

تفسير سورة القصص
مناصرة المستضعفين
إن رسالة الإسلام
الخالدة إنما ركزت في مخططها العام على تحقيق العدل ونشره ، ومحاربة الظلم وسدنته
، والحدّ من غطرسة أهل الاستكبار والبغي ، والعمل على مناصرة المستضعفين المظلومين
في كل مكان ، وكان هذا التّوجه في العهد المكّي الأول ، لذا افتتحت سورة القصص
المكّية بإعلان جانب من قصة موسى مع فرعون ، موسى عليهالسلام الذي يمثّل الحق والدفاع عن المستضعفين ، وفرعون حاكم مصر
الذي استعلى في أرضها ، وأذل بعض طوائفها ، ولكن قدرة الله وإرادته بالمرصاد ،
فأراد الله المنّ والإنعام على الذين استضعفوا ، وجعلهم سادة أئمة ، يرثون السلطة
والملك ، وأراد تعذيب المستكبرين فرعون وهامان وجنودهما ، لبطشهم بالضعفاء ، قال
الله تعالى مبيّنا هذا القانون الإلهي :
(طسم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))
[القصص : ٢٨ / ١ ـ
٦].
__________________
سورة القصص مكّية
إلا قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [الآية ٨٥ من
السورة] ، نزلت هذه بالجحفة في وقت هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة. افتتحت السورة بالأحرف الأبجدية المقطّعة (طسم) (١) للتنبيه على
إعجاز القرآن ، وتحدّي العرب بالإتيان بمثل القرآن الكريم ، ما دام مكوّنا من أحرف
لغتهم التي يتفاخرون بأنهم فيها أساطين البيان ، وفرسان الفصاحة والبلاغة ، لذا لا
نجد مثل هذه الحروف إلا متبوعة بالكلام عن آي القرآن المجيد. فهذه آيات من الكتاب
الواضح الجلي ، الكاشف لحقائق الدين وأحكامه. وعبّر عن الآيات ب (تِلْكَ) وإن كانت إشارة للغائب والبعيد ، وكلمة (هذه) للحاضر
والقريب ، فإنها أي (ذلك) في معنى القريب ، بسبب الثقة والتأكد من حصول ما جاء
بعدها. إننا نتلو ونذكر لك أيها النّبي خبر موسى وفرعون ، حقّا وصدقا مطابقا
للواقع ، كأنك تشاهد الواقعة ، من أجل تعريف قوم يصدّقون برسالتك وبما أنزل إليك
من ربّك ، فتطمئن به قلوبهم. وخصّ الله المؤمنين في قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) من حيث إنهم هم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، لأنهم يصدّقون
بالقرآن ، ويعلمون أنه من عند الله تعالى ، فينتفعون بذلك ، أما من لم يؤمن ، فلا
يصدّق أنّه حقّ ، وبالتالي لا ينتفع به.
إن فرعون ملك مصر
في عهد الفراعنة استعلى في أرضها واستكبر ، وبغى وطغى وتجبّر ، وقهر أهلها وبطش ،
وجعل أهل مصر فرقا وأحزابا مختلفة ، وسخّر كل طائفة في مصلحة عمرانية أو زراعية أو
غيرها ، يجعل جماعة منهم أذلّة خدما مقهورين ، وهم بنو إسرائيل ، يستأصل بالذّبح
أبناءهم الذكور ، ويبقي إناثهم أحياء ، إهانة لهم واحتقارا ، إنه كان من المفسدين
في أرض مصر وملكه ، بالعمل والمعاصي والاستكبار.
وأراد الله تعالى
إنصاف الضعيف وعقاب المستكبر ، فأنعم الله على المستضعفين المؤمنين برسالة موسى عليهالسلام ، وخلّصهم من بأسه ، وأنقذهم من ظلمه ومكره.
وجعل الله أولئك
الضعاف الأذلة ولاة الأمور ، ووارثين لملك فرعون وأرضه وما في سلطانه ، وجعل لهم
السلطة والنفوذ في أرض فرعون. وأرى الله فرعون الطاغية ، وهامان وزيره الماكر ،
وأتباعهما ما كانوا يخافون منه ، من ذهاب ملكهم ، وهلاكهم على يد مولود من بني
إسرائيل ، وقد أنفذ الله أمره ، وحقّق حكمه ، بأن جعل تدمير فرعون وقومه على يد من
تربّى في قصره ، بعد أن صيّره الله رسولا ونبيا ، وأنزل عليه التوراة ، ليعلم أن
الله وحده هو القاهر الغالب على أمره ، ويتم أمر الله فيما أوقعه بفرعون وقومه
وجنده فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل وتغلبهم.
إرضاع موسى عليهالسلام من أمّه
خشي فرعون حاكم
مصر هلاك ملكه على يد بني إسرائيل ، فكان يقتّل الأبناء ، ويبقى البنات أحياء
للخدمة ، وشاء الله تعالى أن ينجو من القتل موسى عليهالسلام بعد ولادته وإلقائه في البحر ، فالتقطه آل فرعون لتربيته ،
وإعداده في النهاية لتدمير ملك فرعون من حيث لا يشعرون ، ولم تتضرر أم موسى على
رمي وليدها في البحر ، فمنعه من قبول ثدي أي امرأة أخرى غير ثدي أمّه ، فأرشدت
أخته حاشية فرعون إلى من يرضعه ، وأعاده الله تعالى لأمّه سالما آمنا ، وهذه فصول
قصة رضاعه ، قال الله تعالى :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ
__________________
قُرَّتُ
عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ
لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ
فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ
ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ
وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))
[القصص : ٢٨ / ٧ ـ
١٣].
كان إقدام فرعون
على تذبيح صبيان بني إسرائيل ، لأنه ـ كما قال قتادة ـ قال له كهنته وعلماؤه : إن
غلاما لبني إسرائيل يفسد ملكك ، فرأى أن يقطع نسلهم ، فصار يذبح عاما ، ويستحيي
عاما ، فولد هارون عليهالسلام في عام الاستحياء ، وولد موسى عليهالسلام في عام الذّبح ، أي إن فرعون ـ كما قال ابن عطية ـ طمع
بجهله أن يردّ القدر.
وابتدأت القصة ،
بذكر نعمة الله على موسى عليهالسلام ، فيما معناه : وألهمنا أمّ موسى إرضاعه فترة زمنية ،
فأرضعته ثلاثة أو أربعة أشهر. كما يقال ، فإذا خفت عليه من القتل ، فألقيه في بحر
النّيل ، ولا تخافي عليه من الغرق والضياع ، ولا تحزني على فراقه ، إنّا سنردّه
عليك لتكوني أنت مرضعته ، وسنجعله نبيّا مرسلا إلى قومه بني إسرائيل.
فلما ألقي موسى في
نيل مصر ، مرّ أمام قصر فرعون ، فالتقطه آل فرعون (أهله) من أجل معرفة ما في
التابوت ، وآثروا تبنّيه وتربيته ، دون أن يدروا بمصيره ، فكانت عاقبة أمره
والتقاطه أن يصير موسى عليهالسلام بعد النّبوة والكهولة عدوّا لهم ،
__________________
بمخالفة دينهم ،
وإغراقهم في البحر وزوال ملكهم ، لتكذيبهم برسالة موسى عليهالسلام. فتكون لام (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا) لام العاقبة أو الصيرورة ، لا أن القصد بالالتقاط من أجل
أن يكون لهم عدوّا. ولقد كان فرعون ووزيره وأكبر رجاله هامان وجنودهما متعمدين
الخطأ ، مصرّين على تكذيب موسى. وبهذا يعلم أن (الخاطئ) متعمّد الخطأ ، و (المخطئ)
: الذي لا يتعمّده ، فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم عندهم ، وكان هو سبب هلاكهم.
وقالت زوجة فرعون
له : هذا الطفل قرّة عين لي ، أي سلوة لي ، تقرّ به عيني ، وتفرح به نفسي ، فلا
تقتلوه ، وذلك الإلهام لامرأة فرعون لأن الله تعالى ألقى عليه المحبة ، فكان يحبّه
كل من شاهده ، ولعله يكون سببا للخير والنفع ، أو نتخذه ولدا ونتبنّاه ، لما يتمتع
به من الوسامة والجمال ، ولكن لم يشعر قوم فرعون أن هلاكهم بسبب هذا الطفل وعلى
يده.
وأصبح قلب أم موسى
بعد إلقاء صندوقه في البحر فارغا من كل شيء من شواغل الدنيا ، إلا من ذكر موسى ،
وكادت من شدّة حزنها وأسفها إظهار أمر ابنها وأنه ذهب لها ولد ، وأنها أمّه ، لو
لا أن ثبّت الله قلبها وصبّرها ، لتكون من المصدّقين الواثقين بوعد الله لها ،
بردّه إليها.
وقالت أمّ موسى
لأخته ابنتها الكبرى : تتبّعي أثره واعرفي خبره ، فخرجت لذلك ، فعثرت عليه في بيت
فرعون ، وأبصرته عن بعد ، والقوم لا يشعرون بها وبمهمّتها ، ولا بأنه الذي يفسد
الملك على يديه.
ومنع الله موسى من
قبول ثدي المراضع غير ثدي أمّه ، من قبل ، أي من أول أمره ، فقالت أخته لمن حول
بيت فرعون : ألا أدلّكم على أهل بيت يتكفّلون بشأنه وإرضاعه وحضانته ، وهم حافظون
له ، ناصحون للملك ، بخدمته والمحافظة عليه؟!
فأعاد الله الطفل
موسى إلى أمه بعد التقاط آل فرعون له ، لتقرّ عينها وتسرّ بوجوده لديها وسلامته
عندها ، ولا تحزن عليه بفراقه ، ولتتيقّن أن وعد الله بردّه إليها حقّ لا شكّ فيه
، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكم الله في أفعاله ، أي حكمته وتدبيره.
خطأ موسى عليهالسلام
قضى موسى عليهالسلام عهد الشباب في مصر ، مع قومه الإسرائيليين ، وتعايشه مع
فرعون وأتباعه ، ولكنه كان ضجرا متألما لما عليه سوء الحال في مصر ، رافضا ألوهية
فرعون ، قلقا من استكباره واستعلائه ، وإذلاله بني إسرائيل ، وينتظر الفرج القريب
، بما آتاه الله من العلم والحكمة والبصيرة في إدراك وحدانية الله تعالى ، وهو
بهذا يصارع الآلام النفسية ، من تألّه فرعون وجبروته ومظالمه ، وهذا ما وصفه لنا
القرآن الكريم ، للعبرة والعظة في الآيات الآتية :
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ
مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))
[القصص : ٢٨ / ١٤
ـ ١٧].
كان تكوين موسى عليهالسلام وإعداده للنّبوة وتربيته يشبه إعداد جميع الأنبياء ، إنهم
كانوا قبل النّبوة على ملّة التوحيد : ملّة إبراهيم الحنيفية عليهالسلام ، فلما نضج
__________________
موسى عليهالسلام وتكامل عقله وحزمه ، أي استوى ، وذلك ـ عند الجمهور ـ مع
سنّ الأربعين ، وقيل : ثلاثين ، آتاه الله الحكم ، أي الحكمة ، والعلم : المعرفة
بشرع إبراهيم عليهالسلام ، وكما فعل الله ذلك بموسى فعل بسائر الأنبياء ، ليجزي
المحسنين على إحسانهم ، وقد رجح الإمام الفخر الرازي : أن المراد بالحكم هنا : الحكمة
والعلم لا النّبوة ، والحكمة والعلم مقدّمات لنبوة موسى عليهالسلام. والأشد : شدة البدن واستحكام أمره وقوته. واستوى : معناه
تكامل عقله وحزمه.
وحدث في هذه
المرحلة من العمر : أن دخل موسى عليهالسلام مدينة عين شمس ، على بعد فرسخين من مصر القديمة ، في وقت
القائلة أو القيلولة ، وقت الغفلة ، والناس نيام ، فوجد فيها رجلين يتخاصمان ،
أحدهما إسرائيلي من قومه أو شيعته وحزبه ، والآخر مصري فرعوني ، هو طبّاخ فرعون ،
وكان قد طلب من الإسرائيلي أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى ، فطلب الإسرائيلي المساعدة
والعون على عدوه الفرعوني ، فضربه موسى بيده على لحيته ، فقضى عليه ، أي قتله ، أي
كان الضرب الخطأ مفضيا خطأ إلى الموت ، فإن موسى لم يرد قتل القبطي ، لكن وافقت
وكزته الأجل ، ونشأ عنها موته ، فندم موسى ، ورأى أن ذلك من نزغ الشيطان في يده ،
وأن الغضب الذي اقترنت به تلك الوكزة ، كان من الشيطان ومن همزه ، فنسب إلى عمله ،
وقد اقترنت قوته الكبيرة بوقت غضبه ، بأكثر مما يقصد ، وكان الحادث قبل النّبوة.
فندم موسى على ما فعل ، وقال : إن هذا العمل من تزيين الشيطان وإغرائه ، إن
الشيطان عدوّ للإنسان ، موقع له في الضلال والخطأ.
ثم تاب موسى عليهالسلام من فعله هذا فقال : (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) أي يا ربّ إني أوقعت نفسي في الظلم والإثم بهذا الفعل ،
وهو قتل نفس بريئة ، فاستر لي ذنبي ، ولا تؤاخذني بجناية نفسي ، وإني نادم على ما
فعلت ، وأتوب إليك
وأستغفرك ، فغفر
الله له ، وقبل توبته ، إنه سبحانه وتعالى الغفور : السّتّار لذنوب عباده التائبين
المخلصين في توبتهم ، الرّحيم بهم : المنعم عليهم بفيض رحمته ، فلا يعاقبهم بعد
التوبة المخلصة.
وعاهد موسى ربّه عزوجل قائلا : يا ربّ ، اعصمني من الخطأ ، بسبب ما أنعمت علي ،
من الحكمة والمعرفة بالملّة القويمة وبتوحيدك وتمجيدك ، يا ربّ ، بنعمتك علي ،
وبسبب إحسانك إلي وفضلك ، فأنا ملتزم ألّا أكون معينا للمجرمين ، أي المنحرفين
الخارجين عن دائرة الحق والاستقامة. قال القشيري : ولم يقل : لما أنعمت علي من
المغفرة ، لأن هذا كان قبل الوحي ، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل.
وأراد بترك مظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته ، وتكثير سواده ،
حيث كان يركب بركوبه ، كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ، وإما بمظاهرة من
أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم
يحل له قتله.
وظلّ موسى عليهالسلام يتحسس ويتألم من حادثة القتل ، مع علمه بأنه قد غفر له ،
حتى في يوم القيامة ، كما صحّ في حديث الشفاعة.
قلق موسى عليهالسلام وخوفه وخروجه من مصر
إن النفوس المؤمنة
، والسّامية العالية ، ينتابها الخوف الدائم والقلق والضجر إذا بدر منها الخطأ ،
وعكّر السّوء صفاءها ، وجعلها لا تقرّ ولا ترتاح ، وهكذا كان شأن موسى عليهالسلام بعد أن وقعت بسببه حادثة قتل خطأ ، قبل أن يكون رسولا
نبيّا ، ومما زاده ألما وضيقا أن الذي نصره من الإسرائيليين يستنجد به مرة أخرى ،
لضرب رجل آخر ، فأبى موسى مناصرته ، ثم جاءه رجل يحذّره من التآمر على قتله من آل
فرعون ، فكان ذلك
سببا لخروجه من مصر ، واتّجاهه نحو أرض مدين ، وصف الله تعالى هذه الأحداث في
الآيات التالية :
(فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ
أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٢١))
[القصص : ٢٨ / ١٨
ـ ٢١].
لقد استبدّ الخوف
والقلق في نفس موسى عليهالسلام ، فأصبح في المدينة : عين شمس ، دائم الخوف في كل أوقاته ،
فصار يترقّب مباغتا يقتله ، ويتحسس ويتألم من الناس بسبب القتل ، فمرّ وهو بهذه
الحالة القلقة في طريق متخفّيا مستترا ، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس
على المصري ، يطلب منه العون والمساعدة على مصري آخر ، فقال له موسى معاتبا
ومؤنّبا : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية ، كثير الفساد والشّر والضّلال.
ولما أراد موسى
زجر عدوّهما القبطي : عدو الإسرائيلي وعدوه ، قال له مستنكرا مستهجنا لعلمه بحادثة
القتل بالأمس : أتريد الإقدام على قتلي ، كما قتلت نفسا البارحة ، ما تريد يا موسى
إلا أن تكون من الجبابرة ، والجبابرة شأنهم قتل الناس بغير حق؟! فلذلك جعله جبّارا
ونفى عنه الصلاح ، أي إنك لا تريد إلا أن تكون سفّاحا بطّاشا ، كثير الأذى في
الأرض ، دون أن تتدبّر في عواقب الأمور ، ولا تريد
__________________
أن تكون من أهل
الصلاح والإصلاح الذين يفصلون في خصومات الناس بالحسنى والحكمة ، والموضوعية ،
والرّوية ، حتى ولو كان أحد الخصوم من ذوي القربى أو العشيرة.
فأنفذ فرعون إلى
موسى من يطلبه من جنده ، ويأتي به للقتل ، فخرج موسى إلى الطريق الأعظم ، أي الشارع
العام ، فجاءه رجل ، يسرع في مشيه ، يقال : إنه مؤمن آل فرعون ، ويقال : إنه غيره
، في إحدى الطرق الصغيرة ، المتشعبة من الطرق الكبيرة ، ليصل بسرعة إلى موسى عليهالسلام ، وليخفي أمره ، حتى لا يعرف أحد أنه يريد إبلاغ موسى
بالخبر ، وقد جاء هذا الرجل الناصح من أبعد مكان في المدينة ، فقال : يا موسى ، إن
فرعون وملأه : أشراف دولته وكبار حاشيته ، يتآمرون ويتشاورون في أمرك ، وتدبير
مكيدة أو مؤامرة قتلك ، فاخرج بسرعة من البلد ، إني لك ناصح أمين.
فخرج موسى عليهالسلام من مدينة فرعون خائفا على نفسه ، يتلفّت ويترقّب متابعة
أحد له ، وأفلت من القوم ، فلم يجدوه ، وخرج في حال فزعه إلى طريق مدين ، وهي
مدينة قوم شعيب عليهالسلام ، وكان موسى عليهالسلام لا يعرف ذلك الطريق ، ولم يصحب أحدا ، فسار واثقا بالله
تعالى ، ومتوكّلا عليه ، وقال في هذه المحنة العصيبة : يا ربّ ، نجني من هؤلاء
القوم الظالمين : فرعون وملئه ، واحمني من شرّهم وسوئهم ، فاستجاب الله دعاءه
ونجاه ؛ ووصل إلى مدين آمنا على نفسه ، بفضل الله وإحسانه ، كما جاء في آية أخرى :
(وَقَتَلْتَ نَفْساً
فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ
مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) [طه : ٢٠ / ٤٠].
وبين مدين ومصر
مسيرة ثمانية أيام ، وكان ملك مدين لغير فرعون ، قال السّدّي ومقاتل : روي أن الله
تعالى بعث إلى موسى جبريل عليهالسلام ، وقيل : ملكا غيره ،
فسدّده إلى
الطريق. وكل ذلك رعاية وعناية ، وحماية وعصمة من الله لموسى ، ليعدّه لتحمل عبء
الرسالة ، ومنصب النبوة ، وأخذ التوراة.
زواج موسى عليهالسلام
بدأت مرحلة جديدة
في حياة موسى عليهالسلام ، بعد توجّهه إلى أرض مدين بفلسطين ، تميّزت بالاستقرار
لمدة عشر سنوات ، حين تزوج بابنة شعيب عليهالسلام ، ورعيه غنمه تلك المدة ، وبعد انتهائها وعزمه العودة إلى
مصر ، حدثت النعمة الكبرى على موسى وهي إيتاؤه الرّسالة والنّبوة وتلقّي التوراة.
وكان هذا الزواج لما تمتع به موسى عليهالسلام من قوة الرّجولة ، وعظمة الأمانة ، وهاتان صفتان هما مطمح
المرأة وأملها في الرجل الذي تريده زوجا لها ، وليس هناك أجمل ولا أجلى مما صوره
القرآن الكريم من قصة هذا الزواج المبارك ، قال الله تعالى :
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا
نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ
إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ
__________________
سَتَجِدُنِي
إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ
(٢٨)) [القصص : ٢٨ / ٢٢
ـ ٢٨].
حينما اتّجه موسى عليهالسلام جهة مدين ، تاركا فرعون وبلاده ، ومن أجل معرفته الطريق ،
قال داعيا ربّه : ربّي اهدني الطريق الأقوم ، فامتن الله عليه ، وهداه إلى السبيل
الصحيح ، المؤدي به إلى بلاد مدين ، وكان بحكم العادة يسأل الناس عن الطريق ،
فيدلّونه.
ومدين : شمال خليج
العقبة في فلسطين. وسبب هذا التّوجه : وجود قرابة بين موسى وأهل مدين ، فهم من ولد
مدين بن إبراهيم عليهالسلام ، وموسى من بني إسرائيل ، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم عليهمالسلام.
وفصول قصة مدين
أولها : أن موسى عليهالسلام لما وصل إلى مدين ، وورد ماءها ، وجد رعاة الماشية يسقون
أنعامهم ومواشيهم من بئر فيها ، ووجد جماعة من الناس حولهم ، ووجد في مكان ناء
امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرّعاة الآخرين ، لئلا تختلط مع أغنام
غيرهما ، فسألهما : لماذا لا تسقيان ، ما شأنكما وخبركما ، لا تردان الماء مع
هؤلاء؟ قالتا : لا نسقي غنمنا إلا بعد أن ينصرف الرّعاة (يصدر) ويبتعدوا من السّقي
، وأبونا شيخ كبير هرم ، لا يستطيع الرّعي والسّقي بنفسه.
فبادر موسى عليهالسلام لسقي غنم هاتين المرأتين ، من بئر مغطاة بصخرة ، لا يطيق
رفعها إلا عشرة رجال ، ثم أعادها إلى موضعها على البئر ، ثم انزوى إلى ظلّ شجرة
للراحة ، مناجيا ربّه قائلا : إنّي لمحتاج إلى الخير من ربّي ، وهو الطّعام ، لدفع
غائلة الجوع.
وبعد رجوع
المرأتين سريعا بالغنم إلى أبيهما شعيب عليهالسلام ، سألهما عن
الخبر والسبب ،
فقصّتا عليه ما فعل موسى عليهالسلام ، فبحث إحداهما إليه ، لتدعوه إلى أبيها ، فجاءت إحداهما
تمشي مستحيية مشي الحرائر الأباة ، فقالت له في أدب وحزم : إن أبي يطلبك ليكافئك
على إحسانك لنا. فلما جاء موسى إلى شعيب الشيخ ، وقصّ عليه قصّته مع فرعون وقومه ،
قال له : لا تخف واطمئن ، لقد نجوت من سطوة القوم الظالمين.
فقالت إحدى ابنتي
الشيخ الكبير : يا أبت استأجره لرعي هذه الغنم ، فإن خير مستأجر لها هو ، لأنه
الرجل الأبي القوي ، المؤتمن الذي لا يخون.
قال شعيب : يا
موسى ، إني أريد مصاهرتك وتزويجك إحدى هاتين البنتين ، فاختر ما تشاء ، على أن
يكون المهر خدمة من المنافع : وهي رعاية غنمي ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين
، فهو إليك ، وما أريد إيقاعك في شيء من المشقة والحرج ، وستجدني إن شاء الله من
الصالحين ، المحسنين المعاملة ، ولين الكلام أو الخطاب ، والفعل.
فقال موسى لعمّه
الصّهر : الأمر على ما قلت في اختيار إحدى البنتين ، والوفاء بإحدى المدّتين : ثماني
أو عشر سنين ، ولا مجاوزة للحدّ ، ولا حرج من اختيار إحدى المدّتين ، أو لا تبعة
علي من قول ولا فعل ، والاتّفاق موثق بيني وبينك في ثماني سنوات ، والله على ما
نقول شاهد قائم بالأمور ، وبعد إتمام عقد الزواج أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت
فيه عصي ، فيأخذ منه عصا لرعيه الغنم في مدين.
إيتاء موسى عليهالسلام النّبوة في جبل الطّور
أتم موسى عليهالسلام أكمل المدّتين عشر سنوات ، في رعي غنم شعيب عليهالسلام في مدين ، ثم عزم على العودة إلى مصر ، لزيارة أقاربه ،
مصحوبا بزوجته ، ولكنه في طريق العودة ، حدث التحول الجديد الأعظم في حياته ، حين
كلّمه ربّه في
جبل الطّور ،
وآتاه الله النّبوة والتّوراة ، وجعله رسولا إلى فرعون وقومه ، بني إسرائيل ،
وكانت معجزته الدّالة على نبوّته انقلاب العصا حيّة عظيمة ، وإضاءة يده كالشمس
المشرقة ، وكلفه الله بتبليغ رسالته إلى فرعون وملئه : القوم الفاسقين ، وتلك مهمة
شاقّة وعسيرة.
قال الله تعالى
واصفا هذه المرحلة الجديدة في حياة موسى كليم الله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا
مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا
رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى
أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))
[القصص : ٢٨ / ٢٩
ـ ٣٢].
لما أتم موسى عليهالسلام أكمل المدّتين برعي غنم شعيب عليهالسلام عشر سنين ، أراد أن يسير بأهله إلى مصر وقومه ، وقد أحسّ
لا محالة بالترشيح للنّبوة ، وكان رجلا غيورا لا يصحب الرفاق ، فسار في ليلة مظلمة
باردة ، فأخطأ الطريق ، واشتدّ عليه وعلى زوجته البرد ، فبينا هو كذلك إذ رأى نارا
، وكان ذلك نورا ، من نور الله تعالى قد التبس بشجرة ، من العلّيق أو الزعرور أو
السمرة ، فقال لأهله : ابقوا في مكانكم أو أقيموا ، إني رأيت نارا ، لعلي آتيكم
منها بخبر عن الطريق ، أين
__________________
هو؟ أو بقطعة من
النار في عود كبيرة لا لهب لها ، أي إنها جمرة ، لعلكم تستدفئون من البرد.
فلما أتى موسى ذلك
الضوء الذي رآه ، وهو في تلك الليلة ابن أربعين سنة ، نبّئ بالنّبوة ، حيث نودي في
مكان النور من بعيد ، من جانب الوادي التي هي عن يمين موسى من ناحية الغرب ، أو أن
الوادي وصف باليمن ، في البقعة المباركة ، وابتداء النداء من جهة الشجرة (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ) وهذا تعريف بالمنادي المتكلم ، وهو الله ربّ جميع العوالم
من الإنس والجنّ.
ونودي بأن ألق
عصاك التي في يدك ، فألقاها فصارت حيّة عظيمة تسعى ، فتحقق أن الذي يكلمه هو الله
تعالى ، فلما رأى العصا تتحرك ، كأنها جانّ من الحيّات (وهي صغير الحيّات) فجمعت
هول الثعبان ونشاط الجانّ ، ولّى موسى هاربا ، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه ،
خوفا منها ، بحكم الطبيعة البشرية ، فقال الله تعالى له : يا موسى ارجع إلى مكانك
أو مقامك الأول ، ولا تخف من هذه الحية ، فأنت آمن من كل سوء. وهذا من تأمين الله
تعالى إياه ، ثم أمره بأن يدخل يده في جيبه ، وهو فتحة الجبّة من حيث يخرج رأس
الإنسان. ومعنى (اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ) أدخل يدك في فتحة قميصك العليا من جهة الرأس ، ثم أخرجها ،
تخرج بيضاء تتلألأ ، ولها شعاع ، كأنها قطعة قمر (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير عيب ولا مرض ولا برص فيها.
وزيادة في التأمين
، وإزالة لكثرة الخوف والفزع الذي ألمّ بموسى ، وإعدادا له لتحمّل عبء الرسالة
بعزم وحزم وهمة عالية ، أمره الله بوضع يده على صدره ، لإذهاب الخوف كما هي العادة
المتّبعة ، فهاتان آيتان أو معجزتان : وهما إلقاء العصا وانقلابها حية تسعى ،
وإدخال يدك في جيبك ، فتخرج بيضاء مشعّة من غير سوء ولا مرض ، هما دائما دليلان
قاطعان واضحان من ربّك ، دالان على قدرة الله وصحّة
نبوّتك ، يؤيّد
انك في رسالتك إلى فرعون وقومه من الأكابر والرؤساء والأتباع ، إنهم كانوا قوما
خارجين عن حدود طاعة الله ، مخالفين لأمره ودينه ، فكانوا بأمسّ الحاجة إلى إرسالك
إليهم ، مؤيّدا بهاتين المعجزتين.
وكانت هذه
المكالمة التي أهّلت موسى عليهالسلام لوصفه بأنه كليم الله هي بداية التكليف بالنّبوة والرسالة
الإلهية ، في أشقّ مهمة وأعسرها ، وهي محاولة هداية فرعون المتألّه الجبّار ،
وإرشاده إلى الإقرار بوجود الإله الحقّ الواحد الذي لا إله غيره ولا شريك له.
نبوّة هارون وتكذيب فرعون
حينما أصبح موسى عليهالسلام رسولا من عند ربّه إلى فرعون وملئه ، أحسّ بمخاوف أخرى ،
ومحاذير قديمة ، بمفاجأته بأنه قتل في شبابه قبطيّا من قوم فرعون ، فطلب من ربّه
تأييده وإعانته بجعل أخيه هارون نبيّا ورسولا معه ، يؤازره ويصدّقه خشية تكذيبه ،
فأجاب الله تعالى طلبه ، فسار الاثنان في مظلة الرعاية والحماية الإلهية إلى فرعون
وملئه ، وكانت النتيجة متوقعة ، حيث بادر أولئك الفاسقون إلى وصف رسالة موسى
وهارون بالسحر المفترى ، وبالأسطورة المختلقة ، وكان ردّ موسى واضحا بأن الذي
أرسله هو الله تعالى ، وأنه يعتمد على تأييده ونصره ، قال الله سبحانه واصفا هذا
اللقاء المثير :
(قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
__________________
وَنَجْعَلُ
لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ
قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ
عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (٣٧))
[القصص : ٢٨ / ٣٣
ـ ٣٧].
لما أمر الله
تعالى موسى عليهالسلام بالعودة إلى مصر ، لهداية فرعون ، بعد أن فرّ من سطوته
وبطشه ، قال موسى : يا ربّ ، إني قتلت من قوم فرعون نفسا ، فأخاف إن رأوني أن
يقتلوني ثأرا من قتيلهم ، فكيف أذهب إلى فرعون وقومه؟!
إن أخي هارون هو
أفصح لسانا مني ، وأحسن بيانا ، وأدرى مني بلهجة المصريين ، لأنه لم يترك بلادهم ،
فأرسله معي معينا ووزيرا يصدّقني في قولي وخبري ، ويتحمّل معي عبء الرسالة ، إني
أخاف أن يكذّبوني في نبوّتي ورسالتي ، فأجاب الله تعالى طلبه ، وجعل هارون رسولا.
وقال الرّب عزوجل لموسى : سنعزز جانبك ، ونقوّي شأنك ، ونعينك بأخيك الذي
سألت أن يكون نبيّا معك ، وسنجعل لكما السلطان ، أي الحجة الغالبة ، والتّفوق على
عدوّكما ، فلا يكون للأعداء سبيل للوصول إلى أذاكما ، بما نسلّطكما عليهم بآياتنا
البيّنات ، تمتنعان منهم بها ، أنت يا موسى وأخوك ، ومن آمن بكما ، واتّبعكما في
رسالتكما الغالبون بالحجة والبرهان. وقوله تعالى : (وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) يحتمل أن يتعلّق قوله : (بِآياتِنا) إما بفعل (وَنَجْعَلُ لَكُما) أو بفعل (يَصِلُونَ إِلَيْكُما) وتكون الباء باء السبية ، أي بسبب آياتنا لن يتسلطوا
عليكما ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : (الْغالِبُونَ) أي تغلبون بآياتنا.
فلما جاء موسى عليهالسلام بآيات الله البيّنات الواضحات ، قال فرعون وقومه :
__________________
ما هذا الادّعاء
بالرسالة من عند الله إلا سحر مفترى ، وقول مكذوب ، وما سمعنا بما تدعونا إليه من
عبادة الله وحده لا شريك له ، في عهود آبائنا وأجدادنا الأقدمين ، ولم نر أحدا من
الأسلاف على هذا الدّين ، ولم نر إلا الإشراك مع الله آلهة أخرى.
فأجاب موسى عليهالسلام فرعون المتألّه وقومه بقوله : الله ربّي الذي لا إله غيره
، خلق كل شيء وأوجده ، أعلم مني ومنك بالمحقّ من المبطل ، وبمن جاء بالهداية
والرّشاد ومن أرسله بهذه الدعوة ، ومن الذي تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا
بالنصر والظفر والتأييد ، وفي الآخرة بالنّجاة والثواب ، والرحمة والرضوان ، كما
جاء في آية أخرى : (أُولئِكَ لَهُمْ
عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ) [الرّعد : ١٣ / ٢٢
ـ ٢٣]. وآية : (وَسَيَعْلَمُ
الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرّعد : ١٣ / ٤٢].
وسيفصل الله بيني وبينكم ، إنه لا يفلح ولا ينجح المشركون بالله عزوجل ، ولا يظفرون بالفوز والنجاة ، بل يكونون هالكين خاسرين.
وهذا أسلوب أدبي
رفيع ، فإن موسى عليهالسلام لم يعلن أنه المحقّ وغيره هو المبطل ، وإنما فوّض الأمر
لله ، ليجعل للعقل في النّقاش والجدل مجالا في إصدار الحكم النّهائي ، وتغليب
الصواب على الخطأ ، فهذه دعوة للرّوية والأناة ، والتعقل ، وإعمال الحكمة ، كما
جاء في أسلوب آخر في خطاب نبيّنا للمشركين ، حيث قال صلىاللهعليهوسلم : (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٣٤ / ٢٤].
عاقبة الجدل المثير بين موسى عليهالسلام وفرعون
بادر موسى عليهالسلام بجولة أخرى من الجدل ، والنّقاش مع فرعون حول ربوبيّة الله
تعالى وألوهيته ، على الرغم من إظهاره آيات الله البيّنات المؤيّدة لرسالته ،
وأصرّ فرعون على إنكار وجود الله ، وأعلن للحاشية والأشراف من قومه بأنه هو الإله
،
وأنه لم يعلم
بوجود إله آخر سواه ، وتحدّى ببناء صرح أو برج للبحث عن إله موسى في السماوات ،
واستبدّت به المادة الحسّيّة والأهواء فتصوّر أن الإله كالبشر ، وعلا واستكبر ،
فجعله الله مع جنوده غرقى في البحر ، وجعلهم قادة إلى النار ، وأتبعهم اللعنة
والطّرد من رحمة الله ، وأيّد الله موسى بالتّوراة بصيرة وهداية ورحمة لمن يتذكر ويخشى
، قال الله تعالى مبيّنا هذه الفصول :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))
[القصص : ٢٨ / ٣٨
ـ ٤٣].
ثبّت الله موسى عليهالسلام في محاجّة فرعون ، وآتاه الله التوراة هداية ورحمة ، ودمّر
فرعون وقومه الذي نادى في قومه : يا أيها الملأ الأشراف والكبراء ، لم أعلم بوجود
إله غيري ، فإله موسى غير موجود ، فاصنع لي أيها الوزير هامان آجرّا (طينا مشويّا
بالنار) وابن لي به قصرا عاليا في الفضاء ، حتى أصعد به إلى السماء ، فأشاهد إله
موسى الذي يعبده ، توهّما منه بأن الإله جسم مادّي كالبشر ، وإني لأعتقد بأن موسى
كاذب في ادّعائه وجود إله غيري.
واستكبر فرعون
وجنوده في أرض مصر ، بالباطل والإفك المجافي للحقيقة ،
__________________
واعتقدوا بأنه لا
قيامة ولا حساب ولا عقاب ، ولم يدروا بأن الله رقيب عليهم ومجازيهم بما يستحقون.
فأغرقهم في البحر في صبيحة يوم واحد ، وأفناهم عن آخرهم ، فانظر أيها الرسول وكل
متأمّل في قدرة الله وعظمته ، كيف كان مصير هؤلاء الظالمين الذي ظلموا أنفسهم؟ لقد
أغرقناهم في اليم ، أي في بحر القلزم (البحر الأحمر).
وضاعف الله عذابهم
حين جعل فرعون وأشراف قومه وأتباعه قادة ضلال ، وقدوة لكل كافر وعات ، إلى يوم
القيامة ، لأنهم قاموا بإضلال غيرهم ودعوتهم إلى النار ، فجوزوا بجزاءين : جزاء
الضلال ، والإضلال ، وفي يوم القيامة لا يجدون مناصرين لهم ، ولا شفعاء يشفعون لهم
، لإنقاذهم من بأس الله وعذابه.
وألزمناهم على
الدوام في الدنيا لعنة وخزيا ، وغضبا ، على ألسنة المؤمنين والأنبياء المرسلين ،
كما أنهم يكونون يوم القيامة من المقبوحين ، أي الذين يقبح كل أمرهم ، قولا لهم
وفعلا ، ومن المطرودين المبعدين عن رحمة الله ، كما جاء في آية أخرى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩) [هود : ١١ /
٩٩].
وتم إنجاء أهل
الإيمان بعد إغراق فرعون وقومه ، فآتى الله موسى كتاب التوراة بعد إهلاك أهل
القرون القديمة من قوم نوح وهود وصالح ولوط ، ليكون ذلك الكتاب مصدر هداية ونور
وتبصّر وتدبّر وتفكّر ، ورحمة لمن آمن به ، وإرشاد للعمل الطّيب ، وإنارة للقلوب ،
لتمييز الحق من الباطل ، لعل الناس يتذكّرون به ويتّعظون ، ويهتدون بسببه.
تضمّن هذا الإخبار
أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى ، بعد إهلاك فرعون وقومه ، وبعد إهلاك الأمم
القديمة من عاد وثمود وقرى قوم لوط وغيرها ، والقصد من هذا الإخبار التمثيل لقريش
وتحذيرهم بما تقدّم في غيرهم من الأمم من ألوان العذاب.
إخبار النّبي صلىاللهعليهوسلم عن الأقوام السابقين
تواترت الأدلة
والبراهين على صدق النّبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، بما أوحى الله إليه في القرآن الكريم المعجزة الخالدة
أبد الدهر. ، ومن أنباء القرآن : ما قصّه الله على نبيّه من أخبار صادقة ، عن قوم
أو أمم لم يشهدهم ، ولم يكن معهم ، ولم يدوّن التاريخ أخبارهم ، فلم يبق طريق
للمعرفة إلا الوحي القرآني فهو المصدر الصحيح لتلك الأخبار ، وفي ذلك عظة وعبرة ،
وبرهان ساطع على صدق النّبي صلىاللهعليهوسلم. ومن أهم تلك الأخبار بعض فصول قصة موسى عليهالسلام ، وأهمها إنزال التوراة عليه ، في جبل الطور في صحراء
سيناء ، قال الله تعالى :
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
(٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ
ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))
[القصص : ٢٨ / ٤٤
ـ ٤٧].
المعنى : لم تحضر
أيها النّبي هذه الأخبار الغيبية التي نخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا ، وذلك
حين أنزلنا التوراة على النّبي موسى عليهالسلام ، وما كنت أيها النّبي من الحاضرين تلك المناجاة ومكالمة
الله تعالى. فكان الواجب على قومك المسارعة إلى الإيمان برسالتك ، ولكن تطاول
الأمر والزمن على القرون (الأمم) التي أنشأناها ، زمنا زمنا ، وطال عليها العهد ،
فاندرست العلوم ، وبادت المعارف ، وتغيّرت الشرائع ، ونسي الناس شرائع الله
وأحكامه ، واستحكمت فيهم الجهالة والضلالة.
__________________
وهذا تنبيه على
المعجزة ، لأن الإخبار عن قصة تاريخية من مئات السنين ، دون مشاهدة لأحداثها ،
دليل واضح على صدق المخبر : وهو رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وكذلك لم تكن أيها
النّبي مقيما بين قوم شعيب في أهل مدين ، تقرأ عليهم آياتنا المنزلة ، ولكنا ، أي
ذات الجلالة كنا مرسلين إياك رسولا للناس ، وأوحينا إليك بهذه الأخبار.
ولم تكن أيضا أيها
الرسول موجودا بجانب جبل الطور ، وقت إنزال التوراة إلى موسى ، وحين مناداة موسى عليهالسلام وتكليمه ومناجاته ، حتى تعرف تفاصيل الخبر ، ثم تحدّث به
للناس ، ولكن علّمناك وأخبرناك بأخبار القرآن ، وجعلناك رحمة للعالمين ، لتنذر
قوما وهم العرب ، لم ينذروا من قبل ، تنذرهم بأس الله وعذابه إن لم يؤمنوا بك ،
لعلهم يهتدون بما جئتهم به من عند الله عزوجل ، ويتذكرون هذه الإنذارات والتحذيرات.
وأما سبب رسالتك
أيها النّبي محمد : فهي إخبار قومك والعالم كله بمضمون رسالة الله وشرائعه وأحكامه
، فإنهم إذا أصابتهم مصيبة العذاب على كفرهم ، وما قدمته أيديهم من المعاصي ،
قالوا : يا ربّنا ، هلا أرسلت إلينا رسولا يبيّن لنا صحة العقيدة ، ونظام الحياة ،
فنؤمن بك ربّا واحدا ، ونعمل بشريعتك ، ونلتزم بدينك ونتّبع أحكامك ، فلو لا خشية
الاعتذار بالجهل بالأحكام والتعرّض للمصائب ، لما أرسلناك رسولا. والمصيبة : عذاب
في الدنيا على كفرهم. وجواب قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ..) محذوف ، تقديره : لما أرسلنا الرسل ، أي فيكون إرسال الرسل
حجة على الناس في تركهم أحكام الله عن بيّنة وعلم. وهذا يلتقي مع المبدأ القانوني
المعروف : «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصّ».
لذا بعثناك أيها
النّبي رسولا للبشرية ، نذيرا للإنسانية ، تقيم عليهم الحجة البالغة ،
وتبلّغهم رسالة
ربّهم في العقيدة والأخلاق ودستور الحياة ، وتبطل اعتذارهم بأنهم لم يأتهم رسول
ولا نذير. وذلك كما جاء في آية أخرى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥) [النّساء :
٤ / ١٦٥].
وهذا الإنزال
للقرآن والكتب السماوية السابقة : إنما هو رحمة من الله بعباده ، ومن رحمته أنه لا
يعذّب أحدا إلا بعد بيان ، ولا يعاقب شخصا إلا بعد تكليف وإرسال رسول ، وبعد
التحقّق من وجود العقل الذي هو مناط التكليف.
إنكار القرآن من قبل المشركين
إن عناد الكفّار
يحملهم على شتى أنواع الكفر والضلال والتكذيب ، ونشاهد هذه الظاهرة جليّة في مشركي
مكة ، فإنهم بعد إرسال الرسل محمد صلىاللهعليهوسلم إليهم ، ولغيرهم من العالم ، وتأييده بمعجزة القرآن ،
طالبوا بإنزال كتاب عليه مثل التوراة دفعة واحدة ، وكانوا قبل ذلك كافرين
بالتوراة. وإذا طولبوا بكتاب منزل من عند الله خير من القرآن ، عجزوا وتراجعوا ،
مما يدلّ كل ذلك على اتّباعهم الأهواء. وأما سبب تنجيم القرآن ، أي نزوله تدريجا
مقسطا على حسب المناسبات ، فهو تلاؤمه مع الحكمة والحاجة وعلاج النوازل ، ومراعاة
المصلحة ، وتجاوبه مع مقتضيات كل عصر وأوان ، وهذا كله حكاه القرآن الكريم ،
وسجّله على هؤلاء الكفرة في قول الله تعالى :
(فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ
__________________
عِنْدِ
اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (٥١))
[القصص : ٢٨ / ٤٨
ـ ٥١].
عجبا من شأن كفار
قريش ، موقفهم لا يتّسم بالمنطق والفكر السديد ، فإنهم لما جاءهم الحق الثابت الذي
لا مثيل له : وهو القرآن الكريم والنّبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، قالوا بتعليم اليهود لهم : لم لا يأتي بآية مادّية باهرة
، كالعصا واليد وشقّ الجبل وغير ذلك مما جاء به موسى عليهالسلام ، فردّ الله تعالى عليهم بأن هذا مجرد عناد ومكابرة وهروب
من الإيمان ، فإنهم ، أو لم يكفر أمثالهم من المعاندين بما أوتي موسى من تلك
الآيات العظيمة؟! فإن موقف أهل الكفر واحد ، فهم وأمثالهم من اليهود لم يؤمنوا
بآيات موسى عليهالسلام ، وقال مشركو مكة : القرآن والتوراة سحران تعاونا وتعاضدا
، ومحمد وموسى ساحران متآزران متعاونان ، تعاونا على الدّجل والضّلال ، وصدّق كل
منهما الآخر ، وإنّا بكلا الكتابين والشخصين كافرون ، لا نصدق بما حدّثا أو جاءا
به.
فأمر الله نبيّه
بأن يتحدى المشركين في مكة ، ويطالبهم بكتاب خير من القرآن ، قل أيها النّبي
الرسول : أنتم أيها المكذّبون بهذه الكتب التي تضمّنت الأمر بالعبادات وتوحيد الله
ومكارم الأخلاق ، ونهت عن الكفر والشّرك والنقائص ، ووعد الله تعالى عليها الثواب
الجزيل ، إن كان تكذيبكم لمعنى ، فأتوا بكتاب من عند الله عزوجل أكثر هداية وأتم إرشادا من القرآن ، أتّبعه معكم ، إن كنتم
صادقين فيما تقولون أو تدّعون ، وتنكرون به الحق ، وتؤازرون به الباطل ، وهذا
تنبيه على عجزهم عن محاكاة القرآن ومعارضته والإتيان بمثله.
__________________
فإن لم يجيبوك عما
قلت لهم ، ولم يتّبعوا الحق ، ولم يؤمنوا بالقرآن وبرسالتك أيها النّبي ، فاعلم
أنهم في عقائدهم الباطلة ، يتّبعون أهواءهم بلا حجة ولا برهان ، فهم جماعة أهواء
وشهوات. والله يعلم أنهم لا يستجيبون ، ولكنه أراد سبحانه إيضاح فساد حالهم ، وسوء
مقالهم ، وضعف موقفهم.
والواقع أنه لا
أحد أضلّ منهم ، إذ ليس هناك في البشر أشدّ ضلالا عن الهدى والرشاد ممن سار مع
أهوائه ، واتّبع شهواته ، بغير حجة مأخوذة من كتاب الله ، وهذا دليل على بطلان
التقليد في العقائد ، وأنه لا بد لكل إيمان من دليل عليه ، إن الله لا يوفق للحق
أهل الظلم الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك والمعصية وتكذيب الرسل. وأما سبب إنزال
القرآن منجّما مقسّطا بحسب الوقائع والمناسبات ، فهو أن الله أتبع إنزال القرآن
بعضه بعضا في أزمان متتابعة ، ليتّصل التذكير ، ويتوافق مع الحكمة ، وينسجم مع
المصلحة ، لعل قريشا وأمثالهم يتّعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام ، أو يتذكّرون
محمدا فيؤمنون به ، أو يتنبّهون لما فيه خيرهم وصلاحهم ، فيؤمنون بالقرآن وبمن
أنزله وعلى من أنزله. قال أبو رفاعة القرظي في بيان سبب نزول آية (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ..) : نزلت في اليهود في عشرة أنا أحدهم.
وقال جمهور
العلماء : المعنى أعم ، وهو أننا واصلنا لقريش واليهود نزول القرآن ، وتابعناه
موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام والحكمة.
المباهاة بإيمان بعض أهل الكتاب
ليس معسكر الشّرك
أو الكفر كله شرّا أو سوءا ، فقد يتمخّض عن هذا الوسط بعض العناصر الواعية العاقلة
، يفكّرون في حقيقة الوحي القرآني ، ومشمولات شرائعه وأحكامه ، ودعوته إلى عقيدة
الحق والتوحيد ، والخير والواقع السديد ،
فيؤمنون به ،
ودليل هذا توارد وحدات الإيمان من أفراد وجماعات في كل زمان ومكان ، وهذا ما كان
واقعا فعلا في إبّان نزول الوحي على النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فقد ذكر الله تعالى القوم الذين آمنوا من أهل الكتاب
مباهيا بهم قريشا ، وباعثا لهم على تقليدهم. قال سعيد بن جبير : نزلت آية (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ..) في سبعين من القسّيسين ، بعثهم النّجاشي ، فلما قدموا على
النّبي صلىاللهعليهوسلم ، قرأ عليهم : (يس (١) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ) (٢) حتى ختمها ،
فجعلوا يبكون ، وأسلموا. وهذه هي الآيات :
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما
صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ
(٥٥))
[القصص : ٢٨ / ٥٢
ـ ٥٥].
المعنى : إن جماعة
من علماء أهل الكتاب الأصفياء العقلاء ، من اليهود والنصارى ، الذين عاصروا النّبي
صلىاللهعليهوسلم ، آمنوا بالقرآن ، لتوافقه مع كتبهم ، وبشارتها بمحمد نبي
آخر الزمان ، فإنهم أوتوا الكتاب من قبل القرآن ، وهم به الآن يصدقون. وهؤلاء
الجماعة : إما من اليهود الذين أسلموا ، أو بحيرا الراهب ، أو النّجاشي وصحبه ، أو
أهل نجران.
إذا يتلى القرآن
على هؤلاء الجماعة يقولون : صدّقنا به ، وآمنّا بأنه الكلام الحقّ من ربّنا ، وكنا
مصدّقين بالله ، مسلمين له ، أي موحّدين ، مخلصين لله ، خاضعين لحكمه ، مستجيبين
لأمره ، من قبل نزول هذا القرآن على النّبي محمد صلىاللهعليهوسلم. والمراد به الإسلام المتحصّل لهم من شريعة موسى وعيسى عليهماالسلام. وهذا المعنى هو الذي قال فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب السّتة ما عدا أبا
__________________
داود) وغيرهم : «ثلاثة
يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ، والعبد النّاصح
في عبادة ربّه وخدمة سيّده ، ورجل كانت له أمة ، فأدّبها وعلّمها ، ثم أعتقها
وتزوّجها».
هؤلاء الذين
أسلموا وآمنوا بالقرآن الكريم ، من أهل الكتاب ، وآمنوا بكتابهم المنزل ، لهم
الثواب المضاعف مرتين ، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمان الراسخ الدائم الموصول
النسب ، وتحمّلهم أذى قومهم ، وكونهم يقابلون السيئة بالحسنة ، فلا يقابلون السيئ
بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون ، وينفقون من رزق الله الحلال في النّفقات الواجبة
لأهليهم وأقاربهم من الزكاة والصدقة. ففي هذا مدح لهم من جانبين : الأول :
اتّصافهم بمكارم الأخلاق ، حين صبروا على الأذى ، وقابلوا من قال لهم سوءا بالقول
الحسن الذي يدفعه ، والجانب الثاني : النفقة في الطاعات ، وعلى موجب الشرع ، وفي
ذلك حضّ على الصدقات ونحوها.
ومن أخلاقهم
العالية : أنهم إذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام ، وهو الساقط من القول
، من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب ، أعرضوا عن أهله ، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم ،
بل كانوا كما قال الله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٢٥ /
٧٢]. وقالوا : في الرّد على السفهاء ، على جهة التّبري : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي نحن المسؤولون عن أعمالنا ثوابا وعقابا ، ولكم أعمالكم
، أي تبعاتها ومسئولياتها ، لا نردّ عليكم ، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع ، لا
سلام أهل الإسلام ، فليس هو التحية المعروفة ، لا نبتغي الجاهلين معناه : لا
نطلبهم للجدال والمراجعة والمسابّة ، ونؤثر الكلام الطيب.
هذه المهادنة هي
لبني إسرائيل ، بقصد فتح جسور المودة والتفاهم والقناعة ، بصدق الرسالات الإلهية ،
أوّلها وآخرها ، فإذا ما تجرّدوا عن العصبية والهوى ،
وعادوا لنداء
العقل الصائب ، توصّلوا إلى وئام أهل الأديان ، ووصل الاعتقادات ، لأن المصدر واحد
، والغاية واحدة ، فالله تعالى هو مرسل الرّسل ، ومنزل الكتب كلها ، والغرض منها
تحقيق السعادة والطمأنينة والنجاة للعالم كله ، مما يقتضي اتّحاد أهل الأديان في
العقائد والشرائع.
الهداية من الله تعالى وتفنيد الشّبهات الشّركية
الهداية نوعان :
هداية دلالة وإرشاد وبيان ، وهداية توفيق ، أما هداية البيان فهي إلى النّبي ، كما
في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشّورى : ٤٢ /
٥٢] ، وأما هداية التوفيق : فهي إلى الله تعالى ، لا لرسوله ، وذلك كما قال الله
تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) في هذه الآيات الآتية. وأما شبهات المشركين من أهل مكة في
ترك الإيمان بالقرآن والنّبي : فمصدرها المخاوف من المجاورين كما زعموا ، ولكن هذا
غير صحيح ، لذا توعّدهم الله بالقرى المهلكة ، فلم يكن إهلاك الأقوام الغابرين إلا
بعد إرسال رسول لهم ، وليست الدنيا دار مقام واستقرار ، وإنما الآخرة هي دار
القرار والخير ، فلم لا يبادر العقلاء إلى الدائم ، ويعبرون بالمؤقت في سلام؟! قال
الله تعالى مفنّدا شبهات مشركي قريش :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ
كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما
__________________
كانَ
رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً
حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ
يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))
[القصص : ٢٨ / ٥٦
ـ ٦١].
والمعنى : إنك
أيها النّبي لا تستطيع هداية من شئت ، ولكن هداية التوفيق بيد الله تعالى ، والله
أعلم بمن هو أهل الاهتداء ، فما عليك أيها النّبي إلا البلاغ والدعوة إلى الله ،
وبيان الشريعة.
وقد أجمع أكثر
المفسّرين على أن هذه الآية إنما نزلت في شأن أبي طالب عم النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فإنه دخل عليه النّبي ، وطالبه بالإيمان ، فأجابه : «يا
محمد ، لو لا أني أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدي ، لأقررت بها عينك ، ثم قال أبو
طالب : أنا على ملّة عبد المطّلب والأشياخ ، فتفجّع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخرج عنه ، فمات أبو طالب على كفره ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)
إشارة إلى أبي
طالب.
وقال مشركو قريش
في تسويغ عدم إيمانهم برسالة النّبي صلىاللهعليهوسلم واعتذارهم عنه : إن اتّبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا
ما عليه بقية العرب ، خفنا أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ، فردّ الله تعالى عليهم
بأمور ثلاثة :
الأول ـ تأمين
الحرم وأهله : إن هذا الاعتذار كذب وباطل ، لأن الله تعالى جعل قريشا في بلد آمن ،
وحرم آمن ، ويستمر فيه الأمن حال كفرهم وإيمانهم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس : أن
أناسا من قريش قالوا للنّبي صلىاللهعليهوسلم : إن نتّبعك تخطّفنا الناس ،
__________________
فنزلت هذه الآية :
(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً). والمعنى : إنهم لا يقدّرون هذه الأرزاق الآتية لهم من كل
شيء ومكان ، تفضّلا من الله ونعمة ، ولكن أكثرهم جهلة لا يعلمون الحق والخير.
والثاني ـ ليعلم
هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النّعم : أن عدم الإيمان هو
الذي يزيل النّعم ، فكثيرا ما أهلك الله أهل القرى السابقة ، التي كفرت وطغت وجحدت
بأنعم الله ، وبطروا وتكبّروا ، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها ، لا يسكنها أحد
بعدهم إلا لمدة قليلة ، أثناء السفر والعبور ، وأصبح الوارث لها هو الله تعالى ،
لأنها صارت خرابا ، لا يخلفهم فيها أحد. وهذا توعّد من الله تعالى لقريش بضرب
المثل بالقرى المهلكة ، والمراد : فلا تغتروا أيها المكّيون بالحرم الآمن ،
والثمرات التي تجبى لصلاح حالكم وقوام أمركم ، فإن الله تعالى مهلك الكفرة بسبب
ظلمهم. وهذا دليل على عدل الله في خلقه ، فلا عقاب إلا بعد بيان ، ولا هلاك إلا
بعد ظلم وجحود.
فلم يكن إهلاك أهل
القرى من ربّهم إلا بعد إنذار ، حيث يرسل لهم رسولا في عواصمهم ، يبين لهم الآيات
الدالّة على وجود الله وتوحيده ، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ، ولا عذر بطمس معالم
الحق ، ثم لا يكون الإهلاك لقوم إلا وهم ظالمون أنفسهم بإنكار الآيات الإلهية
وتكذيب الرّسل.
والرّد الثالث ـ هو
أن الإيمان بالله لا يضيّع منافع الحياة الدنيوية ، لأن التمتع بها مهيأ لجميع
المخلوقات ، علما بأن جميع ما في الدنيا من مال وولد وزينة ومتاع ، إنما هو متاع
مؤقت وزينة زائلة ، لا يجدي عند الله شيئا منها ، وهو لا بد زائل ، وزهيد قليل إذا
قيس بنعم الآخرة ، فإن نعيم الآخرة باق دائم ، وهو خير محض في ذاته ، وأفضل من
متاع الدنيا ، أفلا تتفكرون أيها الناس في أن منفعة الباقي الدائم أولى بالإيثار
من منفعة المؤقت الزائل؟!
ولا يستوي المؤمن
والكافر في الجزاء ، وكيف يستوي المؤمن بكتاب الله ، المصدّق بوعده ، المتأمّل فضل
الله وملاقيه ، والكافر الكذوب ، المتمتّع بحطام الدنيا أياما قليلة ، ثم يحضره
الله يوم القيامة ، ليتلقى العذاب المهين؟!
وهذه الآية : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ ..) نزلت كما أخرج ابن جرير عن مجاهد في النبي صلىاللهعليهوسلم وفي أبي جهل بن هشام. وقيل : في حمزة وأبي جهل.
أسئلة تقريع للمشركين يوم القيامة
ناقش القرآن
الكريم المشركين في عقائدهم الفاسدة ، مبيّنا لهم ما يتعرّضون له من أسئلة ، وهذا
غاية الصراحة والإخلاص والبيان السابق ، إنهم عبدوا الأصنام والأوثان ، فهل تستطيع
مناصرتهم؟ ودعوا تلك الآلهة المزعومة لتخليصهم من العذاب ، فلم يجيبوا ، وسئلوا عن
توحيد الله عزوجل وإجابتهم رسلهم ، فلم يجدوا جوابا مقنعا ، فأفلسوا ووقعوا
في اليأس والإحباط. إن هذه المناقشة تستدعي التأمل والوعي والتفكّر ، إن كان
الوثنيون من ذوي العقل والرّشد ، وأرادوا النّجاة والخير لأنفسهم ، ولكنهم بعدوا
عن مقتضى العقل ، فخابوا وخسروا. قال الله تعالى واصفا هذه الحال :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ
كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ
ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ
يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))
[القصص : ٢٨ / ٦٢
ـ ٦٧].
__________________
هذه مواقف ثلاثة
مثيرة للخجل والندم ، موقعة في العجز والإحباط ، مفادها التوبيخ والتأنيب للمشركين
في يوم الحساب ، والإشارة لقريش :
الأول ـ اذكر أيها
النّبي يوم ينادي الله المشركين عبّاد الأصنام ، إما بواسطة أو بغير واسطة ، فيقول
لهم : أين الآلهة التي زعمتم أنها شركاء في الألوهية؟ بمقتضى قولكم وزعمكم.
والمقصود من السؤال : التوبيخ والتقريع ، إذ لا جواب عندهم ، وكأن ذلك موجّه أصالة
للأعيان والرؤوس منهم ، الذين أوقعوا غيرهم في الغواية والضّلال ، تأكيدا
لاستحقاقهم العذاب المضاعف ، لكنهم طمعوا في التّبري من الأتباع ، فأجابوا وقد ثبت
عليهم مقتضى القول ، ولزمهم العذاب : ربّنا هؤلاء هم الأتباع الذين آثروا الكفر
على الإيمان باختيارهم وإرادتهم ، وهؤلاء أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم
، وأحبّوا الكفر كما أحببناه ، فنحن نتبرأ إليك منهم ، وهم لم يعبدونا ، إنما
عبدوا غيرنا. وهذا يعمّ جميع الكفرة ، لكن الجواب من المغوين من الشياطين : الجنّ
، ومن الإنس : الرؤساء والسّادة.
الثاني ـ نداء آخر
للكفار لمعرفة ما أجابوا المرسلين الذين دعوهم إلى توحيد الله تعالى ، فيقال لهم :
ادعوا شركاءكم الآلهة لتخليصكم مما أنتم فيه ، كما كنتم ترجون في الدنيا ، فدعوهم
لفرط الدهشة والحيرة ، فلم يجيبوهم عجزا عن الجواب ، وتيقنوا أنهم صائرون إلى عذاب
النار ، وودّوا حين معاينة العذاب المحيط بهم ، لو أنهم كانوا مهتدين إلى الإيمان
بالحق والدين القويم. وهذا توبيخ وتقريع آخر ، لكشفهم أمام الناس ، والله يعلم كل
ذلك سلفا.
الثالث ـ واذكر
أيها النبي يوم ينادي الله سبحانه وتعالى أهل الشرك ، لمعرفة جوابهم للمرسلين
إليهم ، وهل استجابوا لدعوتهم لتوحيد الله تعالى ، وإلى أصول الأخلاق ، وعبادة
الله تعالى ، وإصلاح الحياة. ولكن أظلمت الأمور عليهم ،
وخفيت الأدلة
الدفاعية المقنعة ، ولم يجدوا معتصما غير السكوت ، لما اعتراهم من الاندهاش
والذهول. وجاء الفعل : (فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) بصيغة الماضي ، لتحقّق وقوعه ، وأنه تعيّن ، والماضي من
الأفعال متيقّن ، فيعبر به عن المستقبل المتيقّن ، لتأكيد وقوعه وتقوية صحته.
والمعنى : أظلمت جهات الأمور عليهم. ولم يبق لديهم أمل في مساءلة بعضهم بعضا لحلّ
المشكلات ، لأنهم قد أيقنوا أنهم جميعا ، لا حيلة لهم ولا مكانة ، ولا أمل في
النجاة.
ثم استثنى الله
تعالى من هؤلاء المشركين الآيسين من رحمة الله أولئك الذين تابوا من كفرهم ،
وآمنوا بالله ورسله ، وعملوا بتقوى الله ، فهؤلاء يرجى لهم من الله الفوز والنّجاة
، والظفر بالنعيم الدائم. إن الذين تابوا من الشّرك ، وصدّقوا بالله ، وأقرّوا
بوحدانيته ، وأخلصوا العمل لله ، وأدّوا الفرائض وغيرها ، وآمنوا بالنّبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، هم الفائزون برضوان الله ونعيمه الجنان.
والتعبير بكلمة (عسى)
المفيدة للرجاء ، دون القطع واليقين بحسب اللغة ، يراد بها هنا التأكّد والتّيقّن
، لأن (عسى) من الله واجبة التّحقّق ، كما قال كثير من العلماء. وهذا مستفاد من
حسن الظّن بالله تعالى ، المبني على فضله وكرمه ، خلافا لما عليه حال البشر ، فإن
قولهم مثلا : «عسى» و «لعل» مجرد ترج وتوقّع لا يدلّ على التأكّد والتحقّق.
صفات الجلال والجمال والكمال
الجلال التّام ،
والجمال المطلق ، والكمال النّهائي ، والإرادة الشاملة ، والسّلطان النّافذ : إنما
هو كله لله وحده ، لا لأحد سواه ، فهو خالق الأكوان والعباد ، وبيده الأمر في
البدء والختام ، وله الحكم والقضاء النافذ في الدنيا والآخرة ، فأين موقف
المعاندين؟ لا
يساوي شيئا ، إن الله تعالى خالق الليل والنهار ، لحكمة واضحة فيهما ، فإن أراد
التغيير والتبديل ، من يستطيع الحيلولة من ذلك؟ إن الآلهة المزعومة المتخذة شركاء
لله في الألوهية لا يصمدون أمام النّقاش في حقيقة الألوهية ، ولا يجدون برهانا
يقنع ، ولا متّكأ يعتمدون عليه ، تصور هذه الآيات الكريمة هذه المعاني تصويرا
دقيقا ، لا لبس ولا غموض فيه ، قال الله تعالى :
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ
(٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ
اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ
غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤)
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا
أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))
[القصص : ٢٨ / ٦٨
ـ ٧٥].
المعنى : إن الله
تعالى هو المتفرّد بخلق ما يشاء ، واختيار ما يريد ، ما كان لأحد غير الله القدرة
على الاختيار ، يختار قوما لأداء الرسالة ، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء
المهمة ، تنزه الله وتقدّس عن إشراك المشركين ، وعن منافسة الأصنام وغيرها في خلقه
واختياره. سبب نزول هذه الآية الرّد على تطلّعات قريش وترقّبهم إنزال القرآن على
غير محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو أحد رجلين : إما الوليد بن المغيرة من مكّة ، أو
عروة بن مسعود الثّقفي من الطّائف. فردّ الله تعالى عليهم أنه سبحانه يختار
__________________
لرسالته من يريد ،
ويجعل فيه المصلحة ، وليس الاختيار للناس في هذا ونحوه ، كما أنه تعالى هو الذي
يختار الأديان والشرائع ، وليس لأحد الميل إلى الأصنام ونحوها في العبادة.
واختيار الله
تعالى مبني على علم صحيح ثابت ، فهو يعلم ما تنطوي عليه الصدور ، وما يعلنه الناس
من الأقوال والأفعال.
وعلمه تعالى صادر
عن قدرة شاملة وسلطان نافذ ، فهو المتفرّد بالألوهية ، فلا معبود سواه ، وهو
القادر على كل الممكنات ، المنزه عن النقائص والعيوب ، المستحقّ للحمد والشكر
والعبادة ، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة ، له القضاء النافذ في كل
شيء ، وإليه مرجع جميع الخلائق في القيامة.
وأدلة قدرة الله
تعالى على كل شيء كثيرة ومتنوعة ، فقل أيها الرسول لكل من أشرك بالله إلها آخر :
أخبروني إن جعل الله وقتكم كله ظلاما دامسا ، وليلا دائما متتابعا إلى يوم القيامة
، من الإله المتألّه غير الله يتمكن من الإتيان بضياء النهار ، أفلا تسمعون ذلك
سماع تعقّل وتأمّل؟!
وقل أيها النّبي
أيضا : أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارا دائما ، ونورا متّصلا إلى يوم القيامة
، دون أن يعقبه ليل ، من الإله الذي يستطيع أن يأتيكم بليل ، تسكنون فيه سكن
الراحة والاطمئنان ، أفلا تبصرون هذه الظاهرة الدالة على القدرة الإلهية التامّة؟!
إن من رحمة الله
تعالى بكم أيها الناس تعاقب الليل والنهار ، وتفاوتهما ، لتجعلوا الليل مجالا
للراحة والسكن النفسي ، والنهار مجالا للتبصّر وتحصيل المنافع ، وكسب المعايش ،
وابتغاء الرزق والفضل الإلهي ، والتنقّل من مكان لآخر ، وقضاء الحاجات ، فتشكروا
الله تعالى بأنواع العبادات على ما يسّر لكم.
واذكر أيها النّبي
للمشركين مرة أخرى يوم يناديهم الله بواسطة ، لأن الله تعالى لا يكلم الكفار كما
رجح القرطبي ، فيقول : أين الشركاء الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي في
الألوهية ، ليخلّصوكم مما أنتم فيه؟ وقد كرّر الله تعالى هذا المعنى إبلاغا
وتحذيرا ، وتوجيه هذا النداء يقصد به توبيخ الكفار وتقريعهم. وأكّد الله ذلك
بالإشهاد عليهم ، ليعلم أن التقصير منهم ، والإشهاد : أن يخرج الله من كل أمّة
شهودا عليهم : وهم الرّسل الكرام ، فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا ،
ويشهد نبيّنا صلىاللهعليهوسلم على الأنبياء جميعا. ويقال للمقصّرين : أحضروا برهانكم على
صحة ادّعائكم أن لله شريكا ، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا ، فعلموا أن الحقّ في
الألوهية لله وحده ، وتاه عنهم وتبدّد كل ما يفترونه ويكذّبونه من نسبة الشريك لله
تعالى.
قصة قارون
ـ ١ ـ
فتنة المال وتأثيره على الإنسان
أورد الله تعالى
تفصيلا واضحا لقصة قارون الذي كان من قوم موسى ، فاغتر بماله وثرواته ، وزعم أنه
أوتي ذلك بذكائه ومهارته ، وأنه لا حقّ لأحد له فيه ، فجاءه التوجيه الإلهي إلى
ضرورة استعمال المال والانتفاع به فيما يحقّق له النفع في الآخرة ، وإصلاح شؤون
الدنيا ، والإحسان في تثميره وتنميته وإنفاقه ، وتجنّب كل مهاوي الفساد والإفساد
به في الأرض ، ولكنه لم يستجب لهذا التوجيه ، وبطر في عيشه وتبختر ، فحقّ عليه
الهلاك والدّمار ، قال الله تعالى واصفا قصة قارون :
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا
تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ (٧٨))
[القصص : ٢٨ / ٧٦
ـ ٧٨].
كان قارون الثّري
المترف ابن عم موسى عليهالسلام ، وهو رجل من بني إسرائيل ، كان ممن آمن بموسى ، وحفظ
التّوراة ، وكان من أقرأ الناس لها ، وكان عند موسى عليهالسلام من عبّاد المؤمنين ، ثم لحقه الزهوّ والإعجاب ، فبغى على
قومه بأنواع البغي ، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ، ومطالبته له بأن يجعل له
شيئا من المكانة والنفوذ والمشاركة في شؤون السلطة على الناس ، وتجاوز الحدّ في
بغيه ، حتى إنه حاول التشهير بموسى ، بامرأة مومس فاجرة ذات جمال ، تدّعي أمام
الملأ من بني إسرائيل أن موسى يتعرض لها في نفسها ، ويكافئها على ذلك ، وتستنجد به
، فلما وقفت بين الملأ ، أحدث الله لها توبة ، وفضحت قارون في محاولاته تلك. وقد
آتى الله قارون أموالا نقدية وعينية كثيرة ، يثقل بحمل مفاتيح خزائنها الجماعة
أولو البأس والقوة ، فنصحه الناس بخمس مواعظ :
ـ قال له قومه
الإسرائيليون : لا تبطر ولا تتبختر بمالك ، فإن الله يكره البطرين الأشرين. إنهم
نهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس ، وأشر وإعجاب ، مؤدّ به إلى
المهالك.
ـ ثم وصّوه بأن
يطلب بماله رضا الله وآخرته ، وإنفاق بعض المال في وجوه الخير
__________________
وطاعة الله ، ونفع
الأمة أو المجتمع ، والتقرّب إلى الله بأنواع القربات المحققة للثواب في الدار
الآخرة ، لأن الدنيا لا تغني شيئا.
ـ ولم يقطعوه عن
الدنيا ، فقالوا له : لا تترك حظّك من لذّات الدنيا المباحة ، من المآكل والمشارب
، والملابس والمساكن وغيرها ، لكن لا تضيّع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك
، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان : عمره وعمله الصالح ،
فينبغي ألا تهمله ، وطلب الحلال مشروع ، مع النظر إلى عاقبة الدنيا.
ـ وأحسن إلى الخلق
كما أحسن الله إليك باللّين والمعاملة الحسنة وتحسين السمعة وحسن اللقاء ، وفي ذلك
جمع بين خصلتي الإحسان : الإحسان الأدبي الرفيع ، والإحسان المادّي المقبول ، وهذا
أمر بصلة المساكين وذوي الحاجة وإتقان الأعمال.
ـ ولا تقصد
الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس ، فإن الله تعالى يعاقب
المفسدين ، ويحول بينهم وبين رحمته وعونه.
لكن قارون أبي
سماع هذه المواعظ المتضمّنة اتّقاء الله في مال الله ، وأخذته العزة بالإثم ،
فأعجب بنفسه ، وقال لناصحيه : أنا لا أحتاج لما تقولون ، فإن الله تعالى إنما
أعطاني هذا المال ، لعلمه بأني أستحقّه ، ولمعرفتي وخبرتي ومهارتي بكيفية جمعه ،
فأنا له أهل ، فأجابه الله تعالى بأنه : أو لم يدر في جملة ما عنده من الدراية
والعلم أن الله تعالى قد دمّر من قبله من هو أكثر منه مالا ، وأشد قوة ، وأعظم
مكانة ، وأشهر سلطانا ونفوذا ، ولا يسأل المجرمون عن كثرة خطاياهم وسيئاتهم حينما
يعاقبهم ، لأنه تعالى عليم بكل المعلومات ، مطّلع على جميع الأقوال والأفعال ، فلا
حاجة به إلى السؤال سؤال الاستفسار ، كقوله الله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢ / ٢٨٣].
وسؤال الاستعتاب ، كما قال عزوجل : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)) [المرسلات : ٧٧ /
٣٥ ـ ٣٦]. لكن لا مانع من سؤال الكافرين والمفرطين سؤال توبيخ
وتقريع ، كما في
قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ١٥ / ٩٢
ـ ٩٣]. وقوله سبحانه : (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) [الصّافّات : ٣٧ /
٢٤].
ـ ٢ ـ
جزاء بغي قارون
استبدّ البغي
والغرور بقارون الثّري المترف ، وسيطر الكبرياء والعجب والتّجبر على نفسه ، فأراد
إظهار ما لديه من الثراء والقدرة على الملابس والمراكب وزينة الدنيا ومفاتنها ،
فافتتن أهل الدنيا باستعراضه الفاخر وتمنّوا أن يكونوا مثله ، ولكنّ أهل العلم
والمعرفة المتيقّظين لحقائق الدنيا ومظاهرها حذّروا من هذه الفتنة ، ووجّهوا إلى
العمل الأخروي الباقي. وكانت العاقبة كما قدّروا ، فخسف الله بقارون الأرض ، ودمّر
دوره وممتلكاته ، واستيقظ الناس على هذا المصير المشؤوم ، وأرشدتهم صحوة العقل
والدين إلى أن زوال الدنيا سريع ، وأن خطر العقاب لكل عات متمرد قريب ، قال الله
تعالى مبيّنا هذه الخاتمة لقارون :
(فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ
لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ
بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا
وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))
[القصص : ٢٨ / ٧٩
ـ ٨٢].
__________________
لقد باهى قارون
الناس ، فخرج على قومه في موكب بهي ، في زينة عظيمة وأبهة واضحة ، وتجمّل باهر ،
في الملابس والمراكب ، هو وحاشيته ، بقصد التّعالي على قومه ، وإظهار التّرفّع
والمهابة ، فاغتر الجهلة أهل الدنيا وزينتها به وبمظاهره ، وتمنّوا ما لديه وقالوا
: يا ليت لنا من الثروات والأبهة ما لقارون ، لنتمتّع بها مثله ، فإنه ذو نصيب
وافر من الدنيا.
وقال الفريق الآخر
، وهم أولو العلم والمعرفة بالله تعالى وبحق طاعته والإيمان به زاجرين الجهلة
الذين تمنّوا حال قارون : ويلكم (وهذه كلمة زجر) ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا
، يلقاه في الدار الآخرة ، وهو أفضل مما تتمنّون ، ويكون حال المؤمن العامل الذي
ينتظر ثواب الله خيرا من حال صاحب الدنيا فقط ، ولكن لا يتلقّى هذا الثواب العظيم
أو الجنة إلا الصابرون على طاعة الله ، الرّاضون بقضائه وقدره ، في كل ما قسم من
المنافع والمضارّ ، المترفّعون عن محبة الدنيا المؤثرون لها.
وكان المتوقّع ما
قاله هؤلاء العارفون بالله ، وكان العقاب السريع لقارون المتفاخر الباغي : هو
الخسف به وبداره الأرض ، حيث ابتلعته الأرض ، وغاب فيها ، جزاء لبطره وعتوه ، فلم
يغن عنه ماله ولا حاشيته ، ولم يجد من يدفع عنه نقمة الله ، ولم يكن منتصرا لنفسه
، ولا منصورا من غيره. والفئة : جماعة المناصرة والنجدة.
وبعد هذه الكارثة
التي أطاحت بقارون وتبيّن حقيقة الأمر ، صار الذين يتمنّون أن يكونوا مثله يقولون
: (وَيْكَأَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي بل إن الله ، يوسع الرزق أو العطاء المادّي لمن يريد
خلقه ، ويضيّقه على من يريد من عباده ، بحسب حكمته ومشيئته ، وليس المال المعطى
دليلا على رضا الله ومحبته لصاحبه ، ولا منع المال برهانا على سخط الله وكراهيته
لعبده ، فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيّق ويوسّع ، ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة
والحجة البالغة ، جاء في الحديث المرفوع عن ابن
مسعود فيما رواه
أحمد والحاكم وغيرهما : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم أرزاقكم ، وإن الله
يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ».
والمعنى : إن
الذين فتنوا بقارون انتبهوا ، فتكلموا على قدر علمهم ، فقالوا : على جهة التعجب
والتّندّم : إن الله يبسط الرزق ويضيّقه بحسب مراده.
ولو لا لطف الله
بنا ، وإحسانه إلينا ، لخسف بنا الأرض ، كما خسف بقارون ، لأنا تمنّينا أن نكون
مثله ، بل إن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به ، المكذبين رسله ، المنكرين
ثواب الله وعقابه في الآخرة ، مثل قارون ونحوه من عتاة الناس ، وطغاة المال ،
ومردة العصاة من الإنس والجنّ.
العاقبة للمتّقين
العبرة في الأفعال
والأعمال والتّصرفات كلها إنما هي في الغاية والهدف ، لأن تصرّفات العقلاء تهدف
إلى تحقيق غاية ، وإنجاز مطلوب ، وهكذا الشأن بين الدنيا والآخرة ، الدنيا مزرعة
الآخرة ، والآخرة هدف العاملين العاقلين ، فمن أحسن العمل في الدنيا ، لقي العاقبة
الحسنة في الآخرة ، ومن أساء العمل في الدنيا ، وجد أمامه النتيجة الوخيمة
والخسارة المحقّقة ، فلكلّ جزاء عمله حقّا وعدلا ، وثوابا مكافئا ، وعقابا مناسبا
، وتكون موازين الحساب واضحة ، والنهاية مؤكدة ومعروفة ، لذا كان القرآن الكريم
خير واعظ ، وأخلص ناصح ، يبين الأشياء قبل وقوعها ، ويحدّد الأسباب والغايات
المرجوة قبل حصولها ، قال الله تعالى مبيّنا ذلك :
(تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ
إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))
[القصص : ٢٨ / ٨٣
ـ ٨٤].
هذا إخبار من الله
تعالى لنبيّه محمد صلىاللهعليهوسلم بقانونه العام ، يراد به حضّ الناس على إحسان العمل
وإتقانه ، والتحذير من سوء العمل وإفساده ، ولوم قارون ونظرائه الذين آثروا الدنيا
على الآخرة ، فإن الآخرة ليست في حسابات قارون ، إنما هي لمن اتّصف بصفات معينة.
والمعنى : إن تلك
الدار الخالدة العظيمة ، ونعيمها الأبدي المذلّل ، دون عناء ولا مشقة ، يجعلها
الله سبحانه وتعالى للذين لا يستعلون على الناس ، ولا يتجبّرون عليهم ، ولا يريدون
أي لون من ألوان الفساد ، والفساد يعمّ جميع وجوه الشّر ، ومنها أخذ المال بغير
حقّ ، والعاقبة الحسنة : هي لأهل التقوى الملتزمين بأوامر الله ، المبتعدين عن
نواهيه ومحظوراته.
يدلّ ذلك على أن
التواضع لله والناس أمر محمود ، وأن العلو مذموم ، وأن فعل الصلاح خير ، وأن
الفساد والإفساد شرّ ودمار.
وقانون الجزاء
الإلهي على الأعمال واضح وقاطع ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فمن جاء بالفعلة
الحسنة ، فله خير منها ذاتا وقدرا وصفة ، ومن عمل صالحا فله خير من القدر الذي
ينتظره موازيا لفعله ، لأن فضل الله كبير ، يضاعف الحسنات ، وينمّي الخيرات ،
ويعطي الثواب الجزيل غير المتوقع بحسب أحوال الدنيا.
ومن جاء بالخصلة
السيئة أو الفعلة الشنيعة ، المنكرة عقلا وشرعا وعادة ، فلا يجزى أصحاب الأعمال
السيئة إلا مثلها قدرا ، دون زيادة أو ظلم ، فضلا من الله ورحمة ، ومحبة وعدلا ،
وإبانة لجود الله وسخائه ، وسعة خزائنه. وهذا دليل على أن فعل السوء وباء وظلام ،
وتدمير وضلال ، وأن السيئة لا يضاعف جزاؤها ، فضلا من الإله الغني ، ورحمة من
الرّحيم الرّحمن.
هذا القانون
الإلهي بمضاعفة الحسنات ، ومقابلة السيئات بمثلها دون زيادة ،
يختلف عن قانون
البشر ويسمو عنه ، فإن الإنسان يعطي إنسانا آخر جزاء مكافئا لعمله ، وقد ينقصه في
الغالب بسببه ظلم الإنسان لأخيه ، أما عطاء الله تعالى فلا يحدّه حدود ، ولا يبخس
منه شيء ، سواء كان العمل قليلا أو كثيرا بحسب تقدير الإنسان ، لأن ربّك هو الغني
ذو الرّحمة ، وهو واسع المغفرة ، غافر الذنب ، وقابل التّوب ، لا يجاريه أحد في
عطائه ، ولا يسبقه أحد في جوده وسخائه.
أفليس من واجب
الإنسان إذن أن يرغب في العطاء الكثير الدائم ، فيعمل عملا صالحا يؤهّله لنيله؟ أو
ليس من وعي الإنسان وإجراء حسابه أن ينفر ويحذر من سوء العمل الذي يعرّضه للخسران
والضياع؟!
نعم وتكاليف نبويّة
النّبوة أو
الرسالة مسئولية عظمي ، وتكليف ثقيل ، يقترن عادة بتخصيص النّبي أو الرّسول بخصائص
متميزة ، وإمداد بنعم إلهية سامية ، لأن ما يتعرّض له النّبي الرّسول من صدود قومه
عن دعوته ، وإعراضهم عن قبول رسالته يحتاج لصبر ومصابرة ، وجهاد ومقاومة ، لا
يتحملها الإنسان العادي. وقد تشابهت ظروف الرسل في أثناء تبليغ دعوة الله إلى
توحيده وعبادته وتنفيذ شرعه ، ولكن رحمة الله ورعايته تحمي الرسول. وتتطلب الرسالة
أيضا الحزم والعزم في أداء التكاليف ، والتّفاني في القيام بها ، والتزام الدعوة
إلى توحيد الله الحي الباقي الخالد ، الذي لا يفنى ، ويتفرد بالحكم والقضاء ،
والمرجع والحساب يوم القيامة ، ويفنى غيره ثم يعيده الله للمساءلة ، قال الله
تعالى مبيّنا أمورا تتعلق بنبوة نبيّنا :
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ
بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ
أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ
هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))
[القصص : ٢٨ / ٨٥
ـ ٨٨].
الآية الأولى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ..) نزلت بالجحفة حينما هاجر النّبي صلىاللهعليهوسلم من مكة إلى المدينة ، أخرج ابن أبي حاتم عن الضّحاك قال :
لما خرج النّبي صلىاللهعليهوسلم من مكة ، فبلغ الجحفة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ). قال ابن عطية رحمهالله في تفسيره : فالآية ـ على هذا ـ معلمة بغيب قد ظهر للأمة ،
ومؤنسة بفتح.
يخبر الله تعالى
نبيّه ويبشّره بأن الذي أنزل عليك القرآن وأثبته ، وألزمك بالعمل به وأدائه للناس
، لرادّك إلى بلدك الحبيب : مكة ، فاتحا منتصرا ، بعد خروجك منها مهاجرا مطاردا ،
وكان فتح مكة هو الفتح الأعظم الذي حطّمت به الأصنام ، وأزيلت به معالم الكفر
والوثنية. ووعد الله صادق ، ومنجز ، وقد تحقّق الوعد كما هو معروف في السّيرة
النّبوية ، في السّنة الثامنة من الهجرة. والمعاد : الموضع الذي يعاد إليه ، وقد
اشتهر به يوم القيامة ، لأنه معاد للكل.
وقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ
بِالْهُدى ..) آية متاركة للكفار وتوبيخ ، فقل أيها النّبي لمن كذّبك من
قومك المشركين : الله هو العالم البصير بالمهتدي ، مني ومنكم ، وعالم بمن هو غارق
في الضلال ، ومطّلع على من جاء بالهدى ، وهو الآتي بالقرآن الكريم ، وبما يستحقه
من الثواب في المعاد ، والإعزاز بالإعادة إلى مكة المكرمة.
ثم ذكّر الله
نبيّه بنعمته العظيمة عليه وهي النّبوة ، فلم تكن أيها النّبي تتوقّع إنزال
__________________
الوحي الإلهي
والقرآن المبين إليك ، إلا برحمة من الله وفضل ، لنفع جميع العباد ، وبناء عليه
تكون مكلفا بخمسة أمور ، مع خبر سادس بعدها :
١ ـ لا تكن عونا
للكافرين بأي حال ، ولكن فارقهم وخالفهم ، وكن عونا للمسلمين ، والمراد : اشتد يا
محمد في تبليغك ، ولا تلن ، ولا تفشل (تجبن) ، فتكون معونة الكافرين يراد بها :
بالفتور عنهم.
٢ ـ ولا يمنعنك
شيء عن اتباع آيات الله المنزلة إليك ، بأقوالهم وكذبهم وأذاهم ، ولا تلتفت إليه ،
وامض لشأنك ، فإن الله مؤيدك وناصرك ، ومظهر دينك على جميع الأديان.
٣ ـ وادع إلى
عبادة ربّك وحده لا شريك له ، وبلّغ دينه ، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا
تمهّل. وسبب هذه الآية : ما كانت قريش تدعو رسول الله صلىاللهعليهوسلم من تعظيم أوثانهم.
٤ ـ واحذر أن تكون
من فئة المشركين الذين أشركوا بربّهم ، فجعلوا له شريكا ونظيرا ، فتكون من
الهالكين. وهذا نهي عما هم بسبيله ، بدئ به النّبي باعتباره القائد والقدوة
لأمّته.
٥ ـ ولا تعبد مع
الله إلها آخر ، ولا تدع في أي عمل مع الله غيره ، لأن العبادة لا تستحق إلا لله ،
ولا فائدة من دعاء غيره.
٦ ـ وكل من في
الوجود فان أو هالك إلا ذات الله ، المعبّر عنها بوجهه ، فإن الله هو الباقي وحده
بعد فناء خلقه ، وله مهمة فصل القضاء وإنفاذه في الدنيا والآخرة ، وإليه مصير جميع
الخلائق. وهذا إخبار بالحشر والعودة من القبور ، لإيقاع الجزاء على الأعمال ، إن
خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.
تفسير سورة العنكبوت
اختبار الناس
لا تستغني الحياة
عن الامتحان والاختبار ، ليعرف المحسن من المسيء ، والعامل والمقصر أو غير العامل
، والمستقيم والفاجر ، وهكذا حياة البشر أمام الله عزوجل ، لا بدّ لهم من الاختبار ، ليتميز المؤمنون الصادقون
والكاذبون ، ويعرف المجاهدون والمتقاعسون ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء
بإساءته. وهذا ما افتتحت به أوائل سورة العنكبوت المكّية :
(الم (١) أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))
[العنكبوت : ٢٩ /
١ ـ ٧].
مطلع السورة
بالحروف الأبجدية المقطعة لتنبيه المخاطب لما يأتي بعدها ، وإظهار إعجاز القرآن
المتكون من هذه الحروف ، ومع ذلك لا يستطيع العرب الإتيان بمثله ، تحدّيا لهم.
__________________
والمعنى : أظن
الناس بعد إيجادهم أنهم متروكون بغير اختبار بمجرد قولهم : آمنّا بالله ورسله ،
وهم لا يمتحنون بالتكاليف الشرعية كالجهاد في سبيل الله ، والهجرة من مكة إلى
المدينة ، وأداء الفرائض البدنية كالصلاة ، والمالية كالزكاة ، والتعرّض للمصائب
في الأنفس والأموال ، ومجاهدة أهواء النفس والشيطان ، بالامتناع عن المعاصي
والموبقات؟! وهذا استفهام إنكاري ، معناه أن الله تعالى لا بد من أن يبتلي عباده
المؤمنين ، للتحقق من مدى صدق إيمانهم وقوة يقينهم. قال مجاهد وغيره : نزلت هذه
الآية مؤنسة ومعلمة أن هذه السيرة هي سيرة الله تبارك وتعالى في عباده ، اختبارا
للمؤمنين وقتئذ ـ وفي كل وقت ـ ليعلم الله الصادق ويرى ثواب الله تعالى له ، ويعلم
الكاذب ويرى عقابه إياه. وهذه الآية وإن نزلت لهذا السبب ، فهي بمعناها باقية في
أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، موجود حكمها بقية الدهر.
وسببها الخاص
إيناس المؤمنين الأولين الذين تعرّضوا لإيذاء كفار قريش وتعذيبهم على الإسلام ،
فكانوا يتضايقون بذلك. لكنهم في هذا مطالبون بالصبر كمن أوذي ممن قبلهم.
وهذا ما أبانته
الآية الآتية ، فتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين ، بل والأنبياء
المتقدمين بألوان الأذى والشدة والضّرر ، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف ، بأن يظهر
الله علمه فيهم ، ويوجد ما علمه أزلا ، لا علما يسبقه جهل ، لأن الله عالم بكل شيء
في الماضي والحاضر والمستقبل ، ليعلم الذين وجد منهم الصدق ، والقائمين على الكذب.
والتعبير بقوله : (الَّذِينَ صَدَقُوا) في حقّ المؤمنين ، وبقوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكاذِبِينَ) في حقّ الكافرين ، للدلالة في هؤلاء الكفرة على الثبات
والدوام. بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يسبقوا عقاب الله تعالى ثم يفوتونه ،
ويعجزونه؟! بئس الحكم حكمهم ، بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله ، ثم يفلتون من العقاب
، إنه حكم خطأ ، يناقض مقتضى العقل والشرع والعدل.
فمن كان قد آمن ،
وتوقع الثواب والخير في الآخرة ، وعمل الصالحات ، فإن الله سيحقق له رجاءه ،
ويوفيه كاملا غير منقوص ، لأن الأجل الذي حدده الله للبعث والمعاد آت لا ريب فيه ،
والله سميع الدعاء وأقوال العباد ، عليم بصير بكل الكائنات ، يعلم بكل ما قدموا ،
ويجازي كل واحد بما عمل ، فمن كان على الحق فليوقن بأنه آت ، وليزدد بصيرة.
ومن جاهد نفسه
وهواه ، فقام بالأوامر ، واجتنب النواهي ، فإن ثمرة جهاده عائدة له ، ونفع عمله
راجع لنفسه لا لغيره. وهذا إعلام بأن كل أحد مجازي بفعله الحسن ، وأن نفع الطاعة
للإنسان ذاته لا لله تعالى ، لأن الله غني عن جميع العالمين من إنس وجنّ ، لا
تنفعه طاعة ، ولا تضّره معصية.
ثم أخبر الله
تعالى عن ثواب المؤمنين المجاهدين الذين هم في أعلى رتبة ، وهو أحسن الجزاء : يكفر
عنهم أسوأ الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا ، فيقبل القليل من الحسنات ،
ويثيب على الحسنة بعشرة أمثالها. والسيئة : الكفر وما اشتمل عليه ، وكذلك معاصي
المؤمنين مع الأعمال الصالحة واجتناب الكبائر. وقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ) معناه على حذف مضاف تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
ويدخل في ذلك ثواب الحسن ، بإخراج كلمة (أحسن) عن بابها من التفضيل ، فليس المراد
بها هنا كونها أفعل تفضيل ، وإنما المراد أنهم يجزون ثواب الأحسن والحسن. فيكون
الجزاء على حسن الأعمال ، وأن الحسنة تمحو السيئة.
وصايا أهل الإيمان
في مجال الاختبار
والامتحان يوصي الله تعالى المؤمنين بالإحسان إلى الوالدين ، ويبشّرهم بالجنة إن
هم أطاعوا ، وصبروا على الأذى والفتنة ، وفي الامتحان يتبين
للناس مدى صمود
المؤمنين ، وزعزعة قلوب المنافقين. ويظهر من بيان الله تعالى إحباط عروض الكافرين
بتحمّل خطايا المؤمنين إن اتّبعوا سبيلهم في دينهم المعوج ، وإنذارهم بتحمّل
المسؤولية الثقيلة عن أعمالهم الشنيعة وسوء اعتقاداتهم الباطلة ، وافتراءاتهم
المضلّلة ، قال الله تعالى موضحا هذه الوصايا :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ
فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا
أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ
بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ
خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ
وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا
يَفْتَرُونَ (١٣))
[العنكبوت : ٢٩ /
٨ ـ ١٣].
هذه طائفة من
وصايا أهل الإيمان ، تشتمل على نواح ثلاث :
الأولى ـ الإحسان
إلى الوالدين : فلقد أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه ، ببرهما قولا وعملا ،
لأنهما سبب وجوده ، إلا في محاولة الحمل على الشّرك ، فإن جاهداك على أن تشرك أيها
الولد بالله ما لا علم لك به ، ولا وجود بالفعل ، فلا تطعهما في ذلك ، لأنه كما
صحّ في الحديث الذي أخرجه أحمد والحاكم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وذلك
لأن سبب المخالفة في المعصية رجوعكم جميعا إلى الله يوم
__________________
القيامة ، فيخبركم
ربّكم بما عملتم ، ويجازيكم على أعمالكم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. وهذا
وعيد في طاعة الوالدين ، وهو في معنى الكفر.
