقل بحسنه فيما إذا علم التكليف وتردّد المكلّف به بين شيئين أو أشياء قائلاً بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية وهي لا تحصل إلّا بالاتيان بالجميع عند تردد الواجب ، أو ترك الجميع عند تردد الحرام بينها ، وعلى ذلك فالبراءة والاشتغال اللّذان يعدّان أبرز المسائل الأُصولية من نتائج تلك المسألة.

نعم القول بالحسن والقبح لا يكفي إلّا إذا ضم إليها مسألة الملازمة. بأن يستكشف العقل من حكمه بالبراءة أو الاشتغال في الموردين انّه كذلك عند الله سبحانه وتعالى. وبذلك تصبح مسألة الملازمة عنصراً مؤثراً في استنتاج البراءة والاشتغال ، ولعلّ خفاء مدخلية قانون الملازمة في الاستنتاج على بعض ، جعل البراءة والاشتغال من نتائج القول بالحسن والقبح. مع أنّهما من نتائج كلا الأمرين.

٣ ـ الإتيان بالمأمور به مسقط للأمر :

إنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو الظاهري مجز عن الاتيان به ثانياً لاستقلال العقل بقبح بقاء الأمر مع الاتيان بالمأمور به بأجزائه وشرائطه ولو لا القول بالحسن والقبح والملازمة بين حكمي العقل والشرع ، لما استكشفنا كونه مجزياً عند الشارع.

٤ ـ وجوب مقدمة الواجب على القول به

٥ ـ الأمر بالشيء موجب لحرمة ضده

٦ ـ جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه إذا كان هناك عنوانان ، ومرجع النزاع لدى المشهور إلى الصغرى وانّه هل هو من مصاديق الاجتماع أو لا ، وأمّا حكمه أي الكبرى فمعلوم لأجل قبح التكليف بغير المقدور.

٧ ـ الاحتجاج بالقيد في باب المفاهيم وانّه لو لا مدخليته لكان الاتيان به لغواً.

فالاستلزامات العقلية من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين والقول بالملازمة بين حكمين فيستنتج منهما وجوب المقدمة شرعاً وحرمة الضد أو عدم وجوبه شرعاً أو كون الصلاة في الدار المغصوبة محكوماً بحكمين أو محكوماً بأحدهما ، وانّ للشرط والوصف والغاية مدخلية في الحكم الوارد في الشريعة ولو لا المدخلية كان الاتيان بها لغواً. فيكون الحكم مرتفعاً بارتفاع القيد.

وفي الختام ننقل كلام المحقّق السيد عليّ القزويني في تعليقته على القوانين قال معلّقاً على قول المحقّق القمّي : «ومنها ما يحكم به بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم والاستلزامات» : أي بملاحظته كحكمه بوجوب المقدّمة بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وبحرمة الضد بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيّق ، وبالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلّق على شرط أو وصف أو غيرهما ،

لئلّا يلغوا التعليق وذكر القيد ، ويسمى الاستلزامات العقلية ، لحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء ، وجوب مقدماته ، واستلزام الأمر بالشيء لحرمة ضده ، واستلزام الوجود عند الوجود ، الانتفاء عند الانتفاء ، فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (١)

ونحن وإن لم نصافق القوم في بعض هذه المسائل ولم نقل بوجوب المقدمة أو حرمة الضد ولكن الاستدلال مبني على الأصلين.

ج ـ النتائج الأخلاقية :

إنّ أبرز النتائج لمسألة الحسن والقبح في علم الأخلاق هي كونها دعامة وحيدة لاستنتاج الفضائل والمسائل الخلقية ولو لا القول بهما لما قام لعلم الأخلاق عمود ، ولا اخضرّ له عود ، إذ لو لم يكن الحسن والقبح ذاتياً لبعض الأفعال ، بل متغيّراً حسب تغيّر الأجواء والأوضاع لأصبحت الأخلاق أمراً نسبياً مختلفاً حسب اختلاف البيئات ، ولأجل ذلك يُصبح الحسن في زمان قبيحاً في زمان آخر وبالعكس ونتيجة ذلك سيادة الفوضي على علم الأخلاق.

إنّ في الغرب أُناساً ينكرون أُصول الفضائل والمساوئ ولا يرون للأخلاق شأناً سوى كونها عادات وتقاليد ، وأعرافاً للأُمّة وهؤلاء يكنّون نيتهم من هذا الإنكار فما هي إلّا إرادة التحرّر من المُثُل والقوانين الأخلاقية ، فلأجل ذلك عادوا ينكرون ثبات الأخلاق ودوام المثل. والعالم الباحث عن الحسن والقبح إذا انتهى إلى أنّ هناك أفعالاً يجدها الإنسان من صميم ذاته أنّها حسنة مطلقاً أو قبيحة كذلك فلا يتسنّى لطالب الفوضى ، الصمود امام ذلك القضاء والوجدان الفطري.