نزلت هذه الآية
كما روي عن قتادة في سعد بن أبي وقاص ، حين هاجر ، فحلفت أمه ألا تستظلّ بظلّ حتى
يرجع إليها ، ويكفر بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلجّ هو في هجرته ، ونزلت الآية.
ثم كرّر الله
تعالى التمثيل أو الشبيه بحالة المؤمنين ليحرّك النفوس إلى نيل المراتب العالية ،
فالذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال ، لنجعلنهم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته
ونحشرنهم مع أرفع الصالحين ، وثمرة الصلاح تتحقق بعدئذ ، وجزاؤه الجنة. وقوله
سبحانه : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ
فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الأنبياء ، على سبيل المبالغة.
الناحية الثانية ـ
افتضاح شأن المنافقين : فمن الناس فريق ، هم قوم من المكذبين المنافقين ، الذين
يتظاهرون بألسنتهم بالإيمان بالله ، والتصديق بوجوده ، ووحدانيته ، دون أن يثبت
الإيمان في قلوبهم ، بدليل أنهم إذا أصيبوا بأذى المشركين من أجل إيمانهم ،
اعتقدوا بأن هذا من نقمة الله عليهم ، فارتدوا عن الإسلام ، وصرفهم العذاب عن الإيمان
، وإذا تحقق نصر قريب من الله للمؤمنين بالفتح والغلبة والغنيمة قالوا : إنا كنا
معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين ، أو ليس الله بأعلم بما في قلوب العالمين ، وما
تنطوي عليه من النفاق؟!
وليختبرن الله
الناس في السّر والعلن ، ليتميز المؤمنون ، ويعرف المنافقون ، لأن المحنة محكّ
الإيمان ، فإن صبر المؤمن كان صادقا ، وإن جزع وتبرم ، كان كاذبا منافقا.
نزلت آية : (وَمِنَ النَّاسِ) في المنافقين الذين كفروا لما أوذوا ، قال مجاهد : نزلت في
أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
__________________
الناحية الثالثة ـ
محاولات الكافرين فتنة المسلمين عن دينهم : قال كفار قريش لمن آمن منهم واتّبع هدى
القرآن : ارجعوا عن دينكم إلى ديننا ، واتّبعوا طريقنا ومنهجنا في التدين ، ونحن
نتحمّل عنكم آثامكم إن كانت ، ووجد حساب عليها ، والواقع أنهم لا يتحمّلون شيئا من
ذنوبهم ، وإنهم لكاذبون فيما قالوا ، لأنه لن يتحمّل أحد وزر أحد في ذلك العالم ،
وعاقبة هذا القول : أن دعاة الكفر والإضلال يتحمّلون يوم القيامة أوزار أنفسهم ،
وأوزار غيرهم الذين أضلّوهم من الناس ، وسوف يسألون سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا
يكذبون على أنفسهم وعلى غيرهم ، وعلى ما يختلقون من الافتراء والبهتان في الدنيا.
وقوله تعالى : (وَأَثْقالاً مَعَ
أَثْقالِهِمْ) يريد : ما يلحقهم من أعوانهم وأتباعهم ، لتسببهم في
إضلالهم.
قال مجاهد : إن
الآية نزلت في كفار قريش الذين قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ،
فاتّبعونا ، فإن كان عليكم إثم فعلينا. روي أن قائل هذه المقالة الوليد ابن
المغيرة. وقيل : بل كانت شائعة من كفار قريش.
إن هذه الوصايا
واردة بصفة التحذير من عقوق الوالدين فيما هو حقّ وبرّ ، وخير وطاعة ، والتحذير من
أعمال المنافقين فاقدي الإيمان الثابت ، حينما أوذوا كفروا ، ومن محاولات الكفار
ثني المؤمنين عن إيمانهم وردهم إلى دائرة الشّرك والوثنية.
رسالة نوح عليهالسلام
تكرّر إيراد قصة
نوح عليهالسلام مع قومه في مناسبات مختلفة ، وسور قرآنية متعددة ، بعضها
مطوّل مفصّل ، وبعضها كما هنا موجز مختصر ، وأتبعت هذه القصة في سورة العنكبوت
بقصص أنبياء آخرين : وهم إبراهيم ، ولوط ، وهود ، وشعيب ، وصالح ، لبيان عاقبة
المكذبين رسلهم ، وإيناس النّبي محمد صلىاللهعليهوسلم فيما يلقاه من تعنّت
قومه ، وفتنتهم
المؤمنين وغير ذلك ، وتثبيته على أذى الكفرة ، وفي ذلك عبرة ووعيد لكفار قريش
بتشبيه أمرهم بأمر قوم نوح ، ولتأكيد ما جاء في مطلع السورة من جعل الابتلاء سنة
الحياة.
وهذه آيات توجز
بيان مهمة نوح عليهالسلام أطول الأنبياء عمرا ، وأول رسول للبشرية ، وأبي البشر الثاني
بعد آدم عليهالسلام ، قال الله تعالى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))
[العنكبوت : ٢٩ /
١٤ ـ ١٥].
إن إيراد قصص
الأنبياء السابقين على هذا النحو من التأكيد والتشديد ، ذو مغزى عميق ودلالة واضحة
، فمغزاه العبرة والعظة ، ودلالته الإنذار والتحذير لكفار قريش وأمثالهم ، حين
كذبوا رسولهم محمدا صلىاللهعليهوسلم بأنهم سيتعرّضون لعقاب مماثل لمن تقدّمهم من الأقوام
الغابرة الذين كذّبوا رسلهم ، فجاءهم عذاب الاستئصال. وتظهر صورة هذا التأكيد في
العرض والبيان بقسم من الله تعالى على ما جاء في قصّة كل نبي.
وهنا يقول الله
تعالى ما معناه : وتالله لقد أرسلنا نوحا عليهالسلام إلى قومه الكافرين العصاة ، عبدة الأصنام ، فبقي فيهم
يدعوهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من
الناس كما قال تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ١١ / ٤٠] ،
وكذبوه وآذوه ، وأفحشوا له القول ، فصبر نوح عليهالسلام على أذاهم ، ومضى زمان طويل ، وهو يدعوهم إلى أن يتركوا
عبادة الأصنام ، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد ، وبيوم القيامة والحساب ، فلم يفلح ،
ولم يستجيبوا لدعوته ، وأمعنوا في الإعراض والاستكبار ، كما جاء في آية أخرى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [نوح : ٧١ / ٢١].
ولما يئس نوح عليهالسلام من إيمان قومه ، دعا عليهم بوحي من الله تعالى ، فقال : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦)) [نوح : ٧١ / ٢٦].
فألهمه الله صنع سفينة ليركبها مع المؤمنين ، وترك الكفار في العذاب.
وجاء الأمر الإلهي
بالإغراق بعد هذه المدة الطويلة من الصبر والإنذار ، فأخذهم الطوفان ، وهم ظالمون
أنفسهم بالكفر ، وأنجى الله نوحا ومن آمن معه في الفلك المشحون ، التي مخرت عباب
البحر ، حتى استقرّت على جبل الجودي ، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء ، وجعل الله
سفينة نوح آية وعبرة للعالمين ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها
أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)) [الحاقّة : ٦٩ /
١١ ـ ١٢].
وضمير الفعل : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) يعود على السفينة المذكورة. وأما الغرق ففي رأي فرقة مقصور
على قوم نوح ، وقال الجمهور : إنما غرقت المعمورة كلها ، أي العالم القديم ،
والرأي الثاني هو الراجح بسبب إعراض الناس كلهم عنه ، أي عن دعوة نوح. فليتّعظ
كفار قريش وأمثالهم بهذه العقوبة الشديدة التي يمكن أن تصيبهم ، إذا ظلّوا رافضين
لدعوة النّبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، مكذّبين له ، مفترين على دعوته وعلى القرآن وعلى
المؤمنين ، فإن العاقل من اتّعظ بغيره.
إن قصة السفينة
عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه ، وعقابه عتاة أهل الضلال والتمرد
والعصيان ، كما أنها نعمة خارقة ، في وقت لم يعرف الناس ركوب البحر ولا وجود
السّفن عابرة المياه ، فقد نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه ، حفاظا على النوع
البشري من الانقراض العددي والنوعي ، حيث تناسل الناس من ذرّية هؤلاء المؤمنين ،
وبدأت حياة جديدة تظهر فيها مآس وألوان أخرى من الفسوق والعصيان ، والكفر والطغيان
، فتجدد العقاب في أمم أخرى بعد إرسال رسل آخرين
لهم ، دعوا بدعوة
نوح عليهالسلام إلى الإيمان بالله الواحد الأحد ، وبيوم القيامة والحشر
والحساب ، ويظل الصراع قائما بين الإيمان والكفر إلى أن يشاء الله تعالى تبديل
الأحوال.
دعوة إبراهيم الخليل عليهالسلام
من أعظم قصص
القرآن الكريم : قصة نوح وإبراهيم عليهماالسلام ، أما نوح عليهالسلام فهو أبو البشر الثاني الذي دعا إلى عبادة الله وحده ،
فكذّبه قومه ، فأغرقهم الله بالطوفان ، وأما إبراهيم عليهالسلام : فهو أبو الأنبياء ، وإمام الحنفاء ، الذي دعا أيضا كنوح
إلى توحيد الله عزوجل ، وهجر عبادة الأصنام ، وشكر الله المنعم ، وبيان قدرته
على بدء الخلق وإعادته ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا ما أبانته
الآيات الآتية في قول الله سبحانه :
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ
رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ
يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ
__________________
اللهِ
وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(٢٣)) [العنكبوت : ٢٩ /
٦٩ / ١٦ ـ ٢٣].
المعنى : واذكر أيها
النّبي إبراهيم ودعوته ، وهي كقصة نوح أيضا تمثيل وتشبيه لقريش ، فلقد كان النمرود
وأهل مدينته عبدة أصنام ، فدعاهم إبراهيم عليهالسلام إلى توحيد الله تعالى وعبادته وتقواه ، ثم نبّههم إلى ما
هم عليه من الضّلال ، فإن توحيد الله وترك الأصنام خير لكم في الدنيا والآخرة ، إن
كنتم من أهل الوعي والإدراك والعلم ، تميزون به بين الخير والشّر.
وهذان دليلان على
التوحيد :
الأول ـ إن ما
تعبدون من غير الله من الأصنام ، ما هي إلا أوثان ، وأشياء مصنوعة من الأحجار ،
فلا تضرّ ولا تنفع ، وإنما اختلقتم لها أسماء ، فسمّيتموها آلهة ، وادّعيتم أن لها
شفاعة لكم عند ربّكم ، وإنما هي مخلوقة أمثالكم ، فأنتم تختلقون الكذب بوصفها
آلهة.
والدليل الثاني ـ إن
تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله ، لا تستطيع أن تجلب لكم رزقا ، فكيف
تعبدونها؟ فاطلبوا الرزق من عند الله تعالى ، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها ،
واعبدوه وحده ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من الفضل والإنعام ، فإنما إليه
مرجعكم يوم القيامة ، ليحاسبكم على أعمالكم.
ودليل صدق رسالة
إبراهيم عليهالسلام في مخاطبة قومه : وإن تكذّبوني في رسالتي ، فلا تضروني
أبدا ، فقد كذبت الرسل أمم سابقة ، وقد بلغكم ما حلّ بهم ، من العذاب والانتقام ،
ولا يكلّف الرسول إلا بتبليغ ما أمره الله تعالى به من الرسالة ، تبليغا واضحا
كاملا ، فاحرصوا على إسعاد أنفسكم بالإيمان بالله تعالى.
وأما دليل الأصل
الثالث في عقيدة الإيمان : وهو البعث والمعاد ، فهو أن تنظروا
كيف بدأ الله خلق
الأشياء والجمادات والإنسان ، بعد أن لم تكن ، وزوّد الإنسان بمفاتيح المعرفة
والعلم ، من السمع والبصر والفؤاد. والذي بدأ إيجاد الخلق على هذا النحو قادر على
إعادته ، وهو أسهل عليه ، وأيسر بحسب تصوراتنا ، أما بالنسبة لله تعالى فالبدء
والإعادة سواء ، وقد خاطبنا الله بما نعقل ونتصور ، حين قال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٣٠ / ٢٧].
وعلى صعيد الواقع
المشاهد ، سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض ، فانظروا كيف بدأ الله خلق
السماوات وما فيها من الكواكب الثوابت النّيرات ، وكيف أوجد الأراضي وما فيها من
الجبال الراسيات ، ثم الله يعيدكم أحياء مرة أخرى ، فإن من قدر على الخلق أول مرة
، قادر على الإعادة وإنشاء النشأة الأخرى يوم القيامة ، وإن الله قادر تامّ القدرة
على كل شيء ، ومنه البدء والإعادة.
والذي يكون بعد
البعث والإعادة ، إنما هو الحساب والجزاء ، فإن الله يعذب من يشاء من الكفار
والعصاة ، ويرحم من يشاء ، من المؤمنين فضلا منه ورحمة ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما
يريد ، وإلى الله مصيركم ومردّكم يوم القيامة بعد الموت ، مهما طالت المدة ،
فيحاسب كل إنسان على ما قدّم وأخّر ، وحسابه قائم على الحقّ والعدل والإنصاف ،
لأنه المالك لكل شيء ، فيسوي بين مخلوقاته.
ولستم أنتم أيها
الجاحدون الكافرون ، بمعجزي الله عن ملاحقتكم وتقديمكم للجزاء ، سواء في الأرض
والسماء ، فإن الله لا يعجزه شيء ، ولا يقدر أحد على الإفلات من قبضته ، فقبضته
السماوات والأرض وما بينهما ، وهو القاهر فوق عباده ، وليس لكم من غير الله ولي (نصير)
يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم ، ولا معين وناصر ينصركم ، ويمنعكم من عذابه إن عذّبكم
، فهل بعدئذ تظنّون أنكم بكفركم وعبادتكم غير الله من الأصنام ناجون وسالمون من
الجزاء؟!
ثم توعّد إبراهيم عليهالسلام كل كافر ، فإن كل الذين كفروا بدلائل وحدانية الله وقدرته
وما أرسل به رسله ، وكفروا بالمعاد ، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله ، بسبب كفرهم
، ولهم عذاب مؤلم شديد.
موقف قوم إبراهيم من دعوته
لا ينتظر بعد
تقديم إبراهيم الخليل مختلف الأدلّة على أصول دعوته من توحيد الله ، وإرسال الرّسل
، وبعث العباد أن نجد جوابا مقنعا لدى القوم الذين استبدّوا واستكبروا ، وبغوا
وعاندوا ، واعتمدوا على التهديد والوعيد ، ولكن الله تعالى نجى إبراهيم من النار ،
فأعاد الكرة عليهم بتوبيخهم على سوء الاعتقاد وعبادة الأصنام ، وتفرّق الصّف
وتشتّت الأحوال يوم القيامة. ولما نجى إبراهيم من النار ، آمن به ابن أخيه لوط عليهالسلام ، وأنعم الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب ، وبجعل النّبوة
والكتب المنزلة في ذرّيّته ، وإيتاء أجره في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى مبيّنا
هذه المفاجئات.
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ
النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))
[العنكبوت : ٢٩ /
٢٤ ـ ٢٧].
__________________
أخبر الله تعالى
عن قوم إبراهيم أنه لما بيّن لهم الحجج ، وأوضح أمر الدين ، لم يجدوا جوابا مقنعا
، فلجئوا إلى المغالبة واستخدام القوة والبطش ، وتآمروا على قتله وتحريقه بالنار ،
وأنفذوا أمر التّحريق ، فأنجاه الله تعالى من نارهم ، وجعلها عليه بردا وسلاما ،
إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالة على وجود الله الحاضر ، وقدرته
النافذة ، لقوم يصدّقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والبراهين.
واستأنف إبراهيم عليهالسلام دعوته لتوحيد الله وهجر عبادة الأصنام ، حتى بعد إلقائه في
النار ، فقال لقومه موبّخا ومقرّعا : إنما اتّخذتم هذه الأصنام لتجتمعوا على
عبادتها ، وتقيموا تجمّعا وديّا فيما بينكم في دار الدنيا ، كاتّفاق أهل الأهواء
على الباطل والضلال ، ثم يقع التنازع والتّباعد بينكم في الآخرة ، فتنقلب صداقة
الدنيا إلى عداوة وتباغض ، فيتبرأ القادة من الأتباع ، ويلعن الأتباع القادة ، ثم
يكون مصير الفريقين إلى النار ، ولن يجدوا في الآخرة ناصرا ينصرهم ، ولا منقذا
ينقذهم من عذاب الله تعالى ، فالكل يستوون في استحقاق العقاب ، لأن توادّ الكافرين
كان مجافيا للحق والخير والتقوى ، قال الله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزّخرف : ٤٣ /
٦٧].
هذا مع العلم بأن
الوثن : ما اتّخذ من جصّ أو حجر ، والصّنم : ما كان من معدن.
وفي الزاوية
الأخرى في مواجهة الكفر ، نجد أملا لا ينقطع ، ونورا لا يخبو ، فقد آمن بدعوة
إبراهيم ابن أخيه لوط عليهماالسلام ، وهاجر هو ولوط ، إلى بلاد الشام من أرض بابل ، وقال
إبراهيم عليهالسلام : إني مهاجر من دياركم ، متّجه إلى جهة أمرني بها ربّي ،
فهاجر من سواد العراق إلى حرّان ، ثم اتّجه إلى ديار الشام ، فأقام إبراهيم في
فلسطين في بلدة الخليل ، ونزل لوط بلدة سدوم.
وسبب هذه الهجرة :
أن الله سينتقم من عبدة الأوثان ، فهو القوي الغالب القاهر
في ملكه ، الذي
يمنع أصفياءه من الأعداء ، وينصرهم عليهم ، الحكيم في تدبير شؤون خلقه ، فلا يأمر
إلا بما فيه الصلاح والرشاد والخير. وهاتان الصفتان البليغتان (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقتضيان استحقاق التوكّل على الله.
ومكافاة لإبراهيم
على جهاده في تبليغ دعوته ، وإبطال الوثنية ، أنعم الله عليه بعد ترك قومه
الوثنيين بنعم ثلاث :
الأولى ـ أن الله
تعالى وهب إبراهيم في حال الكبر إسحاق بعد إسماعيل الذّبيح ، وكذا يعقوب بن إسحاق
نافلة وفضلا ، فقد بشّر الله إبراهيم بإسحاق ، ثم بشّر بيعقوب من بعده ، كما جاء
في آية أخرى : (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٢١ /
٧٢].
والنعمة الثانية ـ
هي جعل النبوة وكتب التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، في ذرّية إبراهيم الخليل عليهالسلام ، فكانت الأنبياء كلهم بعد إبراهيم من ذرّيّته ، ولم يوجد
بعده نبي إلا من سلالته ، وكان إنزال الكتب السماوية على هؤلاء الأنبياء الذين هم
من ذرّية إبراهيم ، وهم : موسى وعيسى وداود ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
والنعمة الثالثة ـ
إيتاء إبراهيم عليهالسلام أجره في حياته الدنيوية بحيث أدرك ذلك وسرّ به ، والأجر
الذي آتاه الله تعالى : هو السّلامة من النار ، ومن الملك الجائر ، والعمل الصالح
، والثناء الحسن ، وأن كل أمة تحبّه وتتولاه ، قال عكرمة : أهل الملل كلها تدعيه
وتقول : هو منّا.
ثم أخبر الله عنه
: أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضوان الله تعالى ، وفازوا برحمته
وكرامته العليا. فإن إبراهيم عليهالسلام يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح ، الذين لهم
الدرجات العليا ، والمكانة الرفيعة الأسمى ، وكان بهذا قد جمع الله له بين سعادة
الدنيا وسعادة الآخرة.
قصة لوط عليهالسلام
اتّجه لوط عليهالسلام بعد إيمانه وهجرته مع إبراهيم من العراق إلى بلدة سدوم في
غور الأردن ، بأمر الله إياه ، من أجل دعوة أهلها إلى توحيد الله ، وترك الفواحش ،
ومحاربة الفساد ، وقطع الطريق على المارّة ، وإتيان المنكر ، وكان في دعوته جريئا
قويا ، مجاهرا صامدا ، لا يفتأ يحذّر وينذر ، ويوجّه ويصلح ، ولكن القوم الفاسقين
غلب عليهم حبّ الفاحشة والمنكر ، فلم يستجيبوا لدعوته ، وقاوموه وحاولوا طرده ،
وإبعاده من ديارهم ، علما بأن لوطا عليهالسلام ليس من هؤلاء القوم ، قال الله تعالى واصفا دعوة لوط عليهالسلام :
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ
إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ
كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ
(٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))
[العنكبوت : ٢٩ /
٢٨ ـ ٣٥].
المعنى : واذكر
أيها النّبي لوطا وقصّته مع قومه ، حين أرسله الله إلى أهل قرية
__________________
(سدوم) فأنكر
عليهم فعلهم ، وقال لهم محذّرا ومنذرا : أتأتون الفاحشة ، ما سبقكم بها أحد قبلكم
من الناس؟ والفاحشة : إتيان الرجال في الأدبار ، وهي معصية ابتدعها قوم لوط.
ثم أكّد لوط
الإنكار على جميع أفعالهم القبيحة وهي :
ـ كيف تأتون
الذكران بشهوة من دون النساء؟ فهذا شذوذ في الطبع ودمار لكم.
ـ ولم تقطعون
الطريق على المارّة ، وتتعرّضون لهم بالقتل وأخذ المال والإكراه على الفاحشة؟
ـ ولماذا ترتكبون
في ناديكم أو مجلسكم العام والخاص ما لا يليق بكم من الأقوال والأفعال ، من صبغ
الأصابع بالحناء ، والصفير ، وخذف الحصا ، ولعب الحمام ، والتّضارط ، ونبذ الحياء
في كل أموركم.
فلما صارحهم لوط
ونبّههم على ترك هذه القبائح ، رجعوا إلى التكذيب واللجاج والعناد ، وقالوا : عجّل
علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به ، فإن ذلك لا يكون ، ولا
تقدر عليه ، وهم لم يقولوا هذا إلّا وهم مصمّمون على اعتقاد كذبه.
فقال لوط داعيا
على هؤلاء القوم المفسدين مستنصرا بربّه : يا ربّ ، انصرني على هؤلاء القوم
المفسدين في الأرض ، بابتداع الفاحشة. ولم يصدر منه هذا الدعاء إلا بعد يأسه من
صلاحهم ، فبعث الله عليهم ملائكة لعذابهم.
ولما جاءت الملائكة
رسل العذاب ، مرّوا على إبراهيم عليهالسلام في هيئة أضياف ، فبشّروه بولد صالح من امرأته (سارّة) وهو
إسحاق ومن ورائه يعقوب ، أي حفيده ، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط عليهالسلام ، لأنهم قوم ظلموا
أنفسهم بكفرهم
وتكذيبهم رسولهم ، وتماديهم في الضلال والفساد. ولفظ البشرى في هذه الآية تتضمن
أمر إسحاق ، ونصرة لوط عليهماالسلام.
فلما أخبروا
إبراهيم بإهلاك قرى قوم لوط على ظلمهم ، أشفق إبراهيم عليهالسلام على لوط عليهالسلام ، فسأل عن مصير لوط وهو رسول ، وغير ظالم ، فقالت الملائكة
الرسل : نحن أعلم منك بمن في البلد من المؤمنين والكافرين ، وإنا لننجي لوطا وأهله
، وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلّا امرأته ، فهي من الهالكين الباقين في
العذاب.
ولما جاءت
الملائكة إلى لوط عليهالسلام على صورة بشر حسان الوجوه ، اغتم بأمرهم ، وخاف عليهم من
فساد قومه ، وضاق ذرعا بهم ، أي قصرت طاقته أو قدرته ، حفاظا عليهم وحياء منهم ،
فقالوا له مطمئنين : لا تخف علينا ، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث ، وإنا
منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب إلّا امرأتك ، فهي من الباقين في العذاب. وصفة
هذا العذاب : أننا سننزل على أهل بلاد سدوم عذابا شديدا من السماء ، بسبب فسقهم
وعصيانهم ، وكان العذاب زلزالا خسف بهم الأرض ، وقلب ديارهم عاليها سافلها.
ولقد تركنا من
البلدة بعض آثار منازلهم الخربة أو بعض أخبارهم آية : علامة ظاهرة واضحة ، وعبرة
لقوم يتدبرون الأمور بعقولهم الرشيدة ، ويتبصرون بمصائر المجرمين الذين كذبوا
رسولهم.
قصص أقوام مدين وعاد وثمود وفرعون
استبدّ الانحراف
والفساد بأقوام سابقين ، فانحرفوا عن عبادة الله تعالى وأنكروا الآخرة ، وعاثوا في
الأرض فسادا ، وكذبوا رسلهم ، وهم قبائل مدين وعاد وثمود ، وأشخاص قارون وفرعون
وهامان وأتباعهم ، فاستحقوا بمقتضى قانون العدالة
وتطهير الأرض من
مفاسدهم ألوانا تتناسب مع جرائمهم ، إما بالرّجفة أي الزّلزلة ، وإما بالرّيح
الحاصب ، وإما بالصيحة : الصرخة الشديدة المدمرة ، وإما بالخسف أو التدمير ، وإما
بالإغراق ، وغير ذلك ، مما استحقوه بسبب ظلمهم وتجاوز الحدّ بالبغي والعناد ، وهذا
ما دوّنه القرآن الكريم عبرة لقريش وأمثالهم ، فقال الله تعالى :
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً
وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ
(٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (٤٠))
[العنكبوت : ٢٩ /
٣٦ ـ ٤٠].
هذه لمحة سريعة من
صواعق أو عناقيد الغضب الإلهي على أقوام عتاة ، بلغوا الذروة في الكفر والفساد
والظلم ، فجوزوا بأشد العقاب. وهم قبيلة مدين شمال خليج العقبة ، وأصحاب الأيكة
غيرهم ، أرسل الله إليهم النّبي شعيبا عليهالسلام ، فأمرهم بعبادة الله تعالى ، والإيمان بالبعث واليوم
الآخر ، والخوف من بأس الله وعذابه ، ونهاهم عن الفساد في الأرض وعن إنقاص الكيل
والميزان ، فقابلوه بالهزء والتكذيب ، والإصرار على الكفر والعصيان ، فأهلكهم الله
بالرّجفة : وهي الزّلزلة العظيمة ، فأصبحوا جثثا هامدة ، ودمّر الله ديارهم. وهذا
نحو من الخسف.
__________________
واذكر أيها النّبي
عادا وثمود ، أما قبيلة عاد فكانوا يسكنون الأحقاف قرب حضرموت في بلاد اليمن ،
أرسل الله إليهم هودا عليهالسلام ، فنصحهم وأنذرهم ، فلم يصدّقوه وآذوه ، فأرسل الله عليهم
ريحا صرصرا ، دمّرت ديارهم وأبادتهم.
وأما قبيلة ثمود :
فكانوا يسكنون في الحجر قريبا من وادي القرى ، بين الحجاز والشام ، وما تزال
مدائنهم ظاهرة إلى اليوم ، أرسل الله إليهم النّبي صالحا عليهالسلام ، فدعاهم مثل هود عليهالسلام إلى عبادة الله وحده ، فلم يستجيبوا ، وزيّن لهم الشيطان
أعمالا سيئة ، فكفروا بالله تعالى ، واجترحوا السيئات ، ومنعوا الناس عن الدّين
الحقّ والطريق القويم ، وكانوا أهل عقل وبصيرة ، لكنهم لم يؤمنوا بربّهم ، ولم
ينتفعوا بطاقات فكرهم وقلوبهم ، فعاقبهم الله ، وأهلكهم بالطاغية أو الصيحة
الشديدة ، وبادوا ، وبقيت آثار ديارهم عبرة لكل مارّ عليها.
وأهلك الله تعالى
قارون بالخسف وتدمير دياره ، وفرعون وهامان وزيره بالإغراق في البحر الأحمر ، وقد
أرسل الله لهم موسى عليهالسلام ، فدعاهم إلى توحيد الله عزوجل وترك عبادة الأوثان ، وأتاهم بالآيات الواضحات والمعجزات
الظاهرة كالعصا التي تنقلب حيّة عظيمة ، واليد التي يدخلها في فتحة قميصه ، فتصير
ذات إشعاع كالشمس أو القمر ، فاستكبروا عن الطاعة لله وعبادته ، ولم يكونوا مفلتين
من العذاب والأخذ ، ولا قادرين على الهرب من العقاب ، بل أدركهم أمر الله تعالى
وبطشه ، وصاروا عبرة للمعتبر ، وعظة لكل ناظر.
إن هؤلاء الأقوام
جوزوا بما يناسبهم من ألوان العذاب ، وكانت عقوباتهم إما بالريح العاصفة كقوم عاد
التي دمرتهم ، وإما بالصيحة أو الرّجفة كقوم ثمود وقوم لوط ، وإما بالخسف كقارون
الطاغية ، وإما بالإغراق في البحر كفرعون المتألّه الجبّار ، ووزيره هامان الماكر
، كل عقوبة تطابق ألوان الظلم الصادرة من أصحابها ،
وما كان لله
العادل عدلا مطلقا أن يظلمهم أبدا فيما فعل بهم ، ولكنه سبحانه أهلكهم بذنوبهم ،
وبظلمهم أنفسهم ، بكفرهم بربّهم وإنكار وجوده أو نسبة الشركاء له ، أو ادّعاء
الألوهية.
إن هذا الجزاء
والدّمار عبرة وعظة لأهل مكة وأمثالهم ، ممن ولجوا في العصيان والكفر والشّرك ،
وتكذيب الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهي للتاريخ مثل مثير ، وتذكير للمعتبرين.
حال عبدة الأصنام
عجيب أمر عباد
الأصنام ، وغريب ما تفكر به عقولهم ، ولا أجد مسوغا لهم في عبادتهم الأصنام إلّا
محض التقليد الأعمى ، فإنهم يبنون في فراغ ، ويعملون في الهواء بدون ثبات ، لذا
شبّه القرآن حالهم في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ، بالعنكبوت
التي تبني وتجتهد ، فإن بناءها ضعيف ، يتبدّد متى مسّته أدنى هامّة (وهي المخوف من
الأحناش) أو دهمته نملة ، وكذلك أمر هؤلاء وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد ،
وكرّر القرآن الكريم في مناسبات مختلفة أن هذه العبادة من الوثنيين لا تنفعهم شيئا
، وإذا تركوها لا يصيبهم ضرر ، فكيف يليق بهم ترك عبادة الله القادر ، والتوجه نحو
هذه الأحجار والأوثان؟! وتكون فائدة ضرب الأمثال في القرآن ، لتقريب الأشياء إلى
العقول والأفهام ، كما ذكر الحقّ سبحانه في هذه الآيات الشريفة ، قال الله تعالى :
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ
__________________
دُونِهِ
مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)) [العنكبوت : ٢٩ /
٤١ ـ ٤٣].
المعنى : إن فعل
المشركين أو صفتهم في تأليه الأصنام وعبادتها من دون الله ، أملا في نصرتهم ونفعهم
، ودفع الضّر عنهم ، كصفة العنكبوت في ضعفها ، تتخذ لنفسها بيتا لحمايتها من الأذى
، ولكنه لا يفيدها شيئا ، فإنه سرعان ما يتبدّد بالريح أو بالحشرات المداهمة.
فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم الأصنام شيئا ، ولا تدفع عنهم شرّا ، وتضيع جهودهم
لوضعها في غير موضعها ، فهم في عملهم في غاية الضعف ، مثل بيوت العناكب التي هي
أضعف شيء وأوهاه ، يخرّب بأدنى شيء ولا أثر له ، فكذلك أعمالهم لا أثر لها ، فلو
كانوا يعلمون أدنى علم أن عبادة الأصنام لا تنفع ، ما فعلوا ذلك ، ولأقلعوا عما
يعملون ، لكنهم في الواقع جهلة أغبياء ، لا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن حالهم
ونسبتهم للحق كهذه الحالة.
ثم توالى تأكيد
الله تعالى انعدام فائدة تلك المعبودات ، فذكر أن الله سبحانه يعلم أن الذي يعبده
الوثنيون من الأصنام أو غيرها من الجنّ والإنس والكواكب ليس بشيء ولا فائدة فيه ،
وإنما المعبود بحق : هو الله القوي الغالب القاهر ، الكبير المنتقم من الكفرة ، المشركين
مع عبادته إلها آخر ، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه ، يعلم ما هم عليه من الأعمال ،
وسيجزيهم وصفهم ، فإنه سبحانه يعلم حالهم ، وأنه لا قدر لعملهم ، ولا قدر لما
يعبدونه.
ثم ذكر الله تعالى
الفائدة الملموسة من ضرب الأمثال والأشباه ، وهي أن الأمثال القرآنية والتشبيهات
الحسّية التي يعقدها ويصوّرها الله تعالى ، إنما هي لتقريب الأشياء لأفهام الناس ،
وتوضيح ما التبس عليهم ، ولكن لا يعقلها ويتدبّر معناها ، ويدرك المراد منها إلّا
أهل العلم والمعرفة ، الذين يتجرّدون من العصبية والتقليد ،
ويتأمّلون في
مدلولات الأشياء. فإن قرين الشيء وشبيهه يوضح الأمر ، ويجلي الحقيقة. قال جابر ،
قال النّبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (إِلَّا الْعالِمُونَ) : «العاقل : من عقل عن الله تعالى ، وعمل بطاعته ، وانتهى
عن معصيته».
ومما يؤسف حقّا أن
ينزل مستوى الفكر الإنساني لهذه الدرجة من الدّنو ، فإن عبادة الأصنام مجرد أسطورة
أو خرافة ، ومحض وهم وخطأ. ومما يزيد في الأسف أنه ما تزال هذه العبادة قائمة في
زمننا في بعض البلاد الإفريقية كجنوب السودان وغيره ، فإن هؤلاء البدائيين ، قد
يذهبون لنيل أعلى الشهادات العلمية من أوربا وأمريكا ، ثم إذا عادوا لبلادهم ،
عادوا لتعظيم الأحجار والأصنام ، وكأن العقل العلمي غير العقل الديني ، وأن العلوم
العصرية الحديثة لا تفيدهم شيئا في الإقلاع عن عادات وسطهم الديني ، وبيئتهم
الحياتية القائمة ، كما حدثني بعض الأفارقة.
عظمة الخلق الإلهي والبيان التشريعي
إن أدنى تأمّل في
هذا الكون الرّحب ، من السماء والأرض والمخلوقات العجيبة فيهما ، يرشد الإنسان
الحائر إلى العقيدة الحقّة والإيمان الصائب ، وإلى العبادة الصحيحة في أسلوبها
وجوهرها وغايتها ، وتزداد العقيدة تأصّلا وتألّقا وثباتا بتلاوة القرآن العظيم
الدّال على أن رسل الله الكرام أقاموا الأدلة الكافية على الإيمان بالله تعالى ،
وعلى توحيده ، ووجوب عبادته ، وإن أعرض بعض أقوامهم عن دعواتهم ، ولم يقلعوا عن
عاداتهم الذميمة. وسبيل عقد الصلة بالله تعالى ، وإدراك لذّة مناجاته ، وحلاوة
مناداته : إنما هو بأداء الصلاة التي تنهى صاحبها إن أدّاها بحق عن كل ألوان
الفحشاء والمنكر ، الذي ينكره الشّرع والعقل ، ومن ذكر ربّه ذكره الله بإفاضة
الهدى ونور العلم عليه. وهذا ما أبانته الآيات الكريمة الآتية ، قال الله تعالى :
(خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ
يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))
[العنكبوت : ٢٩ /
٤٤ ـ ٤٥].
الأسلوب القرآني
الرائع يعتمد على ضرب الأمثال والتشبيهات بالأمور الحسّية المشاهدة ، كما يعتمد
على المقارنة أو الموازنة بين الأشياء ليظهر الحقّ ، ويبطل الباطل ، وتستقر
المعلومات والمعارف في الذهن الإنساني ، ومن هذه التشبيهات البليغة كما تقدم :
تشبيه عبادة الأصنام ببناء بيوت العناكب ، ومن هذه المقارنات اللطيفة : بيان كون
خلق السماوات والأرض وما فيهما من كمال وجمال وعظمة ، مما يرشد الذهن أو العقل إلى
صغر قدر الأوثان وحقارتها ، وصغر كل معبود من دون الله تعالى.
لقد أبدع الله
السماوات والأرض بالحق ، أي بالواجب النّيّر الثابت ، لا للعبث واللعب ، بل ليدلّ
على قدرته العظيمة وسلطانه الشامل ، ويثبّت شرائعه ، ويضع الدلائل لأهلها ، ويعمّ
المنافع. إن في هذا الخلق والإبداع لدلالة واضحة على أن الله تعالى هو المتفرّد
بالخلق والتدبير والألوهية ، وعلى وجوب التوجّه بالعبادة إليه وحده لا شريك له ،
وعلى ضرورة إعزاز الإنسان وتكريمه ، لئلا يعبد مثله أو من دونه ، أو ما لا يفيده
شيئا.
ولكن لا ينتفع
بهذه الأدلة والبراهين ، ولا يدرك أسرار الخلق والإبداع الإلهي إلا المؤمنون
المصدّقون بالله ورسوله ، لأنهم يستدلّون بآثار الخلق على وجود الخالق المؤثر فيها
، وأنه يستحيل على غير الإله المعبود بحقّ أن يكون له إسهام فيها ، أو تطلّع إلى
ادّعاء شيء من خصائصها وميزاتها الباهرة ، فذلك ما لا يستطيعه.
وإذا كان الإله هو
خالق السماوات والأرض فإنه تجب العبادة له ، وحده ،
خالصة نقية من أي
شائبة ، لذا أمر الله تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم وكل مؤمن بأمرين مهمّين يحقّقان العبودية لله ، ويوجّهان
إلى صحة العبادة ، وضرورة الخضوع لأمر الله ، وهذان الأمران المهمّان :
أولهما ـ تلاوة
القرآن الكريم وحي الله عزوجل لنبيّه وأمّته ، فإن القرآن إمام ونور ، وهدى ورحمة ،
وشفاء لما في الصدور ، ونجاة لمن اتّبعه ، وحصن لمن اعتصم به ، وعلاج للمحن
والأزمات ، وتعليم لشؤون الحياة كلها.
والأمر الثاني ـ إقامة
الصلاة بأدائها تامة الأركان والشرائط ، وإدامتها في قلب خاشع ، وعقل متدبر ،
ولسان ذاكر ، وإشراقة نفس ، واستحضار عظمة المعبود ، وللصلاة فوائد شخصية
واجتماعية كثيرة ، فهي تنهى عن ارتكاب الفواحش والمنكرات ، وفيها ذكر الله المهيمن
على كل شيء في السّرّ والعلن ، وإدامة الذّكر وترطيب اللسان به يشعر المصلي بكمال
عظمة الله ، وذكر الله أكبر من كل شيء في هذا العالم على الإطلاق ، فالله هو الذي
ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وجزء الذكر الذي في الصلاة : إنما هو الذي ينهى بالفعل
، لأن الانتهاء لا يكون إلّا من ذاكر لله مراقب له ، وثواب هذا الذكر : أن يذكر
الله تعالى عبده المصلي ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
والترمذي وابن ماجه : «من ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ،
ذكرته في ملأ خير منهم».
والذكر النافع :
إنما هو مع العلم بالله تعالى ، وإقبال القلب وتفرّغه إلّا من الله تعالى. وذكر
الله تعالى للعبد : هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه. والله عليم بما تصنعون من خير
أو شرّ ، يعلم بكل قول وفعل ، وذلك نوع من التّوعّد على ترك الصلاة وذكر الله ،
وحثّ على مراقبة الله على الدوام.
مجادلة أهل الكتاب
إن تحقيق الأغراض
أو الأهداف المنشودة يتطلب حكمة معينة ومهارة فائقة ، وذكاء وحصافة ، وتخطيطا
ودراسة ، وإن دعوة غير المسلمين للإسلام ومحاولة إدخالهم في دين الله ، من أدقّ
الأشياء وأعسرها ، لأن توارث العصبيات والأحقاد القديمة ، يحجب غالبا رؤية الحقيقة
الناصعة ، ولأن دوام العقيدة أو غرسها ، يتطلب قناعة راسخة ، وبرهانا واضحا ينسجم
مع العقل والمنطق ، ومقتضى العلم والمعرفة ، لذا كان توجيه القرآن الكريم في شأن جدال
أهل الكتاب يتفق مع هذه المسلّمات ، ويأمر باستعمال الكلمة الحسنى ، والخصلة
الخلقية التي هي أحسن ، قال الله تعالى مبيّنا منهاجه في الدعوة إلى الإسلام :
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ
الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي
صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ
(٤٩))
[العنكبوت : ٢٩ /
٤٦ ـ ٤٩].
هذه هي طريقة
إرشاد الكتابيين إلى الإسلام ، تلتزم أصول المنهج التالي :
أولا ـ الجدال
بالتي هي أحسن : ينهانا القرآن الكريم أن نجادل أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلّا
بالطريقة الحسنة ، وبالأسلوب الأحسن ، فإنهم قوم يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر ،
ويصدّقون بما أنزل على موسى وعيسى عليهماالسلام من الكتب السماوية ، فكانوا أولى الناس بالالتقاء على هدي
الإسلام الذي ضمّ الأديان كلها ، والإيمان بخاتم الأنبياء.
لكن الذين ظلموا
أنفسهم ، وعادوا للحقّ ، وتركوا سبيل الحجة الواضحة ، ولم يستعملوا منطق العقل
المجرد البعيد عن العصبية والهوى ، فإنهم ميئوس من إرشادهم وإصلاحهم ، وهم من بقي
على كفره منهم.
ثانيا ـ الإيمان
بأصول الأديان : يأمرنا القرآن المجيد أيضا أن نعلن إيماننا برسالة الإسلام
الشاملة التي تعني الخضوع لله تعالى ، وبأن الإله إله الجميع ، إلهنا وإلهكم واحد
، لا شريك له ، وإيماننا بما أنزل إلينا من القرآن ، وإليكم من التوراة والإنجيل
في أصلهما المنزّلين ، ونحن عابدون خاضعون لله ، مطيعون أوامره ، مجتنبين نواهيه.
ثالثا ـ إنزال
الكتب على الجميع : مثل إنزال الله الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول النّبي
، إنزال القرآن إليك ، فالذين جاءهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى إذا نظروا
وتأمّلوا بحق يؤمنون بالقرآن الكريم ، ومنهم من آمن به بالفعل ، كعبد الله بن سلام
اليهودي الأصل ، وسلمان الفارسي المتنصر المعروف بسلمان الخير ، ونحوهما ، وما
يكذّب بآيات الله ويجحد بمضمونها إلّا الذين أوغلوا في قيعان الكفر وركنوا إليه.
رابعا ـ أمّية
النّبي : ولم تكن أيها النّبي قبل النّبوة تقرأ شيئا من الكتب ، ولا تعرف الكتابة
ولا القراءة ، ولا تستطيع أن تخطّ سطرا من الكتاب بيمينك ، فأنت خالي الذهن ، لم
تتشرب بشيء سابق ، ولو كنت قارئا وكاتبا ، لشكّ المشركون الجهلة فيما نزّل إليك ،
وادّعوا أنه مأخوذ من كتب سابقة ، وإذ لم تكن كاتبا ولا قارئا ولا سبيل لك إلى
التّعلم ، فلا وجه لارتياب كل من عاداك ، فأهل الباطل هم المتمسكون بالضلالات
الموروثة ، والانحرافات الشائعة.
خامسا ـ القرآن
منزل من عند الله تعالى : بل إن هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحقّ ، وذلك
أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم ،
ولكن ما ينكر وما
يكذب بآيات الله النّيّرة ويبخسها حقّها ، ويردّها إلّا أهل الظلم ، وهم المعتدون
المكابرون المعاندون ، الذين يعلمون الحقّ ويحيدون عنه ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ١٠ / ٩٦ ـ
٩٧]. إن أصول الجدل العلمي الصحيحة ، تميّز بها القرآن الكريم ، ولم تكن آياته
وإرشاداته إلّا منارة للحق ، وسبيلا قويما لمعرفة الإيمان الحقّ ، واتّباع رسالة
الحقّ.
المطالب التعجيزية للمشركين وأشياعهم
آثر المشركون في
صدر الدعوة الإسلامية وحين نزول الوحي الإلهي أن يظلّوا على شركهم وعنادهم ، فلم
يصغوا لنداء المنطق ، ولم يستجيبوا بإمعان لدعوة الحق ورسالة الإنقاذ ، وآزرهم في
هذا الموقف بعض اليهود الذين كانوا يعلّمون قريشا هذه الحجة وهي : لم يأتكم محمد صلىاللهعليهوسلم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها ، فطالبوا بمعجزات
مادّية محسوسة ، ولم يكتفوا بإنزال القرآن الكريم المعجزة الأبدية الخالدة ،
وزادوا في غيّهم ، فاستعجلوا العذاب الذي أوعدهم به القرآن والنّبي عليه الصّلاة
والسّلام ، ولم يدروا أن العذاب الأكبر في نار جهنم سيحيط بهم إحاطة تامّة ، قال
الله تعالى واصفا هذا الموقف الوثني ومن يؤيّده :
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ
وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(٥٥))
[العنكبوت : ٢٩ /
٥٠ ـ ٥٥].
قالت قريش وبعض
اليهود تعنّتا وتعجيزا : هلا أنزل على محمد آية حسّية مادّية ، كآيات الأنبياء
المتقدّمين ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى عليهمالسلام ، لإثبات صدقه وأنه رسول الله؟!
فأجابهم القرآن
الكريم في قوله تعالى آمرا نبيّه عليه الصّلاة والسّلام أن يعلمهم أن هذا الأمر
بيد الله تعالى ، لا يستنزله الاقتراح والتّمنّي ، وأن النّبي بعث نذيرا ، ولم
يؤمر بغير ذلك ، فليقفوا عند حدود الأدب والطاقة.
أو ليس يكفيهم
دليلا على صدق نبوّتك يا محمد إنزال القرآن المجيد عليك ، والذي هو أعظم الآيات ،
وهو المعجز للجنّ والإنس ، ويتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار ، وفيه أخبار
الماضين ، وعظة اللاحقين ، وإنذار الآتين في المستقبل ، وفي ذلك الكتاب من الرحمة
والذكرى الكافية للمؤمنين.
حكى الطبري وغيره
: أن هذه الآية : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
..) نزلت بسبب قوم من المؤمنين أتوا النّبي صلىاللهعليهوسلم بكتب ، قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود الذين أخبروهم
بشيء من التوراة ، فأنكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك ، قال : «كفى بهذا ضلالة ، قوم رغبوا عما أتاهم به
نبيّهم ، إلى ما أتى به غيره». ونزلت الآية بسببه. قال ابن عطية : والتأويل الأول
أجرى مع نسق الآيات ، أي إنهم طلبوا آية بحسب مزاجهم ، فأجابهم الله بأن القرآن
أعظم الآيات.
__________________
ثم أمر الله نبيّه
صلىاللهعليهوسلم بالاستناد إلى أمر الله تعالى ، وأن يجعله حسبه أو كفايته
شاهدا وحاكما بينه وبينهم ، بعلمه وتحصيله جميع أمورهم.
إنه تعالى لا تخفى
عليه خافية ، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السماوات والأرض ، ويعلم الذين آمنوا
بالباطل : وهو عبادة الأوثان والأصنام من دون الله ، وجحدوا بوجود الله أو توحيده
، مع توافر الأدلة على الإيمان به ، أولئك لا غيرهم هم الخاسرون في صفقتهم ، حيث
اشتروا الكفر بالإيمان ، وسيجازيهم الله تعالى في القيامة على ما فعلوا.
ثم أخبر الله
تعالى عن لون آخر من جهل المشركين وحماقتهم ، وهم كفار قريش الذين يتعجلون نزول
العذاب بهم ، على جهة التعجيز والتكذيب ، وهو العذاب الذي توعدهم به محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولولا كون العذاب محددا بوقت معلوم ، لأتاهم من حيث لا
يشعرون ، ولسوف يأتيهم فجأة ، وهم لا يحسّون بمجيئه ، بل يكونون في غفلة عنه.
إنهم يتعجلون
العذاب ، والعذاب الأكبر واقع بهم حتما ، وهو عذاب جهنم الذي يحيط بهم وبأمثالهم
من كل جانب ، وهذا توعّد بعذاب الآخرة.
وصفة تعميم العذاب
: أنه يحيط بهم من كل جانب ، ويغطّيهم من كل جهة من جهاتهم ، ويقول الله تعالى على
سبيل التوبيخ والتقريع : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي.
ويشبّه العذاب بالذوق تهكّما وتبكيتا ، كما في قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ) [الدّخان : ٤٤ /
٤٩].
الهجرة عند تعطيل الشعائر
يريد الله تعالى
أن يستمرّ تدفّق ذكره ومناجاته وعبادته وإعلان توحيده والالتزام بشريعة القرآن
الكريم والنّبي العدنان ، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، ليتصل
نداء الحق ،
وتستمر الصّلة الإلهية قوية بالبشر ، يؤدي كل جيل ما عليه من واجبات الطاعة
والاستقامة ، وأداء الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى مرضاة الله عزوجل ، والاستقرار في دار المجد والسلام والخلود وهي دار الجنة.
وهذا كله تفضّل من الله تعالى بتوجيه البشر لما فيه خيرهم ، وترك ما فيه شرّهم
وضررهم ، وهذا ما رسمته لنا الآيات بالمبادرة بالهجرة من ديار الكفر إذا تعذّر على
المسلم إقامة شعائر دينه ، إلى ديار الإسلام ، قال الله تعالى :
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا
تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(٦٠))
[العنكبوت : ٢٩ /
٥٦ ـ ٦٠].
الآية الأولى : (يا عِبادِيَ) نزلت في ضعفاء مسلمي مكة ، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام
بها.
وهي تحرّض
المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة ، فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه ، وأن
البقاء في أرض فيها أذى الكفار ليس بصواب ، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله تعالى
في أرضه. فيا أيها العباد المصدّقون بالله ورسوله ، إن أرض الله واسعة غير ضيّقة ،
يمكنكم الإقامة في أي موضع منها ، فإذا تعذّرت عليكم إقامة شعائر الدين ، بسبب أذى
الكفار ، فهاجروا إلى مكان آخر ، تتوافر لكم فيه الحرية والطمأنينة في إقامة شعائر
الله ، وما عليكم إلّا متابعة عبادة الله وحده دون غيره ،
__________________
وقوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) إياي : منصوب بفعل مقدر يدلّ عليه الظاهر ، تقديره : فإياي
اعبدوا فاعبدون ، على الاهتمام أيضا في التقدير.
ولا خوف من الهجرة
والانتقال في البلاد ، فإن الموت كائن لا محالة لكل نفس ، في كل مكان ، ثم إلى
الله المرجع والمآب ، أي إن المكروه لا بد من وقوعه ، في داخل الوطن أو خارجه.
وهذه الآية (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ ..) تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها ، من أجل أن بعض المؤمنين
تخوّف في حال خروجه من وطنه أن يموت أو يجوع ونحو هذا ، فحقّر الله تعالى شأن
الدنيا ، والمراد : أنتم لا محالة ميتون ، ومحشورون إلى الله تبارك وتعالى ،
فالبدار إلى طاعة الله تعالى والهجرة إليه أولى بالامتثال.
ثم وعد الله
المؤمنين العاملين بسكنى الجنة ، تحريضا منه تعالى ، وذكر الجزاء الذي ينالونه ،
فالذين صدقوا بالله ورسوله ، وعملوا صالح الأعمال بالتزام أوامر الله واجتناب
نواهيه ، لينزلنّهم الله منازل عالية في جنات ، تجري الأنهار من تحت أشجارها ، على
اختلاف أصنافها من ماء وخمر غير مسكرة ، وعسل مصفى ، ولبن ، ماكثين فيها أبدا على
الدوام ، جزاء لهم على أعمالهم الطيّبة ، نعم هذا الجزاء جزاء العاملين المخلصين.
ثم وصف الله تعالى
العاملين بالصبر على أداء الطاعات وعن الشهوات ، والتوكّل على الله وتفويض الأمور
إليه في جميع أحوالهم الدنيوية والأخروية ، والصبر والتوكّل يجمعان الخير كله.
والذي يعين على الهجرة
ويحرّض عليها ضمان الله أرزاق العباد ، لأن بعض المؤمنين فكّر في الفقر والجوع
الذي يلحقه في الهجرة ، فأبان الله تعالى أن الرزق مكفول بيد الله لكل مخلوق ، فكم
من دابّة (كل ما يدبّ على الأرض) لا تطيق حمل
رزقها لضعفها ،
ولا تستطيع جمعه وتحصيله ، الله ييسّر لها الرزق على ضعفها ، وييسّر لكم الرزق
أيها الناس ، والله هو السّميع لأقوال عباده ، العليم بضمائرهم وأسرارهم. والمعنى
: الله يرزقكم أنتم ، ففضّلوا طاعة الله على كل شيء.
نزلت هذه الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) كما روى ابن عباس : أن النّبي صلىاللهعليهوسلم قال للمؤمنين بمكّة حين آذاهم المشركون : اخرجوا إلى
المدينة وهاجروا ، ولا تجاوزوا الظلمة ، قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ، ولا
من يطعمنا ولا من يسقينا ، فنزلت الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ ..) الآية.
إقرار المشركين بالخالق
مهما استبدّ
العناد بأهل الشّرك والوثنية لا يجدون مناصا من الاعتراف بربوبية الله وكونه خالق
الكون : سمائه وأرضه ، كواكبه وشمسه وقمره ، برّه وبحره ، وأنه منزل المطر من
السماء لإحياء الأرض بعد موتها وجفافها ، وأنه الرازق المتصرّف بكل شيء ، فإذا كان
هذا مستقرّا في عقيدتهم ، مترسّخا في أذهانهم ، فلم يبق إلا إكمال هذه العقيدة
بالإقرار بوحدانية الله تعالى ، وأنه لا سواه الأحقّ بالعبادة ، والأولى بالتوجّه
إليه في السّر والعلن ، لاستمداد الخير منه ، ودفع الشّر والضّرر به ، قال الله
تعالى مبيّنا هذه الحال السائدة بين المشركين :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))
[العنكبوت : ٢٩ /
٦١ ـ ٦٣].
__________________
هذه الآيات إفحام
للمشركين القائلين بتعدّد الآلهة ، وإقامة للحجة عليهم ، بأنهم إن سئلوا عن الأمور
العظام التي هي دلائل القدرة ، لم يكن لهم إلّا التسليم لله تعالى.
فو الله يا محمد
إن سألت المشركين بالله إلها آخر : من الذي أوجد أو خلق السماوات وما فيها من
الشمس والقمر المسخّرين المذلّلين بأمر الله في مدار معين وبنظام دقيق ينشأ عنهما
تعاقب الليل والنهار ، وما في السماوات أيضا من كواكب ونجوم ثوابت وشهب منقضة ،
وما في الأرض من كنوز ومعادن وجبال وأنهار وبحار ومخلوقات أرضية متعدّدة ، وما
تدلّ عليه من عظمة وقدرة إلهية ، لو سألتهم أيها الرسول عن ذلك ، لأجابوك بأن
الموجد المبدع الخالق هو الله تعالى ، فكيف يصرفون عن توحيد الله تعالى وإخلاص
العبادة له؟! فإن المعترف بأن الله هو الخالق ، ينبغي أن يعترف بوحدانية هذا الإله
الذي لا يشاركه في خلقه وتدبيره أحد ، والمعنى المراد : أن المقرّ بتوحيد
الرّبوبية لله ، يجب عليه الإقرار بتوحيد الألوهية ، فلا إله غيره ، سواء من
الأصنام والأوثان ، أو من الملائكة ، أو الكواكب أو غيرها.
والدليل الآخر بعد
الاعتراف لله بالخلق والتدبير : هو أن الله تعالى من أجل دوام المخلوقات ، تكفّل برزقها
، ويسّره لها ، لكن بحكمة إلهية معينة هي لمصلحة المخلوق ، فالله يوسع الرزق لمن
يشاء من عباده امتحانا واختبارا له ، ويضيق الرزق على من يريد ابتلاء ومحنة ، على
وفق مقتضى الحكمة وبحسب المصلحة المستقرة ، لأن الله تامّ العلم بكل شيء ، من
المفاسد والمصالح ، فيمنح ويمنع ويوسع ويقتر ، بما يراه الأصلح للعباد ، كما جاء
في آية أخرى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)) [الشّورى : ٤٢ /
٢٧].
واستمرارا لمدد الرزق
، وتقريرا لحقيقة ثابتة يعترف بها المشركون : أنك أيها الرسول لو سألتهم أيضا عمن
ينزل المطر من السماء أو السحاب ، فيحيي به الأرض
الجدبة بعد جفافها
ويبسها ، فتصبح متحرّكة نضرة بالنبات الأخضر ، لأجابوك بأن الله تعالى هو الفاعل
لذلك ، فإذا قالوا هذا ، فقل لهم أيها النّبيّ : الحمد لله على قيام الحجة عليكم ،
وأن الله مصدر النّعم كلها ، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعقلون هذا التناقض
الحاصل منهم ، فتراهم يقولون بأن الله هو الخالق الرّازق ، ثم يقولون بوجود إله
آخر معه ، فيخالف فعلهم قولهم ، وإقرارهم ، ويعبدون مع الله تعالى وثنا أو حجرا أو
معدنا لا يتمتع بحقائق الألوهية ، ولا ينفعهم شيئا ، ولا يضرّهم إن تركوا عبادته.
إن هذا لون من ألوان الحماقة والخرافة والطيش والبدائية القائمة.
أحوال الدنيا والكافرين فيها
الإنسان فيما
يتعلق بقضايا الدين والدنيا قد يكون قصير النظر ، لا ينظر إلى ما وراء هذا العالم
، وتقلّبات الدنيا سريعة وشؤونها لاهية ، حتى إذا ما وقع في المحنة الخانقة ، تراه
يبذل كل ألوان الرجاء والإستغاثة ، لاستنقاذ نفسه ، وما تعرّض له من مخاوف الغرق
أو الإعصار أو الزلزال ، ولا يقدّر المشرك المقيم في مكة نعمة الأمن الكبرى في
البلد الحرام الآمن ، مع أن البلاد المجاورة وغيرها لا أمان فيها ولا اطمئنان. إن
الكافر بالله هو الظالم الحقيقي لنفسه ، ولا ظلم أشدّ طغيانا من افتراء الكذب على
الله أو تكذيبه بالحقّ الثابت الساطع. أما المؤمن المجاهد نفسه وهواه ، فإن الله
يوفّقه للخير وسبيل النجاة ، ويؤيّده ويؤازره لإحسانه العمل ، واستقامته في الحياة
، قال الله تعالى مبيّنا أحوال الدنيا والناس فيها.
(وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ
لَوْ كانُوا
__________________
يَعْلَمُونَ
(٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ
مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))
[العنكبوت : ٢٩ /
٦٤ ـ ٦٩].
وصف الله تعالى
واقع الدنيا في هذه الآية بأنها لهو ولعب ، أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى ،
فإن ما كان لله تعالى فهو من الآخرة ، ذلك أن كل ما كان من أمور الدنيا الزائدة
على الضروري الذي به قوام العيش والحياة ، والتّقوي على الطاعات ، فإنما هو لهو
يتلهّى به ، ولعب يتسلّى به. وأما الآخرة فهي الحيوان ، أي دار الحياة الباقية
الخالدة. وهذا الوصف مفيد القوم الذين يعلمون الحقائق ، ويدركون المصائر ، ومن علم
بذلك آثر الباقي على الفاني. والفرق بين اللهو واللعب : أن اللعب إقبال على الباطل
، واللهو : إعراض عن الحق. ثم وصف الله المشركين في وقت المحنة :
فإنهم إذا ركبوا
في السفينة مثلا ، وتعرّضوا لخطر الغرق ، دعوا الله وحده ناسين كل صنم وغيره ،
مخلصين النّية والرغبة إلى الله تعالى ، صادقين في توجّههم ، فإذا أمنوا ونجوا من
الخطر أو الهلاك ، عادوا لشركهم ، ونادوا أصنامهم وأوثانهم ، كافرين بنعمة النجاة.
فقوله تعالى : (إِذا هُمْ
يُشْرِكُونَ) معناه يرجعون إلى ذكر أصنامهم وتعظيمها.
إنهم في بقائهم
على الشّرك يؤول أمرهم إلى الكفر بما آتاهم الله من نعم ، والتمتع بعبادة الأصنام
، فتكون لام (لِيَكْفُرُوا) و (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لام العاقبة أو الصيرورة ، أو
__________________
إنها لام (كي)
للتعليل على سبيل التهديد ، أي يشركون ليبقوا كافرين ، منعمين بالوثنية ، مثل قوله
تعالى : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ).
ثم عدّد الله
تعالى على كفرة قريش نعمته ، ومنها أمانهم في مكة البلد الآمن الحرام ، من غير
تعرّض لقتل ونهب وسلب ، فجدير بهم شكر هذه النعمة ، مع أن الناس كانوا يتخطّفون من
كل مكان حولهم ، ثم قرّرهم الله على حالهم على جهة التوبيخ ، وهي إيمانهم بالباطل
وهو الأوثان ، وكفرهم بالله ونعمته ، إنه تقرير لواقع ووصف له ، لا على سبيل
الرّضا به ، وإنما التّنديد به.
ثم إنهم أظلم
الناس ، وقد أعلمهم الله أنه لا أحد أظلم منهم ، وفي ذلك وعيد شديد ، فهم أحقّ
الناس بالعقاب ، إذ لا أحد أشد عقوبة ممن كذّب على الله بالشّرك ، ولزم تكذيب
كتابه ورسوله ، أليس لهم مقر عقاب؟! أليست جهنم هي مثوى ومأوى جميع الكافرين؟! إن
هذا التهديد والوعيد بهذه الألفاظ الموجزة الجامعة للمعاني الكثيرة لا نظير له في
عالم التحذير والإنذار ، والفحوى بيان عاقبة المشركين الكافرين.
أما عاقبة
المؤمنين : فهي الظفر بجنان الخلد والرضوان ، فالذين جاهدوا أنفسهم وأطاعوا ربّهم
، ونصروا دين الله وكتابه ورسوله ، وقاتلوا المعتدين المكذبين بالحق ، إنهم هم
الذين هداهم الله ووفّقهم إلى طريق الجنة ، وسبيل السعادة والخير ، في الدنيا
والآخرة ، والله دائما مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والتأييد ، والحفظ والرعاية.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي من أجل إرضائنا وعلى هدي قرآننا. إن هذه المقارنة بين
أحوال العصاة والكافرين ، وأحوال الأتقياء والطائعين ، تبيّن تباين الحالين ، وفرق
المصيرين ، إنه فرق شاسع ، ووضع متباين ، أهل الشّرك والكفر في نيران تتلظّى بهم ،
وأهل الإيمان والطاعة في جنان ونعم يتمتعون بها وينعمون في ظلالها ، فما أنعم حال
السعداء ، وما أشقى حال الأشقياء؟!
تفسير سورة الرّوم
تحقيق الغيب المخبر به عن الروم
من وجوه إعجاز
القرآن الكريم : الإخبار عن المغيبات سلفا في المستقبل ، ووقوع الأشياء كما أخبر
تماما ، ومن هذه الأخبار الغيبية : هزيمة الروم أمام الفرس ، ثم انتصار الروم على
الفرس ، وذلك في حدود بضع سنوات من ثلاث إلى عشر ، كما أخبر القرآن ، فبعد نزول
سورة الروم سنة (٦٢٢ م) ببضع سنين في سنة (٦٢٧ م) أحرز هرقل عظيم الروم أول نصر
حاسم للروم على الفرس ، في نينوى ، على نهر دجلة ، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم
القسطنطينية ، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة (٦٢٨ م) على يد ولده : شيرويه ، وهذا ما
أرّخه القرآن قبل وقوعه في الآيات الآتية في مطلع سورة الرّوم المكّية :
(الم (١) غُلِبَتِ
الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
(٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ
عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))
[الرّوم : ٣٠ / ١
ـ ٧].
__________________
سبب النزول : ما
أخرجه التّرمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ،
فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت (الم (١) غُلِبَتِ
الرُّومُ (٢)). وقد كان الفرس هم الغالبين للرومان في بدء الأمر ، على
مشارف الشام مما يلي بلاد العرب ، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا : إن الفرس لا
كتاب لهم مثلنا ، والرّومان لهم كتاب مثلكم ، لأنهم نصارى ، ولننتصرن عليكم كما
انتصر الفرس. وتراهن أبو بكر مع المشركين على انتصار الروم ، في مدة بسيطة ، فقال
له النّبي صلىاللهعليهوسلم : زد في الرّهان ومدّ الأجل ، ففعل ، فانتصر الروم في
أثناء الأجل ، بعد خمس سنوات ، كما تقدّم ، وأخذ أبو بكر الجعل وتصدّق به.
والمعنى : الم :
هذه حروف مقطعة للتنبيه على ما يأتي بعدها ، ولتحدّي العرب بمجاراة القرآن
ومعارضته ، مع أنهم فصحاء العرب ، وكلامهم مكوّن من هذه الحروف التي تتركّب بها
الكلمة العربيّة أو الكلام العربي الذي ينطقون به.
لقد غلبت الفرس
الرّوم في أقرب أرض الرّوم إلى بلاد العرب ، في أعلى مشارف بلاد الشام ، في
الجزيرة : وهو موضع بين العراق والشام ، فسرّ المشركون الكفرة ، وأدنى الأرض :
أقرب الأرض ، فإن كانت الوقعة بأذرعات بحسب قول عكرمة فهي من أدنى الأرض بالنسبة
إلى مكّة ، وإن كانت الوقعة بالجزيرة بحسب قول مجاهد ، فهي أدنى الأرض بالنسبة إلى
أرض كسرى الفرس. فبشّر الله تعالى عباده المؤمنين بأن الروم سيغلبون في بضع سنين ،
والبضع : من الثلاث إلى التّسع من السنوات ، وذلك من تاريخ الموقعة الأولى. وهذا
إخبار عن أمر غيبي في المستقبل ، أيّده الواقع ، ولله الأمر كله من قبل الغلبة ومن
بعدها ، فيحقق الله الغلبة لفئة على أخرى ، ثم يحدث العكس ، بأمر الله وإرادته
وقدره وقدرته ، خلافا للموازين العسكرية البشرية ، فقد يتغلب الضعيف أو القليل على
القوي والكثير ، بإذن الله ومراده ، كما قال سبحانه :
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢ / ٢٤٩].
وقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) إخبار بانفراد الله بالقدرة.
ويوم ينتصر الرّوم
النّصارى على الفرس الوثنيين ، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والإيمان ، على
من لا دين له ولا كتاب من السماء.
ينصر الله من يريد
على الأعداء ، لأنه الفعّال لما يريد ، والحكيم في إرادته ، والقويّ الذي لا يغلب
، المنتقم من أعدائه ، الرّحيم بعباده المؤمنين.
ذلك وعد حقّ من
الله تعالى ، وخبر صدق واقع ، والله لا يخلف الميعاد ، ولا بدّ من وقوعه ، لأن في
سنّة الله تعالى أن ينصر أقرب الفريقين المتقاتلين إلى الحق ، إلّا أن يكون ذلك
محنة وابتلاء لفئة بفئة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بحكم الله وأفعاله القائمة
على العدل والحكمة ، لجهلهم بالسّنن الجارية في الكون ، كما قال الله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٣ /
٣٨](سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٣٣ /
٦٢].
وعلم الناس ،
وبخاصة الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده : علم ظاهري بأحوال الدنيا
وعلومها المادّية ، كتدبير : شؤون المعيشة ، واكتساب الأموال من مصادر الثروة
المتعددة ، من زراعة أو صناعة أو تجارة ، أو مهنة حرة أو خدمة ونحوها. وهم مشغولون
بعلومهم هذه ، لا ينظرون إلى المستقبل ، وهم في غفلة تامة أو شبه تامة عن شؤون
الآخرة ، وما فيها من خوالد الأشياء ، ودوام المصير.
هذا الخبر الغيبي
له مغزاه وهدفه في تاريخ الدعوة الإسلامية ، فلقد ترجّى النّبي صلىاللهعليهوسلم ظهور دينه وانتشار دعوته ، وامتداد تطبيق شريعة الله عزوجل التي أرسله الله بها ، وتغلّبه على الأمم والشعوب التي
تدين بدين غير سماوي ، وتبدّد آمال كفار مكّة بأن يرمي الله نبيّه بملك يستأصل
وجوده ، ويريحهم منه ، ولكن خسر هنالك المبطلون.
فريضة التّفكّر في مخلوقات الله تعالى
لقد أحال القرآن
الكريم في إثبات عقيدة الإيمان بوجود الله ووحدانيته على مشاهد حسّيّة ملموسة ،
وهي المخلوقات السماوية والأرضية ، فهي ترشد إلى الموجد الخالق ، بسبب بدء تكوينها
وانتهائها بعد أجل محدد في علم الله تعالى ، كما أحال إلى التأمّل في مصارع
الأقوام الغابرين الذين كانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأولادا ، لكنهم حينما أعرضوا
عن آيات الله البيّنة ، أهلكهم الله في الدنيا ودمّرهم ، لا بظلم من أحد ، وإنما
بسبب ظلمهم أنفسهم ، ثم كانت عاقبتهم أسوأ العقوبة ، وهي جهنم بسبب التكذيب بآيات
الله تعالى والاستهزاء بها. هذا ما وصفه القرآن المجيد في إيراد الأدلة والبراهين
الحسّية على وجود الله وتوحيده شريطة التأمّل والتفكّر فيها ، قال الله تعالى :
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا
السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))
[الرّوم : ٣٠ / ٣٠
/ ٨ ـ ١٠].
هذه حملة مركزة
لإعمال المشركين وغيرهم أفكارهم وعقولهم ، للتوصّل في نتيجة التفكير والنظر
والتأمّل ، لإثبات وجود الله وتوحيده ، أفلا يتفكرون في أنفسهم أو ذواتهم أن ما
أوجده الله تعالى من مخلوقات في السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما ، لم يوجده
إلّا بالحقّ الثابت ، الملازم للحكمة ، ولأجل محدد ، لا بد من
__________________
الانتهاء إليه ،
وهو قيام القيامة ، فإذا حلّ الأجل ، تبدّلت معالم الأرض والسماء ، ولكن أكثر
الناس ، وبخاصة الكفار ، هم جاحدون لقاء الله تعالى ، منكرون وجود البعث والحساب ،
لأنهم لم يتفكروا في ذواتهم وحواسّهم ، ليستدلّوا بذلك على الخالق المبدع.
المراد من هذه
الآية : وصف الكافرين المشركين بالغفلة والإعراض عن أمر الآخرة ، ثم توبيخهم على
أنهم قد فكّروا تفكيرا مغلوطا أو خطأ ، فلم ينفعهم الفكر والنظر ، لأنه لم يكن على
سداد وصواب.
وقوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) يراد به بسبب المنافع التي هي حق وواجب ، تدلّ على وجود
الله وعبادته وحده على الدوام ، والإعتبار بمنافع الأرزاق وغيرها. ثم أخبر الله
تعالى عن كفر أكثر الناس بالبعث والنشور المعبّر عنه بلقاء الله تبارك وتعالى ،
لأن لقاء الله تعالى هو أعظم الأمور ، وفيه النجاة أو الهلاك.
ثم وبّخ الله
تعالى المشركين توبيخا آخر ، وهو أنهم ساروا ونظروا في عواقب الأمم المتقدمة ،
ولكن ذلك لم ينفعهم ، حتى لم يعملوا بحسب العبرة وخوف العاقبة.
إن هؤلاء الجاحدين
عطلوا ثمرة النظر والفكر ، أفلم يتنقلوا في الأرض ، فينظروا بعقولهم وأفهامهم ،
ويتأمّلوا بأخبار الماضين ، كانوا أشد قوة من أهل مكة ونحوهم ، وكانوا أكثر تحضّرا
وتمدّنا ، حيث حرثوا الأرض وزرعوها ، وغرسوا فيها الأشجار ، أكثر مما فعله
المكّيون ، وسائر العرب عند نزول الوحي ، وجاءتهم الآيات الدّالة على وجود الله
وتوحيده ، فأعرضوا عنها ، فأهلكهم الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم رسلهم ، الذين
أرسلهم الله تعالى إليهم ، فلم يكن عقابهم جورا ولا ظلما ، ولكن كانوا هم الظالمين
أنفسهم ، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى.
وهناك عقاب أشدّ
من عقابهم الدنيوي ، فلقد كان مصير المسيئين أسوأ مصير ، وعقابهم أسوأ عقاب ، وهو
الخلود في نيران جهنّم ، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى
ودلائله الدّالة
على وجوده ووحدانيته ، وبسبب استهزائهم وسخريتهم منها. فقوله تعالى : (أَساؤُا السُّواى) أي كان عاقبة الذين كفروا هي النار ، والتكذيب بآيات الله
تعالى لا مجرد الاستهزاء بها ، فلذلك عدّد الله تعالى عليهم الفعلين.
إن تعطيل ثمار
التفكير الصحيح منشؤه الخلود إلى الكفر والضلال ، لأن من أصمّ سمعه ، وأعمى بصره ،
بسبب ملازمته منهج الكفر وتقليد الآباء والأجداد ، يصعب عليه ترك ما ألف وهجر ما
اعتاد.
وإن إهمال
الإعتبار بأحداث الماضين ، الذين تعرّضوا لعذاب الاستئصال ، مع شدّتهم وقوتهم في
السّلم والإعمار ، والحرب والدّمار ، يعدّ نكسة شديدة في تاريخ الفكر الإنساني.
والعاقل من اتّعظ
، والمفكّر من اعتبر ، وفائدة العظة والعبرة تكمن في سلوك أهل البصيرة وأصحاب
الرأي الحرّ المنعتق من رواسب التقليد ، ومحاكاة الآخرين من غير حجة ولا برهان.
إثبات المعاد ومخاوفه
الإيمان باليوم
الآخر من أصول الإعتقاد في الإسلام ، بل هو ضرورة لازمة لإنصاف الخلائق ، وإحقاق
الحقّ ، وإبطال الباطل ، لذا أخبر الله تعالى إخبارا عامّا مطلقا لجميع العالم
بالحشر والبعث من القبور ، وأكّد سبحانه على أنه هو الذي يبدأ الخلق ويوجده ، ثم
يحييه ويعيده إليه ، وفي ذلك اليوم يفرح المؤمنون بما أعدّه الله لهم من جنّات
النعيم ، وييأس الكافرون والمجرمون من انقطاع حجّتهم ، وإصابتهم بالإحباط وفقد
الأمل بالنّجاة ، ولا مفرّ من هذا المصير ، ولا أمل في الإنقاذ ، وإنما الناس
حينئذ فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.
قال الله تعالى
مبيّنا أحوال القيامة والناس فيها : (اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ
شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ
(١٦))
[الرّوم : ٣٠ / ٣٠
/ ١١ ـ ١٦].
هذه حقيقة العالم
في البدء والنهاية ، فالله هو المبدئ وهو المعيد ، فكما هو قادر على بدء الخلق
وإنشائه ، هو قادر على إعادته ، وإرجاعه ، فجميع المخلوقات يعودون إلى الله يوم
القيامة ، ويبعثون من القبور.
وفي يوم القيامة :
ييأس المجرمون من الاهتداء إلى الحجة النافعة لهم ، بسبب شدة الأهوال ، وعقم
الوصول إلى المسوّغات المقبولة ، والأعذار المرضية.
ولن يجد المشركون
لهم شفعاء من الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله ، وكانوا بشركائهم وآلهتهم
المزعومة جاحدين ، متبرئين منهم ، فإنهم لن يسعفوهم في وقت الحاجة إليهم ، كما جاء
في آية أخرى : (إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ
لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ
اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ
(١٦٧)) [البقرة : ٢ / ١٦٦
ـ ١٦٧]. وهذا كله دليل الإفلاس والخسران.
ثم أخبر الله
تعالى عن انقسام أهل المحشر قسمين :
ويوم تقوم القيامة
يتفرق الناس فرقة لا اجتماع بعدها ، فيؤخذ أهل الإيمان والسعادة إلى الجنان ،
ويؤخذ أهل الكفر والشقاوة إلى النيران ، إنهم يتفرقون في المنازل والأحكام
والجزاء.
__________________
فأما المؤمنون
المصدّقون بالله ورسوله واليوم الآخر ، والعاملون العمل الصالح الذي يرضي الله ،
والمجتنبون كل ما نهى الله عنه ، فهم أهل السرور والحبور ، والبهجة والمتعة ، إنهم
يتمتعون بأكمل أوصاف النعيم ، ويتقلّبون في أعطاف النعمة والمسرّة ، كما قال الله
تعالى في آية أخرى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السّجدة : ٣٢ /
١٧]. وقوله تعالى : (فِي رَوْضَةٍ
يُحْبَرُونَ) أي في جنّة ينعّمون ويسرّون. والروضة : أحسن ما يعلم من
بقاع الأرض ، وهي حيث يكثر النّبت الأخضر.
وأما أهل الكفر
والجحود بوجود الله وتوحيده ، المكذّبون رسله وآياته ، المنكرون وقوع المعاد أو
البعث بعد الموت ، فهم خالدون مخلّدون في عذاب الله في النار ، لا يغيبون عن الله
أبدا ، ولا يفترون عنه مطلقا ، كما جاء في آية أخرى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحجّ : ٢٢ / ٢٢].
إن يوم القيامة
يوم الانقطاع بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ، وهو يوم الانفصال التامّ بين أهل
الإيمان وأصحاب الكفر ، إنه يوم لا رجعة فيه إلى الدنيا ، ولا أمل بلقاء واقع بين
المؤمنين والكفار. إن أهل الإيمان المتميزين بصالح الأعمال : وهو الائتمار بأمر
الله ، واجتناب نواهيه ، يتنعّمون في رياض الجنة ، وينظرون إلى وجه الله الكريم ،
وأما أهل الشّقاوة والكفر والجحود ، المكذّبون بآيات الله البيّنة ، والمنكرون
لوجود القيامة ، فهم في العذاب جاثمون محضرون ، أي مدخلون إلى النار ، لا يغيبون
عن العذاب ، ولا يخفف عنهم شيء من عذاب جهنم.
إن هذا الانقسام
إلى فريقين في عالم الآخرة ، لهو واضح التأثير ، فالعاقل المدرك لمصيره ، المقدر
لمخاطر مستقبله ، يبادر إلى الإيمان ، ويعمل لما بعد الدنيا ، مما ينجيه بين يدي
الله ، بإيمان صحيح ، وعمل صالح خالص من الشوائب ، متمحض لله تعالى.
أوقات الأذكار والعبادة
تحقيقا للصّلة
الدائمة بالله تعالى ، وإدامة لرقابة الله عزوجل في السّر والعلن ، وضع الحقّ تعالى نظاما متكرّرا منضبطا
للتسبيح والتحميد والعبادة ، وحضّ على الصلاة في أوقات معينة ، وأزمان متكررة ،
وما أبدع وما أجمل نظام الإسلام بالتذكير بالعبادة عن طريق الأذان الشرعي ، الذي
هو دعوة دائمة للإيمان والإسلام ، بإعلان الشهادتين ، والحثّ على أداء الصلاة
وتحقيق الفلاح ، وإدراك مغزى العبادة ، والإيقان بعظمة الله ، وأنه أكبر شيء في
هذا الوجود. واستحضار عظمة الله ، وإحاطة علمه وقدرته ، فهو مبعث الهيبة والوقار ،
والمبادرة إلى الامتثال ، والاستقامة وتحقيق المنال ، قال الله تعالى آمرا
بالعبادة ، حاضّا على الصلاة في أوقات معينة ، لأن الإيمان تنزيه بالجنان ، وتوحيد
باللسان ، وعمل صالح يشمل جميع الأركان :
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))
[الرّوم : ٣٠ / ١٧
ـ ١٩].
الدنيا مملوءة
بالأشياء المختلفة ، والمتناقضات والأضداد ، تحقيقا لتكامل الكون ، وإدراك الفروق
والتفاوت بين المخلوقات ، فنجد الكفر مقابلا للإيمان ، والشقاء موازيا للسعادة ،
والقبح في مواجهة الجمال ، والرذيلة تنافس الفضيلة ، والنقمة أمام النعمة ،
والعذاب قرين الرحمة ، وكل واجهة من هذه الواجهات تأكيد لحرّية الإنسان ، وتقرير
لممارسة حقّه في الإرادة والإختيار ، فهو الذي يقبل على ما فيه الوصول إلى رحمة
الله ورضوانه ، وهو الذي يزجّ بنفسه في موجبات العذاب والعقاب.
__________________
إن هذه الآيات
تحدّد أوقات التسبيح والتحميد والتكبير وغيرها من الأذكار ، وتعيّن أوقات الصلاة ،
والمؤمن يحرص على هذه الأوقات لأداء واجبه وإبراء ذمّته ، فيسبح الله ، أي ينزهه
عن جميع صفات النقصان ، ويثبّت له كل صفات الكمال ، في جميع أوقات الليل والنهار ،
يسبح الله بأمره حين ابتداء المساء أو الليل ، وحين طلوع الفجر أو النهار ، ويحمد
الله تعالى جميع من في السماوات والأرض ، من ملائكة وجنّ وإنس ، وجماد ونبات ،
وحيوان ، ويسبح الإنسان الله وينزهه أيضا في وقت العشي أو العشاء ، وهو شدة الظلام
، وفي وسط النهار وقت الظهيرة.
قال ابن عباس
وقتادة وبعض الفقهاء : في هذه الآية تنبيه على أربع صلوات : المغرب ، والصبح ،
والعصر ، والظهر. والعشاء الآخرة في رواية أخرى. والواقع أن الآية تشمل أوقات
الصلاة الخمسة ، لأنّ العشي وقت العشاء ، والمغرب وقت الإمساء ، والصبح وقت
الإصباح ، والظهر والعصر من بعد تحوّل الشمس إلى جهة الغرب.
والمعنى : نزّهوا
الله تعالى عن صفات النقصان ، وصفوه بصفات المجد والكمال ، في جميع هذه الأوقات
المتعاقبة ، من طلوع الفجر إلى غسق الليل ، لأن أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله
أدومها وأبقاها.
ومما يستدعي تسبيح
الله وتنزيهه : ثبوت قدرته الخارقة ، فالله هو القادر على الإحياء والإماتة ، يخرج
الإنسان الحي وغيره من التراب الميت ، ثم من النطفة ، ويخرج النطفة من الإنسان ،
والبيضة من الطائر ، وكلمة (الحي والميت) في هذه الآية ، تستعمل حقيقة ومجازا ،
أما الحقيقة : فهي المني يخرج منه الإنسان ، والبيضة يخرج منها الطائر ، وهذه
بعينها تخرج من حي ، ونحو ذلك. وأما المجاز : فهي إخراج المؤمن من الكافر ،
والكافر من المؤمن ، وإخراج النبات الأخضر من الأرض ، وإخراج الطعم من النبات.
والله تعالى يحيي الأرض
بالمطر ، فيخرج النبات من الحبّ ، والحبّ من النبات ، ومثل ذلك الإخراج تخرجون من
القبور أحياء بعد أن كنتم أمواتا ، وذلك على الله يسير. أي إنه تعالى بعد إيراده
الأمثلة الواضحة ببعث الأجساد عقلا ، أبان أنه كذلك خروجنا من القبور.
هذه الأمثلة
الحسّية والمقارنات توضّح للناس طريق الإيمان ، وكيفية ارتباط الحياة الدنيوية
بالحياة الأخروية ، وما أكثر هذه الأمثلة في القرآن الكريم ، ومنها : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) [الحجّ : ٢٢ / ٥].
بعض أدلة القدرة الإلهية والوحدانية
لقد ذكر الله
تعالى مجموعة من البراهين الساطعة العظيمة الدّالة على قدرته الباهرة وعظمته
وتوحيده ، وهي تشمل بدء خلق الإنسان من تراب ، وخلق الأزواج من جنس الأزواج ،
وإيجاد رباط مودة ورحمة بين الزوجين ، وخلق السماوات والأرض ، واختلاف الألسنة
والألوان ، والنوم بالليل والنهار ، وطلب الرزق من فضل الله ، وإراءة البرق ، وقصف
الرّعد ، وإنزال المطر من السماء ، وقيام السماء والأرض بأمره وتدبيره ،
والاستجابة لأمره بالإعادة أحياء ، وملكه جميع من في السماوات والأرض ، والتذكير
ببدء الله الخلق ، ثم إعادتهم أحياء من القبور. وهذا ما أوردته الآيات الكريمة
التالية :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ
آياتِهِ أَنْ
__________________
خَلَقَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ
آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))
[الرّوم : ٣٠ / ٢٠
ـ ٢٧].
الآية الأولى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) نزلت فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : تعجّب الكفار
من إحياء الله الموتى ، فنزلت : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ..).
والمعنى : من آيات
الله تعالى الدّالّة على عظمته وتمام قدرته على الخلق والإعدام ، أن الله تعالى
خلقكم أيها البشر في الأصل والبدء من تراب ، وجعل مصدر غذائكم من لحوم الحيوان
والنبات من التراب ، ثم بعد إنشائكم ووجودكم لإعمار الأرض وتقدّمها تتوزّعون فيها
لأغراض شتى ، من بناء المدائن والحصون ، وزراعة الأرض والحقول ، والانتقال في
الأسفار لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق ، وجمع الأموال.
وللحفاظ على النوع
الإنساني ، جعل الله تعالى من العلامات الدّالة على قدرته ورحمته وهيمنته : خلق
النّساء من جنس الرجال ، وإيجاد ووشائج وصلات وثيقة بين الرجل والمرأة ، قائمة على
المودّة (أي المحبة) والرحمة (أي الشفقة) ليتعاون الجنسان على
__________________
تحمّل أعباء
الحياة ، وترابط أفراد الأسرة ، إن في ذلك الخلق والإيجاد وتكوين جسور المودة
والألفة بين الأزواج ، للسكن والاستقرار والهدوء ، إن في ذلك لآيات أو علامات لقوم
يتفكرون ويتأمّلون في هذا.
ومن آيات الله
أيضا الدّالة على قدرته وعظمته : خلق السماوات والأرض من غير أعمدة ولا قواعد ،
واختلاف الألسنة واللغات والألوان ، إن في ذلك المذكور لآيات دالّة على قدرة الله
التامّة لقوم ذوي علم وبصر ومعرفة ترشدهم إلى الحق.
ومن آيات الله
الدّالة على قدرته العجيبة : منامكم في الليل والنهار ، وطلبكم الفضل والرزق من
الله ، إن في ذلك المذكور لدلالة لقوم يسمعون سماع تدبّر واتّعاظ. ومن آيات الله
الدّالة أيضا على تمام القدرة وثبوت الوحدانية إراءتكم البرق خوفا للمسافر من
الصواعق المحرقة ، وطمعا فيما تحبّون من المطر المحتاج إليه للإنسان والحيوان
والنبات ، إن في ذلك المذكور لدلالات واضحات لقوم يدركون هذا بعقولهم وأفكارهم.
ومن آياته تعالى
الدّالة على قدرته : قيام السماء بلا عمد والأرض بلا قواعد ، بأمر الله وتدبيره ،
ثم إذا دعاكم الداعي للخروج من القبور أحياء ، خرجتم من غير انتظار. ولله جميع من
في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصرّفا ، وهم جميعا خاضعون لله ، خاشعون
لعظمته وهيبته.
والله تعالى هو
الذي بدأ الخلق من غير مثال أو أصل سابق له ، ثم يميته ويعيده كما بدأه ، وذلك
أيسر وأسهل عليه ، بحسب منطق البشر ، فإن الإعادة أهون من الابتداء في تقديرنا ،
أما بالنسبة لله تعالى ، فهما سواء ، لا فرق بين البدء والبعث ، لأن الله قادر على
كل شيء.
ولله تعالى الصفة
العليا الكاملة في جميع السماوات والأرضين ، وهو القوي في ملكه الذي لا يعجزه شيء
، الحكيم في صنعه وتدبيره ، وأمره ونهيه.
فساد اعتقاد المشركين بالأصنام
شيئان اثنان هما
أخطر شيء على النفس الإنسانية وهما الهوى والجهل ، وكلاهما يؤديان للإسراف في
القول والعمل ، والضلال في التّصرفات وسوء السلوك ، ويكون الإنسان في النهاية هو
الضحية ، لأنه لم يتدارك تقصيره ، ولم يفعل شيئا لتبديد جهله ، ولم يروّض نفسه على
التّرفع عن أهوائه ، وظلّ أسير التقليد الأعمى ، وفريسة الموروثات والأساطير
الخرافية. هذا هو شأن عبدة الأصنام ، إنهم بدائيون جهلة وثنيون ، يسيرون في فلك
الأهواء والشهوات ، ويسدّون على أنفسهم باب العلم والتّبصر ، ومحاولة تصحيح
التصوّر والاعتقاد الفاسد ، وقد عمل القرآن الكريم على تبصيرهم وتوعيتهم ،
وتحذيرهم ، وإنقاذهم من وهدة الضلال ، كما تصوّر هذه الآيات :
(ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ
أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))
[الرّوم : ٣٠ / ٢٨
ـ ٢٩].
أخرج الطبراني عن
ابن عباس قال ـ في بيان سبب نزول الآيتين ـ : كان يلبّي أهل الشّرك : لبيك اللهم
لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فأنزل الله : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ).
أبان الله تعالى
في الآيتين الكريمتين أمر الأصنام ، وأوضح فساد معتقد من يشركها بالله تعالى ،
بضرب هذا المثل الحسّي الواقعي ، ومعناه : جعل الله لكم مثلا أيها المشركون
تشهدونه من أنفسكم ، وهو : هل ترضون أن يكون لكم شركاء في أموالكم ، من عبيدكم
يساوونكم في التصرّف فيها ، تخافون أن يقاسموكم الأموال؟ إذا كنتم لا ترضون ذلك
لأنفسكم ، فكيف تجعلون لله شركاء من عبيده ومخلوقاته؟!
وبعبارة أخرى :
إنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنهم لا تشركونهم في أموالكم ولا في
أموركم ، وليس من شأنكم السماح لهم في إرث أموالكم أو مقاسمتهم إياها في حياتكم ،
فإذا كان هذا فيكم في علاقتكم بعبيدكم ، فكيف تقولون : إن من عبيد الله وملكه
شركاء في سلطانه وألوهيته ، وتثبتون لربّكم ما لا يليق عندكم بأتباعكم؟ إن مثل هذا
التفصيل والبيان لإلزام الحجة ، نفصّل الآيات ونوضّحها لقوم يفكّرون في عقولهم
تفكيرا سويّا ، ويتأمّلون فيما يقال لهم من الأدلّة والبراهين المنطقية.
والواقع أنكم أيها
المشركون لا تفكّرون تفكيرا صحيحا ، وإنما تسيرون مع الأهواء والأساطير ، ليس لكم
حجة فيما فعلتم من جعل الأصنام شركاء مع الله تعالى ، بل اتّبعتم أهواءكم جهالة
وشهوة ، وقصدا لتحقيق مصالح دنيوية ، وسرتم في عبادة الأوثان ، من غير عقل ولا وعي
، ولا هدى ولا بصيرة.
وحيث بقيتم مصرّين
على الشّرك ، ولم تفكّروا في ترك عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع ، فإنكم تستحقّون التوبيخ
والتهديد بالعقاب ، ولا أمل في هدايتكم إذا تركتم هداية الله لكم ، ومن الذي
يرشدكم إلى الحق ، ويهديكم إلى الخير والسداد وصحة الاعتقاد ، إذا أمعنتم في
الضلال ، واخترتم الكفر على الإيمان؟ وزادكم الله ضلالا على ضلالكم الذي اخترتموه
منهاجا لكم ، واعتمدتم على أنفسكم ، فإنكم تستحقون العذاب ، ولا يكون لكم حينئذ
ناصر ينصركم من بأس الله وعذابه ، لأن الله أعذر حين أنذركم. وعدله يقتضي التسوية
بين أهل الضّلال ، كالتسوية بين أهل الإيمان ، والتفرقة بين الفريقين.
إن هذه الآية
المبدوءة بكلمة (بَلِ اتَّبَعَ) هو إضراب عما يتضمّنه معنى الآية الأولى ، كأن الله يقول :
لا حجة ولا معذرة لعبدة الأصنام في نسبتهم الشريك لله ،
بل إنهم اتّبعوا
أهواءهم جهالة وشهوة. وتكون النتيجة أنه لا ناصر لهم ينقذهم ، ولا مخلّص لهم من
العقاب المستحقّ عليهم ، فإن العقاب حقّ وعدل. لكل جان ، سواء في جنايات النفوس
والأموال أو في جنايات العقائد والأديان.
الإسلام دين الفطرة والتوحيد
وجّه القرآن
الكريم الناس إلى ما يصلحهم وينفعهم ، وينسجم مع فطرتهم البشرية ، وحقيقة هذا
الوجود ، الذي يدين طوعا أو كرها ، لخالق الأرض والسماء ، ويقرّ بوحدانية الله
تعالى على النحو الذي خلق الله عليه كل إنسان ، وهو الاعتراف بربوبية الله وتوحيده
، ولا مجال بعدئذ لكل ما يشوّه الفطرة ، ويعصف بالإنسان ، ويرميه في وهاد الزيغ
والضلال والانحراف ، أو يجعله في شعاب الفرقة والاختلاف ، من غير فائدة ولا مصلحة
، وهذا ما نجده صريحا في أوامر الله تعالى حيث قال سبحانه :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))
[الرّوم : ٣٠ / ٣٠
ـ ٣٢].
أمر الله تعالى
نبيّه صلىاللهعليهوسلم باعتباره قدوة الأمّة بأن يقيم وجهه للدين المستقيم ، وهو
دين الإسلام ، وإقامة الوجه : هو تقويم العقيدة ، وحمل الإنسان على محمل الجدّ
والعزم والحزم في أعمال الدين. والتعبير بإقامة الوجه : لأنه جامع حواس الإنسان
__________________
وأشرفها ، ويكون
المراد بالآية : وجّه أيها النّبي نفسك وقلبك لعقيدة الإسلام واتّباع شرائعه ،
حنيفا ، أي معتدلا مقوّما مائلا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة ، والزم أو
اتّبع فطرة الله تعالى ، أي خلقة الله ، أو افتطر بفطرة الله التي فطر ، أي خلق
وأبدع وسوى جميع الناس عليها ، حيث خلقهم على ملّة التوحيد ، وأن الله واحد لا
شريك له ، في قرارة كل إنسان ، وتحوّل تحوّلا تامّا عن جميع الملل والأديان
الباطلة ، إلى الدين الحق والملّة القويمة ، والفطرة : هي الخلقة والهيئة التي في
نفس الطفل المعدّة أو المهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على
ربّه جلّ وعلا ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، وهذا خطاب للنّبي صلىاللهعليهوسلم ولأمّته ، وهو يدلّ على أن كل إنسان مخلوق على التوحيد
والإقرار بوجود الله ووحدانيته ، ولكن تعرض له العوارض ، فيزيغ عن سنن الفطرة ،
وذلك كما قال النّبي صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد : «كل مولود يولد على
الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه ، كمثل البهيمة ، تنتح
البهيمة هل ترى فيها جدعاء». أي مثله كمثل الشّاة تولد سليمة الحواس والأعضاء ، لا
مقطوعة الأذن أو الأنف.
ولا ينبغي لأحد أن
يبدّل أو يغيّر فطرة الله ، أي الخلقة الأصلية ، وهذا خبر في معنى النّهي ، أو
الطلب ، أي لا تبدّلوا خلق الله الأصلي ودينه بالشّرك ، فتغيّروا الناس عن فطرتهم
التي خلقهم عليها. وذلك المأمور به من اتّباع ملّة التوحيد والتمسّك بالشريعة
المطهرة والفطرة السليمة : هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف. غير أن
أكثر الناس لا يعرفون ذلك حقّ المعرفة.
إنكم جميعا أيها
الناس مطالبون باتّباع دين الله وتوحيده ، خاشعين له ، مقبلين عليه إقبالا تامّا ،
راجعين إليه رجوعا كاملا ، وإنكم ملزمون بتقوى الله ، أي العمل بأوامره واجتناب
نواهيه أو معاصيه ، وداوموا على إقامة الصلاة كاملة الأركان
مستوفية الشروط ،
واحذروا الشّرك ، ولا تكونوا بعد الإيمان بوحدانية الله مشركين به غيره ، فلا
تقصدوا في عبادتكم غير الله تعالى ، بل كونوا موحّدين مخلصين لله العبادة.
والمشركون : هم كل من عبد مع الله إلها آخر ، من بشر أو جماد أو كوكب أو غير ذلك.
وأوصاف المشركين :
هم الذين فرّقوا دينهم ، أي اختلفوا فيما يعبدونه بحسب اختلاف أهوائهم ، فبدّلوا
فطرة التوحيد ، وصاروا فرقا مختلفة ، وأحزابا متباينة ، كل فرقة وحزب فرحون بما
عندهم ، مفتونون بآرائهم ، معجبون بضلالهم.
وهذه حملة شديدة
على الفرق الضّالّة والمذاهب المنحرفة ، تدعو أهل البصيرة والوعي إلى أن يبادروا
إلى توحيد عقيدتهم والعمل بشريعة ربّهم التي أنزلها على خاتم النّبيّين محمد صلىاللهعليهوسلم.
تناقض المشركين
من المستغرب صنع
بعض الناس وتناقضهم ، فتراهم يقبلون على ربّهم وقت الشّدة الخانقة والأزمة
المستعصية ، فلا يجدون سواه ملجأ لتفريج الكروب ، حتى إذا ما رفع عنهم البلاء ،
وزال عنهم البأس ، تنكّروا لخالقهم المنعم عليهم بدفع النقمة ورفع الشّدّة ، وهذا
واضح من فعل عبدة الأصنام وبعض الكافرين الذين يعبدون الله من أجل الدنيا والمنفعة
، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن منعوا منها سخطوا ، وعلى هؤلاء أن يدركوا أن مفتاح
الرزق بيد الله تعالى ، يمنح من يشاء ، ويحجب النعمة عمن يشاء ، بحسب ما يرى من
الحكمة والمصلحة لعبادة ، وهذا ما أبانته الآيات الآتية :
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما
كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ
(٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))
[الرّوم : ٣٠ / ٣٣
ـ ٣٧].
هذا لوم وتقريع
لفئتين من الناس : عبدة الأصنام المشركين بالله تعالى غيره ، وبعض الجاحدين الذين
يبتغون من وراء عبادة الله تحقيق المنافع ومكاسب الدنيا ، فإن حصلوا على مبتغاهم
اطمأنوا ، وإذا حرموا بعض الخيرات ، تبرموا وسخطوا.
إن الفئة الأولى :
وهم المشركون الوثنيون كسائر البشر ، متى مسّهم ضرّ (أي شدة وبلاء) دعوا الله
سبحانه ، راجعين إليه دون سواه ، خاضعين لسلطانه ، وتركوا الأصنام مطروحة ، فإذا
أذاقهم الله رحمته ، أي أصابهم أمره بها ، والذّوق هنا مستعار لإيصال النعمة
والنّجاء من الشّدة ، عادوا للشّرك بالله ، وعبدوا معه غيره من الأوثان والأصنام.
وهذا يقتضي العجب ، ويستدعي اللّوم.
ويلحق بهؤلاء
الانتهازيين النفعيين بعض المؤمنين ، إذا جاءهم فرح بعد شدة ، علّقوا ذلك بمخلوق ،
أو بحذق آرائهم ومهاراتهم ، أو بغير ذلك ، وهذا شرك مجازا ، لأن فيه قلة شكر لله
تعالى.
وتكون عاقبة هؤلاء
المتناقضين الوقوع في الكفر وجحود فضل الإله وإحسانه ، فاستحقّوا التهديد ، ويقال
لهم : (فَتَمَتَّعُوا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي استمتعوا أيها المشركون بمتاع الدنيا ورخائها ، فسوف
تعلمون عذابي في الآخرة على كفركم في الدنيا.
بل في الواقع لا
دليل على صحة ما أنتم عليه من الضلال ، فهل لكم سلطان ، أي
__________________
حجة وبرهان من
رسول أو كتاب ونحوه لإقرار ما تفعلون ، والنطق والشهادة بما تشركون؟! وهذا استفهام
إنكاري معناه : أنه لم يكن شيء من ذلك ، فلم ينزل الله كتابا يقرّ الشّرك ، ولا
أرسل رسولا يدعو إليه ، إنما هو اختراع منكم.
وفريق آخر
كالمشركين من بعض المؤمنين أو الكافرين ، وصفتهم : أنه إذا أنعم الله عليهم نعمة
فرحوا بها وبطروا ، وإذا أصابتهم شدة وبلاء ، أيسوا وقنطوا من رحمة الله. وتعرّضهم
للشدة إنما كان بسبب ما اقترفوا من الإثم ، وما ارتكبوا من السيئات. وقوله تعالى :
(بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) معناه أن الله يمتحن الناس عند ظهور المعاصي ، فقد يصاب
أحدهم بسوء ، ويعفو الله عن كثير.
التّشابه قائم بين
حال الفريقين أو الفئتين ، المشركون يتعرّضون للرحمة ثم للشّدة ، فلهم في الحالة
الأولى تضرّع وإنابة ، ثم إشراك ، ولهم في الحالة الثانية فرح وبطر ، ثم قنوط ويأس
، وكل إنسان يأخذ من هذا الخلق بقسط ، فمنهم المقلّ ومنهم المكثر ، إلا من غمر
الإيمان قلبه ، وتأدّب بأدب الله تعالى ، فصبر عند البلاء والضّرّاء ، وسكن عند
السّراء ، ولم يبطر عند النعمة ، ولم يقنط عند الابتلاء. والقنوط : اليأس.
ثم ذكر الله تعالى
طريق التّخلّص من اليأس من رحمة الله على كل حال ، وهو أن يعلم كل إنسان أن الله
تعالى يخصّ من شاء من عباده ببسط الرزق ، ويحجب أو يقتر الرزق عمن يشاء ، للاختبار
أو الابتلاء ، ان في الحالين حال سعة الرزق وحال تقتير الرزق لأدلة وعلامات على
الإيمان الصادق ، فالمؤمن الصحيح الإيمان يشكر عند الرخاء ، ويصبر عند البلاء ،
ولا يتغير في الحالين عن الإقبال على ربّه وعبادته بصدق وإخلاص.
الرزق الحلال والرزق الحرام
الرزق محدود مقنن
لكل إنسان في علم الله تعالى ، لكن بعض الناس يكون رزقه حلالا طيبا مباركا فيه ،
ينفق منه على نفسه وأهله وأقاربه والمحتاجين من إخوانه ، وبعض الناس الآخرين يكون
رزقه حراما آتيا من غير كسب ولا عمل ، من الربا أو الفائدة المضمومة إلى القرض ، ولكن
لا خير فيه ولا بركة ، والرازق هو الله تعالى ، والبشر وسائط ، إما بعملهم وكدّهم
وجهدهم ، وإما بمساعيهم ووساطتهم ، فهم وسائط خير وجسور منفعة ، وليس لأحد من غير
الله تعالى قدرة على الإطلاق على نفع إنسان أو رزقه ، ولا على إلحاق الضر به
وحرمانه من الرزق ، ومن باب أولى ليس للأصنام والأوثان المتخذة شركاء لله في عقيدة
الوثنيين أي دور أو مجال في رزق أحد أو حرمانه منه ، قال الله تعالى مبينا هذه
الأحوال :
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً
لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ
مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ
مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))
[الرّوم : ٣٠ / ٣٨
ـ ٤٠].
إذا كان الرزق
مصدره من الله تعالى وحده ، وأن الرزق محدود لا يزيد ولا ينقص ، فيكون التصرف فيه
بحسب مرضاة الله ، لذا أمر الله تعالى على جهة الندب بإيتاء ذوي القرابة حقوقهم ،
من صلة المال وحسن المعاشرة ، ولين القول ، وإعطاء المساكين المحتاجين وأبناء
السبيل ، أي المسافرين المنقطعين ما لهم حظ به ، لأنهم إخوة إما في الدين وإما في
الإنسانية ، وذلك الإيتاء أو الإعطاء لهؤلاء القرابة والمحتاجين
__________________
خير محض في ذاته ،
ونفع عظيم ، لكل من يقصد بعمله وجه الله تعالى ، و (وَجْهَ اللهِ) هنا : جهة عبادته ورضاه.
وأولئك المعطون
شيئا من أموالهم على سبيل البر وصلة الرحم ، وإنقاذ النفس الإنسانية من الضرر أو
الهلاك : هم لا غيرهم الفائزون ببغيتهم ، البالغون لآمالهم ، المحققون الخير
لأنفسهم في الدنيا والآخرة. أخرج الترمذي والدارمي في الزكاة عن فاطمة بنت قيس
قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن في أموالكم حقا سوى الزكاة».
وأما من أعطى عطية
، يود الحصول على أكثر منها ، من طريق الهدية أو الربا (الفائدة) في التجارات ،
فلا ثواب له عند الله تعالى ، كما جاء في آية أخرى : (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ (٦)) [المدثر : ٧٤ / ٦].
أي لا تعط عطاء تريد أكثر منه ، وهذا لا خير فيه ولا ثواب. قال ابن عباس : نزلت في
قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى تمويلهم ونفعهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في
أموالهم على جهة النفع لهم.
وأما العطاء الحسن
الذي يحقق الثواب لصاحبه ، فهو الزكاة ، أي من أعطى صدقة ، يقصد بها وجه الله
تعالى وحده ، بقصد عبادته وإرضائه ، أو من أعطى زكاة ، تنمية لماله وتطهيرا ، يريد
بذلك وجه الله تعالى ، فذلك هو المحقق للثواب الجزيل ، وهو الذي يجازى به صاحبه
أضعافا مضاعفة على ما شاء الله تعالى له . وذلك كما جاء في آية أخرى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢ / ٢٤٥]
وقال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)) [الحديد : ٥٧ / ١١].
__________________
وكل من الزيادة
والنماء داخل في رزق الله المحدد لكل إنسان ، لأن الله هو الخالق الرازق الذي يرزق
الإنسان من تاريخ ولادته حتى وفاته ، ثم يميته بعد حياته ، ثم يحييه يوم القيامة
للحشر والبعث ، هل من آلهتكم أيها المشركون ، الذين تعبدونهم من دون الله
وجعلتموهم شركاء ، من يفعل من ذلك شيئا ، أي من الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء؟!
لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك ، تنزه الله وتقدس ، وتعاظم عن أن يكون له
شريك أو نظير ، أو ولد أو والد ، بل هو الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد. وهذا
تقريع وتوبيخ للكفار المشركين.
إن من يعتقد بأن
الله وحده لا شريك له هو ربه وخالقه ، وهو معبوده بحق ، يتجه إليه وقت الشدة
والرخاء وفي كل حال ، يحقق له آماله ويرزقه من خيراته ما يشاء.
جزاء المفسدين والصالحين
لقد تعقدت الحياة ،
وظهرت فيها ألوان مختلفة من الفساد والأطماع ، وتفنن الناس في ابتداع المنكرات
وأصناف الأذى والضرر بأنفسهم وبغيرهم ، وبقي أهل الإيمان الحق في حصن حصين من
الانزلاق والتردي في الضلالات ، وأقبلوا على ساحات الرضا الإلهي بدافع من ايمانهم
بربهم ، وترقبهم مقابلة خالقهم ، والاستعداد لعالم الجزاء والحساب الشديد. واقتضى
العدل الإلهي أن يجازي الله المفسدين بإفسادهم سوء العاقبة والمصير ، وأن يكرم
الصالحين المؤمنين بأفضاله ومكارمه ، والله في حال العقاب ساخط غاضب ، وفي حال
الإحسان راض عفوّ كريم ، قال الله تعالى مبينا قانون الحساب الإلهي :
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُشْرِكِينَ
(٤٢)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ
كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْكافِرِينَ (٤٥))
[الروم : ٣٠ / ٤١
ـ ٤٥].
لقد عم البلاد في
أرجاء البر والبحر ظهور الخلل والانحراف ، وقلة النفع والمطر ، وكثرة القحط والجدب
أو التصحر ، بسبب شؤم المعاصي وكثرة الذنوب ، من الكفر والظلم وانتهاك المحرّمات ،
والتجرؤ على الإنسان ، بعد انتشار الأمن وعموم الخير والرخاء ، وذلك ليذيقهم الله
جزاء بعض أعمالهم وسوء أفعالهم من المعاصي والآثام واحتجاب الخير وظهور الشر ، وفي
ذلك منفعة للناس ، لأنه ربما يرجعون عن غيهم ومعاصيهم ، كما جاء في آية أخرى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ٧ /
١٦٨].
ثم أراد الله لفت
نظر الناس والاتعاظ بمصائر الماضين المفسدين ، فقل أيها الرسول للمفسدين والمشركين
، تقلبوا في البلاد ، وتأملوا بمصير من قبلكم ، وكيف أهلك الله الأمم السابقة ،
وأذاقهم سوء العذاب ، بسبب كفرهم وقبح أعمالهم ، حيث كان أكثرهم مشركين بالله شركا
ظاهرا لا خفاء فيه.
وبادر أيها النبي
ـ باعتبارك قدوة الأمة ، ومن تبعك من أهل الإيمان إلى الاستقامة على طاعة الله ،
وفعل الخير ، ووجّه نفسك كلها وبإخلاص للعمل بالدين القويم ، وهو دين الإسلام ، من
قبل مجيء يوم القيامة الذي لا مرد ولا مانع منه ، فلا بد من وقوعه ، وفي ذلك اليوم
يتفرق فيه الناس بحسب أعمالهم ، ففريق في الجنة ، وفريق في النار والسعير.
وجزاء كل فريق
بحسب عمله ، ممن كفر بالله وكتبه ورسله ، وكذب باليوم
__________________
الآخر ، فعليه
وبال كفره وكذبه ، وإثمه ووزره ، ومن آمن بالله وكتبه ورسله وباليوم الآخر ، وعمل
صالح الأعمال ، فأطاع الله تعالى فيما أمر ، وانتهى عما منعه الله عنه ، فإنه يعدّ
لنفسه المهاد المريح ، والمرتع الخصب الفسيح ، والمجال المطمئن. وقوله تعالى : (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطّئون ويهيئون ، وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها
إلى الأحوال والمراتب.
وسبب التمييز في
الجزاء : جزاء الباغي أو الظالم ببغيه وظلمه ، وجزاء المؤمن المستقيم باستقامته ،
هو أن الله تعالى يريد إحقاق الحق وإقامة العدل ، فيجازي المؤمنين الذين يعملون
الصالحات تفضلا منه وإحسانا بالنعيم المقيم ، وجنان الخلد ، وفضل الله شامل ،
وعطاؤه كبير. وأما الكافرون فإن الله يبغضهم ويعاقبهم ، عقاب حق وعدل لا جور فيه ،
وهذا تهديد ووعيد للكفار. وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ
الْكافِرِينَ) ليس الحب بمعنى الإرادة والعاطفة ، ولكن بمعنى : لا يظهر
عليهم أمارات رحمته ، ولا يرضاه لهم دينا.
إن تقسيم الفريقين
إلى طائعين وعصاة يوم القيامة ، كان بسبب أعمالهم في الدنيا ، والدنيا مزرعة
الآخرة ، فهنيئا لمن وفق للعمل الصالح ، والشقاء كل الشقاء لمن انحرف وجحد.
آيات قدرة الله ووحدانيته
عجبا لأمر الناس
مع ربهم ، ينعم عليهم بشتى النعم ويخلقهم ويرزقهم ، ثم لا يهتدون إليه بمحض عقولهم
، وسلامة تفكيرهم ، حتى إنه سبحانه احتاج إلى إقناعهم بوجوده ووحدانيته ، وأقام
الأدلة الكثيرة من المحسوسات المشاهدة على ذلك ، مما لا يدع أي مجال للشك في هذا ،
وما أجمل الآيات القرآنية المسوقة من مشاهد الكون على
إثبات القدرة
الإلهية ، فإن كل إنسان يحسّ بالتفاعل مع الموجودات حوله ، ويدرك إدراكا تاما ،
جمال الكون وإبداعه ، وما فيه من عجائب الخلق والإبداع الإلهي المرشد إلى المقصود
، والدال على المعبود بحق ، قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا
نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))
[الروم : ٣٠ / ٤٦
ـ ٥٠].
هذه أدلة حسية تدل
على قدرة الله وتوحيده ، تقتضي كل عاقل متأمل بأن يدرك أنه لا مشاركة للأوثان فيها
، وهي محض السلطان الإلهي ، وأنه تعالى المهيمن على كل شيء في الوجود والمسيّر
والمحرك له ، وأول الأدلة : أن الله تعالى يرسل الرياح مبشرة بالخير ونزول المطر ،
الذي يحيي الأرض بعد يبسها ، ويفيد الإنسان فائدة كبري ، فيذيفه من آثار رحمته بالمطر
، فيحيي العباد والأراضي ، كما أنه سبحانه يرسل الرياح لتلقيح الأشجار ، ولتسيير
السفن الشراعية في البحار ، ولتمكين المسافرين والتجار من ممارسة التجارة ، وطلب
الفضل الإلهي والمكاسب المشروعة ببذر بذور الأطعمة وغيرها ، وليشكر الناس ربهم على
ما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة التي لا تحصى.
ثم آنس الله نبيه
محمدا صلىاللهعليهوسلم بمثل من أرسل من الأنبياء السابقين ، ثم وعده تعالى ووعد
أمته بالنصر على الأعداء ، إذ أخبر أنه جعله حقا عليه
__________________
تبارك وتعالى.
فتالله إن كذبك قومك يا محمد ، فلست بأول مكذّب كذبه قومه ، فلقد أرسل الله رسلا
كثيرين إلى أقوامهم ، فأقاموا الأدلة الواضحة على صدق رسالتهم ، فكذبهم قومهم كما
فعل قومك ، فانتقم الله ممن كذبهم وعارضهم ، ممن أجرم وجنى على نفسه ومجتمعة ،
وهذا هو الذي يحصل من كل مكذّب عاص ، ونجى الله أهل الإيمان ، وكان حقا مستحقا على
الله تحقيق النصر للمؤمنين ، العاملين بمقتضى إيمانهم.
أما كيفية إنزال
الأمطار : فهي أن الله سبحانه يرسل الرياح على وفق إرادته ومشيئته وحكمته ، فتحرك
السحب أو الغيوم المنعقدة من ذرأت بخار الماء ، فتنتشر في السماء كيف يشاء الله ،
ثم يجعلها قطعا متفرقة ذات أحجام مختلفة ، خفيفة أو كثيفة مشبعة بالرطوبة ، فترى
أيها الناظر كيف يخرج المطر من وسط السحب ومن خلالها المختلفة ، وإذا أصاب الله
بها من يشاء من العباد إذا هم تغمرهم البهجة والفرحة ، والاستبشار بالخير والنعمة
السابغة.
وإن كان الناس من
قبل نزول هذا المطر قانطين يائسين من نزوله ، لتأخر المطر ، وبطء نزول الغيث ،
فتغمرهم رحمات الله تعالى وأفضاله العديدة.
فانظر أيها الرسول
ومن آمن برسالتك نظرة تأمل إلى آثار رحمة الله السابغة ، كيف يحيي الأرض بالنبات
والزرع والشجر والثمر والعشب بعد الجفاف ، مما يدل على سعة رحمة الله وإحسانه.
إن الذي أنزل
المطر وأنبت النبات قادر على إحياء الأموات ، كإحياء الأراضي بعد يبسها بالخضرة ،
والله تعالى تام القدرة على كل شيء ، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ،
والبدء والإعادة سواء عنده. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم ، مثل قوله
تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ
مَرَّةٍ
وَهُوَ
بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ
ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس : ٣٦ / ٧٨ ـ ٨١].
جحود النعمة
غريب أمر الإنسان
، تراه مع غيره من الناس إذا قدّم له معروفا ، أكبره وشكره ، وتذلل بين يديه ، ثم
يحرص على رد الجميل ومكافأة المعروف إما بالهدية وإما بالثناء باللسان في
المناسبات المختلفة على ملأ من الناس. لكن هذا الإنسان مع الأسف جحود للنعمة
الإلهية ، مع أنها أعظم وأدوم ، وأبقى أثرا ، ولا تحتاج إلا للإقرار بالنعمة والاعتراف
بالمنعم وهو الله ، وبمقابلة الفضل الإلهي بالإصغاء لأمر الله وطاعته ، واجتناب
نهيه ومعصيته ، وفي الحالين من امتثال الأمر والبعد عن النهي ، يعود أثر ذلك على
الإنسان بالخير العميم والنفع التام ، قال الله تعالى مبينا سوء حال الكافرين ،
وتنكرهم لفضل الله وإحسانه :
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ
إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))
[الروم : ٣٠ / ٥١
ـ ٥٣].
أخبر الله تعالى
في هذه الآيات عن سوء أحوال الكافرين ، وتقلب ابن آدم في أنه بعد الاستبشار بالمطر
، إذا بعث الله ريحا ضارة ، فاصفرّ بها النبات ، ظل يكفر قلقا منه ، وقلة توكل على
الله ، وعدم تسليم لله عزوجل ، والمعنى : تالله لئن بعثنا ريحا سامة ، حارة أو باردة ،
على نبات أو زرع أو ثمر ، فرأى الناس ذلك الزرع قد اصفر ،
ومال إلى الفساد
بعد خضرته ، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر بالمطر ، يجحدون نعم الله التي أنعم
بها عليهم.
فلا تحزن أيها
النبي على إعراض مشركي مكة وأمثالهم عن دعوتك ، بعد إيراد أدلة القدرة الإلهية على
البعث وعلى توحيد الله ، فإنك لا تستطيع إفهام الموتى ، أو إسماعهم سماع تدبر
واتعاظ ، ولا تقدر إسماع دعوتك أهل الصمم عن الحق ، إذا أدبروا عنك ولم يقبلوا
هدايتك ، فإنهم أشبه بالموتى في القبور ، وبفاقدي حاسة السمع من المعاقين ، لسدّهم
منافذ الهداية ، وفقد الاستعداد لسماع كلمة الحق. وليس في مقدورك أيها النبي هداية
أهل العمى عن رؤية الحق ، والرد عن الضلالة ، فإن الهداية إلى الله تعالى ، وهو
القادر على إسماع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، وإنه تعالى يفعل ما يشاء ،
بهداية من يريد ، وإضلال من يريد ، وليس ذلك لأحد سواه.
وما أنت يا محمد
بمسمع إسماعا ينفع ويجدي إلا من آمن بالله ربا ، وبالقرآن إماما ، وبآيات الله
برهانا وحجة ، وبتوجيهات الرب إلى أفضل المقاصد وأقوم الطرق ، وهؤلاء المؤمنون على
هذا النحو هم المسلمون ، أي الخاضعون لله تعالى ، المطيعون لكل ما أمر ونهى ،
السامعون إلى الحق سماع إعظام وإكبار ، وامتثال واتباع.
ليس في قدرتك إذن
يا محمد هداية أحد ، ولا عليك أن تهدي أحدا ، ما عليك إلا البلاغ المبين ، وإبلاغ
الدعوة إبلاغا حسنا بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذا كله من إبعاد
السماع عن عقول الكفار وقلوبهم يقصد به اليأس من استجابتهم للإسلام والقرآن ، بسبب
موقفهم المعاند وآرائهم العنيدة ، واستكبارهم عن الإذعان للحق. وهذا لا يعارض
الثابت في السنة النبوية من سماع الموتى كلام الأحياء ، والاستئناس بزوار القبور
الذين يمتثلون الأوامر والآداب الإلهية ، من غير تبرم ولا تسخط ولا معارضة للقضاء
والقدر. فلقد أجمع السلف على هذا ، وشرع
السلام على الموتى
، روى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من رجل يزور قبر أخيه ، ويجلس عنده إلا استأنس به ،
وردّ عليه حتى يقوم».
وقد ثبت أن النبي صلىاللهعليهوسلم زار قبور شهداء أحد ، وسلّم عليهم ، ودعا لهم بالعفو
والعافية من البلاء والعذاب.
أطوار الحياة وأحوال البعث
إن في إحياء الأرض
بالأمطار بعد موتها أو يبسها ، وفي أدوار خلق الإنسان التي يمر بها من الاجتنان ،
فالطفولة ، فالكهولة ، فالشيخوخة ، لدلالة قاطعة ، وعبرة واضحة على قدرة الله
التامة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، والمتصف بهذه القدرة التي لا يتصف بها سوى الله عزوجل قادر على إحياء الموتى وبعثهم من القبور ، وإعادتهم للحساب
والجزاء ، والاصطدام بالحقيقة الكبرى القاطعة ، وهي أن الدنيا مثل الساعة التي
تمضي ، وأن الآخرة دار الخلود والبقاء ، وأن الإنسان مغرور مفتون ، قاصر النظر حين
يستغني بالدنيا الفانية عن الآخرة الخالدة الباقية ، وحينئذ لا ينفع الندم ، ولا
نجاة لمن ظلم ، قال الله تعالى موضحا هذه الأحوال :
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا
غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ
فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ
لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))
[الروم : ٣٠ / ٥٤
ـ ٥٧].
__________________
هذه الآيات تبين
أيضا أن الأوثان عاجزة عن الخلق والإيجاد ، وأن الله هو الخلاق المبدع ، وجامع
الناس ليوم لا ريب فيه. إن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان في أطوار متدرجة من
الضعف إلى القوة ، ثم العجز ، خلقه جنينا في بطن أمه من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة ، ثم كوّن عظامه ، ثم كسا العظام لحما ، ثم ولد طفلا جميلا ، وكل هذه مراحل
ضعف ، ثم صار شابّا قويّا ، وهذه هي مرحلة القوة والشباب ، ثم صار كهلا فشيخا
عاجزا ذا شيبة ووقار ، وهذه هي مرحلة ضعف من نوع آخر.
وهذا الانتقال
المتتابع من طور إلى طور آخر دليل على القدرة الإلهية الخالقة التي لها آثار
وبصمات واضحة ، على كل مرحلة من مراحل الحياة الإنسانية ، والله يخلق ويبدع ما
يشاء من ضعف وقوة ، وبدء وإعادة ، وهو تام العلم بأحوال مخلوقاته ، كامل القدرة
على كل ما يشاء. ومن خلق خلقا قادر على إعادته مرة أخرى. ومصير المخلوقات كلها إلى
الجمع والحساب يوم القيامة.
ويوم تقوم القيامة
ويبعث الله الناس من القبور ، يقسم المجرمون الكافرون الآثمون أنهم ما أقاموا في
الدنيا أو في القبور ، إلا ساعة واحدة ، أي مدة قليلة من الزمان ، قاصدين من هذا
القسم أنهم لم يدركوا الحقيقة الكبرى ، ولم يمهلوا المدة الكافية للتأمّل والإيمان
، والعمل والإحسان ، فيعذروا على ما وقعوا فيه من تقصير ، ومثل ذلك الصّرف عن
الحقيقة والواقع في مدة المكوث في الدنيا ، كانوا يصرفون عن الحق إلى الباطل ، ومن
الصدق إلى الكذب ، والمراد أنهم صاروا كاذبين فيما قالوا : ما لبثنا غير ساعة ،
وأن إصرارهم على الكفر ، صرفهم عن الاعتقاد الصحيح ، وعن الإيمان باليوم الآخر.
ثم وصف الله تعالى
جواب أهل الإيمان على أولئك الكافرين منكري البعث : وهو لقد لبثتم في علم الله
وقضائه مدة طويلة في الدنيا ، من يوم خلقكم إلى يوم بعثكم.
وإن كنتم منكرين
للبعث ، فهذا يومه الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره ، غير أنكم كنتم تجهلون وقوعه ،
لتفريطكم في النظر والتأمّل في المستقبل الموعود.
ففي يوم القيامة
لا ينفع أهل الظلم والكفر عذرهم عما قصّروا به ، ولا تقبل منهم توبتهم ، لأن وقت
التوبة هو في دار الدنيا ، وهي دار العمل ، وأما الآخرة فهي دار الحساب والجزاء ،
والمراد لا يقبل منهم العذر ، ولا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعاتبون على ذنوبهم ، ولا
يقبل منهم العذر لإزالة العتب ، وإنما يعاقبون على ذنوبهم وسيئاتهم ، لأن الحال
حال قضاء وحكم ، وتنفيذ للأحكام الصادرة ، وليس المقام مقام اعتذار ، فإن وقته قد
فات وهو في الدنيا.
موقف الكفار من ضرب الأمثال القرآنية
لقد وقف كفار قريش
موقفا قاسيا عنيدا من القرآن الكريم وبيانه ، بسبب قسوة قلوبهم وغلظ طباعهم ، على
الرغم من تبسيط القرآن البيان ، وقوة الإقناع ، وإظهار الحق الساطع ، وهذا الموقف
أدى بهم إلى السقوط من التاريخ ، والهزيمة والضياع ، وإلى أن تصبح قلوبهم محجوبة
عن نفاذ الخير إليها ، وناسب ذلك الأمر بالصبر من النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد تحقق وعد الله له بالنصر ، وثباته على الدعوة إلى
ربه إلى أن وافاه الأجل ، وأثلج الله صدره قبل ذلك بقدوم الوفود العربية إلى
المدينة المنورة تعلن ولاءها للنبي ، وإيمانها برسالته ، والدفاع عنه دفاع
الأبطال. وهذه كانت خاتمة سورة الروم في هذه الآيات الآتية :
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ
يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))
[الروم : ٣٠ / ٥٨
ـ ٦٠].
هذا لون من ألوان
البيان والإنذار السابق قبل إنزال العقاب وهذه دعوة صريحة هادئة تتجاوب مع العقول
المتفتحة قبل الوقوع في ورطة الهزائم المتوالية ، ولكن مشركي مكة بما عرفوا به من
قسوة الطباع ، لم يذعنوا لنداء الفكر ، على الرغم من أن الله تعالى أوضح لهم الحق
، وضرب لهم الأمثال الدالة على وحدانية الله تعالى ، وعلى إمكان البعث وتحقيقه ،
وعلى صدق النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإخلاصه وتفانيه في تبليغ دعوة ربه.
وتالله أيها النبي
لو جئتهم بأي آية تبين لهم الحق ، لا يصدقون بها ، ويكفرون ، ويصفون أهل الحق
بالأباطيل ، وينعتون الآيات بأنها خرافة وسحر ، وأن النبي ومن آمن معه جماعة
مبطلون ، يتبعون السحر والباطل.
وترتب على إعراضهم
عن الإيمان عنادا واستكبارا أن ختم الله على قلوبهم ، وتحتم عليهم الكفر ، لسوء
استعدادهم ، وإصرارهم على تقليد آبائهم وأجدادهم ، من غير وعي ولا تبصر ، فلم تعد
قلوبهم يدخلها النور ، بسبب العناد ، والجهالة.
وموقف العناد
يتطلب الوقوف بحزم وصبر أمام هؤلاء الكفار المعاندين ، لذا أمر الله نبيه بأن
يعتصم بالصبر على أذى المشركين ، وبمتابعة تبليغ رسالته ، وقوّى الله نفسه بتحقيق
الوعد ، فإن وعد الله الذي وعدك به أيها النبي من نصره إياك عليهم ، حق ثابت لا شك
فيه ، ولا بد من إنجازه وإنفاذه.
ثم نهى الله نبيه
عن الانفعال والاهتزاز لكلام المشركين ، أو التحرك واضطراب النفس لأقوالهم ، إذ هم
لا يقين لهم ولا بصيرة ، فلا يحملنك شيء على الخفة والطيش ، والقلق ، جزعا من
أقوالهم وأفعالهم ، فإنهم قوم ضالون ، وتابع أداء رسالتك ، فإنها رسالة الحق والنور
، والخير ، والاستقامة ، ولا يستفزنك الذين لا يوقنون بالله ولا باليوم الآخر ،
فالله ناصرك وحافظك من الناس ، وخاذلهم وهازمهم هزيمة منكرة.
وإذا كان هذا
الخطاب بالصبر موجها للنبي صلىاللهعليهوسلم ، فإن المراد به أمته ، فعلى الأمة أن تصبر في تبليغ
الدعوة الإسلامية لكل أمم الأرض ، وأن تثبت في بيان أصول الدعوة إلى الإيمان ، لأن
حبل الخير متصل دائم إلى يوم القيامة ، وحبل الخير لا يكون إلا بجهود الدعاة إلى
الله تعالى.
ولا يضير الداعية
إلى ربه أن يقف الكافر الجاحد موقف العناد ، والتكبر ، أو السخرية والاستهزاء ، لأن
هذه هي مواقف الجهلة المستبدين ، الذين لا يصغون لنداء العقل والوجدان ، والتأمل
في مشاهدات الكون ، الدالة على وجود الله وسلطانه ، وقدرته ، وتوحيده ، وتفرده
بالخلق والإيجاد.
إن إشراقة القلب
بالإيمان لا تحتاج إلى جهد كبير ، فمن أصغى لنداء العقل الحر السوي ، وتأمل في
خزائن الكون وأسراره ، وحاكم محاكمة عقلية سريعة في ربط الأشياء بأسبابها ، سهل
عليه الانصياع لقواعد الإيمان الصحيحة ، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ومن وجد حلاوة الإيمان في قلبه ، بادر إلى توسيع آفاق المعرفة بالله وأسمائه
وصفاته ، وسارع إلى طاعة الله في كل مأموراته ومنهياته ، وحينئذ يجد السعادة
والطمأنينة تغمر قلبه ، وتفيض عليه بالفيوضات الإلهية السخية سخاء لا حدود له.
تفسير سورة لقمان
مزايا القرآن وأهل الإيمان
إن أعظم هدية
ثمينة للبشرية هي هدية إنزال القرآن الكريم ، بما اشتمل عليه من بيان الدستور
الإسلامي ، والأوامر والنواهي ، وأحكام الشريعة ، وآداب الإنسان وتربيته تربية
قويمة ، تصل به إلى شاطئ الأمن والسعادة والاستقرار ، والنجاة من العذاب والمهالك.
فمن آمن بالقرآن كلام الله تعالى ، استضاء قلبه بالإيمان ، وأدرك أسرار الحياة
الصحيحة ، وعلم بأحوال المستقبل الذي ينتظره ، من غير أن يملك فيه إحداث أي تغيير
أو تعديل أو إضافة أو نقص ، لأنه يجد في العقل إرشادا ، وفي النفس استجابة وهوى
صحيحا ، وفي السلوك والمنهج أصالة وقوة وسدادا ، وهذا ما أبانته الآيات في مطلع
سورة لقمان ، حيث جمع الله في ذلك المطلع بين بيان خصائص القرآن ، وصفات المؤمنين
به حق الإيمان ، قال الله تعالى :
(الم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))
[لقمان : ٣١ / ١ ـ
٥].
سورة لقمان مكية
غير آيتين ، أولهما ـ كما قال قتادة ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [٢٧]. والآيات المكية تعنى بغرس أصول العقيدة الصحيحة ،
ونشر الفضيلة ، ومقاومة الرذيلة ، وبيان عيوب المجتمع الجاهلي ، من أجل تجاوز
انحرافاته وفوضويته ، والتخلص من سيئاته وموبقاته.
افتتحت الآيات
الكريمة بأحرف (الم (١)) للتنبيه إلى خطورة ما يتلى بعدها ، ولتحدي العرب بالإتيان
بمثل أقصر سورة من القرآن ، تجمع بين سمو البلاغة والنظم ، وبين جلال المعاني
والتوجيهات ، وتقترن هذه الأحرف في الأعم الأغلب بالكلام عن القرآن الكريم للربط
بين هذه الحروف ، وبين مادة القرآن كتاب البشرية جمعاء.
تلك هي آيات
القرآن المتميزة بالحكمة التي لا خلل فيها ولا عوج ، ولا تتناقض ولا تتعارض مع بعضها
، وإنما هي آيات بينات واضحات.
والغاية من تنزيل
القرآن الكريم : هي أنه هداية للطريق الأقوم الصحيح ، وإنقاذ من الجهالة والضلالة
، وإسعاد للبشرية ، ورحمة واضحة للذين أحسنوا العمل ، وأتقنوا الفعل ، واتبعوا
الشريعة ، وأقاموا فريضة الصلاة في أوقاتها وكيفياتها المشروعة دون زيادة أو نقص ،
وآمنوا بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء عدل ، ورغبوا إلى الله في الثواب ، بقصد
ابتغاء مرضاة الله تعالى.
هؤلاء المؤمنون
الذين أصلحوا العقيدة والعمل : هم وحدهم لا غيرهم أهل الهداية والفلاح من ربهم ،
وأهل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
إن الله تعالى وصف
المؤمنين بصفة المحسنين ، لأنهم أيقنوا بالبعث واليوم الآخر ، وآمنوا بما جاء به
الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأقاموا الصلاة بخشوع ، تامة الأركان والشرائط ، وأدّوا
الزكاة الفريضة الاجتماعية التي تسهم في تخفيف ويلات الفقر والحرمان ، وهذا منهاج
يجمع بين العبادة البدنية لإرضاء الله كما يريد في الصلاة المشروعة ، وبين العبادة
المالية ، لسد حاجات المحتاجين ، وإنقاذ الفقراء والمساكين. ومن أوصافهم : الإخلاص
وعبادة الله تعالى ، كما جاء في قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين سأله
جبريل عن الإحسان
، فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» .
يطالب القرآن
الكريم العالم المؤمن كله بأن يكونوا من أهل الإحسان في النية والقول والعمل ،
فبالنية يتحقق الإخلاص لرب العالمين ، وبالقول الحسن يتم التعبير عما يكنّ في
القلب من إعلان الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ،
وبالفعل الحسن تؤدى الصلاة والزكاة على نحو متقن ، كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) [البينة : ٩٨ / ٥].
وصلاح القلب
بالنية المخلصة والإيمان الحق ، مع صلاح القول ، وصلاح العمل يحقق كل ذلك هدف
الإسلام الأمثل ، لتحقيق استقامة النفس ، وتصحيح الكلام والتأدب بالأدب القويم ،
وتقويم السلوك والأعمال التي هي معيار تقدم المجتمع ورقي البشرية.
أهل اللهو وأهل العمل الصالح
تميزت مجموعات
الآيات القرآنية الواردة بإيجازها واختصارها : بعقد موازنة بين الأضداد ، وتعارض
الفئات ، ليعرف الناس ألوان الفرق ، ويتبينوا الهدى من الضلال ، ويعرفوا مصير كل
فئة أو فرقة ، لأن كل موازنة قرآنية يعقبها الله تعالى ببيان ثمرات الأعمال
والأفعال ، والثمرة متفاوتة ، فأهل اللهو من الكافرين لهم العذاب الأليم ، وأهل
الإيمان والعمل الصالح لهم المقام الكريم. والطريق واضح
__________________
وسهل ، فإن البعد
عن هداية القرآن يكون بسبب العناد والاستكبار ، وهذا داء ليس من الصعوبة التخلص
منه. والإقبال على هداية القرآن لا يحتاج لغير الإيمان الصحيح ، واستقامة السلوك
والعمل بما يرضي الله تعالى ، من مأمورات نافعة قليلة ، واجتناب منهيات ضارة
محدودة ، قال الله تعالى مبينا هذين المنهجين :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ
وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))
[لقمان : ٣١ / ٦ ـ
٩].
الآية الأولى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ) نزلت ـ فيما ذكر مقاتل ـ في النضر بن الحارث ، كان يخرج
إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم ، فيرويها ويحدث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا
يحدثكم حديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ،
فيستملحون حديثه ، ويتركون سماع القرآن.
والمعنى : بعض
الناس يستبدل بالنافع الضرر ، وبالقرآن الحكايات والأساطير الفارغة ، فيشتري لهو
الحديث من غناء وفجور ونحوه ، وهو المقترن بالكفر ، من أجل صرف الناس عن استماع
القرآن ، وإضلالهم عن الدين الحق : دين الإسلام ، بغير علم صحيح ، ويتخذ آيات الله
مهزوءا بها ، وأولئك وهم دهاقنة الكفر والضلال ، لهم عذاب مؤلم في نار جهنم أشد
الإيلام. واللهو : كل باطل ألهى عن الخير.
وهذه الآية التي
تذم اللهو الباطل تدل على تحريم مبتدعات الطرقات الصوفية من سماع الطبول والمزامير
أثناء الذكر. ومن يشتري لهو الحديث الباطل إذا تليت عليه
__________________
آيات القرآن أدبر
وأعرض عنها متكبرا متجبرا ، وأصمّ أذنيه عن سماعها ، كأن في كلتا أذنيه ثقلا وصمما
، لأنه يتأذى بها ، ولا ينتفع منها.
ومن أجل بيان
الفرق بين الأشقياء والسعداء ، أوضح الله تعالى أن الذين آمنوا بالله ربا واحدا لا
شريك له ، وصدقوا رسل الله الكرام من غير استثناء أحد ، وعملوا صالح الأعمال بأداء
الفرائض والتزام الأوامر الشرعية ، واجتناب المناهي والمفاسد ، أولئك لهم جنات
النعيم ، يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والطيبات من المأكل والمشرب والملبس والمراكب
وغيرها ، وهم فيها مقيمون على الدوام ، لا يتحولون عنها ولا يملّون.
وهذا كائن لا
محالة ، ووعد كريم من الله الذي لا يخلف وعده ، فهو وعد حق ثابت ، صادر من الله
تعالى القوي القاهر الذي لا يغلب ، الحكيم الذي يتقن كل شيء ، ويضعه في موضعه
المناسب له ، ويصدر عنه كل قول وفعل رشيد ، بقصد هداية الناس. وتلك الهداية هي
مهمة القرآن الكريم ، فهو كتاب حق وإرشاد وتقويم ، ومنار لكل خير ، وموضع كل عزة
ونصر ، وقد جاءت هذه الأوصاف للقرآن في آيات كثيرة ، منها : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ
أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩) [الإسراء : ١٧
/ ١٧].
ويؤكد الله تعالى
مهمة القرآن الإصلاحية في مناسبات متعددة ، لحمل الناس على الاستقامة والرشاد ،
كما في قول الله تعالى : (هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)) [فصلت : ٤١ / ٤٤].
وفي قول الله سبحانه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلَّا خَساراً (٨٢)) [الإسراء : ١٧ /
٨٢].
وأما بعد هذا
البيان والإعذار ، فيكون المعرضون عن القرآن غير معذورين ،
لاختيارهم بأنفسهم
طريق الغواية والضلال ، ومعاداة هداية الله السابغة. وهذه الآيات لبيان حال الكفرة
وتوعدهم بالنار على أفعالهم ، ثم بيان أحوال المؤمنين وما وعدهم به الله من جنات
النعيم ، ليتبين الفرق.
خلق السماوات والأرض
يتكرر في القرآن
الكريم إيراد الأدلة والبراهين الحسية المشاهدة على إثبات قدرة الله تعالى ووجوده
ووحدانيته ، مثل إنزال المطر ، وخلق الإنسان ومروره بأطوار معينة ، وخلق السماوات
والأرض وما بينهما ، والخلق والإبداع دليل قاطع على وجود الله وقدرته ، لذا تحدى
الله به عبدة الأوثان وغيرهم من المشركين لإدراك الفرق الواضح بين أوثانهم العاجزة
عن إيجاد شيء ، وعن جلب النفع لأحد أو دفع الضّر عنه ، وبين الله القادر على كل
شيء ، ومنها الخلق والإحياء ، والإماتة والبعث ، ويؤدي ذلك كله لإثبات الوحدانية
لله تعالى ، وإبطال الشرك والوثنية ، والدعوة لاتباع الحق الذي جاءت به الرسل ،
قال الله تعالى مبينا قدرته في خلق السماوات والأرض :
(خَلَقَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))
[لقمان : ٣١ / ١٠
ـ ١١].
من أدلة القدرة
الإلهية الفائقة كل حد أن الله تعالى خلق السماوات السبع بغير أعمدة ، مرئية أو
غير مرئية ، فلا يرى أحد بالعين المجردة ولا بالمكبرات السماوية الدقيقة وجود
أعمدة للسماوات ، وهي قائمة بقدرة الله تعالى ، ويظن الناظر أن السماوات كالأرض في
الظاهر مبسوطة ، وهي في الحقيقة مستديرة ، لقول الله عز
وجل : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٢١ /
٣٣]. والفلك : اسم لشيء مستدير. وهي على أي حال مخلوقة بقدرة الله تعالى ، لا
بالمصادفة ولا بالطبيعة ، وهي فضاء ، والفضاء لا نهاية له ، ولا تزول إلا بقدرة
الله تعالى.
وجعل الله في
الأرض جبالا شوامخ ثوابت ، بثّت في الأرض وأرستها وثقّلتها ، لئلا تضطرب بأهلها ،
وتغمرها مياه البحار والمحيطات المحيطة بها ، ومن المعلوم أن المياه أربعة أخماس
الأرض ، واليابسة هي الخمس.
ونشر الله في
الأرض كل نوع من أنواع الحيوان التي لا يحصى عددها ، ولا يعلم أشكالها وأنواعها
إلا خالقها ، والمخلوقات البحرية كما قرر العلماء أكثر من المخلوقات البرية. وأنزل
الله من السماء أو السحاب مطرا يكون سببا لإنبات كل صنف كريم ، أي حسن المنظر ،
كثير المنفعة ، وافر العطاء والخير متقن الصنعة والتحكم.
أمام هذه
المخلوقات العجيبة ، والأصناف البديعة ، والخيرات الإلهية العميمة ، كيف يليق
بالإنسان جحود خالقها ، وترك عبادته ، لذا وبخ الله تعالى المشركين الذين يشركون
مع الله إلها آخر ، ونبههم بقوله : هذا المذكور من المخلوقات : هو من خلق الله
وفعله وتقديره وحده لا شريك له في ذلك. والخلق : بمعنى المخلوق. فأخبروني أيها
المشركون : ماذا خلق الذين تعبدونهم من غيره من الأصنام والأنداد والجمادات التي لا
نفع فيها ولا ضر؟!
وبعد توجيه هذا
التوبيخ وإظهار الحجة : وصف الله أولئك المشركين بالضلال ، فهم الظالمون الضالون
في إشراكهم مع الله غيره ، حيث قال الله تعالى : (بَلِ الظَّالِمُونَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل إن هؤلاء المشركين الذين عبدوا مع الله إلها آخر ،
في جهل وعمى ، وانحراف وكفر واضح ظاهر ، لا خفاء فيه ولا شبهة لكل من تأمله. إنه
تعالى جعلهم في
غاية الضلال وأقصاه. والمراد بسؤالهم أن يوجدوا ما خلق الأصنام والأوثان وغيرها
ممن عبد : أنهم لم يخلقوا شيئا ، بل هذا الذي فيه قريش هو ضلال مبين.
إن التحدي بإيجاد
شيء وخلقه هو أكبر وأعظم دليل على وجود الله وقدرته ، ولا يستوي الخالق وغير
الخالق ، كما جاء في آية أخرى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٦ / ١٧].
وصايا لقمان الحكيم لابنه
ـ ١ ـ
الشكر لله والتحذير من الشرك ومن عقوق الوالدين
إن فساد عقائد
المشركين يرشد إليه العقل السديد والحكمة ، وإن لم يكن هناك نبوة ، بدليل أن لقمان
الحكيم بحكمة الله تعالى : وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعمل ،
أرشده عقله إلى إثبات توحيد الله وعبادته ، والتخلق بالخلق الكريم من غير وساطة
نبي أو رسول .. ولم يكن لقمان على الراجح نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا كالخضر عليهالسلام ، قال ابن عمر رضي الله عنهما فيما أخرجه الحكيم الترمذي
في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «لم يكن لقمان نبيا ، ولكن كان عبدا كثير التفكير ،
حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنّ الله عليه بالحكمة وخيّره في أن يجعله خليفة
يحكم بالحق ، فقال : ربّ إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ، وإن عزمت علي
فسمعا وطاعة ، فإنك ستعصمني».
وكان لقمان قاضيا
في بني إسرائيل ، نوبيا أسود. وحكمه كثيرة مأثورة ، قيل له :
أي الناس شر؟ قال
: الذي لا يبالي إذا رآه الناس مسيئا. وهذه نصائحه في قول الله تعالى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ
لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))
[لقمان : ٣١ / ١٢
ـ ١٥].
المعنى : تالله
لقد أعطينا لقمان الحكمة : وهي العلم النافع والعمل به ، ومن مقتضى الحكمة : أن
اشكر لله شكرا جميلا على نعمه ومواهبه ، ومن يشكر الله فإنما يشكر لنفسه ، أي يحقق
النفع والثواب لنفسه ، وينقذها من العذاب ، ومن جحد نعمة الله عليه ، فأشرك به غيره
، وعصى أوامره فإنه يسيء إلى نفسه ، ولا يضر أحدا سوى ذاته ، فإن الله غني عن
العباد وشكرهم ، لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، محمود ، أي مستحق الحمد بصفاته
وذاته ، فهذا أمر بالشكر.
ثم حذر لقمان ابنه
من الشرك بالله ، فاذكر أيها النبي حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة ، فقال له
: يا ولدي ، اعبد الله ولا تشرك به شيئا ، فإن الشرك أعظم الظلم ، لتعلّقه بأصل
الاعتقاد فهو أعظم جرم ، ولكونه وضع الشيء في غير موضعه ، فهو ظلم محض لا موجب له
ولا سبب لوجوده.
ثم تخلل بين وصايا
لقمان وأثناء وعظه اعتراض بآيتين ، موجهتين من الله تعالى ، لا من كلام لقمان على
الراجح ، مفاد الآية الأولى : ولقد أمرنا الإنسان وألزمناه ببر والديه وطاعتهما
وأداء حقوقهما ، ولا سيما أمه ، فإنها حملته في ضعف على ضعف ،
من الحمل إلى
الطلق ، إلى الولادة والنفاس ، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين ، ثم تربيته ليلا
ونهارا حتى صار كبيرا ، وأمرناه بشكر الله على نعمته ، وبشكر والديه ، لأنهما سبب
وجوده ، ومصدر الإحسان إليه بعد الله تعالى.
وطاعة الوالدين
لها حدود : وهي الأمر بالمعروف ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وعلى هذا ،
فإن ألحّ والداك في الطلب على أن تشرك بالله في عبادته غيره مما لا تعلم أنه شريك
لله أصلا ، فلا تقبل ذلك منهما ، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو العصيان.
ولكن صاحب والديك
الكافرين في الدنيا مصاحبة كريمة بالمعروف ، بأن تحسن إليهما بالمال والعلاج ،
والتودد في الكلام والمحبة والرفق ، والوفاء بالعهد وإكرام صديقهما ، ما دام ذلك
في الدنيا ، واتبع سبيل المؤمنين التائبين في دينك ، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما
فيه ، ثم إلي مرجعكم جميعا ، فأجازيك أيها الولد على إيمانك ، وأجازيهما على
كفرهما إن كفرا ، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر.
نزلت هاتان
الآيتان في شأن سعد بن أبي وقاص ، وذلك أن أمه : وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ،
حلفت ألا تأكل ولا تشرب ، حتى يفارق ابنها سعد دينه ، ويرجع إلى دين آبائه وقومه ،
فلجّ سعد في الإسلام. فلما طال ذلك ، ورأت أن سعدا لا يرجع عن دينه أكلت .
دلت الآيتان على
الأمر ببر الوالدين ، ثم حكم الله بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي لأن طاعة
الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ، ولا في ترك فريضة عينية ، وتلزم طاعتهما في
المباحات. ويستحسن في ترك الطاعات الندب ، ومنه المشاركة في
__________________
الجهاد الكفائي ،
وإجابة الأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ، وذلك في حال خوف الهلاك عليها ونحوه مما
يبيح قطع الصلاة.
وصايا لقمان الحكيم لابنه
ـ ٢ ـ
مجموعة أوامر ونواه أساسية
جمع لقمان الحكيم
في وصايا ابنه بين أصول العقيدة وأصول الشريعة والأخلاق ، فأمره بأن يقدر قدرة
الله تعالى ، وأن يقيم الصلاة ، ويأمر بالمعروف الذي أمر به الله ، وينهى عن
المنكر الذي منعه الله تعالى ، ويصبر على المصاب ، ويحذر التكبر ، ويمشي متواضعا هينا
لينا ، خافضا صوته ، يكلم الناس بلطف ، ويبتعد عن غلظة القول ورفع الصوت أكثر من
اللازم. وهذه آيات كريمة تحكي لنا هذه الأوامر والنواهي :
(يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
(١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))
[لقمان : ٣١ / ١٦
ـ ١٩].
هذه بقية نصائح
لقمان الحكيم لابنه ، يقصد في النصيحة الأولى إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى ،
فيا بني ، إن الحسنة أو السيئة لو كانت تساوي وزن أصغر شيء ، مثل وزن حبة الخردل ،
وكانت في أخفى مكان ، كجوف صخرة ، أو في أعلى مكان
كالسماوات ، أو في
أسفل موضع كباطن الأرض ، أحضرها الله في يوم الحساب ، إن الله لطيف العلم ، يصل
علمه إلى كل شيء خفي ، خبير ببواطن الأمور. واللطف والعلم : صفتان لائقتان بإظهار
غرائب القدرة الإلهية.
ويا بني ، الزم
إقامة الصلاة : وهي العبادة المخلصة لوجه الله ، وأدّها كاملة الأركان والشروط ،
وأمر بالمعروف : وهو الذي يقره الشرع الإلهي ، وانه عن المنكر : وهو الذي يمنعه
الشرع الإلهي ، واصبر على المصيبة والشدائد والأذى ، إن ذلك المذكور : من عزائم
الأمور ، أي مما عزمه الله وأمر به. والصبر هنا للحض على تغيير المنكر وإن نالك
ضرر. وهذا إشعار بأن مغيّر المنكر يؤذى أحيانا ، وهذا على جهة الندب ، لا على سبيل
الإلزام ، وهذه الأوامر تشمل عظائم الطاعات والفضائل أجمع. ويا بني لا تعرض بوجهك
عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا ، أي بل كن متواضعا سهلا هينا لينا ، منبسط
الوجه ، مستهل البشر. ولا تسر في الأرض مختالا متبخترا ، جبارا عنيدا ، فإن تلك
المشية يبغضها الله تعالى ، والله يعاقب كل مختال في مشيه ، معجب في نفسه ، فخور
على غيره.
وامش مشيا متوسطا
معتدلا ، ليس بالبطيء المستضعف تزهدا ، ولا بالسريع المفرط الذي يثب وثب الشيطان.
والمشي مرحا : هو في غير شغل ولغير حاجة. ومشاة المرح : هم الملازمون للفخر
والخيلاء ، فالمرح : مختال في مشيته.
ولا ترفع صوتك
رفعا شديدا لا فائدة منه ، وأخفضه ، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع ، وتدل على
الغرور ، والاعتزاز المفرط بالنفس ، وعدم الاكتراث بالغير. وإن اعتدال الصوت أوقر
للمتكلم ، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه. وإن رفع الصوت أكثر من اللازم يشبه
صوت الحمير ، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، وذلك مما يبغضه الله تعالى ، لأن
أوله زفير وآخره شهيق. وأنكر الأصوات ، أي
أقبح وأوحش وراد
بكلمة (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الصوت : اسم جنس ، ولذلك جاء مفردا.
وفي ذلك دلالة على
ذم رفع الصوت من غير حاجة ، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذم. وأكد النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال : «إذا سمعتم صياح
الديكة ، فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير ، فتعوذوا بالله من
الشيطان ، فإنها رأت شيطانا».
ويلاحظ الحكمة في
توجيه النصائح ، فلما نهى لقمان ابنه عن الخلق الذميم ، ومستنكر الأخلاق ، رسم له
طريق الخلق الكريم الذي ينبغي له أن يستعمله ، من القصد في المشي : وهو ألا يشتط
في السرعة ، ولا يرائي في الإبطاء ، ولا يمشي مختالا متبخترا ، ولا يرفع الصوت
أكثر من المعتاد ، لأن غض الصوت أوقر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه.
إن دعوة الأنبياء
إلى الإيمان بالله وبقدرته ، وإلى عبادة الله وتوحيده ، وإلى إقام الصلاة ، والأمر
بالفضيلة ، ومحاربة الرذيلة ، والتواضع واعتدال المشي ، تلتقي مع مقتضى الحكمة
التي يتوصل إليها الحكماء من خلال التجارب والمعاملة.
توبيخ الكافر على جحود النعمة
إن كفر الكافرين
عقدة صعبة ، وكارثة خطيرة ، ومدعاة للتوبيخ واللوم ، لذا وبخ القرآن الكريم أهل
الشرك على شركهم ، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا وحسا في عالم السموات والأرض ،
وتسخير ما فيها لمنافعهم ، كما وبخهم على جحودهم نعم الله الكثيرة الظاهرة
والباطنة ، وكل ذلك لحمل المشركين على تصحيح اعتقادهم ،
وشكر ربهم ،
والتوجه نحو ما يصلح أمر آخرتهم ودنياهم ، وهذه آيات كريمة تدل على الغضب الإلهي ،
على سوء أفعال المشركين ، فقال الله تعالى :
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))
[لقمان : ٣١ / ٢٠
ـ ٢١].
هذه آية تنبيه على
الصنعة الدالة على الصانع ، وهو الله تعالى ، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام
كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات ، إنما هو من الله
المسخّر والمالك. لذا نبّه القرآن المشركين لهذا ، قائلا لهم : ألم تعلموا أيها
المشركون دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله تعالى وقدرته على كل شيء ، وإنعامه
عليكم ، فهو سبحانه الذي ذلّل لكم جميع ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم ،
تستضيئون بها في الليل والنهار ، ويسّر لكم جميع خزائن الأرض ، من معادن وأنهار
وبحار ، وأشجار وزروع ، وثمار ، ونحو ذلك من منافع الغذاء والشراب ، وأكمل عليكم
نعمه الظاهرة والباطنة ، أي المحسوسة والمعقولة ، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل.
والظاهرة أيضا : هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك. والباطنة : المعتقدات
الصحيحة من الإيمان ونحوه ، والعقل أو الفكر الإنساني.
وبعض الناس كالنضر
بن الحارث ونظرائه من زعماء الوثنية في مكة وغيرها ، على الرغم من إثبات الألوهية
بالخلق والإنعام ، يجادلون في توحيد الله وصفاته وإرسال الرسل ، بغير دليل معقول ،
ولا حجة صحيحة ، وإنما حجتهم التقليد الأعمى ، للآباء والأجداد ، واتباع الهوى
والشيطان ، لأنهم كانوا ينكرون وحدانية الله تعالى ، ويشركون الأصنام في الألوهية
، وليس عندهم علم واضح من هدى أو كتاب يبين لهم معتقدهم.
وإذا قيل لهؤلاء
المجادلين بالباطل في توحيد الله : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله ، من الشرائع
والأحكام الصائبة ، لم يجدوا حجة لتركها إلا اتباع الآباء الأقدمين ، فيما اعتقدوه
من دين ، وإلا التقليد المحض بغير حجة ، وهذا عجيب ، أيتبعونهم بلا دليل؟ ولو كان
اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم ، أو عذاب
النار المسعّرة ، أي فكأن القائل منهم يقول : هم يتبعون دين آبائهم ، ولو كان
مصيرهم إلى السعير ، والله يدعوهم إلى النجاة والثواب الجزيل والسعادة. وهذا
استفهام على سبيل التعجب والإنكار ، يتضمن التهكم عليهم ، وتسفيه عقولهم ،
والسخرية من آرائهم وأفكارهم.
إن محبة الله
لعباده تجعله ينبه على فساد حال الكفرة ، وسوء الاعتقاد ، وقبح الأفعال ، فهم
يسيرون في حياتهم ويعبدون أصنامهم بلا هدى قلب ، ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ،
ولا يتّبعون بذلك كتابا من الله يبشر بأنه وحي ، بل ذلك ادعاء منهم وتخرص ، وإذا
دعوا إلى اتباع وحي الله تعالى ، رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة ، فسلكوا طريق
الآباء والأجداد.
والعقل والمصلحة
يقضيان بضرورة تصحيح الطريق ومنهج الاعتقاد المنحرف ، والعودة إلى جادة العقيدة
الصحيحة ، وإلى العمل بكلام الله تعالى في القرآن المجيد ، حتى لا يفجأهم القدر
والموت ، ويصادمهم يوم القيامة بأهواله ورهباته.
حال المؤمن والكافر
يتفاوت حال المؤمن
والكافر تفاوتا كبيرا لا نظير له في الدنيا والآخرة. أما المؤمن في الدنيا : فهو
ناعم البال ، هادئ الضمير ، مستقر النفس ، يسعى في الحياة ، ويفوض الأمر في
النهاية إلى الله عزوجل ، ويستمسك بما يوصله إلى الله ، وأما في
الآخرة فهو في
نعيم دائم ، وجنان تجري من تحتها الأنهار ، ورضوان من الله أكبر ، وأما الكافر في
الدنيا : فهو قلق البال ، مضطرب النفس ، يعيش في كمد وحسرة ، ولا يعمل لهدف ، فإن
أحسن العمل استفاد فقط من حسن عمله في دنياه ، ولم يفده شيئا في آخرته ، وأما في
الآخرة : فهو في عذاب مستمر ، ونيران يتلظى بها ، وحميم يصب فوق رأسه ، وسخط وغضب
من الله عليه. وهذا ما يفهم من الآيات الآتية :
(وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى
وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ
إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ
(٢٤))
[لقمان : ٣١ / ٢٢
ـ ٢٤].
هذا بيان واضح
لمصير المؤمن والكافر ، ليتبين الفرق ، وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل ، ومعرفة
الأسلم والأحكم. فمن يسلم ، أي يخلص وجهه إلى الله تعالى ويستسلم به ، أو يخلص
العبادة والعمل إلى الله تعالى ، ويخضع إلى أمره ، ويتبع شرعه ، ويتقن عمله ،
باتباع ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه وزجر ، فقد ضمن لنفسه النجاة ، وتعلّق
بأوثق الوسائل الموصلة إلى رضوان الله تعالى ، وسيلقى الجزاء الحسن على عمله ، لأن
مصير المخلوقات كلهم إلى الله سبحانه ، فيجازي المتوكل عليه ، المخلص عبادته إليه
، أحسن الجزاء ، كما يعاقب المسيء بأشد العذاب.
وقوله تعالى : (يُسْلِمْ وَجْهَهُ) الوجه هنا : هو الجزء المعروف ، مأخوذ من المواجهة أستعير
هنا للقصد ، لأن القاصد للشيء هو مستقبله بوجهه ، فاستعير ذلك للمعاني ، وقوله
سبحانه : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) المحسن : هو الذي جمع القول والعمل.
وهو في بيان النبي
صلىاللهعليهوسلم : الذي يعبد الله كأنه يراه. والعروة الوثقى : استعارة
للأمر المنجي.
__________________
ثم آنس الله عزوجل نبيه عليه الصلاة والسلام عن أساه وحزنه ، لكفر قومه
وإعراضهم ، فأمره ألا يحزن لذلك ، بل يعمد إلى ما كلّف به من التبليغ ، وإرجاع كل
شيء إلى الله تعالى ، فلا تغتم أيها النبي ولا تجزع على كفر الكافرين ، الذين
كفروا بالله ورسوله ، ودينه وقرآنه ، ولا تأبه بهم ، ولا تحزن عليهم ، فإن مصيرهم
إلى الله تعالى يوم القيامة ، وفي الدنيا أيضا ، فيجازيهم ربهم بالهلاك والعذاب ،
ولا تخفى عليه خافية منهم ، لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى ، ويعلم العلانية
والظواهر كلها ، ويخبرهم بما أضمرته صدورهم. و (بِذاتِ الصُّدُورِ) : ما فيها ، والقصد من ذلك : المعتقدات والآراء.
ثم أبان الله
تعالى مقام الكفار في الدنيا ، فذكر أنه سبحانه يمتعهم في عالم الدنيا بزخارفها
وزينتها ، تمتعا قليلا ، أو زمانا ضئيلا ، ثم يلجئهم ويلزمهم بعذاب شاقّ ، ثقيل
شديد عليهم ، والمتاع القليل : هو العمر في الدنيا.
والغلظ : يكون في
الماديات ، وأستعير للمعنى ، والمراد : الشدة ، فيكون معنى (العذاب الغليظ) :
المغلّظ الشديد.
إن كل عاقل يتأمل
في نفسه قليلا ، وفي مستقبله كثيرا ، وفي الواقع المشاهد حوله وفي العبر والعظات
المتكررة يوميا ، يدرك إدراكا تاما أن العاقبة الحسنة ، والمصير الأحسن : هو لأهل
الإيمان ، والإيمان أمر سهل : إنه حركة القلب واتجاهها نحو التصديق التام بالله
تعالى ، والاستسلام المطلق لأوامره ونواهيه ، والتخلص من موروثات العقائد الباطلة
، ومؤثرات البيئة الظالمة أو القائمة ، وان هذا المتأمل والمبادر إلى الإيمان
الصحيح بربه يتحرر من التقليد ، ويشعر في قرارة نفسه أنه بالإيمان ينتقل من عالم
الظلام والجهل ، إلى عالم النور والإدراك والفهم ، والله يوفق دائما للخير كما قال
سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ٦ /
١٢٥.]
دلائل القدرة الإلهية
ـ ١ ـ
الخلق والبعث والعلم الشامل
ناقش القرآن
الكريم المشركين في ازدواجية عقيدتهم وفي حقيقة تدينهم ، إنهم يقرّون بوجود الله
تعالى ، ويتضرعون إليه وحده وقت الشدة ، ثم يعودون إلى كفرهم بعد النجاة ،
ويلازمون نسبة الشريك إلى الله ، علما بأن كل شريك عاجز خاسر ، والله تعالى هو
القادر القاهر المنجي ، الخالق لكل شيء ، والباعث الأموات من القبور ، والتام
العلم بكل الموجودات ، ولا تحصر معلومات الله ولا تنفد ، ويطلع الله يوم القيامة
كل إنسان بما قدم وأخر ، قال الله تعالى مبينا أدلة قدرته الفائقة :
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما
نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))
[لقمان : ٣١ / ٢٥
ـ ٢٨].
الدليل الأول على
قدرة الله تعالى : هو الخلق والإيجاد المبتدأ من غير مثال سبق ، وهذا يعترف به
المشركون ، فلئن سألتهم : من الذي خلق السماوات والأرض؟ لأجابوا بأنه هو الله
الخالق ، فهو في أعماق نفوسهم معترفون بأن الله خالق السماوات والأرض ، فقل أيها
النبي إذن : الحمد لله على اعترافكم ، وعلى ظهور الحجة عليكم ، ولكن أكثر المشركين
لا يعلمون أنه لا يصح لأحد أن يعبد غير الله ،
__________________
وأن يتنبه إلى
حقيقة المعبود. وعبر بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) للإضراب عن مقدّر ، تقديره : ليست دعواهم بحق ، ونحو هذا.
وأكثرهم مشرك ، لا كلهم ، لأن منهم من بادر إلى توحيد الله تعالى والإقرار بذلك ،
كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وبعضهم أيضا معدّ أن يسلم.
ثم أخبر الله
تعالى على جهة الحكم والفصل المبرم بأن الله عزوجل له ملك السماوات والأرض وما فيهما ، ملكا وخلقا وعبيدا وتصرفا
، وليس ذلك لأحد سواه ، ولا يستحق العبادة غيره ، لأنه الغني عما سواه ، وكل شيء
مفتقر إليه ، وهو المحمود في الأمور كلها ، بذاته وصفاته. والمراد : وأقوال هؤلاء
لا معنى لها ولا حقيقة ، لأن المعبود بحق : هو الذي لا حاجة به في وجوده وكماله
إلى شيء آخر.
ومن صفات الله
تعالى : سعة علمه وأنه لا نفاد ولا حدود لمعلوماته فكلمات الله : المعلومات ، فلو
أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، أي حبرا ، ومدّ البحر بسبعة
أبحر معه ، على سبيل المبالغة والاستقصاء والكثرة لا من أجل الحصر ، فكتبت كلمات
الله الدالة على عظمته وجلاله ، لتكسرت الأقلام ، ونفد ماء البحر ، إن الله قوي لا
يغلب ، حكيم في صنعه وأقواله وأفعاله. والغرض من الآية : الاعلام بكثرة كلمات الله
تعالى ، وهي في نفسها غير متناهية ، وإنما قرّب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى
، لأنه غاية الكثرة في علم البشر.
روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما : أن سبب هذه الآية : أن اليهود قالت : يا محمد ، كيف عنينا بهذا
القول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ١٧ /
٨٥] ونحن قد أوتينا التوراة ، فيها كلام الله وأحكامه ، وعندك أنها تبيان كل شيء؟
فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «التوراة قليل من كثير» ونزلت هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ ..)
قال ابن عطية :
وهذا هو القول الصحيح.
ثم ذكر الله تعالى
أمر الخلق والبعث : أنه في الجميع وفي شخص واحد بالسواء ، فليس خلق جميع الناس
وبعثهم يوم القيامة ، بالنسبة لقدرة الله ، إلا مثل خلق نفس واحدة ، الكل هيّن
عليه ، ولا يحتاج وجود الشيء وعدمه إلى تكرار الأمر وتوكيده ، إن الله سميع لأقوال
عباده ، بصير بأفعالهم ، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة ، كذلك قدرته عليهم
كقدرته على إيجاد نفس واحدة.
هذه الآية : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ ..) نزلت في أبي بن خلف وأبي بن الأسدين ، ومنبّه ونبيه ابني
الحجاج بن السبّاق ، قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا ، نطفة ثم علقة ثم مضغة ،
ثم عظاما ، ثم تقول : إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة!! فأنزل الله تعالى
: (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).
إن إبداع السماوات
والأرض ، وإحاطة علم الله بجميع الموجودات ، والقدرة الشاملة التامة على بعث الناس
من قبورهم : هي دلائل على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته الكاملة ، ومن آمن
بذلك وعرف صواب هذا الإيمان ، هنّأ نفسه ومجتمعة بسلامة الإيمان.
دلائل القدرة الإلهية
ـ ٢ ـ
تدرج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر وتسيير السفن
هذه أدلة أخرى على
عظمة قدرة الله تعالى ، وتعدادها لسدّ كل المنافذ أمام الشرك والمشركين ، وهي تدرج
الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر ، وسائر الكواكب النيّرات ، والتمكين من
تسيير السفن في البحار والمحيطات ، واللجوء إلى الله تعالى
وحده حين التعرض
للغرق وارتفاع الأمواج ، فلم يبق بعد هذا الاستدلال عذر لأحد بالشرك والإشراك ،
وعبادة الأصنام والأوثان ، وما على كل إنسان إلا أن يبادر إلى الإيمان بالله وحده
لا شريك له ، فذلك هو الحق والحقيقة ، وكل ما سوى ذلك باطل ، قال الله تعالى واصفا
هذه الأدلة :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ
ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
(٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ
لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا
إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))
[لقمان : ٣١ / ٢٩
ـ ٣٢].
مطلع الآية الأولى
: (أَلَمْ تَرَ) خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والمراد به جميع العالم. ومجمل الآية : أن الخالق
المخترع هو الذين خلق الليل والنهار متدرجين متعاقبين. والمعنى : ألم تشاهد أن
الله تعالى في شأن إيجاد الليل والنهار على هذا النحو من الزيادة والنقص ، بحيث
يقصر من أحدهما ويزيد من الآخر ، ثم بالعكس ، ليدلك دلالة على الموجود الخالق ،
ففي ذلك قسمة الزمان بحكمة بارئ العالم ، ليدل على أنه لا رب غيره.
والله تعالى أيضا
في عالم السماء ذلّل لنا الشمس والقمر ، مصباحين نيّرين ، لمصالح الخلق والمخلوقات
ومنافعهم ، كل منهما يسير بسرعة إلى غاية محدودة ، وأن الله مطلع بدقة على جميع
أعمال الناس ، خيرها وشرها ، ويجازيهم عليها ، فالله هو الخالق لجميع الأشياء ،
والعالم بكل الأشياء.
والغاية من هذا
البيان وإظهار الآيات وأدلة القدرة الإلهية : أن يعرف الناس أن
الله هو الحق ، أي
الموجود الثابت المستحق للعبادة ، وأن كل ما سواه باطل زائل ، فهو وحده سبحانه
الإله ، ولا تعدد في الآلهة ، وهو الغني عما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، وأنه
تعالى العلي العظيم الذي لا أعلى منه ، المرتفع على كل شيء ، الكبير الذي هو أكبر
من كل شيء ، شامل العزة ، وكامل السلطان ، وكل شيء في الوجود خاضع له.
ودليل آخر ، ألم
تعلم أيها النبي أيضا وكل مخاطب أن الله سخر البحر لتجري السفن فيه بأمره ، أي
بلطفه وإحسانه ، وتهيئته الأسباب ، ليرشدكم إلى معرفته ، ويظهر لكم بعض آثار قدرته
، فإنه تعالى لولا جعله القوة في الماء لحمل السفن ، لما جرت بتأثير الرياح وغيرها
من الطاقات المخترعة بإلهامه من فحم وكهرباء وذرة. إن في إيراد هذا الدليل وغيره
لأدلة واضحة لكل صابر صبور وقت الشدة ، وشاكر شكور وقت النعمة ، لأن المؤمن يتذكر
ربه في كل حال ، فيصبر إذا أصابته نقمة ، ويشكر إذا أتته نعمة. قال الشعبي : «الصبر
نصف الإيمان ، والشكر نصفه الآخر ، واليقين : الإيمان كله».
غير أن المشركين
وأمثالهم قوم متناقضون ، فإذا أشرفوا على الغرق ، وأحاطت بهم أمواج البحر العالية
أو العاتية كالجبال ، وخافوا من الموت ، عادوا إلى الفطرة ، ودعوا الله دعاء خالصا
، مشتملا على مزيد الضراعة والإنابة ، لا يشركون به غيره ، ويستغيثون به وحده ،
فلما نجوا برحمته وفضله ووصلوا إلى شاطئ البحر ، ونزلوا إلى البر ، فمنهم مقتصد في
الكفر ، يتجه فورا إلى توحيد إلى الله تعالى ، ومنهم غدار ناقض للعهد ، كافر بأنعم
الله عزوجل ، وما يكفر بآيات الله الكونية والقرآنية إلا كل ختّار أي
غدار ، قبيح الغدر ، كفور ، أي جحود بما أنعم الله عليه.
وذلك أن نعم الله
تعالى على العباد كأنها عهود ومنن ، يلزم عنها أداء شكرها ،
والعبادة لمسديها
، فمن كفر بذلك وجحد به ، فكأنه ختر وخان ، فهان على الله تعذيبه ، واستحق جزاء
فعله.
والقصد من الآية :
تبيان آية للعقول بأن الأصنام والأوثان لا شركة لها في الكون والنعمة ولا مدخل.
تقوى الله وعلم الغيب
إن رأس مال
الإنسان المدخر في يوم القيامة : هو تقوى الله تعالى والخوف منه ، وخشيته ،
والتقوى : التزام المأمورات ، واجتناب المنهيات ، فبالتقوى تصلح الدنيا ، وينجو
صاحبها في الآخرة ، ومن اتقى ربه ، عظمت نفسه ، فلا يخاف أحدا في الوجود ، ولا تذل
نفسه لمخلوق ، بسبب طمع في رزق أو مال أو جاه أو منصب ، لأن التقوى تيسر الرزق ،
وتحيي الفؤاد وتملأ النفس طمأنينة وثقة بالله تعالى. هذا ما ينبغي على العبد ،
ويترك علم الغيب إلى الله تعالى ، فإن الغيبيات لا يعلم بها أحد سوى الله عزوجل ، لا من نبي أو رسول ، أو ملك من الملائكة ، أو ولي من
الأولياء ، أو أحد الناس العاديين ، وقد أمر الله بالتقوى ، وأخبر عن الغيبيات
المختص بها في الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣)
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي
الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))
[لقمان : ٣١ / ٣٣
ـ ٣٤].
هذا خطاب إلهي عام
لجميع الناس بالأمر بتقوى الله عزوجل ، وذلك بالقيام
بالفرائض والطاعات
، واجتناب المناهي والمحظورات ، والأمر بخشية الله وعظمته وسلطانه ، والخوف من
الحساب يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي لا يغني فيه والد عن ولد ، ولا يدفع عنه شيئا
، وكذلك لا يفيد المولود والده شيئا ، حتى لو أراد أن يفديه بنفسه لم يقبل منه ،
لأنه لا يشفع أحد في غيره إلا بإذن من الله ، كما قال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢ / ٢٥٥].
(ما مِنْ شَفِيعٍ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس : ١٠ / ٣].
ولا يفيد في ذلك
اليوم إلا العمل الصالح المقدّم في الدنيا.
ولا يشك أحد في
حدوث ذلك اليوم ، فإن وعد الله بالقيامة والحساب والجزاء أمر منجز ومؤكد الحصول ،
فلا تخدعنكم أيها الناس زخارف الحياة الدنيا ، فتطمئنوا فيها ، وتميلوا إليها ،
تاركين الاستعداد للآخرة ، ولا يخدعنكم الشيطان بحلم الله وإمهاله ، والاعتماد على
الأماني والتعرض للمغفرة ، وعدم الاكتراث بالمعصية ، ونسيان الآخرة ، كما جاء في
آية أخرى : (يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ٤ / ١٢١].
والغرور : الشيطان ، في تفسير مجاهد والضحاك ، أو هو الأمل والتسويف ، أو التطميع
بما لا يحصل. وقال سعيد بن جبير : معنى الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة.
ثم أخبر الله
تعالى عن اختصاصه بالعلم بمفاتيح الغيب الخمسة ، فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وإن
شاء أعلم بها سواه وهي :
ـ العلم بتوقيت
حدوث يوم القيامة ، فلا يعلم أحد وقت ذلك اليوم ، لا ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل.
ـ وإنزال الغيث ،
أي المطر ، فلا يعلم أحد بوقت نزول المطر ومكانه بالضبط ، فإن أمر الله به ، علمه
الملك الموكل بإنزاله وهو ميكائيل أو غيره.
ـ والعلم بخواص
الأجنة في الأرحام من طبائع وصفات وتمام خلقه ونقصها ، وأما معرفة الذكورة
والأنوثة بالتجربة أو بالتصوير أو بالتحليل الحديث ، فلا يغير شيئا من علم الله
بجملة المعلومات المتعلقة بالجنين.
ـ والعلم بمكاسب
النفس وما تجنيه من خير أو شر في يوم غد ، في الدنيا والآخرة. ـ والعلم بموضع موت
النفس ، في بلدها أو في غيرها من البلاد ، وختم الله بيان هذه المواضع الخمسة
بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) أي إن علم الله علم شامل مطلق ، لا يختص بهذه الأمور
الخمسة ، بل إنه سبحانه عليم بكل ظاهر وباطن ، خبير بكل ما يتعلق بالأشياء.
وسبب نزول هذه
الآية : هو ما أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : جاء رجل من أهل
البادية هو الحارث بن عمرو ، فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد ، وبلادنا
مجدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت ، فأخبرني متى أموت؟ فأنزل
الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية.
تفسير سورة السجدة
إنزال القرآن وإبداع الخلق
أثبت الله تعالى
كون القرآن كلام الله بكونه معجزا لا يضارعه شيء ، وليس كلام أحد من خلقه ، وأقام
الأدلة على وجوده وتوحيده وقدرته العظمى بخلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان
وغيره في أحسن تقويم ، وزوّده بمفاتيح المعرفة من السمع والبصر والفؤاد ، ليشكر
ربه ، ويهتدي إلى خالقه ، وليصلح حاله ومجتمعة ، وهذا ما افتتحت به سورة السجدة
التي كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرؤها كل يوم ، قال جابر بن عبد الله : «ما كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ينام حتى يقرأ (الم ، تَنْزِيلُ) السجدة ، و (تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ)». قال الله تعالى :
(الم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ
بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ
مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي
يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ
(٩))
[السجدة : ٣٢ / ١
ـ ٩].
افتتحت هذه السورة
بالأحرف الأبجدية المقطعة للتنبيه والتحدي وبيان إعجاز القرآن ، لذا اقترنت هذه
الحروف غالبا بالكلام عن القرآن والإشادة به. لقد أنزل الله هذا القرآن من عنده
إنزالا لا شك فيه ، من غير أدنى اعتبار لارتياب الكفرة ، فهو تنزيل من رب العالمين
: عالم الإنس والجن ، ولا شك فيه ، من جهة الله تعالى ، وليس بسحر ولا شعر ولا سجع
كهان.
بل أيقولون زورا
وبهتانا : اختلقه محمد من عنده ، بل هو الحق الثابت ، أي هو حق من عند الله رب
محمد ، أنزله إليه لينذر به قوما ـ أي قريشا ومن جاورهم والعالم كله ـ بأس الله
وعذابه ، إن كفروا وعصوا ، ولم يأتهم منذر سابق من قبل النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، لعلهم يهتدون بإنذاره.
والذي أنزل القرآن
الكريم : هو الله تعالى خالق السماوات والأرض ومبدعهما وما بينهما ، من غير مثال
سابق ، في مدة ستة أيام ، ليست من الأيام المعروفة ، ثم استوى على أعظم مخلوقاته :
وهو العرش العظيم استواء يليق بذات الله وجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تحديد
بزمان أو مكان ، وليس لكم أيها الناس ولا سيما الكفار ولي ، أي ناصر ينصركم ،
ويدفع عنكم العذاب ، ولا شافع يشفع لكم عنده إلا بإذنه ، بل هو المالك المطلق لكل
شيء ، أفلا تتدبرون وتتعظون ، فتؤمنوا بالله وحده لا شريك له.
إن منزل القرآن :
هو الذي يدبر أمر الكون كله ، أي ينفذ الله تعالى قضاءه لجميع ما يشاؤه ، ثم يرجع
اليه خبر أمره وتنفيذه في يوم من أيام الدنيا ، مقداره ألف سنة ، مما تعدّون في
هذه الحياة ، لأن ما بين السماء والأرض خمس مائة سنة. والمعنى : أن الأمور تنفّذ
من عنده ، ثم يعود إليه عاقبة أمره.
وذلك المدبّر
لأمور الكون : هو العالم بجميع الأشياء ، يعلم الغائب عن الأبصار ،
وهو المشاهد
المعاين لها ، وهو القوي الغالب القاهر ، الرحيم التام الرحمة بعباده المؤمنين
الطائعين التائبين. والرحيم : الراحم غيره ، والرحمن : صفة لذات الله تعالى مختص
بها لا يسمى بها أحد غيره.
والمدبر للأمور
كلها هو الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ، وبدأ خلق الإنسان آدم من طين ،
والطين من ماء وتراب ، ثم جعل الله ذرية الإنسان يتناسلون من امتزاج سلالة متكونة
من ماءي الرجل والمرأة ، وهو ماء ضعيف : وهو النطفة. والسلالة : ما استل من الشيء
، والنطفة : سلالة الإنسان.
ثم بعد خلق
الإنسان من تراب ، جعله الله سويا مستقيما ، فقوّم أعضاءه ، وعدّلها وأتمها ، ونفخ
فيه الروح التي هي من أمر الله ، ولا يعرف حقيقتها إنسان ، وأنعم الله على الإنسان
بالحواس المختلفة ليتعايش تعايشا سليما مع محيطه ، وهي حواس كثيرة ، منها السمع
الذي تسمع به الأصوات ، والبصر الذي تبصر به المرئيات ، والعقل أو الفؤاد الذي يتم
به التفكير والوعي والإدراك ، والتمييز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر.
لكنكم أيها الناس
لا تقابلون هذه النعم بالوفاء والشكر والتقدير ، وإنما تشكرون ربكم شكرا قليلا على
هذه النعم التي رزقكم الله تعالى ، والشكر : لا يكون باللسان فقط ، وإنما باستعمال
الحواس في طاعة الله ومرضاته.
إنكار المشركين بالبعث
لقد تلوثت عقائد
الوثنيين بأمور ثلاثة : الشرك بالله بأن يعبدوا معه إلها آخر ، وإنكار النبوة
والوحي المنزل على قلب النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإنكار البعث أو اليوم الآخر ، فتصدى القرآن الكريم لهذه
المواقف الباطلة ، فأثبت لهم توحيد الله من خلال قدرته
الفائقة ، وأثبت
لهم النبوة من خلال المواقف المشهودة والمعجزات المؤيد بها النبي ، ورد ردا مفحما
على إنكار البعث بأن القادر على ابتداء الخلق قادر على الإعادة ، والإعادة أهون
عليه ، أي في تقدير الإنسان ، وهما أي البدء والإعادة سواء بالنسبة لله عزوجل ، وهذه آي تحكي باطل المشركين في إنكار البعث ، قال الله
تعالى :
(وَقالُوا أَإِذا
ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ
رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا
نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ
هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))
[السجدة : ٣٢ / ١٠
ـ ١٤].
لقد استبعد
المشركون الوثنيون المعاد بعقولهم البسيطة ، وقالوا : أإذا متنا وصارت أجسادنا
ترابا مفتتا ذاهبا في الأرض ، أيمكن أن نعود خلقا جديدا بعد تلك الحال؟! وهذا منهم
قياس لقدرة الله تعالى الخارقة على قدرة الإنسان المحدودة العاجزة. بل إنهم في
الواقع جاحدون لقاء ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء.
فرد الله تعالى
عليهم بقوله : قل أيها النبي للمشركين : إن ملك الموت عزرائيل الموكّل بقبض
الأرواح يقبض أرواحكم في الوقت المحدد لانتهاء الأجل ، ثم في نهاية الدنيا بعد
الموت تعودون أحياء إلى ربكم ، كما كنتم قبل الوفاة ، وذلك في يوم المعاد.
ثم أخبر الله تعالى
عن حال المشركين في يوم البعث والحساب ، بأسلوب فيه تعجيب لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمته من حال الكفرة ومما حلّ بهم ، فلو تشاهد أيها النبي
حين يقوم المشركون بين يدي ربهم ، خافضي رؤوسهم من شدة الحياء والخزي والعار ،
لرأيت أمرا عجبا. وجواب (لو) محذوف ، لأن حذفه أهول ،
إذ يترك الإنسان
فيه مع أقصى تخيله. والمجرمون : هم الكافرون ، بدليل قولهم : (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنهم كانوا في الدنيا غير موقنين ، وتنكيس الرؤوس : هو
من الهول والذل والهم بحلول العذاب. وتراهم يقولون : ربنا نحن الآن نسمع قولك ،
ونطيع أمرك ، لقد أبصرنا الحشر ، ونسمع تصديقك للرسل ، فارجعنا إلى دار الدنيا ،
نعمل فيها ما يرضيك من صالح الاعتقاد والقول والعمل ، وقولهم : (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي ما كنا نخبر به في الدنيا ، فكنا مكذبين به.
ثم أخبر الله
تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين ، بأن يخترع الإيمان في قلوبهم ،
ويلطف بهم لطفا يؤمنون به ، ولكن ثبت قول الله وقضاؤه ، وسبق منه الاعلام أنه لا
بد من ملء جهنم من الجن والإنس أجمعين ، ولكنهم اختاروا في الدنيا الكفر والضلال ،
وسوء الاعتقاد والعمل.
لذا يقال لهم على
سبيل التقريع والتوبيخ : ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة ، واستبعادكم
وقوعه ، وتناسيكم له ، والآن نعاملكم معاملة المنسيين ، وإن كان الله تعالى لا
ينسى شيئا ، وهذا من قبيل المشاكلة لأفعالهم ، مثل قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ٥٩ / ١٩]
وقوله سبحانه : (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٩ / ٦٧].
ويقال لهم أيضا
على سبيل التبكيت والتأكيد : ذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم
وتكذيبكم وسوء أعمالكم ، وقوله : (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي بتكسبكم الآثام ، وارتكابكم المعاصي.
إن هذه الإنذارات
والأوصاف الرهيبة تستوجب من العقلاء الحذر الشديد قبل الوقوع في مواقعها أو
محطاتها ، وقبل التعرض لألوان التوبيخ والتقريع بسبب سوء الاعتقاد والعمل في
الدنيا. والسعيد : من اتعظ بغيره ، والشقي : من حرم الإفادة من
العبر والأحداث ،
فإن المصير حتمي ، ولا منجاة من أحد الأمرين : إما الجنان ، وإما النيران.
جزاء المؤمنين والفاسقين
إن ترجمة الإيمان
إنما تكون بالخضوع ساجدين لله تعالى ، وبتسبيحه وتحميده وبالإقبال على الرب عزوجل في الصلاة في جوف الليل ، ويكون جزاء المؤمنين الجنة. ولا
يعقل في ميزان أحد التسوية بين المؤمن والفاسق. والفسق يكون بجحود الله تعالى
وإنكار وحدانيته ، وإنكار اليوم الآخر ، ونبوة خاتم النبيين ، ويكون جزاء الفاسقين
النار. ومن رحمة الله تعالى تعريض الكافرين أو الفاسقين لشيء من العذاب القريب في
الدنيا ، لعلهم يرجعون عن غيهم وضلالهم. قال الله تعالى مبينا جزاء الفريقين :
(إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا
يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ
جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها
أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ
الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ
(٢٢))
[السجدة : ٣٢ / ١٥
ـ ٢٢].
المعنى : إنما
يصدق بآيات القرآن والكون والرسل الذين إذا وعظوا بها واستمعوا لها بعد تلاوتها
عليهم ، سقطوا ساجدين لله على وجوههم ، تذللا وخضوعا ،
وإقرارا بالعبودية
، ينزهون الله في سجودهم عن الصاحبة والولد والشريك ، ويحمدون الله على نعمه ، فهم
يجمعون بين التسبيح والتحميد ، لا يستكبرون عن طاعة ربهم ، والانقياد لأوامره.
وهم أيضا يصلّون
قيام الليل أو التهجد ، تترفع وتبتعد جنوبهم أو جوانبهم عن مضاجع النوم والراحة ،
أي أماكن النوم ، يدعون الله خوفا من العقاب ، وطمعا بالرحمة وجزيل الثواب ،
وينفقون بعض أموالهم في سبيل الخير والإحسان. فلا تدري نفس على الإطلاق من ملائكة
ورسل عظمة ومقدار ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم ، واللذائذ التي
تقرّ بها الأعين أي تفرح وتسرّ ، جزاء عدلا مقابل صالح أعمالهم ، التي عملوها
بإخلاص في الدنيا ، من غير سمعة ولا مراءاة ، ومن أبسط المعقولات في قانون الجزاء
الإلهي أو البشري أنه كيف يسوّى بين المؤمن بالله ورسوله ، المطيع لأمره ونهيه ،
وبين الكافر الفاسق الخارج عن دائرة طاعة الله تعالى ، المكذب رسل الله الكرام ،
إنهما لا يستويان في ميزان أحد ، ولا في ميزان الله يوم القيامة.
عن عطاء بن يسار :
أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط
، وذلك أنهما تلاحيا ، فقال له علي : اسكت فإنك فاسق ، فنزلت الآية. وعليه يكون
جزاء الفريقين مختلفا في الآخرة : أما الذين صدقوا بالله ورسله ، وعملوا صالح
الأعمال ، فلهم جنات المأوى المستقر المريح ، التي فيها ألوان النعيم ، ثوابا
وجزاء على أعمالهم الحسنة. وأصل النّزل : ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت
، والمراد به هنا : ثوابا وجزاء.
وأما الذين فسقوا
، أي كفروا بالله تعالى ، وعصوه وعملوا السيئات ، وخرجوا عن دائرة الطاعة ،
فمأواهم النار التي يستقرون فيها ، كلما عزموا على الخروج منها لشدة العذاب
والأهوال ، أعيدوا فيها خاسئين ذليلين ، أي صاروا مخلّدين فيها ،
ويقال لهم :
تذوقوا وتحملوا عذاب النار الذي كذبتم به في الدنيا ، فإن الله أعدّه للظالمين
الفاسقين.
ورحمة من الله
بعباده يذكرهم بألوان النقم الدنيوية ، فإنه سبحانه يذيق الكفار والعصاة شيئا من
العذاب الأقرب وهو عذاب الدنيا ، من المصائب والآفات ، كالجوع والقتل والسبي ، قبل
مجيء العذاب الأشد في يوم القيامة ، ليرجعوا عن ضلالهم إلى الهدى والرشاد.
والتعبير بكلمة (لعلهم) ليس للترجي ، فهو مستحيل على الله تعالى ، وإنما معناه :
ليرجعوا عما هم عليه من الضلال.