__________________

(١) قوانين الأُصول : ٢ / ٢ ، قسم التعليقة.

نعم هناك تقاليد وأعراف قومية ما زالت متغيرة بتغير الأوضاع ولا صلة لها بالأخلاق. فإنّ مظاهر الاحترام والتكريم تختلف بين الأقوام فالمثول أمام الكبير بلا قلنسوة تكريم ومعها إهانة ، على عكس ما يتصوّره أقوام أُخر وفي الوقت نفسه لا صلة لهما بالأخلاق وإنّما يجسدان أصلاً أخلاقياً وهو تكريم الكبير. وهذا أصل ثابت. وإنّما التغيير في مُظهره وممثله. وقس على ذلك كل ما يتصوّر كونه أخلاقاً متغيرة.

وعلى ذلك فلمسألة الحسن والقبح دور واضح في إثبات الأخلاق الثابتة ورد ما يكن بعض رجال العيث والفساد من أنّه لا أصل ثابت في عالم الأخلاق.

وبذلك تقدر على حلّ مشكلة الخاتمية وسيادة أُصولها الثابتة في جميع الحضارات والظروف ، فانّ الثابت عبارة عن الأُصول الفطرية التي لها جذور في طبيعة الإنسان وخلقته ، وبما أنّ خلقة الإنسان متساوية في جميع الظروف غير متغيرة بتغيّرها ، تصبح الأُصول المبنية على الفطرة الإنسانية أُصولاً ثابتة قائمة مرّ الحقب والأعوام. فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) لامع في جميع الأدوار وذلك لأنّ العدل والإحسان يوافقان طبيعة الإنسان وتطلبهما في كل زمان.

نعم هناك ألوان لإجراء الأُصول الثابتة ، وطرق مختلفة للوصول إليها فهي لم تنزل متغيرة حسب تغير الحضارات ، فالتغيير في القشر لا يضرّ بثبات اللب. وإليك بيانه :

إنّ للإنسان ـ مع قطع النظر عمّا يحيط به من شروط العيش المختلفة ـ روحيات وغرائز خاصّة تلازمه ، ولا تنفك عنه ، إذ هي في الحقيقة مشخّصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات وتلازم وجوده في كل عصر ولا تنفك عنه

بمرور الزمان.

فهاتيك الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة ، لا تستغني عن قانون ينظم اتجاهاتها ، وتشريع ينظِّمها ، وحكم يصونها عن الإفراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته وصالحاً لتعديلها ومقتضياً لصلاحها ومقاوماً لفسادها ، لزم خلوده بخلودها ، وثبوته بثبوتها.

والسائل قد قصر النظر على ما يحيط به من شروط العيش المختلفة المتبدّلة ، وذهل عن أنّ للإنسان خلقاً وروحيات وغرائز ، قد فطر عليها ، لا تنفك عنه ما دام إنساناً ، وكلّ واحد منها يقتضي حكماً يناسبه ولا يباينه بل يلائمه ، ويدوم بدوامه ويثبت بثبوته عبر الأجيال والقرون.

ودونك نماذج من هذه الأُمور ليتبين لك بأنّ التطور لا يعم جميع نواحي الحياة ، وأنّ الثابت منها يقتضي حكماً ثابتاً لا متطوراً :

١ ـ إنّ الإنسان بما هو موجود اجتماعي ، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية ، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان ، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.

وعلى هذا ، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة ، حافظاً لحقوق أفراده ، خالياً عن الظلم والجور والتعسّف ، وبعبارة أُخرى موضوعاً على ملاكات واقعية ، ضامناً لمصلحة الاجتماع وصائناً له من الفساد والانهيار ، لزم بقاؤه ودوامه ، ما دام مرتكزاً على العدل والانصاف.

٢ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة ، التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما ، ولأجل ذلك ، اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر ، اختلافاً يقتضيه طبع كل منها ، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً

لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المقتضي ثبات محموله ، حسب الاصطلاح المنطقي.

٣ ـ الروابط العائلية ، كرابطة الولد بالوالدين والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، والوحدة النسبية بينهم ، فالأحكام المتفرقة المنسقة ، لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ، ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.

٤ ـ التشريع الإسلامي حريص جدّاً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال ، وممّا لا شكّ فيه ، أنّ الخمر والميسر والاباحة الجنسية ضربة قاضية على الأخلاق ، وقد عالج الإسلام تلك الناحية من حياة الإنسان بتحريمها ، وإجراء الحدود على مقترفيها ، فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة مدى الدهور والأجيال ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمع والإباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً ما دامت السماوات والأرض ، فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.