والسبب العام
للعذاب : هو الإعراض عن هدي الله تعالى ، فليس هناك أشد ظلما ممن ذكّره الله
بآياته القرآنية ومعجزات رسله ، ثم أدبر عنها ، وهجرها وجحدها ، كأنه لا يعرفها ،
لذا فإن الله سبحانه ينتقم أشد الانتقام من هؤلاء الكفار الذين كفروا بالله ،
واقترفوا المنكرات والموبقات.
إن القرآن الكريم
هدى ورحمة ، لما فيه من بيان سابق قبل المفاجأة بألوان العقاب أو العذاب في الآخرة
، كما أوضحت هذه الآيات.
توجيهات وأوامر متعلقة بالرسالة
في سورة السجدة
إثبات للتوحيد والبعث والرسالة النبوية ، وقد ختمت السورة بالتركيز على أمر
الرسالة المحمدية بعد نبوة موسى وإنزال التوراة عليه ، ليستمر العطاء الإلهي
والإرشاد بين جميع الأمم والشعوب ، وتتحقق الثمرة المرجوة بصلاح العقائد والأعمال
، مع لفت النظر إلى ضرورة الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم السابقة ، وبمشاهد الكون
والحياة ، وتبشير النبي صلىاللهعليهوسلم بالنصر الحاسم ، والإعراض عن المشركين ، وانتظار المصير
المرتقب فيهم ، قال الله تعالى موضحا هذه المعاني :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا
لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))
[السجدة : ٣٢ / ٢٣
ـ ٣٠].
هذه أخبار فيها
عظة واقعية ، أولها تطمين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حول إيتائه الرسالة الكاملة ، فلقد آتى الله موسى عليهالسلام التوراة. فلا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب ، فإنا
آتيناك القرآن كما آتينا موسى التوراة ، فأنت كغيرك من الرسل ، والصلة قائمة بين
الرسالتين ، فإن التوراة جعلت هداية وإرشادا لبني إسرائيل ، وكذلك القرآن المجيد
هداية لأمتك أيها النبي محمد ، والمتأخر ينسخ المتقدم.
والمقصود من الآية
: حمل اليهود على التصديق برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم وتحريض المشركين أيضا على التصديق بتلك الرسالة ، للتشابه
القائم بين الرسالتين والمهمتين ، في أصولهما المشتركة ، وفي ذات ما أنزل على كل
من موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
ولقد جعلنا من بني
إسرائيل أئمة يقتدى بهم ، يدعون إلى الحق والخير والإيمان ، بإذننا وتوفيقنا وإعانتنا
، لما صبروا على طاعة الله وتنفيذ الدين الحق ، وتصديق الرسل واتباعهم ، وكانوا
بآياتنا الدالة على التوحيد والقدرة الإلهية مصدّقين موقنين.
إن ربك أيها النبي
يقضي يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه من قضايا
الاعتقاد ، والدين
والحساب ، والثواب والعقاب ، والعمل ، فيثيب الطائع بالجنة ، ويعذب العاصي بالنار.
أو لم يتبين
لمكذبي الرسل كم ، أي كثيرا ما أهلكنا من قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل
ومخالفتهم إياهم ، مثل عاد وثمود وقوم لوط ، يمر المكذبون المشركون في أسفارهم
بمساكنهم وديارهم المدمّرة ، إن في ذلك التدمير لدلائل وعلامات على قدرة الله عزوجل ، وعظات وعبرا لقوم يتعظون بها. أو لم يشاهد هؤلاء
المكذبون بالبعث الوثنيون أننا قادرون على الإحياء ، كما نسوق الماء من السماء إلى
الأرض اليابسة ، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه أنعامهم ، وتتغذى به أجسامهم ، وتتقوى
به أبدانهم ، أفلا يبصرون هذا بأعينهم ، فيعلموا أننا قادرون على الإعادة بعد
الموت ، كإحياء الأرض بعد موتها؟! وهذا دليل على إقامة الحجة على المشركين في معنى
الإيمان بالقدرة الإلهية والبعث ، بأن نبههم على إحياء الأرض الموات بالماء ،
والسوق : هو بالسحاب. والأرض الجرز : الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش.
ويتساءل هؤلاء
المشركون عن موعد وقوع العذاب بهم ، استبعادا وتكذيبا وعنادا ، قائلين : ومتى
يعذبنا الله بسببك ، وأنت وصحبك ما نراكم إلا أذلة قليلين؟ إن كنتم صادقين في
تهديدكم ووعيدكم.
فوبخهم الله في
الجواب بقوله : قل أيها النبي لهؤلاء المكذبين برسالتك : إن يوم الانتقام والقضاء
الفصل النافذ : هو يوم القيامة الذي لا ينفع فيه إيمان الكافرين ولا توبتهم ، ولا
هم يؤخرون فيه بالإعادة إلى الدنيا للتوبة والإيمان والعمل الصالح ، لأن قبول
الإيمان إنما هو في دار الدنيا ، فلا تستعجلوا العذاب ، فهو واقع حتما.
فأعرض أيها النبي
عن هؤلاء المشركين ، ولا تأبه بتكذيبهم ، وتابع تبليغ رسالتك
المنزلة إليك من
ربك ، وانتظر النصر الحاسم من الله الذي وعدك به ، فإن الله سينجز لك ما وعدك به ،
وسينصرك على من خالفك وعاداك ، إن الله تعالى لا يخلف الميعاد ، وإنهم منتظرون
الغلبة عليك والهلاك ، فإن مصير الظالمين آت لا ريب فيه.
تفسير سورة الأحزاب
أحكام إسلامية صرفة
الشريعة الإسلامية
في أحكامها الفرعية مستقلة عن الشرائع الأخرى ، سواء كانت وضعية أو سماوية ، لأنها
شريعة خاتمة ، تقرر أحكاما عامة ودائمة ، لا تتغير ولا تتبدل ، وتتميز بعلاجها
لمشكلات وقضايا تعايش معها المجتمع العربي الجاهلي ، ولكنها ليست صالحة للاستمرار
، على خلاف بعض العادات النافعة ، مثل التعاون في تحمل دية القتل الخطأ ،
والاعتدال في الحياة ، كالسخاء والشجاعة ، وولاية الولي على القاصر والولاية على
المرأة في عقد زواجها ، أما الذي لم يرتضه الإسلام فمثل العصيان ، والنفاق ،
والظهار ، والتبني ، وادعاء تعدد القلب لدى الإنسان ، وهذا ما أوضحته سورة الأحزاب
في مطلعها حيث قال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
__________________
فِي
الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ
وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))
[الأحزاب : ٣٣ / ١
ـ ٥].
ما أروع مطلع هذه
الآية وتأثيرها العميق والبعيد في تربية القيادة الإسلامية والإصرار على المبدأ ،
والثبات على العقيدة.
وسبب نزولها : ما أخرجه
ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أهل مكة ، ومنهم الوليد بن
المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلىاللهعليهوسلم أن يرجع عن قوله ، على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه
المنافقون واليهود في المدينة إن لم يرجع قتلوه ، فنزلت الآيات.
أمر الله النبي صلىاللهعليهوسلم بالتقوى : ومعناه المداومة على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء
هو به قائم ، فمعناه المداومة ، وحذره تعالى من طاعة الكافرين ، والمنافقين وهم
المظهرون للإيمان ، وهم لا يبطنونه. والمعنى : يا أيها النبي اتق الله ، أي دوام
على التقوى بإطاعة أوامر الله ، واجتناب محارمه ، ولا تطع أهل الكفر والنفاق في
شيء ، واحذرهم ، إن الله كان وما يزال تام العلم بعواقب الأمور ، حكيما في أقواله
وأفعاله ، فهو أحق باتباع أوامره وطاعته.
واتبع الوحي
المنزل إليك من ربك ، فإن الله لا تخفى عليه خافية ، يعلم السر وأخفى ، والظاهر
والباطن ، ثم يجازيكم على أعمالكم. وفوض جميع أمورك وأحوالك إلى الله تعالى ، وكفى
بالله وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه ، فذلك كاف مقنع ، والوكيل : القائم بالأمر
، المغني فيه عن كل شيء.
وللإنسان قلب واحد
، ولم يخلق الله فيه قلبين ، ولا يجتمع في القلب الواحد
__________________
الخوف من الله
والخوف من غيره ، فإذا كان الإنسان مؤمنا بالله ورسوله فلن يكون كافرا أو منافقا ،
والمعنى : لا يجتمع في قلب واحد اعتقادان ، أو اتجاهان متضادان ، يأمر أحدهما بشيء
والآخر بضده.
ولم يجعل الله
الزوجات المظاهر منهن كالأمهات في الحرمة ، بأن يشبه الرجل امرأته بإحدى محارمه ،
كأن يقول : أنت علي كظهر أمي ، فذلك منكر من القول وزور. ولم يجعل الله أيضا
الأدعياء المدعى بنوتهم بالتبني أبناء في الحقيقة ، فالولد منسوب لأبيه الحقيقي ،
لا لمن يدعيه ابنا له ، والتبني حرام ، لمنافاته الحق والعدل ، وهذه الآية لإبطال
التبني.
إن المذكور كله في
الآية من الأمور الثلاثة : ادعاء القلبين ، واجتماع الزوجية مع الظهار ، والتبني
مع النسب : هو مجرد قول باللسان ، لا يغير من الحقيقة ، فلا يكون هناك قلبان لأحد
، ولا تصبح الزوجة بالظهار أما ، ولا يصبح الولد المتبنى ابنا في الحقيقة ، والله
تعالى هو الذي يقرر الحق الثابت والصدق والعدل والواقع ، ويرشد إلى السبيل الأقوم
الصحيح.
وعليكم أن تنسبوا
الأولاد الذين تبنيتموهم إلى آبائهم الحقيقيين ، فذلك أعدل في حكم الله وشرعه ،
وأصوب من نسبة الابن لغير أبيه ، فإن جهلتم آباء الأدعياء ، فهم إخوة في الدين
وأنصار لكم وبنو عمومتكم ، ولا إثم عليكم بنسبة بعض الأولاد لغير آبائهم خطأ ، أي
نسيانا في الماضي قبل النهي ، وإنما الإثم يحصل بتعمد نسبة الابن لغير أبيه ، وهو
يدري أنه ابن غيره ، وكان الله واسع المغفرة ، شامل الرحمة لمن تاب وأناب ، أي لما
مضى من فعلهم في ذلك ، والمغفرة والرحمة صفتان مطّردتان في كل شيء. والخطأ في
الآية : بمعنى النسيان ، وليس مقابل العمد.
ولاية النبي صلىاللهعليهوسلم على جميع المؤمنين
النبي صلىاللهعليهوسلم قائد الأمة ومنقذها ، وأبوته المعنوية ورحمته شاملة لجميع
المؤمنين ، لا يختص بها أحد ، وهذا يستدعي محبة النبي أكثر من محبة الإنسان نفسه ،
وأن يمتثل أوامره ، أحبت نفسه ذلك أم كرهته ، والنبي كغيره من الأنبياء أو الرسل
السابقين ملزم بتبليغ رسالة ربه على الوجه الأكمل ، بمقتضى العهد والميثاق الإلهي
عليهم ، وذلك لينقسم الناس فريقين : فريق الصادقين المصدقين برسالات الأنبياء ،
وفريق المكذبين الجاحدين الذين يتنكرون لدعوات الأنبياء ، ويثيب الله أهل الصدق
والإيمان ، ويعاقب أهل الكفر والضلال. قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام العامة :
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))
[الأحزاب : ٣٣ / ٦
ـ ٨].
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أرأف الناس بجماعة المؤمنين وأحرصهم على مصالحهم وإنقاذهم
، فهو يدعوهم إلى النجاة ، وهم يتجهون إلى الهلاك. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه البخاري وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة رضي
الله عنه حين نزلت هذه الآية : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : «من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي ،
أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)». وقد أزال الله تعالى بهذه الآية أحكاما كانت في صدر
الإسلام ، منها أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه أولى
بالمؤمنين من أنفسهم.
وأزواج (زوجات)
النبي صلىاللهعليهوسلم بمثابة الأمهات في الحرمة والاحترام والتعظيم
والتقدير ، وفي
تحريم الزواج بهن بعد النبي ، وفي غير ذلك هن أجنبيات ، فلا يحل النظر إليهن ، ولا
الخلوة بهن ، ولا ارثهن ونحو ذلك.
والقرابة ذوو
الأرحام أو العصبات أولى بعضهم ببعض في الميراث وغيره ، وفي منافع بعضهم ، فهم
أولى وأحق من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار ، وهذا إبطال لحكم التوارث بالنصرة
بعد الهجرة الذي كان مقررا في بداية الأمر ، حيث كانت الشريعة تقرر التوارث بأخوة
الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين :
الهجرة والنصرة.
لكن إذا ذهب
الميراث بالتآخي ، بقي حكم الوصية عند الموت ، والإحسان في الحياة ، والصلة والود
، وهذا الحكم وهو توريث ذوي الأرحام حكم من الله تعالى مقرر في اللوح المحفوظ ، لا
يبدّل ولا يغير.
ثم أخبر الله
تعالى عن ميثاق النبيين بتبليغ الرسالة الإلهية ، والمعنى : اذكر أيها الرسول أننا
أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ، وبخاصة أولو العزم منهم ، وهم نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهمالسلام ، أنهم يبلّغون رسالة ربهم إلى أقوامهم. وتخصيص هؤلاء
الأنبياء الخمسة بالذكر للتشريف والتعظيم ، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع والحروب
الفاصلة من أجل التوحيد. وقدّم الله في الآية ذكر محمّد صلىاللهعليهوسلم ، على الرغم من تأخر زمانه ، تشريفا خاصا له أيضا ، وروى
ابن جرير الطبري عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث». وكرّر
الله في الآية أخذ الميثاق لمكانته. ووصف الميثاق بأنه غليظ أي شديد : إشعار بحرمة
هذا الميثاق وقوته.
وأخذ الميثاق على
الأنبياء في التبليغ بعد بعثتهم ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين ـ فاللام في «ليسأل»
: لام كي وهو الأصوب من جعلها لام الصيرورة ـ فرقة يسألها الله عن
صدقها ، على معنى
إقامة الحجة والتقرير ، فتجيب بأنها قد صدقت الله تعالى في إيمانها وجميع أفعالها
، فيثيبها الله على ذلك. وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب الأليم. إن
إنزال الشرائع بقصد الاختبار ، ليعرف المؤمنون الصادقون ، ويتميز الكافرون
الجاحدون ، بعد اختيار كل فريق اتجاهه. والصدق في هذه الآية : إما المضاد للكذب في
القول ، وإما صدق الأفعال واستقامتها.
والكلام مشعر
بضرورة اختيار الأفضل ، وهو الإيمان الصحيح لتحقيق النجاة والفلاح ، وترك أضداد
الإيمان ، من الكذب والنفاق والشرك والرياء.
أحداث غزوة الخندق
ـ ١ ـ
تجمع الأحزاب والمنافقين
نزلت في سورة
الأحزاب آيات بينات في شأن غزوة الخندق وما اتصل بها من أمر بني قريظة في السنة
الخامسة من الهجرة ، حيث اجتمع حول المدينة عشرة آلاف أو أكثر ، وهو أكبر تجمع
للمشركين واليهود وأهل الكتاب ، للقضاء على النبي صلىاللهعليهوسلم وصحبه ، وهي تظاهرة خطيرة ، بعد إجلاء يهود بني النضير من
المدينة ، فخرجوا إلى مكة مستنهضين قريشا إلى حرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجسّروهم على ذلك ، فتجمعت جموع قريش من كنانة وغطفان
وبني أسد وأهل نجد وتهامة واليهود ، وتحزبوا وأزمعوا السير إلى المدينة بقيادة أبي
سفيان بن حرب ، فعلم النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فحفر الخندق حول ديار المدينة وحصّنه ، وكان أمرا
لم يعهده العرب ، وإنما كان من أعمال فارس والروم ، وأشار به سلمان الفارسي رضي
الله عنه ، وجاء وصف هذه الغزوة في الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ
قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ
وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما
تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥))
[الأحزاب : ٣٣ / ٩
ـ ١٥].
المعنى : يا أيها
المصدقون بالله ورسوله ، اذكروا بالشكر والحمد نعمة الله التي أنعم بها عليكم ،
حين وقعتم في حصار جنود وحشود هائلة من قريش وغطفان واليهود وغيرهم ، الذين جاؤوا
لإبادتكم ، فأرسلنا عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية ، وجنودا ملائكة لم تروها ،
أرعبتهم ، فأكفأت القدور ، وقلبت البيوت ، وآثروا فك الحصار والنجاة ، وكان الله
مطلعا على جميع أعمالكم من حفر الخندق ، والتعرض للشدائد ، والاستعداد للقتال ،
والله يجازيكم عليها.
واذكروا حين
جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي جهة المشرق ، ومن أسفل الوادي جهة المغرب ، ومالت
الأبصار عن موازينها ، فلم تلتفت لكثرة العدو ، وصرتم في حال رهيبة من شدة الخوف
والفزع ، وتظنون ألوان الظنون الحسنة والسيئة ، أي تكادون تضطربون ، فمنكم المؤمن
الثابت ، ومنكم المنافق المتردد المضطرب ، وتقولون : ما هذا الخلف للوعد؟ وحينئذ
اختبر الله المؤمنين ، فظهر المؤمن المخلص ، والمنافق الكاذب ، واضطربوا اضطرابا
شديدا من الفزع وتهديدات العدو.
__________________
واذكروا حين قال
المنافقون وضعفاء الإيمان لحداثة عهدهم بالإسلام ما وعدنا الله ورسوله من النصر
على العدو إلا خداعا ووعدا باطلا زائفا ، لا حقيقة له. والقائل : جماعة من اليهود
والمنافقين نحو سبعين رجلا.
واذكروا أيضا حين
قالت طائفة من المنافقين : يا أهل المدينة ، لا مجال لإقامتكم مع محمد وعسكره ،
ولا قرار لكم هنا ، فارجعوا إلى بيوتكم في المدينة ، لتسلموا من القتل والاستئصال.
ويطلب في هذه
الحال الرهيبة فريق من المنافقين الإذن في العودة إلى بيوتهم في المدينة ، قائلين
: إن بيوتنا ليست محصّنة ، وهذا كذب وليست كذلك ، بل هي حصينة خلافا لما يزعمون ،
وإنما قصدهم الهرب والفرار.
والواقع أنهم ضعاف
الإيمان ، فلو دخل عليهم الأعداء من جوانب المدينة ، واشتد الخوف الحقيقي ، ثم طلب
منهم العودة صراحة إلى الكفر ، لفعلوا ذلك سريعا. ولم يمكثوا للجهاد إلا زمنا
يسيرا ، ممتلئا بالخوف والذعر. وقوله : (ثُمَّ سُئِلُوا
الْفِتْنَةَ) أي محاربة محمد صلىاللهعليهوسلم وأصحابه. والأقطار : النواحي.
ولقد كان هؤلاء
المنافقون ، وهم بنو حارثة ، عاهدوا الله يوم أحد قبل هذه المخاوف ألّا يولوا
الأدبار ، وألا يفروا من الزحف ، ولكن الله يسألهم عن ذلك العهد والوفاء به يوم
القيامة ، ويجازيهم على نقضه. وقوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْؤُلاً) معناه مطلوبا مقتضى ، حتى يوفى به ، وفيه توعد لقريش
وأنصارهم.
إن هذا الوصف
لأحوال التجمع القرشي حول المدينة ، يقتضي تذكر الأهوال وإدراك المخاطر ، ثم
المبادرة إلى الشكر وحمد الله على نعمته وفضله ، إذ نجى الله المؤمنين ، وهزم
الكافرين الأحزاب وحده تعالى.
غزوة الخندق
ـ ٢ ـ
توبيخ المنافقين
استحق المنافقون
الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر اللوم والتوبيخ الشديد ، وافتضاح شأنهم وعلم
الله بهم ، وبيان صفاتهم السيئة ، من البخل ، والجبن ، وسلاطة اللسان ، والاعلام
بأنهم في الحقيقة غير مؤمنين ، وأنهم من شدة خوفهم ظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا ولم
ينهزموا ، وإن عادوا إلى القتال لتمنوا الخروج من المدينة إلى البادية ، وإن
قاتلوا مع المؤمنين لم يقاتلوا إلا قتالا يسيرا ، بسبب انهزامهم الداخلي وفقد
الثقة بالنفس. وهذه آيات كريمات تبين هذه الأحوال ، قال الله تعالى :
(قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ
إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا
يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي
يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ
حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا
وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ
يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً
(٢٠))
[الأحزاب : ٣٣ /
١٦ ـ ٢٠].
هذه تهديدات مبطنة
وظاهرة ، وتوبيخات شديدة لأولئك الذين نافقوا ولم يؤمنوا ، أخبرهم أيها النبي أن
الفرار لا ينجي من القدر ، وأنهم لا يمتّعون في عالم الدنيا إلا تمتعا قليلا ، أو
زمانا يسيرا بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة. والقليل المستثنى : هو مدة الآجال
المقررة.
وقل لهم أيها
الرسول ، لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد الله بكم ، أو دفع السوء عنكم إذا قدّره
الله عليكم ، أو جلب الخير والنفع لكم إن أراده الله ، ولن يجد هؤلاء المنافقون
ومؤيدوهم مجيرا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم.
ثم حذرهم الله تعالى
بدوام علمه بالخائنين ، ووبخهم بإخبار نبيه أن الله يعلم الذين يعوقون الناس عن
نصرة الرسول ، ويمنعونهم بالأقوال والأفعال ، ويعلم القائلين لإخوانهم وأصحابهم من
أهل المدينة : تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في البساتين تحت الظلال والثمار ،
واتركوا محمدا والحرب معه ، ولا يأتي المنافقون الحرب أو القتال ، إلا زمنا قليلا
أو شيئا يسيرا إذا اضطروا إليه ، خوفا من الموت أو القتل. وهلم : بمعنى أقبل.
وصفات هؤلاء
المنافقين الشخصية قبيحة جدا :
فهم أولا : قوم
بخلاء أشحة بأنفسهم وأموالهم وجميع أحوالهم ، لا يقدّمون منفعة للمؤمنين ولا
لغيرهم بحق.
وهم أيضا جبناء ،
فإذا ظهرت أمارات الخوف من العدو في بدء المعركة والقتال ، لاذوا بك أيها النبي ،
ورأيتهم ينظرون إليك ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت ، حذرا وخورا
وضعفا ، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم ، بدت منهم سلاطة اللسان وتفاخروا بأنهم أهل
النجدة والشجاعة ، وهم في ذلك كاذبون مراوغون ، وسبب هذه السلاطة أنهم لا خير فيهم
ولا منهم ، قد جمعوا بين الجبن والكذب ونضوب الخير ، فهم جبناء في الحالين : حال
البأس أو الشدة ، وحين جمع الغنيمة.
وسبب مرضهم الشديد
الذي ينخر العظام أنهم فاقدو الإيمان ، فهم غير مصدقين بالله ورسوله ، وإن لم
يظهروا الإيمان لفظا ، فأبطل الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها
في الظاهر مع
المسلمين ، وكان ذلك الإحباط أو الإبطال لثمرة الأعمال سهلا هينا عند الله تعالى ،
بمقتضى عدله وحكمته.
وهذه الصفات
القبيحة ملازمة لهم ، فهم يظنون من شدة الخوف والفزع الذي ملأ قلوبهم أن أحزاب
الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة ، لم يرحلوا عن المدينة ، ولم ينهزموا ، وأنهم
عائدون إلى الحصار. وإذا استعد الأحزاب لقتال المؤمنين ، تمنوا ألا يكونوا حاضرين
معهم في المدينة وبين المقاتلين الصامدين ، بل يكونون في البادية ، يترقبون
الهزيمة للمؤمنين ، ويسألون عن أخبارهم وما كان من أمرهم مع العدو ، شماتة بهم ،
وانتظارا لإيقاع الشر والسوء بهم ، وجبنا وخوفا شديدا ، وغرضهم من البداوة : أن
يكونوا سالمين من القتال ، ولو كانوا موجودين مع المؤمنين في ساحة المعركة ما
قاتلوا إلا قتالا يسيرا ، لجبنهم وخوفهم ، وهذا إيناس للنبي ، وتحقير لشأن
المنافقين.
غزوة الخندق
ـ ٣ ـ
حال المؤمنين في القتال وغيره
كان أهل الإيمان
الحق مثلا أعلى في الشجاعة والبطولة والصبر على لقاء الأعداء ، والصدق في المواقف
كلها ، والتأسي التام بالنبي صلىاللهعليهوسلم القدوة الحسنة ، ولم تكن الأحداث تزيدهم إلا صلابة في
الموقف وإصرارا على تحدي الأعداء ، فاستحقوا أفضل الجزاء في الدار الآخرة ، كما
استحق المنافقون العذاب ، والمشركون الهزيمة المنكرة والخيبة والفشل ، وقد سجل
القرآن العظيم هذه الأحوال المتباينة ، وذلك في الآيات الآتية :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ
قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما
زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا
ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ
يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا
عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ
صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
(٢٧))
[الأحزاب : ٣٣ /
٢١ ـ ٢٧].
أوجب الله تعالى
على كل مسلم أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام ، حين قاتل وصبر وجاد بنفسه ، في
وقعة الأحزاب وغيرها ، والمعنى : لقد كان لكم معشر المؤمنين ، أسوة أي قدوة صالحة
يقتدى به وهو رسول الله ، فهو مثل أعلى لكم في الشجاعة والإقدام ، إذا كنتم تريدون
ثواب الله وفضله على العمل الصالح ، وتخشون الله وحسابه ، وتذكرونه ذكرا كثيرا في
جميع الأوقات ، حبا به سبحانه وتعظيما له ، وخشية منه ، وطمعا في فضله ورحمته ،
فإن ذكر الله تعالى دافع لطاعته ، ومانع من نقمته ، والتأسي برسوله. وهذا عتاب
للمتخلفين ، وإرشاد للتأسي برسول الله. وبما أن ذكر الله من خير الأعمال نبّه عليه
الحق سبحانه وتعالى.
وموقف المؤمنين
يختلف عن المنافقين ، فحينما شاهد المؤمنون فئات الأحزاب وجموعهم الحاشدة قالوا :
هذا ما وعدنا الله ورسوله من الاختبار بمجابهة الأعداء ثم يعقبه النصر القريب ،
وصدق الله ورسوله الوعد بالنصر ، وما زاد المؤمنين تجمع
__________________
الأعداء وتكاثرهم
لحربهم ، وصبرهم على البلاء ، إلا إيمانا بالله ورسوله ، واستسلاما لقضائه وقدره ،
وانقيادا لأمره ونهيه. والتسليم : الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء.
ويختلف موقف
المؤمنين أيضا عن المنافقين بالوفاء بالعهد ، فهم صدقوا العهد مع الله تعالى ،
ووفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر في حال الشدة والبأس ، فمنهم من انتهى أجله
واستشهد كيوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر قضاء الله والشهادة وفاء بالعهد ، وما
بدّلوا عهدهم وما غيروه ، بخلاف المنافقين الذين ولّوا الأدبار ، وبدّلوا الأقوال
ونقضوا العهود. وهذا ثناء من الله على عباده المؤمنين الذين عاهدوا الله على
الاستقامة التامة ، فوفوا نذورهم وعهودهم ، قال الحسن : قضى نحبه : مات على ما عهد.
إن تعرض المؤمنين
للمحن والبلايا واختبارهم بالخوف وملاقاة الأعداء ، من أجل تمييز الخبيث من الطيب
، ومكافأة الصادقين في إيمانهم ، بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه ، وقيامهم به
ومحافظتهم عليه ، ولتعذيب المنافقين الذين كذبوا ، ونقضوا العهد ، وأخلفوا الأوامر
واعتذروا بالأعذار الكاذبة ، فاستحقوا العذاب واللوم.
إن الله تعالى كان
وما يزال كثير المغفرة حيث ستر ذنوب عباده ورحمهم ورزقهم الإيمان ، ووفقهم للتوبة
، ولم يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة الخالصة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل
فوات الأوان.
وكانت نهاية معركة
الأحزاب أو الخندق تحقيق النصر للمؤمنين ، وهزيمة الكافرين ، وجلاءهم عن المدينة
بعد الحصار الشديد ، فقد ردّهم الله تعالى عن المدينة خائبين خاسرين ، مع شدة
غيظهم ، لعدم تحقيق مآربهم ، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم ، لا في الدنيا من الظفر
والمغنم ، ولا في الآخرة من الآثام والعذاب وإحباط
الأعمال ، بسبب
عداوتهم للنبي عليه الصلاة والسلام ، ومحاولاتهم التخلص منه ، بالقتل أو غيره.
وكفى الله
المؤمنين القتال ، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة ، حتى يجلوا الأعداء عن بلادهم ،
بل كفاهم الله وحده شرهم ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وكان الله
وما يزال صاحب القوة ومصدرها ، قادرا على استئصال الأعداء وإذلالهم ، لا يغلبه أو
يقهره أحد مهما كان قويا.
وتحقيق هذا النصر
الإلهي الواضح على جموع الأحزاب يستدعي الشكر والحمد لله جل جلاله ، وزيادة
الإيمان بقدرته ، لذا كان عليه الصلاة والسلام فيما أخرج الشيخان يقول : «لا إله
إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء
بعده».
ثم ذكر الله هزيمة
بني قريظة الذين تواطؤوا مع قريش في غزوة الأحزاب ، فإن الله تعالى أنزلهم من
حصونهم وقلاعهم ، وأجلاهم عنها ، وألقى في نفوسهم الخوف الشديد ، لممالأتهم
المشركين على محاربة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وصار أمرهم أن قتل المسلمون فريقا منهم ، وهم الرجال
المقاتلون ، وأسروا فريقا منهم ، وهم النساء والصبيان.
وجعل الله أراضيهم
المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة وأرضا أخرى لم تطأها أقدام المؤمنين
في عهد النبوة ، وهي التي ستفتح في المستقبل ، جعلها الله كلها للمسلمين ، مثل
خيبر ومكة وفارس والروم ، وكان الله وما يزال تام القدرة على كل شيء ، ينصر من
يشاء ، ويذل من يشاء.
مضاعفة الأحكام لزوجات النبي صلىاللهعليهوسلم
صان الله تعالى
بيت النبوة الطاهر صيانة أدبية عالية ، وتعهد أمهات المؤمنين بالتربية العالية
القائمة على العفة والكرامة ، وجعلهن المثل الطيب الذي يحتذي لنساء المؤمنين
والمؤمنات على ممر الزمان ، واقتضى هذا إعدادهن لمنازل الآخرة العالية ، ومضاعفة
ثواب أعمالهن ، وزيادة عقوبتهن ، فالأجر مرتان ، والعقاب ضعفان. وهذا دليل على كون
القرآن الكريم كلام الله تعالى ، حيث لا مجال فيه لتمييز بيت النبوة بمزايا معينة
أو بخصوصيات محددة ، وإنما كان التشديد عليهن هو الصفة الغالبة ، ويقابله زيادة
الحسنات بفعل الصالحات ، قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام الخاصة :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١))
[الأحزاب : ٣٣ /
٢٨ ـ ٣١].
أمر الله تعالى
رسوله بتخيير نسائه بين التمتع بزهرة الحياة الدنيا وزخافها وزينتها وهي المال
والبنون ، ومتاعها ، وبين الآخرة ونعيمها ، فإن آثرن الدنيا وأحببنها ، فارقهن
وأعطاهن متعة الطلاق المستحقة : وهو مال يهدى للمطلقة تطييبا لخاطرها ، وطلقهن
طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة.
قال أبو الزبير :
نزل ذلك بسبب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سأله أزواجه النفقة ، وطالبنه منها فوق وسعه.
__________________
وإن خيّر الزوج
زوجته في تطليق نفسها ، فقال الإمام مالك : هي طالق ثلاثا ، وليس للزوج الإنكار ،
بخلاف التمليك. وقال غير مالك : هي طلقة بائنة.
وإن أرادت نساء
النبي صلىاللهعليهوسلم رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة ، فإن الله أعد
للمحسنة منهن ثوابا عظيما ، يفوق زينة الدنيا. ويشير هذا إلى أن من أراد الله
ورسوله والدار الآخرة ، كان محسنا صالحا. وحينما خيّرهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين الدنيا والآخرة ، اخترن جميعا الآخرة ، فسّر بذلك ،
وشكرهن الله على حسن اختيارهن ، وكرّمهن.
ثم بعد اختيارهن
الآخرة خصصهن الله تعالى بمضاعفة الأحكام الشرعية في حقهن ، فيا نساء النبي ، من
يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح ، كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق ، يكون
عقابها مضاعفا ، لشرف منزلتكن وفضل درجتكن ، وكان تضعيف العذاب لكنّ يسيرا هينا
على الله تعالى. ويا نساء النبي ، من تطع منكن الله ورسوله بسكون وخشوع ، وتخشع
جوارحها ، وتستجب لأمر ربها ، وتعمل عملا صالحا ، يضاعف الله لكنّ الأجر والثواب ،
بسبب كونكن من أهل بيت النبوة ومنزل الوحي ، وأعد الله لكل واحدة منكن زيادة على
هذا رزقا كريما خالصا في الجنة ، لا عيب فيه ولا نقص. والاعتاد : التيسير والإعداد
، والرزق الكريم : الجنة ، ويجوز أن يقصد بالرزق : الرزق الدنيوي من حيث هو حلال
وطيب.
وأزواج (زوجات)
الرسول صلىاللهعليهوسلم اللواتي نزلت الآية فيهن تسع : خمس قرشيات : وهن عائشة بنت
أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم
سلمة بنت أبي أمية. وأربعة غير قرشيات : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت
حييّ بن أخطب الخيبرية ، وزينت بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ،
رضي الله عنهن أجمعين ، فهن مع السيدة خديجة رضي الله عنها أمهات المؤمنين.
ولما نزلت هذه
الآية ، بدأ النبي صلىاللهعليهوسلم بعائشة فقال : «إني ذاكر لك أمرا ، ولا عليك ألا تعجلي حتى
تستأمري أبويك» ثم تلا الآية ، فقالت له : وفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله
ورسوله والدار الآخرة. قالت : «وقد علم أن أبويّ لا يأمراني بفراقه» ثم تتابع
أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم على مثل قول عائشة رضي الله عنها ، فاخترن الله ورسوله. وهذا
ثابت في الحديث عند البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها ، والرواية على
لسانها.
إن هذا الاختيار
الموفق من نساء النبي دليل واضح على كمالهن وفضلهن وعلو درجتهن ، وعلى مدى تأثير
الإسلام العظيم في صوغهن على مراد الله تعالى.
خصوصيات آل البيت النبوي
كان لآل بيت
النبوة خصوصيات ومزايا ، أولها ـ كما في الآية السابقة : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ) (وهي من الجزء ٢٢)
: مضاعفة الثواب والعقاب ، والثانية ـ الامتياز على سائر النساء بشرط التقوى ،
والثالثة ـ الحزم في القول والكلام ، والرابعة ـ القرار في البيوت والنهي عن
التبرج ، والخامسة ـ استدامة الطاعة بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله
والرسول ، والسادسة ـ التطهير من الآثام ، والسابعة ـ السمعة الطيبة ، والثامنة ـ تعليم
القرآن والسنة.
وفيما عدا هذه
الخصوصيات سوّى الله تعالى بين النساء والرجال في ثواب الأعمال والمغفرة. وهذا ما
أبانته الآيات التالية :
(يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً
(٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ
كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ
وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ
وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً
وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)) [الأحزاب : ٣٣ /
٣٢ ـ ٣٥].
هذه مزايا إيجابية
عظيمة لنساء النبي صلىاللهعليهوسلم في مقابل واجبات ألزمن بها ، فيا أيها النسوة آل البيت لا
شبيه لكنّ بين بقية النساء ، فأنتن أفضل النساء ، بشرط التقوى ، فعليكن إظهار
الحزم في القول ، وترك اللين في الكلام ، وتميز النطق بالجدّ والحزم والقوة ، حتى
لا يطمع في الخيانة من في قلبه مرض ، أي نفاق كما قال قتادة ، وقال عكرمة : أي فسق
وغزل ، وهو الصواب ، كما قال ابن عطية ، وقلن القول المعروف : وهو الصواب الذي لا
تنكره الشريعة ولا النفوس ، البعيد عن ترخيم الصوت وعن الريبة.
وهذه الخصوصية
مشروطة بشرط التقوى ، لما منحهن الله من صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وعظم
المكانة ، ونزول القرآن في حقهن.
وأنتن مأمورات
بالقرار في البيوت ، منهيات عن التبرج تبرج الجاهلية العربية قبل الإسلام ، وعليكن
إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله. وسبب تلك الأوامر والمنهيات
والمواعظ : إرادة الله إذهاب الإثم عنكن ، والتطهير من المعاصي والمأمورات.
والتبرج : إظهار الزينة والتصنع بها ، وأهل البيت : كل من لازم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأزواج والقرابة ، بدليل مطلع الآية : (يا نِساءَ النَّبِيِ).
وعلى أهل البيت
تذكر تلاوة القرآن في بيوتكن ، والحكمة : وهي السنة النبوية ،
وتعليم الكتاب
والسنة للناس ، إن الله كان وما يزال تام اللطف والخبرة ، حين علم ما ينفعكم ،
ويصلحكم في دينكم ، وجعل في بيوت آل البيت الآيات والشرائع.
ثم سوّى الله
تعالى في عشر صفات بين الرجل والمرأة وهي الإسلام والانقياد لأوامر الله تعالى ؛
والتصديق التام بما جاء عن الله من شرائع وأحكام وآداب ، والقنوت لله : وهو دوام
العمل الصالح ، والطاعة في رضا وسكون وخشوع ، والصدق في القول والعمل باعتباره
علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، والصبر على المصائب ، وتحمل
المشاق في أداء العبادة وترك المعصية ، والخشوع في العبادة ، وهو السكون
والطمأنينة ، والتؤدة والوقار ، والتواضع لله تعالى ، والتصدق بالمال لمساعدة
المحتاجين والضعفاء الذين لا مكسب لهم ، وصوم الفرض والنفل لإشراقة الروح وقوة
النفس ، والتسامي عن الماديات والشهوات ، والإقبال على الله تعالى تشبها بالملائكة
، والعفة وحفظ الفروج عن المآثم والمحرّمات إلا عن المباح بالزواج ، وذكر الله
تعالى ذكرا كثيرا ، أي استحضار عظمة الله تعالى في القلب ، وتنزيهه باللسان عن كل
نقص ، ووصفه بكل كمال في جميع الأحوال.
هؤلاء المتصفون
بهذه الخصال العشر هيأ الله تعالى لهم مغفرة سابغة تمحو سيئاتهم وذنوبهم ، وأجرا
عظيما لا مثيل له : وهو الجنة بمنازلها العالية وطيباتها ، وأنهارها ، وجمالها ،
ونعيمها الدائم.
زواج زيد بن حارثة بزينب
في أسباب نزول بعض
الآيات إيضاح لدلالاتها ، وبيان للظروف التي تقدمتها ، كما أن فيها دفعا قويا
لامتثال أمر الله تعالى ، والتزام توجيهاته ، وبيان خطة قضائه وقدره.
من هذه الأسباب
للآية (٣٦) من سورة الأحزاب : ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال : خطب
النبي صلىاللهعليهوسلم زينب ، يريدها لزيد ، فظنت أنه يريدها لنفسه ، فلما علمت
أنه يريدها لزيد ، أبت ، فأنزل الله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ ..).
وسبب نزول الآية
التي بعدها (٣٧) : ما أخرج البخاري عن أنس : أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش
وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال : جاء زيد ابن حارثة يشكو إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من زينب بنت جحش ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : أمسك عليك أهلك ، فنزلت : (وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ). قال الله تعالى :
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ
حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ
اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))
[الأحزاب : ٣٣ /
٣٦ ـ ٤٠].
المعنى : ليس لأي
مؤمن ولا مؤمنة إذا حكم الله ورسوله بأمر أن يختاروا أمرا آخر ، وإنما عليهم
امتثال المأمور الإلهي وتجنب عصيانه ، والرسول العربي : هو المبلّغ حكم الله ، ومن
يخالف أمر الله والرسول أو يعصي نهيه ، فقد تاه وانحرف عن طريق الهدى والرشاد ،
ووقع في الضلال الواضح الذي يستحق عليه الإثم الكبير ، وتطبيقا
لهذا امتثلت زينب
بنت جحش بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله أمر النبي لها بزواجها من زيد بن
حارثة الذي كان عتيق النبي ومتبناة في مبدأ أمر الإسلام ، فكان يدعى زيد بن محمد ،
حتى أبطل الله التبني بآية : (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ) فصار يدعى : زيد بن حارثة.
واذكر أيها النبي
حين قلت لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه بالإعتاق والحرية
والتربية : حافظ على زواجك بزينب ، واصبر على طبعها ، واتق الله في شأنها ، ولا
تطلقها لتعاليها وأنها من علية قريش ، وتخفي أيها الرسول في نفسك ما الله مظهره من
الحكم الإلهي : وهو علمك بطلاق زيد لها في المستقبل وتزوجك بها ، لإعلام الله لك
بذلك ، وتحذر انتقاد الناس ، والله أولى بأن تحذره أو تخشاه ، وتلزم أمره وتمتثل
حكمه.
فلما طلّقها زيد ،
وانتهت حاجته منها ورغبته بها ، وانقضت عدتها ، أمرك الله تعالى بتزوجها ، لرفع
الحرج عن المسلمين في التزوج بأزواج أدعيائهم الذين تبنوهم ، وليبين الله أن رابطة
التبني ليست كحرمة النبوة ، فتزوجها النبي ودخل بها ، بعد أن أمر النبي زيدا
بخطبتها له ، فاستخارت الله تعالى وقبلت ، ونزل القرآن في قصتها ، وكان إنفاذ أمر
الله وقدره كائنا لا محالة.
وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) فيه حذف مضاف تقديره : وكان حكم أمر الله. قالت زينب : أنا
التي زوجني الله من فوق سبع سموات.
ولم يكن على النبي
حرج أو مشقة أو عيب فيما أحل الله له وقدّره ، فذلك حكم الله وقانونه في الأنبياء
قبله ، لم يكن الله ليجعل عليهم ضيقا وإحراجا ، وكان أمر الله الذي قدّره مقدرا في
الوقت المناسب له ، وواقعا لا محيد عنه. وهذا رد على
المنافقين واليهود
الذين عابوا الرسول فيما فعل بتزوجه بزوجة متبناة في الماضي ، وفي تعدد زوجاته
لنشر الدعوة الإسلامية.
وقوله : (سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر ، أي استن بسنة الله ، أو على إضمار فعل
، تقديره : الزم سنة الله. وأمر الله : أي مأمورات الله ، والكائنات عن أمره ، فهي
مقدرة. وقدرا : على حذف مضاف : أي ذا قدر أو عن قدر.
ثم امتدح الله
جميع الأنبياء بقوله : (الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ..) أي إنهم أولئك الرسل ، الذين رفع الله الحرج عنهم فيما أحل
لهم ، مهمتهم تبليغ رسالات الله وشرائعه إلى الناس ، تبليغا تاما كما أمر الله
تعالى ، بأمانة ، وهم يخافون الله وحده في ترك التبليغ لشيء من الوحي ، ولا يخافون
أحدا سواه ، وفيه تعريض بمعاتبة النبي بالعتاب الأول في خشيته الناس ، ثم رد الله
الأمر كله إلى الله تعالى ، وأنه المحاسب على جميع الأعمال والمعتقدات ، وكفى به
أنه لا إله إلا هو.
ثم رد الله تعالى
على انتقاد العرب وغيرهم تزوج النبي بزوجة من كان متبنى له ، فقال : (ما كانَ مُحَمَّدٌ ..) أي لم يكن النبي أبا على الحقيقة لأحد من الناس المعاصرين
له ، وإنما هو رسول الله لتبليغ رسالته للناس ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، فلا
نبي بعده ، وكان الله وما يزال تام العلم بكل شيء ، ولا يفعل إلا الأصلح.
وسبب نزول هذه
الآية : ما أخرج الترمذي عن عائشة قالت : لما تزوج النبي صلىاللهعليهوسلم بزينب قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ)
أراد الله امتحان
زينب بزواج زيد ، لإلغاء عادة التبني ، وجعل الشرف في الإسلام للتقوى لا للأحساب
والأنساب.
ذكر الله تعالى
ربط الله تعالى
قلوب عباده بغرس أصول الإيمان والتقوى فيها ، وعلّمهم بسبب تعرضهم للنسيان كيفية
تجديد رابطتهم بالله تعالى ، من طريق مداومة ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا ، من غير
تقدير بحد معين ، لتسهيل الأمر عليهم ، وتعظيم الأجر فيه ، قال ابن عباس رضي الله
عنهما : لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله ، وقال : الكثير : ألا
ينساه أبدا. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون».
وفي ترطيب اللسان
بذكر الله تعالى واستحضار القلب عظمة الله : إشعار بفائدة الذكر ، وبضرورة
الارتباط الوثيق بالله تعالى وخشيته ، ليستقيم الإنسان على أمر الله ، قال الله
تعالى آمرا بالذكر ، مبينا فائدته القصوى وثمرته عند الله عزوجل :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))
[الأحزاب : ٣٣ /
٤١ ـ ٤٤].
الآية تبيان فضيلة
الذّكر ، وثواب الذاكرين. فيا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، اذكروا الله
بألسنتكم وقلوبكم ذكرا كثيرا ، من غير تحديد وقت ، ولا تقدير قدر ، إنما المطلوب
غلبة ذكر الله تعالى في أحوال الإنسان ، وضموا إلى الذكر التسبيح في الصباح
والمساء ، والمراد : في كل الأوقات ، التي تبدأ بطرفي النهار والليل ، وإنما خص
هذان الوقتان بالذّكر ، لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار. وأكد النبي صلىاللهعليهوسلم الأمر بمداومة الذكر ، روى البيهقي عن مكحول مرسلا : «إن
ذكر الله شفاء ، وذكر الناس داء». ورواه الديلمي عن أنس بن مالك بلفظ : «ذكر الله
شفاء
القلوب» . وعن قتادة : «قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله
إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وخص الأمر بالذكر
في المزدلفة عند المشعر الحرام ، فقال الله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ٢ / ١٩٨]
وفي أداء مناسك الحج في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢ / ٢٠٣]
وبعد ذهاب الخوف من العدو : (فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢ / ٢٣٩]
وعند ذبح الأنعام : (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٢٢ / ٣٦]
وعند الصيد : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٥ / ٤].
ووصف الله المؤمنين بالذاكرين في الأوقات كلها في قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً
وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ٣ /
١٩١] وقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ
اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً) [الأحزاب : ٣٣ /
٣٥].
ثم أبان الله
تعالى فضيلة الذّكر وسببه وثوابه بقوله : (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي إن الله تعالى الذي تذكرونه وتسبّحونه : هو الذي يرحمكم
، وصلاة الله على عباده : هي رحمته لهم ، وبركته لديهم ، ونشره إلينا الجميل ،
والملائكة تستغفر لكم ، لأن صلاة الملائكة : الدعاء للمؤمنين ، وذلك من أجل إرادة
هدايتكم ، وإخراجكم من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الحق والهدى والإيمان ، وكان
الله وما يزال رحيما ، تام الرحمة بالمؤمنين من عباده ، في الدنيا والآخرة ، أما
في الدنيا : فإن الله يهديهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، ويبصّرهم الطريق الذي حاد
عنه سواهم الى الكفر والابتداع الضالّ ، وأما في الآخرة : فيؤمّنهم الله من الفزع
الأكبر ، ويظلّهم بمظلته الرحيمة ، وتبشّرهم الملائكة بالفوز بالجنة والنجاة من
النار ، رأفة بهم ، ومحبة لهم.
__________________
وسبب نزول هذه
الآية : (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي) ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد قال : لما نزلت آية : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٣٣ /
٥٦] قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا
أشركنا فيه ، فنزلت : (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ).
ومن بشائر رحمة
الله بعباده استقبالهم بالتحية والسلام ، فتحيتهم من الله تعالى بواسطة ملائكته
يوم لقائه في الآخرة : هو السلام ، وأعد الله تعالى لهم ثوابا حسنا ، وهو الجنة
وما فيها من ألوان النعيم والمناظر الحسنة ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا
خطر على قلب بشر. قال الله تعالى في آية أخرى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٣٦ / ٥٨].
وقال سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ١٣ / ٢٣
ـ ٢٤].
وظائف النبي صلىاللهعليهوسلم
إن عبء تبليغ
الوحي الإلهي ، والقيام بموجب الرسالة ليس بالأمر الهين ، فهو بالإضافة إلى
اقترانه بظروف عسيرة صعبة ، ومقاومة شديدة من القوم ، يتطلب إحساسا متقدا من
الرسول ، وشعورا كبيرا بالمسؤولية ، خشية التقصير في تكليف الله إياه ، واطمئنانه
إلى تنفيذ مراد الله ، ويمكن حصر خصائص أو وظائف النبي محمد صلىاللهعليهوسلم بسبع ، تشمل جميع أوجه الوحي الإلهي ، وهذا ما أوضحته
الآيات الكريمة الآتية :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً
إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ
وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِناتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ
مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً
(٤٩)) [الأحزاب : ٣٣ /
٤٥ ـ ٤٩].
هذه مهمات أو
وظائف سبع للنّبي صلىاللهعليهوسلم ، ذكرت الآية الأولى منها ثلاثا : وهي الشهادة على أمته
وغيرهم بالتبليغ إليهم ، والتبشير ، والإنذار ، فيا أيها النّبي المنزل إليك الوحي
، إنا كلفناك وأرسلناك شاهدا على أمّتك بالتبليغ إليهم ، وعلى سائر الأمم في تبليغ
أنبيائهم ، ونحو ذلك ، وتبشر المؤمنين برحمة الله وبالجنة ، وتنذر العصاة
والمكذبين من النار وعذاب الخلد. قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه ابن أبي
حاتم وغيره : لما نزلت هذه الآية ، دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليّا ومعاذا رضي الله عنهما ، فبعثهما إلى اليمن ، وقال :
«اذهبا فبشّرا ولا تّنفّرا ، ويسّرا ولا تعسّرا ، فإني قد أنزل علي ، وقرأ الآية».
والآية الثانية
ذكرت وظيفتين للنّبي صلىاللهعليهوسلم ، وهما الدعوة إلى الله ، وجعلك سراج النور المنقذ من ظلمة
الكفر ، فيا أيها النّبي إنا جعلناك داعية الناس إلى الله بأمره في تبليغ التوحيد
والأخذ به ، ومكافحة الكفر. وجعلناك أيضا ذا سراج تضمّنه شرعك لما فيه من النور ،
لتخرج الناس من ظلمة الكفر إلى نور الحق والتوحيد والإيمان. فقوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه ، فكأن المهتدين به
والمؤمنين يخرجون بنوره من ظلمة الجهالة والكفر إلى الإيمان الحق. ووصف السّراج
بالإنارة ، لتميّزه وإضاءته ، لأن بعض السّرج لا يضيء لضعفه.
ومفاد المهمة
السادسة في الآية الثالثة : تبشير المؤمنين المصدّقين برسالتك بأن لهم فضلا كبيرا
على سائر الأمم ، وأجرا عظيما.
أخرج ابن جرير
الطبري في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة والحسن البصري قالا : لما نزل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٤٨ / ٢].
قال رجال من
المؤمنين : هنيئا
لك يا رسول الله ، قد علمنا بما يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) الآية [الفتح : ٤٨ / ٥] ، وأنزل في سورة الأحزاب : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً).
والمهمة السابعة :
لا تطع أيها النّبي الكافرين بنبوتك ، ولا المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون
الكفر ، واترك إيذاءهم وعقابهم ، أي اصفح عن زللهم ولا تؤذهم ، وفوّض أمرك إلى
الله تعالى في كل ما تعمل وتذر ، وثق به ، فإن فيه كفاية لهم ، والله هو حافظك
وراعيك ، وكفى بالله كافيا عبده ، وذلك حق مطلق : (أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزّمر : ٣٩ / ٣٦].
ثم عاد البيان
القرآني لتفصيل حكم عدة ومتعة المرأة غير المدخول بها ، بعد بيان عدة زينب المدخول
بها ، في حال طلاقها ، فيا أيها المصدّقون بالله ورسوله ، إذا تزوجتم النساء
المؤمنات ، ثم طلقتموهن قبل الدخول (أو البناء) بهن ، فليس لكم عليهن عدة تستوفون
عددها ، ولكن قدّموا لهنّ بعد الطلاق تطييبا لخاطرهن متعة : وهي كسوة كاملة تليق
بكم وبهن بحسب الزمان والمكان ، وطلقوهن طلاقا لا ضرر فيه ، بل إنه متّصف بجمال
التسريح : وهو ألا يطالبها بما آتاها ، ويحسن عشرتها ، ويكلمها بكلام طيب دون أذى.
فقوله : (تَعْتَدُّونَها) من العدّ. وتخصيص المؤمنات بالذّكر : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) إرشاد إلى الحرص على الزواج بالمؤمنات ، فإنهن أشدّ تحصينا
للدين.
وهذه الآية خصّصت
آيتين : إحداهما : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢ / ٢٢٨]
فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها ، وكذلك خصّصت من ذوات الثلاثة الأشهر : المرأة
اليائس من الحيض ، والصغيرة التي لم تحض قبل الدخول في آية : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ
..) [الطّلاق : ٦٥ / ٤]
فهاتان قبل الدخول لا عدة عليهما.
خصوصيات النبي صلىاللهعليهوسلم في الزواج
اقتضت ظروف النبوة
وأحوال نشر الدعوة الإسلامية اختصاص النبي صلىاللهعليهوسلم ببعض الأحكام في الزواج بالنساء ، ومنها هبة المرأة نفسها
للنبي من غير مهر ، وإعفاؤه من القسم بين الزوجات ، والاقتصار على زوجات تسع ،
وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ
عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي
مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ
عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا
يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ
بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))
[الأحزاب : ٣٣ /
٥٠ ـ ٥٢].
أحل الله تعالى
لنبيه أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها ، وأباح له كل النساء بهذا الوجه ضمن قيود
معينة ، وأباح له ملك اليمين ، وأباح له بنات العم والعمة والخال والخالة ممن
هاجرن معه ، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفا وتنبيها. ذكر الله تعالى في الآية الأولى
أربع فئات من النساء المباحات للنبي صلىاللهعليهوسلم ، الأولى : النساء الممهورات ، أي اللاتي أعطيت أجورهن ،
والأجر في اللغة : المهر ، والفئة الثانية : ملك اليمين مثل صفية وجويرية وريحانة
بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم إبراهيم. والفئة الثالثة : بنات العم
والعمة والخال والخالة المهاجرات معه من مكة إلى المدينة. والفئة
الرابعة : المرأة
الواهبة نفسها للنبي بغير مهر ، إن رغب النبي في الزواج بها ، والزواج بلفظ الهبة
خصوصية للنبي دون المؤمنين هذه خصوصيات للنبي ، وقد علم الله حكم ما أحل من النساء
لبقية المؤمنين من الزوجات والمملوكات المسبيات. وإباحة هؤلاء النساء لك أيها
النبي لدفع الحرج والمشقة عنك ، ولتتفرغ لتبليغ رسالتك ، وكان الله وما يزال واسع
المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات ، ما لا يمكن التحرز عنه ، ورحيما بك وبالمؤمنين ،
بدفع الحرج والمشقة ، وترك العقاب على ذنب تابوا عنه.
وسبب نزول هذه
الآية : هو ما أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ قالت :
خطبني رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فاعتذرت إليه ، فعذرني ، فأنزل الله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ ..) إلى قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ
مَعَكَ) فلم أكن أحلّ له ، لأني لم أهاجر.
وخير الله نبيه في
القسم بين الزوجات دون إلزام ، فلك أن تؤخر المبيت عند من تشاء من زوجاتك ، أي هذه
الأصناف كلها ، وتبيت مع من تشاء ، لا حرج عليك من ترك القسم لهن ، ومن طلبت إلى
المبيت معك ممن تركت البيتوتة معهن ، فلا إثم ولا حرج عليك في ذلك ، كل ذلك أقرب
إلى سرورهن وقرة أعينهن ، وعدم حزنهن ، ورضاهن كلهن بما تفعل ، دون قلق ولا عتاب ،
والله تام العلم بالميل لبعضهن دون بعض ، من غير اختيار ، وكان الله وما يزال شامل
العلم تام الحلم ، فلا يعاجل المذنب بعقاب ، حتى يتوب.
نزلت هذه الآية
كما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها : أنها كانت تقول : أما تستحي
المرأة أن تهب نفسها!! فأنزل الله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ ..) الآية ، فقالت عائشة : أرى ربك يسارع لك في هواك.
وبما أن ملك
اليمين نادر ، فإن نساء النبي سررن بسبب تحريم بقية النساء على
النبي ، بنزول هذه
الآية. ثم حرم الله تعالى على نبيه التزوج بغير الزوجات التسع اللاتي عنده ، فلا
يحل لك أيها الرسول النساء بعد هؤلاء اللواتي عندك ، جزاء لاختيارهن الله ورسوله ،
ولا يحل لك أيها النبي الاستبدال بهن غيرهن ، بأن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى ،
وإن أعجبك حسنها ، إلا ملك اليمين ، كمارية القبطية التي أهداها المقوقس لك ، وكان
الله وما يزال مطلعا على كل شيء ، مراقبا كل ما يكون من أي إنسان ، وكل ما يحدث في
الكون ، فاحذروا مخالفة أوامره ، فإن الله يجازي كل امرئ بما كسب.
وسبب نزول هذه
الآية : هو ما أخرج ابن سعد في الطبقات عن عكرمة ، قال : لما خيّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أزواجه اخترن الله ورسوله ، فأنزل الله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ).
فهذه الآية نزلت
مجازاة لأزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ورضا الله عنهن
على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيّرهن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
آداب دخول البيت النبوي
إن للبيوت عامة
حرمة خاصة ، وتزداد هذه الحرمة وتتألق في بيوت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لذا شرع الإسلام آدابا عامة في الدخول لبيوت الآخرين
والخروج منها ، وآدابا خاصة بالبيت النبوي ، وفرض الحجاب على نساء النبي ، وتحريم
الزواج بهن من بعده ، ومنع الاختلاط. وقد نزلت آية حجاب زوجات النبي أمهات
المؤمنين ، كما ذكر قتادة والواقدي ، في صبيحة عرس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بزينب بنت جحش التي زوّجها الله من نبيه ، في ذي القعدة من
السنة الخامسة. وهذه هي الآداب في الآيات القرآنية الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ
أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ
كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا
أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))
[الأحزاب : ٣٣ /
٥٣ ـ ٥٥].
تضمنت الآية
الأولى حكمين : الأول ـ الأدب في شأن الطعام والجلوس ، والثاني ـ أمر الحجاب. أما
الحكم الأول ، فيا أيها الذين آمنوا أو صدقوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيتا من بيوت
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في كل الأحوال إلا بالإذن لتناول طعام ، غير منتظرين وقت
نضجه ، فإذا نضج فادخلوا. فإذا دعيتم فادخلوا ، فإذا تناولتم الطعام فانتشروا في
الأرض غير مستأنسين أو مشتغلين بلهو الحديث. إن دخولكم بيت النبي واشتغالكم
بالحديث قبل نضج الطعام كان يؤذي النبي ، وإيذاؤه حرام ، وكان النبي يتضايق من ذلك
، ويكره أن ينهاكم عن ذلك من شدة حيائه صلىاللهعليهوسلم ، والله لا يستحيي من بيان الحق ، وهو الأمر بالخروج من
البيت ، ومنع البقاء فيه. وهذا أدب عام يشمل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وسائر المؤمنين.
نزلت هذه الآية
فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس ، قال : لما تزوج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم ، فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون ،
وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، وقام
__________________
من القوم من قام ،
وقعد ثلاثة ، ثم انطلقوا ، فجئت ، فأخبرت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنهم انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب
بيني وبينه ، وأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ..) الآية.
والحكم الثاني :
هو حجاب زوجات النبي ، فكما نهيتكم عن الدخول إلى بيوت النبي من غير إذن ، ودون
انتظار نضج الطعام ، كذلك نهيتكم عن النظر إلى زوجات النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإذا طلبتم منهن شيئا من الأمتعة ، كالمواعين وسائر
مرافق الدين والدنيا ، فاطلبوه من وراء حجاب ساتر. ذلك الحجاب أطهر وأطيب للنفس ،
وأبعد عن الريبة ، لقلوبكم ، وقلوبهن ، أي أطهر من الهواجس ووساوس الشيطان.
وذلك لأنه لم يصح
لكم أن تؤذوا رسول الله وتضايقوه ، كالبقاء في منزله ، والاشتغال بالحديث ،
وانتظار نضج الطعام ، ويحرم عليكم أبدا التزوج بنسائه بعد الفراق بموت أو طلاق ،
تعظيما له ، إن إيذاء الرسول صلىاللهعليهوسلم وزواج نسائه من بعده ذنب عظيم وإثم كبير. والبعد عن
الإيذاء سرا وعلنا مطلوب ، فإنكم إن تظهروا شيئا من الأذى أو تكتموه ، فإن الله
تام العلم به ، يعلم السرائر والخفايا ، والظواهر والأحوال كلها.
ثم استثنى الله من
حكم حجاب أزواج النبي : المحارم ، فلا إثم ولا حرج على زوجات النبي صلىاللهعليهوسلم في ترك الحجاب أمام الآباء والأبناء ، بسبب النسب أو
الرضاع ، والإخوة وأبناء الإخوة والأخوات ، وأمام النساء المؤمنات ، والأرقاء من
الذكور والإناث ، بعدا عن الحرج والمشقة في ذلك بسبب الخدمة. ودخل الأعمام في
الآباء. والمرفوع فيه الإثم بهذه الآية : هو الحجاب كما قال قتادة ، أي يباح لهذه
الأصناف الدخول على النساء دون الحجاب ، ورؤيتهن. وقال مجاهد : ذلك في وضع الجلباب
وإبداء الزينة. ثم مع الإلزام بالحجاب أمر الله نساء النبي بالتقوى ، وتوعد على المخالفة
بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً) أي إن الله كان وما يزال مطلعا على كل شيء ، وفي ذلك منتهى
التحذير من مخالفة الأمر والنهي الإلهي.
حكم إيذاء النبي والمؤمنين
لقد عظّم الله
تعالى نبيه المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، فأعلن الصلاة عليه ، أي رحمته ، وأمر المؤمنين بالصلاة
والسلام عليه ، وهذا تشريف له ، وذكر الله منزلته عنده ، وحرّم إيذاءه بمخالفة
أمره ، وعصيان نهيه ، والطعن في أهل بيته ، فإن المؤذين ملعونون في الدنيا ،
معذبون في الآخرة ، وكذلك حرّم الله تعالى إيذاء أهل الإيمان ، وجعل ذلك مستوجبا
للإثم الكبير ، وهذا ما أبانته الآيات الكريمة الآتية :
(إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))
[الأحزاب : ٣٣ /
٥٦ ـ ٥٨].
هذه الآية أظهرت
مكانة النبي صلىاللهعليهوسلم عند الله والملائكة ، فإن الله يصلي على نبيه بالرحمة
والرضوان ، والملائكة تدعو له بالمغفرة وعلو الشأن ، لذا فأنتم أيها المؤمنون
مأمورون بالصلاة والسلام عليه تسليما كثيرا مباركا فيه. والصلاة من الله تعالى :
رحمة منه وبركة ، وصلاة الملائكة : دعاء وتعظيم ، وصلاة الناس : دعاء واستغفار.
وصفة الصلاة على
رسول الله : تظهر فيما أخرجه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه :
قال رجل : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال :
قل : «اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، كما
صليت على إبراهيم
، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك
حميد مجيد».
والصلاة والسلام
على النبي واجبة مرة في العمر ، عملا بالأمر المقتضي للوجوب ، وهو : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) وهي حينئذ مثل كلمة التوحيد ، لأن الأمر لا يقتضي التكرار
، وإنما يدل على الماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرة. ويسن الإكثار من الصلاة
والسلام على رسول الله في المناسبات المختلفة ولا سيما في يوم الجمعة وعند زيارة
قبره صلىاللهعليهوسلم ، وبعد النداء للصلاة ، وفي صلاة الجنازة. أخرج الترمذي عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده ، فلم يصلّ علي ..».
وشأن التشريف
والتعظيم للنبي من الله وملائكته والأمر بالصلاة والسلام عليه ، يستوجب تحريم
الأذى والإخلال بقدره ، لذا عقب الله ذلك بالتهديد بالعقاب لكل مؤذ ، فإن الذين
يصدر منهم إيذاء الله ورسوله ، لعنهم الله في الدنيا والآخرة ، وطردهم من رحمته
وأبعدهم عن كل خير ، وأعد لهم عذابا ذا إهانة وإذلال وتحقير في نار جهنم. وإيذاء
الله معناه : الكفر به ، ونسبة الصاحب والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق
به.
أخرج ابن أبي حاتم
والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه في الآية : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال فيما يروي عن ربه عزوجل : «شتمني ابن آدم ، ولم ينبغ له أن يشتمني ، وكذبني ولم
ينبغ له أن يكذبني ، فأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ،
وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني» ، أي إنه ينكر البعث.
وإيذاء الرسول صلىاللهعليهوسلم : يكون بما يؤذيه من الأقوال والأفعال ، كأن يقال عنه :
إنه ساحر ، أو شاعر ، أو كاهن أو مجنون. وروي عن ابن عباس : أن الآية نزلت في
الذين طعنوا على النبي صلىاللهعليهوسلم في تزوجه صفية بنت حيي بن أخطب.
ثم ذكر الله تعالى
عقاب المؤذين لأهل الإيمان ، فإن الذين يصدر منهم الأذى للمؤمنين والمؤمنات
بالأفعال والأقوال القبيحة ، والبهتان ، والكذب الفاحش المختلق ، سواء فيما يمس
العرض أو الشرف أو المال ، بأن ينسبوا إليهم ما لا علم لهم به ولم يفعلوه ، فإنهم
تحملوا البهتان أي الفعل الشنيع ، أو الكذب الشائن ، وارتكبوا ما يوجب الوقوع في
الإثم والذنب الواضح.
ومن أشد أنواع
الأذى للمؤمنين : الطعن بالصحابة ، والغيبة ، واستباحة عرض المسلم ، والتعييب
والتحقير ، والإنقاص ، والهمز واللمز ، والإتلاف والاعتداء على النفس والمال.
ويستثني من ذلك حالة الرعاية والتأديب لأغراض شريفة أو كريمة.
إن صون حرمة
المؤمن واجب شرعي ، وأدب أخلاقي كريم ، لا سيما في أثناء الغيبة.
وإن إيذاء الله
بالكفر به ، وإيذاء الرسول بالطعن بشيء من تصرفاته ، أو الإساءة لأهله ، جرم عظيم
وفعل شنيع.
الحجاب وجزاء المنافقين
لا يمكن لأحد
الادعاء بأن المرأة ليست فتنة للرجل ، بشعرها وسواعدها وأرجلها وسائر جسدها ،
بدليل إدامة النظر إليها ما لم يكن هناك شاغل أو مانع خلقي أدبي أو ديني ، والواقع
خير شاهد ، ولا مكابرة فيه وبرهان ذلك الأمر الإلهي الدائم بغض النظر من الرجل
والمرأة ، لذا نظم الشرع الحنيف العلاقة بين الرجل والمرأة ، فأقامها على الحق
والعدل ، وصان المرأة من كل ذرائع الافتتان بها أو إيذائها ، وذلك بما لا داعي
لستره وهو جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين ، على المعتمد المحقق شرعا. وأما
المنافقون فهم أداة إفساد وتفريق ، وداء مرضي ضار ، فكان من الطبيعي كشفهم
أمام المجتمع ،
وزجرهم بما يستحقون ، وتهديدهم بالعقاب المناسب ، قال الله تعالى مبينا فرضية
الحجاب الشرعي بحدوده المعتدلة وحكم أهل النفاق :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))
[الأحزاب : ٣٣ /
٥٩ ـ ٦٢].
يأمر الله النبي
بتبليغ زوجاته وبناته ونساء المؤمنين بإرخاء الستر عليهن وتغطيتهن بالحجاب الشرعي
: وهو الجلباب ، أي الرداء الساتر لجميع الجسد ما عدا الوجه والكفين ، وهو أدب حسن
يبعد المرأة عن مظان التهمة والريبة ، ويحميها من أذى الفساق ، ويميز الحرائر عن الإماء
كما كان في الماضي ، وكان الله وما يزال واسع المغفرة لما سلف من إهمال التستر ،
عظيم الرحمة بعباده ، حيث أرشدهم إلى هذا الأدب الرفيع فقد كانت عادة العربيات في
الجاهلية التبذل في الستر ، وكشف مواطن الزينة ، فبدل الإسلام بالتبرج : الصون
والستر المناسب.
روي أنه كان في
المدينة قوم يجلسون على الصّعدات (كالمصاطب) لرؤية
النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت الآية بسبب ذلك.
ثم توعد الله
المنافقين (الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر) فلئن لم يكفوا عما هم عليه من
النفاق فلنسلطنك عليهم ، هم والذين في قلوبهم مرض (وهو شك وريبة في أمر الدين وحب
الزنا) وأهل الإرجاف في المدينة (وهم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب
المدينة ، بأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سيغلب ،
__________________
ونحو هذا مما يضعف
نفوس المؤمنين) ثم لا يجاورونك أيها النبي إلا جوارا قليلا ووقتا قليلا.
وهم في حال
إقامتهم في المدينة زمنا قليلا يكونون مطرودين من رحمة الله ، منبوذين ، أينما
حوصروا وقدر عليهم ، أسروا وأخذوا أذلاء ، وقتلّوا شر تقتيل ، فلم يجدوا أحدا
يؤويهم ، بل ينكل بهم ويؤسرون.
وهذا الحكم وهو
لعن المنافقين وأسرهم وتقتيلهم وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم ، هو سنة الله
وطريقته في المنافقين في كل زمن مضى ، وهم منافقو الأمم ، ولا تبديل ولا تغيير
لسنة الله ونظامه ، لقيامها على الحكمة والمصلحة وصلاح الأمة ، بل هي سنة ثابتة
دائمة في أمثال هؤلاء مدى الزمان. وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر ، أي استنوا بسنة الله تعالى.
يلاحظ من هاتين
الآيتين أن الحجاب الشرعي ذا الحدود المعتدلة من غير إفراط ولا تفريط مظهر حضاري
كريم ، لا يعوق نشاط المرأة ، وإسهامها في كل عمل حيوي يفيد المجتمع والأمة.
ويلاحظ أيضا أن
الأوصاف الثلاثة : وهي النفاق ، ومرض القلب ، والإرجاف موجودة كلها في المنافقين.
وهم خطر على الأمة في عقيدتها ، وفي سلمها وحربها ، فهم كالسوس ينخر في جسم الأمة
، وهم في السّلم جرثومة فتك وأداة تخريب وتفريق ، وفي الحرب أداة إضعاف وإشاعة
السوء ، وزعزعة المقاتلين ، وهم في الواقع عون للأعداء على المسلمين ، مما يجب
التخلص منهم ، وعقابهم أشد العقاب ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [النساء ٤ / ١٤٥].
جزاء الكفار
اصطدمت الدعوة
الإسلامية إبّان ظهورها بحاجز صلب من شرك المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر ،
وأنكروا النبوة وإرسال النبي ، وجحدوا بوجود يوم القيامة ، وأخذوا في توجيه أسئلة
التحدي والعناد ، والتشكيك بأصول الدين والعقيدة ، وحاولوا طمس معالمها ، وتوهين
بنيتها ، فسألوا سؤال مكابرة عن تحديد موعد القيامة ، فاستحقوا التهديد والوعيد
بالعذاب الأليم ، والتعرض لشيّ الوجوه والجلود بالنار ، وبادروا في الآخرة لإظهار
الندم على ترك إطاعة الله والرسول ، وملازمتهم تقليد الآباء والسادة ، وطالبوا
بمضاعفة العذاب على سادتهم ، وهذا ما صرحت به الآيات الكريمة الآتية :
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ
عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا
أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ
مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))
[الأحزاب : ٣٣ /
٦٣ ـ ٦٨].
سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن وقت الساعة (القيامة) متى هو؟ فلم يجب في ذلك بشيء ،
ونزلت الآية آمرة أن يردّ العلم فيها إلى الله ، إذ هي من مفاتيح الغيب التي
استأثر الله بعلمها.
وهذا السؤال
والجواب في حال الاستفسار بحسن نية. لكن تساءل الناس المشركون سؤال تهكم وسخرية
واستهزاء ، ومعهم المنافقون سؤال تعنت وتنطع ، ثم اليهود سؤال امتحان واختبار ،
فأجابهم الله ونبيه بأن علمها محصور بالله تعالى. ثم توعدهم بقربها بقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
تَكُونُ قَرِيباً) أي ينبغي أن تحذر ، فما
يعلمك بها ، فإنها
من المغيبات المختصة بالله تعالى ، وربما توجد في وقت قريب. وهذا تهديد للمستعجلين
، وتوبيخ لأهل التعنت والتهكم والاختبار. وقوله تعالى : (تَكُونُ قَرِيباً) القريب : لفظة واحد ، تطلق على الجمع والإفراد والتذكير
والتأنيث.
ثم توعد الله
الكافرين بعذاب لا ولي لهم فيه ولا ناصر ، ومضمونه : إن الله تعالى طرد الكافرين
وأبعدهم عن رحمته ، وهيّأ لهم في الآخرة نارا شديدة الاستعار والإحراق. وهم في نار
جهنم وعذابها خالدون مخلّدون ، ماكثون فيه على الدوام ، ولا يجدون من يواليهم
ويناصرهم وينقذهم أو يخلّصهم من ذلك العذاب.
وأما أوصاف العذاب
: فهي رهيبة جدا ، إن الكافرين يجرّون في النار على وجوههم ، ويتقلّبون فيها
كاللحم المشوي على النار ، ويظهرون أشد الندامة قائلين : يا ليتنا أطعنا الله
ورسوله فيما أمر ونهى. كما جاء في آية أخرى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٥٤ / ٤٨].
وقال سبحانه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ
سَبِيلاً) [الفرقان : ٢٥ /
٢٧].
ثم أعلن الكافرون
سبب انحراف اعتقادهم ، ولاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم ، فقالوا وهم في
عذاب جهنم : يا ربنا لقد أطعنا في الشرك والكفر رؤساءنا وقادتنا وعظماءنا وعلماءنا
، وخالفنا الرسل ، فأضلونا عن طريق الهدى بما زيّنوا لنا من الكفر بالله ورسوله.
يا ربنا عذبهم عذابا مضاعفا : عذاب الكفر ، وعذاب إضلال غيرهم وإغوائهم إيانا ، أي
عذبهم عن أنفسهم وعمن أضلوا ، وأبعدهم عن رحمتك بعدا كبيرا. وإضلال السبيل : يراد
به سبيل الإيمان والهدى ، واللعن الكبير : أي العنهم مرات كثيرة.
إذا كان هذا هو
مصير الضالين والمضلين في الآخرة ، فلم لا يبادر الفريقان إلى
ترك الضلال
والإضلال ، فالداعي إلى الضلال يقلع عن مساعيه الشريرة في إضلال الآخرة ، والمدعو
للضلال يتخلص من تأثيرات المضلين ، ويبتعد عن أقوالهم وأفعالهم وجميع إغراءاتهم
وأضاليلهم ، فإذا فعلوا ذلك في الدنيا دار التكليف والاختبار ، نجّوا أنفسهم من
سوء العذاب وسوء المصير.
تحريم الإيذاء وأداء الأمانات
لقد زخر القرآن
العظيم بتوجيهات المؤمنين إلى أقوم السبل ، مبتدئا من التخلي عن الحرام ، وذلك
بتحريم الإيذاء ، ثم تقويم النفوس على هدي الله وتقواه بالتزام الأوامر واجتناب
النواهي ، ثم تحريض كل إنسان على أداء أمانة التكليف الإلهي على أقوم الوجوه وأسلم
الطرق ، فيؤول أمر الناس أو يصير إلى إثابة المؤمنين المستقيمين على درب الطاعة ،
وتعذيب الكافرين والمنافقين والمشركين الوثنيين. وهذه عملية إفراز وعزل ، يتميز
بها كل فريق عن الآخر ، بالمزايا أو الصفات التي تؤهله إلى مصير معين : حسن كريم ،
أو سيّئ مشؤوم ، قال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ
فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))
[الأحزاب : ٣٣ /
٦٩ ـ ٧٣].
تميزت هذه الآيات
بأدب الخطاب الإلهي ، لابتدائها بوصف المخاطبين بالإيمان ، فيا أيها المصدقون
بالله ورسوله ، لا تؤذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقول أو العمل ، مما
يكرهه ، فتكونوا
كالذين آذوا موسى ، وهم قوم من بني إسرائيل ، فبرأه الله من اتهامهم الباطل ، وكان
موسى عليهالسلام وجيها عند الله ، أي مكرم الوجه.
وإيذاء موسى : هو
ما تضمنه حديث النبي صلىاللهعليهوسلم المشهور ، الذي أخرجه البخاري ، ومسلم بمعناه ، قال : «كان
بنو إسرائيل يغتسلون عراة ، وكان موسى عليهالسلام يتستر كثيرا ، ويخفي بدنه ، فقال قوم : هو آدر (منتفخ
الخصية) أو أبرص (والبرص : بياض يظهر في الجسد لعلّة) أو به آفة (والآفة : كل ما
يصيب شيئا فيفسده ، من عاهة أو مرض أو قحط) فاغتسل موسى يوما وحده ، وجعل ثيابه
على حجر ، ففرّ الحجر بثيابه واتّبعه موسى يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر (أي اترك
ثوبي يا حجر) فمرّ في أتباعه في ملأ من بني إسرائيل فرأوه سليما مما ظنّ به».
فبرأه الله مما قالوا.
هذا هو التوجيه
الأول : وهو نهي المؤمنين عن إيذاء الرسول ، والتوجيه الثاني هو : الأمر بالتقوى ،
فيا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه ،
والتزام أوامره ، وقولوا القول السديد ، أي الصواب والحق في كل أموركم ، فإذا
فعلتم ذلك أصلح الله لكم أعمالكم ، وهو قبولها وإثابتكم بالجنة دار الخلود ، وغفر
لكم ذنوبكم الماضية. وهذا وعد من الله تعالى بأنه يجازي على القول السّداد ، بإصلاح
الأعمال ، وغفران الذنوب ، ثم حرّض الله تعالى على الطاعة ، فمن يطع أوامر الله
والرسول ، ويجتنب النواهي ، فقد نجا من النار ، وفاز أعظم فوز بالجنة.
ومما لا شك فيه أن
المسؤولية عن التكاليف حساسة وخطيرة وثقيلة ، فقد عرض الله الأمانة ، أي التكاليف
الإلهية كلها من فرائض وطاعات ومنهيات على أرجاء السماوات والأرض ، فأعرضت عن حمل
مسئوليتها ، خوفا من حملها ، وتحملها الإنسان مع ضعفه ، ولكنه لم يقدّر ذلك الحمل
، فكان ظلوما لنفسه ، جهولا بقدر ما
يحمله. والإنسان
هو ابن آدم ، كما قال جماعة كابن عباس والضحاك وغيرهما. والأمانة : كل شيء يؤتمن
الإنسان عليه ، من أمر ونهي ، وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة. ولام (لِيُعَذِّبَ اللهُ) هي لام العاقبة أو الصيرورة. لأن الإنسان لم يحمل الأمانة
ليقع في العذاب ، ولكن حمل ذلك فصار الأمر وآل إلى أن يعذّب من نافق أو أشرك ، وأن
يتوب على من آمن.
وكان من عاقبة
التكليف والرضا به هو انقسام الناس إلى فريقين : طائعين وكافرين ، فيعذب الله فريق
المنافقين والمنافقات ، والمشركين والمشركات ، لخيانتهم الأمانة وتكذيب الرسل ،
ونقض الميثاق ، ويثيب الله المؤمنين والمؤمنات بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ،
العاملين بطاعة الله ، وكان الله تعالى وما يزال واسع المغفرة للمقصرين التائبين ،
كثير الرحمة لخلقه إذا أقبلوا على ربهم ، واستدركوا أخطاءهم.
تفسير سورة سبأ
إثبات البعث
يفتتن الناس عادة
بالقوة ، ويمجدون الأقوياء ، ويتعاطفون مع الأبطال ، ويتابعون مشاهد بطولاتهم في
أعمالهم ، وما يلحقون به غيرهم من هزائم منكرة ، ولكنهم مع الأسف الشديد لاهون ،
غير متأملين بمن هو مصدر القوة كلها جميعا في السماوات والأرض. وأبين دليل على قوة
الله وعزته وسلطانه : خلقه السماوات والأرض ، والإنسان في أقوم خلقه وأشدّ تركيب ،
وأحكم انسجام بين أجزاء جسده. قال الله تعالى مدللا على قدرته ، وإثبات البعث ، في
مطلع سورة سبأ المكية ، إلا قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) قيل : هي مكية ، والمراد : المؤمنون بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : هي مدنية ، والمراد من أسلم بالمدينة من أهل
الكتاب كابن سلام وأشباهه :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ (٥))
[السبأ : ٣٤ / ١ ـ
٥].
__________________
الشكر والحمد
المطلق التام لله مالك السماوات والأرض وما فيهما ، والمتصرف بشؤونهما ، له الحمد
في الآخرة كالدنيا ، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة بنعمه الكثيرة ،
وهو الحكيم في أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، يدبّر شؤون خلقه أحكم تدبير ، وهو
خبير ببواطن الأمور وظواهرها.
والألف واللام في
كلمة (الْحَمْدُ) لاستغراق الجنس ، أي الحمد بأنواعه المختلفة هو لله تعالى
من جميع جهات الفكر.
والصفات التي
تستوجب المحامد هي في الآية : ملكه جميع ما في السماوات وما في الأرض ، وعلمه
المحيط بكل شيء ، وخبرته وحكمته بالأشياء ، لخلقه إياها ، ورحمته بأنواع خلقه ،
وغفرانه لأهل الإيمان.
ولله أيضا كل
الحمد في الآخرة ، فاللام والألف للجنس أيضا ، وهو خبر يفيد أن لله وحده الحمد في
الآخرة ، لإنعامه وأفضاله ورحمته ، وظهور قدرته ، وغير ذلك من صفاته.
والله يعلم كل ما
يدخل في الأرض ، كالغيث والكنوز والدفائن والأموات ، ويعلم ما يخرج من الأرض ،
كالحيوان والنبات والماء والمعادن. ويعلم ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب
والأرزاق ، والأمطار ، والصواعق ، وما يعرج فيها كالملائكة أيضا ، وأعمال العباد
والغازات والأدخنة ووسائل النقل الجوي ، والطيور ، والله هو الرحيم بعباده ، فلا
يعاجل عصيانهم بالعقوبة ، الغفور لذنوب التائبين إليه ، المتوكلين عليه.
ولكن أنكر الكفار
قيام القيامة ، فقالوا استعجالا منهم واستهزاء بالوعيد : لن تقوم الساعة ، ولا
حساب ، ولا حشر ، ولا جنة ، ولا نار ، فرد الله : قل أيها النبي
لهم : بلى والله
لتأتينكم بلا شك أو ريب. وهذا في غاية التأكيد ، بسبب القسم بالله ، وتأكيد الفعل
باللام ، وبنون التوكيد الثقيلة.
والله القادر على
البعث : عالم بالغيبيات ، لا يغيب عنه شيء من الموجودات ، ولو كان أصغر شيء كالذرة
، يعلم الأصغر والأكبر ، وكل ذلك ثابت علمه ، ومدوّن في كتاب واضح ، وهو اللوح
المحفوظ ، وبما أن العلم بالمغيبات ثابت لله تعالى ، فاقتضى إمكان البعث.
وقيام الساعة
ضروري للحساب وإحقاق الحق والعدل بين الناس ، من أجل إثابة المؤمنين الذي يعملون
العمل الصالح : وهو الفرائض وكل ما أمروا به ، واجتناب كل ما نهوا عنه ، وأولئك لا
غيرهم لهم المغفرة ، أي محو الذنوب ، والرزق الكريم : وهو الجنة. وهذا هو الفريق
الأول. وهو ضروري أيضا من أجل عقاب الكفار المعاندين الذين حاولوا إبطال آيات
القرآن ، وأدلة البعث ، ظانين أنهم يفلتون من العقاب ، وأولئك لا غيرهم لهم عذاب
مؤلم شديد في نار جهنم ، وهو أسوأ العذاب وأشده.
إن تصور عالم
الآخرة الرهيب الذي لا بد من وقوعه بعلم الله تعالى وقدرته وحكمته ، والنظر في
مصائر الخلائق ، وفصل الحساب بينهم وتصنيفهم إلى أهل الجنة وأهل النار ، كل هذا
مدعاة للتأمل في هذا المصير المحتوم والإعداد له بحسن الأعمال ، وتجنب سوء
الأفعال.
موقف المؤمنين والكافرين من البعث والنبوة
تفاوتت مواقف
المؤمنين والكافرين من النبوة والبعث تفاوتا كبيرا ، واختلفوا اختلافا صارخا ،
فأهل الإيمان والعلم يرون الوحي المنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم حقا ، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم ، وأن البعث حق ، وأهل
الكفر والجهل يرون الوحي كذبا ،
والبعث مستبعدا
غير قائم ، وأن إعادة الأجساد أحياء ضرب من البعث ، وتعاموا عن قدرة الله الخارقة
، وأنه قادر على خسف الأرض بهم ، أو إسقاط شهب نارية من السماء تحرقهم ، وهذا ما
ذكرته الآيات الآتية :
(وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ
وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ
جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ (٩))
[سبأ : ٣٤ / ٦ ـ ٩].
الإيمان : يقين وتصديق
واطمئنان في النفس ، وأهل الإيمان والعلم يرون رؤية متيقنة أن الوحي الذي أنزله
الله تعالى على نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم حق مؤكد ثابت ، وأنه يهدي (أي يرشد) إلى الطريق الأقوم ،
والحياة السعيدة ، ويدركون أن القرآن يرشد المتبعين له إلى طريق الله ذي العزة
والقوة والجبروت ، وأنه القاهر لكل شيء ، والمحمود في جميع أقواله وأفعاله وشرائعه
وأقداره. والطريق المستقيم : هو الطريق المعتدل ، وأراد طريق الشرع والدين القويم.
والكفر : زيغ ،
وضلال ، وانحراف وخطأ محض ، ويقول الكافرون على سبيل الهزء والسخرية والتعجب : هل
ندلكم على شخص يسمى محمدا يخبركم بخبر غريب ، وهو أنكم إذا بليتم وصرتم ترابا ،
وتمزقت أجسادكم قطعا متفرقة ، تعودون بعدئذ أحياء كما كنتم مرة أخرى؟!
إن حال هذا الرجل
لا يخلو أن يكون إما كذابا يدّعي الوحي من ربه ، وإما أنه مجنون لا يعقل ما يقول ،
ويتوهم البعث. وهذا قول الكافرين ، الذين قالوا :
(أَفْتَرى) وهو من قول بعضهم لبعض. والمعنى : أافترى ، دخلت ألف
الاستفهام على ألف الوصل ، ثم حذف ألف الوصل ، وبقيت مفتوحة غير ممدودة ، فكأن
بعضهم استفهم بعضا عن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثم أضرب القرآن
الكريم عن قولهم ، أي قول الذين لا يؤمنون بالآخرة ، فكأنه قال : ليس الأمر كما
قالوا ، بل الذين كفروا ولم يصدقوا بالآخرة : هم في العذاب الدائم في عالم الآخرة
، وهم في الدنيا في الضلال البعيد عن الحق. فقوله تعالى : (فِي الْعَذابِ) يريد : عذاب الآخرة ، لأنهم يصيرون إليه ، وقوله : (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) يريد ، أنهم في غاية البعد عن الصواب والطريق الذي ضل منه
، بسبب حيرة صاحبه.
واحتاجوا إلى
التنبيه على قدرة الله الخلاقة بخلق السماوات والأرض ، والتوبيخ على عدم التفكر
والتدبر في ذلك الخلق ، فقيل لهم : أفلم ينظروا أمامهم وخلفهم إلى السماء الناطقة
بوجود القادر ، والأرض الدالة على وجود الصانع؟! فلو نظروا إلى السماء والأرض ،
لعلموا أن خالقهما قادر على تعجيل العذاب لهم ، فإن يرد الله يخسف بهم الأرض ، كما
خسفها بقارون ، أو يسقط عليهم قطعا أو شهبا نارية من السماء تحرقهم ، كما أسقطها
على أصحاب الأيكة ، فلو شاء الله لفعل ذلك بهم.
إن في ذلك ، أي في
إحاطة السماء بالمرء ، ومماسّة الأرض له على كل حال ، لعلامة قاطعة ، ودلالة واضحة
على وجود الله وقدرته لكل عبد فظن رجّاع إلى الله تعالى ، لأن من قدر على خلق هذه
السماوات في ارتفاعها واتساعها ، وخلق الأرض في انخفاضها وسعتها ، قادر على إعادة
الأجساد كما كانت. والمنيب : هو الراجع إلى الله عزوجل.
لقد تكررت الآيات
القرآنية المرشدة إلى الإيمان بالبعث وتقدير قدرة الله الفائقة ،
مثل قول الله
تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) [غافر : ٤٠ / ٥٧].
وقوله عزوجل : (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [يس : ٣٦ / ٨١].
ما أكثر الأدلة
المقنعة على وجود الله وقدرته ، وإثباته إمكان البعث وجمع الناس ليوم القيامة ،
ولكن التعامي عن الحقائق سمة أهل الضلال وذوي الأهواء ، الذين يؤثرون مصالحهم
الذاتية القريبة على الباقي الدائم.
النعم الإلهية على داود وسليمان عليهماالسلام
أنعم الله تعالى
على داود وسليمان عليهماالسلام بنعم عظيمة عجيبة ، ما تزال موضع إعجاب وإكبار ، وتقدير
وإعظام ، ولم يتكرر بعضها إلى الآن لأحد من البشر ، وقد كان ذلك الإنعام محل شكر
وحمد من هذين النبيين الكريمين ، لأنهما قدوة للناس. وأهم هذه النعم : ثلاثة على
كل من داود وسليمان ، وهي تسخير الجبال لداود وتسبيحها معه ، ويقابلها تسخير الريح
لسليمان ، وتسخير الطير لأداء الخدمات لداود ونظيرها تسخير الجن لسليمان ، وإلانة
الحديد لداود في مقابل إلانة النحاس لسليمان ، وهذا ما تبيّنه في الآيات الآتية :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا
صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها
شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ
وَتَماثِيلَ
__________________
وَجِفانٍ
كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى
مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي
الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))
[سبأ : ٣٤ / ١٠ ـ ١٤].
منح الله تعالى
داود عليهالسلام فضلا منه وكرما نعما عظيمة ثلاثا من خلال الجمع له بين
النبوة والملك العظيم ، أولها : ترجيع الجبال مع ترانيمه وتسابيحه ، فكان إذا سبّح
سبّحت معه الجبال ، ويسمع صداها. وتسخير الطيور له ، يفهم لغتها ، ويستخدمها في
قضاء حاجاته ، والانة الحديد له ، فيصير في يديه كالعجين ، من غير طرق ولا إذابة
في النار ، ليعمل بها الدروع الواسعة ، وينسجها نسجا محكم الحلقات بحيث تكون حلقها
منسجمة متوالية غير متفاوتة ، فلا هي ضيقة ولا واسعة ولا ثقيلة ، وهذا يحقق حاجة
داود حيث كان عصره عصر حروب وقتال مع الملك المعاصر له.
وهذا هو المراد
بقوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) أي قدر تقديرا سديدا في نسج الدروع المحكمة ، بحيث تجمع
بين الخفة والمتانة ، والتوسط والاعتدال ، فلا تكون الحلقات صغيرة ولا كبيرة ،
وهذه نعم تستحق الشكر ، ومردودها على آل داود ، لذا قال الله لهم : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي اعملوا يا آل داود عملا صالحا فيما أمدكم الله به من
النعم ، ثم توعدهم بقوله : (إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لا يخفى علي أمركم ، فإني بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا
يخفى علي شيء منها. وهذا ترغيب في العمل الصالح ، وتحذير من التقصير والإهمال.
وكذلك منح الله
تعالى نعما ثلاثا أخرى لسليمان بن داود عليهماالسلام وهي تسخير الريح ، أي تذليلها له ، بحيث يكون غدوها مسيرة
شهر ، ورواحها مسيرة
__________________
شهر. والغدو :
السير وقت الغداة من أول النهار إلى منتصفه ، والرواح : الجريان في منتصف النهار
إلى الغروب.
ومن يعدل من الجن
ويخرج عن طاعة سليمان نذقه بعض العذاب المؤلم. إما في النار بالحريق ، وإما في
الآخرة بالنار الدائمة ، وهذه النعمة كتسخير الجبال لداود.
والنعمة الثانية :
(وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له عين النحاس ، كما ألنا الحديد لداود ، فكان
يصنع منه ما يشاء ، دون نار ولا مطرقة. وسمي عينا ، لأنه سال من معدنه سيلان الماء
من الينبوع.
والنعمة الثالثة :
تسخير الجن لخدماته ، فكانوا يعملون بين يديه ما يشاء من محاريب الصلاة ،
والتماثيل الكبيرة المباحة في شرعه ، والجفان ، أي القصاع الكبيرة كالحفر الكبيرة
، وهي آنية الأكل ، وقدور الطبخ الثابتات في أماكنها ، فلا تتحرك عن مواضعها
لعظمتها وثقلها.
وهذه النعمة ذات
مرود نفعي أيضا على آل سليمان ، لذا قال الله لهم : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً) أي اعملوا يا آل داود بطاعة الله ، شكرا له على ما أمدكم
به من النعم الدينية والدنيوية ، وقليل هو الشاكر من عبادي ، والشكر في الحقيقة :
ليس مجرد الحمد باللسان ، وإنما هو استعمال جميع الحواس والأعضاء المخلوقة للإنسان
فيما خلقت له من المنافع المباحة. والشكور : صيغة مبالغة ، وهو الّذي يشكر الله في
جميع أحواله من الخير والضر.
وأخبر الله تعالى
بمناسبة تسخير الجن لسليمان عن اختصاص الله بعلم الغيب ، حتى إن الله تعالى لما
أمات سليمان ، ظل ميتا قائما ، متكئا على عصاه ، ولم تعلم الجن بموته ، وبقوا
يعملون أمامه خوفا منه ، ولم يدلّهم على موته إلا سوسة العود ، أي حيوان الأرض أو
الأرضة التي نخرت عصاه من الداخل ، فلما سقط بوقوع عصاه ،
ظهر للجن أنهم لم
يكونوا يعلمون الغيب ، ولو صح ما زعموا أنهم يعلمون الغيب ، لعلموا بموته ، وهو
أمامهم ، ولم يبقوا مدة من الزمان ماكثين في العمل الشاق الذي سخرهم فيه لإنجازه ،
ظانين أنه حي ، والجن القائمون بالعمل المهين ، أي المذل من الهوان ، لم يكونوا
مؤمنين ، لأن المؤمن لا يعذب بعذاب مهين.
أهل سبأ وسيل العرم
حذر القرآن الكريم
من أمرين خطيرين : وهما الإشراك بالله ، وجحود النعم الإلهية ، وأبان حال الكافرين
بأنعم الله كأهل مكة القرشيين وقت نزول الوحي الإلهي ، وأنذرهم بالاعتبار والاتعاظ
بقصة أهل سبأ ، وأوعد كل من يجحد بنعم الله تعالى بعقاب مماثل. وأنزل الله تعالى
آيات تبين قصة سبأ وتدمير بيوتهم بسيل العرم. وسبب النزول : ما أخرج ابن أبي حاتم
: أن فروة بن مسيك الغطفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا نبي الله ، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز
، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام ، أفأقاتلهم؟ فقال : ما أمرت فيهم بشيء بعد ،
فأنزلت هذه الآية : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ) الآيات. قال الله تعالى :
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا
__________________
أَنْفُسَهُمْ
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ
هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)) [سبأ : ٣٤ / ١٥ ـ ٢١].
المعنى : لقد كان
لقبيلة سبأ في مساكنهم في مأرب باليمن علامة على قدرة الله تعالى بإحياء الأرض بعد
موتها ، وهي بستانان عن يمين الوادي وشماله ، وفيهما جميع الثمار ، يقال لهم بلسان
الحال أو المقال : كلوا من رزق أو ثمار ربكم في هذين البستانين ، واشكروا الله على
ما رزقكم من هذه النعم ، فهذه بلدة طيبة بطيب أشجارها وثمارها وجمال مناخها ،
والله المنعم عليكم غفور لذنوب الموحدين التائبين. فأعرضوا عن توحيد الله وعبادته
وطاعته وعن شكره على ما أنعم عليهم ، ومالوا لعبادة الشمس من دون الله تعالى ،
فأرسل الله عليهم سيل العرم ، أي المياه الكثيرة ، فحطمت سد مأرب ، فملأ الماء
الوادي ، وأغرق البساتين ، ودمّر البيوت ، وأبدلهم الله بتلك البساتين الغناء
بساتين لا خير فيها ، فيها أشجار ذات ثمر مرّ وهي الأراك ، وأثل : وهو الطرفاء ،
وسدر ، أي نبق ذو شوك كثير وثمر قليل. وسبب ذلك العقاب أو التبديل : هو مجازاة
كفرهم أو شركهم بالله ، وتكذيبهم الحق ، ولا يعاقب الله تعالى إلا المغرق في الكفر
، الجحود النعم.
وأنعم الله تعالى
عليهم بنعم أخرى : هي جعل قرى مرتفعة عامرة بين قراهم وقرى الشام التي بارك الله
فيها بالمياه والخيرات ، وجعل فيها محطات متعاقبة ذات مسافات متناسبة ، وقيل لهم :
سيروا في طرقات تلك القرى ليالي وأياما آمنين.
فبطروا النعمة
وسئموها ، وتمنوا طول الأسفار وتباعد الديار ، وقالوا : ربنا اجعل بيننا وبين
البلاد التي نسافر إليها مفاوز وصحارى ، لركوب الرواحل ،
والتزود بالماء ،
ليتميزوا ويتكبروا على الفقراء العجزة ، وظلموا أنفسهم بهذا الطلب ، فجعلهم الله
عبرة للمعتبر ، وحديثا للناس يتحدثون به ، وفرّقناهم في البلاد كل تفريق ، فصارت
العرب تضرب بهم المثل قائلين : «تفرّق القوم أيدي سبأ» أي مذاهب سبأ وطرقها ، إن
في ذلك البلاء والتدمير الذي حلّ بهم لعلامات مؤثرة لكل عبد كثير الصبر على
المصائب ، وكثير الشكر على النعم.
وتالله لقد حقق
إبليس فيهم ظنه ، إذ أغواهم ، فانقادوا له ، وعصوا ربهم ، وعبدوا الشمس من دون
الله ، إلا فريقا منهم انتصروا على وساوس الشيطان ، وبقوا طائعين لله تعالى.
ولم يكن لإبليس على
هؤلاء القوم حجة وبرهان ، ولم يكرههم على الكفر ، وإنما كان له الوسوسة والتزيين
فقط ، والابتلاء بوسوسته ، ليظهر للملأ حال من يؤمن بالآخرة وحسابها وجزائها من
ثواب وعقاب ، من غير المؤمن بها ، الشاك في وجودها ، وربك أيها النبي رقيب على كل
شيء ، وسيجازي الكفار على أعمالهم في الآخرة.
إبطال شفاعة آلهة المشركين
يتحدى الحق جل
جلاله المشركين ويتهكم منهم في زعمهم الاستعانة بآلهتهم المزعومة من الأوثان
والأصنام ، ويقيم عليهم الحجة بإقرارهم أن الله الخالق هو الذي يرزقهم ، ويهددهم
بالحساب العسير يوم القيامة ، وبالكشف عن آلهتهم ، ويؤكّد لهم عموم الرسالة
النبوية ، ويرد على استبعادهم وجود يوم القيامة ، فإن لهم ميعادا محددا من غير
تقديم ولا تأخير ، قال الله تعالى مقررا هذه المناقشات والحقائق :
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي
الْأَرْضِ
وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا
تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا
تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ
يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ
هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ
مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))
[سبأ : ٣٤ / ٢٢ ـ ٣٠].
قل أيها النبي
للمشركين القرشيين وأمثالهم : نادوا آلهتكم المزعومة من الأصنام لكشف الضر عنكم ،
في سنوات القحط الذي نزل بكم ، أو جلب النفع لكم.
والجواب معلوم ،
فإن تلك الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا أبدا ، ولو بمثقال أو وزن ذرة في السماوات
والأرض ، ولا شراكة لهم أصلا ، وليس لله تعالى منهم شريك أو معين.
ولا تنفع الشفاعة
عند الله عزوجل في أي حال إلا بإذن الله لمن شاء ، لا من الأصنام ولا من
غيرها ، من الملائكة والأنبياء والبشر ونحوهم ، والذي يحدث بعد انتظار الإذن
بالشفاعة أن الناس والملائكة يقفون فزعين خائفين منتظرين الإذن ، فإذا أذن
للشافعين وزال الخوف من نفوسهم ، قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم في الشفاعة؟
قالوا : يقول ربنا القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى ، والله هو المتعالي
المتكبر العظيم.
وقل أيضا أيها
النبي للمشركين عبدة الأوثان على سبيل التوبيخ واللوم : من
__________________
الرازق لكم من
السماوات بإنزال المطر ، ومن الأرض بالنبات والثروات المعدنية ونحوها ، وإننا نحن
أو إياكم إما مصيب أو مخطئ ، والمصيب واحد ، والآخر مخطئ أو مبطل ، وهذا أسلوب في
غاية اللطف والأدب في المحاورة ، لاستدراج الخصم إلى النظر في حاله وحال غيره ،
وهي دعوة إلى الحرية واختيار المخاطب ما يحقق له المصلحة ، والاعتراف بخطئه وإصابة
غيره. والمراد : أن الخطأ واضح في وصف المخاطبين ، كما تقول لمن خالفك في مسألة :
أحدنا مخطئ ، أي تثبّت وتنبّه.
وقل أيها الرسول
أيضا للمشركين على سبيل المهادنة والمتاركة : لستم أنتم مسئولين عنا إن أخطأنا أو
أجرمنا في عبادة الله وحده ، ونحن لا نسأل عما تعملون من خير أو شر ، ومعنى هذا
التبري منهم ، فلستم منا ولا نحن منكم ، ودعوتنا واضحة إلى توحيد الله ، فإن
أعرضتم فنحن برآء منكم.
وقل كذلك يا نبي
الله للمشركين : إن ربنا يجمع بيننا يوم القيامة في ساحة الحساب ، ويقضي بيننا
بالحق والعدل ، والله هو القاضي العادل الحاكم بالصواب ، العالم بحقائق الأمور ،
ويجزي كل عامل بعمله.
قل يا نبي الله
لهم أيضا : أروني هذه الآلهة التي اتخذتموها أندادا ونظراء لله ، حتى أشاهدهم ،
وأشاهد ما يقدرون عليه ، الحق واضح ، كلا ، أي فارتدعوا عن ادعاء المشاركة ، فلا
شريك لله ، بل هو الله الواحد الأحد ، الغالب القاهر ، الحكيم في أفعاله وأقواله
وشرعه.
وليعلموا أننا
أيها النبي أرسلناك رسولا للناس قاطبة ، العرب والعجم ، الأبيض والأسود ، مبشرا
الطائع بالجنة ، ومنذرا العاصي بالنار ، لكن أكثر الناس لا يعلمون بعموم الرسالة
النبوية ولا بمهمة التبشير والإنذار ، ولا بخطورة الضلال. ويتساءل المشركون تهكما
وتعنتا : متى الوعد الذي تعدنا به وهو قيام الساعة إن كنتم صادقين
في قولكم؟ والجواب
: لكم موعد يوم مؤجل محدد لا شك فيه ، هو يوم القيامة ، لا تتأخرون عنه ساعة ولا
تتقدمون عليه.
حوار القادة والأتباع في الآخرة
لم يكن المشركون
الوثنيون في مكة وغيرها يؤمنون بالقرآن ولا بما تقدمه من الكتب الإلهية من التوراة
والإنجيل والزبور ، وكأنهم كذّبوا بجميع كتب الله تعالى ، مما أوجب عليهم العقاب
الشديد في الآخرة ، وتراهم أذلة مهانين ، يتخاصمون ويتحاورون فيما بينهم ، فيلوم
الأتباع سادتهم ، ويتبرأ المستكبرون من الأتباع ومن إضلالهم ، فيلزمهم الأتباع
بكذبهم ، ويستوي الفريقان في العذاب الأليم ، يصف الحق سبحانه في قرآنه مشاهد من
هذا الحوار في الآيات الآتية :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ
تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ
لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ
كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ
نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))
[سبأ : ٣٤ / ٣١ ـ ٣٣].
استبد العناد
بالكفار الظالمين المشركين وأصروا على عدم الإيمان ، وقال جماعة من مشركي العرب في
مكة وغيرها : لن نؤمن بالقرآن ولا بالكتب السابقة ، كالتوراة
__________________
والإنجيل والزبور
، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والهلاك ، فلو نظرت إليهم أيها الرسول حين يكون
الكافرون أذلة مهانين ، محبوسين في موقف الحساب ، يتخاصمون ويتجادلون ، ويتبادلون
التهم والملامة والعتاب ، لرأيت أمرا عجبا.
ولون هذا الجدل :
أن يقول الأتباع الضعفاء للسادة المتكبرين في الدنيا : لو لا صدّكم لنا عن الإيمان
الصحيح ، لكنا مؤمنين بالله مصدقين برسوله وكتابه وشرعه ، أي لو لا أنتم لآمنا نحن
واهتدينا ، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر.
فأجابهم القادة
على سبيل التكذيب : أنحن منعناكم عن الهدى ، بعد أن جاءكم من عند الله؟ لا ، بل
كنتم مجرمين ، أي دخلتم الكفر ببصائركم واختياركم وإرادتكم ، ودعوتنا لم تكن لازمة
لكم ، لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان.
فردّ الأتباع على
الرؤساء : بل كفرنا بسبب مكركم ، أي احتيالكم وخديعتكم ، في الليل والنهار ، حين
طلبتم منا البقاء على الكفر بالله ، وأن نجعل له أندادا ، أي أشباها وأمثالا في
الألوهية والعبادة. وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما ، ولتدل هذه
الإضافة على الحرص والدأب والاستمرار.
وأسرّ الفريقان
الندامة ، أي اعتقدوها في نفوسهم ، وأخفوها عن غيرهم ، خشية الشماتة ، وظهرت علائم
الندامة حين واجهوا العذاب المحدق بهم ، وتيقنوا حصولهم فيه ، وحين تكبيلهم
بالأغلال ، أي القيود والسلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم في النار.
وكان التساؤل
المنطقي القائم على العدل : هل يجازون إلا بعملهم؟ أي إنما نجازي الفريقين
وأمثالهم ، كل بحسب عمله ، وبسبب ما اقترفه من الشرك بالله والإثم ، فللقادة عذاب
يناسبهم ، وللأتباع عذاب آخر يلائمهم ، ولا ظلم ولا تحامل ، كما جاء في آية أخرى :
(وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤١ / ٤٦].
إن كفران المشركين بما
أنزل الله على
رسله وبخاصة القرآن الكريم الكتاب الخالد يجعلهم في عداد الخاسرين الذين خسروا
أنفسهم وأهليهم ، ولن يضروا سوى أنفسهم. وعقابهم شديد وأليم في الدار الآخرة. ومما
لا شك فيه أن القادة إلى الضلال أسوأ من الأتباع ، فهم الذين يستحقون مضاعفة
العذاب وأليم العقاب ، ولكن يشاركهم الأتباع في هذا العذاب ، لأنهم عطلوا نعمة
العقل والوعي ، وقلّدوا غيرهم تقليدا أعمى ، وكان جديرا بهم أن يتحرروا من ربقة
التقليد ، فكانت عقائدهم فاسدة ، وأعمالهم سيئة كقادتهم ، فاستحقوا جميعا التخليد
في عذاب جهنم ، وبئس المصير.
موقف المشركين المترفين
يصحب الترف والغنى
عادة عند المترفين مظاهر التكبر والتفاخر بزينة الدنيا ومباهجها ، مغترين بالأموال
والثروات والأولاد ، فيقعون في تصرفات شاذة ، وتكون لهم مواقف مستهجنة من الدين
والعقيدة والأخلاق ، لانهماكهم في الشهوات والمعاصي ، وهذا كله يحتاج لحملة قوية ،
لتصحيح أحوالهم ، وثنيهم عن استكبارهم ، وهو حال المشركين الوثنيين الذين جاءهم
القرآن الكريم بآيات عديدة وأدلة دامغة ، ليعودوا إلى جادة الاستقامة ، ويرعووا عن
غيهم وضلالهم ، من تلك الآيات الشريفة ما يأتي :
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ
فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ
رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))
[سبأ : ٣٤ / ٣٤ ـ ٣٩].
نزلت الآية الأولى
وما بعدها فيما أخرجه ابن أبي المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : «كان رجلان
شريكان ، خرج أحدهما إلى الشام ، وبقي الآخر ، فلما بعث النبي صلىاللهعليهوسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل ، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد
من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم ، فترك تجارته ، ثم أتى صاحبه ، فقال : دلّني
عليه ، وكان يقرأ الكتب ، فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إلام تدعو؟ فقال : إلى كذا وكذا ، فقال : أشهد أنك
رسول الله ، فقال : وما علمك بذلك؟ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس
ومساكينهم ، فنزلت هذه الآية : (وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ..)
الآية ، فأرسل
إليه صلىاللهعليهوسلم : إن الله قد أنزل تصديق ما قلت».
هذه الآيات مؤانسة
من الله لنبيه عما يلقاه من إعراض قومه عن دعوته ، والمعنى : لم نبعث إلى أهل كل
قرية نبيا أو رسولا ، يحذّرهم ويخوفهم عقاب الله إلا قال الأغنياء المترفون منهم :
إنا مكذّبون بما أرسلتم به من توحيد الله والإيمان به.
واعتمد هؤلاء
الأغنياء على الاغترار بالأموال والأولاد ، فقالوا لمن دونهم في الثروة : إن الله
فضّلنا عليكم بالأموال والأولاد ، وأنتم ضعاف فقراء ، مما يدل على تميزنا ورضا
الله عنا ، وما نحن عليه ، ولسنا بمتعرضين للعذاب إطلاقا ، لأن الله الذي تدعونا
إليه منحنا هذه النعم ، فهو إذن راض عنا.
فقل أيها الرسول
في الرد عليهم : إن الله يمنح الرزق أو المال لمن أحب ولمن لم يحب ، فيغني من يشاء
، ويفقر من يشاء ، ولكن أكثر الناس مثلكم لا يعلمون حقيقة
__________________
سنة الله في خلقه
، فقياسكم الآخرة على الدنيا خطأ محض ، وليس الأمر كما ظننتم ، بل بسط الرزق
وتقديره أو تقتيره معلّق بالمشيئة الإلهية ، في الكافر والمؤمن ، وليس ذلك دليلا
على رضا الله والقرب منه ، لأنه قد يعطي الرزق أملا واستدراجا ، ولأن أساس التقرب
من الله هو الإيمان والعمل الصحيح فقط.
وليست كثرة
أموالكم وأولادكم دليلا على محبة الله لكم ورضاه عنكم ، ولا هي مما تقربكم إلى
رحمتنا وفضلنا ، لأن التقريب إنما هو بالإيمان والعمل الصالح ، فالمؤمنون بالله
ورسله وكتبه واليوم الآخر ، الذين يعملون صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات
هم المقربون لله تعالى.
أما الذين يحاولون
الطعن بآياتنا مغالبين زاعمين التفوق ، فهم جميعا مقدّمون للعذاب ، من غير مهرب
ولا إفلات ، وبيان حال هؤلاء المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وتوضيح جزاء كل فريق
، ليظهر تباين المنازل ، وتكون المقارنة حافزا على الاستقامة ، وترك الضلالة.
ثم أوضح الله
تعالى نظامه في الإمداد بالرزق ، فأمر نبيه أن يقول : إن ربي وحده هو الذي يوسع
الرزق على من يريد من عباده ، ويضيّقه على من يريد ، على وفق ما يجده من الحكمة
السديدة التي لا يدركها سواه.
وليطمئن كل إنسان
على رزقه ، فكل ما تنفقونه أيها الناس في فعل الخير ، فالله يعوضه عليكم بالبديل
في الدنيا ، أو بالجزاء في الآخرة ، والله هو الرازق في الحقيقة ، وما مساعي الناس
إلا وسائط وأسباب ، وهذا تزهيد في الدنيا ، وترغيب في عمل الخير ، والإنفاق في
مرضاة الله تعالى.
حال الكفار يوم القيامة
إذا لم يستجب
الكافر لمنطق العقل ودلالة الحجة والبرهان ، كان جاهلا غبيا ، فلا ينفع معه الا
التهديد والوعيد ، لذا سلك القرآن الكريم هذا المسلك حينما لم يصغ المشركون لنداء
العقل والمنطق ، وأصروا على الكفر والضلال ، فاستحقوا الوعيد والإنذار ، والتخويف
بالعذاب الشديد يوم القيامة ، لا على مجرد تكذيبهم النبي ، بل على افترائهم ووصفهم
الوحي والنبوة بالإفك المفترى ، أو السحر الواضح ، دون أن يكون لهم دليل مقبول على
ذلك من كتاب منير ، أو منذر مبين ، وكانوا مثل من تقدمهم من الأقوام الذين كذبوا
الرسل ، مع أنهم لم يبلغوا في القوة والنعم والتفوق وكثرة المال عشر معشار من
قبلهم ، وصف الله تعالى هذه الأوضاع بما يأتي :
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا
يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ
مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ
قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا
مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))
[سبأ : ٣٤ / ٤٠ ـ ٤٥].
هذه آيات وعيد
للكفار ، فيوم يجمع الله تعالى العابدين والمعبودين ، والقادة والأتباع ، ثم يسأل
الله الملائكة الذين عبدتهم جماعات وثنية : أهؤلاء كانوا يعبدونكم ، وأنتم
أمرتموهم بعبادتكم؟ وهذا سؤال تقريع وتوبيخ أمام الخلائق ،
__________________
ليسمع الآخرون.
فقالت الملائكة : سبحانك ، أي تنزيها لك يا رب عن الشريك وعما فعل هؤلاء الكفرة ،
نحن عبيدك ، وأنت مولانا وناصرنا ، ومتولي أمورنا ، ونتبرأ إليك منهم ، ولم نتخذهم
عابدين ، بل إنهم كانوا يعبدون الشياطين ، أكثرهم مصدّقون بهم ، فيما يلقون إليهم
من الوساوس والأكاذيب. فقولهم (أَنْتَ وَلِيُّنا) يريدون به البراءة من أن يكون لهم علم أو رضا أو مشاركة في
أن يعبدهم البشر.
ثم يعلن الله
إفلاس المشركين ، ففي يوم القيامة لا يملك أحدهم للآخر نفعا ولا ضرا ، ولا يتحقق
لهم منفعة من الأصنام والمعبودين ، ولا يجلبون لهم ضررا أو سوءا. وحينئذ يقول الله
توبيخا وتقريعا للذين ظلموا أنفسهم بالشرك والضلال : ذوقوا عذاب جهنم ، الذي كنتم
تكذبون بوقوعه في الدنيا ، فأنتم الآن في حميم النار ، وفي لظى السعير.
وأسباب استحقاق
الكفار نار جهنم ثلاثة : الطعن بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، وبالقرآن المجيد ، وبالإسلام كله.
أما الطعن بالنبي
: فإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدالة على إثبات التوحيد ، وإبطال الشرك
قالوا : ما هذا الرجل ، أي محمد إلا رجل يريد صرفكم عن دين الآباء والأجداد من
عبادة الأصنام.
وأما الطعن بالقرآن
: فإنهم يقولون أيضا : ما هذا الكتاب ، أي القرآن إلا إفك مفترى ، أي كذب مختلق من
قبل محمد ، ويدعي أنه من عند الله.
وأما الطعن
بالإسلام كله : فإنهم يقولون : ما هذا الدين أو الإسلام إلا سحر ظاهر ، بما اشتمل
عليه من استجلاب النفوس واستمالة الأسماع. تعالى الله عن أقوالهم ، وتنزه شرع الله
عن طعنهم.
إنهم يقولون
بآرائهم الباطلة هذه الأقوال ، من وصف كتاب الله بالسحر أو
الافتراء ، وليس
لهم دليل أصلا على ما زعموا ، فلم ينزل الله عليهم كتابا قبل القرآن يقرر لهم دينا
، ولم يرسل الله إليهم نبيا قبل محمد صلىاللهعليهوسلم يدعوهم إلى الحق ، ولم يبعث الله لهم منذرا ينذرهم عذاب
الله.
ولا قيمة لتكذيبهم
وتشنيعهم ، فلقد كذّبت بالرسل قبلهم أقوام كقوم نوح وعاد وثمود ، ولم يبلغوا
بقوتهم وماليتهم عشر ما آتى الله السابقين من ذلك ، فلم يمنع ذلك عنهم عذاب الله ،
وكيف كان إنكاري الشديد عليهم؟
وقوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) تعظيم للأمر ، وليس استفهاما مجردا ، وفي هذا تهديد لقريش
، أي إنهم معرّضون لنكير وعذاب مثله ، فما جرى على المثيل يجري على مثيله ،
لتساويهما في سبب العقاب ، فيتساويان في الحكم والجزاء.
إن وضع المكذبين
لرسول الله مجرد استكبار وعناد ، وهم يعرفون الحق معرفة تامة ، ولكنهم يحيدون عنه
من غير حجة بينة ، ولا دليل بيّن ، ولا عذر لهم إلا التقليد المتوارث للآباء
والأجداد ، وإهمال عقولهم وتفكيرهم ووعي ظروف المستقبل.
الدعوة إلى الإيمان والعبادة والنبوة
أمر الله نبيه بدعوة
الناس قاطبة إلى عبادة الله تعالى وطاعته والإخلاص له ، والنظر في حقيقة نبوته هو
، والإيمان بالقرآن والقيامة والحساب والجزاء ، وذلك لإنقاذ أنفسهم من العذاب
الأليم ، والبعد عن دائرة الكفر ومفاسده ، والضلال ومذاهبه ، والسير في فلك الحق
ونفعه ، والبعد عن الباطل وخسرانه ، قبل أن يأتي يوم القيامة ، فلا ينفعهم إيمان
بالقرآن والنبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأن الآخرة دار الحساب والجزاء ، والدنيا دار التكليف
والاختبار ، وهذا صريح الآيات الآتية :
(قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ
إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ
الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما
يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا
فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى
لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي
شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))
[سبأ : ٣٤ / ٤٦ ـ ٥٤].
المعنى : قل أيها
النبي للمشركين : أحذركم عاقبة السوء ، وآمركم بخصلة أو قضية واحدة : وهي التأمل
والنظر في حقيقة النبوة ، وعبادة الله تعالى ، وفي طاعته ، إما مثنى (اثنين اثنين)
وإما فرادى (واحد واحد) لأن الاجتماع الكثير يشوش الفكر ، وينشر الغوغائية ،
وحينئذ تعلمون أن صاحبكم ليس بساحر ولا مجنون ، وإنما هو نبي مؤيد من عند الله
بالمعجزات المصدقة له ، وأنه منذركم ومخوفكم ما ينتظركم من عذاب شديد على النفوس
يوم القيامة.
وقل أيها النبي
أيضا للمشركين : لم أطلب منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة الله عزوجل إليكم ، فما ثوابي أو أجري إلا على الله تعالى ، والله
مطلع على كل شيء ، وعالم به ، من صدقي بتبليغ الرسالة ، وإعلامكم بالنبوة. وهذا
أمر من الله تعالى بالتبري من طلب الدنيا وطلب الأجر على الرسالة ، وتسليم كل دنيا
إلى أهلها والتوكل على الله في الأجر ، والإقرار بأنه شاهد على كل شيء من أفعال
البشر وأقوالهم وغير ذلك. إن ربي عالم الغيب والشهادة يصطفي للنبوة من يشاء ويرسل
جبريل بالوحي إلى من يشاء من عباده.
__________________
وقل كذلك أيها
النبي للمشركين : جاء الدين الحق ، وهو الإسلام الذي سيعلو على كل الدنيا ، وآيات
القرآن ، وما يصنع الباطل شيئا ، والباطل : الكذب والكفر. ونحوه ، استعار له
الإبداء والإعادة ، ونفاهما عنه.
وقل أيضا أيها
الرسول لأهل الشرك : إن انحرفت عن الهدى ودين الحق ، فإن إثم انحرافي على نفسي ،
وإن وفّقت للحق ، فبسبب ما أوحى إلي ربي من الهداية والتوحيد والاستقامة ، إنه
سبحانه تام السمع لقولي وقولكم ، قريب مني ومنكم ، يعلم الهدى والضلالة ، ويجازي
كل إنسان بما يستحق.
ولو رأيت أيها
النبي هؤلاء الكفار حين خافوا عند البعث والنشر من القبور ، ثم الحشر ، وعند رؤية
ألوان العذاب الشديد ، لرأيت العجب ، فهم لا يتمكنون من الهرب والنجاة ، ويؤخذون
فورا من مكان قريب إلى نار جهنم ، أي إنهم قريبون من ذلك لتناول القدرة الإلهية
لهم حيث كانوا. فتدل الآية على معنى التعجب من حالهم ، إذا فزعوا من أخذ الله
إياهم ، ولم يتمكن أحد منهم من الإفلات.
وقال الكفار حين
الأخذ للعذاب : لقد آمنا بمحمد صلىاللهعليهوسلم وشرعه والقرآن ، ولكن كيف لهم تعاطي الإيمان أو نيله ، وقد
بعدوا عن محل قبوله ، أي أنّى لهم تناول مرادهم ، وقد بعدوا عن مكان إمكان ذلك.
وكيف يظفرون بالإيمان في الآخرة ، وقد كفروا بالحق والقرآن والرسل في الدنيا؟
وكانوا يرجمون بالظن بقولهم : سحر وافتراء وغير ذلك ، ويتكلمون بلا حجة ولا برهان
، ويرمون بظنونهم الرسول وكتاب الله ، وذلك غيب عنهم. وحيل بينهم وبين شهواتهم في
الدنيا ، وبين ما طلبوه في الآخرة ، فمنعوا منه. والمراد أنه حيل بينهم وبين
الإيمان ، والتوبة ، والرجوع إلى الأمانة والعمل الصالح ، لأنهم اشتهوه في وقت لا
تنفع فيه التوبة.
وقد فعلنا بهم ذلك
، كما فعلنا بأمثالهم من كفار الأمم الماضية ، إنهم كانوا جميعا في الدنيا في شك
وريبة من أمر الرسل ، ومطالبتهم بالتوحيد ، وإثباتهم البعث والجزاء ، والشرائع
والأحكام. والأشياع : الفرق المشابهة لهم من كل أمة ، جمع شيعة.
تفسير سورة فاطر
الخلق دليل القدرة الإلهية
تكثر ادعاءات
المغرورين والمتكبرين المشركين ومزاعمهم بأنهم يملكون قدرة معينة : إما فكرية وإما
جسدية وإما إبداعية ، وتتبدد كل تلك المزاعم أمام الواقع الأعظم : وهو إيجاد أشياء
مادية وروحية حركية معا ، تعمل بفكر منظم ومنطق رتيب. لذا لم نجد حاجة في القرآن
الكريم لإثبات وجود الله غير دليل الإيجاد أو الخلق أو الإبداع الإلهي للأشياء
بدون سابقة ، وهذا وحده كاف لتتداعى أمامه كل ألوان الغرور والتكبر والشرك ،
واستحق هذا أن يحمد الخالق عليه بكل مشتملات الحمد ، ويستغرق هذا جميع الأفعال
الشريفة ، فيثبت الكمال لله وحده ، وهذا ما عبّرت عنه الآيات الآتية في مطلع سورة
فاطر :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها
وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))
[فاطر : ٣٥ / ١ ـ ٤].
__________________
لله تعالى جميع
أنواع المحامد والشكر الخالص على نعمه ، فكلمة (الْحَمْدُ) الألف واللام لاستغراق الجنس على أتم عموم ، والشكر بعض
أنواع الحمد ، فيشمله ، وحمده تعالى لأنه سبحانه مبتدئ خلق السماوات والأرض ، مما
يدل على وجوده ، وتمام قدرته ، واتصافه بالكمال وحده ، فهو إذن قادر على إعادة
الخلق أحياء مرة أخرى.
والله تعالى جاعل
الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك ، فقد جعلهم رسلا
بالوحي ونحوه من الأوامر ، ومنهم جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، ومنهم
الملائكة المتعاقبون المتناوبون لتنفيذ أوامر الله ، ومنهم المسدّدون لحكام العدل
وغيرهم ، وقد خلقهم الله ذوي أجنحة متعددة ، بعضهم له جناحان ، وبعضهم له ثلاثة ،
وبعضهم له أربعة ، وبعضهم له أكثر من ذلك وهم شذوذ ، ينزلون بها من السماء إلى
الأرض ، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. فقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة ، فهي ممنوعة من
الصرف للعدل والتعريف.
وليس هذا بمستغرب
أو ببدع في قدرة الله تعالى ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، من أجنحة وغيرها ،
كملاحة العين ، وجمال الأنف ، وحلاوة الفم ، وحسن الصوت ، إن الله تام القدرة في
خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية ، فلا يعجز عن شيء.
وبالإضافة إلى
تمام القدرة الإلهية ، فإنه سبحانه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر ، فما يعطي الله
تعالى من خير أو نعمة حسية كرزق ، ومطر ، وصحة ، أو معنوية ، كأمن وعلم ، ونبوة
وحكمة ، فلا مانع له ، وما يمنع من ذلك ، فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه من
الله ، بيده الخير كله ، والله هو القوي الغالب القاهر ، الحكيم في قوله وفعله
وتدبيره ، يضع كل شيء في موضعه المناسب له. فقوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) عام
في كل خير ، يعطيه
الله لعباده ، جماعة وأفرادا ، وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) فيه حذف مضاف ، أي من بعد إمساكه.
وبما أنه تعالى
مصدر الخلق والرزق والإنعام ، فيجب تذكر نعمه والإقرار بتوحيده ، فيا أيها الناس
كلهم ، تذكروا نعم الله عليكم ، واحفظوها بمعرفة حقوقها والإقرار بها ، ووحّدوا
المنعم بها ، فلا خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ، ولا إله إلا هو ، فكيف
بعد هذا البيان الواضح ، تصرفون عن الحق : وهو توحيد الله وشكره ، وتعبدون هذه
الأصنام؟!
ثم واسى الله
رسوله في أنه : إن يكذبك أيها الرسول هؤلاء المشركون ويعارضونك فيما جئت به من
توحيد الله تعالى ، فقد كذبت الرسل السابقون من قبلك من أقوامهم ، وعارضوهم وآذوهم
، ومصير الجميع في نهاية الأمر إلى الله تعالى ، فيجازي على ذلك أو في الجزاء ،
يجازي رسله ومنهم أنت أيها النبي على الصبر ، ويجازي أقوامهم على التكذيب ، وكلا
الجزاءين حق وعدل ، ومصلحة ونفع إما للشخص نفسه في الدنيا والآخرة ، أو له في
الدنيا لتذكيره وزجره.
التحذير من غرور الدنيا
من الظواهر
الواقعية أن الدنيا ملهاة ، وتأثيرها بزخارفها على النفوس كبير ، والإصغاء إلى
وساوس الشيطان خطير ، لذا حذر الله تعالى منها ، من أجل خير الإنسان ، وبسبب عرضه
على الحساب في يوم القيامة الذي لا بد منه ، فيكون الناس إما في خير وتنعيم ، أو
عذاب وعقاب وجحيم ، أما أهل الإيمان والعمل الصالح ، فلهم مغفرة وثواب كبير ، وأما
الكافرون ، فلهم عذاب شديد. ولا مجال للمفاضلة
أو المقارنة بين
الفريقين ، لعلو درجة المؤمنين ، ودنوّ رتبة الكافرين الذين زيّن لهم سوء عملهم ،
وهذا ما أخبر عنه القرآن الكريم في الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ
السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما
يَصْنَعُونَ (٨))
[فاطر : ٣٥ / ٥ ـ ٨].
أبانت آيات سورة
فاطر في مطلعها ثلاثة أصول إيمانية : الأول ـ التوحيد الإلهي ، والثاني ـ الرسالة
النبوية ، وهذا مما سبق بيانهما ، والثالث ـ الحشر والبعث ، وهذا موضوع الآيات
المذكورة هنا.
يعظ الله تعالى
جميع العالم ، ويحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها ، وينبّههم إلى عالم المعاد ،
فإن وعد الله بالبعث والجزاء حق ثابت لا شك فيه ، والمعاد كائن لا محالة ، بما فيه
من خير ونعيم ، أو عذاب مقيم ، فلا تلتهوا بمغريات الدنيا ولذائذها عن العمل
للآخرة ، ولا يغرنكم الشيطان بالله ، فيجعلكم في أوهام وآمال خيالية ، ولا تلهينكم
الحياة الدنيوية.
إن عداوة الشيطان
لكم أيها البشر عداوة قديمة ظاهرة ، فعادوه أنتم عداوة شديدة ، وخالفوه بطاعة الله
، واجتنبوا إغراءه بمعاصي الله ونواهيه ، فعداوته : بالمباينة والمقاطعة ،
والمخالفة له : باتباع الشرع.
إنما يريد الشيطان
إضلالكم حتى يوصلكم معه إلى عذاب النار الشديد. ويدعو
__________________
حزبه ، أي حاشيته
الصاغية له وجماعته الملتفين حوله ، ليصيروا من أهل النار ، فتكون اللام في (لِيَكُونُوا) لام الصيرورة ، لأنه لم يدعهم صراحة إلى السعير ، وإنما
ترتب على الاستجابة لوساوسه صيرورة أمرهم منه إلى ذلك. والسعير : طبقة من طبقات
جهنم ، وهي سبع طبقات.
وجزاء فريقي
الآخرة معروف ، فالذين كفروا بالله ورسوله ، وأنكروا الآخرة ، واتبعوا وساوس
الشيطان ، لهم عذاب شديد في نار جهنم ، لأنهم أطاعوا الشيطان ، وعصوا الرحمن.
والذين صدقوا
بالله ورسوله وباليوم الاخر ، وعملوا صالح الأعمال من اتباع الأوامر ، واجتناب
النواهي ، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير ، وهو الجنة ، بسبب الإيمان والعمل الصالح.
وفرق كبير بين
الفريقين ، فكيف يتساوى المحسن والمسيء وكيف يتماثل الذين حسّن لهم الشيطان
أعمالهم ، ظانين أنهم محسنون صنعا ، وأولئك المهتدون على طريق الحق والخير؟
والمراد بمن زيّن له سوء عمله : كفار قريش وأمثالهم. وقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) جوابه محذوف ، تقديره : كمن اهتدى. ثم واسى الله تعالى
نبيه عن كفر قومه ، ببيان أن من شاء الله إضلاله أضلّه ، ومن شاء هدايته هداه ،
بسبب ما يعلم الله من استعداد كل واحد لتقبل الخير ، أو حبّ الشر ، ويجب التسليم
لله تعالى في إضلال من شاء ، وهداية من شاء.
وأمر الله نبيه
بالإعراض عن أمر قومه ، وألا يهلك نفسه أو يوقعها في الغم والحزن ، بسبب عدم إيمان
قومه ، وإصرارهم على الكفر ، وبقائهم في الضلال ، فالله عليم بأحوالهم
واستعداداتهم ، وعالم بما يفعلون من المنكرات والقبائح ، فيجازيهم بما يستحقون.
وهذا وعيد للكفار ، وتهديد ، وزجر بليغ ، والمراد بقوله : (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ألا تغتم ولا تهتم وتضايق نفسك أو تهلكها متحسرا عليهم ،
أو حزنا عليهم ، لأنهم لم يؤمنوا برسالتك. والحسرات جمع حسرة : وهي همّ النفس على
فوات أمر.
والمطلوب بإيجاز :
التأكد من الإيمان بالآخرة. والتحذير من وساوس الشيطان ، ومن إغراءات الدنيا ،
والاستعداد للآخرة والنجاة بالإيمان والعمل الصالح.
الإحتجاج على الكفار في إنكار البعث
إرشادات الحق جل
جلاله تحمل كل عاقل على الاستجابة لها ، والتفاعل معها ، والاقتناع بها ، لأنها في
الغالب مستمدة من الحس المشاهد أمامه ، الملموس لديه ، ولا ينصرف أحد عن القناعة
بهذه الأدلة والإرشادات إلا بسبب العناد والاستكبار ، وتعطيل المواهب والطاقات
المودعة عنده. وهذا هو الشأن في الإحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث ، وهو
التأمل بالبلد الميت الذي لا نبت فيه ، كيف يخضرّ وينبت بالماء ، فتلك حياته ،
وكذلك إحياء الموتى ، أي مثل ذلك ينقلب الميت أو الراكد إلى حياة حركية بإحياء
الله ، وإعادة الروح لكل إنسان. وهذا ما أرشدت إليه الآيات الآتية :
(وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ
يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما
تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (١١))
[فاطر : ٣٥ / ٩ ـ ١١].
__________________
هذان دليلان على
إمكان البعث والنشور أو إحياء الموتى من القبور ، يحتج بهما الله تعالى على الكفار
، الذين أنكروا البعث من القبور ، ويدلهم على المثال الموازي تماما.
الدليل الأول ـ إحياء
الأرض بالماء : الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح ، فتحرك الغيوم حيث يشاء الله ،
فيقودها إلى بلد ميت لا نبات به ، فينزل المطر عليه ، فتحيا الأرض بالنبات بعد
يبسها ، وتصبح مخضرة ، تموج بالحركة ، وجمال الزرع والشجر ، بعد أن كانت تربة
هامدة ، فكذلك مثله ، أي وهذا المثال المعاين أمامكم يكون مثله ويساويه تماما
النشور ، أي الإحياء من القبور ، فكما يحيي الله الأرض بعد موتها ، يحيي العباد
بعد موتهم وصيرورتهم ترابا ، لكنّ أرواحهم باقية عند الله تعالى.
ومن كان يريد
العزة بعبادة الأوثان ، ومغالبة الله ، فلله وحده العزة الكاملة ، أي ليست لغيره ،
ولا تتم إلا له ، وهذا المغالب مغلوب ، كما فسره مجاهد ، وهذا رد على الكفار الذين
كانوا يطلبون العزة بعبادة الأوثان والأصنام ، وعدم إطاعة الرسل ، فإن العزة كلها
في الحقيقة هي لله تعالى.
ومن مظاهر عزة
الله : أنه يسمع كلام الناس ، ويقبل طيب الكلام ، كالتوحيد والتمجيد والأذكار ،
والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن الكريم ، والتسابيح
والتهاليل ، وغير ذلك ، ومن أفضل الأذكار : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا
الله ، والله أكبر.
وكما أنه تعالى
يقبل الكلام الطيب ، يرفع العمل الصالح إليه ، وهذا أرجح الأقوال ، كما ذكر ابن
عطية رحمهالله في تفسيره.
وأما الذين يعملون
مكائد المكر ، وسوء الأعمال في الدنيا ، كالتامر على قتل النبي ، أو إضعاف
المسلمين ، ويوهمون غيرهم أنهم في طاعة الله تعالى ، فلهم عقاب
بالغ الغاية في
الشدة. ومكر أو تدبير هؤلاء المفسدين يفسد ويضيع ، ولا ينفذ ، لأن الله تعالى يحبط
مكائدهم ، ويفوّت عليهم ألوان مكرهم.
والدليل الثاني
على إمكان البعث : بدء خلق الإنسان ، والمراحل التي يمر بها في أطوار خلقه ، فالله
تعالى ابتدأ خلق الإنسان من تراب ، وهو أبونا آدم عليهالسلام ، ثم جعل تكاثر ذريته ونسله بواسطة سلالة من ماء مهين ، حيث
صيّر التراب نطفة بواسطة الماء ، ثم جعل الناس أصنافا ، ذكورا وإناثا ، هذا
التحوّل من تراب لا حياة فيه إلى خلية حية ، إلى إنسان سوي : دليل قاطع آخر على
إمكان البعث الذي هو إعادة الحياة مرة أخرى بفعل الله تعالى ، والإعادة في مفهوم
الناس وتقديرهم أهون من الخلق ، أما بالنسبة لله تعالى فهما سواء.
ودليل القدرة
الإلهية هذا ، يصحبه دليل آخر لإتمام الهندسة أو الصنع الإلهي ، وهو كمال العلم ،
فإن الله تعالى عالم بحمل أي أنثى في العالم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، يعلم بدء
التخلق ، ووقت الوضع ومكانه وكيفيته.
وحال الإنسان
وعمره بعد الولادة مختلف ، فما يمدّ في عمر إنسان ، ولا ينقص من عمر آخر إلا وهو
مدوّن معلوم في اللوح المحفوظ ، سواء كان ذا عمر طويل أو عمر قصير ، وذلك النظام
المرتّب ، والمتفاوت لكل إنسان ، سهل يسير على الله تعالى ، لديه علمه جملة
وتفصيلا.
ومن المعلوم أن عمر
الإنسان محدود ، لا يزيد ولا ينقص ، وأما ظاهر دلالة الآية على تعمير المعمر ونقص
عمر قصير الأجل ، فهذا بحسب أحوال الناس وأعرافهم ، فإنهم يقولون : فلان قضى عمره
، وفلان لم يكمل عمره ، والحقيقة : أن لكل واحد عمرا في علم الله لا يزيد ولا
ينقص.
من أدلة قدرة الله تعالى وتوحيده
في الوجود أدلة
كثيرة على توحيد الله تعالى ، وقدرته الفائقة ، وإمكانه بعث الناس من القبور مرة
أخرى ، منها خلق الأشياء المتحدة الجنس ، لكنها مختلفة المنافع ، مثل إيجاد الماء
الملح والماء العذب ، إما متجاورين في مكان واحد ، أو في أمكنة متباعدة ، ومثل
تداخل الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب المختلفة النيرة في أنحاء
السماوات ، وكل هذا ونحوه يدل دلالة واضحة على وجود الإله الخالق ، المدبر ،
الواحد ، القدير ، المهيمن ، ويوحي بوجوب الإيمان به عقلا وفعلا ، قال الله تعالى
منبها على هذه الأدلة :
(وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))
[فاطر : ٣٥ / ١٢ ـ
١٤].
هذه أدلة أخرى
تثبت مقدرة الله العظمى لكل عاقل ، وتقطع بأن الأصنام عاجزة عن فعل مثلها.
والدليل الأول :
هو أن الله تعالى أوجد البحرين : الملح والعذب ، وهما وإن تساويا في الصورة ،
يختلفان في الطبيعة ، فإن أحدهما ملح شديد الملوحة ، وهو البحر الذي تسير فيه
أنواع السفن ذات الحمولة الكبيرة ، والآخر عذب شديد العذوبة ، سائغ الشراب ، يجري
في الأنهار الكبيرة والصغيرة ، ويحقق منافع كثيرة.
ويصاد السمك من كل
من البحرين الملح والعذب ، وتستخرج الحلية الملبوسة
منهما ، وهو
اللؤلؤ والمرجان ، كما جاء في آية أخرى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)) [الرحمن : ٥٥ / ٢٢
ـ ٢٣] وعلى الرغم من أن الحلية إنما تخرج من الملح ، فإنه يجوز النسبة إلى كل من
الملح والعذب ، كما في آية : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ٦ /
١٣٠] والرسل : إنما هي من الإنس.
وتشاهد أيها
الناظر السفن في البحر والنهر الكبير تمخر عباب الماء ، أي تشقّه ، مقبلة مدبرة ،
حاملة المواد التجارية المختلفة ، لتطلبوا بالتجارة وكل سفر الرزق من فضل الله ،
ولتشكروا الله على تسخير الماء العظيم لكم ، وعلى ما أنعم به عليكم من النعم.
والدليل الثاني :
على قدرة الله التامة : إدخال الليل في النهار ، وإدخال النهار في الليل ، فيكون
أطول من الآخر ، وما زاد من أحدهما أو نقص يدخل في الآخر ، فكأن الزيادة أو النقص
دخول أحدهما في الآخر ، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتبادلان صيفا وشتاء.
والدليل الثالث :
تسيير الشمس والقمر وبقية الكواكب السيارة ، والثوابت ، بإرادة الله وقدرته ، كل
واحد منها يجري بمقدار معين ، ومدة محددة ، هي زمن مدارها أو منتهاها ، تساعد على
تعلم عدد السنين والحساب.
ذلكم المذكور الذي
فعل هذا من خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان من تراب ونطفة ، وغير ذلك : هو
الله الرب العظيم ، الذي لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، وهو صاحب الملك التام ،
والقدرة الشاملة ، وكل ما عداه عبد له.
وفي مقابل ذلك تجد
الأصنام عاجزة عن الخلق والإبداع ، وهي متصفة بصفات ثلاث ، كلها تدل على بطلانها ،
أولها ـ أنها لا تسمع إن دعيت ، والثاني ـ أنها لا تجيب ، ولو سمعت ، والثالث ـ أنها
تتبرأ يوم القيامة من الكفار.
إن الذي تعبدونه
من الأصنام والأوثان التي هي على صورة بعض الملائكة في زعمكم ، لا يملكون شيئا من
الأرض والسماوات ، ولو كان ذلك شيئا حقيرا بمقدار القطمير ، أي قشرة النواة
الرقيقة.
ودليل عجز الأصنام
: أنكم أيها الوثنيون إن دعوتموها من دون الله ، لا تسمع دعاءكم ، لأنها جماد لا
تدرك شيئا ، ولو سمعوا لا يقدرون أن ينفعوكم بشيء مما تطلبون منها ، لعجزها عن ذلك
، ويوم القيامة يجحدون كون ما فعلتموه حقا ، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم أو
أقروكم عليها ، ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وشأن عبدتها إلا خبير بصير بها : وهو
الله تعالى.
أسباب عبادة الله تعالى
العبادة صلة
بالمعبود ، وملء القلب بحب الله وعظمته وخشيته ، وإشعار بمزيد الحاجة إلى الله
تعالى ، فهي نفع للعبد ، والله تعالى لا تنفعه طاعة ، وهو غني عن الناس ، لذا
تنبغي العبادة لله ، فهي ذات شأن كبير ، وتستحق التهديد على تركها ، مع إعلامنا
بمسؤولية كل إنسان عن نفسه فقط ، وإرشادنا إلى أن التبشير بالخير ، والإنذار بالشر
، إنما ينفع من خشي الله تعالى بالغيب ، وأقام الصلاة ، وزكّى وطهر نفسه من دخائل
السوء. والمؤمن يحيا في نور ، والكافر يعيش في الظلام ، ومهمة النبي صلىاللهعليهوسلم تبشير المطيع بالجنة ، وإنذار المخالف بالنار ، وهو الواقع
في كل أمة ، كما أن التكذيب من الأقوام قديم ، قال الله تعالى واصفا كل هذه
المعاني والإرشادات :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ
بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى
حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى
اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا
الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما
يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما
أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ
خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ
الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))
[فاطر : ٣٥ / ١٥ ـ
٢٦].
هذه مواعظ
وإرشادات ، فيا أيها الناس جميعا ، أنتم المحتاجون إلى الله تعالى في كل شيء ،
والله هو الغني الذي لا حاجة به لأحد ، وهو المحمود بالإطلاق المشكور على نعمه
وعلى جميع ما يفعله ويقوله ، ويقدّره ويشرعه.
ودليل غناه وقدرته
: أنه لو شاء لأفناكم ، وأتى بقوم غيركم ، هم أطوع لله منكم ، وأقوم وأتم ، وليس
ذلك بصعب أو ممتنع على الله تعالى ، بل هو يسير هيّن عليه ، وهذا تهديد ووعيد.
والمسؤولية لكل
إنسان شخصية أو فردية ، فلا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى ، وذلك لا يمنع من مضاعفة
العذاب للقادة المضلين. وكلمة (تَزِرُ) معناه تحمل الوزر الثقيل. وهذه الآية متعلقة بالذنوب
والآثام والجرائم.
وإن طلبت نفس ،
مثقلة بالأوزار والمعاصي ، مساعدة نفس أخرى في حملها ، لتحمل عنها بعض الذنوب ، لم
تتحمل تلك النفس شيئا من ذنوب غيرها ، حتى ولو كانت قريبة لها في النسب ، كالابن
والأب ، لأن كل إنسان مشغول بنفسه وحاله. وأنت أيها النبي تفيد دعوتك أهل التقوى ،
وتفيد بوعظك الذين يخافون من عذاب ربهم قبل معاينته ، وفي خلواتهم السرية ، ويؤدون
الصلاة المفروضة عليهم على النحو
__________________
المشروع ، تامة الأركان
والشرائط ، ومن تطهر من الشرك والمعاصي ، وعمل صالحا ، فإنما يتطهر لنفسه ، لأن
نفع ذلك يعود على نفسه ، لا على غيره ، وإلى الله المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب
، يجازي كل امرئ بما كسب.
سبب هذه الآية أن
الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين : اكفروا بمحمد ، وعليّ وزركم ، فحكم الله
تعالى بأن الأوزار لا يحملها أحد عن أحد.
ثم ضرب الله المثل
للمؤمن والكافر ، فكما أنه لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمة ولا النور ، ولا
الظل ولا الحرور (شدة حر الشمس) كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله ،
والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد ، فاتبعه وانقاد له ، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور
الإيمان ، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار.
ولا يتساوى
المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر ، والكافرون أموات القلوب والحواس ، ومصدر
الهداية هو الله تعالى ، فإن الله يرشد من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد
لها ، والمشركون لا ينتفعون بهداية النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأن الكفر سيطر عليهم وأمات قلوبهم ، كما لا ينتفع
الموتى في قبورهم بالهداية والإرشاد. وهذا تمثيل بما يحسه البشر ويشاهدونه ، فهم
يرون أن الميت لا يسمع. وما أنت أيها النبي إلا رسول منذر عذاب الله ، ليس عليك
إلا الإنذار والتبليغ ، وأما الهداية فهي بيد الله تعالى.
ولقد أرسلناك أيها
الرسول بدعوة الحق الثابت المطابق للواقع ، مبشرا أهل الطاعة بالجنة ، ومنذرا
الكافرين والعصاة بالنار.
ولم تخل أية أمة
من الأمم السابقة من نذير منذر ، لئلا يكون للناس حجة أو عذر ، وإن يكذبك أيها
الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم ، جاءتهم رسلهم
بالمعجزات والأدلة
على صدقهم ، وبالكتب المكتوبة ، كصحف إبراهيم وموسى ، وبالكتاب الإلهي النير
الواضح ، كالتوراة والإنجيل.
ومع كل هذا ،
كذبوا وعصوا ، فاستوجبوا العقاب والتهديد ، لذا أخذ الله الكافرين بالعقاب
والتنكيل ، فكيف رأيت أيها النبي إنكاري عليهم بشدة وقوة؟!.
أدلة أخرى على قدرة الله وتوحيده
ما أكثر الأدلة
الدالة على وجود الله تعالى وقدرته ووحدانيته ، ففي الكون مشاهد وألوان مختلفة ،
منها العلوم الأرضية ، كإخراج الثمار ذات الألوان المتعددة بماء المطر ، وإيجاد
الناس والدوابّ والأنعام المختلفة الألوان ، وبها يدرك العلماء عظمة الكون ،
ويؤمنون بوجود الله تعالى ، ويعرف المؤمنون الذين يتلون القرآن الكريم ، ويقيمون
الصلاة ، ويؤتون الزكاة وينفقون من أموالهم في السر والعلانية : أن هذه الأعمال
تحقق لهم القبول والثواب من الله تعالى على طاعتهم ، بل إنهم ينتظرون المزيد من
فضل الله وإحسانه ، قال الله تعالى مبينا هذه الأدلة والبراهين :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها
وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا
الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))
[فاطر : ٣٥ / ٢٧ ـ
٣٠].
__________________
المعنى : ألم
تشاهد أيها الإنسان أن الله خلق الأشياء المتفاوتة من الشيء الواحد ، فإنه سبحانه
أنزل الماء من السماء ، وأخرج به ثمارا مختلفة الألوان والطعوم والأنواع ، والرؤية
في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) رؤية القلب ، وهي المراد في آيات القرآن.
وموضوع هذه الآية
مثل آية : (وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)) [الرعد : ١٣ / ٤].
وجعل الله بين الجبال طرقا ذات ألوان مختلفة ، بيضاء وحمراء وسوداء شديدة السواد ،
وخلق الله أيضا الناس والدوابّ والأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) مختلفة الألوان
في الجنس الواحد ، والنوع الواحد ، والحيوان الواحد ، كاختلاف الثمار والجبال.
وإنما يخاف الله
بالغيب أهل العلم ، فهم الذين يتأملون في هذا الاختلاف بين المخلوقات ، ويدركون
عظمة الصانع ، وقدرته على صنع ما يشاء ، وفعل ما يريد ، فمن كان أعلم بالله ، كان
أخشى له ، ومن لم يخش الله فليس بعالم ، فالعلم رأس الخشية وسببها ، أخرج القضاعي
عن أنس : «خشية الله رأس كل حكمة ..». وأخرج الحكيم الترمذي وابن لال عن ابن مسعود
: «رأس الحكمة مخافة الله». وقال الله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى (١٠)) [الأعلى : ٨٧ / ١٠].
وقال صلىاللهعليهوسلم فيما رواه عبد بن حميد وابن أبي ليلى : «أعلمهم بالله
أشدهم له خشية». وقال مجاهد والشعبي : «إنما العالم من يخشى الله».
إن الله قوي قادر
قاهر في كل شيء ، ومنها انتقامه من الكافرين ، وواسع المغفرة لذنوب عباده التائبين
المؤمنين. والمراد بالعالم : هو عالم الطبيعة وطبقات الأرض ، والحياة ، والاجتماع
، والفلك ونحو ذلك. وأما العلماء بكتاب الله تعالى : فهم الذين
يتلون آيات القرآن
الكريم ، ويعملون بما اشتمل عليه من الفرائض والطاعات ، كإقامة الصلاة في أوقاتها
، والإنفاق من رزق الله وفضله في السر والعلانية ، والنفقة : الصدقات ووجوه البر ،
فالسر من ذلك : التطوع ، والعلانية : هو المفروض.
وهؤلاء يطلبون
ثوابا جزيلا من الله على طاعتهم. وقوله : (يَرْجُونَ تِجارَةً
لَنْ تَبُورَ) معناه يطمعون في تجارة رابحة بما يعملون من عمل ، لن تكسد
ويتعذر ربحها وهذا إشارة إلى الإخلاص في العمل.
ثم ذكر الله تعالى
كيفية إيفائه الأجور ، فقال : (لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ ..) والفعل (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بفعل مضمر تقديره : وعدهم بألا تبور تجارتهم إن
فعلوا ذلك.
والمعنى : إن الله
تعالى يوفي المؤمنين العاملين أجورهم كاملة ، ويزيدهم من فضله ، إما بمضاعفة
الحسنات من العشر إلى السبع مائة ، وإما النظر إلى وجه الله الكريم ، وإما
الشّفاعة في غيرهم لقوله تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ١٠ / ٢٦]
، إن الله تعالى واسع المغفرة لذنوبهم ، وافي الشكر لطاعتهم وللقليل من أعمالهم.
والغفور : المتجاوز عن الذنوب الساتر لها. والشكور : المجازي على اليسير من الطاعة
، المقرب لعبده منه.
إن من أعجب الأدلة
وأقواها على وجود الله ووحدانيته وقدرته : عظمة خلق المخلوقات من الجمادات
والأراضي والجبال والطرقات ، وأنواع الحيوان ، والإنسان. وهذه الآية تتعلق بالعلوم
العملية الطبيعية ، ويقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.
وأما أهل الإيمان
والعمل الصالح العاكفون على تلاوة القرآن ، المقيمو الصلاة ، والمنفقون من طيبات
الرزق بأداء الفريضة علنا ، وهي الزكاة ، والتطوعات والصدقات سرا ، فهم الراجون
الثواب من الله ومزيد الفضل الإلهي ، والله سبحانه
لا يضيع أجر
المحسنين ، كما جاء في آيات أخرى ، منها : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) [النساء : ٤ / ١٧٣]
ومنها : (رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ..) إلى قوله سبحانه : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ) [النور : ٢٤ / ٣٧
ـ ٣٨].
ورثة القرآن وجزاء المؤمنين
إن الاعتقاد
بالقرآن الكريم يوجب التقيد بشرائعه وأحكامه وحلاله وحرامه ، إلا أن ورثة القرآن
ثلاثة أنواع : إما ظالم لنفسه ، وإما مقتصد متوسط ، وإما سابق بالخيرات ، وجزاء
السابقين المؤمنين جنان الخلد ، يحمدون المولى على نعمه وفضله ، ويجدون فيها
النعيم المقيم ، والراحة الكبرى من عناء الدنيا ومعكراتها وأحزانها ، وتلك غاية كل
إنسان في الحقيقة ، لكن تحقيق هذه الغاية مرهون بالعمل الصالح المؤدي إلى هذه
الغاية ، لا بمجرد الآمال والأحلام ، قال الله تعالى مبينا هذه الأمور :
(وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ
اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
(٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي
أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا
يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))
[فاطر : ٣٥ / ٣١ ـ
٣٥].
__________________
الآية الأولى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) تثبيت من الله تعالى لأمر نبيه وبيان لمنزلة القرآن ومهمته
بين الكتب السماوية ، فالذي أوحينا إليك أيها النبي وهو القرآن المجيد : هو الحق
الثابت الدائم المنزل إليك ، مصدقا ومؤيدا لما تقدمه أو لما بين يديه من الكتب
السابقة ، وهو التوراة والإنجيل. إن الله محيط علمه بأمور عباده ، بصير مطّلع على
أحوالهم. وهذا وعيد لمن أعرض عن القرآن وهجره إلى غيره.
ثم توارث معاني
القرآن وعلمه وأحكامه وعقائده ، بقضاء الله وقدره ، جماعة من عباد الله وهم أمة
محمد صلىاللهعليهوسلم اختارهم لتحمّل عبء الرسالة القرآنية ، فكانوا أقساما
ثلاثة :
ـ فمنهم الظالم
لنفسه ، أي الذي تجاوز الحد ، وهو المفرّط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض
المحرمات ، وهو العاصي المسرف.
ـ ومنهم المقتصد :
المتوسط المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات ، وهو المتقي للكبائر ، لكنه يرتكب بعض
الصغائر ، ويترك بعض المستحبات المرغوب فيها.
ـ ومنهم السابق
بالخيرات بإذن الله : وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات ، والمتقي على الإطلاق.
وبإذن الله : معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده.
والأصناف الثلاثة
في الجنة بسبب الإيمان ، وتوريث الكتاب واصطفاء بعض الناس ليكونوا أمة الدعوة أمة
محمد وما يكون من الرحمة : هو فضل عظيم من الله تعالى. وأورثنا : معناه أعطيناه
فرقة بعد موت فرقة. أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والبيهقي في البعث ، وغيرهم عن
أسامة بن زيد رضي الله عنه : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية وقال : «كلهم في الجنة».
وجزاء المؤمنين
المصطفين : أن يدخلهم ربهم جنات إقامة دائمة يوم المعاد ، يحلّون فيها أساور من
ذهب ، مرصع باللؤلؤ ، ويكون لباسهم حريرا خالصا ، أباحه الله
تعالى لهم في
الآخرة ، بعد حظره على الرجال في الدنيا. ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة»
وقال : «هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة».
وقال المؤمنون حين
استقروا في جنات عدن : الحمد والشكر لله على ما أذهب عنا من الخوف من المخاطر
والمحاذير ، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة ، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة
، فهو غفور لذنوب عباده ، متجاوز عنها ، ساتر لها ، شكور لطاعتهم ، مجاز على
اليسير من الطاعة ، مقرّب لعبده به ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : غفر لهم
الكثير من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
وقالوا أيضا :
الحمد لله الذي أعطانا هذه المنزلة ، ومتّعنا بهذه الإقامة ، وبدار المقامة : وهي
الجنة ، بفضله وإحسانه ورحمته ، ولم تكن أعمالنا تساوي ذلك ، ولا نتعرض فيها لتعب
ولا إعياء ، لا في الأبدان ولا في الأرواح ، لأنهم واظبوا على العبادة في الدنيا ،
فصاروا في راحة دائمة في الآخرة ، كما قال الله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)) [الحاقة : ٦٩ / ٢٤].
إن نعيم الجنة
نعيم مادي حسي وروحاني معنوي ، وهو دائم خالد لا ينقطع ولا يزول ، وفيه يتمتع أهل
الجنة بما لا يحلمون به ، وكل ذلك يستحق تمام الحمد والثناء على الله تعالى ،
لإدراك هذه الحظوة التي لا مثيل لها ، ويغبطهم فيها كل بعيد عنها ، محروم منها.
جزاء الكافرين
بعد أن ذكر الله
تعالى جزاء المؤمنين في الآخرة في جنان الخلد ، ذكر جزاء الكفار لعقد موازنة أو
مقارنة بين الجزاءين ، فيقبل العاقل على ما يجعله من فريق المؤمنين
السعداء ، ويبتعد
عن موجبات جزاء الكافرين الأشقياء ، وليتأكد كل الناس أن القرار الحاسم في الحكم
الإلهي لا يقبل النقض ، ولا يجد الخاسرون أنصارا ينصرونهم من بأس الله وعذابه ،
ولا طريق للإنقاذ أو تصور العودة إلى الدنيا ، لأن الاختبار واحد والنتيجة واحدة ،
لا تتكرر ، قال الله تعالى واصفا جزاء الكفار :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))
[فاطر : ٣٥ / ٣٦ ـ
٣٩].
أخبر الله تعالى
عن حال الذين كفروا ، حال الذين اصطفى من عباده لوراثة القرآن ، وهذا منهج القرآن
في الغالب ، لتتضح الصورة من خلال المقارنة والعظة ، فأما المصطفون المختارون لإرث
القرآن فهم في جنان الخلد ، وأما الذين كفروا بالله وبالقرآن ، وستروا ما أرشدت
إليه العقول للوصول إلى الحق ، فلهم نار جهنم ، لا يحكم عليهم بموت ثان ، فيستريحوا
من العذاب والآلام ، ولا يخفف عنهم شيء من العذاب طرفة عين ، بل كلما خبت النيران
زاد سعيرها ، كما قال الله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ
زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ١٧ /
٩٧].
ومثل ذلك الجزاء
الشديد ، يجزي الله تعالى كل كفور ، أي مبالغ في الكفر وحال هؤلاء الكفار المعذبين
في جهنم أنهم يستغيثون في النار ، رافعين أصواتهم ، ينادون قائلين : ربنا أخرجنا
منها ، وردّنا إلى الدنيا ، نعمل عملا صالحا ترضى عنه ، غير ما كنا نعمله من الشرك
والمعاصي ، فنجعل الإيمان بدل الكفر ، والطاعة بدل المعصية.
فيقال لهم على
سبيل التوبيخ والتوقيف على الوقائع في الدنيا ؛ أولم نترككم في الدنيا مدة من
العمر ، تكفي للتذكر والاتعاظ إذا أردتم التذكر؟ فتلك مدة كافية للإيمان ومعرفة
الحق ، وجاءكم الرسول المنذر ، وهو النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ومعه القرآن ، ينذركم بعقاب الله إن كفرتم وعصيتم ، أخرج
الحكيم الترمذي والبيهقي في سننه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كان يوم القيامة نودي : أين ابن الستين؟ وهو
العمر الذي قال الله فيه : (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)».
فذوقوا عذاب جهنم
، جزاء على عصيان أوامر الأنبياء لكم في الدنيا ، فليس لكم ناصر ينقذكم مما أنتم
فيه من العذاب والنكال ، وهو تهكم بصيغة الأمر ، مثل قول الله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ (٤٩)) [الدخان : ٤٤ / ٤٩].
ثم أوعد الله
تعالى الناس جميعا بإخباره أنه محيط علمه بجميع الأمور والأحوال ، فإن الله يعلم
كل أمر خفي في السماوات والأرض ، ومنها أعمال العباد ، لا تخفى عليه خافية ، فلو
ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا ، فإن الله تام العلم بحقائق النفوس ، وما تكنّه
الصدور ، وتضمره السرائر ، من العقائد والظنون وحديث النفس ، وسيجازي كل إنسان
بعمله. وهذا ابتداء تذكير بالله تعالى ، ودلائل على وحدانية الله وصفاته التي لا
تبتغي الألوهية إلا معها. والغيب : كل ما غاب عن البشر ، و (بِذاتِ الصُّدُورِ) : ما فيها من المعتقدات والمعاني والأسرار.
وسبب علم الله
بالغيب : أن الله جعلكم أيها البشر خلائف في الأرض ، يخلف قوم قوما آخرين قبلهم ،
لينتفعوا بخيرات الأرض ، ويشكروا الله بالتوحيد والطاعة ، فمن كفر منكم هذه النعمة
، فعليه وبال كفره ، وجزاؤه عليه دون غيره. وكلما استمر الكافرون على كفرهم ، لم
يزدهم ذلك إلا بغضا من الله ، وسخطا عليهم ، وكلما
أصروا على الكفر
خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وأصابهم النقص والهلاك والضياع.
وهذا التكرار دليل
على أن الكفر يستوجب أمرين : وهما البغض والسخط ، والخسران والهلاك. والمقت :
احتقارك الإنسان من أجل معصية ، أو بغض دينه الباطل الذي يأتيه. والخسار : الخسران
، أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب.
مناقشة عقائد المشركين
الشرك بالله أعظم
البهتان (أسوأ الكذب) والافتراء على الله تعالى ، لأنه ينافي الحقيقة على الإطلاق
، ويصدر عن بدائية وتخلف ، وقصور عقل وضعف نظر ، ويؤدي الشرك إلى قلب الموازين ،
وتغيير المفاهيم ، وإضاعة الجهد ، وحصر الفكر في غير طائل ، ولا دليل عليه من حس
أو منطق ، وإنما هو مجرد أوهام وخرافة وتأملات فارغة المحتوى. ولو أعمل المشرك
عقله بحق ، لوجد أن الخالق لكل شيء ، والمهيمن على السماوات والأرض : هو الأحق
بالعبادة. والشرك أدى إلى إنكار الوحي ورسالة النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهذا أيضا مناف للحقيقة وكذب ، ومنشؤه التكبر ، والمكر
السيّئ والحفاظ على المصالح الموهومة ، فيستحق المشركون المنكرون للنبوة أشد
العقاب ، كما جاء في الآيات الآتية :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ
غُرُوراً
__________________
(٤٠)
إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ
أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ
أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ
نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ
الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ
اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ
عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))
[فاطر : ٣٥ / ٤٠ ـ
٤٥].
والمعنى : قل أيها
النبي للمشركين : أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله ، هل خلقوا شيئا
من الأرض ، حتى يستحقوا الألوهية؟ وهل لهم شراكة مع الله في خلق السماوات وملكها
والتصرف فيها ، حتى تؤلهوهم؟ أم هل أنزلنا عليهم كتابا يقرر لهم الشرك ، يكون لهم
حجة في مزاعمهم؟ بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم الخاصة وتبادل الوعود
والأماني فيما بينهم ، وهي كلها أباطيل لا حقيقة لها تتمثل في قولهم : إن هذه
الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى ، وتشفع لهم.
وبعد بيان فساد
أمر الأصنام وإبطال ألوهيتها بالحجة الدامغة ، أقام الله تعالى الدليل على عظمته
وقدرته ، ليتبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر الله تعالى ، فأخبر
سبحانه عن إمساكه السماوات والأرض بالقدرة ، فهو سبحانه يمنع زوال السماوات والأرض
واضطرابها ، ولو قدّر أو فرض زوالهما أو جاء وقت زوالهما ، لا يقدر أحد غيره تعالى
على إمساكهما وإبقائهما ، والله مع عظيم قدرته
__________________
حليم غفور ، يمهل
عقاب المشركين ، ويغفر لمن تاب منهم ، ويمسك السماء والأرض عن الزوال ، وقوله : (أَنْ تَزُولا) معناه كراهة أن تزولا ، ولئلا تزولا. ومعنى الزوال هنا :
الانتقال من مكانها والسقوط من علوها. وقوله تعالى (إِنْ أَمْسَكَهُما
مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) : فيه حذف مضاف تقديره : من بعد تركة الإمساك.
وأقسم كفار قريش
بالله أغلظ الأيمان أو طاقتها وغايتها : لئن جاءهم من الله رسول منذر ، ليكونن
أهدى وأمثل من أي أمة من الأمم السابقة ، فلما أتاهم الرسول النذير وتحقق ما
تمنّوه ، وهو رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما أنزل معه من القرآن ، ما ازدادوا إلا كفرا ، وتباعدا
وإعراضا عن الإيمان ، تكبرا عن اتباع آيات الله ، ولجوءا إلى سوء المكر ، بصدّ
الناس عن سبيل الله تعالى ، ولكنهم أخفقوا ، فما يعود وبال المكر إلا على أنفسهم
دون غيرهم ، وعوقبوا على مكرهم وإثمهم العقاب المناسب ، فهل ينتظرون إلا عقوبة لهم
على تكذيبهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، كعقوبة الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم؟! وتلك سنة الله
ـ أي عادته ـ وطريقته ، التي لا تتغير ولا تتبدل في كل مكذب ، ولا تحويل لسنة الله
في العذاب من مكذب كافر إلى غيره. والمعنى : أنه لا بد من أن يحيق بهم العقاب ،
إما في الدنيا ، وإما في الآخرة ، فعاقبة الفساد تعود لهم. وهذا وعيد بيّن.
وسبب نزول الآية :
أن قريشا قالوا : لو أن الله بعث منا نبيا ، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها ،
ولا أسمع لنبيها ، ولا أشد تمسكا بكتابها منا. وبعد هذا التوعد ، ذكّرهم الله بما
رأوا من آثار التعذيب في طريق الشام وغيره ، كديار ثمود ونحوها ، أفلم يتنقلوا في
الأرض في رحلاتهم إلى الشام واليمن والعراق ، فيشاهدوا مصير السابقين الذين كذبوا
الرسل ، كيف دمّر الله عليهم ، على الرغم من أنهم كانوا أشد من قريش قوة ، وأكثر
عددا وعدّة ، وأكثر أموالا وأولادا ، ولم يكن الله ليفوته
شيء إذا أراد
حدوثه في السماوات والأرض ، إن الله تعالى عليم بجميع الكائنات ، لا يخفى عليه شيء
منها ، تام القدرة لا يصعب عليه شيء.
ثم أبان الله
تعالى سبب إمهاله بعض عباده وتأخيره العذاب عنهم : وهو أن الآخرة من وراء الجميع ،
وفيها يستوفي جزاء كل أحد ، ولو جازى الله تعالى على الذنوب في الدنيا ، لأهلك
الجميع ، أي لو عجل عقاب الناس على معاصيهم لأهلكهم جميعا ، ودمر جميع ممتلكاتهم
ولم يترك دابة على ظهر الأرض ، ولكن يؤجل عقابهم إلى وقت محدد ، وهو يوم القيامة ،
فيحاسبهم حينئذ ، ويوفي كل عامل بعمله ، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب ، ومن
يستوجب العقاب ، وفيه وعيد للكافرين ، ووعد للمؤمنين.
تفسير سورة يس
القرآن والنبي صلىاللهعليهوسلم وقومه
سورة يس مكية
بالإجماع ، وهي تتحدث عن رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتذكّر الناس بالبعث والقدرة الإلهية ووحدانية الله
تعالى ، وتثير المشاعر والأفكار للتأمل بأحداث القيامة ، وتتميز هذه السورة بأنها
قلب القرآن ، وتشفع لقارئها ، أخرج الدارمي والترمذي والبيهقي عن أنس : أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن لكل شيء قلبا ، وإن قلب القرآن يس».
وأخرج أبو النصر
السجزي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في القرآن لسورة تدعى : العظيمة عند الله ، يدعى
صاحبها : الشريف عند الله ، يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر ، وهي
سورة يس». وأخرج أبو داود وأحمد وابن ماجه وغيرهم عن معقل بن يسار أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «اقرؤوا يس على موتاكم» وهو حديث حسن. قال الله
تعالى في مطلعها مبينا موقف النبي من قومه :
(يس (١) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ
غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ
مُقْمَحُونَ (٨)
__________________
وَجَعَلْنا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ
لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))
[يس : ٣٦ / ١ ـ ١٢].
يس : إما اسم من
أسماء محمد صلىاللهعليهوسلم ، لقوله تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) أو إنها حروف مقطعة للتنبيه على أهمية السورة وتحدي العرب
بالقرآن بأن يأتوا بمثله ، مع أنه متكوّن من الحروف الأبجدية أو الهجائية التي
تتركب منها لغتهم. أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بنظمه ومعناه ، ذي الحكمة
البالغة ، بأنك يا محمد لرسول من عند الله ، على طريق قويم ، ومنهج سليم. وهذا
القرآن تنزيل من عند الله ذي العزة والقوة ، الرحيم بعباده المؤمنين ، ولقد
أرسلناك أيها الرسول لتنذر قومك العرب الذين لم يأتهم رسول منذر من قبلك ، ولم يأت
آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى ، فهم غافلون عن معرفة الحق
والشرع.
نزلت هذه الآية
فيما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ في السجدة ، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش
، حتى قاموا ليأخذوه ، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم ، وإذا بهم عمي لا يبصرون ،
فجاءوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : ننشدك الله والرحم يا محمد ، فدعا حتى ذهب ذلك
عنهم ، فنزلت (يس وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ) إلى قوله : (أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
لقد وجب العذاب
على أكثر أهل مكة حين نزول هذه الآيات ، وهو ما دوّن في شأنهم في اللوح المحفوظ ،
أنهم لا يؤمنون بالقرآن والنبي صلىاللهعليهوسلم ، وهم الذين علم الله
__________________
أنهم يموتون على
الكفر. ومثل تصميمهم على الكفر كمثل المكبّل في الأغلال لا يستطيع فعل شيء ولا
يبصر شيئا. وهذا المثل : إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود ، تمنعهم من
فعل شيء حتى صاروا مرفوعي الرؤوس ، خافضي الأبصار ، أي إنهم كالمطوّقين بالقيود في
أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يستطيعون توجيه أنظارهم إلى شيء.
وتأكيدا لما سبق
في تصوير حالتهم : أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كالمضروب عليهم
السدّ ، المحيط بهم من الأمام والخلف ، ومنعوا من النظر ، فهم لا يبصرون شيئا ،
ولا ينتفعون بخير ، ولا يهتدون إليه.
أخرج ابن جرير
الطبري عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلن ، فأنزل الله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالاً) إلى قوله : (لا يُبْصِرُونَ) فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول : أين هو ، أين هو؟ لا
يبصر. فالآية مستعارة المعنى من منع الله إياهم وحوله بينه وبينهم ، وهذا أرجح
الأقوال ، لأنه لما ذكر الله أنهم لا يؤمنون في العلم الأزلي ، جعلوا في حالة من
المنع ، وإحاطة الشقاوة كالمضروب عليهم السد ، وتشبه حالهم حال المغلوبين.
ونتيجة لهذا
التطويق ، يستوي أيها النبي إنذارك لهؤلاء المصرّين على الكفر ، وعدم الإنذار ،
فهم لا يؤمنون ، ولا ينفعهم الإنذار.
إنما ينفع إنذارك
الذين آمنوا بالقرآن العظيم ، واتبعوا أحكامه وشرائعه ، وخافوا عقاب الله قبل
حدوثه ، وقبل رؤية الله ، فهؤلاء بشرّهم بمغفرة لذنوبهم ، وبأجر كريم وفير على
أعمالهم وهو الجنة.
ثم أكد الله تعالى
تحقيق الجزاء في عالم الآخرة بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى) أي إننا قادرون على إحياء الموتى ، وبعثهم أحياء من قبورهم
، ونحن الذين نكتب لهم كل ما قدّموه من عمل صالح أو سيّئ ، وكل ما تركه من آثار
طيبة أو خبيثة.
وسبب نزول هذه
الآية : ما أخرجه الترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال : كان بنو
سلمة في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن آثاركم تكتب». فلم ينتقلوا. وفي صحيح مسلم قال : «يا
بني سلمة ، دياركم ، تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم». وهذا لا يمنع من كون
الآية مكية ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم احتج عليهم في المدينة ، واتفق قوله صلىاللهعليهوسلم مع الآية في المعنى. والمراد بالآثار : الخطى إلى المساجد.
أصحاب القرية
يتكرر ضرب الأمثال
في القرآن الكريم للعظة والاعتبار والتأثر بأحداث الآخرين ، وفي سورة يس ضرب الله
مثلا لحال قريش الذين أصروا على الكفر ، بحال أهل قرية كذّبوا الرسل ، فدمرّهم
الله بصيحة واحدة. والقرية ، على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والزهري :
أنطاكية. والمرسلون : هم جماعة من الحواريين ، بعثهم عيسى عليهالسلام قبل رفعه إلى السماء ، وقبل صلب الذي ألقي عليه شبهه. وهم
رسولان دعوا أهل القرية إلى عبادة الله وحده ، وإلى الهدى والإيمان ، فكذبوهما ،
فشدّد الله أمرهما بثالث ، فصاروا ثلاثة ، وقامت الحجة على أهل القرية ، وآمن منهم
الرجل الذي جاء يسعى ، وقتلوه في آخر أمره وكفروا ، فأصابتهم صيحة من السماء ،
فخمدوا وماتوا. فإذا استمر مشركو قريش على عنادهم ، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه
القرية ، قال الله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ
مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ
الرَّحْمنُ مِنْ
شَيْءٍ
إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى
قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣)
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
(٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما
غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩))
[يس : ٣٦ / ١٣ ـ ٢٩].
المعنى : اضرب يا
محمد مثلا في الغلو والكفر لقومك بأهل قرية هي أنطاكية في رأي ابن عباس ، حين أرسل
الله إليهم ثلاثة رجال مرسلين من أصحاب عيسى عليهالسلام الحواريين ، فكذبوهم. وعدد المرسلين اثنان أرسلهما عيسى
بأمر الله تعالى ، فكذب القوم رسالتهما ، فأيدهما الله برسول ثالث ، فقالوا لأهل
القرية : إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده ، وتتركوا عبادة
الأصنام.
فقال أهل القرية
للمرسلين الثلاثة : لستم أنتم إلا بشرا أمثالنا ، تأكلون الطعام وتشربون ، فمن أين
لكم التميز علينا؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون ،
ويدّعيه غيركم من الرسل ، فما أنتم بادعائكم الرسالة إلا قوم كاذبون.
فأجابهم الرسل
الثلاثة قائلين : الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبة عليه ، لانتقم منا أشد
الانتقام. ومهمتنا أنه ليس علينا إلا إبلاغكم ما أرسلنا به إليكم ، ولا يجب علينا
إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح.
__________________
فهدّدهم أهل
القرية بقولهم : لقد تشاءمنا منكم ، ولم نر خيرا في عيشنا معكم ، ولئن لم تنتهوا
عن دعوتكم هذه ، لنرجمنكم بالحجارة ، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم شديد.
فأجابهم الرسل
الثلاثة : شؤمكم مردود عليكم ، وهو مصاحب لكم ، وسببه تكذيبكم وكفركم بربكم ،
ولسنا نحن ، بل أنتم قوم مسرفون في الضلال ، متجاوزون الحد في مخالفة الحق.
ثم أيدّهم الله
بنصير من القوم ، فجاء رجل مؤمن بالله وبالرسل ، من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي
لما سمع بخبر الرسل ، وهو حبيب النجار في رواية عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن
عباس ، فقال ناصحا قومه : يا قوم ، اتبعوا رسل الله فيما أتوكم به ، لإنقاذكم من
الضلال ، اتبعوا هؤلاء الذين لا يطلبون منكم أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة ، فهم
مخلصون في عملهم ودعوتهم ، وهم جماعة مهتدون إلى الحق والإيمان الصحيح بعبادة الله
وحده لا شريك له.
وإني أحب لكم ما
أحب لنفسي ، وأنا ما الذي يمنعني من عبادة الله الذي خلقني ، وإليه رجوعي ومصيري
يوم المعاد؟ وفي هذا ترغيب بعبادة الله تعالى وترهيب من عقابه ، والدليل على سلامة
منهجي في الاعتقاد والعبادة : كيف أتخذ من دون الله آلهة أخرى ، لا تضر ولا تنفع ،
وهي عبادة الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار وتوبيخ ، فلن أتخذ من دون الله آلهة ، فإنه
إن أرادني الله الرحمن بسوء أو ضرر ، لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها ،
ولا تنقذني من أي سوء. إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله ، فإني في الحقيقة
والواقع في خطأ واضح ، وانحراف بيّن عن الحق ، إني صدّقت بربكم الذي أرسلكم أيها
الرسل ، فاشهدوا لي بذلك عنده. فلما قال ذلك ، قتله قومه.
فقيل له : ادخل
الجنة ، لاستشهادك في سبيل إعلاء كلمة الحق ، فدخلها ، فلما عاين نعيمها ، قال محبا
لإنقاذ قومه : يا ليت قومي يعلمون بمآلي وحسن حالي ، فيؤمنوا بالله مثل إيماني.
ثم خاطب الله نبيه
متوعدا لقريش : لم نحتج في تعذيب القوم إلى جند من جنود الله كالحجارة والغرق
والريح وغير ذلك ، بل كانت صيحة واحدة من أحد الملائكة ، دمرتهم ، لأنهم كانوا
أيسر وأهون من ذلك ، فصاروا بهذه الصيحة موتى هامدين.
بعض أدلة القدرة الإلهية
عني القرآن الكريم
عناية شديدة بإثبات البعث (اليوم الآخر) بإيراد مظاهر أو أدلة على القدرة الإلهية
الفائقة ، إما بإهلاك الظالمين هلاكا استئصاليا ، من الأقوام الغابرين ، ثم يحضرهم
الله للحساب ، وإما بإحياء الأرض الميتة بالمطر وإيجاد البساتين اليانعة وتفجير
الأنهار فيها ، وإما بسلخ النهار من الليل ، أو بتسيير الشمس والقمر في مدارهما ،
أو بحمل الآباء والذرية في السفن ، حفاظا على الوجود الإنساني ، وغير ذلك ، قال
الله تعالى موضحا هذه الأدلة :
(يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا
يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ
لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا
فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى
عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً
إِلى حِينٍ (٤٤))
[يس : ٣٦ / ٣٠ ـ ٤٤].
يا حسرة : المنادي
محذوف ، أي يا جماعة تحسروا حسرة على هؤلاء ، أو المنادي : الحسرة نفسها ، أي هذا
أوانك فاحضري.
والمعنى : يا حسرة
العباد على أنفسهم بسبب تكذيبهم الرسل ، فلم يأتهم رسول من عند الله ، لدعوتهم إلى
التوحيد والحق والخير لأنفسهم ، إلا استهزءوا به وكذّبوه ، وجحدوا ما أرسل به من
الحق. وقوله : (يا حَسْرَةً) نداء للحسرة بقصد الندبة والتحسر ، بمعنى : هذا وقت حضورك
وظهورك ، والمراد التلهف على العباد والإشفاق عليهم ، حين يزج بهم في العذاب. وهذا
تمثيل لفعل قريش. ثم عناهم الله تعالى بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا ..) أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد
وثمود ، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا ، خلافا لمزاعم الدهرية أنهم يعودون إلى
الدنيا كما كانوا قبلهم. ثم أعلمهم الله تعالى بوجود الحساب وعقاب الآخرة بعد عذاب
الدنيا ، فإن جميع الأمم الماضية والحاضرة والمستقبلية سيتم إحضارهم للحساب يوم
القيامة ، بين يدي الله عزوجل ، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها ، وهذا يدل على أن
من أهلكه الله في الدنيا له حساب وعقاب آخر في الآخرة.
ومن الآيات أو
العلامات الدالة على قدرة الله تعالى على البعث وغيره :
__________________
ـ إحياء الأرض
الهامدة التي لا نبات فيها ، بإنزال الماء عليها ، وتحركها بالنبات المختلف ،
وإخراج الحب الذي هو رزق للناس ودوابهم ، وهو معظم ما يؤكل.
ـ ومن الآيات :
إيجاد البساتين المشجرة في الأرض ، من نخيل وعنب وغيرها ، وتفجير الأنهار فيها في
مواضع مختلفة ، والقصد من ذلك : أن يأكل الناس من ثمار النخيل والأعناب ، ويأكلوا
مما صنعته أيديهم من نتاج الثمر والزرع أو الحب ، كالعصير والدبس والمربيات ونحوها
، فهلا يشكرونه على ما أنعم الله به عليهم من هذه النعم الكثيرة!! وهو أمر بالشكر
من طريق إنكار تركه.
تنزيها لله تعالى
عن الشريك الذي لا يخلق شيئا ، والله وحده هو الذي خلق الأصناف كلها من مختلف
الأنواع ، من الزروع والثمار والنبات ، وخلق من النفوس الذكور والإناث ، وخلق
أشياء لا يعرفونها ، كما جاء في آية أخرى : (وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ) [النحل : ١٦ / ٨].
ـ ومن آيات قدرته
تعالى وهي آية عظيمة لهم : خلق الليل والنهار ، وتعاقبهما ، وانسلاخ النهار من
الليل ، فيأتي بالضوء ، وتتبدد الظلمة. ونسلخ : نكشط ونقشر ، فهي استعارة ، و (مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام فجأة.
ومن الآيات : دوران
الشمس في فلكها حول نفسها في مدارها ، ومستقرها : كناية عن غيوبها أو آخر مطالعها.
ذلك تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء ، المحيط علمه بكل شيء. وجعل الله للقمر
منازل يسير فيها سيرا آخر ، وهي ثمانية وعشرون منزلا ، ينزل في كل ليلة في واحد
منها بمعدل ١٣ درجة في اليوم ، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين ، وليلة واحدة
إن كان تسعة وعشرين ، فإذا انتهى الشهر يدق ويصغر حتى يصير كغصن النخلة الأصفر
اليابس. ولا يتأتى للشمس أن تدرك القمر ، ولا
العكس ، ولا أن
يسبق الليل النهار ، ولكل منهما مدار يدور في فلكه ، و (يَسْبَحُونَ) معناه : يجرون ويعومون.
وعلامة ودليل لهم
على قدرة الله ورحمته : تسخير البحار لسير السفن المشحونة بالركاب والبضائع ، وحمل
ذرياتهم في الأصح : حمل ذريات جنسهم أو نوعهم ، لتوفير القوت والمعاش. وخلق الله
للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل ونحوها ، التي يركبون عليها ويحملون
أمتعتهم على ظهورها. والأظهر أنه تعالى يخلق لهم مثل الفلك الموجود في زمانهم ـ زمان
بني آدم إلى يوم القيامة. وإن يشأ الله يغرق في الماء الناس الراكبين والسفن
الموجودة ، أي السفن وحمولاتهم ، فلا يجدون مغيثا يغيثهم أو ينجيهم من الغرق ، ولا
هم ينقذون مما أصابهم ، لكن برحمة من الله نسيّركم أيها الناس في البر والبحر ،
ونحفظكم من الغرق ، وتمتيعا من الله لكم في الدنيا إلى وقت محدود عند الله تعالى ،
وهو الموت.
أحوال الكفار
في التقوى والإنفاق والإيمان بالبعث
للناس مواقف نابعة
من الأهواء والشهوات حول تقوى الله ، وآياته ، والإنفاق في وجوه الخير ، والإيمان
بالبعث ، فهم لا يخشون الله لانعدام الإيمان الصحيح به ، ويعرضون عن آيات الله
تهكما واستهزاء ومكابرة ، ولا ينفقون من رزق الله شيئا في سبيل الله ودفع حاجة
المحتاجين ، وينكرون إمكان البعث ، لأنهم جماعة ماديون لا يدركون آفاق المستقبل ،
ويستبعدون إمكان إعادة الأجساد التي صارت رميمة كالتراب إلى الحياة مرة أخرى ،
ولكنهم سيجدون كل ذلك حتما ويوقفون للحساب والجزاء القائم على الحق والعدل. وهذا
ما أخبر به القرآن الكريم في الآيات الآتية :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ
أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً
تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى
أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ
إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ
إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٥٤))
[يس : ٣٦ / ٤٥ ـ ٥٤].
المشركون في غي
وضلال ، لا يكترثون بالماضي وما جنوا فيه من آثام ، ولا يقدّرون مخاطر المستقبل
الحاصل بعد الدنيا وما فيه من المخاطر ، فتراهم إذا قيل لهم : اتقوا الله ، أي
احذروا عذاب الأمم التي سبقتكم في الزمن ، وعذاب الآخرة التي تحدث بعدئذ ، إذا
صممتم على الكفر حتى الموت ، لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك ، ويحميكم من العذاب.
وما يصل إلى علمهم
من آية دالة على توحيد الله وتصديق الرسل إلا أعرضوا عنها ، ولم يلتفتوا لها ، ولم
يتأملوا بها ، لتعطيل طاقة الفكر والوعي عندهم.
ولا يقتصر الأمر
على سوء الاعتقاد ، فإنهم قساة القلوب على مخلوقات الله ، فإذا طلب من قريش
الإنفاق أو التصدق بشيء من الأموال والأرزاق التي أنعم الله بها عليهم ، أجابوا
المؤمنين بطريق الاستهزاء واللامبالاة قائلين : هؤلاء المحتاجون لو شاء الله
لأغناهم ولأطعمهم من رزقه ، فهم لا يستحقون النفقة ، ونحن نوافق مشيئة الله فيهم ،
وقوله تعالى : (مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللهُ) ترغيب في الإنفاق ، وذم للبخل ،
__________________
وأضافوا قائلين
للناصحين لهم : ما أنتم في طلب الإنفاق منا إلا في خطأ واضح ، وانحراف عن جادة
الهدى والرشاد.
وسبب هذه الآية :
أن كفار قريش لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين ، قطعوا عنهم
نفقاتهم وجميع صلاتهم ، فطلب منهم المؤمنون أيام الموادعة أن يصلوهم ، وأن ينفقوا
عليهم مما رزقهم الله ، فقالوا : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ
يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) ونسوا واجب التعاطف وتألف الجنس.
وتراهم ينكرون
البعث (القيامة) فيقولون للمؤمنين استعجالا له بطريق الهزء والسخرية : متى يأتي
هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به ، وتهددونا به ، إن كنتم صادقين في ادعائكم
ووعيدكم؟
فأجابهم الله
تعالى ، إنهم لا ينتظرون لإيجاد القيامة والعذاب إلا نفخة واحدة في الصور ، هي النفخة
الأولى : نفخة الفزع التي يموت بها جميع المخلوقات ، وهم يختصمون فيما في شؤون
المال ، والاقتصاد ، وعقود المعاملات. وفي تلك النفخة السريعة الأثر التي يعقبها
الموت فورا ، لا يستطيع بعضهم الوصية لبعض بأملاكه وديونه ، بل يموتون في أماكنهم
، ولا يتمكنون من الرجوع إلى ديارهم التي خرجوا منها.
ثم أخبر الله
تعالى عن النفخة الثانية : وهي نفخة البعث والانتشار من القبور ، فإذا نفخ في
الصور نفخة ثانية للبعث والنشور ، فإذا جميع المخلوقات يخرجون من القبور ، يسرعون
المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء.