هذا وأمثاله من الموضوعات الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعي قد حدّدها ونظّمها الإسلام بقوانين ثابتة تطابق فطرته وتكفل للمجتمع تنسيق الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أحسن نسق وحفظ حقوق الأفراد وتنظيم الروابط العائلية.

وحصيلة البحث : أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها لا يوجب أن يتغير النظام السائد على غرار الفطرة ، ولا أن تتغيّر الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية ، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغير لون الحياة في وسائل الركوب ، ومعدات التكتيك الحربي و... مثلاً ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن

تنسخ حرمة الظلم ووجوب العدل ولزوم أداء الأمانات ودفع الغرامات والوفاء بالعهود والايمان و....

فإذا كان التشريع على غرار الفطرة الإنسانية ، وكان النظام السائد حافظاً لحقوق المجتمع وموضوعاً على ملاكات في نفس الأمر ، تلازم الموضوع في جميع الأجيال ، فذلك التشريع والنظام يحتل مكان التشريع الدائم.

تمّ التبييض وتجديد النظر في المشهد المقدّس في جوار الحضرة

العلوية الرضوية ـ على مشرّفها آلاف التحية والثناء ـ صباح يوم

الجمعة ثاني عشر شهر صفر المظفر من شهور عام ١٤١٥ ه‍ ـ ق

كتبه بيمناه الداثرة أقل الخليقة جعفر السبحاني ابن الفقيه التقيّ الحاج

الشيخ محمّد حسين الخياباني التبريزي ـ عاملهما الله بلطفه الخفي ـ

فهرس الرسالة الأولى

«قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع»

مقدمة المؤلف.................................................................... ٥

الأمر الأول : في تعريف الدليل العقلي.............................................. ٥

الأمر الثاني : في انقسام الدليل العقلي إلى مستقل وغير مستقل......................... ٦

الأمر الثالث : في تقسيم الدليل العقلي بنحو آخر.................................... ٧

الأمر الرابع : في تعدد المسألتين.................................................... ٧

الأمر الخامس : ما هو المراد من قولهم : كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع؟......... ٨

الأمر السادس : في أن القاعدة تستعمل في موردين................................... ٩

الأمر السابع : في أن إنكار الملازمة يحتمل وجوها................................... ١٠

المسألة الأولى

هل التحسين والتقبيح عقليان أو شرعيان؟

إطلاقات الحسن والقبح......................................................... ١٣

التحسين والتقبيح العقليان من البديهيات في مجال العقل العملي....................... ١٧

١ ـ لزوم انتهاء المجهولات إلى المعلوم بالذات في العقل النظري والعملي.............. ١٧

٢ ـ ملائمة القضايا للفطرة ومنافرتها معها........................................ ٢١

سعة دائرة حكم العقل.......................................................... ٢٢

هل التحسين والتقبيح العقليان من المشهورات؟..................................... ٢٨

تحليل مقال الشيخ الرئيس.................................................. ٢٩

نظرية المحقق اللاهيجي..................................................... ٣٢

كلام المحقق الاصفهاني.................................................... ٣٤

أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين........................................... ٣٦

أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين........................................... ٣٩

الدليل الأول : الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء........................ ٣٩

الدليل الثاني : لو كان التحسين والتقبيح ضروريا لما وقع الاختلاف................. ٤١

الدليل الثالث : لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغيرا............................ ٤٢

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز............................................... ٤٥

المسألة الثانية

ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

١ ـ كلام الزركشي وهو من النافين............................................. ٤٧

٢ ـ كلام صاحب الوافية وهو من النافين للملازمة................................ ٥٢

٣ ـ كلام الصدر في نفي كون المكشوف حكما شرعيا............................ ٥٣

٤ ـ كلام للمحقق القمي وهو من المثبتين....................................... ٥٦

٥ ـ كلام لصاحب الفصول وهو من الناقين..................................... ٥٩

الاستدلال على الملازمة بالدليل النقلى....................................... ٦٥

٦ ـ كلام للمحقق الخراساني................................................... ٦٦

٧ ـ كلام للمحقق الاصفهاني.................................................. ٧٠

٨ ـ كلام للشيخ المظفر....................................................... ٧٣

حصيلة البحث................................................................. ٧٤

اكمال........................................................................ ٧٥

الكلام في عكس القاعدة........................................................ ٧٧

المسألة الثالثة

في إطاعة الحكم الشرعي المستكشف بالعقل وعصيانه

ثمرات مسألة التحسين والتقبيح................................................... ٨٣

ألف : الثمرات الكلامية للمسألة............................................. ٨٤

١ ـ وجوب معرفة الله سبحانه............................................... ٨٤

٢ ـ تنزيه فعله سبحانه عن العبث........................................... ٨٥

٣ ـ لزوم تكليف العباد..................................................... ٨٥

٤ ـ لزوم بعث الأنبياء..................................................... ٨٥

٥ ـ لزوم تجهيز الأنبياء بالدلائل والمعاجز..................................... ٨٦