وإذا وجدوا في
ساحة البعث والحساب ، قال هؤلاء المبعوثون : يا هلاكنا ، من الذي بعثنا من قبورنا
بعد موتنا؟ وكانوا لا يعتقدون أنهم يبعثون من قبورهم ، وقدّروا أنهم كانوا في
قبورهم نياما ، ولما جوبهوا بالحقيقة المرّة ، والواقع المحفوف
بالمخاطر والأهوال
قالوا : هذا الذي وعد به الرحمن ، وصدق الرسل المرسلون في الإخبار عنه ، أي إنهم
أقروا بصدق الرسل في يوم لا ينفع فيه التصديق.
ثم وصف الله سرعة
البعث بأنها ما هي إلا صيحة واحدة : وهي صيحة القيامة والنفخة الثانية في الصور ،
فإذا هم أحياء مجموعون لدى الله بسرعة للحساب والجزاء ، كما جاء في آية أخرى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣)
فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤) [النازعات :
٧٩ / ١٣ ـ ١٤]. وقال الله تعالى : (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ١٦ / ٧٧].
ثم يكون القضاء
العدل الحاسم ، ففي يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ ، ولا توفوّن
أيها الناس إلا ما عملتم من خير أو شر ، كما قال الله سبحانه : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) [الأنبياء :
٢١ / ٤٧].
أهل الجنة وأهل النار
كل عامل يلقى ثمرة
عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فلا يستغربن أحد أن نتيجة عمله تلازم العمل ،
وتكون هي الغاية والهدف ، فالمحسن الصالح يتلقى من ربه الكريم ثوابا صالحا بفضل
الله وكرمه ورحمته ، والمسيء المفسد يجازى بسوء فعله وقوله وفساده ، حقا وعدلا ،
وهذا مثل الطالب الذي يعدّ نفسه للامتحان ، إن اجتهد وأتقن دراسته ، ووعى وفهم
وتمثل ما قرأه ، وصلح حاله واتقى ربه في كل شؤونه ، نجح وتباهي أمام الناس ، وإن
تكاسل وفرط ، ونام ، وأضاع وقته في اللهو والفساد ، ولم يدرس كتابه دراسة وافية ،
رسب وذلّ وتصاغر أمام الآخرين. وهذا هو قانون الله في الدنيا والآخرة ، قال الله
تعالى :
(إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ
عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ
(٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا
تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى
أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى
مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))
[يس : ٣٦ / ٥٥ ـ ٦٨].
هذه أوصاف فيها
موازنة دقيقة بين جزاءين : جزاء المحسنين وجزاء المسيئين. أما المحسنون : فهم
المؤمنون الصالحون المنزلون في روضات الجنات يوم القيامة ، المشغولون بما يتمتعون
به من النعيم والتفكر عما فيه أهل النار من العذاب. و (فاكِهُونَ) : فرحون طربون ، وليس التمتع مقصورا عليهم ، وإنما هم
وأزواجهم في الجنة في ظلال وارفة ، يتكئون على الأرائك ، أي الوسائد والأسرّة
والفرش الناعمة. والأرائك : السرر المفروشة ، وتقدّم لهم أنواع الفاكهة ، وغير ذلك
مما يتمنون ويشتهون. ويحيّون من الله تعالى الرب الرحيم بعباده بالسلام ، أي
الأمان من كل مكروه ، يقول لهم الله : سلام عليكم يا أهل الجنة.
وأما المسيئون :
فهم الأشقياء أهل النار الكافرون ، فيقال لهم : تميزوا في موقفكم وانفصلوا عن
المؤمنين ، أيها المجرمون. وهذه معادلة لقوله تعالى لأصحاب الجنة :
__________________
(سَلامٌ) وهو توبيخ لهم على عهده إليهم ، ومخالفتهم عهده ، فيكون
سبب تمييزهم وفصلهم أنه كما حكى القرآن : ألم أعهد إليكم ، أي آمركم وأوصكم من
طريق الرسل أيها البشر : ألا تطيعوا الشيطان ، فيما يوسوس به إليكم من المعصية
والمخالفة ، فإن الشيطان عدو ظاهر العداوة لكم ، بدءا من عهد أبيكم آدم عليهالسلام.
وأمرتكم أن
تعبدوني وتطيعوني وحدي ، فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه ، وهذا هو الطريق المعتدل
القويم ، وهو دين الإسلام.
ولقد أغوى الشيطان
خلقا كثيرا ، وزين لهم فعل السيئات ، وصدّهم عن طاعة الله وتوحيده ، أفلم تعقلوا
عداوة الشيطان لكم؟!
ويقال لهم تقريعا
وتوبيخا : هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا ، وحذّرتكم منها على ألسنة الرسل ،
فكذبتموهم : ادخلوها وذوقوا حرها اليوم ، بسبب كفركم بالله في الدنيا ، وتكذيبكم
بها. وهو أمر تنكيل وإهانة. ويواجهون بجرائمهم عيانا ، ففي هذا اليوم الرهيب ،
يختم الله على أفواههم ، بحيث لا يقدرون على الكلام ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم ،
شاهدة على أصحابها بما ارتكبت من آثام في الدنيا. والتكلم للأيدي والأرجل ؛ لأن
أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي ، وسعي الأرجل.
وقدرة الله كبيرة
، فلو شاء لأذهب أعينهم وأعماهم ، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى ، ولا يعرفون طريق
النجاة ، فكيف يبصرون وقد ذهبت أبصارهم؟ أي لو شاء ربك لمسح أعين الكفار ، حتى
أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا ، فكيف يبصرون حينئذ؟
ولو شاء الله
لبدّل خلقهم ، وحوّل صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير ، وهم جاثمون
في الأماكن التي ارتكبوا فيها السيئات ، فلا يتمكنون من الذهاب أمامهم ولا الرجوع
وراءهم ، بل يلزمون حالا واحدة ، لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ومن يطل الله عمره
، يتبدل حاله بقدرة الله ، ولا يفعل ذلك إلا الله ، فيرده إلى الضعف بعد القوة ،
والعجز بعد النشاط ، والبله بعد الفهم ، ونحو ذلك ، أفلا يدركون ويتفكرون أنهم
كلما تقدّمت بهم السّن ، ضعفوا عن العمل ، فإذا أعطاهم الله فرصة أخرى للعمل ، فلن
يفيدهم طول العمر شيئا ، وفي هذا قطع لأعذارهم بأنه لم تتوافر لديهم الفرصة
الكافية للبحث والنظر والعمل.
صفة الرسالة النبوية
ركّز القرآن
الكريم في التشريع المكي على إثبات أصول الدين الثلاثة : وهي الوحدانية ، كما جاء
في آية سابقة في سورة يس : (وَأَنِ اعْبُدُونِي
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) والبعث أو
اليوم الآخر كما في قوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) والرسالة
النبوية في قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ). وهذه الأصول الثلاثة تنقض عقائد المشركين ، وتقيم بدلها
ما ينبغي اعتقاده ومطابقته للواقع ، فإن تركوا عقائدهم الموروثة ، وبادروا إلى
الإيمان بأصوله الثوابت ، كان لهم عزّ الدنيا والآخرة. قال الله تعالى مبينا أوصاف
الرسالة النبوية :
(وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ
(٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ
إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))
[يس : ٣٦ / ٦٩ ـ ٧٦].
أخبر الله تعالى
عن حال نبيه صلىاللهعليهوسلم بأنه رسول من عند الله ، وليس هو بشاعر ، ولا
القرآن شعرا ،
والشعر : كلام موزون بقواف معينة ، ولم يعلّم الله نبيه الشعر ، ولا حاجة له به ،
وكان لا يقول الشعر ولا يرويه ولا يزنه ، وإنما يكسر وزنه غالبا إذا نطق به ،
وينقل المعاني فقط. والقرآن ليس شعرا ، وإنما هو ذكر من الأذكار ، وموعظة من
المواعظ ، وكتاب إلهي واضح لمن تأمله وتدبره ، واسترشد بنظامه في الحياة.
وإنما منع الله
نبيه صلىاللهعليهوسلم من الشعر ترفيعا له عما في قول الشعراء من التخيل وتزويق
الكلام. أما القرآن الكريم فهو ذكر الحقائق والبراهين فما هو بقول شاعر ولا كاهن
ولا ساحر.
وخصائص مهمة
الرسول صلىاللهعليهوسلم : هي إنذار كل من كان حي القلب والبصيرة ، ولم يكن ميتا
لكفره ، وتثبيت الحقائق والتعريف بها ، وليتحتم العذاب على الكافرين ، ويجب الخلود
لهم في النار ، إذا ما أعرضوا عن الإنذار ، ولم يذعنوا للحقيقة.
ثم نبّه الله
قريشا حينما أعرضت عن الشرع وعبدت الأصنام ، وذكّرهم بإنعامه عليهم ، حيث خلق لهم
الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) وسخّرها لهم ، وملّكها إياهم ، ولو شاء لجعلها
مستعصية عليهم ، نافرة منهم ، ومنافع الأنعام كثيرة : أهمها أن الله تعالى جعلها
مذللة منقادة لهم ، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال
، ومنها ما يأكلون من لحمها.
ولهم فيها منافع
أخرى غير الركوب والأكل منها ، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، وجعلها
مصدرا للشرب من ألبانها ، أفلا يشكرون خالقها ومسخّرها وموجدها ، وميسر النعم
الكثيرة لهم؟! والشكر يكون بعبادة الله وطاعته ، وترك الإشراك به شريكا آخر. وهذا
تحريض على شكر الخالق المنعم ، والقيام بوفاء النعمة.
ولكنّ كفار قريش
المشركين تنكروا لهذا الواجب ، وكفروا بأنعم الله ، واتخذوا
الأصنام والأوثان
آلهة يعبدونها من دون الله ، لعلهم ينصرون بها ، ويشفعون لهم ، ويقربونهم إلى الله
زلفى ، في زعمهم.
ولكن هذه
المعبودات لا تحقق فائدة لأحد ، فهم لا يقدرون على نصر عبّادها ولا نصر أنفسهم ،
على الرغم من أنهم جند طائعون لها ، أي للأصنام ، يخدمونهم ويدفعون عنهم ، ويغضبون
لهم ، أي هم حراس أمناء.
ثم آنس الله نبيه
عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته وعما يلقاه منهم من ألوان الأذى ، فلا تهتم أيها
النبي بتكذيبهم لك وكفرهم بالله ، وبأقوالهم الباطلة المفتراة حيث قالوا : هؤلاء
آلهتنا ، وهم شركاء لله في المعبودية ، فإننا نحن (الله) نعلم جميع ما هم فيه ،
نعلم سرهم وجهرهم ، ونعلم ما يسرّون لك من العداوة ، ومعاقبوهم على ذلك.
إن كل زمرة أو
مجموعة قليلة من الآيات تصلح ردا قاطعا على عقائد المشركين الوثنيين ، ولكن الله
جلّت حكمته ، نوّع الخطاب ، وكرّر المعنى ، وأقام الأدلة الكثيرة في مناسبات متعددة
، حتى لا يبقى لأحد عذر في البقاء على ضلاله وشركه ، وهذه آيات كغيرها تثبت توحيد
الله تعالى ، وقدرته ، وتبيّن مزيد نعمه على عباده ، ليحملهم صنع المعروف على تذكر
المنعم ، والمبادرة إلى الإقرار بوجوده والإذعان لكلامه في قرآنه المجيد.
الرد على منكري البعث
استبد العناد
والتحدي ببعض المشركين ، فأعلنوا إنكار البعث واليوم الآخر ، فجاء العاص بن وائل ،
أو أبي بن خلف إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، مجاهرا في إنكاره الآخرة ، أخرج الحاكم وصححه عن ابن
عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعظم حائل ، ففتّه فقال : يا محمد : أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟
قال : نعم ، يبعث الله
هذا ، ثم يميتك ،
ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم ، فنزلت الآيات : (أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخر سورة يس.
وأخرج ابن أبي
حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسدّي نحو الرواية المذكورة وقاله
الحسن البصري ، وسموا الإنسان أبي بن خلف ، وقال أبو حيان : هذا هو الأصح ، لما
رواه ابن وهب عن مالك ، وهو ما رواه ابن إسحاق وغيره.
وقال ابن جبير :
هذه الآيات نزلت بسبب أن العاص بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم رميم ، ففتّه ، وقال : يا محمد : من يحيي هذا؟ قال الله تعالى
واصفا هذا الحدث ورادا على قائليه :
(أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً
فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٨٣))
[يس : ٣٦ / ٧٧ ـ ٨٣].
المعنى : ألم يعلم
كل إنسان أننا بدأنا خلقه من ماء مهين يحمل نطفة صغيرة ، في غاية الضعف ، ثم
جعلناه إنسانا كاملا ، ثم يتنكر للخالق ، فتراه يجادل بالباطل ، وهو ناطق فصيح ،
وذو عقل قوي. أفلم يستدل منكر البعث بهذا البدء في الخلق على إمكان الإعادة
والإحياء؟! إن شأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة ، فيتعرّف على خالقه القادر ، لا أن
يجادل بالباطل ، ويتشكك في إمكان قدرة الله تعالى على بعثه مرة أخرى.
__________________
لقد ضرب هذا
المنكر مثلا بعظم رميم بال على استبعاد البعث ، ونسي مبدأ خلق نفسه من العدم ، وثم
صيرورته إلى الوجود ، فقال : من الذي يتمكن من إحياء العظام البالية بعد أن صارت
رميما ، أي بالية فانية؟! والنسيان من هذا المنكر : إما نسيان الذهول أو نسيان
الترك.
فأجابه الله تعالى
بقوله : قل أيها النّبي لهذا المشرك المنكر للبعث : يحيي الله العظام البالية :
الذي أنشأها وأبدع خلقها في المرة الأولى ، من غير شيء ، بل من العدم ، ولم تكن
شيئا مذكورا ، والله لا تخفى عليه خافية من الأشياء ، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة
مشتتة في أنحاء الوجود ، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان ، في البر أو في
البحر أو في جوف الحيوان أو مختلطا بالتراب.
ودليل آخر على
إمكان البعث : وهو أن الله تعالى خلق هذا الشجر من ماء ، حتى صار أخضر نضرا ، ثم
صيّره حطبا يابسا ، يجعله الناس وقودا لنيرانهم ، فمن كان قادرا على هذا التحويل
والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة ، فهو قادر على إعادة الرطب يابسا ،
والحي ميتا ، والميت حيّا ، لأن المعوّل في ذلك كله على القدرة الإلهية.
ودليل ثالث : وهو
أن من خلق السماوات السبع وما فيها من الكواكب السّيّارة والثّوابت ، والأرضين
السّبع وما فيها من معادن وكنوز وجبال وأنهار ، وسهول وهضاب ، وهي أعظم من خلق
الإنسان ، من خلق ذلك ، فهو قادر على خلق مثل البشر ، وإعادة الأجسام إلى الحياة
مرة أخرى ، وهي أضعف وأصغر من خلق السماوات والأرض ، والله هو الخلاق : أي كثير
الخلق ، العليم : الشامل العلم.
إن شأن القدرة
الإلهية أو شأن الله في إيجاد الأشياء سهل يسير ، فإنما هو إذا أراد شيئا قال له :
كن ، فإذا هو كائن على الفور ، من غير توقّف على شيء آخر أصلا.
فتنزيها لله تعالى
عما لا يليق به من العجز والنقص والسوء ، فهو الذي بيده ملكية جميع الأشياء ، وله
القدرة التّامة على كل الموجودات ، يتصرّف فيها كيفما يشاء ، وإليه وحده دون غيره
مرجع جميع العباد ، بعد البعث في الدار الآخرة ، فيجازي كل إنسان بما عمل ، فما
عليهم إلا أن يؤمنوا بوحدانيته وقدرته ، وبإيجاد الآخرة بحسب علمه.
تفسير سورة الصافات
من أدلة الوحدانية والقدرة على البعث وغيره
في الكون عجائب
المخلوقات والخلق ، ففيه الملائكة ذوو الصفات والمهام المتعددة ، وفيه السماوات
والأرضون ، وفي السماء الكواكب الكبيرة والصغيرة التي تزيّن بها السماء الدنيا ،
وفي السماوات من الكواكب أكبر بكثير مما نشاهده ، وفي البشر أناس أشداء الخلق
والتكوين ، وذلك كله من المظاهر الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته ،
والعقلاء : هم الذين يقدّرون هذا ويوقنون به ، وهذا ما افتتحت به سورة الصافات
المكية النزول ، والتي تدل بجملها وتراكيبها الموجزة على إعجاز القرآن وفصاحته ،
وتأثيره البليغ في النفوس ، تأثيرا يهز المشاعر ، ويحرّك العواطف ، قال الله تعالى
:
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ
إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ
الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ
(٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ
أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ
(١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣)
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ
مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا
__________________
وَكُنَّا
تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا
هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ
الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))
[الصافات : ٣٧ / ١
ـ ٢١].
أقسم الله تعالى
في هذه الآيات بالملائكة المتصفين بصفات ثلاث : وهي وقوفهم صفوفا للعبادة ، أو في
الهواء تصفّ أجنحتها انتظارا لأمر الله تعالى ، وتزجر السحاب زجرا ، أي تسوقه
وتحركه سوقا ، وتتلو أو تقرأ ذكر الله أي كتبه. وجواب القسم أن الله واحد لا شريك
له ، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات ، ورب مشارق الشمس وهي
أماكن طلوعها بعدد أيام السنة ، ولها أيضا مغارب مماثلة ، مفهومة بدلالة الآية ،
فلكل مشرق ومغرب كما جاء في آية أخرى : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) (٤٠) [المعارج :
٧٠ / ٤٠].
ثم أخبر الله
تعالى عن قدرته بتزيين السماء الدنيا بالكواكب الكثيرة ، وانتظم التزيين بجعلها
حفظا وحرزا من الشياطين المردة ، وهم مسترقو السمع ، فإذا أراد شيطان استراق السمع
انقضّ عليه شهاب ثاقب فأحرقه. ولا يقدر الشياطين أن يتسمعوا لحديث الملأ الأعلى :
وهم الملائكة ، في السماء الدنيا وما فوقها ، لأنهم يرمون بالشهب.
ومرادهم أن
يسترقوا شيئا مما يوحيه الله تعالى لملائكته من الشرع والقدر. والملأ الأعلى : أهل
السماء الدنيا فما فوقها.
فيكون للشهب
والكواكب السماوية فائدتان كبيرتان : تزيين السماء الدنيا ، وحفظها من مردة
الشياطين. والمارد : المتجرد للشر. وحض الله السماء الدنيا بالذكر
__________________
لأنها التي
تشاهدها أبصارنا ، وأيضا فالحفظ من الشياطين إنما هو فيها وحدها. وحفظا : منصوب
على المصدر.
إن الشياطين يرمون
بالشهب من كل جانب أو جهة يتجهون إلى السماء منها ، إذا أرادوا الصعود لاستراق
السمع. ويبعدون ويطردون طردا ويمنعون من الوصول إلى مقاصدهم ، ولهم في الآخرة عذاب
دائم مستمر موجع. والدحور : الإصغار والإهانة حال الطرد ، لأن الزجر : الدفع بعنف.
وطرد الشياطين هي
الحال الغالبة على جميع الشياطين إلا من شذ ، فخطف خبرا أو نبأ ، فأتبعه شهاب
فأحرقه.
فاسأل أيها الرسول
منكري البعث : أيهم أشد خلقا ، أي أصعب إيجادا ، هم أم السماوات والأرض وما بينهما
من الأمم والملائكة والشياطين والمشارق والمخلوقات العظيمة؟
وقد نزلت الآية في
الأشد بن كلدة وأمثاله ، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته. والسؤال بقصد التوبيخ
والتقريع.
إنا خلقنا أصلهم :
وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد ، فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف ، فكيف
يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا. واللازب : اللازم ، أي يلازم ما
جاوره ويلصق به ، وهو الصلصاص.
بل في الواقع لا
حاجة لاستفتائهم ، فهم قوم أهل تكبر وعناد ، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء
المنكرين للبعث ، لإيقانك بقدرة الله العظمى ، وهم إذا وعظوا لا يتعظون ولا
ينتفعون بالموعظة. وإذا شاهدوا دليلا واضحا ، أو معجزة أو علامة ترشدهم إلى الإيمان
يبالغون في السخرية والاستهزاء ، ويتنادون للتهكم والتضاحك.
وهذه الآية نزلت
في ركانة ، وهو مكي مشرك ، صارعه النبي ثلاث مرات على أن يؤمن ، فصرعه ، ولم يؤمن
، ثم جاء إلى مكة قائلا : يا بني هاشم ، ساحروا بصاحبكم هذا أهل الأرض ، فنزلت
الآية فيه وفي نظرائه.
وقالوا : ما هذا
الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر ، فلا يؤبه به ، ولا ننخدع به.
وتساءلوا منكرين : كيف نبعث أحياء بعد أن صرنا أمواتا ، وترابا مفتتا ، وعظاما
بالية؟ وهل يبعث معنا أسلافنا القدامى من الآباء والأجداد. فأجابهم الله تعالى :
قل لهم أيها الرسول : نعم تبعثون أحياء مرة أخرى ، وأنتم ذليلون صاغرون. والأمر
سهل جدا على قدرة الله ، فما البعث إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور
بأمر الله تعالى للخروج من القبور. وقال منكرو البعث. لنا الويل والهلاك ، فقد حل
يوم الجزاء والعقاب ، على ما قدمنا من أعمال. فأجابتهم الملائكة : هذا يوم الحكم
والقضاء المبرم الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، ويعرف فيه المؤمن من الكافر.
مسئولية المشركين في الآخرة
إن كل إنسان في
الآخرة مسئول عن أعماله خيرها وشرها ، وتكون المسؤولية شديدة ، وصعبة على المشركين
، حيث يحاسبون عن شركهم وضلالهم ، وتركهم الواجبات المفروضة عليهم من الإيمان
بالله ورسله أولا ، ثم أداء الفرائض ، وحيث لا يجدون أحدا يشفع لهم أو ينصرهم ،
ولأنهم كانوا متكبرين في الدنيا ، لا يسمعون لنداء الحق ، وكلمة التوحيد ، ويتهمون
النبي صلىاللهعليهوسلم بالاتهام الباطل كالقول : بأنه شاعر مجنون ، وهذا محض
الكذب والافتراء ، وصف الله تعالى مسئولية المشركين وأسبابها في الآخرة ، فقال
الله تعالى :
(احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠)
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا
كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ
لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ (٣٧))
[الصافات : ٣٧ /
٢٢ ـ ٣٧].
موقف الحشر في
القيامة رهيب وشديد ، يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب : وهم
الظالمون المشركون ، وأمثالهم أو أزواجهم ومعبود وهم الذين عبدوهم من دون الله من
الأصنام والأوثان وغيرهم من بني آدم ، زيادة في تخجيلهم وتوبيخهم ، وحسرتهم وإظهار
سوء حالهم. والمقصود بكلمة (وَأَزْواجَهُمْ) أي أنواعهم وأشباههم.
ويقال للملائكة :
أرشدوا هؤلاء المشركين وعرّفوهم طريق جهنم ، زيادة في لومهم ، واحتقارهم ، والتهكم
بهم. وقوله : (فَاهْدُوهُمْ) أي قوّموهم واحملوهم على طريق الجحيم. والجحيم : طبقة من
طبقات جهنم ، يقال : إنها الرابعة.
واحبسوهم في ساحة
الموقف للحساب والسؤال ، عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا ،
ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا ، كما كنتم في
الدنيا؟ بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله ، لا يخالفونه ، ولا يحيدون عنه ، لعجزهم
عن العذر أو الحيلة.
وفي هذا الموقف
يتساءل المشركون مع بعضهم سؤال توبيخ وتقريع وخصام ، كما يتخاصمون في دركات النار.
قال الأتباع
للقادة : إنكم تأتوننا من جهة القوة والشدة ، أي إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم ،
وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة ، أو كنتم تأتوننا من الجهة التي
يحسّنها تمويهكم وإغواؤكم ، ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب ، فأجاب الرؤساء
بجوابين : الأول : بل إنكم أنتم أعرضتم عن الإيمان ، مع تمكنكم منه ، مختارين
الكفر. والثاني : لم يكن لنا عليكم من حجة وتسليط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم ، بل
كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر ، واختياركم طريق الضلال كان منكم.
فوجب علينا وعليكم
حكم ربنا ، ولزمنا قول ربنا وتعيّن العذاب لنا ، وهو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٥) [ص : ٣٨ / ٨٥].
فنحن جميعا ذائقو العذاب حتما في الآخرة. والذوق هنا : مستعار.
إننا أضللناكم ،
ودعوناكم إلى ما نحن فيه من الضلالة ، فاستجبتم لنا.
ثم أخبر الله
تعالى : أنهم ، أي التابعين والمتبوعين والقادة مشتركون جميعا في العذاب ، وحصلوا
فيه ، كما اشتركوا في الضلال والكفر ، والجميع في نار جهنم ، كل بحسبه ، وبمثل ذلك
الجزاء نفعل بالمشركين ، ويجازى كل عامل بما قدم.
هؤلاء الذين
أجرموا ، وجهلوا الله سبحانه ، وعظّموا أصناما وأوثانا ، إذا دعوا إلى كلمة
التوحيد : وهي لا إله إلا الله ، استكبروا عن القبول ، وأعرضوا عن قولها ، كما
يقولها المؤمنون.
ويقولون : أنحن
نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون ، قاصدين بذلك النبي صلىاللهعليهوسلم ، فهم بهذا أنكروا أولا وحدانية الله ، ثم أنكروا الرسالة
النبوية ، وهؤلاء هم جماعة من قريش.
فرد الله عليهم
تكذيبا : بل إن النبي جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له ، وأول
مبادئه التوحيد ،
وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به من التوحيد ، والوعد ، والوعيد ،
وإثبات المعاد ، ولم يخالفهم في تلك الأصول.
ومن حوادث عرض
كلمة التوحيد على غير المؤمنين : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأبي طالب : «أي عم ، قل : لا إله إلا الله ، أحاجّ لك
بها عند الله» فقال أبو جهل : أيرغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال آخر ما قال : أنا على
ملة عبد المطلب. وبعرضه عليه الصلاة والسّلام قول : لا إله إلا الله ، جرت السنة
في تلقين الموتى المحتضرين ، ليخالفوا الكفرة في نهاية العمر ، ويخضعوا لكلمة
التوحيد.
جزاء المؤمن والكافر
العدل الإلهي
المطلق : هو أساس الجزاء والحساب في الآخرة ، وليس هناك تمييز ولا استئناف ، وإنما
القرار مبرم حاسم ، والتنفيذ محقق وسريع ، فمن آمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ،
وبالقرآن دستورا ومنهاجا ، وبمحمد نبيا ورسولا ، وبالكعبة المشرفة قبلة ، كان من
الناجين السعداء في جنان الخلد ، ذات النعيم المادي المترف ذي الألوان المختلفة ،
والنعيم النفسي التام ، حيث لا همّ ولا قلق ، ولا حزن ولا تعب ، ومن جحد بالله أو
أشرك به ، ولم يؤمن برسوله ، ولا بالقرآن الكريم ، فهو في عذاب مستمر في نيران
جهنم ، مع المعاناة الدائمة والقلاقل المستمرة ، وجزاء الفريق بحسب العمل في
الدنيا ، قال الله تعالى مبينا ذلك :
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١)
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ
وَلا
هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي
سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا
نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
(٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا
لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))
[الصافات : ٣٧ /
٣٨ ـ ٦١].
يخاطب الله تعالى
خطابا مباشرا للناس بما معناه : إنكم أيها الجاحدون لتذوقن العذاب المؤلم الدائم
في نار جهنم ، وليس جزاؤكم إلا بالحق والعدل الذي لا ظلم فيه ، وهو عقابكم على
أعمالكم من الكفر والمعاصي ، فهي سبب الجزاء. لكن عباد الله وهم المؤمنون الذين
أخلصهم الله تعالى لنفسه ، وهم الطائعون ربهم ، المخلصون في عملهم لله تعالى ، هم
ناجون لا يذوقون العذاب ، ولا يناقشون الحساب ، ولهم رزق معلوم حسنه وطيبه ودوامه
عندهم ، ويأتيهم في حين تطلعهم إليه ، يشتمل على الفواكه أو الثمار المتنوعة ،
وبإكرام بليغ متمم للنعم ، حيث يخدمون ويرفهون.
ومساكنهم في جنان
النعيم الدائم ، على أسرّة يتكئون عليها ، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ، بسرور
وابتهاج. وشرابهم يدار عليهم بآنية من عيون جارية ، فيها الخمر التي لا تسكر
وغيرها من الأنبذة ونحوها ، يطوف بها عليهم ولدان مخلدون. وتلك الخمر شديدة البياض
، لذيذة الطعم ، طيبة الرائحة ، ليس فيها أذى أو فساد ، ولا تذهب بالعقول ، خلافا
لخمر الدنيا. وقوله : (مِنْ مَعِينٍ) أي من جار مطّرد.
وعندهم زوجات
عفيفات ، لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، ذوات عيون واسعة
__________________
حسان ، كأن
ألوانهن من البياض المشوب بصفرة خفيفة كالبيض المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي
، ولم يتلوث بالغبار. وأقبل هؤلاء المؤمنون بعضهم على بعض في حال تمتعهم ،
يتساءلون عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ومعاناتهم فيها ، إتماما لنعيم
الجنة.
ومن تساؤلاتهم :
قال مؤمن من أهل الجنة : كان لي صاحب كافر بالبعث مقارن في الدنيا يقول : أنحن إذا
صرنا أمواتا وترابا وعظاما بالية ، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا ونجازى عليها؟
ذلك أمر غير ممكن ولا معقول ، فهل تصدق هذا؟ ثم قال المؤمن لجلسائه : انظروا معي
إلى أهل النار ، لأريكم ذلك القرين الذي قال لي هذا القول ، كيف يعذب ويجازى؟ فنظر
المؤمن إلى أهل النار ، بالرغم من كثرتهم ، فرأى قرينه يتلظى بحرّ جهنم. قال
المؤمن لقرينه الكافر موبخا : لقد قاربت أن توقعني في الهلاك ، ولو لا رحمة ربي
وعصمته من الضلال ، وتوفيقي للحق ، وهدايتي للإسلام ، لكنت من المحضرين معك في
العذاب في النار.
ثم قال المؤمن
لجلسائه ابتهاجا وسرورا بنعيم الجنة : ألسنا مخلّدين في نعيم الجنان إلى الأبد ،
فلا نموت إلا موتتنا السابقة في الدنيا ، ولسنا بمعذبين كما يعذب أصحاب النار؟
إن هذا النعيم
الدائم الخالد ، لهو الفوز الأكبر الذي لا يوصف ، ولمثل هذا النعيم والفوز ، ليعمل
العاملون في الدنيا ، ليحظوا به ، لا أن يعملوا لحظوظ الدنيا الفانية فقط ،
المقترنة بالمخاطر والآلام ، والمتاعب الكثيرة ، والمراد : أن المطلوب من كل عاقل
هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة ، لا أن يقتصر العمل على مكاسب الدنيا وشهواتها
الفانية المؤقتة ، فإن عمل الآخرة هو الباقي الخالد ، وعمل الدنيا فإن زائل.
ألوان عذاب جهنم
تتنوع ألوان
النعيم للمؤمنين الصالحين في الجنان ، كما تتنوع ألوان العذاب في جهنم للظالمين
المشركين والجاحدين ، والتفاوت قائم في كلا الحالين ، وبدهي أن النفس ترتاح للنعيم
، وتتضايق للعذاب ، وقد جاء الوصف القرآني لتعذيب الكفار بما لا يوصف ولا يحتمل ،
ولكن رحمة الله تعالى قدّمت الإنذار به قبل وقوعه ، للاحتراز منه ، وتجنب كل
الأسباب المؤدية إليه ، فلا يبقى بعدئذ عذر لمقصر أو معاند أو جاحد ، لأن سبق
الإنذار يوجب التعقل ، وتقدير الحساب والمخاطر ، وهذا ما وصفته الآيات القرآنية
الآتية :
(أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
(٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا
الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ
إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ
ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ
أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٧٤))
[الصافات : ٣٧ /
٦٢ ـ ٧٤].
هذه تساؤلات
تقريرية لقريش والكفار ، ليست للاستفهام ، يراد بها إعلامهم بأن هذا المذكور من
أوصاف نعيم الجنة وطيباتها في القرآن خير ضيافة وعطاء ، أم شجرة الزقوم ذات الطعم
المرّ الشنيع التي في جهنم ، وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم ، فهو طعام أهل
النار يتزقمونه. إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين ، حين افتتنوا بها وكذبوا
بوجودها ، فقالوا : كيف تكون تلك الشجرة في النار ، والنار تحرق ما فيها؟.
__________________
وهذا بسبب جهلهم
أن بعض الأشياء لا يقبل الاحتراق في النار ، وأنهم لم يعلموا أن من قدر على جعل
إنسان يعيش في النار ، هو أقدر على خلق شجر فيها لا يحترق.
وأوصاف تلك الشجرة
: أنها شجرة تخرج أو تنبت في قعر النار وقرار جهنم ، أي ملاصق أساسها الذي لها
كالجدران. ويشبه ثمرها في تناهي قبحه ، وبشاعة منظره ، رؤوس الشياطين ، تكريها
لذكرها. فقد شبه ثمرها بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ، وإن
كانت لم تر.
وهذه الشجرة يأكل
الكفار من ثمرها القبيح الرائحة والطعم ، فيملئون منها بطونهم ، بالإكراه
والاضطرار ، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها من كل مرّ عسر المذاق.
ثم إن لهم بعد
الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم ، أي إن حال المشروب في
البشاعة أعظم من حال المأكول. ثم إن مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار
الجحيم ، أي إن الحميم يكون في موضع خارج عن الجحيم ، فهم يوردون الحميم لشربه ،
كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردّون إلى الجحيم.
وعلة عذابهم على
هذا النحو : أنهم وجدوا آباءهم على الضلال ، فاقتدوا بهم وقلّدوهم ، من غير تعقل
ولا تدبر ، ولا حجة ولا برهان ، فهم يتّبعون آباءهم في سرعة. وذلك يدل على أن
الكفر ظاهرة قديمة ، وأتباعه كثيرون ، فلقد كان أكثر الأمم الماضية ضالين ، يجعلون
مع الله آلهة أخرى ، وليس قريشا وحدهم في هذا الضلال.
ولكن رحمة الله
تعالى لم تتركهم بدون إنذار ، فلقد أرسل الله في الأمم كلها أنبياء ورسلا ينذرونهم
بأس الله ، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به ، وعبد غيره ، لكنهم تمادوا في
تكذيب رسلهم ، فأهلكهم الله تعالى ، كما قال سبحانه : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر أيها الرسول وكل مخاطب بالرسالة الإلهية كيف
كان مصير الكافرين
المكذبين؟ أهلكهم الله ودمرهم وصاروا إلى النار ، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
ثم استثنى الله تعالى المؤمنين بقوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) (٧٤) أي لكن نجى
الله عباده المؤمنين الذين اصطفاهم وأخلصهم لطاعته ، بتوفيقهم إلى الإيمان
والتوحيد ، والعمل بأوامر الله سبحانه ، ففازوا بجنان الخلد ، ونصرهم في الدنيا.
مثّل الله تعالى
في هذا المثل لقريش بالأمم التي ضلّت قديما ، وجاءها الإنذار الإلهي ، وأهلكها
الله بعدله. وهو إخبار بأن الله عذّب الضالين في الدنيا ، ولهم عذاب شديد آخر في
الآخرة.
دعاء نوح عليهالسلام
الأنبياء والرسل عليهمالسلام في مرصد العناية والرعاية الإلهية ، فهم يقومون بتبليغ
دعوة الله تعالى لتوحيده وعبادته ، والله تعالى يراقب ردود أفعالهم لدى أقوامهم ،
فإن تعرضوا لسوء ، أو وقعوا في محنة مستعصية لا سبيل إلى تذليلها ، دعوا ربهم بوحي
منه لإنجائهم ، وقهر عدوهم ، وإهلاك معارضيهم ، وهذا منهج واضح في حياة الرسل ،
وفي طليعتهم نوح عليهالسلام أول رسول إلى قومه ، وأبو البشر الثاني ، فإنه دعا ربه حين
يئس من هداية قومه ، كما في الآيات الآتية :
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))
[الصافات : ٣٧ /
٧٥ ـ ٨٢].
المعنى : تالله
لقد دعانا نوح عليهالسلام واستغاث بنا ، ودعا على قومه بالهلاك لما أيس منهم ، قائلا
: (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) [نوح : ٧١ /
٢٦]. بعد أن مضى دهر طويل يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ، فكذبوه وآذوه وهموا
بقتله ، ولم يؤمن
معه إلا قليل ، وذلك بعد ألف سنة إلا خمسين ، وتضمن نداء نوح أي استغاثته أشياء :
منها الدعاء على قومه ، وسؤال النجاة ، وطلب النصرة ، وفي جميعها وقعت الإجابة ،
فقد أجاب الله دعاءه ، وقوله تعالى : (فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ) يتضمن الإجابة على أكمل ما أراد نوح عليهالسلام. وهذه أوجه الإجابة :
١ ـ نجينا نوحا
ومن آمن معه وهم ثمانون من الغم الشديد : وهو الغرق وتكذيب الكفرة.
٢ ـ وجعلنا ذريته
وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة ، وأهلكنا من كفر بدعائه. قال ابن عباس
رضي الله عنهما ، وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، وقال الطبري : العرب : من
أولاد سام ، والسودان : من أولاد حام ، والترك والصّقلب : من آل يافث.
٣ ـ وأبقينا عليه
ثناء حسنا فيمن يأتي بعده إلى آخر الدهر.
وقلنا : عليك يا
نوح سلام منا في أوساط العالمين من الملائكة وعالمي الإنس والجن ، وفي الباقين
غابر الدهر ، قال الطبري عن هذا السّلام : هذه أمنة لنوح في العالمين : أن يذكره
أحد بسوء. وقال ابن عطية : هذا جزاء ما صبر طويلا على أقوال الكفرة الفجرة.
وأسباب هذه النعم
التي أسبغها الله تعالى على نوح عليهالسلام ثلاثة أشياء :
١ ـ مجازاته على
إحسانه ، وهكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عزوجل. وهذا ثناء من الله تعالى على نوح بالإحسان ، لصبره على
أذى قومه ، ومطاولته لهم ، وغير ذلك من عبادته وأفعاله الطيبة.
٢ ـ وسبب كون نوح
محسنا : هو كونه من عباد الله المؤمنين ، وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى
وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات.
٣ ـ وإنجاؤه مع
المؤمنين برسالته ، وإغراق كفار قومه بالطوفان وإهلاكهم ، وهذا يقتضي أنه تعالى
أغرق قوم نوح وأمّته ومكذبيه ، وليس في الآيات نص على أن الغرق عم جميع أهل الأرض
، لكن قد قال به جماعة من العلماء ، وأسندت به أحاديث أنه لم يبق إلا من كان معه
من السفينة ، وعلى هذا ، يكون الناس اليوم من ذريته ومن المعلوم ، لم يكن الناس في
عهد نوح بهذه الكثرة ، لأن عهد آدم عليهالسلام كان قريبا ، وكانت دعوة نوح عليهالسلام ونبوته قد بلغت جميعهم ، لطول المدة واللّبث فيهم ، وكان
الجميع كفرة عبدة أوثان ، لم ينسبهم الحق إلى نفسه ، فلذلك أغرق جميعهم.
إن من مقتضيات
الإيمان الصحيح بالله تعالى الإنجاء من المهالك والإسعاد في الدنيا والآخرة ،
وبقاء الأثر والسمعة الطيبة والذّكر الجميل إلى آخر الدهر.
وعلى عكس ذلك إن
من مقتضيات الكفر بالله تعالى : الإيقاع في أنواع العذاب الأليم ، والشقاء في
الدنيا والآخرة ، وسوء السمعة ومحل العظة والعبرة ، والسعيد : من اتعظ بغيره ،
والشقي : من كان عبرة وأثرا يذكر لغيره.
تحطيم إبراهيم عليهالسلام الأصنام
على الرغم من
تطهير البشرية من لوثات الشرك والوثنية بإغراق الكافرين في طوفان نوح ، وإنجاء
المؤمنين ، فقد ظهرت نزعة الشر في بعض ذرية نوح عليهالسلام ، فأرسل الله تعالى إليهم إبراهيم الخليل عليهالسلام أبا الأنبياء وإمام الحنفاء ، وسار على منهاج نوح في الدين
والدعوة إلى توحيد الله تعالى ، فكان الإعراض من قومه عن دعوته ، وآل مصيرهم كقوم
نوح إلى أن غلبوا وذلّوا ونالتهم العقوبات الشديدة ، ونجى الله تعالى إبراهيم عليهالسلام من النار التي ألقي فيها ،
كما نجى نوحا ومن
آمن معه من الغرق ، وهذه آي تبين جهود إبراهيم في دعوته ومصيره :
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ
تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ
(٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ
يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما
تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))
[الصافات : ٣٧ /
٨٣ ـ ١٠١].
المعنى : وإن
إبراهيم عليهالسلام من شيعة نوح عليهالسلام ، أي على منهاجه في الدين والتوحيد. واذكر أيها النبي محمد
حين أقبل إبراهيم على ربه بقلب مخلص سليم من الشك والشرك وجميع النقائص التي تلحق
قلوب بني آدم كالغلّ والحسد والكبر ونحوه. وحين قال لأبيه وقومه : ما الذي تعبدونه
من هذه الأصنام من دون الله تعالى؟ وهو توبيخ على منهجهم.
أتريدون آلهة من
دون الله تعبدونها إفكا وكذبا ، دون حجة ولا دليل ، وما ظنكم حين تلقون ربكم أنه
فاعل بكم ، وقد عبدتم معه غيره؟ وهو استفهام بمعنى التقرير ، لا النفي ، أي أكذبا
ومحالا آلهة دون الله تريدون؟
ثم أخبر الله
تعالى عن نظرة إبراهيم عليهالسلام في نجوم السماء ، فإنه تأمل في علوم النجوم وفي معانيها ،
مريدا بذلك إيهام قومه أنه يعلم ما يعملون ويعلمون. روي أن علم النجوم كان عندهم
منظورا فيه مستعملا ، فأوهمهم هو من تلك الجهة ،
__________________
وذلك أنهم كانوا
أهل رعاية وفلاحة ، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم ، وبعد أن نظر
إبراهيم في النجوم قال لقومه : إني مريض عليل ، فتولوا عنه وتركوه مدبرين لكفرهم
به واحتقارهم لأمره. وهي في الظاهر كذبة من أجل رضوان الله ، وفي الحقيقة إنه مرض
قلبي معنوي بسبب عبادة قومه الأصنام والأوثان. ومراعاة للظاهر في أنها كذبة ، قال
النبي صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة : «لم يكذب
إبراهيم النبي عليهالسلام قط إلا ثلاث كذبات ، ثنتين في ذات الله : قوله : إني سقيم
، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٢١ /
٦٣] وواحدة في شأن سارّة ، قال عنها : هي أختي» أي أختي في الإسلام ليخلصها من
اعتداء ملك جبار في مصر.
فمال إبراهيم خفية
إلى أصنام القوم ، وقد خرجوا خارج البلد في عيد لهم ، ووضعوا الطعام للأصنام
لتباركه ، فقال لها تهكما وسخرية : ألا تأكلون من هذا الطعام المقدم لكم؟ وذلك على
جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام ، ما الذي يمنعكم من النطق والجواب عن سؤالي؟
ومراده : التهكم والاحتقار ، لأنه يعلم أنها جمادات لا تنطق.
فمال عليهم يضربهم
بقوة وشدة ، حتى حطّمهم إلا كبيرا لهم ، فأقبل إليه القوم بعد عودتهم من عيدهم
مسرعين ، يسألون عمن كسرها ، وقد قيل : إنه إبراهيم ، وعرفوا أنه هو ، فقالوا له :
نحن نعبدها وأنت تكسرها؟! فقال : أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تصنعونها من حجر
وعود ، وتنحتونها بأيديكم؟ والله الذي خلقكم وخلق أعمالكم هو الأحق بالعبادة ،
وأجدر بالتعظيم ، فكيف تعبدون غيره؟ وقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦) دليل على أن
الله تعالى هو خالق أفعال العباد وهو مذهب أهل السنة ، وهو أن الأفعال خلق لله عزوجل واكتساب للعباد. وفي
هذا إبطال مذهب
الجبرية والقدرية. أخرج الثعلبي عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله خالق كل صانع وصنعته». ولفظ حذيفة عند
البيهقي : «إن الله عزوجل صنع كل صانع وصنعته ، فهو الخالق ، وهو الصانع سبحانه».
فتواطأ قوم
إبراهيم على قتله ، وقالوا : ابنوا له بنيانا واسعا ، وأضرموا فيه نارا عظيمة ، ثم
ألقوه في تلك النار المستعرة. فأرادوا به سوءا بحيلة ومكر ، فأنجاه الله تعالى ،
وجعل النار بردا وسلاما عليه ، ونصره الله عليهم ، وجعلهم مغلوبين أذلة بإبطال
كيدهم ، ومعاقبين على أفعالهم.
ولما نجا إبراهيم عليهالسلام من إحراق النار ، وأيس من إيمان قومه ، قال : إني مهاجر من
بلد قومي الذين آذوني ، تعصبا للأصنام ، وتكذيبا لرسله ، إلى حيث أمرني بالمهاجرة
إليه ، وسيهديني الله لما فيه صلاح ديني ودنياي ، وذلك إلى بلاد الشام المقدسة. رب
هب لي ولدا صالحا عونا على طاعتك ، وإيناسا في الغربة. فبشره الله بغلام متميز
بالحلم الكثير ، وهذا الغلام هو إسماعيل عليهالسلام ، فإنه أول ولد بشرّ به إبراهيم عليهالسلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب.
الذبيح إسماعيل عليهالسلام
بعد أن ترك
إبراهيم الخليل عليهالسلام ديار قومه عبدة الأصنام ، وهاجر من أرض بابل حيث كانت
مملكة نمرود إلى بلاد الشام ، بشره الله بغلام حليم ، وهو إسماعيل عليهالسلام الابن الأكبر لإبراهيم ، ولما كبر إسماعيل وشبّ وبلغ ابن
ثلاث عشرة سنة ، امتحن الله تعالى الأب إبراهيم والابن إسماعيل بقصة الذبح ، وأعقب
ذلك الامتحان بشارة أخرى بإسحاق نبيا من الصالحين ، مباركا عليه وعلى إبراهيم ،
وجعل الاثنين من
الأنبياء المرسلين ، وإيجاد أكثر الأنبياء من ذريتهما. وهذه الأخبار بالترتيب وردت
في سورة الصافات في الآيات الآتية :
(فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما
مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))
[الصافات : ٣٧ /
١٠٢ ـ ١١٣].
هذه آي المحنة
لإبراهيم بعد محنته بإلقائه في النار ، وكل من المحنتين في غاية القسوة واختبار
الإيمان بالله تعالى ، فلما كبر إسماعيل عليهالسلام قال له أبوه إبراهيم عليهالسلام : يا بني ، إني رأيت في المنام أني أذبحك ، فما رأيك؟
أخبره بذلك ليستعدّ لتنفيذ أمر الله ، ويثاب على انقياده وطاعته لربه ، وليعلم
صبره لأمر الله. فأجابه إسماعيل قائلا : امض لما أمرك الله من ذبحي ، وافعل ما
أوحي إليك ، سأصبر على القضاء الإلهي ، وأحتسب ذلك عند الله عزوجل. والمراد بقوله : (فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ) السعي على القدم ، يريد سعيا متمكنا ، أو العمل والعبادة
والمعونة. وبدأ تنفيذ أمر الله تعالى ، فلما استسلم الأب وابنه لأمر الله وطاعته ،
وأسلما أنفسهما ، أي فوّضا إلى الله في قضائه وقدره وألقى إبراهيم على الأرض ابنه
على جنبه وجانب جبهته وهو الجبين ، ومعنى (وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) وضعه بقوة ، ونادى الملك إبراهيم من الخلف بعدئذ. قد حصل
المقصود من رؤياك ، وتحقق المطلوب ،
__________________
وصرت صادقا مصدّقا
بمجرد العزم ، وإن لم تذبح. ثم عدّد الله تعالى نعما خمسا على إبراهيم وهي :
١ ـ الإحسان إليه
: والمعنى : مثلما جازينا إبراهيم بالعفو عن الذبح ، نجزي كل محسن على طاعته ،
وتفريج كربته ومحنته ، وإن هذه المحنة أو الاختبار بالشدة لهو الاختبار الصعب
الواضح الذي لا يوجد أصعب منه ، حيث اختبر الله إبراهيم في مدى طاعته بذبح ولده ،
فصبر محتسبا الأجر عند ربه.
٢ ـ وافتداء الذبح
، فلقد جعلنا لإبراهيم فداء ولده بتقديم كبش عظيم الجثة سمين.
والذّبح : اسم لما
يذبح ، وهو الكبش ، ووصفه بالعظم لأنه متقبّل يقينا. ويرى أهل السنة : أن هذه
القصة نسخ فيها العزم على الفعل. والمعتزلة تقول : إنه لا يصح نسخ إلا بعد وقوع
الفعل ، وهو مجرد إمرار الشفرة على العنق فقط ، وهو ما رآه إبراهيم في منامه ، فظن
أنه ذبح مجهز ، منفّذ لذلك ، فلما وقع الذي رآه ، وقع النسخ.
٣ ـ الثناء الحسن
عليه : وأبقينا لإبراهيم في الأمم المتلاحقة ثناء حسنا ، وذكرا جميلا ، فأحبه
أتباع الملل كلها ، من اليهود والنصارى والمسلمين ، وأهل الشرك قاطبة ، كما جاء في
آية أخرى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٨٥) [الشعراء :
٢٦ / ٨٤ ـ ٨٥]. ومثل هذا الجزاء نجزي جميع المحسنين بالفرج بعد الشدة.
٤ ـ البشارة
بإسحاق : ووهبنا لإبراهيم ولدا آخر بعد إسماعيل هو إسحاق ، وجعلناه نبيا صالحا من
زمرة الصالحين. والبشارة بولادة إسحاق بعد قصة الذّبح دليل على أن إسماعيل هو
الذبيح. وكان الذّبح بمنى.
٥ ـ مباركة
إبراهيم وإسحاق : وجعلنا البركة والنعمة الدنيوية والأخروية في إبراهيم وإسحاق ،
ومنها كثرة الولد والذرية ، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما ونسل
إسماعيل. فقوله
تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ) أي أفضنا على إبراهيم وإسحاق بركات الدين والدنيا ، بأن
كثّرنا نسلهما وجعلنا أنبياء ورسلا منهما ومن إسماعيل. وبعض ذريتهما محسن فاعل
للخيرات ، وبعضها ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي ، واضح الظلم والانحراف.
وهذا دليل على أن
النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، وأن النفع ليس بالوراثة والنسب ، وإنما
الانتفاع بالأعمال ، وأنه لا يعيب الأصول ولا ينتقصهم سوء بعض ذريتهم ، لقوله
تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ٦ /
١٦٤].
نعم الله على موسى وهارون وإلياس عليهمالسلام
امتن الله تعالى
على أنبيائه الكرام بنعم كثيرة بسبب تضحياتهم وجهودهم في سبيل نشر الدعوة إلى الله
سبحانه ، وإصلاح الناس ، ومن هؤلاء الأنبياء الصفوة : موسى وهارون عليهمالسلام ، ومضمون هذه النعم : النبوة وعلوّ المكانة ، ونجاتهم من
المآزق والمحن ، ونصرهم على معارضيهم ، وهدايتهم إلى الطريق القويم ، وإبقاء
الثناء الحسن والسمعة العالية والتحية لهم على ممر الزمان إلى آخر الدهر ، وبهذا
النوع من الجزاء على إخلاصهم وطاعتهم لربهم ، يجزي الله تعالى كل المحسنين ، وهذا
صريح في الآيات الآتية :
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ
(١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)) [الصافات : ٣٧ /
١١٤ ـ ١٣٢].
تالله لقد أنعمنا
على موسى وهارون بالنبوة وغيرها من العطاءات والمنافع التي تؤدي إلى رفع مكانتهما
في الدنيا والآخرة. ونجيناهما وقومهما الإسرائيليين من الكرب العظيم ، أي
الاستعباد الفرعوني ومحاولة قتلهم ومتابعتهم ، وإنجائهم من الغرق في البحر.
ونصرناهم ، أي موسى وهارون وقومهما على أعدائهم ، فكانوا هم المتغلبين أصحاب
السيادة والسلطة. وأنعمنا على موسى وهارون بالتوراة الكتاب المنظّم لشؤون الدنيا
والآخرة. وأرشدناهما إلى الطريق المستقيم : وهو طريق الشرع والنبوة المؤدي إلى
الله تعالى.
وأبقينا لهما من
بعدهما ثناء حسنا جميلا باقيا آخر الدهر. وهذا هو ما تركه الله عليهما في الآخرين
، حيث فسره بقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ) (١٢٠) والمراد به
الثناء الحسن في الأمم الباقية المتأخرة. ومثل هذا الجزاء على الإخلاص والطاعة من
النبيين الرسولين موسى وهارون نجزي بالخلاص من الشدائد والمحن كل من أحسن عمله ،
فأطاع الله وانقاد له ، لأنهما من فئة عباد الله المؤمنين المصدقين تصديقا صحيحا
كاملا.
وإن إلياس بن
ياسين الذي هو نبي من أنبياء الله تعالى ، والذي ينتهي نسبه إلى أخي موسى عليهماالسلام ، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهالسلام ، وكان قومه الإسرائيليون قد عبدوا صنما ، يقال له (بعل)
فدعاهم إلى توحيد الله تعالى ، ونهاهم عن عبادة ما سواه. ومضمون قصته : اذكر أيها
الرسول محمد حين قال إلياس لقومه : (أَلا تَتَّقُونَ). أي هلّا تخافون الله تعالى في عبادتكم غيره ، وتتركون ما
نهاكم عنه من الشرك والعصيان!
أتعبدون صنما وهو (بعل)
الذي صنعتموه بأيديكم ، وتتركون عبادة الإله الحق المستحق وحده للعبادة؟ فهو
سبحانه أحسن الخالقين ، أي إنه هو الخالق المبدع ، ولا خالق سواه ، وهو الله الذي
رباكم بنعمه ، بعد أن أوجدكم من العدم ، أنتم وآباؤكم وأجدادكم السابقون. وكان
إلياس عليهالسلام في دعوته هذه حكيما ، فقد عاب قومه أولا على عبادة غير
الله تعالى. ثم صرح بتوحيد الله ، ونفي جميع الشركاء عنه. فكذبوا دعوته ونبوته ،
فصاروا بسبب تكذيبه لمحضرون ، أي لمجموعون للعذاب يوم القيامة ، ومجازون على ما
قدموا من الأعمال المنكرة ، والأفعال والعقائد الفاسدة.
ثم استثنى الله
تعالى من ذلك الجزاء : من كان مؤمنا فقال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) (١٢٨) أي إلا عباد
الله الذين وحّدوه توحيدا خالصا من الشرك وشوائبه ، وعبدوه حق العبادة ، وأخلصوا
العمل لله ، فهؤلاء في كل زمان ناجون من العذاب ، مثابون ثوابا حسنا على صالح
أعمالهم ، لا يتعرضون لشيء من عقاب المشركين.
واستحق إلياس
النبي عليهالسلام مثلما استحق موسى وهارون : أن يبقي الله عليه ثناء حسنا
جميلا آخر الدهر وعلى ممر الزمان ، وهو السّلام عليه ، سلاما مباركا من الملائكة
والإنس والجن ، لأنه سليم الإيمان بما أمره الله به ، وهو الذي قاوم الشرك
والوثنية. وإل ياسين : اسم أيضا لإلياس ، فهو اسم واحد له ، وهذه لغة ، كما يقال :
إبراهيم وإبراهام ، وإدريس وإدراسين.
ومثل ذلك الجزاء
على الإخلاص والطاعة من إلياس ، يجازي الله جميع المحسنين أعمالهم لله تعالى ،
وعلة الجزاء أنه ، أي إلياس مؤمن من جملة عباد الله المصدّقين بوجود الله وتوحيده
واتصافه ، أي الله بصفات الكمال والجلال والجمال والإحسان.
نعم الله على لوط ويونس عليهماالسلام
الفضل الإلهي ذو
معيار ثابت واحد ، فكما أنعم الله تعالى في آيات سابقة من سورة الصافات على موسى
وهارون وإلياس عليهمالسلام ، أنعم أيضا على لوط ويونس عليهماالسلام ، من إنجاء لوط وأهله إلا امرأته من العذاب ، وتدمير بقية
القوم ، وإخراج يونس حيا من بطن الحوت ، وحمايته من هضمه ، وإنبات شجرة يقطين عليه
يحتمي بأوراقها العريضة ، وتسخير سبيل إعادة القوة والصحة له ، وذلك كله للعظة
والعبرة ، قال الله تعالى مبينا هذه النعم :
(وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً
مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))
[الصافات : ٣٧ /
١٣٣ ـ ١٤٨].
إن إيراد بعض قصص
الأنبياء السابقين من أجل أن يعتبر بها مشركو العرب وقت نزول الوحي ، وكذا كل من
كفر وعاند ممن يأتي بعدهم ، فإن الذين أمعنوا في الكفر بادوا وهلكوا ، وبقي الذين
آمنوا. إن لوطا ابن أخي إبراهيم أو ابن أخته أرسله الله من جملة المرسلين إلى أهل
سدوم في وادي الأردن ، لارتكابهم الفواحش ، فنصحهم ، فأبوا نصحه ، فأهلكهم الله
بحاصب من الحجارة المحرقة كالبراكين العاتية ، فجعل بلادهم عاليها سافلها ، ونجى
الله تعالى لوطا عليهالسلام وأهله المؤمنين به إلا امرأته
__________________
التي كانت كافرة ،
صارت هالكة باقية في العذاب ، ولرضاها بفعل القوم ، وتواطئها معهم على كل من يأتي
إلى لوط عليهالسلام. وكفر امرأة لوط : إما أنها كانت مستترة منه ، وإما كانت
معلنة ، وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن جائزا.
والغابرون :
الباقون ، وغبر بمعنى بقي ، ومعناه هنا : بقيت في الهلاك.
ثم أهلك الله قوم
لوط الذين كذبوا برسالته ، وهم أهل الفاحشة الشنيعة (اللواط). ثم خاطب الله تعالى
قريشا بما معناه :
قل لهم يا محمد
وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازل قوم لوط التي فيها آثار العذاب وقت الصباح ، أي
بالنهار ذهابا إلى الشام ، وفي الليل أثناء رجوعكم من الشام ، أفلا تتدبرون بعقل
واع ، وتتعظون بما تشاهدونه في ديارهم من آثار التدمير ، وعقوبة الله النازلة بهم
، فتخافوا من أن يحل بكم نفس العذاب ، وتصيروا مثلهم في مصيرهم المشؤوم ،
لمخالفتهم رسولهم وتكذيبهم به. وهذا توبيخ لمشركي قريش وأمثالهم.
وأشار الله تعالى
إلى الصباح والليل ، لأن أكثر مشي المسافر على الدواب في الليل وأوائل النهار.
ثم ذكر الله قصة
نبي آخر ، وهو يونس بن متّى ، الذي كان من أنبياء بني إسرائيل ، أرسله الله تعالى
إلى قومه أهل نينوى بالموصل ، ومضمون قصته : واذكر أيها النبي محمد حين هرب يونس
من قومه ، مغاضبا قومه ، إلى سفينة مملوءة بالحمولة ، بغير إذن ربه ، فتعرضت
السفينة للغرق ، فاقترع الركاب فيما بينهم تخفيفا من الحمولة الثقيلة على إلقاء
بعضهم في البحر ، فأصابت القرعة ثلاث مرات يونس عليهالسلام ، فألقوه في البحر ، والفلك المشحون مفرد أو جمع : السفينة
الموقرة.
فابتلعه الحوت
الذي كان بجوار السفينة على الفور ، وهو الذي أتى ما يلام عليه ،
ثم استنقذه الله
تعالى من بطن الحوت بعد مدة إما سبع ساعات أو ثلاثة أيام أو سبعة أيام. وجعل الله
تعالى استنقاذه بسبب تسبيحه ، بعد إنقاذ القدر السابق ، والمراد : لولا أنه كان في
حياته من الذاكرين الله كثيرا ، المنزّهين إياه ، المصلين له ، لبقي ميتا في بطن
الحوت إلى يوم القيامة ، والتسبيح : صلاة التطوع في وقت الرخاء ، نفعته في وقت
الشدة ، وهذا رأي جماعة من العلماء. وقال ابن جبير. هو قوله في بطن الحوت : سبحان
الله إني كنت من الظالمين. فجعل الله الحوت يلقيه ، في مكان خال من الناس والنبات
، على جانب نهر دجلة ، وهو عليل الجسد ، سقيم البدن ، كهيئة الصبي حين يولد.
وأنبت الله عليه
شجرة فوقه ، تظلله وهي شجرة القرع ، وهي سريعة النمو ، وبعد استعادة عافيته ،
أرسله الله عائدا إلى القوم الذين هرب منهم يائسا من إيمانهم إلى ركوب البحر ، وهم
أهل نينوى من أرض الموصل ، وعددهم مائة ألف فأكثر ، حيث وجدهم قد آمنوا بالله ربهم
، بعد أن رأوا أمارات العذاب ، فمتّعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم
ومنتهى أعمارهم.
مناقشة عقائد المشركين
بعد أن أورد الله
تعالى في سورة الصافات أخبار جماعة من أنبياء بني إسرائيل ، من قبيل إعداد
المقدمات الموطّئة لمناقشة المشركين المكيين في عقائدهم ، وجه الله تعالى إنذارا
يتضمن التوبيخ والتقريع للمشركين على فساد اعتقادهم وإنكارهم البعث ، ونسبتهم
البهتان إلى الله تعالى ، وجعلهم البنات لله تعالى ، تنزه الحق عن ذلك ، وقالت
فرقة منهم هم من بني مدلج قولا بلغ غاية الإفك والكذب : ولد الله الملائكة ، لأنه
نكح في سراة الجن ، وهذه آيات مخبرة عن هذه الفصول الغريبة :
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ
شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ
مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ
عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ
(١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))
[الصافات : ٣٧ /
١٤٩ ـ ١٧٠].
هذه مناقشات
للقرشيين المشركين في مكة في عقائدهم ، حول إثبات التوحيد ، ونفي الشرك ، وإثبات
البعث يوم القيامة. بدأت بعبارة الاستفتاء أي السؤال بمعنى التوبيخ والتقريع على
أقوالهم المفتراة ، فاسألهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتأنيب : كيف تجعلون لله
البنات ، وأنتم تكرهونهن أشد الكره ، ولكم البنون الذين تحبونهم وتعتمدون عليهم في
الغزو وتقوية القبيلة؟
إنها قسمة جائرة ،
وتوزيع عجيب غريب ، ينسبون لله النوع الذي لا يختارونه لأنفسهم ، كما جاء في آية
أخرى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) [النجم : ٥٣
/ ٢١ ـ ٢٢] أي جائرة.
بل كيف حكموا على
الملائكة أنهم إناث ، وما شاهدوا خلقهم؟ فمثل ذلك الحكم يحتاج لمشاهدة ، وهم لم
يشاهدوا بدء خلق الملائكة ، فلا دليل لهم على مزاعمهم. ألا إن قولهم هذا من محض
الكذب والافتراء ، الذي لا دليل عليه ولا شبهة دليل ، وإن
__________________
حكمهم في غاية
الجور ، فأي شيء يجعل الله مختارا البنات دون البنين؟! ما لكم تتورطون في هذا
الحكم الظالم؟ أفلا تتدبرون بعقولكم وتتفكرون في أنفسكم ، فتتذكروا بطلان قولكم؟!
بل ألكم حجة واضحة على هذا القول ، فإن كان لكم برهان ، فهاتوا برهانكم على ذلك ،
إن صدقتم في ادعائكم؟
وتكرار هذه
الاستفهامات لتكرار التوبيخ والتبكيت والإنكار الشديد على أقوال المشركين في مكة.
ومن أعظم افتراءات بعضهم وهم بنو مدلج أنهم جعلوا مصاهرة ونسبا بين الله تعالى
وبين الجنّة ، أي الملائكة ، فقالوا : الملائكة بنات الله ، ووصفوا بالجنّة ،
لاستتارهم عن الأبصار. وتالله لقد علمت الملائكة علما يقينيا أن أولئك المشركين
لمجموعون للحساب والعذاب في النار ، لكذبهم وافترائهم هذا.
تنزيها لله تعالى
، وتقديسا له ، عن كينونة ولد له ، وعما يصفه به الظالمون المشركون ، من أوصاف مفتراة.
نزلت هذه الآية
كما نقل الواحدي عن المفسرين في قريش وأجناس من العرب : جهينة وبني سلمة وخزاعة ،
وبني مدلج أو بني مليح قالوا : الملائكة بنات الله. لكن عباد الله المخلصين وهم
المتبعون للحق المنزل على رسله الكرام هم ناجون ، فلا يساقون إلى عذاب النار ، وهذا
استثناء منقطع.
ثم أعلن الله
تعالى مدى عجز المشركين عن إضلال أحد ، حيث خاطبهم : فإنكم وآلهتكم التي تعبدونها
من دون الله لا تقدرون على فتنة أحد عن دينه ، وإضلاله ، إلا من هو أضل منكم ، ممن
هو داخل نيران الجحيم ، في علم الله تعالى ، وهم المصرّون على الكفر.
ثم نزّه الله
تعالى الملائكة مما نسبوا إليه من الكفر بهم والكذب عليهم ، حيث أورد الله تعالى
ذلك على لسان الملائكة بما قالوه : ليس منا ملك إلا له مرتبة معلومة
من المعرفة
والعبادة والمكان لا يتجاوزها ، فهم درجات في طاعة الله تعالى ، وإننا لنحن
الصافون صفوفا في مواقف العبادة. أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال : كان
الناس يصلّون متبددين ، فأنزل الله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) (١٦٥) فأمرهم
النبي صلىاللهعليهوسلم أن يصفّوا.
ثم أورد الله
تعالى ما كان يقوله المشركون قبل البعثة النبوية إذا عيّروا بالجهل فهم كانوا
يقولون : لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة
لله ، ولم نكفر به ، فجاءهم النبي محمد صلىاللهعليهوسلم بالقرآن المجيد ، فكفروا به ، فسوف يرون عاقبة كفرهم. وهذا
وعيد محض ، وتهديد على كفرهم بالله ورسوله وقرآنه ، لأنهم تمنوا أمرا ، فلما جاءهم
الله به ، كفروا واستهواهم الحسد.
مناصرة الرسل عليهمالسلام
سبق القضاء الإلهي
الحاسم ، وتقرّر فصل الأمر بأن الله ناصر رسله المرسلين ، وكذلك جنده المؤمنين في
الغالب ، إذا نصروا دين الله تعالى ، واستقاموا على أمره ، وابتعدوا عن نهيه ،
وكلّ ما يؤدي لسخطه وغضبه. ونصر أهل الحق والإيمان يقابله هزيمة أهل الكفر
والعصيان ، والضلال والخذلان ، وسيجد كل فريق عاقبته ، ونتيجة طريقته ، وهذا حق
وعدل ، وإقرار لما يستوجبه فعل كل إنسان من خير أو شر ، وإيمان أو كفر ، وإعلان
هذا القرار : إعذار وبعد عن أي لوم أو عتاب ، قال الله تعالى مبينا هذا الحكم
الأزلي الثابت :
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
(١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى
حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ
(١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
(١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)) [الصافات : ٣٧ /
١٧١ ـ ١٨٢].
آنس الله تعالى
نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم وأولياءه بأن القضاء قد سبق ، وأن الوعد بالنصر والظفر
لرسل الله الكرام على من جحد برسالتهم قد فرغ منه ، سواء في الدنيا أو في الآخرة ،
ففي الدنيا تكون الغلبة والقهر للرسل العباد : بأسر أعدائهم وتقتيلهم وتشريدهم ،
أو بإجلائهم ، أو بتغلب الحجة والبرهان عليهم ونحو ذلك. وفي الآخرة بالظفر بالجنة
والنجاة من النار. وهذا الحكم مقرّر في الغالب ، وإن كان النادر هو العكس. وجند
الله : حزبه والمجاهدون في سبيله لإعلاء كلمة الله ، وهم الرسل وأتباعهم. والنصر
مشروط بنصرة دين الله وشرعه ، واتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، والعمل بالقرآن
والسنة النبوية ، لقول الله تعالى : (وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٣٠ / ٤٧].
وسبق الكلمة : هو
في الأزل بأن رسل الله إلى أرضه وجنود الله هم المنصورون على من ناوأهم ،
المظفّرون بإرادتهم ، المستوجبون الفلاح في الدارين.
فأعرض عنهم أيها
النبي ، واصبر على أذاهم لك ، إلى مدة معلومة عند الله تعالى ، فإنا سنجعل لك النصر
في النهاية. وهذا وعد للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وأمر له بموادعة أو مهادنة المشركين إلى أمد معلوم.
والحين أو الأمد : إما يوم بدر ، ورجحه الطبري ، أو موتهم ، أو يوم القيامة.
ووعد آخر للنبي صلىاللهعليهوسلم ووعيد لهم ، مفاده : أمهل هؤلاء المشركين ، وانظر ماذا يحل
بهم من العذاب بمخالفتك وتكذيبك ، كالأسر والقتل. وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به من
العقاب ويرون عقبى طريقتهم ، وما وعدناك به من النصر وانتشار الإسلام ، وكرّر الله
تعالى هذا للتأكيد.
ثم وبّخ الله
تعالى المشركين على مطالبتهم بتعجيل أو استعجال العذاب ، فكيف يجرءون على استعجال
عذاب الله الشديد؟ إنهم يستعجلونه لتكذيبهم وكفرهم بالنبي محمد صلىاللهعليهوسلم. أخرج جويبر عن ابن عباس قال : قالوا : يا محمد ، أرنا
العذاب الذي تخوفنا به ، عجّله لنا ، فنزلت هذه الآية : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (١٧٦)
فإن نزل العذاب
بساحتهم ، أي بفنائهم أو موضعهم ، فبئس ذلك اليوم يومهم ، لإهلاكهم ودمارهم ،
وتعبير النزول بالساحة تستعمله العرب فيما يرد على الإنسان من خير أو شر. وسوء
الصباح : يستعمل أيضا عند العرب في ورود الغارات والرزايا ونحو ذلك.
ثم كرر الله تعالى
أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر ، يحين فيه هلاكهم
، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب. وإعادة الأمر بالتولي أو الإعراض عن المشركين
تحقيق لتأنيس النبي والعناية به.
وتنزيها لله ربك
أيها الرسول تنزيها مطلقا عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات ، فالله هو رب
العزة المطلقة ، والمراد بالعزة هنا : أنه ربّ العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء
والمؤمنين. والتحية من الله على المرسلين. وتوفير الثناء الحسن الجميل آخر الدهر ،
لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته ، والحمد التام والشكر الكامل لله في الأولى
والآخرة في كل حال ، فهو سبحانه رب الثقلين : الإنس والجن ، دون سواه. وهذا تعليم
من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك.
أخرج ابن سعد وابن
مردويه عن أنس عن أبي طلحة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سلّمتم على المرسلين ، فسلّموا علي ، فإنما أنا
بشر من المرسلين».
والعزة في هذه
الآية : ليست هي صفة الله تعالى ، والتي من حلف بها كان ذلك يمينا ، وإنما المراد
بها عزته التي خلق بين عباده ، فمن حلف بالعزة المخلوقة الكائنة للأنبياء
والمؤمنين ، فليس ذلك بيمين.
تفسير سورة ص
الرد على عقائد المشركين
أوضحت سورة (ص)
أصول العقيدة الإسلامية : وهي التوحيد والنبوة والبعث ، من خلال مناقشة المشركين
في عقائدهم المناقضة لتلك الأصول ، وإيراد نماذج من قصص الأنبياء السابقين للعظة
والعبرة. ومن أخطر عقائد المشركين القول بتعدد الآلهة ، بدليل قولهم في مطلع سورة (ص)
(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً ..)
أخرج الإمام أحمد
والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب ، فجاءته قريش ، وجاءه
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا بن أخي ، ما تريد من
قومك؟ قال : أريد منهم كلمة ، تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم العجم الجزية ،
كلمة واحدة ، قال : وما هي؟ قال : لا إله إلا الله. فقالوا : إلها واحدا؟ إن هذا
لشيء عجاب ، فنزل فيهم : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) (١) إلى قوله
تعالى : (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ). قال الله سبحانه :
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ
الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ
مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى
__________________
آلِهَتِكُمْ
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ
هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ
فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما
لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسابِ (١٦))
[ص : ٣٨ / ١ ـ ١٦].
افتتحت سورة (ص)
بهذا الحرف للتنبيه لما يأتي بعدها ، وللتحدي وإثبات إعجاز القرآن بأنه متكون من
أمثال هذا الحرف ، فهل يمكن للعرب معارضته؟ وتالله إن القرآن الكريم كلام الله
المعجز ، وإن محمدا لصادق في نبوته ، وإن القرآن ذو شرف ورفعة باقية خالدة ويختص
حرف (ص) في هذا الموضع بأن معناه : صدق الله وصدق رسوله محمد.
بل إن الذين
أشركوا في استكبار عن قبول الحق والإيمان به ، ومخالفة لله ورسوله ، ومعاندة
ومكابرة ، وكثيرا ما أهلك الله من قبل مشركي قريش كثيرا من الأمم الخالية ، بسبب
مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من عند الله تعالى ، ونادوا حين نزول
العذاب بهم طالبين النجاة والغوث ، فلم يفدهم النداء وقتئذ شيئا ، لأن الوقت ليس
وقت خلاص وفرار من العذاب بعد المعاينة ، والقرن : الأمة من الناس في زمن واحد.
وتعجب مشركو مكة
من إرسال رسول مبشر ومنذر منهم ومن أنفسهم
__________________
وعروبتهم ، وقالوا
لما رأوا معجزاته الباهرة : هذا ساحر خداع كذاب فيما يدعيه من النبوة. وهذا دليل
على أنهم كذبوا الرسول من غير حجة ولا برهان.
ثم رد الله تعالى
على شبهات ثلاث للمشركين تتعلق بالألوهية أو التوحيد ، وبالنبوة ، وبالمعاد. أما
توحيد الإله : فلم يؤمنوا به وقالوا : أصير محمد الآلهة إلها واحدا ، وهو الله؟ إن
هذا لشيء غريب عجيب ، بالغ النهاية في العجب. وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب
قائلين : امضوا على ما كنتم فيه ، واثبتوا على عبادة آلهتكم ، واصبروا على التمسك
بها. ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في آخر الملل وهي النصرانية ، وما هذا
إلا افتراء وكذب ، لا حقيقة له ، ولا مستند من الوحي والدين السماوي.
وأما النبوة :
فأنكروا نبوة محمد قائلين : كيف ينزل القرآن على محمد دوننا ، ونحن الرؤساء
والأشراف؟ بل الحقيقة إنهم في شك من القرآن أو الوحي ، وهذا الشك ؛ لأنهم لم
يذوقوا العذاب الإلهي ، فإذا تعرضوا له صدّقوا بالقرآن ، وزال عنهم الشك ، ولو
ذاقوا العذاب ، لتحققوا أن هذه الرسالة حق ، أي إنهم لجهالتهم لا يبين لهم النظر ،
وإنما يبين لهم مباشرة العذاب.
فرد الله تعالى
عليهم : بل إنهم باستبعادهم رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ، هل يملكون مفاتيح خزائن الله ونعمه البالغة ورحمته التي
فيها الهدى والنبوة وكل فضل ، والله هو المانح لهذه النعم الكثير المواهب ، حتى
يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ والخزائن للرحمة : مستعارة ، كأن المعنى : موضع
جمعها وحفظها. بل أهم يملكون السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم ،
فإن فرض أنهم يملكون ، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء ، حتى يحكموا
بما يريدون من عطاء ومنع. إنهم حقيرون ذليلون ، وما هم إلا جند مغلوبون هنالك حيث
يتحزبون فيه على المؤمنين.
وكلمة (أم) فيها
معنى الإضراب عن الكلام الأول ، والاستفهام ، وقدرها سيبويه ب (بل والألف) كقول
العرب : «إنها لإبل أم شاء». والإشارة ب (هنالك) في قوله تعالى : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) إشارة إلى الارتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا
ذلك هم جند مهزوم ، من جملة الأحزاب والأمم المتعصبين في الباطل ، والمكذبي الرسل
، فأخذهم الله تعالى. و (ما) في قوله (جُنْدٌ ما) زائدة مؤكّدة ، وفيها تخصيص.
ثم قارن الله وضع
قريش بأمثالهم الغابرين ، فلقد كذبت الرسل قبل قريش ، قوم نوح ، وقبيلة عاد ، وفرعون
ذو الأوتاد ، أي المباني العظيمة الثابتة ، والحكم الراسخ ، وقبيلة ثمود قوم صالح
، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، أي غيضة الشجر ، أولئك الأحزاب ، أي الموصوفون
بالقوة والكثرة ، كمن تحزب عليك أيها النبي عام الخندق بالمدينة.
لقد كذب كل هؤلاء
الأقوام رسلهم الكرام ، فوجب العقاب الإلهي لهم ، جزاء وفاقا. وما ينتظر كفار قريش
إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية ـ نفخة الفزع التي ينفخها إسرافيل
، فتطال جميع أهل السماوات والأرض إلا من استثنى الله ، وليس لتلك النفخة انتظار
كالمهلة التي بين الحلبتين ، بل هي متصلة حتى مهلكهم.
وقال مشركو مكة
وأمثالهم تهكما واستهزاء حين سمعوا بتهديد العذاب في الآخرة : ربنا عجل لنا نصيبنا
من العذاب الذي توعدنا به ، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من الله على
المشركين في مطالبتهم بتعجيل العذاب ، وهو يتضمن إنكارهم البعث.
نعم الله على داود عليهالسلام
وفصله في الخصومة بين رجلين
توالت الأخبار
وإيراد قصص الأنبياء السابقين في القرآن الكريم ، لتذكّر أحوالهم ، والتأسي بهم في
صبرهم على أذى أقوامهم ، محتسبين الأجر عند الله تعالى. وكان الخطاب فيها للنبي صلىاللهعليهوسلم ليتأسى بهم ، ويهوّن عليه إعراض قومه عن دعوته ، فتلك هي
سيرة الأقوام الماضين مع رسلهم ، وفي تلك القصص بيان أنواع النعم الإلهية التي
أنعم الله بها على أولئك الأنبياء في صراعهم مع أقوامهم ، وصبرهم عليهم ، ثم
نجاتهم وتدمير أعدائهم.
وهذه قصة نبي الله
داود عليهالسلام ، وهي قصة مثيرة للعجب والعبرة ، قال الله تعالى :
(اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ
قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ
وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي
فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا
داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا
يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))
[ص : ٣٨ / ١٧ ـ ٢٦].
__________________
تضمنت الآيات بيان
عشر صفات لداود عليهالسلام أنعم الله بها عليه ، وهي : اصبر أيها النبي محمد على ما
يتقوله قومك من الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ، ولا تلتفت إليها ، واذكر
عبدنا داود ذا القوة في الدين والصّدع به ، فتأسّ به وتأيد كما تأيد. والأيد :
القوة ، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوة الطاعة. وهو الأوّاب : الرجاع إلى طاعة
الله تعالى في جميع أموره وشؤونه. وهو الصبور على طاعة الله تعالى.
وهو عبد الله
محقّق معنى العبودية بمعنى التذلل والخضوع والانقياد والاجتهاد في الطاعة. وهذه
أربع صفات ، والخامسة والسادسة : أن الله تعالى سخر الجبال والطير معه وذللها ،
تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار.
والسابعة : جمع
الطيور وجعلها مع الجبال مطيعة له ، تسبح الله تبعا له ، حال كون الطيور محبوسة في
الهواء ، فكلما سبّح داود جاوبته ، وهذا يدل على أن داود عليهالسلام كان حسن الترتيل ، جميل الصوت.
والثامنة : قوة
الملك ، فقد قوينا ملكه وأيدناه بكل ما وهبناه إياه من قوة وجند ونعمة.
والتاسعة : إيتاء
الحكمة ، فإنا أعطيناه الفهم والعقل والفطنة وفهم الدين وجودة النظر ، والعلم الذي
لا ترده العقول ، والعدل ، وإتقان العمل والحكم السديد.
والعاشرة : حسن
الفصل في الخصومات ، فإنا ألهمناه حسن الفصل في القضاء بين الناس بالحق ، وإصابته وفهمه
، وإيجاز البيان ، ومنها إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي ،
وكان إذا خاطب في مسألة ، فصّل المعنى وأوضحه ، لا يتلكأ ، ولا يعجز عن البيان ،
ولا يعتريه ضعف ، فكان كلامه عليهالسلام فصلا.
ومن قضائه أنه
تسلق عليه المحراب في يوم العبادة وفي غير يوم المحاكمة رجلان ،
ففزع منهم ، فقالا
له : لا تخف ، نحن متخاصمان جار بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا حكما عادلا ، ولا
تتجاوز الحق في الحكم ولا تبعد في الحكم ، واهدنا أو أرشدنا إلى طريق الحق والعدل.
وسواء الصراط : وسطه والواضح منه.
واستفتحت الآيات
بالاستفهام : (وَهَلْ أَتاكَ ..) تعجبا من القصة وتفخيما لها. وعبر عن الاثنين بالجمع : (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا) و (قالُوا) على جهة التجوز في العبارة عن الاثنين ، بلفظ الجمع.
والمحراب : الموضع الأرفع من القصر أو المسجد ، وهو موضع التعبد. وفزعه بسبب
دخولهم من غير الباب ودون استئذان.
وموضوع الخصومة :
إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية ، يملك تسعا وتسعين شاة ، وأملك أنا شاة واحدة ،
فقال : ملّكنيها ، وغلبني في المخاصمة والجدال ، والحجة. والنعجة : أنثى الضأن.
فقال داود عليهالسلام بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى : لقد ظلمك بهذا الطلب ،
وطمع عليك. وإن كثيرا من الشركاء في المال ليعتدي ويستطيل بعضهم على بعض ، إلا من
آمن بالله وخاف ربه ، وعمل صالح الأعمال ، وهؤلاء المؤمنون الصالحون قلة ، وشعر
داود وعلم أنما اختبرناه وامتحناه ، بهذه الواقعة ، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه
بالخصمين ، وأنهما أتيا لاغتياله ، لوقوع اغتيالات في أنبياء بني إسرائيل ، وخرّ
ساجدا ، وعبّر بالركوع عن السجود ، لأن القصد منهما التعظيم ، ورجع إلى الله
بالتوبة من ذنبه.
والعرب تعبر بالظن
عن المعلومات الناجمة من غير الحواس ، ولا يستعمل الظن بمعنى اليقين التام البتّة
، كما ذكر ابن عطية في تفسيره.
فغفر الله له سوء
ظنه ، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإن له عند ربه لقربى ومكانة رفيعة وحسن
مرجع في الآخرة وهو الجنة.
يا داود إنا
جعلناك حاكما بين الناس في الأرض ، فاقض بين الناس بالعدل ، ولا
تتبع أهواء النفس
أو مطامع الدنيا ، فيوقعك ذلك في الضلال والانحراف عن الحق ، إن الذين يحيدون عن
طريق الحق والعدل ، لهم عقاب شديد يوم القيامة ، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم
وتركهم الاستعداد له. والمقصود من ذلك تنبيه الحكام والقضاة على الحكم بين الناس
بالحق والعدل.
التمييز في الحساب بين المصلحين والمفسدين
قد تكون كثرة
النعم منسية شكر المنعم ، إذا كان الإنسان غارقا في الأهواء والشهوات ، ممعنا في
الكفر والضلال ، بعيدا عن إشعاعات وأنوار الهدي الإلهي ، خالي القلب من الإيمان
وتوجيهات القرآن ، ومن هنا لا غرابة أن يظن الكافرون أن خلق السماوات والأرض إنما
هو باطل لا معنى له ، كما ينسون النعم الدائمة ، المعطاة لهم من أرزاق وخيرات ،
وقوة وعافية ، ووعي وتفكير ، وعلم ومعرفة وغير ذلك. ويترتب على هذا أنه لا مساواة
في الحساب بين الجاحدين والمفسدين ، وبين المؤمنين والمصلحين ، وعلى الجميع أن
يطلبوا الإيمان والتقوى من كتاب الله العزيز ، قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال :
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))
[ص : ٣٨ / ٢٧ ـ ٢٩].
هذه الآيات واردة
بين قصتي داود وسليمان ، عظة لأمة النبي صلىاللهعليهوسلم ، ووعيدا للكفرة بالله تعالى.
أخبر الله تعالى
أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماوات والأرض وما بينهما ، إنما هو باطل لا معنى
له ، وأن الأمر لا يؤول إلى ثواب وعقاب ، فرد الله تعالى
عليهم مكذبا ظنهم
، ومتوعدا إياهم بالنار ، فالله تعالى لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما من
المخلوقات عبثا لا حكمة فيه ، أو لهوا ولعبا ، وإنما خلق ذلك للدلالة على قدرته
العظيمة ، ومن أجل العمل فيهما بطاعته وعبادته وتوحيده ، كما قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) [الذاريات :
٥١ / ٥٦].
ثم أخبر الله
تعالى عن كذب ظن الكافرين ، وتوعّدهم بالنار ، أي إن ظن الذين كفروا بأن هذه
المخلوقات العظمى خلقت عبثا لغير غرض ، فلا قيامة ولا حساب ، هو ظن خطأ كاذب ، فيا
هلاك هؤلاء الكافرين في النار يوم المعاد والنشور ، جزاء ما قدموا من الشرك
والعصيان ، وجحود نعم الله تعالى ، وإنكار البعث.
وأبان الله تعالى
الفرق في الحساب عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات وبين المفسدين الكفرة ،
وبين المتقين والفجّار ، فليس من العدل والمعقول والحكمة التسوية بين الفريقين.
والمعنى : بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله ، وعملوا بفرائضه ، وأصلحوا
أعمالهم ، فأدوا الفرائض والواجبات على وجه متقن ، كالمفسدين في الأرض بالمعاصي
والجحود ، أم نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والعصاة؟ ليس ذلك
حقا ولا عدلا ، ولا حكمة ولا نظاما سويا.
وفي هذا البيان
والتفرقة بين الفريقين حض على الإيمان وترغيب فيه ، ووعيد للكفرة والجاحدين. ونظير
الآية كثير في القرآن المجيد ، مثل قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) [القلم : ٦٨
/ ٣٤ ـ ٣٦].
ثم أحال الله
تعالى في طلب الإيمان والتقوى ، على كتابه العزيز بقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا ، إن
طريق السعادة الأبدية : هو اتباع القرآن الذي أنزله الله هدى ورحمة للمؤمنين ، وهو
كثير الخير
والبركة ، فيه
الشفاء النافع لمن تمسّك به ، والنجاة لمن اتبعه ، وقد أنزله الله تعالى للناس
للتدبر والتفكر في معانيه ، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر وإمعان ، وليتعظ أهل
العقول الراجحة به وببيانه. وقوله تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا) أي لتتدبروا آياته.
قال الحسن البصري رحمهالله : والله ما تدبّره بحفظ حروفه ، وإضاعة حدوده ، حتى إن
أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل.
وفي هذه الآية
اقتضاب وإيجاز بديع ، كإعجاز كل القرآن العزيز. ووصف القرآن بالبركة ، لأن أجمعها
فيه ، فهو يورث الجنة ، وينقذ من النار ، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ،
ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة.
وظاهر هذه الآية
يقتضي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن ، فالترتيل أفضل من أجل هذا ، إذ التدبر لا
يكون إلا مع الترتيل ، والترتيل وسيلة لفهم المعاني ، والاتعاظ بالأحكام ،
والاسترشاد بالهدي القرآني ، وحمل الإنسان على الاتباع والالتزام ، وترك هجر
القرآن ، كما عليه حال بعض الناس اليوم.
والآية أيضا دليل
على وجوب معرفة معاني القرآن ، والمعرفة تقود إلى الاتباع ، قال الحسن البصري :
تدبر آيات الله : اتباعها.
إن من أجلّ مقاصد
القرآن إصلاح الحياة الإنسانية ، بإصلاح الفرد والجماعة ، وإصلاح الروابط
والعلاقات في جميع مجالاتها وأنواعها.
نعم الله تعالى على سليمان عليهالسلام
أفاض الله فيض
نعمه السخية على سليمان ، كما أفاض على أبيه داود عليهماالسلام ، واستمرار هذا الفيض الإلهي يقتضي أن يشكر المحسن ، ويتعظ
المسيء بما
يجده في قصتي داود
وسليمان عليهماالسلام من عبر وعظات ، فإنهما جمعا بين الملك العظيم في الدنيا ،
والنبوة والرسالة ، ولم يمنعهما ذلك الملك من شكر الله وعبادته وطاعته ، فهل لقريش
وغيرها من الزعامات أن يجدوا في هذه القصة ما يحملهم على شكر المنعم ، وعبادته؟
قال الله تعالى :
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ
أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))
[ص : ٣٨ / ٣٠ ـ ٤٠].
وهب الله تعالى
سليمان ولدا لداود عليهماالسلام ، وأثنى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) والهبة والعطية بمعنى واحد ، والمعنى : لقد أعطينا داود
ابنا نبيا وهو سليمان ، وهو عبد الله صالح ، لأنه رجّاع إلى الله تواب ، كثير
الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عزوجل في أكثر الأوقات. وذكر الله تعالى واقعتين لسليمان من
وقائع توبته.
الأولى ـ قصة عرض
الخيل عليه. والمعنى : اذكر أيها الرسول محمد مادحا حين عرض على سليمان عليهالسلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول (الجياد)
القائمات على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة ، وهي آلاف تركها له
__________________
أبوه ، ليتعرف
أحوالها ، ويستعرضها ، كالاستعراضات العسكرية اليوم ، فقال سليمان : لقد أحببت هذه
الخيل وآثرتها على غيرها حبا حصل بذكر الله وأمره ، لا بهواي وشغفي ، فكانت تركض
حتى تغيب عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وقوله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ) معناه : أحببت هذه الخيل حبّ الخير ، أو آثرت محبتها . مواراتها بالحجاب : بعدها عنه. والمراد : أن حبه للخيل لم
يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل لتكون عدة الجهاد في سبيل الله ، وتقوية دينه
، ونشره بين الناس.
والخير عند بعضهم
: هو الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي. والظاهر أن المراد بالخير : هو المال
، لكثرة استعماله في المال عند العرب. وقال أبو حيان : الخير عند العرب تسمى
الخيل.
والخلاصة أو
المراد : أحببت الجياد الصافنات أو عرضها حبا مثل حب الخير ، منيبا لذلك عن ذكر
ربي ، وليس المراد بالخير هو الخيل فقط.
ثم أعاد سليمان عليهالسلام عرض الصافنات أمامه ، فقال : أعيدوا هذه الخيل إلي ، فلما
عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها ، تشريفا لها وتكريما وتدليلا ،
ومحنة لها ، وسرورا بها. وطفق : معناه دام يفعل. ولا يصح القول بأن عرضها عليه
ألهاه عن صلاة العصر حتى غربت الشمس ، أو أنه قطّع قوائم الخيل بالسيف ، فذلك من
الإسرائيليات. وإنما المراد : اختباره بمحبّة الخيل حبا شديدا ، لمعرفة مدى تواضعه
والبعد عن الاغترار ، واشتغاله بالعرض والندم عليه.
والواقعة الثانية
: إلقاؤه جسدا على كرسيه : والمعنى : تالله لقد اختبرنا سليمان عليهالسلام باختبار آخر ، وهو كما قال الرازي الفتنة في جسده ، حيث
ابتلاه الله
__________________
بمرض شديد في جسمه
، حتى نحل جسمه ، وأصبح هزيلا ، ثم أناب ، أي رجع إلى حال الصحة ، وقال : رب اغفر
لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله ، وهذا من باب السمو بتصور الخطيئة ،
التي لا تعدو أن تكون تركا للأفضل والأولى ، وامنحني ملكا عظيما لا يحصل لأحد غيري
مثله ، إنك أنت الكثير الهبات والعطايا ، فأجب دعائي. ويكون المراد بإلقاء الجسد
على كرسيه : أنه مرض مرضا كالإغماء ، حتى صار على كرسيه جسدا ، كان بلا روح.
والمراد بقوله (لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أن يتفرد به بين البشر كرامة له.
فأجاب الله دعاءه
ومنحه خمس نعم هي :
١ ـ لقد ذللنا
الريح ، تنقاد لأمره ، وتجري لينة طائعة في قوة وسرعة ، تحمله حيث اتجه إلى أي
مكان أراده.
٢ ـ وذللنا له
أيضا الشياطين تعمل بأمره ، إما في بناء المباني العظيمة ، وإما في الغوص في
البحار ، لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان ، وإما في أعمال أخرى.
٣ ـ وذللنا له
شياطين آخرين ، وهم مردة الشياطين ، حتى إنه قرنهم في القيود والسلاسل ، قمعا
لشرهم ، وعقابا لهم. ومقرنين : موثقين.
٤ ـ وجعلنا له
حرية التصرف فيما أعطيناه من الملك العظيم والثروة ، والسيطرة على الريح والشياطين
، وأذنّا له أن يمنح من ثروته من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بلا حساب عليه في الإعطاء
أو الإمساك (المنع) أو يمنّ على من شاء من الجن فيطلقه أو يقيده كما قال قتادة.
٥ ـ وإن له في
الآخرة لقربى وكرامة عند الله تعالى ، وحسن مرجع وهو الجنة ، وفيض ثواب ، فهو ذو
حظ عظيم عند الله يوم القيامة.
إن هذه النعم
العظيمة على سليمان عليهالسلام تدل على عظيم فضل الله ، وعلى
أن سليمان كان
نبيا ورسولا من الصالحين كأبيه ، لم يصدر عنه إلا كل ما هو خير متفق مع مقتضى
الرسالة ، ودعوة الناس إلى عبادة الله وشكره وليس دعاؤه بطلب ملك يتفرد به مرادا
به : أنه لا يعطي الله تعالى نحو ذلك الملك لأحد ، وإنما المبالغة في هبة الملك
وطلبه.
محنة أيوب عليهالسلام
أيوب عليهالسلام : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل ، من ذرية يعقوب عليهالسلام ، وهو المبتلى في جسده وماله وأهله ، ولكن صبر وسلّم
معتقده ودينه ، ولم يكن ابتلاؤه بمرض معد أو منفّر طبعا ، خلافا لما زعم بعضهم ،
وإنما كان مرضه جلديا مضعفا غير منفر ، وبعد أن طال صبره دعا ربه ، فأوحى إليه
بالاغتسال والشرب من ماء نابع ، حفره بقدمه ، فشفي وعوفي ، ورد الله عليه أهله
وزاده مثلهم في الذرية ، وافتدى الله يمينه بضرب زوجته بعود فيه مائة قضيب من
الشجر الرطب ، فيضرب به ضربة واحدة ، يبر بها يمينه. وهذه حكاية محنته وبلواه
وزوالها عنه. قال الله تعالى :
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))
[ص : ٣٨ / ٤١ ـ ٤٤].
الاعتبار والاتعاظ
بقصص الأنبياء السابقين هو غاية إيراد قصصهم ، فمنهم كثير
__________________
النعمة كداود
وسليمان عليهماالسلام ، ومنهم من ابتلي وامتحن بالمرض كأيوب عليهالسلام ، ففي حال النعمة شكر وحمد ، وفي حال النقمة صبر وتفويض
لله.
والمعنى : اذكر
أيها النبي محمد لقومك مدى صبر أيوب عليهالسلام على مرضه مدة طويلة من الزمان ، قيل : هي نحو من ثماني
عشرة سنة ، اذكره حين دعا ربه : بأنني قد مسني الضر ، وألحق بي الشيطان الضر
والمشقة والألم. ولم يكن مرضه منفّرا الناس منه ، وإنما هو مرض جلدي ظاهري ، قابل
للشفاء. أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أن أيوب عليهالسلام بقي في محنته ثماني عشرة سنة.
فأجاب الله دعاءه
، وأمره أن يضرب برجله الأرض ، فنبعت عين جارية ، فاغتسل فيها ، وشرب منها. وقوله
: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) الركض : الضرب بالرّجل. والمعنى اركض الأرض ، ولما فعل ذلك
عوفي من مرضه.
وأعاد الله له
أيضا أهله وولده الذين تركوه ، ووهب له ماله في الدنيا ورد ما هلك من ماشيته ،
وبارك في جميع ذلك ، وولد له الأولاد حتى تضاعفت الحال ، رحمة من الله به ، وتذكرة
لأصحاب العقول السديدة ، فإن ما بعد الصبر والشدة إلا الفرج ، وما بعد العسر إلا
اليسر.
وكانت زوجته تتردد
عليه مدة مرضه ، فيوسوس لها الشيطان ويقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني
لبرئ ، ولو ذبح عناقا (أنثى المعز أو الضأن إلى تمام الحول) للصنم الفلاني لبرئ ،
ويعرض عليها وجوها من الكفر ، فكانت ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول لها : ألقيت
عدو الله في طريقك؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه ، حلف لئن برئ من مرضه ليضربنها مائة
سوط.
فلما برئ ، أمره
الله تعالى أن يأخذ بيده قبضة أو حزمة كبيرة من القضبان ونحوها
من الشجر الرطب ،
فيضربها به ضربة واحدة فتبر يمينه. وهذا حكم ورد في شرعنا حيث أخرج أبو داود عن
النبي صلىاللهعليهوسلم مثله في حد رجل زمن (مريض مرضا مزمنا) بالزنى ، فأمر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بعذق (عدد من النخيل) فيه مائة شمراخ أو نحوها ، فضرب به
ضربة. وقال به بعض الفقهاء وهو الإمام الشافعي.
ثم أثنى الله
تعالى على أيوب عليهالسلام بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ
صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده
، وذهاب ماله وأهله وولده ، نعم الرجل العبد لله أيوب ، إنه رجّاع إلى الله تعالى
بالتوبة والاستغفار ، زيادة في حسناته ، ورفع درجته ، لا بسبب ذنب ارتكبه ،
فجازيناه بتفريج كربته ، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر ، ولكن إيمان
الأنبياء المطلق الذي يستلهمون منه أن الله تعالى عليم بهم ، قد لا يطلبون من الله
شيئا ، لإذهاب همهم وغمهم ، كما فعل إبراهيم عليهالسلام حينما ألقي في النار ، لم يدع ربه ، وإنما قال : «علمه
بحالي يغنيه عن سؤالي».
وروي عن أيوب عليهالسلام : أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة : «اللهم أنت أخذت ،
وأنت أعطيت» وكان يقول في مناجاته : «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم
يتبع قلبي بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت
شبعان ولا كاسيا ، ومعي جائع أو عريان».
هذه أمثلة عالية
من مواقف أيوب عليهالسلام ، تعدّ ذخرا عظيما ، وقدوة حسنة للمؤمنين ، فلا يصدر عنهم
في وقت المرض أو المحنة أو الأذى إلا ما يتفق مع الأدب مع الله تعالى والتفويض
إليه.
نعم الله تعالى على إبراهيم وذريته عليهمالسلام
هذه أيضا كما سبق
سيرة طيبة عبقة لثلّة من الأنبياء ، يراد بها العظة والعبرة ، والتعليم للبشر ،
والتخلق بأخلاقهم ، والعمل بأعمالهم التي من أجلها استحقوا ما أعد الله لهم
ولأمثالهم في هذه الآيات الآتية من الثواب الجزيل والنعيم العظيم. تضمنت الآيات
أمر النبي محمدا عليه الصلاة والسّلام أن يذكر للعبرة والعظة صبر إبراهيم حين ألقي
في النار ، وصبر إسحاق في دعوة بني إسرائيل إلى الرشاد ، وصبر يعقوب حين فقد ولده
وذهب بصره ، وصبر إسماعيل للذبح ، وصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل ، قال
الله تعالى واصفا كل ذلك بإيجاز بديع :
(وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا
الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ
الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))
[ص : ٣٨ / ٤٥ ـ ٥٤].
هذه أخبار سارّة
عن فضائل الأنبياء والمرسلين ، اذكر أيها الرسول محمد عمل وصبر مجموعة من عبادنا
المرسلين : إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي القوة في العبادة والبصيرة النافذة ، فإنهم
دأبوا على الطاعة ، وقوّيناهم على العمل الصالح المرضي.
وذلك لأننا
خصصناهم بميزة خالصة ، وهي العمل للآخرة ، والتزام الأوامر ، واجتناب النواهي ،
لتذكرهم الآخرة ، وإيمانهم المطلق بها ، وذلك شأن الأنبياء والرسل.
__________________
وقوله : (ذِكْرَى) مصدر ، و (الدَّارِ) منصوبة ب (ذكرى) على معنى : أخلصناهم بأن خلص لهم التذكير
بالدار الآخرة ، ودعوا الناس إليها ، وحضوهم عليها.
وإنهم عند الله
لمن المختارين من أبناء جنسهم ، الخيّرين ، المطبوعين على حب الخير وفعله ، فلا
يميلون للأذى ، وليس في قلوبهم شيء من الضغينة والحقد والحسد والبغض لأحد ، ولا
يقترفون منكرا ، ولا يرتكبون معصية ، فهم أخيار مختارون من الله تعالى.
واذكر أيضا أيها
النبي الرسول محمد صبر إسماعيل واليسع وذي الكفل وأعمالهم الصالحة ، فكل منهم أيضا
من الأخيار المختارين للنبوة وأداء الرسالة الإلهية. ثم أخبر الله تعالى عن الهدف
من إيراد هذه الأخبار النبوية ، فهذه الآيات القرآنية التي تعدّد محاسن هؤلاء
الأنبياء تذكّر لهم وتنويه ، وذكر جميل في الدنيا ، وشرف يذكرون به أبدا ، وإن لهم
وللمتقين أمثالهم لحسن مرجع ، يرجعون فيه في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم
جنته. ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ) إشارة إلى القرآن ، أي هو ذكر للعالم.
ثم فسّر الله
تعالى المقصود بالمرجع وحسن المآب : وهو أن لهم جنات إقامة دائمة ، مفتّحة لهم
الأبواب ، فإذا قدموا فتحت لهم أبواب الجنة ، إكراما لهم ، تفتحها الملائكة
ليدخلوها مكرمين. وفي هذا إيماء بتخصيصاتهم وبسعتها وبهائها.
تراهم متكئين في
الجنات على الأرائك والأسرّة ، يطلبون ما لذّ وطاب مما شاؤوا من أنواع الفاكهة
الكثيرة ، وأنواع الشراب الكثير العذب الطيب وغير ذلك ، فمهما طلبوا وجدوا ، وأحضر
كما أرادوا.
ولهم زوجات قاصرات
حابسات طرفهن على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهن ،
وهم لدات :
متساويات في السن والحسن والجمال ، يحب بعضهن بعضا ، فلا تباغض ولا غيرة عندهن في
نفوسهن.
وهذا المذكور من
صفات الجنان : هو الذي وعد الله به تعالى عباده المتقين ، وهو الجزاء الأوفى الذي
وعدوا به ، وأجّل ليوم الحساب في الآخرة ، بعد البعث والنشور من القبور.
وصفة هذا النعيم :
الدوام ، فهذا الذي أنعمنا به عليكم لرزق دائم لا انقطاع له ولا فناء أبدا ، كما
جاء في آيات أخرى ، منها : (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ١٦ / ٩٦].
ومنها : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١١ / ١٠٨]
ومنها : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) [الانشقاق : ٨٤ /
٢٥] أي غير منقطع. ومنها : (أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) [الرعد : ١٣ / ٣٥].
إن الترغيب
بالنعيم محبّب لدى النفوس البشرية ، مما يجعلهم طامعين بتحصيله ، حريصين على
الوصول إليه ، فهو من جملة البواعث والدوافع ، إلى الطاعة والتأسي بالأنبياء
الكرام ، تنزلا في تحقيق الرغبات لمستوى طبائع البشر وتطلعاتهم ، لا أن الله ناصب
نفسه لتلبية الأهواء ، فهذا طبع للبشر ، قصد به الترغيب.
عقاب الطغاة
كلما تلا الإنسان
آيات العذاب الشديد وألوان العقاب للكافرين الطغاة ، اقشعر بدنه وارتعدت فرائصه ،
وخاف أن يناله شيء من ذلك ، لشدة الوصف ، وقسوة العذاب ، وتصويره كأنه واقع ماثل
أمامه ، يراه ولا يطيق تحمله ، وحدوث هذا التأثر ، والتفاعل مع الوصف ، يحمل
المؤمن على تفادي الأسباب ، والبعد عن
موجبات العذاب ،
والبحث عن موجبات الرحمة والمغفرة ، والنجاة والتخلص من آفات العقاب وويلاته في
الآخرة.
وهذه آيات تصف ما
يستحقه أهل الكفر والطغيان ، قال الله تعالى :
(هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦)
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ
(٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا
فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً
ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ
مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))
[ص : ٣٨ / ٥٥ ـ ٦٤].
المعنى : الأمر
المذكور في آيات سابقة وهو جزاء المؤمنين هذا ، وهذا واقع أو قائم ، وإن للطغاة الكافرين
الخارجين عن حدود الطاعة الإلهية ، المكذبين لرسله ، لسوء مصير ، وشر مآب أو مرجع.
ذلك المصير : هو إصلاؤهم في نار جهنم وإحراقهم ، فبئس الفراش الذي مهدوه لأنفسهم ،
أي كأن ما تحتهم من النار كالمهاد أو الفراش. والطاغي : المفرط في الشر ، والطغيان
المراد هنا : هو الكفر ، والمآب : المرجع ، وجهنم بدل من قوله : (لَشَرَّ مَآبٍ) ويصلونها : يباشرون حرها وحرقها ، والمهاد : ما يفرشه
الإنسان ويتصرف به.
الأمر هذا
فليذوقوه ، أو هذا حميم : وهو الماء الحار فليذوقوه ، وهذا هو الغساق : صديد أهل
النار السيال بتجرعونه.
ولهم عذاب آخر
كالحميم والغساق ، أشد كراهية وإيلاما كالزقوم ، وتلك ألوان من العذاب المختلفة
المتضادة.
وتقول الطائفة
الأولى التي تدخل النار مع زبانية جهنم : هذا فوج أي جمع كبير أو كثير داخل معكم ،
لا مرحبا بهم ، أي لا كرامة لهم ، إنهم داخلو النار كما دخلناها.
وقوله تعالى : (مِنْ شَكْلِهِ) أي من مثله وعلى شاكلته. و (أَزْواجٌ) أي أصناف وأجناس. و (مُقْتَحِمٌ) داخل فيها بشدة.
فيقول الأتباع
لقادتهم : بل أنتم لا مرحبا بكم ، أي لا كرامة لكم ولا خير تلقونه ولا سعة مكان ،
وأنتم أحق بهذا منا ، إنكم بإغوائكم أسلفتم لنا ما أوجب هذا ، فكأنكم فعلتم بنا
هذا ، فبئس المقر جهنم لكم ولنا.
فيقول الأتباع
أيضا للروساء : يا ربنا كل من أوردنا هذا المورد ، في النار ، فزده عذابا مضاعفا
في جهنم عقابا على الكفر والإضلال.
وقال جماعة من
زعماء الكفر تحسرا وتعجبا : ما لنا لا نجد في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا
أشرارا لا خير فيهم؟! يريدون بذلك ضعفاء المؤمنين ، كعمار وخباب وصهيب وبلال وسالم
وسلمان. والزعماء القائلون هذا في عهد النبي صلىاللهعليهوسلم : هم أبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأهل القليب (أهل
البئر الذين دفنوا فيه من زعماء المشركين في بدر). ويريدون بقولهم : «كنا في
الدنيا نعدّهم أشرارا لا خلاق لهم» أنهم في زعمهم سيكونون في النار. هل لأننا
سخرنا منهم أو سخرناهم في أعمال الدنيا ، فلم يدخلوا النار ، أم مالت عنهم الأعين
والأبصار ، وهم في الجنة؟! أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ والمعنى : أليسوا
معنا ، أم هم معنا ولكن أبصارنا تميل عنهم فلا نراهم؟!
ثم أخبر الله
تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم بقوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤) أي إن ذلك
الذي حكاه الله عن قادة الكفر : هو حق قائم ثابت ، لا بد منه ، ولا بد أن يتكلموا
به ، فإن تخاصم أو تنازع أهل النار أمر حتمي واقع يوم القيامة ، وتخاصم بدل من
قوله : (لَحَقٌ)
إن هذا الحوار
الحامي يقع بين الرؤساء والأتباع ، رؤساء الضلالة والإضلال ،
والدعوة إلى الكفر
والجحود الذين يترقبون لقاء فئة المستضعفين المؤمنين في النار معهم لدنوهم ، ويسخرون
من أتباعهم ، وأتباعهم يقابلونهم بأسوأ الردود ، ويدعون ربهم أن يضاعف لهم العذاب
بسبب إغوائهم ودعايتهم للفساد والإفساد.
التصديق بالقرآن والتكذيب به
أخبر الله تعالى
في كتابه عن أسباب الدعوة إلى الإيمان بالقرآن الكريم والتصديق به ، لاشتماله على
تبيان أصول العقيدة الثابتة : وهي توحيد الله عزوجل ، وإثبات نبوة الرسول محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوسلم ، وإثبات المعاد أو اليوم الآخر ، فيكون التكذيب بهذه
الأصول العقدية جرما عظيما ، وبعدا عن الحقيقة والواقع ، فمن كذب بذلك جنى على
نفسه ، ومن آمن بتوحيد الله تعالى ، وصدق نبيه محمدا ، وأيقن بوجود القيامة ، فهو
العاقل الناجي ، قال الله تعالى موضحا هذه الأخبار :
(قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ
نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))
[ص : ٣٨ / ٦٥ ـ ٧٠].
أخبر أيها النبي
عن مهمتك ورسالتك ، وقل للكفار المشركين في مكة ، وغيرها المكذبين بما جئت به :
إنما أنا مخوف لكم من عقاب الله وعذابه ، مبلّغ ما يتعرض له المنكر الكاذب من
أحوال السوء ، بسبب الإعراض عن دعوتي ورسالتي. إن القرآن الكريم وجميع ما تضمنه من
دعوة التوحيد والإيمان بالمعاد حق وصدق وواقع.
ليس لي من أغراض
أو أهداف إلا الإنذار والتخويف من سوء المصير ، وشدة العذاب ، وفداحة العاقبة لكل
من كذب برسالتي ، وأنكر وجود الله تعالى ووحدانيته ، فليس هناك في الوجود على
الإطلاق إلا إله واحد لا شريك له ، فهو
الإله الجبار
القهار لكل شيء سواه ، وهو مالك جميع السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات ،
والمدبر لها والمتصرف في شؤونها ، وهو القوي العزيز الغالب الذي لا يغلب ولا يقهر
، وإنما يغلب كل ما سواه ، وهو غفار الذنوب لمن أطاعه والتجأ إليه.
والتصديق بالقرآن
وبوعد الله نجاة ، والتكذيب به هلكة وخسران وضياع.
ثم توعد الله
المخالفين أمر الله والرسول ، المعرضين عن القرآن ، فقل أيها الرسول للمشركين : إن
هذا الذي أخبرتكم به من كوني رسولا منذرا ، وأن الله واحد لا شريك له ، وأن القرآن
كلام الله ووحيه أنزله علي : هو خبر عظيم خطير ، لكنكم أنتم معرضون عما أقول ، لا
تتفكرون فيه. وفي هذا توبيخ شديد لهم وتقريع ، لإعراضهم عن دعوة الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم.
والنبأ في كلام
العرب : بمعنى الخبر ، والقرآن : أوثق الأخبار وأعظمها. ثم أخبر الله تعالى بما
يدل على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ومضمون الخبر : الإعلان من النبي : أنه لم يكن له قبل
الوحي القرآني أي علم بأحوال الملأ الأعلى ، وما دار بينهم حين اختلفوا في شأن آدم
عليهالسلام وذريته ، وجعلهم في الأرض ، وامتناع إبليس عن السجود له ،
فلو لا الوحي لم يكن النبي يعلم بتلك الغيبيات. فالدليل على صدق هذا النبي : أنه
يخبر قومه بغيوب ومعلومات قديمة لم تأت إلا من عند الله تعالى ، ومنها أنه لم يكن
له علم بالملإ الأعلى وقت خصومتهم في شأن آدم عليهالسلام ، لولا أن الله تعالى أخبره بذلك.
والملأ الأعلى هنا
: الملائكة أشراف الخلق عدا البشر.
ومما أوحى الله
لنبيه أن يخبر قومه : أنه ما يوحى إليه إلا للإنذار الواضح ، والتبليغ البيّن
القاطع ، لا لأمر آخر من تسلط أو ملك ، أو تحقيق أي مصلحة أخرى.
لقد تجسّدت رسالة
النبي محمد صلىاللهعليهوسلم في الإخبار عن أمور عظيمة : وهي الخبر بتوحيد الله ،
وقدرته ، وتدبيره ، وقهره وغلبته ، وصدق الوحي والقرآن وكونه كلام
الله تعالى ، وحصر
مهمة النبي في الإنذار والتخويف من سوء العذاب ، وقبح العقاب ، وإحقاق الحق ،
وإبطال الباطل ، وإعلان النجاة لمن صدق بالقرآن ، والهلاك والخسران لمن كذب به أو
أعرض عنه.
خلق آدم عليهالسلام وتكريمه
تكرر الإخبار عن
قصة خلق آدم عليهالسلام وإكرامه ، في القرآن الكريم مرات كثيرة ، لأن في بيان تلك
القصة إيحاء واضحا على تكريم الإنسان بتكريم أصله ، وذلك بأمر الملائكة بالسجود له
سجود تحية وتقدير ، لا سجود عبادة وتأليه وتقديس. وكان جميع المأمورين مطيعين أمر
الله تعالى ما عدا إبليس الذي اغتر بعنصريته ، وأنه خلق من نار ، وآدم خلق من تراب
، وعنصر النار المرتفع أقوى وأسمى ، من عنصر التراب الخامد الراكد. وهذا ما صرحت
به الآيات القرآنية الشريفة الآتية التي ختمت بها سورة ص :
(إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ
مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ
(٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما
__________________
أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)) [ص : ٣٨ / ٧١ ـ ٨٨].
المعنى : اذكر
أيها النبي قصة خلق آدم ، حين قال الله تعالى للملائكة : إنني موجد بشرا مخلوقا هو
آدم من طين ، أي تراب مخلوط بالماء ، فإذا أتممت خلقه ، بعثت فيه الحياة وأوجدته
بأن نفخت فيه من روحي ، فاسجدوا له سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة وتأليه
وتقديس.
وقوله تعالى : (مِنْ رُوحِي) إضافة ملك إلى مالك ، لأن الأرواح كلها هي ملك لله تبارك
وتعالى ، وأضيف ذلك إلى الله تشريفا. والنفخ من الروح تمثيل لإفاضة ما تكون به
الحياة ، فليس هناك نافخ ولا منفوخ.
فامتثل الملائكة
أمر الله تعالى ، وسجدوا لآدم بأجمعهم لم يبق أحد منهم ، وفي آن واحد ، لا متفرقين
إلا إبليس امتنع متكبرا متعاظما عن السجود ، وكان بهذا الرفض أو الامتناع كافرا ،
من فئة الكافرين ، لمخالفته أمر الله تعالى ، والخروج عن طاعته.
فقال الله تعالى
على سبيل التوبيخ والإنكار : يا إبليس ما الذي منعك من السجود لآدم ، الذي توليت
خلقه بنفسي ، من غير أب ولا أم ، هل استكبرت عن السجود الآن ، أو كنت من القوم
المتعالين عن ذلك في الماضي؟ والمراد : إنكار الأمرين معا ، وهما رفض السجود
والتعالي عن السجود.
قال إبليس : إنني
خير من آدم ، فإني مخلوق من نار ، وآدم مخلوق من طين ، والنار خير وأشرف من الطين
في زعمه ، لارتفاعها وعلوها ، ولأن التراب عنصر راكد هابط ، لا ارتفاع فيه. وهذا توهم
أن النار أفضل من الطين ، وهو قياس فاسد ، لا يصلح أمام النص أو الأمر الإلهي
بالطاعة والسجود لآدم.
فقال الله تعالى :
فاخرج يا إبليس من الجنة أو من السماء ، فإنك مرجوم
بالكواكب ، مطرود
من رحمة الله ومن إحسانه ، وتنصبّ عليك لعنتي الدائمة وسخطي إلى يوم القيامة.
فأخرج من جنة الخلد : وهي الجنة الحقيقية المخلوقة من القديم جنة السماء ، كخلق
النار ، وأهبط إلى الأرض ، بلا خلاف.
والرجيم : المرجوم
بالقول السيئ ، واللعنة : الإبعاد ، ويوم الدين : يوم القيامة ، والدين : الجزاء.
والمراد بأن اللعنة على إبليس مستمرة دائمة ، مخلّدة. وإنما قيدت بيوم الدين :
ليبين له طريق التوبة قبل يوم القيامة ، وما بعد يوم القيامة واضح أنه لا تقبل
التوبة ، إذ الآخرة ليست دار عمل.
فطلب إبليس قائلا
: رب أمهلني في الحياة ، ولا تحكم علي بالموت إلى يوم البعث ، بعث الأجساد من
القبور ، فأمهله الله وجعله باقيا إلى يوم الوقت المعلوم : وهو عند النفخة الأولى.
وقد طلب إبليس الإمهال إلى يوم البعث ، ليتخلص من الموت ، وذلك إلى وقت الصعق لا
إلى وقت البعث وهو الآن حي مغو مضل. فلما أمن من الموت تمرّد وطغى ، وتحدى قائلا :
أقسم بعزتك ، أي سلطانك وقهرك : لأغوين وأضللنّ بني آدم بتزيين الأهواء والشهوات
لهم ، إلا عبادك منهم الذين أخلصتهم لطاعتك ، وعصمتهم من الضلال.
فأجابه الله قائلا
: فالحق الثابت أنا ، وأقول الحق ، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك جميعا ، ممن أطاعك
وتبع إغواءك. والإغواء : تزيين المعاصي.
وقل أيها الرسول للمشركين
من قومك : لا أطلب منكم أجرا على تبليغي رسالة الله إليكم ، ولست من المتقولين على
الله ، حتى أقول ما لا أعلم أو أدعو إلى غير ما أمر الله تعالى. والتكلف : التصنّع
والاختلاق. وما هذا القرآن إلا تذكرة لجميع العوالم من الإنس والجن ، ولسوف تعرفنّ
خبره وصدق نبأه بعد زمان قريب : إما بعد الموت وإما يوم القيامة.
تفسير سورة الزّمر
تنزيل القرآن وغاياته
تفضل الله تعالى
على عباده بأعظم هدية وأكرم منحة خالدة : ألا وهي تنزيل القرآن الكريم تدريجا في
مبدأ الأمر والوحي الإلهي إلى أن اكتمل وحفظ حفظا تاما في الصدور والكتابة ، من
غير زيادة ولا نقص فيه ، ولا تعديل ولا تبديل لشيء فيه ، وسيظل محفوظا بكفالة الله
وتعهده إلى يوم القيامة ، لأنه منهاج الحياة السديدة ، في العقيدة ، والعبادة ،
والمعاملة ، والأخلاق ، والعلاقات الإنسانية والاجتماعية. أنزله الله بالحق
والميزان ، فأبطل عقائد المشركين الوثنية ، ونفى اتخاذ الله ولدا ، وشرع شرائع
الشرائع ، وأبان الحلال والحرام ، ونظم أصول الحياة والآداب والفضائل ، لينقذ الله
به العالمين من الضلالة إلى النور ، ومن الزيغ والانحراف إلى طريق الهداية
والاستقامة ، قال الله تعالى مبينا مصدر القرآن ، ومحددا غاياته وأهدافه في مطلع
سورة الزمر :
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ
أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ
سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))
[الزمر : ٣٩ / ١ ـ
٤].
__________________
هذا الكتاب العظيم
وهو القرآن الكريم تنزيل من الله تعالى ، العزيز : في قدرته الذي لا يغلب ، الحكيم
في إبداعه وصنعه ، فهو الكتاب الإلهي الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، إنا أنزلنا
أيها النبي الرسول القرآن مقترنا بالحق ، متضمنا إياه ، أي الحق فيه وفي أحكامه
وفي أخباره ، فكل ما فيه حق ، من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع الأحكام
والتكاليف الشرعية ، ولم ننزله مشوبا بالباطل الكاذب الذي لا قرار له.
فاعبد الله وحده
لا شريك له ، وادع الخلق إلى ذلك ، وأخبرهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده ،
وأنه ليس له شريك ولا نظير.
والإخلاص : أن
يقصد العبد بعمله وجه الله تعالى ورضوانه ، ولا يقصد شيئا آخر. والدين : العبادة
والطاعة ، وأساس توحيد الله ، وتنزيهه عن الشريك والنظير.
ألا لله العبادة
والطاعة الخالصة من شوائب الشرك والرياء وغيره ، وأما ما سواه من الدين ، فليس
بدين الله الخالص الذي أمر به.
ومعنى الآية :
الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل. والدين هنا : يعم المعتقدات وأعمال المكلفين
العضوية التي يمارسونها. وقوله سبحانه : (أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ) بمعنى : من حقه ومن واجباته ، لا يقبل غيره.
وأما المشركون
الذين والوا غير الله تعالى ، وعبدوا سواه ، وهي الأصنام أو الكواكب أو الملائكة
أو بعض البشر ، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله تقريبا ، ويشفعوا لنا
عنده في حوائجنا ، فهم في أسوأ عاقبة ، وأقبح مصير ، لذا هددهم الله بقوله : إن
الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة ، ويفصل في خلافاتهم ، ويجزي كل عامل بعمله
، فيدخل الموحدين الجنة ، ويدخل المشركين النار.
قال ابن عباس :
أنزلت هذه الآية : (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) في
ثلاثة أحياء :
عامر وكنانة وبني سلمة ، كانوا يعبدون الأوثان ، ويقولون : الملائكة بناته ،
فقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
ثم أخبر الله
تعالى بما معناه : إن الله لا يهدي الكاذب الكفّار في حال كذبه وكفره ، وعناده
وإعراضه ومبالغته في الكفر والجحود ، ولا يوفقه للاهتداء إلى الحق ، فهو كاذب مفتر
على الله ، في زعمه أن لله ولدا ، وأن تلك المعبودات الباطلة تشفع لعابديها ،
وتقربهم إلى الله تعالى.
ثم رد الله تعالى
على زعم المشركين اتخاذ ولد لله ، بقوله فيما معناه : لو شاء الله اتخاذ ولد ، وهو
لا يحتاج لذلك ، لاختار من جملة خلقه موجوداته ومحدثاته ما يشاء أن يختاره ، ولكان
الأمر على خلاف ما يزعمون ، فيختار أكمل الأولاد وهم الأبناء ، لا البنات كما
زعموا ، والواقع أنه لا موجود سوى الله ، ولا أحد غير الله إلا وهو مخلوق لله ،
ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق. وقوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) أي من موجوداته ومحدثاته.
ثم نزّه الله
تعالى نفسه تنزيها مطلقا عن جميع الشركاء ، فأخبر بقوله : تنزه الله وتقدس عن أن
يكون له ولد ، فإنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي يفتقر إليه كل شيء ،
والذي قهر الأشياء والمخلوقات كلها ، فدانت لعظمته ، وخضعت لسلطانه وهيبته.
عظمة القدرة الإلهية
في مناسبات مختلفة
، يورد الله تعالى البراهين والأدلة الحسية القطعية على وحدانيته ، وقدرته ،
واستغنائه عن مخلوقاته ، ليقتنع اللادينيون من الملاحدة والمشركين بأن الله تعالى
هو وحده الإله الحق ، وأنه القادر على كل شيء ، وأنه
مستغن عن جميع
مخلوقاته وموجوداته ، وتلك الأدلة والبراهين محسوسة مشاهدة ، منها خلق السماوات
والأرضين وما فيهما من العوالم ، وخلق الإنسان من نفس واحدة ، وخلق الأنواع
الثمانية من الأنعام ، وهذه آي كريمة تعبر بجلاء واضح عن هذه الموجودات :
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))
[الزمر : ٣٩ / ٥ ـ
٧].
هذه أدلة ثلاثة
على وحدانية الله وقدرته ، في كل دليل منها ثلاثة أدلة :
الدليل الأول ـ من
عالم السماء والأرض : أبدع الله تعالى عالم السماء والأرض إبداعا بالواجب الواقع
موقعه ، الجامع للمصالح ، فليس في هذا الخلق باطل وعبث ، من غير استعانة بأحد ،
فهو وحده الإله الموجود الذي لا شريك له ولا نظير ، التامّ القدرة ، الكامل
الاستغناء عن غيره.
يلف الليل على
النهار ، ويلف النهار على الليل أو يولج أحدهما في الآخر ، ويعيد من هذا على هذا ،
بنسب متفاوتة تتفق مع أحوال الزيادة والنقصان ، دون الاستمرار
__________________
على مقدار واحد ،
وهو دليل على كروية الأرض ، لأن التكوير : اللف على الجسم المستدير ، وعلى دوران
الأرض حول نفسها مرة ثانية ، لأن تعاقب الليل والنهار لا يتم من غير دوران. ويجعل
الله الشمس والقمر مذللين لأمره بالطلوع والغروب ، يسير كل منهما في فلكه إلى
منتهى معيّن ، وإلى وقت محدد في علم الله تعالى وهو انتهاء الدنيا وقيام القيامة ،
أو انتهاء دورة القمر كل شهر ، ودورة الشمس كل سنة. ألا إن هذا التدبير والخلق من
إله غالب قادر ، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة.
والدليل الثاني ـ من
خلق الإنسان والأنعام ، فإنه سبحانه خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم
وألوانكم من نفس واحدة ، هي آدم عليهالسلام ، ثم جعل حواء من جنسه أو من طينته ، أو خلقها من ضلعه ـ ضلع
آدم القصير ، ثم تكاثر الخلق منهما.
وأمر الله تعالى
بخلق أو إيجاد ثمانية أصناف من الأنعام : وهي الإبل والبقر والغنم والمعز ، جاعلا
من كل صنف ذكرا وأنثى ، ويبتدئ الله خلق الناس في بطون الأمهات في مراحل متدرجة من
الخلق والإبداع ، حيث يكون بدء تكون الجنين من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم
تتكون العظام ، ثم تكسى باللحم والعروق والأعصاب. ومراحل الخلق هذه في ظلمات ثلاث
: هي ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة والأغشية. هذا الذي خلق السماوات
والأرض وما بينهما ، وخلق الإنسان : هو الرب المربي لكم ، الذي له الملك المطلق في
الدنيا والآخرة ، وهو الإله الواحد الذي لا إله غيره ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى
عبادة غيره؟!
وثمرة هذه العبادة
تعود للناس ، فإن تكفروا بالله أيها المشركون ، بعد توافر هذه الأدلة على وجود
الله وتوحيده وقدرته ، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات ، ويغضب الله من كفر
بعض عباده ، ويرضى ويحب شكرهم على نعمه وآلائه ، ويثيبهم
به خيرا ، أي
يقبله منهم. والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان. وبعبارة أخرى : لا يقع الكفر إلا
بإرادة الله تعالى ، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه الله دينا لعباده. واستغناء الله
عن خلقه هو الدليل الثالث على قدرته.
قال ابن عباس عن
هذه الآية : (إِنْ تَكْفُرُوا ..) هذه الآية مخاطبة للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر
قلوبهم. وكلمة (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) هم المؤمنون. ويحتمل أن تكون الآية مخاطبة لجميع الناس ،
لأن الله غني عن جميع الناس.
والمبدأ في
المسؤولية أمام الله : إنما هو المسؤولية الشخصية أو الفردية ، فلا تحمل نفس إثم
أو ذنب نفس أخرى ، والوزر : الثقل ، وإنما كل إنسان مطالب بأمر نفسه ، من خير أو
شر. والجزاء على قدر العمل ، فإن مصيركم جميعا أيها الخلائق إلى ربكم يوم القيامة
، فيخبركم بأعمالكم من خير أو شر ، إنه سبحانه وتعالى خبير بما تخفيه النفوس من
أسرار ، فلا تخفى على الله خافية.
وهذا خبر يتضمن
الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته ، كما يتضمن أيضا أن
مرجعهم في الآخرة إلى ربهم ، أي إلى ثوابه أو عقابه ، فيطلع كل أحد على أعماله ،
لأنه تعالى المطلع على نيات الصدور وسرائر الأفئدة.
الإنسان في وقت المحنة
الإنسان في منهاج
حياته لا يسير على منوال واحد ، ما دام مستكبرا معاندا مكابرا الحقائق ، فتراه يصر
على الكفر بالله بفلسفات بالية وعقائد موروثة ساذجة ، حتى إذا ألم به ضرر ، أو
تعرض لأزمة أو محنة ، بادر إلى الاستعانة بالله تعالى ، والتضرع إليه ، إذ لا يجد
في أصائل نفسه طريقا للفرج إلا الله القوي القادر الذي يكشف الضر ، ويدفع الشر ،
وهذا دليل على تناقض الكافر ، يضرع إلى الله تعالى وقت الشدة ،
ويهمله ويعرض عنه
وقت الرخاء ، أما المؤمن فمنهاجه سواء ، إن أصابه سراء ونعمة شكر ، وإن تعرض لضراء
ونقمة صبر ، فكان خيرا له في كلا الحالين ، مما يدل على ثبات إيمانه ، وصلابة
يقينه وتمسّكه بالمبدأ الذي لا يحيد عنه. قال الله تعالى واصفا الإنسان :
(وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً
مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ
الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
(٩))
[الزمر : ٣٩ / ٨ ـ
٩].
هذه موازنة واضحة
بين الكافر والمؤمن في وقت الرخاء والشدة ، أما الكافر فهو متناقض مضطرب ، إذا
أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف ، تضرع إلى ربه ، تائبا إليه ، مستغيثا به لتفريج
كربه ، ثم إذا أنعم الله عليه بنعمة أو خير ، وصار في حال رخاء ، نسي دعاء الله في
حال الضرر ، أو نسي الله سبحانه وتعالى مطلقا ، ورجع إلى كفره ، وجعل الشركاء
والنظراء أو الأمثال من الأصنام وغيرها شركاء لله ، يعبدها ، ليؤول أمره إلى
الوقوع في دائرة الضلال ، وإضلال غيره عن جادة الحق ، وطريق الإسلام والتوحيد.
والإنسان في هذه
الآية : يراد به الكافر ، بدلالة ما وصفه به آخرا من اتخاذ الأنداد لله تعالى ، ولقوله
سبحانه موبخا ومهددا إياه : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ). وتخويل النعمة : إما في كشف الضر المذكور ، أو يريد أي
نعمة كانت ، واللفظ يشمل الأمرين.
ثم أمر الله تعالى
نبيه أن يقول للكفار ـ على سبيل التهديد ـ قولا ، يخاطب به
__________________
واحدا واحدا منهم
: (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أي تلذّذ به ، واصنع ما شئت مدة قليلة : وهي مدة عمر ذلك
المخاطب ، فإنك في النهاية يوم القيامة مصيرك أن تكون من أصحاب النار ، أي من
سكانها والمخلّدين فيها. وهذا أمر يراد به التهديد.
ثم ذكر الله تعالى
على جهة المقارنة حال المؤمن المخلص ، والمعنى : أذلك القانت خير أم هذا المذكور
الذي يتمتع بكفره قليلا ، وهو من أصحاب النار؟ الجواب واضح وهو أن المؤمن خير.
والقانت : الطائع الخاشع ، المصلي لله في أوقات الليل ، ساجدا خاضعا لربه ، وفي
حال قيامه ، يخاف الآخرة ، ويرجو رحمة ربه ، جامعا بين الخوف والرجاء ، وتلك هي
حقيقة العبادة الكاملة ، التي يفوز بها صاحبها. وهذا دليل على فضل قيام الليل وأنه
أفضل من قيام النهار.
وكما لا يستوي
القانت المطيع الخاشع ، والكافر الجاحد ، لا يستوي أهل العلم والجهل ، إنما يتعظ
بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة والأفكار السديدة ، لا الجهلاء الأغبياء ،
الذين لا يقدّرون الأمور حق قدرها ، ولا يتأملون في مصير المستقبل. نزلت هذه الآية
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) إما في عثمان بن عفان أو في عمار بن ياسر ، أو ابن مسعود
أو سالم مولى أبي حذيفة.
وفي هذه الآية
دلالة واضحة على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين : العلم والعمل ، كما
قال أبو حيان في البحر المحيط ، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
كذلك لا يستوي المطيع والعاصي ، والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله تعالى
، ونجاة العبد من سخطه.
وهذه المقارنة في
معنى مقارنة آتية في السورة نفسها (سورة الزمر) في قول الله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر : ٣٩ / ٢٢].
والقنوت يطلق على
الدعاء ، والطاعة ، أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ،
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت ، فهو الطاعة».
وعن ابن عباس قال
: «من أحب أن يهوّن الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فلينزه الله في سواد الليل
ساجدا وقائما».
طريق الخلاص في الآخرة
إن طريق الخلاص
والنجاة في عالم القيامة محصور في أمور ثلاثة : تقوى الله وطاعته ، وإخلاص الدين
لله ، واجتناب الطواغيت ، أي الأوثان وكل ما عبد من دون الله ، فإذا ملأ الإنسان
قلبه خوفا من الله تعالى ، وبادر لأداء الفرائض والواجبات ، وأخلص النية والعمل
لله ، واجتنب كل ألوان الشرك والوثنية ، كان ناجيا مطمئنا ، مستقرا في جنان الخلد
، عند مليك مقتدر ، وهذا وعد إلهي منجز ، وسبيل متعين للنجاة ، قال الله تعالى
مبينا هذا التوجه الصحيح وأصوله :
(قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي
أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ
فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها
__________________
وَأَنابُوا
إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ
وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))
[الزمر : ٣٩ / ١٠
ـ ٢٠].
المعنى : قل أيها
النبي : يا عباد الله الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا ، اتقوا عذاب ربكم :
باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، فللمحسنين أعمالهم حسنة في الدنيا : وهي الصحة
والعافية والنصر والسلطان ، وإذا لم تتمكنوا من ممارسة مقتضيات التقوى في بلد ،
فهاجروا إلى بلد آخر ، حيث تمكن طاعة الله ، فإن أرض الله واسعة غير ضيقة ، فسيحة
غير مغلقة ، إنما يوفي الله الصابرين في عملهم ثوابهم بغير مكيال ولا وزن ، وبما
لا يقدر على حسابه حاصر وحاسب ، وهذا حض على الهجرة. وهذا وعد من الله تبارك
وتعالى على الصبر على المكاره ، والخروج عن الوطن ، ونصرة الدين ، وجميع الطاعات ،
ومفاد الوعد أن الأجر يوفّى بغير حساب ، أي بغير حصر ولا عدّ ، بل جزافا ، وهذه
استعارة للكثرة التي لا تحصى ، وهذا رأي جمهور المفسرين. يروى أن هذه الآية نزلت
في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة.
ثم أمر الله تعالى
بعد الأمر بالتقوى بالإخلاص في العبادة والطاعة ، فقل أيها النبي : إنما أمرت أن
أعبد الله وحده ، بإخلاص خال من الشرك والرياء وغير ذلك ، وأمرت بأن أكون أول
المسلمين المنقادين لله الخاضعين له ، من هذه الأمة ، في مخالفة دين الآباء
الوثنيين.
وقل للمشركين
الوثنيين : إني أخشى إن عصيت ربي بترك التقوى وإخلاص العبادة
__________________
لله وتوحيده : أن
أتعرض لعذاب شديد الأهوال في يوم القيامة. وأمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له ،
وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما.
ثم قال لهم على
سبيل التهديد والوعيد : اعبدوا ما أردتم عبادته من غير الله ، من الأوثان والأصنام
، فسوف تجازون بعملكم.
ثم قل لهم أيها
الرسول : إنما أهل الخسارة التامة : هم الذين خسروا أنفسهم بالضلالة والشرك
والمعاصي ، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أوقعوهم في الضلال ، وعرّضوهم للعذاب
الدائم يوم القيامة ، وذلك هو الخسران الواضح ، ولا خسران أعظم منه.
ونوع الخسران : أن
لهم طبقات متراكمة من النار الملتهبة ، من فوقهم ومن تحتهم ، ومن كل جانب ، ذلك
العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ، ليرهب به عباده ، فيا
عبادي خافوا بأسي وعذابي واتقوا غضبي. ووعد المؤمنين : هو أن الذين تجنبوا عبادة
الأوثان والشيطان وكل ما عبد من دون ، ورجعوا إلى الله ، لهم البشارة بالثواب
الجزيل : وهو الجنة ، فبشر أيها الرسول بالجنة عبادي المؤمنين الذين يستمعون القول
الحق من كتاب الله ، وسنة رسوله ، فيفهمونه ، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به ، ويعملون
بما فيه. أولئك المتصفون بهذه الصفة هم الموفقون للصواب في الدنيا والآخرة ، وهم
ذوو العقول الصحيحة والآراء السديدة.
وآية (فَبَشِّرْ عِبادِ) نزلت في رجل من الأنصار أعتق سبعة مماليك ، ليعتق نفسه من
أبواب النار السبعة ، وآية : (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) نزلت في ثلاثة نفر موحدين الله في الجاهلية ، وهم زيد بن
عمرو بن نفيل ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي.
ثم واسى الله
رسوله على إعراضهم عن دعوته بما معناه : إنك لا تقدر على هداية
من وجب عليه قرار
العذاب ، ولا تتمكن من إنقاذه من النار. لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء
فرائضه واجتناب معاصيه ، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء ، تجري من تحت تلك
الغرف والقصور أنهار عذبة الماء ، وذلك وعد محقق من الله تنفيذه ، ووعد الله حق
ثابت ، لا نقض فيه ولا رجوع عنه.
حال الدنيا الفانية وتوجيه الهداية
رغّب القرآن الكريم
بالآخرة لخلودها ونعيمها التام ، ونفّر من الدنيا لفنائها وسرعة زوالها ، فهي أشبه
بزرع اخضّر بماء السماء ، ثم اصفر وتهشم ، وأوضح القرآن سبيل الهداية للدين الحق
والنور الإسلامي ، فمن استضاء قلبه بالإسلام ، فهو على نور من ربه ، ومن استنار
بتعاليم القرآن ، ولأن جلده وقلبه لذكر الله تعالى ، فهو على طريق مستقيم. ومن
أعرض عن هدي القرآن ، وانغمس في المعاصي والمنكرات ، فقد عرّض نفسه لسوء العذاب ،
واستحقاق الخزي في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى واصفا أحوال الدنيا وحال
انشراح الصدر بالقرآن :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ
شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ
سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
__________________
وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ
اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))
[الزمر : ٣٩ / ٢١
ـ ٢٦].
المعنى : ألم
تشاهد أيها النبي وكل بشر أن الله أنزل من السحاب مطرا ، فأدخله وأسكنه في الأرض ،
ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء ، ثم تسقى به الأرض ، فيخرج بذلك الماء من الأرض
زرعا مختلفا أنواعه ، من الحنطة والشعير والحبوب الأخرى والخضروات وغيرها ، ثم
ييبس ويجف ، فتراه مصفرا بعد خضرته ، ثم يتكسر ويتهشم ، إن في ذلك المذكور من
إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة.
هذا مثال لحال
الدنيا الفانية ، متاعها زائل ، وبهجتها ذاهبة ، وكل مفكر تفكيرا صحيحا يدرك أن
سرعة زوال الدنيا يدل على قصر عمر الإنسان ، وأنه مهما طال ، لا بد له من الانتهاء
، كما جاء في آية أخرى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص : ٢٨ / ٨٨].
ولا يكون الانتفاع
بهذه المواعظ إلا إذا شرح الله الصدور للإسلام ، ونوّر القلوب بالإيمان ، ولا
يستوي هذا ومن حجب قلبه عن الأنوار الإلهية. أفمن وسّع الله صدره ، فقبله واهتدى
بهدية ، فأصبح مستنير القلب بنور الله ، وهو نور المعرفة ، والاهتداء إلى الحق ،
كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته؟! أي لا يستوي المهتدي للإسلام والحق ،
ومن هو قاسي القلب ، البعيد عن الحق ، فالعذاب الشديد لمن تحجرت قلوبهم عند سماع
ذكر الله ، ولم تخشع لصوت الحق الإلهي ، أولئك قساة
__________________
القلوب في ضلال
واضح عن الحق ، ولا يفهم الكلام إلا بمحذوف يدل عليه الظاهر ، تقديره كالقاسي
القلب والمعرض عن ذكر الله.
ذكر الواحدي في
أسباب النزول : أن هذه الآية نزلت في علي وحمزة رضي الله عنهما ، وأبي لهب وابنه ،
وهما اللذان كانا من القاسية قلوبهم.
و (شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ) استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله تعالى. و «النور»
: هداية الله ، وهي أشبه شيء بالضوء. قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه ابن
مردويه : قلنا : يا رسول الله ، كيف انشراح الصدر؟ قال : إذا دخل النور القلب
انشرح الصدر ، قلنا : وما علامة ذلك؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن
دار الغرور ، والتأهب للموت». والقسوة : شدة القلب.
ثم وصف الله
القرآن الذي يشرح الصدر بأن الله نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن ، لما فيه من
الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة ، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا ، في جمال
النظم وحسن الإحكام والإعجاز ، وقوّة المباني والمعاني ، وبلوغ أرقى درجات البلاغة
، وتثنى فيه القصص ، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه ، ووعد ووعيد ،
ويثنى في التلاوة ، وتقشعر من عظمة آياته وأمثاله ومواعظه جلود الخائفين من الله ،
ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة ، ذلك القرآن الذي هذه صفته
هو هداية الله ، يهدي به من يشاء هدايته وتوفيقه للإيمان ، ومن يخذله الله عن
الإيمان بالقرآن من الفسّاق والعصاة والفجار ، فلا مرشد له. عن ابن عباس : أن قوما
من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر ، فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).
وسبب التمييز بين
المهتدي والضال يظهر في هذه المقارنة ، وهي : أفمن يتقحّم نار جهنم ، فلا يتمكن من
اتقاء العذاب الشديد يوم القيامة ، كمن هو آمن لا يتعرض
لشيء من المخاوف
والمكروهات؟ وحين يقال للكافرين : ذوقوا جزاء ظلمكم وكسبكم من المعاصي في الدنيا.
لقد كذب بعض الأقوام السابقين لقومك رسلهم ، فأتاهم العذاب من جهة لا يترقبون
إتيان العذاب منها ، فأذاقهم الله الذل والهوان في الدنيا بما أنزل من العذاب
والنكال ، كالخسف والمسخ والقتل ، والأسر ، ولعذاب الآخرة أشد وأعظم مما أصابهم في
الدنيا.
ضرب الأمثال في القرآن
من حكمة الله
تعالى ورحمته وفضله : إيراد الأمثال والأشباه الحسية لتوضيح المجملات ، وتقريب
البعيد ، وإقناع الناس ، تخويفا وتحذيرا ، وهذه إحدى خواص القرآن الكريم ، ومن
خواصه أيضا أنه قرآن متلو إلى يوم القيامة ، وأنه عربي اللسان ، وغير ذي عوج ، أي
إنه بريء وبعيد عن التناقض والتعارض. وفيه مثل عجيب للمؤمن الموحد ، والمشرك ، في
أهم الأمور وأعظمها خطرا : وهو التوحيد ، يدل على فساد مذهب المشركين ، وبعدهم عن
المنطق ، فهم إن كانوا يرفضون الشركة في عبد مملوك لهم ، فكيف يجعلون لله الشريك؟!
قال الله تعالى موضحا هذه الخواص :
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))
[الزمر : ٣٩ / ٢٧
ـ ٣١].
ضرب الله الأمثال
المجملة للناس في القرآن الكريم ، والمراد بضرب المثل : تطبيق
__________________
حالة غريبة على
حالة تشبهها ، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن ، وذلك لعل الناس يتعظون ويعتبرون.
ثم وصف الله القرآن بصفات ثلاث : هي كونه قرآنا ، أي مقروءا متلوا في المحاريب إلى
يوم القيامة ، وكونه عربيا بلسان عربي مبين ، أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته ،
وكونه غير ذي عوج ، أي براءته وبعده عن التناقض والتضاد. وقدّم الله تعالى التذكر
على الاتقاء ، لأن من اتعظ بشيء وفهم معناه ، أقبل على ساحة التقوى : بالتزام
المأمورات واجتناب المنهيات والاحتراز من المعاصي والمنكرات.
ثم مثّل الله
تعالى الكافر العابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال عدّة ، في أخلاقهم شكاسة ونقص
وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذّبون هذا العبد ، لأنهم يتضايقون في أوقاتهم ، ويضايقون
هذا العبد في كثرة العمل ، فهو أبدا دائب متعب ، فكذلك عابد الأوثان ، أي ضرب الله
مثلا للمشرك في صنعه ، لا في معبوده ، الذي يعبد أكثر من إله ، بحالة رجل عبد
مملوك يملكه عدد من الرجال ، مختلفون فيما بينهم ، متنازعون في ذلك العبد المشترك
بينهم ، متعاسرون ، لسوء أخلاقهم وطباعهم ، كل له رأي وحاجة ، فإذا طلب كل واحد من
السادة من هذا العبد شيئا أو حاجة ، فما ذا يفعل ، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك
المشرك في عبادته آلهة متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة ، فهو معذب الفكر
بها ، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه ، تفكّر فيما يصنع مع الآخر ، فهو
أبدا في تعب وضلال.
ومثّل الله تعالى
المؤمن بالله تبارك وتعالى وحده ، بعبد لرجل واحد يكلفه شغله ، فهو يعمله على تؤدة
، وقد ساس مولاه ، فالمولى يغفر زلّته ، ويشكره على إجادة عمله ، أي ضرب الله مثلا
آخر للمؤمن بحالة رجل آخر مملوك لشخص واحد ، لا يشاركه فيه غيره ، فإذا طلب شيئا
منه لبّاه دون ارتباك ولا حيرة ، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله ، ولا يسعى
لإرضاء غير ربه ، فهل يكون في طمأنينة أو في حيرة؟.
الحمد لله على
إقامة الحجة على عبدة الأوثان ، وعلى أن الحمد لله لا لغيره ، وعلى التوفيق
للإسلام والحق ، بل أكثر الناس لا يعلمون هذا الفرق ، فيشركون مع الله غيره. وبما
أن أكثر الناس جاهلون بالحق ، لا ينتفعون بهذا المثل ، هدد الله تعالى بالموت ،
فمصير جميع الخلائق إلى الله ، وهو الذي يفصل بينهم في مظالمهم ، والموت عاقبة كل
حي ، فإنك أيها النبي ميت ، وهم سيموتون ، ثم يكون التقاضي عند الله تعالى فيما
اختلفتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك ، فينجي الله المؤمنين الموحدين ، ويعذّب
المشركين المكذبين.
والتخاصم في
الآخرة ليس خاصا بين المؤمنين والكافرين ، وإنما هو حادث بين كل متنازعين في
الدنيا ، فإنه تتكرر المنازعة في الآخرة. وهو دليل على أن النبي محمدا صلىاللهعليهوسلم سيخاصم قومه ، ويحتج عليهم بأنه بلّغهم الرسالة ، وأدى
الأمانة ، وأنذرهم وبشرهم ، وهم يخاصمونه ويعتذرون بما لا معنى له ، وهذا توعد
للمشركين : بأنهم سيتخاصمون يوم القيامة في ردهم شريعة الله ، وتكذيبهم لرسول الله
صلىاللهعليهوسلم.
أخرج الإمام أحمد
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول الخصمين يوم القيامة : جاران».
وعيد المكذبين ووعد المصدقين
ليس هناك بعد الشرك
بالله أسوأ من الكذب ، وإن الذين يفترون الكذب لا يفلحون ، والكذب أخس صفة تؤدي
إلى الطعن بالرجولة ، وتدل على فقد الثقة بالنفس ، وضعف الإنسان ، وتورطه بالنفاق
، لذا كان أسوأ اعتقاد المشركين تكذيب الله تعالى بإثبات ولد له أو شريك ، وتكذيب
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد إثبات صدقه في نبوته ، بالأدلة القاطعة والمعجزات
الباهرة ، فاستحقوا الوعيد في نار
جهنم ، ويقابل ذلك
وعد الصادقين المصدقين بالله ورسوله بمنحهم عند ربهم كل ما يشاءون من الجنة
والنعيم والرضوان ، وإثابتهم أفضل الثواب ، ليقترن الوعد بالوعيد ، وتظهر التفرقة
بين الحالين ، قال الله تعالى مبينا هذا التفاوت :
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ
اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ
اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))
[الزمر : ٣٩ / ٣٢
ـ ٣٧].
من أقبح خصال
المشركين : أنهم يكذبون الله ورسوله ، فلا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فزعم أن له
ولدا أو شريكا ، أو صاحبة ، وحرّم وحلل من غير أمر الله ، وكذّب بما جاء به رسول
الله صلىاللهعليهوسلم من دعوة الناس إلى التوحيد ، والأمر بإقامة فرائض الشرع ،
والنهي عن المحرّمات ، والإخبار بالبعث والنشور والحساب والجزاء.
وهؤلاء في الواقع
يستحقون أشد العذاب ، أليس في نار جهنم الواسعة مقام ومستقر لهؤلاء الكافرين؟!
وفيه دلالة على علة كذبهم وتكذيبهم ، وهو الكفر.
وفي مقابل هذا
الوعيد : يأتي الوعد للمؤمنين ، فالذي جاء بالصدق والقول الحق : وهو رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والذين صدقوا به ، وآمنوا بأنه رسول من عند الله ، وهم
أتباعه المؤمنون ، أولئك لا غيرهم هم الذين اتقوا الله وخافوه ، وتجنبوا الشرك
وعبادة الأوثان.
__________________
وثواب هؤلاء
الصادقين المصدقين : أن لهم ما يطلبون عند ربهم في جنان الخلد ، من رفع الدرجات ،
ودفع الضرر ، وتكفير السيئات ، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم.
قال على بن أبي
طالب رضي الله عنه وجماعة : الذي جاء بالصدق هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، والذي صدّق به : هو أبو بكر رضي الله عنه. وقال قتادة
وابن زيد ، الذي جاء بالصدق : هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، والذي صدّق به هم المؤمنون. وقال مجاهد : هم أهل القرآن.
وعلة هذا الجزاء :
تكفير السيئات ، والمجازاة بأحسن أفعالهم ، أي وعدهم الله تعالى بالجنان ونعمها من
أجل تكفير سيئ عملهم ، وإثابتهم بمحاسن أعمالهم ، وإذا غفر الله لهم أسوأ أعمالهم
، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه : هو الأحسن عند الله تعالى.
وكذلك يكفي الله
المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ، ويمنع عنهم ما يخيفهم ، أليس الله يكفي من عبده
وتوكل عليه؟ فيدفع عنه الويلات والمصائب ، ويحقق له جميع رغائبه. والمراد بعبده : النبي
صلىاللهعليهوسلم وجميع عباد الله. وهذا تقوية لنفس النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأن كفار قريش كانوا خوّفوه من الأصنام ، وقالوا : أنت
تسبّها وتخاف أن تصيبك بجنون أو علة ، فنزلت الآية في ذلك. أي إن المشركين
يخوّفونك أيها النبي بالذي يعبدون من دون الله. وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر صنم العزّى ، فقال سادنها : يا خالد ، إني أخاف عليك منها ، فلها قوّة لا يقوم لها
شيء ، فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها وانصرف .
ثم قرر الله تعالى
: أن الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع ، وأن ما أراد
__________________
من ذلك لا رادّ له
، ثم توعد الله المشركين بعزته وانتقامه ، فكان ذلك والانتقام يوم بدر وما بعده.
أي إن من حقّ عليه
القضاء بضلاله لسوئه وعناده ومكابرته ، ماله من هاد يهديه إلى الرشد ، ويخرجه من
الضلالة ، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما ، فلا مضل له أبدا.
أليس الله بغالب لكل شيء ، قاهر له ، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو سبحانه منيع
الجانب ، قوي البطش ، شديد الانتقام من أعدائه المشركين المكذبين رسوله وأمينه
عليه الصلاة والسّلام.
مناقشة عبدة الأصنام
الإسلام دعوة
الإصلاح الكبرى الشاملة لجميع أبناء البشر ، لذا كان حريصا بصراحته ورحمته
واعتماده على العقل الحر والمنطق الرشيد ، هداية الناس جميعا حتى الوثنيين
البدائيين إلى الدين الحق والعقيدة الصحيحة القائمة على توحيد الله عزوجل ، وإبطال عبادة كل ما لا خير فيه ولا نفع ، ولا دليل من
الواقع عليه ، واعتمد القرآن الكريم في مناقشة عبدة الأصنام على أساسين واضحين :
الأول ـ أن
المشركين لو سئلوا عن خالق السماوات والأرض لأقروا بأنه الله تعالى.
الثاني ـ أن
أصنامهم التي يعبدونها عاجزة عن تحقيق الخير أو دفع الشر.
روي عن مقاتل : أن
النبي صلىاللهعليهوسلم سألهم ، فسكتوا ، فنزل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)
وقال بعض المشركين
: لا تدفع هذه الأصنام شيئا قدّره الله ، ولكنها تشفع ، فنزلت هذه الآيات الآتية :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ
حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))
[الزمر : ٣٩ / ٣٨
ـ ٤٠].
هذا ابتداء احتجاج
على المشركين بحجة حاسمة ، مفادها أن القرآن الكريم انتزع منهم الإقرار بالخالق
المخترع الموجد : وهو الله عزوجل ، وحينئذ لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا : إنها
تضر وتنفع.
فقيل لهم : إذا
أراد الله أمرا ، هل للأصنام قدرة على نقضه؟
والجواب واضح :
وهو أنه لا قدرة للأصنام على شيء من ذلك.
وتقرير الأمرين أو
الأصلين يتبين في معنى هذه الآيات.
لئن سألت أيها
النبي أو أي إنسان المشركين عن خالق السماوات والأرض ، لأقروا على الفور وبصراحة :
بأنه هو الله الخالق ، مع أنهم يعبدون الأصنام.
فإذا أقررتم بأن
الله تعالى خلق الأشياء كلها ، فأخبروني عن هذه الآلهة المزعومة : إن أراد الله
بأحد شيئا من الضّر ، أي الشدة والبلاء ، هل تستطيع هذه الأصنام أن تمنع ما أراده
الله من شدة ، وإن أراد الله بأحد منحه شيئا من الخير والنعمة والفضل والإحسان ،
هل تقدر هذه الأصنام حجب رحمة الله عنه؟ وإذا كانت لا تمنع شرا ، ولا تجلب نفعا ،
فكيف تجوز عبادتها وتعظيمها؟!
ثم أمر الله تعالى
نبيه أن يصدع بالاتكال على الله تعالى ، وأنه حسبه وكافيه من كل
__________________
شيء ومن كل ناصر ،
وأنه هو وحده لا غيره الذي يجب أن يتوكل عليه المتوكلون ، ويفوض إليه جميع الأمور المؤمنون
، ويلجأ إلى الاستعانة به كل البشر أجمعون.
ثم أمر الله نبيه
بأن يتوعد المشركين في قوله : (اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ) أي : قل أيها النبي : يا قوم ، اعملوا ما شئتم ، وافعلوا
ما أنتم عليه من هذه الحال والطريقة التي أنتم عليها ، من معاداة رسالتي ،
والاعتماد على القوة والشدة والثروة ، واجتهدوا في استعمال مختلف أنواع المكر
والكيد ، فإني على حالتي ومنهجي وطريقتي التي أدعو بها إلى توحيد الله ، ونشر دينه
في الآفاق ، ولدى جميع الناس ، فسوف تعلمون وبال ذلك وعاقبته الوخيمة ، وتأملوا
فيمن سيأتيه عذاب يذله ويهينه في الدنيا ، بعد تفاخره وعناده واستكباره ، فيظهر
حينئذ المبطل من المحق ، وسيتعرض لعذاب دائم مستمر ، لا محيد عنه في الآخرة : وهو
عذاب النار يوم القيامة.
وقوله سبحانه : (اعْمَلُوا) لفظ أمر بمعنى الوعيد والتهديد ، والعذاب المخزي : هو عذاب
الدنيا يوم بدر وغيره من الهزائم المنكرة التي تلحق بالمشركين ، والعذاب المقيم :
هو عذاب الآخرة.
إن النظرة العاجلة
السريعة التي يتبين خطؤها عما قريب : هي التي تحمل أهل الشرك والكفر والضلال على
البقاء على ما هم عليه ، وإن النظرة المتأنية المعتمدة على المنطق السديد والعقل
الرشيد هي التي تغيّر المواقف ، وتحوّل أصحاب العقول السوية من طريق الغواية
والانحراف إلى طريق الرشاد والاستقامة.
مظاهر القدرة الإلهية والوحدانية
مظاهر وحدانية
الله تعالى وسلطانه ومقدرته الفائقة تتعدد في الكون والإنسان والحياة وما بعد
الممات في عالم الآخرة ، وأول المظاهر الكبرى للوحدانية والقدرة
الإلهية : إنزال
القرآن الكريم على النبي محمد صلىاللهعليهوسلم وبيان علو مكانته واصطفاء ربه عزوجل له ، ثم الاعلام بقدرة الله على قبض الأرواح بانتهاء
آجالها ، وملكه الشفاعة التي لا تتم إلا بأمره وإذنه. وهناك مظاهر ثلاثة متممة
أخرى ، وهي كون الله مبدع السماوات والأرض ، واتصافه بعلم الغيب والشهادة ، علم
الآخرة والدنيا المشاهدة ، وإظهار أنواع من العقاب غير معروفة ولا محسوبة ، وبيان
آثار السيئات والمعاصي التي يرتكبها الناس ، قال الله تعالى مبينا ذلك :
(إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا
يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ
سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا
يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))
[الزمر : ٣٩ / ٤١
ـ ٤٨].
المعنى : يقرر
الله تعالى أنه أنزل القرآن الكريم بالحق ، أي متضمنا الحق في أخباره وأحكامه ، أو
أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك ، لما فيه من مصلحة العالم وهداية
الناس. وهذا بيان لإقامة الحجة على العباد ، ولم يبق إلا اختيارهم وإقدامهم على
الأخذ به ، فمن عرف الحق وسلك طريقه واتبعه ، فاهتداؤه ومعرفته
لخير نفسه ، ومن
حاد عن الحق وتنكر له ، فضلاله على نفسه ، ووباله على ذاته ، وما أنت أيها الرسول
بموكل على الناس أن يهتدوا ولا يمكنك حملهم على جادة الهداية ، وإنما عليك إبلاغ
الرسالة. ومن المعلوم أن إنزال القرآن هو أول مظاهر قدرة الله وفضله وتوحيده.
والمظهر الثاني :
أن الله تعالى هو الحاكم المطلق على الناس بالموت ، فهو الذي يقبض الأرواح من طريق
الملائكة حين انتهاء آجال أصحابها ، وهي الوفاة الكبرى ، فيمسك تلك الأرواح ، أي
لا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ، ويرسل روح النفس الأخرى التي نامت إلى أجسادها
حين اليقظة ، بأن يعيد إليها إحساسها ، ويبقيها على قيد الحياة ، إلى أجل معين :
هو وقت الموت. إن في ذلك التوفي التام ، وإرسال الروح مرة أخرى لعلامات باهرة على
قدرة الله ووحدانية ، من قوم يتفكرون ويتأملون في ذلك. أما الروح فلا يعلم حقيقتها
إلا الله ، ولا سلطان عليها لأحد غير الله ، لا بتحضير الأرواح أو التنويم
المغناطيسي ولا بغير ذلك : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ١٧ /
٨٥].
بل اتخذ المشركون
من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله؟ لا ينبغي لهم ذلك ، وقل لهم أيها النبي
للرد عليهم : كيف تتخذون تلك الأصنام شفعاء لكم ، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها ،
ولا يعقلون شيئا من شفاعة ولا غيرها ، ولا تدرك تلك الأصنام شفعاء لكم ، وهم لا
يملكون شفاعة ولا غيرها ، ولا يعقلون شيئا من شفاعة ولا غيرها ، ولا تدرك تلك
الأصنام أن الناس يعبدونها. وقل أيضا يا نبي الله : إن الله تعالى هو مالك جميع
أنواع الشفاعة ، وليس لأحد منها شيء فالله هو مالك جميع السماوات والأرض وكل ما
يحدث فيهما ، ثم إليه مصائر جميع الناس بعد البعث ، فيحاسبهم على جميع أعمالهم ،
وفي هذا تهديد ووعيد لمن يعتمد على غير الله في أي شيء.
ومن قبائح
المشركين : إذا ذكر الله وحده ، وأنه لا إله سواه ، انقبضوا وانزعجوا ،
لأنهم لا يؤمنون
باليوم الآخر ، وإذا ذكرت الأصنام كاللات والعزى ، إذا هم يفرحون ويسرّون.
قال مجاهد : نزلت
هذه الآية في قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم سورة النجم عند الكعبة ، وفرحهم عند ذكره الآلهة ، أي عند
قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (١٩) [النجم : ٥٣
/ ١٩].
ثم رد الله تعالى
عليهم بقوله : ادع الله أيها النبي فقل : يا خالق السماوات والأرض ، ويا عالم
الغيب والشهادة (ما غاب عن البشر وما شاهدوه) أنت تحكم بين عبادك في كل ما اختلفوا
فيه. وهذا دليل على العلم التام لله عزوجل.
ثم توعد الله
المشركين بأمور ثلاثة :
أولها : لو أن
هؤلاء المشركين ملكوا جميع خزائن الأرض ومثلها معها ، لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من
ذلك العذاب يوم القيامة.
وثانيها : وظهر
لهم من أنواع العقاب والعذاب المهيأ لهم ما لم يكن في حسابهم ولا خطر في بالهم.
وثالثها : وظهر
لهم جزاء وأثر سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ، وأحاط بهم من العذاب ما كانوا
يستهزئون به في دار الدنيا ، ومن إنذارات النبي صلىاللهعليهوسلم.
سوء الطبع عند الإنسان
من قبائح طبائع
المشركين والكافرين : تنكرهم للنعمة الإلهية حال الرخاء ، ولجوؤهم إلى الله تعالى
حين الشدة والبلاء ، زاعمين بأن الإنقاذ والنعمة يحدثان بمهارتهم وجهدهم ، مع أن
الله تعالى وحده هو مصدر الخير والنعمة والرزق ، وليس جمع الثروة بمهارة الإنسان
وفطنته وخبرته ، ولا ضعفها ولا قلتها بغبائه وخموله ،
وإنما أمر الرزق
بيد الله تعالى بشرط السعي والعمل ، فقد يكون الجهد الكثير ، ولا يحصل سوى الرزق
القليل ، وقد يكون العجز والضعف ، ويسوق الله الرزق الوفير لصاحبه ، على وفق مراد
الله تعالى وحكمته ، وهذا ما دوّنته الآيات الآتية :
(فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ
هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))
[الزمر : ٣٩ / ٤٩
ـ ٥٢].
إن طبع الإنسان
غريب ، فتراه إذا كان كافرا أو مشركا ، وأصابه ضرّ من فقر أو مرض أو غيرهما ،
تضرّع إلى الله تعالى ، واستعان به لكشف الضّر عنه ، حتى إذا منحه الله نعمة من
صحة وعافية وسلامة أو ثروة ومنصب وجاه ، أو غير ذلك ، زعم أنه وصل لذلك بخبرته
ومهارته بأوجه المكاسب والعمل ، أو لأنه يستحق ذلك ، والحقيقة أن الحياة بأوضاعها
كلها ابتلاء وخبرة للناس وامتحان لهم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، ولا
يدركون أن كلّا من النعمة والنقمة اختبار وامتحان ، ففي حال الإنعام ليعرف الشاكر
من الجاحد ، وفي حال الإفقار ليعلم الصابر والمؤمن من الجزع والجاحد ، والجزع :
ضدّ الصبر.
وهذه المقالة من
المشركين ، قالها الذين سبقوهم ، فزعموا هذا الزعم ، وادّعوا هذه الدعاوي مثل
قارون وغيره ، فما صحّ قولهم ، ولم يفدهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا ، ولا
نفعهم جمع المال الكثير.
__________________
ترتّب على هذا
الموقف المباين للصواب والسداد أن يحلّ بهم جزاء المعاصي والسيئات التي اكتسبوها
من الأعمال ، فعوقبوا في الدنيا بعقوبات شتى كخسف الأرض بقارون ، وتدمير عاد وثمود
وقوم لوط ، ولهم أشدّ العقاب أيضا في الآخرة ، وكذلك هؤلاء الظالمون الكافرون من
مشركي مكة حين نزول الوحي وأمثالهم في كل زمان ، سيصيبهم وبال كسبهم منكرات
الأعمال ، وسوء الاعتقاد ، كما أصاب من قبلهم ، من القحط والقتل والأسر والقهر ،
وما هم بمفلتين ولا ناجين بأنفسهم من سلطان الله تعالى ، بل مردّهم ومرجعهم إليه ،
في قبضته وهيمنته ، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة.
إن هؤلاء
المعاندين لرسالة الأنبياء والمعارضين لدعوة الإصلاح ، لا يغني عنهم كسبهم وجمعهم
للأموال ، ولا يغني أمثالهم ، والجميع يستحقون التوعّد ، فأولئك الغابرون ، أصابهم
جزاء ما كسبوا ، وكذلك الذين ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين للنّبي محمد صلىاللهعليهوسلم سيصيبهم ما أصاب المتقدّمين.
ثم قرّر الله
تعالى القرار الحقيقي في أمر الكسب والرزق وسعة النّعم ، وطريقة قسمته بين الناس
على وفق الحكمة والمصلحة للعباد أنفسهم ، وهذا القرار هو : أو لم يعلم المشركون
وأمثالهم أن الله هو الذي يبسط الرزق لقوم ، ويضيّقه على قوم بمشيئته وسابق علمه ،
وليس ذلك لمهارة أحد ولا لعجزه ، إن في ذلك لدلالات واضحات وعلامات قاطعات لقوم
يؤمنون بالله وحده ، ويصدّقون بسلطانه وقدرته الخارقة والشاملة.
وقد خصّ الله
تعالى المؤمنين بأنهم هم الذين ينتفعون بالآيات ويدركون ذلك ، ويقدرون مواقفهم
السديدة في مواجهة الحقّ تعالى ، ويبين هذا أيضا آية أخرى هي قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ
بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧) [الشّورى :
٤٢ / ٢٧].
إن في هذا البيان
الإلهي تقريرا لأمرين : الأول ـ أن الله تعالى هو لا غيره الرازق المتكفّل بأرزاق
المخلوقات من بدء الحياة إلى الموت. والثاني ـ أن قسمة الرّزق بيد الله تعالى ، لا
تكون مرتبطة بالمهارات وضدّها من العجز ، ولا بالإيمان ونقيضه ، ولا بالاستقامة
والطاعة وعكسها.
طريق التجديد والإصلاح
من المعلوم أن
الإنسان مركب على النقض ، معرّض للأخطاء ، فالخطأ ملازم لكل إنسان ، لكن لا يجب
ولا يصح استمرار الخطأ ، وإنما العلاج سهل ويسير ، والتخلص من آثار الزلات
والانتكاسات أمر ليس بالعسير ولا بالشاق ، ألا وهو العودة إلى الله تعالى ، وتجديد
الحياة ، وتصحيح المسيرة بالتوبة الخالصة بين الإنسان وربه ، وإخلاصه العمل له
سبحانه ، والتوجه الصحيح في فهم حقيقة الوجود ، وضرورة الإيمان لكل إنسان ،
والالتزام بأصول الحق والسداد والاستقامة. قال الله تعالى مبينا هذا المنهاج ليفتح
لنا باب الأمل والرجاء :
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ
لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
__________________
بَلى
قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ (٥٩)) [الزمر : ٣٩ / ٥٣
ـ ٥٩].
نزلت هذه الآية
فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا
فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن
لنا توبة ، أو أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت الآية : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً
رَحِيماً)
[الفرقان : ٢٥ /
٦٨ ـ ٧٠] ونزل : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ..)
وهذه الآية عامة
في جميع الناس إلى يوم القيامة ، تشمل الكافر والمؤمن.
المعنى : قل أيها
النبي لقومك : يا عباد الله الذين أسرفوا أو تجاوزوا الحد في المعاصي ، واستكثروا
منها ، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى ، فإن الله تعالى يغفر جميع الذنوب إلا
الشرك الذي لم يتب منه صاحبه ، كما في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤ / ٤٨].
إن الله كثير
المغفرة واسع الرحمة ، فلا يعاقب بعد التوبة ، فإن توبة الكافر تمحو كفره ، وتوبة
العاصي تمحو ذنبه ، ومقتضى ظواهر القرآن : أن الذنب مغفور بالتوبة ولا بد ، لكن
الشرك ليس بمغفور إجماعا ، وكل مغفرة أو عمل مقيد بمشيئة الله.
لكن المغفرة تتطلب
أمرين : التوبة الخالصة لله تعالى ، وإخلاص العمل لله سبحانه ، لذا أمر الله
بالإنابة إليه بالتوبة والطاعة ، واجتناب المعاصي ، وتسليم الأمر لله عزوجل ، والرضا بحكمه وبأمره ، من قبل مجيء عذاب الدنيا ،
والوقوع في الهزيمة المنكرة. ومعنى قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ) : ارجعوا وميلوا بنفوسكم.
وإخلاص العمل لله
لا يكون إلا باتباع القرآن الكريم بإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، والتزام طاعته ،
وتجنب معصيته. ومعنى قوله : (وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ
..) أي التزموا طريق التفهم والطاعة ، واتبعوا أوامر الله
واجتنبوا نواهيه ، فهو أحسن من أن يسلك الإنسان طريق الغفلة والمعصية ، وهذا هو
المعنى المقصود ب (أحسن) وليس معناه أن بعض القرآن أحسن من بعض ، من حيث هو قرآن ،
وإنما وجه الأحسنية : هو بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يجد من عواقبها ، فما يأمر
به الله خير مما يفعله الإنسان بهواه وعقله ، قال السّدي : الأحسن : هو ما أمر
الله تبارك وتعالى به في كتابه.
واتباع أوامر الله
: مطلوب قبل مجيء العذاب فجأة من غير موعد ، والناس غافلون عنه لاهون ، لا يشعرون
به ، وهذا تهديد ووعيد.
وهذا منهج الحكمة
والعقل ، فإن المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح أمر مطلوب قبل فوات الأوان ، وذلك
قبل الندم ، وقبل أن تقول نفس مفرطة في التوبة : يا حسرتاه على التقصير في الإيمان
والطاعة ، وتدبّر القرآن والعمل بأوامره وإرشاداته ، فلقد كان عملي في الدنيا عمل
ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين ، غير مصدّق بالله وحسابه. أو
قبل أن تقول نفس : لو أن الله أرشدني إلى دينه ، لكنت ممن يتقي الله ويجتنب الشرك.
فهذه الجملة (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ) هي من قول الكافر ، مفادها الندامة على استهزائه بأمر الله
، والسّخر : الاستهزاء. أو قبل أن تقول حين معاينة العذاب : ليت لي رجعة أخرى إلى
الدنيا ، فأكون من المؤمنين بالله ، الموحّدين له ، المحسنين في أعمالهم. ثم رد
الله تعالى على أصحاب هذه التأملات بأنه قد جاءت آيات الله في قرآنه تنذر وتحذر ،
فكذبوا بها ، وتكبروا عن اتباعها ، وكانوا من الجاحدين بها ، الكافرين بمضمونها.
إن هذه التحذيرات
من سوء العاقبة مفيدة في الدنيا ، لا في الآخرة ، فإن الدنيا : هي دار التكليف ،
والآخرة هي دار الحساب والجزاء ، وفي الآخرة لا ينفع الندم ، ولا مجال لإصلاح
العمل أو العودة للدنيا لتصحيح الأعمال.
الوحدانية والخلق والجزاء
يجمع الله تعالى
في بضع آيات موضوعات متعددة ، يساند بعضها بعضا ، وتحقق الغاية منها لإصلاح
الإنسان ، وتحذيره من الانحراف والعصيان ، فيكون الوعد بجوار الوعيد ، والنهي
يقابل الأمر ، والترغيب مع الترهيب ، والإخبار بسوء مصير المكذبين بآيات الله ،
ونجاة المتقين في عالم القيامة ، واقتران التذكير بأن الله خالق كل شيء ، مع
التفرد بالسلطان والحساب والجزاء ، والتحذير من إحباط الشرك جميع الأعمال ، والأمر
بعبادة الله وشكره ، وهذا اللون من الجمع بين المتقابلات يتميز به أسلوب القرآن
المتميز بالإعجاز ، وارتقاء المستوى البلاغي والفصاحة إلى أرقى الحدود ؛ لأن
الأشياء تتبين بأضدادها ، قال الله تعالى :
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))
[الزمر : ٣٩ / ٦٠
ـ ٦٧].
هذه ألوان من
الأخبار المتضمنة للوعيد والتحذير والإنذار لمعاصري النبي محمد
__________________
صلىاللهعليهوسلم ومن يأتي بعدهم ،
تتضمن بيان خواص الألوهية والوحدانية ، وكمال العظمة والسلطان والقدرة الإلهية.
أول هذه الخواص :
أن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والإبداع وإيجاد جميع الأشياء في الدنيا والآخرة
، وأنه القائم على جميع الأمور المستقل بها ، الموكل بحفظها وتدبيرها ، والمتولي
إكمالها وتتميمها ، وهذا دليل على أن الله هو الخالق لجميع أعمال الناس.
وأخبر أيها النبي
بخبر مهم جدا : وهو أنك وكل إنسان ترى المشركين يوم القيامة ، الذين كذبوا على
الله في ادعائهم شريكا لله ، وجوههم مسودة مظلمة بكذبهم وافترائهم ، لما شاهدوه من
مآس وأحزان ، وعذاب وسخط ، إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله ،
الذين أبوا الانقياد للحق والطاعة.
وأخبر في مقابل
هؤلاء الجناة للمعادلة والموازنة عن حال المتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي ، فإن
الله تعالى ينجيهم من النار ، ويدخلهم الجنة ، ويحميهم من السوء والكدر ، ومن
الحزن والألم ، فهم آمنون من كل فزع.
وثاني خواص القدرة
الإلهية : أن الله تعالى هو المتصرف والمتحكم في شؤون السماوات والأرض ، وبيده
خزائن الخيرات فيهما : (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذه استعارة يراد بها بيان قدرة الله تعالى المطلقة وتحكم
الله في مخزونات الكون حفظا وتدبيرا ، ومنحا ومنعا ، أو عطاء وحرمانا ، لكن الذين
جحدوا بآيات الله الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ، في أنحاء السماوات والأرض
، أولئك لا غيرهم هم الذين خسروا أنفسهم ، واستحقوا الخلود في النار ، جزاء كفرهم.
وإذا كان الله
تعالى هو المتميز بالوحدانية والقدرة المطلقة ، فيستحق المشركون التوبيخ على ترك
عبادة الله ، والتوجه نحو عبادة الأصنام ، فقل أيها الرسول لكفرة
قومك وأمثالهم :
كيف تأمروني أيها الجهال بعبادة غير الله تعالى؟ بعد قيام الأدلة القطعية على
تفرده بالألوهية ، فهو خالق الأشياء ومدبرها ورازق الأحياء ، فلا تصلح العبادة إلا
له تعالى.
وسبب نزول هذه
الآية : هو كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن المشركين من جهلهم ، دعوا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبادة آلهتهم ، وأن يعبدوا معه إلهه ، فنزلت هذه الآية
: (قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤).
ثم قرّر الله
تعالى مبدأ إعلان الوحدانية الدائم في قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ ..) أي إن أمر المشركين المساومين عجيب ، فلقد أوحي إلى النبي
محمد وإلى كل نبي عليهم الصلاة والسّلام : لئن أشركت مع الله إلها آخر ، ليبطلنّ
عملك ، ولتكونن من الذين خسروا أنفسهم ، وأضاعوا دنياهم وأخراهم. وهذا دليل على أن
الشرك يحبط الأعمال ، ويضيعها هباء منثورا ، ولو كانت خيرا.
ثم أكد الله تعالى
مقتضى الوحدانية بأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن يكون من
الشاكرين نعم الله بالهداية والرسالة النبوية.
أما المشركون :
فلم يقدروا الله حق قدره ، أي لم يعظموه حق تعظيمه ، حين عبدوا معه إلها آخر ، فإن
الأرض كلها تحت سلطان الله وتصرفه وملكه والسماوات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته ،
تنزه الله عما يشركون به من الشركاء. والمراد باليمين والقبضة في الآيات : أنها
عبارة عن القدرة والقوة.
وسبب نزول هذه
الآية كما روى الطبري : هو الرد على رهط من اليهود حين أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا محمد ، هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه؟ فغضب
النبي ، ثم جاءه الجواب عما سألوا عنه بنزول سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) فلما تلاها
عليهم النبي قالوا : صف لنا ربك ، كيف خلقه ، وكيف عضده ، وكيف
ذراعه؟ فغضب النبي
صلىاللهعليهوسلم أشد من غضبه الأول ، ثم ساورهم ، فأتاه جبريل فقال مثل
مقاله ، وأتاه بجواب ما سألوه عنه : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) الآية.
نفخة الصور وتوابعها
لكل شيء مخلوق
نهاية ، والدوام والخلود ابتداء وبقاء هو لله تعالى ، والنهاية الحتمية للمخلوقات
جميعها تكون يوم القيامة ، وهي أمر سهل على الله تعالى ، لأن من ملك البدء في الخلق
، أمكنة الإعادة ، وهما سواء بالنسبة للخالق عزوجل ، ونهاية الكون تكون بنفخات ثلاث : الأولى صعقة الفزع ،
وهي ليست مذكورة في الآيات الآتية ، ثم نفخة الصور للإماتة ، ثم نفخة البعث من
القبور ، وهاتان النفختان مذكورتان في الآيات الآتية ، ويتبع ذلك فصل الخصومات أو
المنازعات بين الناس ، على منهج الحق التام والعدل المطلق ، ثم إيصال الحق لصاحبه.
قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث الجسام :
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ
اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا
جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ
يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى
الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها
__________________
وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ
أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)) [الزمر : ٣٩ / ٦٨
ـ ٧٥].
من تمام مظاهر
قدرة الله تعالى : النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء ، والنفخات
ثلاث كما ذكرت : نفخة الفزع ، ولم تتضمنها هذه الآية ، فاذكر أيها النبي حين ينفخ
إسرافيل في الصور للإماتة ، والصور قرن أو بوق ، فيخرّ ميتا جميع أهل السماوات
والأرض ، إلا من شاء الله ألّا يموت حينئذ كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث يموتون
بعد ذلك ، ثم ينفخ إسرافيل نفخة أخرى للبعث من القبور ، فيقوم الناس أحياء من
قبورهم ، ينظرون أهوال يوم القيامة ، وينتظرون ماذا يفعل بهم ، بعد أن كانوا عظاما
بالية ، ورفاتا مفتتة كالتراب.
روي أن بين
النفختين أربعين سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة ، لا يدري الراوي أبو هريرة ذلك ،
كما روى البخاري.
وتكون أحوال
القيامة على النحو التالي :
١ ـ ٤ : تضيء
الأرض في المحشر بتجلي الحق للخلائق لفصل القضاء ، ويوضع سجل أو صحائف الأعمال
لبني آدم بين يدي أصحابها ، إما باليمين أو بالشمال ويجاء بالأنبياء إلى الموقف
ليسألوا عما أجابتهم به أقوامهم ، ويجاء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم ، من
الملائكة الحفظة التي تقيّد أعمال العباد. والشهداء : جمع شاهد ، والمراد بالشهود
: أمة محمد صلىاللهعليهوسلم الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس.
__________________
وتكون توابع الحشر
والنشر والحساب والجزاء كما يلي :
١ ـ ٤ : يقضي الله
بين العباد بالحق والعدل والصدق ، ولا يظلم ولا ينقص شيء من ثوابهم ، ولا يزاد في
عقابهم ، ويكون الجزاء على قدر أعمالهم ، وتوفى أو تعطى كل نفس جزاء ما عملت من
خير أو شر ، والله أعلم من كل أحد بما يفعل العباد في الدنيا ، من غير حاجة إلى
كاتب أو حاسب أو مسجل ، ولكن وضع الكتاب أو صحف الأعمال وشهادة الشهود والأنبياء
لإلزام الناس بالحجة وقطع المعذرة. ثم أبان الله تعالى حال الأشقياء وحال
الأتقياء.
فيساق الكافرون
سوقا عنيفا بزجر وتهديد إلى جهنم ، جماعات متفرقة ، حتى إذا وصلوا إليها ، تفتح
لهم أبوابها السبعة ، ليدخلوها ويعاقبوا فيها. وتقول لهم خزنة النار من الملائكة ،
على وجه التقريع والتوبيخ : ألم يأتكم رسل من جنسكم تأخذون عنهم ، ويتلون عليكم
آيات الله التي أنزلها لإقامة الحجة على صحة ما دعوكم إليه ، ويحذرونكم شر هذا
اليوم ، فأجابوا بقولهم : بلى ، جاءونا وأنذرونا ، ولكن كذبناهم وخالفناهم ، ووجبت
كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك. فتقول لهم الملائكة : ادخلوا في أبواب جهنم
التي فتحت لكم ، مقدّرا لكم فيها الخلود والبقاء والدوام إلى الأبد ، فبئس المقر
الدائم جهنم ، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق.
وأما الأتقياء
الذين اتقوا الشرك ، وهم كل من يدخل الجنة من المؤمنين : فتسوقهم الملائكة إلى الجنة
بإعزاز وتكريم ، جماعات متعاقبة ، حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية ، بعد
تجاوز الصراط فتفتح لهم أبوابها الثمانية ، والواو في قوله : (وَفُتِحَتْ) واو الحال ، للدلالة على فتح الأبواب سابقا ، وعلى الترحيب
بهم ، ولاستعجال السرور قبل الدخول إذا رأوها مفتوحة ، وصيانة لهم عن المذلة التي
يلقاها من يجد الباب مغلقا في وجهه. وتقول لهم خزنة الجنة : سلام لكم من كل آفة
ومكروه ، طابت أعمالكم وأقوالكم وسعيكم في الدنيا ، فادخلوا الجنة ماكثين فيها على
الدوام.
وقال هؤلاء
المؤمنون الأتقياء : الحمد لله الذي أنجز لنا وعده على ألسنة الرسل ، وجعلنا ورثة
جنان الخلد ، ننزل فيها أي مكان شئنا ، فنعم الأجر أجرنا على عملنا ونعم أجر
العالمين : وهو الجنة.
وترى أيها السعيد
أن الملائكة تحيط بالعرش المجيد ، ينزهون الله عن أي نقص أو شبيه ، ويمجدونه
ويعظمونه ، ويفصل بينهم فصلا بالحق والعدل ، ويقولون : سبحان الله وبحمده ، فهو رب
جميع العالمين من إنس وجن.
تفسير سورة غافر
مصدر القرآن الكريم
لقد أدرك الكافرون
من العرب والمؤمنون أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ، لاختلافه التام عن كلام
البشر من أدب وشعر ، ونثر وخطابة ، ولتفوقة في البلاغة والفصاحة ، ولسموه في النظم
والمعنى والانسجام ، إلا أن من لم يؤمن به عائد وتحدى ، حفاظا على المراكز
والمصالح ، ومن بادر إلى الإيمان به ، استجاب لنداء العقل والحكمة ، واختار لنفسه
طريق السعادة والنجاة ، وحمى نفسه من التردي والضياع والخسران. وهذا ما قررته الآيات
الشريفة الآتية بكل ثقة وبداهة في أول سورة غافر أو المؤمن التي هي مكية :
(حم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ
التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ
الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ
لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))
[غافر : ٤٠ / ١ ـ ٦]
__________________
هذه الآيات تبين
مصدر إنزال القرآن : وهو أنه من عند الله ، وتناقش الكفار الذين جادلوا بالباطل ،
لدحض الحق ، فاستحقوا التهديد بالعذاب في النار.
حم : حروف مقطعة
للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها ، وللتحدي بالإتيان بمثل آي القرآن في الفصاحة
والبلاغة ، والإحكام في النظم والمعنى ، لأنه لم يخرج تركيبه عن الحروف العربية ،
مثل هذين الحرفين : حم ، ثم إن تنزيل القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلىاللهعليهوسلم من الله الغالب القوي القاهر ، الواسع العلم بخلقه وبكل
أقوالهم وأفعالهم ، فأنت أيها النبي صادق في قولك : إنك رسول الله ، وإن القرآن من
عند الله. والله منزّل القرآن : هو غافر الذنب الصادر من الإنسان ، وقابل التوبة
الخالصة منه ، وشديد العقاب لمن عاداه ، وذو الفضل والسعة والنعمة والمن بكل نعمة
، ينعم بمحض إحسانه ، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا نظير ، وإليه مرجع
الخلائق كلهم. هذه ست صفات لله عزوجل تضمنت وعيدا بين وعدين ، وعيدا بالعقاب ، ووعدا بمغفرة
الذنب وبالإمداد بالنعم ، وهكذا رحمة الله تعالى تغلب غضبه. قال عمر رضي الله عنه
: «لن يغلب عسر يسرين» مشيرا لقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الشرح : ٩٤ /
٥ ـ ٦].
ولا يخاصم في دفع
آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا بالله ، فهم يجادلون بالباطل ، أي جدالا باطلا
، فلا تغتر أيها النبي أو تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم ، ولا يغتروا
بإملاء الله تعالى لهم ، أي ولا تنخدع بتصرفهم وتمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار
، وتنقلهم في بلاد الله للتجارة وتحقيق الأرباح ، وجمع الأموال ، فإنهم معاقبون
عما قليل ، وعاقبتهم في النهاية : الدمار والهلاك.
ثم ذكر الله تعالى
أن لهم مثلا بمن تقدمهم من الأمم السابقة ، فكما حل العقاب بأولئك ، كذلك ينزل
بهؤلاء ، فلقد كذبت قبل جماعة قريش قوم نوح والأحزاب
(الجماعات) الذين
تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح ، كعاد وثمود وأهل مدين وأصحاب لوط ، وقوم فرعون
وغيرهم ، فإنهم جاهروا بتكذيب الرسل ، فعوقبوا أشد العقاب.
وعزمت كل أمة من
تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه ، لحبسه وتعذيبه ، أو قتله ، أو
طرده ، وجادلوا الرسل بالشبهة المزيفة ، وبباطل القول وزخرف الكلام ، لرد الحق ،
وإبطال الإيمان الصحيح.
وقوله تعالى : (لِيَأْخُذُوهُ) معناه : ليهلكوه ، والأخيذ : القتيل أو الأسير ، فأخذهم
الله ، أو أهلكم ودمرهم.
فانظر كيف كان
عقابي الذي عاقبتهم به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا. فيكون قوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.
ثم أكد الله تعالى
هذا المعنى بقوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ ..) أي وكما أخذت أولئك المذكورين وأهلكتهم ، فكذلك حقت كلماتي
، ووجب عذابي على جميع الكفار ، من تقدّم منهم ومن تأخر ، أنهم أهل النار وسكانها.
وهذه كلها عبارة عن تحتم القضاء عليهم ، فما دام السبب واحدا أو العلة واحدة ، فإن
الجزاء أو العذاب واحد ، وهو استحقاقهم النار.
إن عدالة القرآن
الكريم ، وبيانه البديع ، وقانونه الحق المبرم يتطلب كل ذلك الإذعان لدعوته
وامتثال أمر الله وطاعته ، والحذر من مخالفته وعصيانه ، ولو لم يكن ذلك منهج
القرآن الذي يسوّي بين جميع البشر في الحساب والجزاء ، لما أيقن أهل الإيمان
بقدسيته ، ولما جعلوه بمثابة الروح والقلب والدم في نفوسهم ، بل الذي لا يعلوه شيء
ولا يتقدم عليه شيء.