٦ ـ لزوم النظر في برهان مدعي النبوة........................................ ٨٦

٧ ـ العلم بصدق دعوى المتحدي بالمعجزة.................................... ٨٦

٨ ـ قبح التكليف بما لا يطاق............................................... ٨٧

٩ ـ الإنسان مخبر لا مسير.................................................. ٨٧

١٠ ـ الله عادل لا يجور.................................................... ٨٧

ب ـ الثمرات الأصولية للمسألة................................................ ٨٨

١ ـ قبح العقاب بلا بيان................................................... ٨٨

٢ ـ الاشتغال عند الشك في المكلف به...................................... ٨٨

٣ ـ الإتيان بالمأمور به مسقط للأمر......................................... ٨٩

ج ـ النتائج الأخلاقية........................................................ ٩٠

حصيلة البحث................................................................. ٩٣

فهرس محتويات الرسالة.......................................................... ٩٥

الرسائل الأربع - ١

المؤلف: عدّة من الأفاضل
الصفحات: 98
  • مقدمة المؤلف 5
  • الأمر الأول : في تعريف الدليل العقلي 5
  • الأمر الثاني : في انقسام الدليل العقلي إلى مستقل وغير مستقل 6
  • الأمر الثالث : في تقسيم الدليل العقلي بنحو آخر 7
  • الأمر الرابع : في تعدد المسألتين 7
  • الأمر الخامس : ما هو المراد من قولهم : كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع؟ 8
  • الأمر السادس : في أن القاعدة تستعمل في موردين 9
  • الأمر السابع : في أن إنكار الملازمة يحتمل وجوها 10
  • المسألة الأولى
  • هل التحسين والتقبيح عقليان أو شرعيان؟
  • إطلاقات الحسن والقبح 13
  • التحسين والتقبيح العقليان من البديهيات في مجال العقل العملي 17
  • 1 ـ لزوم انتهاء المجهولات إلى المعلوم بالذات في العقل النظري والعملي 17
  • 2 ـ ملائمة القضايا للفطرة ومنافرتها معها 21
  • سعة دائرة حكم العقل 22
  • هل التحسين والتقبيح العقليان من المشهورات؟ 28
  • تحليل مقال الشيخ الرئيس 29
  • نظرية المحقق اللاهيجي 32
  • كلام المحقق الاصفهاني 34
  • أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين 36
  • أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين 39
  • الدليل الأول : الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء 39
  • الدليل الثاني : لو كان التحسين والتقبيح ضروريا لما وقع الاختلاف 41
  • الدليل الثالث : لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغيرا 42
  • التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز 45
  • المسألة الثانية
  • ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
  • 1 ـ كلام الزركشي وهو من النافين 47
  • 2 ـ كلام صاحب الوافية وهو من النافين للملازمة 52
  • 3 ـ كلام الصدر في نفي كون المكشوف حكما شرعيا 53
  • 4 ـ كلام للمحقق القمي وهو من المثبتين 56
  • 5 ـ كلام لصاحب الفصول وهو من الناقين 59
  • الاستدلال على الملازمة بالدليل النقلى 65
  • 6 ـ كلام للمحقق الخراساني 66
  • 7 ـ كلام للمحقق الاصفهاني 70
  • 8 ـ كلام للشيخ المظفر 73
  • حصيلة البحث 74
  • اكمال 75
  • الكلام في عكس القاعدة 77
  • المسألة الثالثة
  • في إطاعة الحكم الشرعي المستكشف بالعقل وعصيانه
  • ثمرات مسألة التحسين والتقبيح 83
  • ألف : الثمرات الكلامية للمسألة 84
  • 1 ـ وجوب معرفة الله سبحانه 84
  • 2 ـ تنزيه فعله سبحانه عن العبث 85
  • 3 ـ لزوم تكليف العباد 85
  • 4 ـ لزوم بعث الأنبياء 85
  • 5 ـ لزوم تجهيز الأنبياء بالدلائل والمعاجز 86
  • 6 ـ لزوم النظر في برهان مدعي النبوة 86
  • 7 ـ العلم بصدق دعوى المتحدي بالمعجزة 86
  • 8 ـ قبح التكليف بما لا يطاق 87
  • 9 ـ الإنسان مخبر لا مسير 87
  • 10 ـ الله عادل لا يجور 87
  • ب ـ الثمرات الأصولية للمسألة 88
  • 1 ـ قبح العقاب بلا بيان 88
  • 2 ـ الاشتغال عند الشك في المكلف به 88
  • 3 ـ الإتيان بالمأمور به مسقط للأمر 89
  • ج ـ النتائج الأخلاقية 90
  • حصيلة البحث 93
  • فهرس محتويات الرسالة 95