استغفار الملائكة للمؤمنين
كرّم الله تعالى
أهل الإيمان بأنواع متعددة من التكريم والتشريف ، سواء في الدنيا أو في الآخرة ،
ومن ذلك أن الملائكة حملة العرش والذين هم حول العرش وهم أفضل الملائكة يستغفرون
للمؤمنين ، ويسألون الله تبارك وتعالى لهم الجنة والرحمة. وما أحوج الإنسان إلى
رحمة الله وفضله!! وما أكرم المؤمن الذي يحظى بدعاء الملائكة ، وبقبول الله لهذا
الدعاء المخلص المجاب من رب العزة ، كما جاء في بعض الآيات : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [الفرقان : ٢٥ /
١٦]. أي سألته الملائكة فأجيبوا. وجاء تفسير مجمل هذا الدعاء في آية أخرى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٤٢ / ٥].
وهذا الدعاء والتكريم الملائكي للمؤمنين : هو مضمون الآيات الآتية :
(الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))
[غافر : ٤٠ / ٧ ـ ٩].
المعنى : إن
الملائكة حملة العرش ومن حول العرش وهم الكروبيون أفضل الملائكة ينزهون الله تعالى
عن جميع النقائص ، ويحمدونه على نعمه البالغة ، ويصدّقون بوجود الله ووحدانيته ،
ولا يتكبرون إطلاقا عن عبادته ، ويطلبون المغفرة السابغة للذين آمنوا بالله
وبالغيب ، لا للذين كفروا بالله ومغيباته ، إذ لا يجوز الاستغفار للكفار إلا بمعنى
طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك ، كاستغفار إبراهيم عليهالسلام لأبيه. واستغفار رسول الله صلىاللهعليهوسلم للمنافقين : معناه أن يهديهم الله ثم يستقيموا.
والعرش : أعظم
المخلوقات ، وهو مركز تدبير العالم وهو حقيقة ، الله أعلم به. ومضمون دعاء
الملائكة بالاستغفار هو :
يا ربنا الذي وسعت
رحمتك وعلمك كل شيء ، اغفر واستر واصفح عن المؤمنين الذين تابوا عن الذنوب ،
واتبعوا سبيلك ودينك في القرآن ، واحفظهم من عذاب الجحيم ـ عذاب النار.
ربنا وأدخل
المؤمنين جنات عدن ، أي جنات الإقامة الدائمة التي وعدتهم بها على ألسن الرسل ،
وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم المؤمنين الصالحين ، اجمع بينهم
وبينهم ، تكميلا لنعمتك وفضلك ، إنك أنت القوي الغالب الذي لا يقهر ، الحكيم في
أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك.
روي عن سعيد بن
جبير في تفسير هذه الآية : أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته ، فيقول : أين أبي؟ أين
أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم ، ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم ، وهذه دعوة
الملائكة.
ولم يقتصر دعاء
المؤمنين على طلب إدخال الجنان ، وإنما شمل طلب الحماية من العذاب أو العقاب ، فيا
ربنا احفظ المؤمنين من ألوان العقاب والعذاب وجزاء المعاصي التي ارتكبوها ، بأن
تغفر لهم ، ولا تؤاخذهم بشيء منها ، واحمهم من آثار السيئات ، فمن وقيته من
السيئات يوم القيامة ، فقد شملته برحمتك ، وأنجيته من عذابك ، وذلك هو الفوز
الأكبر الذي لا فوز أفضل منه. وقوله تعالى : (وَقِهِمُ
السَّيِّئاتِ) يحتمل معنيين :
الأول : يحتمل أن
يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم السيئات نفسها حتى لا ينالهم عذاب من أجلها.
الثاني : ويحتمل
أن يكون الدعاء في رفع العذاب اللاحق من السيئات ، أي وقهم جزاء السيئات ، فهو على
هذا على حذف مضاف.
إن فائدة استغفار
الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين هي زيادة الكرامة والثواب ، وتحقق الإجابة
لهذا الدعاء ، لأن دعاءهم وسؤالهم بوعد من الله تعالى ، لا خلف فيه.
ومن مزيد فضل الله
وتكريمه : إخباره في قرآنه المجيد عن هذا العون والمدد : بأن الملائكة تستغفر لأهل
الإيمان ، كما تستغفر أيضا لطلاب العلم ، كما جاء في الحديث النبوي الذي رواه أبو
داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحة والبيهقي عن أبي الدرداء الذي قال :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهّل الله له طريقا
إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ، وإن العالم
ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ..».
أهوال الحساب يوم القيامة
لا يتصور إنسان
تصورا واعيا مدى المخاطر والأهوال والمخاوف التي يتعرض لها الكفرة في عالم الحساب
يوم القيامة ، ولو لا القرآن الكريم الذي رسم صورة مرعبة لحال الكفار في ذلك اليوم
الرهيب ، لما أدركنا تلك الأهوال أو تصورناها ، وإشفاقا على هذا الإنسان المتمرد
في الدنيا عن الإيمان بربه والعمل بأوامر الله ، كيف يتحمل تلك الأهوال وألوان
العذاب والهزات والآلام الشديدة؟! ولكن العلاج سهل وتفادي الويلات المرتقبة أمر
يسير جدا ، وهذه مهمة القرآن الكريم في الإنذار والتحذير ، كما ترسم هذه الآيات :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى
خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ
كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ
الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ
السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ
ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ
مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ
سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))
[غافر : ٤٠ / ١٠ ـ
١٧].
هذه أحوال
الكافرين ، ذكرت عقب بيان أحوال المؤمنين من التكريم بدعاء الملائكة لهم ، ليتبين
الفرق ، وتتبين المعادلة أو الموازنة بين الفريقين على نحو واضح كالشمس ، وهذه
الفوارق هي ما يلي :
ـ تنادي الملائكة
الكفار يوم القيامة ، وهم يعذبون في نار جهنم : بأن تعذيب الله وغضبه عليهم في
الآخرة أشد وأكبر من مقت أنفسهم ولومها على ما قدموا من سوء الأعمال في الدنيا حين
أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى ، ودعوا إليه ، فكفروا وتمردوا.
ـ فيجيب الكفرة
مستغيثين مستنجدين قائلين : يا رب ، لقد أمتنا مرتين حين كنا نطفا في الأصلاب ،
وذرأت في عالم الذر ، وحين صرنا أمواتا بعد حياة الدنيا ، وأحييتنا مرتين أيضا :
حياة الدنيا ، وحياة البعث والنشور من القبور ، فاعترفنا
__________________
بذنوبنا التي اقترفناها
في الدنيا ، من تكذيب الرسل ، والتورط في الشرك ، وإنكار البعث والحساب في عالم
الآخرة ، فهل لنا طريق للخروج من النار والرجوع إلى الدنيا ، لنعمل غير الذي كنا
نعمل؟!
فأجابتهم الملائكة
: ذلكم المقت لأنفسكم ، وتعرضكم للعذاب الذي أنتم فيه على النحو القائم في وضعكم :
لا تغيير فيه ولا تبديل ، ولا رجعة إلى الدنيا ، بسبب أنكم كنتم إذا دعيتم لتوحيد
الله عزوجل في دنياكم ، كفرتم به وتركتم توحيده باستمرار ، وإن يشرك
بالله غيره من عبادة الأصنام ونحوها ، تصدّقوا بالشرك وتجيبوا الداعي إليه ،
فالحكم لله وحده دون غيره صاحب العظمة والجلال ، والتعالي عن المثيل في ذاته
وصفاته ، الأكبر من كل شيء في الوجود.
ومن كمال عظمة
الله وقدرته : أنه سبحانه هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده ، وعلامات قدرته في آيات
الكون العظيمة ، الدالة على مبدعها وخالقها ، وينزل لكم من السماء المطر ، يكون
سببا في الرزق والنماء ، ونتاج الزروع والثمار ، ولكن لا يتعظ بتلك الآيات إلا
الراجع إلى ربه ، الخاشع المطيع ، فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء ، ولو كره
الجاحدون المنكرون منهجكم ذلك.
ومن صفات الله
العالية : أنه رفيع الصفات ، منزه عن مشابهة المخلوقات ، صاحب العرش والسلطان
المطلق ، ينزل الوحي على من يريد من عباده ويصطفيه ، لينذر بهذا الوحي الناس من
العذاب ، يوم اجتماع الخلائق للحساب في محشر القيامة.
ومن صفات القيامة
: أن يوم التلاق أو اجتماع الناس للحساب هو اليوم الذي يكونون فيه ظاهرين للعيان ،
أي مرئيين بالعين المجردة ، لا يسترهم شيء لاستواء الأرض وهم خارجون من قبورهم ،
ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله
الواحد الأحد ،
صاحب القهر والغلبة والقدرة ، لا لأحد سواه من ملك أو رسول أو نبي.
إن يوم القيامة :
هو يوم الجزاء والحساب والعقاب والثواب بحسب عمل كل عامل ، من خير أو شر ، صالح أو
سيئ ، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد ، فلا زيادة في العقاب ، ولا نقص من الثواب ،
وإن الله في هذا الموقف سريع الحساب لعباده على أعمالهم في الدنيا ، فيحاسب
الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة ، كما جاء في آية أخرى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٣١ / ٢٨].
وهذا نص واضح على أن الثواب أو العقاب على اكتساب العبد وعمله ، وعلى إحاطة الله
بالأشياء علما.
إنذارات من مخاوف القيامة
حرص الحق سبحانه
وتعالى في قرآنه على تقويم الإنسان وضمان حياة السعادة والنجاة له ، فقدّم له
الإنذارات المتتالية ، والتحذيرات المتعاقبة ، ولا سيما من أهوال القيامة ومخاطرها
، وهو يوم الآزفة ، ليبادر الناس جميعا للإيمان ، ويتجنبوا الشرك والعصيان ، فإن
فعلوا حققوا الخير لأنفسهم ، وإن تمردوا وعصوا ، جلبوا الدمار والهلاك لذواتهم ،
ولا يغنيهم أي شيء قدموه أو يقدمونه عن الجزاء العادل ، والحساب الرهيب عن سوء
أعمالهم ، وفحش منكراتهم. وإذا كان الأمر خطيرا تفادينا أسبابه ، والسبب النافع
يحقق ثمرة طيبة ، والسبب العقيم يؤدي إلى نتيجة وخيمة ، قال الله تعالى واصفا
إنذاراته :
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ
__________________
وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ
بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))
[غافر : ٤٠ / ١٨ ـ
٢٢].
المعنى : خوّف
أيها الرسول أهل الكفر من يوم القيامة ، ليؤمنوا ويتركوا الشرك والضلال ، حيث تكون
القلوب في ذلك اليوم كأنها زائلة عن مواضعها من الخوف ، وترتفع حتى تصير إلى
الحلوق ، ويكون أصحابها ممتلئين كربا وغما شديدا ، ولا يكون للظالمين الكافرين
قريب ينفعهم ، ولا شفيع يشفع لهم ، أو تقبل شفاعته بهم. وقوله تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) معناه عند الحناجر ، قد صعدت من شدة الهول والجزع.
وهذا يصور حال
الرعب والخوف أو الذعر الذي يكون عليه الكفار يوم القيامة ، والله تعالى يعلم
النظرة الخائنة ، التي ينظرها الإنسان إلى ما حرّم الله عليه ، أي يعلم الاختلاسة
التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه ، ويعلم الله أيضا كل ما تسرّه الضمائر من
أمور خيّرة أو شريرة ،. وما تخفيه الصدور من الرغبات والنوايا والخواطر.
والنظرة الخائنة :
هي النظرة الثانية ، وما تخفي الصدور : أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن للمرء
دفعها. وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ) متصل بقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) لأن سرعة حسابه تعالى للخلق ، إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج
معه إلى رؤية وفكرة ، ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون. والله يحكم بالحكم العادل ،
ويجازي كل
__________________
إنسان بما يستحقه
من خير أو شر. وأما الذين يعبدون الأصنام من غير الله ، فإن أصنامهم لا يتمكنون من
القضاء بشيء ، أو فلا يحكمون بشيء ، ولا يملكون شيئا ، لأنهم لا يعلمون شيئا ، ولا
يقدرون على شيء ، وإن الله هو السميع لكل شيء من الأقوال والبصير بالأفعال ،
فيجازي عليها أصحابها يوم القيامة. وهذا وعيد شديد ، وتحذير رهيب على أقوالهم
وأفعالهم.
ثم أنذر الله
تعالى الكافرين ، وخوّفهم من عقاب الدنيا ، بعد أن حذّرهم من عذاب الآخرة ،
فأرشدهم إلى الاعتبار والاتعاظ بغيرهم ، أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك أيها
النبي محمد ، فينظروا مآل الغابرين المكذبين أنبياءهم ، وما حلّ بهم من عذاب
الاستئصال والانتقام ، مع أنهم كانوا أشد قوة من قومك أهل مكة وأمثالهم ، وأبقى
آثارا ، بما عمروا في دنياهم من حصون وقصور ، وأشادوا من مدن وقلاع ، فأهلكهم الله
بذنوبهم ومنكراتهم ، ولم يكن لهم من الله من واق ، أي ساتر مانع يقيهم السوء ،
ويدفع عنهم العذاب. وهذا تحذير شامل للكافرين في كل زمان ، حيث يجب عليهم أن
ينظروا بما حل بالأقوام الغابرين.
وعلّة هلاكهم
وتدميرهم أو أخذهم وإماتتهم : بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على
الإيمان الحق ، فكفروا بما جاءوهم به ، فأهلكهم الله ، ودمر ديارهم عليهم ، إن
الله ذو قوة شديدة ، وبطش كبير ، وذو عقاب مؤلم جدا ، يفعل كل ما يريد ، لا يعجزه
شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل من متعظ؟
وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى أخذ الله الكفار بذنوبهم ، وإن لم يكن لهم منه
واق أو حافظ مانع. وسبب إهلاك الماضين هو ما عليه قريش في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم ، حيث جاءهم رسول من الله تعالى ، مؤيد بالمعجزات
والبراهين ، فكفروا به ، فأهلكهم الله ، وقد وصف الله نفسه بالقوة وشدة العقاب ،
وكل ذلك وعيد لقريش وأمثالهم.
موقف فرعون من رسالة موسى عليهالسلام
إن الصراع الحاد
بين الخير والشر ، وبين دعوة الإصلاح ومعارضيها أمر قديم في الإنسان ، ولكن مهما
كانت المقاومة شديدة ، فإنه لا يأس ولا قنوط ، فقد يهتدي بعض الراشدين العقلاء ،
ويظل أولو النفوذ والسلطة والمصلحة على غيهم وضلالهم وتمسكهم بمواقفهم ، على الرغم
من معرفة الحق وقوته ، وضعف الباطل وجهالته ، وهذا موقف من هذه المواقف التي
تتصادم فيها دعوة المصلحين مع مصالح المتسلطين ، وهو موقف فرعون من رسالة موسى عليهالسلام ، وصف الله تعالى هذا الموقف بقوله :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ
فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا
اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما
كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ
يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))
[غافر : ٤٠ / ٢٣ ـ
٢٧].
هذه قصة عجيبة في
تاريخ الدعوة إلى الله تعالى ، فيها للنبي صلىاللهعليهوسلم إيناس وتثبيت وأسوة ، وفيها لقريش والكفار وعيد وتخويف
وإرهاب أن يحل بهم ما حلّ بأولئك من النقمة ، وفيها للمؤمنين وعد ، ورجاء بالنصر
والظفر وإدراك عاقبة الصبر.
تبدأ القصة بقسم
الله تعالى أننا : لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الدالة على صدقه ، وأيدناه بحجة بينة
واضحة ، مضمونها تحدي فرعون بالعصا واليد وغيرهما من الآيات
__________________
التسع. أرسلناه
إلى فرعون ملك مصر ، وإلى هامان وزيره ، وإلى قارون كبير الأثرياء في زمانه ،
فقالوا عنه : إنه ساحر مخادع مجنون ، كذّاب فيما زعم أن الله أرسله وخص هؤلاء
الطغاة بالذكر ، لأنهم رؤساء القوم ، وغيرهم تابع لهم ، وشأن المتسلطين المستكبرين
ألا يذعنوا لكلمة الحق والهداية ، حفاظا على مراكزهم وقواهم ومكانتهم بين الأتباع.
فلما أتى موسى عليهالسلام بالحق ، أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله أرسله إلى
فرعون وقومه ، بمعجزاته الظاهرة ، قال الطغاة : عودوا إلى قتل الذكور. وترك النساء
أحياء ، لئلا يكثر جمعهم ، ويضعف شأنهم ، وما مكر الكافرين وقصدهم تقليل خصومهم
إلا في ضياع وذهاب سدى ، لا فائدة منه.
وقال فرعون لقومه
: دعوني أقتل موسى ، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إليهم ، فليمنعه من القتل إن
قدر على ذلك.
وسبب القتل : أني
أخشى عليكم يا شعب مصر أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة
الأصنام ، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده ، أو أن يوقع بين الناس الخلاف
والفتنة والإفساد ، فتكثر الخصومات والمنازعات.
والظاهر من هذا
الموقف لفرعون : أنه بهر بآيات موسى ومعجزاته ، وانهدّ ركنه ، واضطربت معتقدات
أصحابه ، فلجأ إلى التهديد بالقتل. وهذا سلاح الجبّارين المتمكنين من إنفاذ
أوامرهم. فإذا اعتز فرعون بجبروته وبطشه وقوته ، فإن موسى عليهالسلام اعتصم بالله تعالى ، وقال داعيا ربه لما سمع قول فرعون
وتهديده له بالقتل لأنه كان معه في مجلس واحد : إني استجرت بالله ، وعذت به من شره
وشر أمثاله من كل متعاظم متعال مستكبر عن الإذعان للحق ، كافر مجرم لا يؤمن باليوم
الآخر وما فيه من حساب وجزاء.
واستعاذة موسى من
فرعون الذي جمع بين الاستكبار وبين التكذيب بيوم الآخرة والجزاء والحساب ، بسبب
الجرأة على الله تعالى وعلى عباده. وقول موسى : (إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) لحث قومه على مشاركته في الاستعاذة بالله من شر فرعون
وملئه.
وقد ثبت أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا خاف قوما قال : «اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم ،
وندرأ بك في نحورهم».
إن هذه المواجهة
الكلامية الساخنة غير متكافئة في عرف الناس ، فإن فرعون الملك الحاكم الجبار يعتمد
على قوى كثيرة ، وجند مدججين بالسلاح ، وأما موسى بمفرده أو مع أخيه هارون لا
يملكان مثل تلك القوى الظاهرة المادية ، ويحكم الناس عادة على الضعيف بالهزيمة ،
ويغيب عنهم أن الضعيف يتقوى بقوة الله تعالى ، فيتغلب على جميع القوى بتأييد الله
تعالى.
دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليهالسلام
لقد طاش عقل فرعون
وصوابه أمام معجزات موسى عليهالسلام ، فلجأ إلى التهديد بقتل موسى عليهالسلام ، وزاد من ارتباكه واضطرابه مقالة رجل مؤمن من قومه وما
صدع به ، فدافع عن موسى بأوجه ثلاثة :
الأول ـ استنكار
قتل موسى المؤمن بربه.
الثاني ـ تحذير
القوم بأس الله في الدنيا والآخرة بتكذيب الرسل.
الثالث ـ تذكيرهم
بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليهالسلام ، من تكذيب رسالته ورسالة من جاء بعده.
وهذا الدفاع من
رجل هو من آل فرعون أو من أبناء عمه ، كان يكتم إيمانه بالله تعالى ، كان له شأنه
البعيد في إحباط خطط فرعون ، وهو موقف تاريخي خلّده القرآن الكريم ، فرضي الله عن
هذا المؤمن وأمثاله في سجل الخالدين. قال الله تعالى واصفا قصة مؤمن آل فرعون :
(وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ
كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ
لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ
بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما
أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ
وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ
قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ
سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ
يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))
[غافر : ٤٠ / ٢٨ ـ
٣٥].
هذا موقف خالد
لرجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، أثبته الله في المصاحف ، لكلام قاله في مجلس
من مجالس الكفر ، وأثنى عليه إلى الأبد ، لقد قال هذا الرجل : كيف تقتلون رجلا لا
ذنب له إلا أنه قال : الله ربي؟ والحال أنه قد جاءكم
__________________
بالمعجزات
الواضحات الدالة على صدق نبوته ورسالته ، فهذا لا يستدعي القتل ، فتوقف فرعون عن
قتله.
وأضاف الرجل حججا
ستا أخرى لتأييد كلامه وهي :
١ ـ إن كان هذا
الرجل ، أي موسى كاذبا في دعوته ، كان وبال كذبه عليه ، فاتركوه ، وإن كان صادقا
في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقاب الدنيوي والأخروي ،
فاتركوه أيضا في دعوته.
٢ ـ لو كان موسى
مسرفا متجاوزا الحد في قوله ، كذابا في ادعائه النبوة ، لما هداه الله إلى
المعجزات المؤيدة له ، ولخذله الله وأهلكه.
٣ ـ يا قومي ، قد
أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع ، وأنتم الغالبون على بني إسرائيل في مصر ، فمن
الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟! فقال فرعون مجيبا الرجل المؤمن : ما أشير
عليكم إلا بما أرى لنفسي ، وما أدلكم إلا طريق الصواب الذي يحقق الفوز والغلبة ،
وهو قتل موسى.
٤ ـ وقال المؤمن :
إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثل ما أصاب الأقوام الذين تحزّبوا على
أنبيائهم ، وكذبوا رسلهم من الماضين ، مثل عادة قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم
لوط ، فقد حل بهم عذاب الله تعالى ، ولم يجدوا ناصرا لهم ينصرهم ، ولا عاصما يحميهم
، ولا يريد الله إلحاق ظلم بعباده ، فلم يهلكهم بغير جرم شديد أو كبير. وهذا تخويف
بالعذاب الدنيوي.
٥ ـ ثم خوفهم
العذاب الأخروي بقوله : يا قومي ، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة ، حين ينادي
الناس بعضهم بعضا للاستعانة والاستنجاد ، وحين تفرّون هاربين من النار ، لا تجدون
واقيا ولا عاصما مانعا يعصمكم من عذاب الله ويحميكم منه ، ومن يضلّه الله ، فلم
يوفقه للرشد والصواب ، فلا مرشد له غيره.
٦ ـ وأذكركم بأن
تكذيب الرسل موروث لديكم من الأسلاف ، فلقد بعث الله لآبائكم يوسف بن يعقوب
بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه ، فكذبتموه وكذبتم بمن جاء بعده من الرسل ،
وما زلتم في شك مما أتاكم به ، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده ، فكفرتم به
في حياته وبعد موته ، ومثل هذا الضلال وسوء الحال ، يضل الله كل إنسان لإسرافه في
المعاصي وتجاوزه الحدود ، وارتيابه في دين الله. وهؤلاء المرتابون الذي يجادلون في
آيات الله الكونية والدينية ليبطلوها ، بغير حجة واضحة ، كبر أو عظم ذلك الجدل
بغضا عند الله وعند المؤمنين ، لأنه جدال بالباطل ، لا أساس له ، أما مقت الله :
فهو العذاب والغضب ، وأما مقت المؤمنين : فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.
وكما طبع الله على
قلوب هؤلاء المجادلين بالباطل المسرفين ، فكذلك يطبع أو يختم على جميع قلوب
المتكبرين الجبارين.
تحديات فرعون
وإصرار الرجل المؤمن في الدفاع عن موسى
احتدم الجدال بين
فرعون والرجل المؤمن من قومه وأتباعه حول شأن موسى عليهالسلام ، فلجأ فرعون إلى التحدي الحسي ، وإقامة برج شاهق في
السماء للاطلاع على إله موسى ، مقرا به أولا ، ثم مكذبا به ثانيا ، وصمم الرجل
المؤمن على موقفه المدافع عن موسى عليهالسلام ، ونصح قومه ودعاهم إلى الإيمان بالله وحذّرهم من الاغترار
بالدنيا ، وحثهم على العمل للآخرة لدوامها ، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان
بالله تعالى طريق النجاة ، وبين دعوتهم إياه لعبادة الأصنام طريق الهلاك والعذاب ،
وهذا في الآيات الآتية :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ
السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ
أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا
مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا
يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ
(٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى
النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي
بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ
أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي
الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ
النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ
إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا
وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها
غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))
[غافر : ٤٠ / ٣٦ ـ
٤٦].
المعنى : نادى
فرعون وزيره هامان والناظر في أموره قائلا : يا هامان ابن لي قصرا مشيدا عاليا ،
لعلي أصل إلى طريق السماء ، فأبحث عن إله موسى ، وهو لا يريد بذلك إلا الاستهزاء
منه وإنكار رسالته ، وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه بأن له إلها غيري.
ومثل ذلك التزيين
المفرط في الحماقة والبلادة ، زين لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه ، من الشرك
والتكذيب ، فتمادى في الغي والطغيان ، وحجب عن طريق الهدى والعدل والصواب ، ولم
يكن كيده أو مكره إلا في خسار وضياع ، ثم تابع
__________________
مؤمن آل فرعون
مواعظه لقومه ، فقال : يا قومي ، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه ، أدلكم على
طريق الرشاد والخير والسداد : وهو اتباع دين الله وأمره. ثم حذرهم من فتنة الدنيا
وزهّد فيها ، فقال : يا قومي ، ليست هذه الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يستمتع به
قليلا ، ثم يزول وينتهي بالموت ، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود ،
أي إن الدنيا شيء يتمتع به قليلا ، وعلى المرء الرغبة في الآخرة.
من ارتكب معصية ،
فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها ، عدلا من الله ، ومن عمل العمل الصالح : وهو اتباع
أمر الله واجتناب نهي الله ، وهو مصدق بالله وبرسله ، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل
الجنة التي يرزقون فيها رزقا وفيرا بغير عدّ وتقدير ، ولا مقصور على حجم العمل ،
فضلا من الله ونعمة ، أي إن جزاء السيئة مثلها فقط ، وجزاء الحسنة لا يقتصر على
المثل ، بل يتجاوزه لما شاء الله.
ويا قومي ،
أخبروني عنكم ، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة ، بالإيمان بالله
تعالى وعبادته وطاعته وتصديق رسله ، وتدعونني إلى عمل أهل النار ، وهو الشرك
وعبادة الأصنام؟! أي إن الدعاء إلى طاعة الله وعبادته وتوحيده : هو الدعاء إلى سبب
النجاة ، ودعاؤهم إياه دعاء إلى سبب دخول النار. ثم فسر الفرق بين الدعوتين في أن
الواحدة كفر وشرك ، والأخرى دعوة إلى الاعتزاز بالله تعالى وغفرانه.
إنكم تدعونني لأمر
خطير : وهو الكفر بالله والإشراك به ، مما لم يقم أي دليل على صحته وقبوله ، وأنا
أدعوكم إلى الإيمان بالمتصف بصفات الألوهية الحقة ، من العزة الكاملة ، والعلم
الشامل ، والإرادة التامة ، والمغفرة الواسعة ، والتعذيب الشديد ، فآمنوا به يغفر
لكم ويعزكم. وحقا إن دعاءكم لعبادة الأصنام والأنداد ليس لها أي دعوة مستجابة ،
فلا تجيب الداعي ، سواء في الدنيا والآخرة ، والواقع المتحقق أن مرجعنا ومصيرنا
إلى الله بالموت ، ثم بالبعث في الآخرة ، فيجازى كل إنسان
بعمله ، وأن
المسرفين المتجاوزين الحد في المعاصي : هم أهل النار الذين يصيرون إليها.
وسوف تتذكرون
وتدركون صدق قولي لكم من الالتزام بأوامر الله ونواهيه وثمرة نصحي وإرشادي ، حين
ينزل بكم العذاب ، وإني أفوض أمري إلى الله وأستعين به ليعصمني من كل سوء ، فإن
الله مطلع على أمور عباده ، خبير بهم ، فيهدي مستحق الهداية المستعد لها ، ويضل
مستحق الضلالة الحريص عليها.
وأما مصير الرجل
المؤمن من آل فرعون : النجاة ، حيث حفظه الله ، وحماه في الدنيا ، من سوء مكرهم ،
وتآمرهم على قتله ، وأحاط سوء العذاب بآل فرعون في الدنيا بالغرق في البحر ،
وسيعذبون في الآخرة.
ويعرض آل فرعون
بأرواحهم في قبورهم على النار في الصباح والمساء من أيام الدنيا إلى قيام القيامة
، أي إنهم يعذبون في القبور ، ويقال للملائكة يوم القيامة : أدخلوا آل فرعون في
جهنم ، حيث يكون العذاب فيها أشد وأعظم ، قال الهذيل بن شرحبيل والسدي : إن أرواح
آل فرعون في أجواف طير سود ، تروح بهم ، وتغدو إلى النار.
الجدل بين أهل النار
يبادر الإنسان
حينما يقع في فخ الحقيقة والجزاء إلى تقاذف المسؤولية ولوم الآخرين ، وينسى نفسه
وتقصيره ، وذلك في الدنيا ، أو في حال العذاب في نار الآخرة ، وهذا واقع قائم بين
السادة والأتباع ، حيث يشتد الجدل بينهم في ذلك المقر ، ويحاول كل فريق إلصاق
التهمة بغيره والتملص من المؤاخذة ، ولكن لا جدوى ولا فائدة من هذا الجدال ، ولا
يقبل عذر من المقصرين والظلمة ، ويكون الفوز
والنصر المحقق
والمؤكد لأهل الإيمان ، سواء في الدنيا أو في الآخرة ، وصف الله تعالى لنا هذا
اللون من الجدال الذي سيحدث بين أهل النار في الآيات الآتية :
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ
فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا
لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا
رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكارِ (٥٥))
[غافر : ٤٠ / ٤٧ ـ
٥٥].
المعنى : اذكر
أيها النبي لقومك على سبيل العظة والعبرة وقت تخاصم وتجادل الكفار في النار ،
ومنهم فرعون وقومه ، فيقول الأدنياء والأتباع للرؤساء والأشراف والكبراء : إنا كنا
تابعين لكم ، وقد أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، فهل
أنتم تدفعون عنا جزءا من العذاب أو تتحملون عنا بعضه!
فأجابهم
المستكبرون : إننا جميعا في جهنم ، وإن الأمر قد انجزم بحصول الكل منا ومنكم فيها
، وإن حكم الله تعالى قد نفذ واستمر بذلك ، فكيف نغني عنكم؟ فلو قدرنا على دفع شي
من العذاب ، لدفعناه عن أنفسنا ، إن الله قضى قضاءه العادل المبرم بين العباد ،
بأن فريقا في الجنة ، وفريقا في السعير.
__________________
ولما يئس الضعفاء
من السادة ، طلبوا من خزنة جهنم تخفيف العذاب ، فقالوا لهم : ادعوا الله ربكم لعله
أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب. وذلك لأنهم علموا أن الله تعالى لا يستجيب لهم
ولا يسمع دعاءهم.
فرد خزنة جهنم
عليهم على سبيل التوبيخ والإلزام بالحجة : أما جاءتكم الرسل في الدنيا بالحجج
والأدلة القاطعة على توحيد الله تعالى ، والتحذير من سوء العاقبة؟! قالوا : بلى قد
جاءتنا الرسل ، فكذبناهم ، ولم نؤمن بهم ، ولا بما جاؤوا به من الأدلة والمعجزات
على صدقهم.
فقالت لهم الخزنة
تهكما : إذا كان الأمر كما ذكرتم ، فادعوا أنتم لأنفسكم ، فنحن لا ندعو لمن كفر
بالله ، وكذّب رسله ، بعد مجيئهم بالحجج القاطعة ، وليس دعاء الكافرين بالله ورسله
إلا في ضياع وبطلان ، لا يقبل ولا يستجاب. والمراد : فادعوا أيها الكافرون الذين
لا معنى لدعائكم ، وليس دعاؤنا إلا لأهل الحق والإيمان والطاعة.
ثم أخبر الله
تعالى أن ينصر رسله عليهمالسلام والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويوم يقوم الشهود
من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين ، للشهادة بأن الرسل قد بلّغوا الرسالة ،
وأدّوا الأمانة.
وقيام الشهود يكون
حين تقوم القيامة ، حيث لا تنفع معذرة الظالمين المشركين ، ولا تقبل منهم فدية ،
لأن عذرهم واه ، وشبهتهم زائفة ، وهم مطرودون مبعدون من رحمة الله ، ولهم شر ما في
الآخرة : وهو النار والعذاب فيها.
ثم أخبر الله
تعالى عن إرسال الرسل ، فليس محمد صلىاللهعليهوسلم وحده مرسلا ، وليس هو ببدع من الرسل ، فلقد أرسل الله موسى
عليهالسلام بالتوراة والنبوة ، تأنيسا لمحمد عليهالسلام ، وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى عليهالسلام. وكانت
التوراة هادية
لقوم موسى بالشرائع والأحكام ، وأورث الله بني إسرائيل التوراة ، فهو إمام ونبراس
لهم ، وهداية وإرشاد ، وتذكير لأهل العقول السديدة بما فيها من أحكام ، فكأن بعضهم
يرث التوراة عن بعض.
وإذا كان النصر
مقررا في النهاية للرسل وأتباعهم ، فاصبر أيها الرسول محمد على أذى المشركين ، كما
صبر الذين من قبلك من المرسلين ، فإن عاقبة الصبر خير ، ووعد الله بالنصر حق ثابت
لا يخلفه أبدا ، ودوام على الاستغفار لذنبك ، من ترك الأولى والأفضل ، أو أن
المراد أمته ، أي إنه إذا أمر هو بالاستغفار فغيره أولى ، وستكون عاقبة أمرك
كعاقبة أمر موسى ، ونزّه الله تعالى عن كل شريك ونقص ، مقترنا تسبيحك بحمد الله
وشكره ، على الدوام ، في أوائل النهار وأواخره.
أسباب المجادلة في آيات الله وتفنيدها
يلجأ بعض
المتشككين إلى الجدل في آيات الله ، بقصد التشكيك ومحاولة الدفاع عن الباطل ، بغير
حجة مقبولة ، ولا برهان سليم ، وقد يكون الجدل حول إنكار البعث والقيامة ، كشأن
الماديين الملحدين ، ويتعامى هؤلاء جميعا عن حقائق الأشياء وأسباب وجودها ، وعن
الأدلة الكونية الدالة على ضرورة الإيمان بوجود الله وقدرته وحكمته ، وقد ذكر الله
تعالى في الآيات الآتية عشرة أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته ، لإثبات وجود
القيامة ، منها : خلق السماوات والأرض ، فلا يوجد شيء بالصدفة بدون موجد ، ومنها
تعاقب الليل والنهار ، وجعل الأرض قرارا والسماء بناء ، وخلق الإنسان في أحسن صورة
، ورزقه من الطيبات ، واتصاف الله تعالى بالحياة الأبدية الذاتية والوحدانية ،
وهذا ما تضمنته الآيات الآتية بمناسبة الأمر بعبادة الله وطاعته :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ
قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ
الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))
[غافر : ٤٠ / ٥٦ ـ
٦٥].
أخبر الله تعالى
عن أولئك المشركين الكفرة الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ، وهم يريدون
بذلك طمسها ، أنهم ليسوا على شيء فلا حجة لهم ولا سلطان أو برهان مقبولا لهم ، ليس
في صدورهم وضمائرهم إلا التكبر والتعاظم عن قبول الحق ، وحسد النبي محمد صلىاللهعليهوسلم على ما آتاه الله من الفضل والنبوة ، ولا يستطيعون بلوغ
آمالهم بسبب ذلك الكبر ، ولا محققي إرادتهم في أن تكون لهم الرياسة والنبوة بعد
النبي صلىاللهعليهوسلم فاستعذ بالله أيها النبي والتجأ إليه في كل أمورك ، من كل
__________________
مستعاذ منه ، ومن
شرورهم ، لأن الله يسمع أقوالك وأقوال مخالفيك ، وهو بصير بمقاصدهم ونياتهم ،
ومجاز كل واحد بما استوجبه.
ثم وبخ الله تعالى
هؤلاء الكفار المتكبرين على ضلالهم ، وذكّرهم بعظمته وقدرته ، بأدلة كثيرة ، منها
أن خلق السماوات والأرض وما فيهما أكبر بكثير من خلق الناس ، بدءا وإعادة ، ولكن
أكثر الناس لا يعلمون بعظيم قدرة الله ، ولا يتأملون بهذه الحجة الدامغة الدالة
على قدرة الله تعالى.
ومثل المجادل
بالباطل في مواجهة المحق والمتفكر والمتعظ كمثل الأعمى والبصير ، ولا يتساوى
الاثنان ، فلا يتساوى المجادل بالباطل أو الكافر الذي لا يتأمل بآيات الله الكونية
، ولا المجادل بالحق أو المؤمن الذي يتفكر في آيات الله ويتعظ بها. وكذلك لا يستوي
المحسن بالإيمان والذي يعمل الصالحات من أداء الفرائض والطاعات ، والمسيء بالكفر
والعاصي الذي يغفل دور الآيات ويتنكر للطاعات ، فما أقل ما يتذكر كثير من الناس
ويتعظ بهذه الأمثال!
ثم أخبر الله
تعالى عن وقوع القيامة حتما ، فإن يوم القيامة آت لا ريب في مجيئه ووقوعه ، فآمنوا
أيها الناس به إيمانا قاطعا ، لا شك فيه ، ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون ولا
يصدقون بالآخرة.
وطريق النجاة في
الآخرة واضح وهو طاعة الله وعبادته ، وقال الله : من دعاه أجابه ، فالدعاء مخ
العبادة ، وإن الذين يتكبرون ويتعاظمون عن دعاء الله وعبادته وحده ، سيدخلون حتما
جهنم صاغرين أذلاء.
ومن أدلة قدرة
الله على البعث وغيره : أنه سبحانه أوجد تعاقب الليل والنهار وجعل الليل للسكن
والهدوء والراحة ، وجعل النهار مضيئا منوّرا لإبصار الحوائج ، وطلب المعايش ،
ومزاولة الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها من الحرف والمهارات
والخبرات ، وإن
الله تعالى بهذه النعمة وغيرها هو المتفضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون
النعم.
والله وحده هو
الرب المتصرف في كل شيء المدبر لكل أمر ، خالق الأشياء كلها ، لا إله ولا معبود في
الوجود غيره ، فكيف تصرفون أيها المشركون عن عبادته؟! ومثل هذا الانصراف عن عبادة
الله ، يصرف الجاحدون بآيات الله ، المنكرون توحيده.
والله هو الذي جعل
الأرض محل استقرار وثبات ، والسماء مبنية بناء محكما لا خلل فيه ، ولا يتهدم ولا
يتصدع ، وخلق الناس في أحسن صورة ، وأجمل نظام وتقويم ، ورزقهم من طيبات الرزق
ولذائذه ، ذلكم المتصف بهذه الصفات الجليلة : هو الله رب العالمين من الإنس والجن
، المنزه عن جميع النقائص. والله هو الحي الباقي الدائم الذي لا إله غيره ،
فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة ، موحدين له ، صاحب الحمد ، المستحق للشكر
والثناء ، رب العالمين من الملائكة والإنس والجن.
النهي عن عبادة غير الله
حاول المشركون
الوثنيون في مكة استمالة النبي صلىاللهعليهوسلم لمنهاجهم ، وتخفيف حملاته على دين الآباء والأجداد ،
والتوصل إلى أوساط الحلول.
فقال الوليد بن
المغيرة وشيبة بن ربيعة ـ فيما رواه جويبر عن ابن عباس ـ : يا محمد ، ارجع عما
تقول بدين آبائك ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.
قررت هذه الآية
الكريمة النهي الشديد عن عبادة الأصنام والأوثان ، وبيّنت الآيات الآتية بعدها سبب
النهي : وهو البينات التي جاءت النبي صلىاللهعليهوسلم من ربه ، من دلائل الآفاق والأنفس ، قال الله تعالى واصفا
ذلك :
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى
أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))
[غافر : ٤٠ / ٦٦ ـ
٦٨].
جاءت هذه الآيات
الشريفة بعد بيان صفات الله تعالى ، بأنه الحي القيوم ، وذلك يقتضي فساد حال
الأصنام ، وأنها موات جماد هامدة ، ليس فيها شيء من صفات الله تعالى ، التي منها
صدور الأمر من لدنه ، وإيجاد الأشياء ، وتدبير الأمر كله ، وعلمه بالكل ، مما يدل
دلالة قاطعة على أنه حي لا إله إلا هو.
أمر الله تعالى
نبيه صلىاللهعليهوسلم بعد هذا : أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها
الكفار من دون الله سبحانه وتعالى ، وأمر بعدها بالإسلام الذي هو الإيمان
والأعمال.
قل أيها الرسول
لمشركي قومك المكيين : إن الله تعالى ينهاني عن عبادة أحد من غير الله تعالى من
الأصنام والأنداد والأوثان ، حين جاءتني الأدلة القاطعة من آي القرآن والبراهين
العقلية الدالة على التوحيد ، وأمرت بالإسلام لله والانقياد لأوامره ، وإخلاص
الدين له ، وإعلان الإيمان وأداء الأعمال المفروضة ، والاستسلام لرب العالمين من
إنس وجن ، والخضوع له بالطاعة ، والرضا بما أمر ونهى.
ثم ذكر الله تعالى
أربعة أدلة من دلائل الآفاق والأنفس تدل على وحدانية الله وهي :
__________________
أولا ـ إن الله
تعالى خلق أبا الإنسانية الأول آدم عليهالسلام من التراب ، وجعل ذريته أيضا من تراب ، لأن كل مخلوق من
المني ناشئ من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من النبات ، والنبات من الماء
والتراب ، فكان كل إنسان متكونا من التراب ، ثم تكاثر النوع الإنساني بما هو معروف
من النطفة المنوية ، ثم من العلقة (قطعة الدم المتماسكة) ثم من المضغة (قطعة اللحم
المتجمدة) ثم ينفخ فيها الروح ، ويتم ولادة الأطفال ، ثم يبلغ الولد مرحلة النضج
واكتمال العقل والقوة : وهي بلوغ الأشدّ ، ثم الصيرورة إلى مرحلة الشيخوخة والهرم
، وقد يتوفى الله بعض الناس قبل مرحلة الشيخوخة ، إما في الكهولة أو الشباب أو
الطفولة ، وكل هذه المراحل ليتوصل كل إنسان إلى أجله المحدود المقدّر له : وهو وقت
الموت ، ثم وقت القيامة ، ولعلكم أيها الناس تفكرون في هذه المراحل ، وتدركون ما
تتطلبه كل مرحلة من عناية إلهية.
وقوله تعالى بعد
سرد مراحل أو أطوار الخلق الإنساني : (وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلاً مُسَمًّى) يراد به : هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة من الله ، ليبلغ
كل واحد منها أجلا مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ، وليكون معتبرا متعظا ، ولعلكم أيها
البشر تعقلون الحقائق إذا نظرتم في هذا ، وتدبرتم حكمة الله فيه ، ففي هذا
الانتقال والتدرج أو التطور في الخلق دلالة على وجود الله تعالى.
ثانيا ـ أي الدليل
الثاني ـ أن الله هو القادر على الإحياء والإماتة ، فالله وحده هو الذي يحيي
المخلوقات ويميتها ، وهو المتفرد بذلك ، فإذا قضى وقدر أمرا يريد إنفاذه وإيجاده ،
وإخراج المخلوق من العدم ، فإنما يقول له (كُنْ) فيكون ويوجد ، من غير توقف على شيء آخر ، ولا معاناة ولا
كلفة ، أي إن كل مخلوق يوجد بإرادة الله وحده ، مما يدل على وجوده سبحانه.
فقوله تعالى : (فَإِذا قَضى أَمْراً) يراد به إنفاذ الإيجاد وإظهار المخلوق ، وإيجاد الموجودات
هو بالقدرة الإلهية ، واقتران الأمر بالقدرة : هو عظمة في الملك ، وإظهار للقدرة ،
وتخضيع للمخلوقات. وبه يتبين أن إيجاد المخلوق يعتمد على أمرين : الأمر الالهي
بالإيجاد ، وتلبّس القدرة الالهية بإيجاده وإظهاره ، لا قبل ذلك ، ففي حال العدم
لا يظهر الشيء إذ لا يوجد الأمر ، ولا شي بعد الإيجاد ، لأن ما هو كائن ، لا يقال
له : كن.
جزاء المجادلين بالباطل
الحياة الإنسانية
إما أن تزدان وتسمو بمواقف الحق والجرأة والإيمان ، وإما أن تهبط وتنحدر بمواقف
الباطل والكفر والخذلان ، والناس بين هذين الموقفين في مرصد التاريخ ، فإن كانوا
من أصحاب الموقف الأول ، خلّد التاريخ ذكرهم ، وكانوا أسوة الأجيال ، وإن كانوا من
أصحاب الموقف الثاني طواهم التاريخ ، ولم يذكروا إلا للعبرة والشماتة ، وهكذا كان
المعارضون لدعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ورسالته عبرة للتاريخ ، فإنهم جادلوا بالباطل في شأن
الرسالة النبوية والكتاب الذي جاء به ، وكذبوا بهما ، فاستحقوا ويلات العذاب ، كما
تصف هذه الآيات الشريفة :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠)
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
__________________
تُشْرِكُونَ
(٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ
قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥)
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
(٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ
(٧٨))
[غافر : ٤٠ / ٦٩ ـ
٧٨].
هذا موقف
المعاندين أهل الباطل ، فانظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة والدالة
على الإيمان ، والإقرار بالوحدانية والبعث ، كيف يصرفون عنها ويتركون الهدى إلى
الضلال؟
إنهم هم الذين
كذّبوا بالقرآن ، وبرسالات الرسل الداعية إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة لله ،
والشرائع الصالحة لحياة الإنسان ، فسوف يعلمون مصائرهم الوخيمة وعواقب السوء
المترتبة على مواقفهم.
إنهم سوف يعلمون
حين تجعل القيود في أعناقهم ، ويسحبون بالسلاسل في الحميم : وهو الماء المتناهي في
الحرارة ، فيحرقون ظاهرا وباطنا.
ثم يقال لهم من
الملائكة توبيخا وتقريعا : أين الأصنام والشركاء التي كنتم تعبدونها من دون الله؟
قالوا مجيبين : لقد غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا ، بل في الواقع تبينا أننا لم
نكن نعبد شيئا له قيمة وجدوى أو نفع ، ومثل ذلك الضلال ، يضل الله الكافرين على
ممر الزمان ، حيث أوصلتهم إلى النار ، بضلالهم وتركهم سادرين في هذا الضلال ، وعلى
هذا اللون من الاختلاط وبيان فساد الذهن والنظر ، وهذا
__________________
الترتيب ، بكشف
الحقائق ومصادقة الواقع ، واضطراب الأقوال ، واللجوء إلى الكذب ، فيقولون : بل لم
نكن نعبد شيئا.
وذلكم العذاب
اللاحق بهم ، والإضلال بتركهم في ضلالهم ، بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح
بمعاصي الله ، والابتهاج بمخالفة الرسل والكتب الإلهية ، وبسبب موقف البطر والأشر
والتكبر ، فهذا جزاء الشرك والوثنية. وجزاؤكم أيها المشركون الإدخال في أبواب جهنم
السبعة المقسومة لكم ، المؤدية إلى طبقاتها ودركاتها ، كما جاء في آية أخرى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤) [الحجر : ١٥
/ ٤٤].
فبئس موضع الإقامة
والمأوى الذي فيه الهوان والتعذيب لمن تكبر عن آيات الله وبراهينه القاطعة. ثم آنس
الله تعالى نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم ووعده بالنصر بقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي اصبر أيها النبي على تكذيب قومك ، فإن وعد الله بالنصر
عليهم وإظهار أمرك ودعوتك والانتقام منهم كائن واقع لا محالة ، إما في حياتك حيث
تراه وتقرّ به عينك ، وإما بعد موتك ، حيث يصيرون ويرجعون إلى أمرنا وتعذيبنا.
أي إما أن نرينك
في حال حياتك بعض ما وعدناهم به من العذاب ، كالقتل ، والأسر يوم بدر وغيره ، وذلك
بعض ما يستحقونه ، وإما أن نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم ، فإلينا مصيرهم يوم
القيامة. وهذا كما جاء في آية أخرى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢) [الزخوف : ٤٣
/ ٤١ ـ ٤٢].
ثم رد الله على
العرب الذين قالوا : إن الله تعالى لا يبعث بشرا رسولا ، واستبعدوا ذلك ، فلقد
أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين ، من قبلك أيها النبي الرسول ، إلى أقوامهم ، منهم من
أخبرناك بأخبارهم ، وهم أربعة وعشرون ، ومنهم من لم
نخبرك عنهم شيئا ،
ولم يكن لرسول من الرسل الإتيان لقومه بمعجزة خارقة للعادة إلا بأمر أو إذن من
الله له في ذلك ، فإذا حان وقت العذاب في الدنيا أو الآخرة ، قضي بالعدل فيما
بينهم ، وخسر كل مبطل ، وحصل على فساد آخرته. فتكون الآية توعدا لهم ، أو إذا أراد
الله إرسال رسول وبعثة نبي ، قضى الله ذلك ، وأنفذه بالحق ، وخسر المبطلون ، فتكون
الآية على هذا التأويل ردا على قريش في إنكارهم أمر محمد صلىاللهعليهوسلم.
نعم الله وتهديد أهل الجدل بالباطل
لا يمكن لأحد في
العالم عنده مسكة من عقل أن ينكر فضل الله ونعمه على الناس ، لأن الواقع المشاهد
حجة دامغة ، ولا يستطيع أحد إنكاره أو تجاوزه ، وما أكثر الأدلة الحسية الميدانية
من التاريخ في تعذيب المبطلين المكابرين بالمجادلين في آيات الله تعالى ، لذا كان
تحدي الواقع سببا موجبا للتهديد بالعذاب ، وإيقاعه على أولئك المعاندين المغترين
بدنياهم ، المستهزئين بآيات الله ، وإذا وقع العذاب ، حدث الندم الشديد ، ولم ينفع
الإيمان والاعتذار في ذلك الوقت ، كما تصور هذه الآيات :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ
(٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً
فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا
قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ
__________________
(٨٤)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)) [غافر : ٤٠ / ٧٩ ـ
٨٥].
هذه آيات للعبر ،
وتعداد النعم ، والاحتكام للواقع المشاهد ، فالله تعالى جعل لكم أيها البشر
الأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والغنم والمعز. فبعضها في الغالب
للركوب كالإبل ، وبعضها للأكل وحرث الأرض عليها كالبقر ، وبعضها للأكل وشرب اللبن
كالغنم ، وكلها تتكاثر وتتوالد ، ويستفاد من أصوافها وأوبارها.
فكلمة (منها)
الأولى في قوله (لِتَرْكَبُوا مِنْها) للتبعيض لأن المركوب منها هو الإبل خاصة ، وكلمة (منها)
الثانية (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) لبيان الجنس ، لأن الجميع منها يؤكل ، ولكم أيها البشر في
الأنعام منافع أخرى غير الركوب والأكل من صوف وشعر ووبر ، وزبد وسمن ، وجبن وغير
ذلك ، ولحمل الأثقال على بعضها إلى البلاد النائية بيسر وسهولة ، وعلى الإبل
وغيرها في البر ، وعلى السفن في البحر ، تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر.
والله تعالى يريكم
أيها الناس عيانا هذه الآيات والبراهين في الآفاق والأنفس ، والتي هي كلها ظاهرة
دالة على كمال قدرته ووحدانيته ، مما لا سبيل لإنكاره ، فأي آية من آياته الباهرة
تنكرون؟ إنها كلها مشاهدة مرئية ، لا تستطيعون إنكارها ، ففي كل شيء له آية تدل
على وحدانيته ، لذا فإنكم على سبيل التوبيخ كيف تنكرون آية منها؟
ثم احتج الله
تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله ، مع أنهم كانوا أكثر
عددا ، وأشد قوة أبدان وممالك ، وأعظم آثارا في المباني والأفعال من قريش والعرب. أفلم
يسر هؤلاء المشركون المجادلون بالباطل في آيات الله ، فينظروا في أسفارهم كيف كان
مصير الأمم السابقة التي عصت الله تعالى ، وكذّبت رسلها ،
ويشاهدوا آثارهم
القائمة في ديارهم نتيجة العقاب والتعذيب ، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا
، وأقوى منهم أجسادا ، وأوسع منهم أموالا ، وأبقى في الأرض آثارا بالمباني والقصور
والحصون والمزارع والسدود ، فلما حلّ بهم العذاب ، لم ينفعهم مالهم ولا أولادهم ،
ولا أغنى عنهم كسبهم ولا حالهم شيئا ، حين جاءهم عذاب الله وأخذه.
فلما جاءت الرسل
بالحجج والبراهين الواضحة الدالة على صدق نبوتهم ورسالتهم ، أعرضوا عنهم ، ولم يلتفتوا
إليهم ، وفرحوا بما لديهم من العلوم والمعارف ، وهي الشبهات والضلالات الزائفة
التي ظنوها علما نافعا ، وأحاط بهم العذاب من كل جانب ، ونزل بهم من العذاب الذي
كذبوا به ما كانوا يستبعدون وقوعه ، استهزاء وسخرية. وهذا كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) [الروم : ٣٠ / ٧].
ثم أخبر الله
تعالى عن حالة بعض أولئك المعذبين الذين آمنوا بعد تلبّس العذاب بهم فلم ينفعهم
ذلك. إنهم حينما عاينوا وقوع العذاب بهم ، صدقوا بالله ووحّدوه ، وكفروا
بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله ، وهي الأصنام ، فلم ينفعهم إيمانهم
شيئا عند معاينة العذاب وشدة الانتقام ، لأنه إيمان اليأس والإلجاء والقهر ، فهو
إيمان قسري عن إكراه فلا يقبل ، لأنه في تلك الحال لا يبقى مجال للتكليف وقبول
الإيمان.
ثم ذكر الله تعالى
حكمه العام في الأمم ، وهو أن هذا العذاب هو حكم الله وطريقته في جميع من تاب عند
معاينة العذاب بأنه لا يقبل ، وخسر الكافرون وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه
، والكافر خاسر في كل وقت ، ولكن يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
تفسير سورة فصلت أو السجدة
موقف المشركين من القرآن
عارض المشركون
المكيون النبي والقرآن معارضة شديدة ، اتسمت بالعناد والاستهزاء والتحدي ،
فاستحقوا التهديد بقواصف العذاب ، وصواعق العقاب ، يتبين ذلك من سبب نزول أوائل
سورة فصّلت أو سجدة المؤمن ، أو المصابيح ، التي هي مكية بإجماع المفسرين ، يروى
أن عقبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليبيّن له أمر مخالفته لقومه ، وليحتجّ عليه فيما بينه
وبينه ، وليبعد ما جاء به ، فلما تكلم عتبة ، قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (حم) (١) ومرّ في صدر
هذه السورة ، حتى انتهى إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣) فأرعد الشيخ
، وقفّ شعره ، وأمسك على فم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده ، وناشده بالرّحم أن يمسك ، وقال حين فارقه : «والله
لقد سمعت شيئا ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة ، ولقد ظننت أن صاعقة
العذاب على رأسي». وهذه هي بداية هذه السورة :
(حم (١) تَنْزِيلٌ
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ
وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا
عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما
__________________
أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)) [فصلت : ٤١ / ١ ـ ٨].
افتتحت السورة
بالحروف المقطعة : (حم) (١) للتنبيه ولفت
النظر لما يعرض فيها ، وتحدي العرب بإعجاز القرآن المتكون من الحروف العربية
الأبجدية أو الهجائية ، وتقترن هذه الحروف عادة بالكلام عن القرآن ، للدلالة على
الصلة بينه وبين مكوناته العربية ، وذكر هنا أن القرآن الكريم منزل من الله تعالى
المتصف بالرحمة الواسعة والدقيقة ، فقوله تعالى : (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) صفتا رجاء ورحمة لله تعالى. وهذا الكتاب فصلت آياته ، أي
بيّنت بيانا كافيا ، وفسّرت معانيه ، وتميز حلاله وحرامه ، وزجره وأمره ونهيه ،
ووعده ووعيده ، وأنزله الله كتابا مقروءا باللغة العربية ، موضحا لقوم يعلمون أن
القرآن منزل من عند الله ، ويعلمون معانيه لنزوله بلغتهم ، ويعلمون الأشياء ،
ويعقلون الدلائل ويتأملون بنظر ثاقب بمشتملاته.
وهذا القرآن الذي
أنزله الله يبشر المؤمنين بالجنة لاتباعهم له ، وينذر الكافرين بالنار لمخالفتهم
أحكامه ، ولكن أكثر الكافرين أعرضوا عما اشتمل عليه ، من الإنذارات والبشائر ،
لأسباب ثلاثة وهي :
ـ إنهم قالوا :
قلوبنا في أغطية تحجز ما بيننا وبينه ، وفي آذاننا صمم ، أو ثقل سمع يمنعها من
استماعه ، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك ، ويمنعنا من إجابتك ودعوتك ،
فالحجاب : هو مخالفة النبي إياهم ، ودعوته إلى الله تعالى دون أصنامهم ، هذه
الحواجز الثلاثة تمنعنا من قبول دعوة النبي ، فاعمل على دينك وطريقتك ، إننا
عاملون على ديننا وطريقتنا ، ولا نتبعك. فقوله تعالى : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) يحتمل أن يكون القول تهديدا ، ويحتمل أن يكون متاركة محضة.
ثم أمر الله نبيه أن يصدع أو
يجهر بتبليغ
التوحيد والرسالة الإلهية : فقل أيها الرسول مجيبا قومك : ما أنا إلا بشر كواحد
منكم ، لو لا نزول الوحي علي ، وخلاصة هذا الوحي : العلم والعمل ، أما العلم :
فأساسه معرفة توحيد الله ، لأن الله تعالى بدليل خلق الكون وتسييره واحد لا شريك
له ، فاستقيموا إليه على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد ، بالعمل الصالح
والعبادة الخالصة له ، واستغفروه من الذنوب السابقة ، وأولها الشرك بالله تعالى.
ثم هدد الله
المشركين على موقفهم المعارض ، والمناوئ لدعوة التوحيد والحق ، ومضمون التهديد
والوعيد : ويل : كلمة تهديد أو واد في جهنم ، للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها
آخر ، ولا يؤدون الزكاة للمحتاجين لكراهيتهم الناس ، وهم جاحدون بالآخرة ، منكرون
لها. والزكاة : للمحاجين لكراهيتهم الناس ، وهم جاحدون بالآخرة ، منكرون لها.
والزكاة : المال فهي قنطرة الإسلام ، وذلك بالمعنى العام للزكاة ، وإما زكاة النفس
وهي (لا إله إلا الله) أساس التوحيد ، وهذا رأي الجمهور ، كما في قول موسى لفرعون
: (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ
تَزَكَّى) [النازعات : ٧٩ /
١٨]. ويرجح هذا التأويل أن الآية من أوائل السور المكية ، وزكاة المال نزلت
بالمدينة ، فهي زكاة القلب والبدن ، أي تطهيرهما من الشرك والمعاصي.
وبعد تهديد
المشركين ، وعد الله المؤمنين بالنجاة ، وذكر الله حالة الذين آمنوا لمقارنتها
بحال الكفار المذكورين ، ليتبين الفرق. فالذين صدقوا بالله ورسوله ، وعملوا بما
أمر الله تعالى وانتهوا عما نهى عنه ، لهم عند ربهم ثواب غير منقوص أو مقطوع ، أو
لا يشتمل على المنّ والأذى ، فهو من جهة الله تشريف لا منّ فيه ، أما أعطيات البشر
: فهي التي يدخلها المنّ.
وقال السدّي :
نزلت هذه الآية في المرضى والزّمنى (المرضى مرضا يدوم طويلا) إذا عجزوا عن إكمال
الطاعات ، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
التوبيخ على الكفر
في مناسبات قرآنية
كثيرة ، أورد الله تعالى بعض الأدلة على وجوده وتوحيده ، وكمال قدرته وحكمته ، ومن
أهم هذه الأدلة : خلق السماوات والأرض وتقديرها في مدة قليلة ، وأتبع ذلك في بعض
الآيات كما هنا توبيخ المشركين على كفرهم بخالق الأرض والسماء ومخترعهما ، لذا
فإنه آن للبشرية أن ينتهي الشرك من ساحتها. ويتخلصوا من العقائد الباطلة ،
والموروثات الزائفة حتى في عصرنا الحاضر ، وهذا ما تضمنته هذه الآيات الكريمة
الآتية :
(قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً
لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))
[فصلت : ٤١ / ٩ ـ ١٢].
قل أيها النبيّ
لقومك المشركين على سبيل التوبيخ والتقريع : كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في
مقدار يومين ، وتجعلون له شركاء من الملائكة والجن ، والأصنام والأوثان ، فذلك
الخالق المبدع : هو رب العالمين كلّهم من إنس وجن ، وهو مالكهم وخالقهم ومدبّرهم.
والحكمة في خلق
هذه المخلوقات في مدة ممتدة ، مع قدرته على إيجادها في لحظة واحدة : هي إظهار
القدرة في ترتيب ذلك ، حسب شرف الإيجاد أولا فأولا ، وقال قوم : ليعلّم عباده
التأني في الأمور والمهل.
__________________
ورتّب الله تعالى
أوضاع الأرض لتصلح للعيش عليها ، بإيجاد ثلاثة أنواع فيها ، وهي إيجاد الجبال
الثوابت فيها ، لتحقيق الاستقرار والتوازن على سطحها ، وحفظها من الاضطراب ،
ولتخزين المياه والمعادن في باطنها ، والإرشاد للطرق في جنباتها ، وحفظ الهواء
والسحاب لها. ثم جعل الله الأرض مباركة كثيرة الخير ، بما أودع فيها من مصادر
الثروة المعدنية والمائية والزراعية ، وقدّر الله فيها أرزاق أهل الأرض وأقواتهم ،
وما يصلح لمعاشهم من الأشجار والمنافع ، وأتم الله تعالى معايش أهل الأرض في غضون
أربعة أيام ، مع اليومين المتقدمين للخلق والإبداع ، وهذا كما تقول : بنيت جدار
داري في يوم ، وأكملت جميعها في يومين ، أي بالأول ، وجعل الله ذلك الخلق في أربعة
أيام ، مستوية استواء ، بلا نقصان ولا زيادة ، ومستغرقة بالأعمال ، لأجل إجابة
سؤال السائلين عن الأمر ، والاستفهام عن حقيقة وقوعه ، والطالبين ما ينتفعون به ،
فهم في حكم من سأل هذه الأشياء ، إذ هم بحال حاجة إليها.
وكلمة (سواء) مثل
كلمة (عدل) ترد على المفرد والجمع ، والمذكر والمؤنث. وهي مصدر مؤكّد لمضمر هو صفة
لأيام ، أي استوت استواء أو سواء.
ثم عمد الله وقصد
بقدرته واختراعه إلى خلق السماوات وإيجادها ، حسبما تقتضي الحكمة الإلهية ، فقال
للأرض وللسماء : كونا مخلوقتين منقادتين ، خاضعتين للأمر الإلهي ، طائعتين أو
مكرهتين ، فاستجابتا ، وقالتا بلسان الحال أو المقال : أتينا ووجدنا طائعين ، أي
ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف. وبه يتبين أن الله تعالى خلق
الأرض أولا ، ثم خلق السماء بعدها ، ثم بعد السماء ، دحا الأرض ، أي بسطها بحسب
نظرنا ، وهذا توفيق بين هذه الآية ، وآية : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٧٩ /
٣٠].
ثم ذكر الله كيفية
تكوين السماوات ، وهو أنه تعالى أتم خلق السماوات السبع وأحكمهن ، وفرغ منهن في
مقدار يومين ، فأصبح خلق السماوات والأرض في مقدار
أيام ستة ، كما
جاء في آية أخرى : (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٧ / ٥٤]
وغيرها ، قال مجاهد : ويوم من الأيام الستة كألف سنة مما تعدّون ، والراجح أن هذه
الأيام مثل أيام الدنيا.
وأوحى الله في كل
سماء أمرها ، أي جعل فيها النظام الذي تجري عليه الأمور فيها ، وزيّن سماء الدنيا
بكواكب منيرة مضيئة ، مشرقة على أهل الأرض ، متلألئة كالمصابيح ، وجعل المصابيح
زينة ، وحفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع ، ومن الاضطراب في سيرها ، ومن اصطدام
بعضها ببعض ، ذلك النظام البديع هو من ترتيب الله القادر على صنع كل شيء ، القاهر
كل شيء ، والعليم علما تاما بمصالح الخلق وحركاتهم وسكناتهم جميعها.
تهديد المشركين بعذاب الدنيا
لم يترك القرآن
الكريم وسيلة في خطاب المشركين لإقناعهم بوحدانية الله تعالى ، وترك عبادة الأصنام
إلا سلكها ، ونوّع في عرضها ، وأبان ما ينبغي أن يكون عليه العقلاء والسعداء في
وجوب المبادرة إلى سماع النصيحة ، والإقلاع عن عادة الوثنية وسلوكياتها الضالة ،
وطرقها الوعرة ، وما يترتب عليها من خرافات وأساطير ، وحينما لم تجد معهم وسائل
الإقناع والنقاش ، أنذرهم القرآن الكريم بالتعرض لأشد ويلات العذاب وألوان العقاب
، مثل الذي أنزله الله بالأمم السابقة العاتية ، كما تبين هذه الآيات الشريفة :
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ
جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا
بِما أُرْسِلْتُمْ
__________________
بِهِ
كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ
عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى
الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))
[فصلت : ٤١ / ١٣ ـ
١٨].
هذه الآيات من أشد
الإنذارات الإلهية لعبدة الأوثان في مكة حين نزول الوحي ، ومضمونها : فإن أعرضت
قريش والعرب الذين دعوتهم أيها النبي إلى توحيد الله تعالى ، عن الإيمان برسالتك
وعن هذه الآيات البيّنات ، فأعلمهم بأنك تحذرهم من إصابتهم بمثل العذاب الذي أصاب
الأمم التي كذبت ، كما يكذّبون الآن ، وأنهم سيتعرضون لصواعق العقاب والهلاك ، كما
حدث لعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح.
وذلك حين أتتهم
الرسل المتقدمون في الزمان وبعد اكتمال أعمارهم ، والذين بلّغوهم رسالات الله ،
وأمروهم بعبادة ربهم وحده لا شريك له ، فكذبوهم وقالوا لرسلهم : لو شاء ربنا إرسال
الرسل ، لأرسل إلينا ملائكة ، لا بشرا مثلنا ، فإنا بما أرسلتم به أيها الرسل
جاحدون منكرون ، فلا نتبعكم. وقوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ) أي تقدموا في الزمان ، وقوله : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي بعد اكتمال أعمارهم ، وتقدم وجودهم في الزمن.
ثم فصّل الله
تعالى ما حل بقوم عاد وثمود ، فأما قوم عاد في الأحقاف في شمال حضرموت من اليمن ،
فإنهم طلبوا وآثروا ساحة التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق ، بل بالكفر والمعاصي ،
واغتروا بأجسادهم والنعم عليهم ، وقالوا : لا أحد
__________________
أقوى منا حتى
يقهرنا ، فرد الله عليهم على سبيل التوبيخ : أولم يعلموا ، ويتفكروا أن خالقهم
الذي أوجدهم هو أشد منهم قوة ، فإنه الموجد للشيء ، المذهب متى شاء ، وكانوا
جاحدين آيات الله ، فعصوا الرسل ، وأنكروا معجزاتهم وأدلتهم القاطعة المعدّة للنظر
والتأمل ، والمنزّلة من عند الله تعالى.
وعقابهم أن الله
تعالى أرسل عليهم ريحا شديدة التأثير بصوتها ، وشديدة البرد والحر ، في بضعة أيام
مشؤومات متتابعات ، لإذاقتهم عذاب الذل والهوان في الدنيا ، وعذاب الآخرة أشد
إهانة وإذلالا من عذاب الدنيا ، وهم لا يجدون ناصرا ينصرهم ، ولا دافعا يدفع عنهم
العذاب.
وأما قبيلة ثمود
في شمال الحجاز نحو الشام إلى وادي القرى ، فبيّن الله لهم طريق الحق والهدى
والنجاة ، فآثروا العمى ، أي اختاروا الكفر على الإيمان ، وآثروا العصيان على
الطاعة ، وكذّبوا رسولهم ، وعقروا الناقة معجزة صالح عليهالسلام ، فأصابهم العذاب الشديد المهلك المهين ، بسبب تكسبهم
وجناية أيديهم : وهو التكذيب للرّسل ، وجحود رسالاتهم.
وأنقذ الله تعالى
من العذاب صالحا عليهالسلام ومن آمن معه برسالته ، وكانوا متّقين ربهم ، بأداء فرائضه
، وترك معاصيه ، لم يمسّهم سوء ، ولا نالهم من ذلك ضرر أو مكروه.
وهذا الإخبار عن
مصائر الكافرين الجاحدين من عذاب الهوان والإذلال ، وعاقبة من آمن واتقى ونجا
بإيمانه ، ليبين الله الفرق ، ويظهر الشيء ويتميز بضده.
ألم يكف هؤلاء
المشركين إنذار الله تعالى بسوء العذاب ، ألم يفكروا بسوء المصير ، ويوازنوا بينه
وبين مصير المؤمنين؟! ولكن القوم كانوا عمي البصيرة ، أخذتهم العزة بالإثم ، ولم
يتفادوا العقاب الإلهي.
تهديد الكفار بعذاب الآخرة
لم يقتصر القرآن
الكريم على تهديد الكافرين والمشركين بعذاب الهوان والإذلال في الدنيا ، وإنما جاء
التهديد فيه بعذاب القيامة الذي هو أشد وأنكى ، وأدوم وأبقى ، ووصف الله هؤلاء
المهددين بأنهم أعداء الله ، أي الكفار المخالفون لأمره ، وذلك ليكون التهديد أتم
في الزجر والتحذير ، وحمل المعادي على الصلاح والاستقامة ، والرشد والهداية ، ومن
هدّد أو أنذر فقد أعذر ، ولم يبق مجال للوم والندم ، ومحاولة العدول عن الشر
والضلال ، في يوم لا ينفع فيه الندم ، ولا يقبل فيه الإيمان والصلاح ، وهذا ما
أبانته الآيات الشريفة :
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا
أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ
أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ
مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ
(٢٥))
[فصلت : ٤١ / ١٩ ـ
٢٥].
المعنى : واذكر
أيها النبي لقريش حال جمع الكفار الأعداء : وهم المخالفون لأمره ، وسوقهم بعنف في
يوم القيامة إلى النار ، فهم يوزعون ، أي يكفّ ويحبس أولهم على
__________________
آخرهم ، أي يحجز
أولهم حتى يجتمع عليهم آخرهم ، ثم يدفعون إلى أنواع النار. وكلمة (يوم يحشر) منصوب
بفعل مضمر ، تقديره : واذكر يوم.
حتى إذا ما وصلوا
إلى النار ووقفوا عليها ، يسألون عما فعلوا سؤال توبيخ ، فإذا أنكروا شهدت عليهم
جوارحهم من السمع والبصر والجلد ، بما ارتكبوا من ألوان الشرك والمعاصي ، وبما
عملوا في الدنيا من سوء الأعمال ، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة ،
وذلك عند وصولهم إلى جهنم ، فإن الله تعالى سيطلب منهم الإقرار عند ذلك على أنفسهم
، ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم ، فينكرون ذلك ، ويظنون السؤال سؤال استفهام
واستخبار ، فينطق الله جوارحهم بالشهادة عليهم ، فروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أخرجه ابن جرير عن عقبة ـ «إن أول ما ينطق عن
الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح ، فيقول الكافر : تبا لك أيتها الأعضاء ،
فعنك كنت أدافع».
فيتعجب الناس من
نطق جوارحهم ، فيقولون على جهة اللوم لجلودهم حين شهدوا عليهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فقالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته ، فإنه
كما أنطق الألسن في الدنيا ، فكذلك أنطق بقية الأعضاء في الآخرة ، علما بأن الله
أيها البشر خلقكم في المرة الأولى ، وهو قادر على إعادتكم وإرجاعكم إليه ، فإليه
وحده المصير بعد الموت.
ثم تقول الملائكة
بأمر الله سبحانه : لم تكونوا تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر ، خوف أن
يشهد عليكم ، أو لأجل أن يشهد ، من قبل سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، ولكنكم ظننتم ظنا
خطأ أن الله تعالى حال عصيانكم ، لا يعلم كثيرا مما تعلمون من المعاصي ، فتجرأتم
على فعلها. وسبب نزول هذه الآية : هو ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن
مسعود قال : كنت
مستترا بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر ... فتكلموا بكلام ، واختلفوا هل يسمع الله
كلامهم ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ) الآية.
ثم خاطب الله نبيه
محمدا صلىاللهعليهوسلم بما معناه : فإن يصبر أعداء الله ، لم ينفعهم الصبر ، وإن
لم يصبروا ، فهم في النار في الحالين ، وإن يطلب منهم العتبى ، وتسويغ أعمالهم ،
وإبداء أعذارهم ، فليسوا ممن يقبل عذرهم ، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار
التكليف والطاعة والعمل.
ثم أبان الله سبب
بقائهم في الكفر بعد إدمانهم عليه : وهو أن الله سلّط وهيأ لهم شياطين الجن والإنس
وهم القرناء ، فحسّنوا لهم أعمالهم في الماضي والمستقبل ، وزيّنوا لهم أحوال
الدنيا التي بين أيديهم وهي كل ما تقدمهم في الزمن ، وأمور الآخرة التي هي خلفهم ،
وهي معتقدات السوء وكل ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والبعث ، ونحو ذلك مما يقال
فيه : «إنه خلف الإنسان» والمراد أمامه. وثبت عليهم العذاب في جملة أمم كافرة مضت
قبلهم ، مع جملة من الجن والإنس فعلوا كفعلهم ، فوجب لهم العذاب نفسه ، وكانوا
جميعا متساوين في الخسارة والدمار بسبب تكذيبهم وسوء أفعالهم.
جزاء أهل الكفر
أو التشويش عند سماع القرآن وجزاؤه
تعددت مواقف
المشركين المكيين من معاداة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وصد الناس عن دعوته ، وبخاصة عند سماع القرآن الكريم.
فاتفقوا على
التشويش الشديد عند سماع آيات القرآن لصرف الناس عنه ، فقال
بعض قريش كأبي جهل
وغيره ، خشية استمالة القلوب بالقرآن : متى قرأ محمد فلنغطّ نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشّعر والأرجاز ، حتى يخفى صوته ،
ولا يقع الاستماع منه ، وهذا الفعل منهم هو اللّغو ، فنزلت الآيات الآتية :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ
أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ
أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا
مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))
[فصلت : ٤١ / ٢٦ ـ
٢٩].
المعنى : قال بعض
الكفار لبعضهم : لا تستمعوا لهذا القرآن عند تلاوته ، ولا تتأثروا أو تنقادوا له ،
وعارضوه بالكلام اللغو الساقط الذي لا معنى له ، من إنشاد الأشعار ورفع الأصوات
والتصفيق والتصفير ، والتخليط بالخرافات والأساطير ، حتى تغلبوا القارئ على قراءته
، وتطمسوا أمر محمد صلىاللهعليهوسلم وتميتوا ذكره وتصرفوا القلوب عنه.
فهددهم الله تعالى
بأنه ليجازين في الدنيا في بدر وغيرها جميع الكفار بعذاب شديد ، ومنهم كفار قريش ،
الذين يحاولون صد الناس عن سماع القرآن ، ثم يجازينّهم في الآخرة جزاء أقبح
أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وهو الشرك. وهذه آية وعيد لقريش والعذاب الشديد :
هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها والجزاء بأسوأ أعمالهم : هو عذاب الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى
صفة ذلك العذاب بأن ذلك الجزاء لأقبح أعمال الكفار وهو دخول النار ، هو جزاء أعداء
الله الذين كذبوا رسله ، واستكبروا عن عبادته ، فهم
__________________
أهل النار ، وهي
دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها ، ويجزون ذلك الجزاء بسبب جحودهم كون
القرآن من عند الله تعالى. إنهم سيرون عظيم ما حلّ بهم وسوء منقلبهم ، وحين يرون
العذاب ، يطلبون الانتقام ممن أضلوهم وأبعدوهم عن الطريق القويم.
فقال الكفار
طالبين من الله تعالى : ربّنا أرنا من أضلنا من فريقي الجن والإنس ، الذين كانوا
يزينون لنا الكفر والمعاصي ، لندوسهم بأقدامنا أو أرجلنا ، ليكون الفريقان من
الأذلين المهانين ، في الدرك الأسفل من النار. والطلب لكلا نوعي المضلين ، سواء
الذين أضلوا الناس ، وأدى بهم الكفر إلى الخلود في النار ، أو الذين أوقعوا الناس
في المعاصي الكبائر. وكل كافر يطلب إبليس ، وكل مرتكب كبيرة يطلبه أيضا ويطلب
أعوانه من الإنس. وقولهم : (نَجْعَلْهُما تَحْتَ
أَقْدامِنا) يراد به : في أسفل طبقة في النار ، وهي أشد عذابا ، وهي
درك المنافقين.
إن من يحذّره
القرآن بهذا التحذير الذي يملأ النفس رعبا وهلعا ، وكان عنده قليل من عقل أو وعي
أو تأمل ، يبادر إلى البحث عن طريق الإنقاذ ، كحال من يتعرض لخطر مشاهد في الدنيا
من حريق ، أو غرق ، أو هدم ، أو زلزال أو بركان ، إن كل إنسان يبحث عن طريق النجاة
، خوفا من الخطر ، وهذا في الدنيا ، فكيف بأهوال العذاب الخالد (الدائم) في نيران
الجحيم يوم القيامة.
إن الإنسانية التي
تريد النجاة الدائمة والحفاظ على وجودها لا يمكنها تحقيق آمالها ، وتجنب آلامها
ومخاطر المستقبل ، إلا بالإصغاء التام لنداءات القرآن العظيم وتوجيهاته ومواعظه
السديدة وإرشاداته البليغة ، وحين يستجيب الإنسان لهذا النداء الإلهي تصبح الحياة
جنة في الدنيا ، ويتخلص الجميع من الآلام وألوان الشقاء والعذاب الذي يتعرضون له ،
فهل من واع أو مدرك لهذا؟!
جزاء أهل الاستقامة
الاستقامة على
منهاج الحق والخير وطاعة الله تعالى. دليل على توافر العقل والوعي. والرجولة
والشجاعة والعزة والكرامة ، والانحراف عن ذلك المنهاج أمارة واضحة على الجهالة
وقلة الوعي وضعف الإدراك ، والجبن والمهانة ، والانصياع للذّات والأهواء والشهوات
، فما استقام أحد إلا نجا وأفلح ، وكان متماسك الشخصية ، قوي العزيمة والإرادة ،
وما ضل أحد إلا هلك ودمّر نفسه ، وكان خائر العزيمة ، ضعيف الإرادة. لذا كان الدين
سبيلا لخير الإنسان ، وإبعاده عن الشرور والآثام ، فجاء القرآن الكريم يحضّ على
الاستقامة ، ويعد بالجزاء الأحسن في هذه الآيات الآتية :
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١)
نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))
[فصلت : ٤١ / ٣٠ ـ
٣٢].
قال ابن عباس :
نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك أن المشركين قالوا : ربنا
الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا ، وقال أبو بكر
: ربنا الله وحده لا شريك له ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم عبده ورسوله ، فاستقام. وأخرج الترمذي والنسائي والبزار
وغيرهم عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : «قد قال الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ،
فهو ممن استقام».
هذه الآية واردة
إذن في أحوال المؤمنين المستقيمين ونهايتهم ، بعد بيان أحوال المشركين ونهايتهم ،
ليتبين الفرق بين المؤمن والكافر ، وبين الطيب والخبيث ، وهي وعد للمؤمنين ، بعد
آيات وعيد المشركين.
فالذين أقروا
بربوبية الله تعالى وتوحيده ، وأنه الإله الواحد الذي لا شريك له ، وواظبوا على
مقتضى التوحيد ، واستقاموا وثبتوا على أمر الله تعالى ، فأطاعوه وتجنبوا معاصيه ،
حتى ماتوا ، تنزل عليهم الملائكة تبشرهم بالنجاة في أماكن ثلاثة : عند الموت ، وفي
القبر ، وعند البعث ، وتزيل مخاوفهم من أمور الآخرة ، وتذهب عنهم الحزن عما فاتهم
من أمور الدنيا من خيرات الأهل والأموال والأولاد ، وتبشرهم بجنان الخلد التي
وعدوا بها في الدنيا ، على ألسنة الرسل ، فإنهم واصلون إليها ، خالدون في نعيمها ،
وأول درجات الاستقامة : أمن الخلود في النار بالنطق بالشهادتين ، أخرج الإمام أحمد
وأبو داود والحاكم عن معاذ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة».
وطريق الاستقامة :
أداء الطاعات ، واجتناب المعاصي ، تلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية وهو
على المنبر ، ثم قال : استقاموا ـ والله ـ لله تعالى بطاعته ، ولم يروغوا روغان
الثعالب. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي ـ فيما رواه أحمد ومسلم والبخاري في
تاريخه وغيرهم ـ : قلت للنبي صلىاللهعليهوسلم : أخبرني بأمر أعتصم به ، فقال : قل : ربي الله ، ثم استقم
، قلت : ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلسان نفسه ، وقال : هذا. أي اللسان ، فهو أخوف شيء على
الإنسان ، يورده المخاطر والمزالق ، ويردي به إلى النار.
وتقول الملائكة
للمؤمنين : نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا والآخرة ، نؤنسكم من وحشة
القبور ، وعند نفخة الصور ، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور ، ونجاوز بكم الصراط
المستقيم ، الذي هو جسر دقيق بين الجنة والنار ، ونوصلكم إلى جنات النعيم. قال
السدي : معنى الآية : نحن ـ أي الملائكة ـ حفظتكم في الدنيا ، وأولياؤكم في
الآخرة.
وأما ألوان نعيم
الجنة : فهو ما أخبرت به الملائكة بقولهم : ولكم في الجنة من جميع ما تختارونه ،
من صنوف اللذات ، وأنواع الطيبات ، ومهما طلبتم وجدتم ، وكل ما تتمنون حصلتم عليه
، ومعنى قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ) أي لكم في الجنة ما تطلبون. وكل ذلك حال كونه معدّا لكم ،
ضيافة وعطاء وإنعاما ، من رب غفور لذنوبكم ، رحيم شامل الرحمة بأحوالكم ، حيث غفر
وستر ، ورحم ولطف.
ومعنى قوله تعالى
: (نُزُلاً) : أنزلناه نزلا ، فهو منصوب على المصدر. أي إن الله تعالى
أعد هذا النعيم وأنزله إنزالا على أهل الجنان ، فهو جزاء على طاعتهم واستقامتهم.
وإعداد هذه النزل دليل على تحقيق السعادة لهم ، كما جاء في آية أخرى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦) [الواقعة :
٥٦ / ٥٦]. أي يوم الجزاء.
فضل الدعوة إلى الله تعالى
تبليغ الدعوة إلى
توحيد الله وطاعته : واجب في الإسلام ، والإرشاد إلى الخير والسلامة والأمان :
منهاج أهل الحق ، المحبين للإنسانية ، السالكين مع غيرهم ما يحبونه لأنفسهم ، فإن
أهل الإيمان يصلحون أنفسهم أولا ، ثم يحاولون إصلاح غيرهم ، وتكون مرتبة تربية
النفس وإعدادها معروفة من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) ثم تأتي مرتبة دعوة الآخرين إلى الهدى والخير ، ويؤخذ ذلك
من هذه الآيات الآتية :
(وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها
إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(٣٦))
[فصلت : ٤١ / ٣٣ ـ
٣٦].
أوضح ابن عباس سبب
نزول هذه الآية ، فقال : هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، دعا إلى الإسلام ، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه ، وجعل
الإسلام نحلة. وقال أيضا : هم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمؤذنون هم أيضا داخلون في هذه الآية. لأنهم يدعون إلى
الله وأداء الصلاة ، ولكن ليست الآية نازلة في المؤذنين ، خلافا لما روي عن عائشة
وعكرمة ومجاهد وقيس بن أبي حازم ، لأن سورة (فصلت) مكية بلا خلاف ، ولم يكن بمكة
أذان ، وإنما شرع الأذان بالمدينة ، لكن الأذان من الدعوة إلى الله تعالى.
والآية تعم بلفظها
كل من دعا قديما وحديثا إلى الله تعالى وإلى طاعته ، من الأنبياء عليهمالسلام ، ومن المؤمنين. والمعنى : لا أحد أحسن ممن هذه حاله. إن
أحسن الناس حالا : هم الدعاة إلى توحيد الله تعالى وطاعته وعبادته ، وإلى العمل
الصالح : وهو أداء ما فرض الله على الإنسان واجتناب ما حرمه ، والذين يتخذون
الإسلام دينا ومنهجا ومذهبا ، ويعمل كل واحد مع إخوته المسلمين على كل ما يشد
أواصر الأخوة والتعاون والتناصر معهم.
ومن المعلوم بداهة
أنه لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها ، وبين الفعلة
السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها. والمداراة : من الحسنة ، والغلطة : من
السيئة ، فادفع أيها الداعية المخلص من أساء إليك بالإحسان إليه ، بواسطة الكلام
الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان ، والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر والحلم ، وادفع
أمورك وما يعرض لك مع الناس ، ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن
الفعلات والسير ، ومنها : بذل أو إفشاء السّلام ، وحسن
__________________
الأدب ، وكظم
الغيظ ، والسماحة في القضاء ، والاقتضاء ، وغير ذلك. وهذه آية جمعت مكارم الأخلاق
، وأنواع الحلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا فعل المؤمن هذه الفضائل ، عصمه
الله تعالى من الشيطان ، وخضع له عدوه ، ولا شك أن السّلام : هو مبدأ الدفع بالتي
هي أحسن. فإذا كان بينك وبين غيرك عداوة ، فقابلت الإساءة بالإحسان ، صار العدو
كالصديق.
وما يتقبل هذه
الوصية أو الموعظة ويعمل بها ، ويروّض نفسه على هذه الخصلة :
وهي دفع السيئة
بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، والصبر شاق على النفوس
، والصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها. وكذلك لا يتقبل هذه
الوصية إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، وذو حظ في الثواب والخير
، والآية مدح للصابرين ووعد لهم بالجنة.
وطريق التغلب على
أهواء النفس ونزواتها هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، فإن وسوس إليك
الشيطان ، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن ، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها ،
فاستعذ بالله من شره ، والتجئ إلى الله لكفّه عنك ورد كيده ، فالله هو السميع
لاستعاذتك منه ، والتجائك إليه ، العليم بوساوس الشيطان ، وبما يعزم عليه الإنسان.
وقد كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم إذا قام إلى الصلاة يقول ـ فيما رواه أحمد والترمذي ـ عن
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من
همزه ونفخه ونفثه». ولما انتصر أبو بكر لنفسه من رجل شتمه ، قام النبي صلىاللهعليهوسلم من المجلس وقال لأبي بكر : «إنه أي (حين سكوتك) كان يرد
عنك ملك ، فلما قربت تنتصر ، ذهب الملك ، وجاء الشيطان ، فما كنت لأجالسه».
بعض الآيات الكونية الدالة على قدرة الله
تكرر إيراد الآيات
الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته وعظمة خلقه ، في آيات متنوعة من القرآن
الكريم ، لإقناع المشركين بعقيدة الحق والتوحيد والعدل الإلهي ، ويمكن لكل إنسان
واع إدراك هذه الظواهر الحسية ، والاقتناع بدلالاتها وما تومئ إليه ، فلا يبقى
بعدئذ عذر لأحد في إنكار وجود الله تعالى وتوحيده ، وقدرته التي لا تضارع ، ولا
يرقى لمثيلها إنسان. وهذا ما وجهت إليه الآيات الشريفة :
(وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ
لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ
تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٣٩))
[فصلت : ٤١ / ٣٧ ـ
٣٩].
تضمنت الآيات
الكريمة دلائل أربعة فلكية : وهي الليل والنهار والشمس والقمر ، وآية أرضية : وهي
إنبات النباتات بالأمطار والأنهار ، لإثبات قدرة الله تعالى على إبداع الأشياء
وخلقها ، وعلى إحياء الموتى مرة أخرى ، في عالم الآخرة والبعث.
إن من آيات الله
تعالى ودلائل قدرته وعظمته : إيجاد الليل والنهار ، وتعاقبهما ، وخلق الشمس
المضيئة والقمر المنير ، ففي ذلك خير للإنسان ونفعه ، وتمكينه من الحياة البشرية
بنحو مريح ومفيد ، وبما أن الشمس والقمر مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره ،
فإياكم أيها البشر من السجود للشمس والقمر وعبادتهما ، لأنهما مخلوقان لله ، وكل
مخلوق عاجز عن فعل شيء ، والأولى عبادة الخالق جل جلاله ، إن
__________________
كنتم تريدون عبادة
الله ، فعبادة الله وحده : هي الواجبة والصحيحة والنافعة ، وعبادة من دونه من
المخلوقات الكونية : هي باطلة كل البطلان ، ولا تفيد شيئا. وهذا ردّ على الصابئة
عبدة الكواكب ، وعلى عبدة الشمس الذين يزعمون أنهم يريدون من السجود للشمس والقمر
السجود لله تعالى. ويلاحظ أن ذكر الليل والنهار يتضمن ما فيهما من طول وقصر ،
وتداخل واستواء وتفاوت ، وذكر القمر والشمس يتضمن ما فيهما من عجائب وحكمة ونفع؟
فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن امتثال أوامر الله تعالى وتوجيه رسوله ،
وأبو إلا البقاء على شركهم ، فلا يهمنك أمرهم أيها الرسول ، فإن الذين يعبدون الله
بحق كثيرون ، فمنهم الملائكة الأشراف ذوو المكانة عند الله ، لا المكان أو الموضع
، الذين يواظبون على عبادة الله ، وتنزيهه في كل وقت ، ليلا ونهارا ، وهم لا
يملّون من عبادة الله سبحانه ، ولا ينقطعون عن متابعة العبادة ، وكلمة (عِنْدَ رَبِّكَ) ليست ظرف مكان ، وإنما هي بيان المنزلة والقربة.
إن هذه الآية
تتضمن وعيد المشركين وحقارة أمرهم ، وأن الله تعالى غير محتاج إلى عبادتهم ، فأولى
بهم إعادة النظر في صرف جهودهم في شيء لا طائل معه ولا نفع ، وإنما هو سبب عذاب
وغضب وسخط من الله تعالى.
ثم ذكر الله تعالى
دلائل أخرى من الأرض وما فيها من أسرار على وجوده وقدرته ووحدانيته ، ومن هذه
الدلائل : أنك أيها الناظر ترى الأرض هامدة جامدة ، لا نبات فيها ولا حياة ، فإذا
أنزل الله عليها المطر ، تحركت بالنبات ، وانتفخت وعلت ، وأخرجت مختلف ألوان
الزروع والحبوب والثمار ، وفيها مع ذلك خزائن الثروة المعدنية ، النفطية السائلة ،
والجامدة من معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والفوسفات وغيرها.
إن الذي أحيا هذه
الأرض الجدبة بالنبات والزرع ، قادر على أن يحيي الأموات ،
أي إن الذي ينبغي
أن يقاس على هذه الآية في مجال إيجاد الأحياء النباتية ، إنما هو إحياء الموتى ،
فإن الله هو الرب القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. والشيء في
اللغة : هو الموجود. وهذا دليل حسي مشاهد ، نبّه عليه القرآن الكريم للتوصل إلى
الإيمان بقدرة الله على البعث والإحياء بعد الإماتة ، والركود في القبور ، وإن
الذي يجب الانتباه له : هو قدرة الله تعالى الخالق ، في ابتداء الخلق ، وإعادته
وانتهائه ، وفي كل وقت وحال.
وبعد هذا البيان
الإلهي لا يبقى عذر لأحد في خطأ الاعتقاد ، وعبادة غير الله سبحانه ، والتماس
الخير والنفع من غير الله القادر ، أو منع الضرر والشر من عبيد الله ومخلوقاته.
ألا إنها عظة وذكرى لمن كان له قلب وعقل ووعي ، وألقى السمع وتنبه ، وهو شهيد ، أي
صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وانتبه في سماعها.
الميل والإعراض عن القرآن
عجيب أمر الإنسان
، يرى الحق ويشاهده ، ويلمس فائدة الاستقامة وجدواها ، وطريق النجاة والسلامة ،
ومع ذلك يعرض عنه ، ويميل إلى غيره من ألوان الباطل والانحراف ، متأثرا بأهوائه
وشهواته ، مؤثرا نفعا عاجلا في ظنه ، ولكنه في الواقع هو عين الهلاك والضياع. وما
مثله إلا كمثل المريض الأحمق ، ينصحه الطبيب بتناول دواء معين ، فيتركه ويهمله ،
إلى أن يلقى حتفه ونهايته ، وهكذا بعض الناس يلحدون في القرآن ، أي يميلون عنه وعن
توجيهاته ، وهو الحق الأبلج ، والصواب الأسدّ ، ويتجهون إلى غيره ، وهو الباطل
اللجلج ، والخطأ البين. وهذا ما أبانته الآيات الآتية :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ
خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما
يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))
[فصلت : ٤١ / ٤٠ ـ
٤٣].
هذا تهديد لأولئك
الضالين الذي يهجرون القرآن العظيم ، أي يتركون الحق إلى غيره ، ويميلون عن
الاستقامة على منهج آيات القرآن بالطعن فيها وتحريفها ، وتأويلها تأويلا باطلا ،
لاغين عند سماعها ، إنهم لا يخفون على الله ، وإنما يعلم بهم وسيجازيهم أشد
الجزاء.
وهل أدرك هؤلاء
هذا المصير ، وهل غفلوا عن الفرق الشاسع بين المؤمن المستقر الآمن في الدنيا
والآخرة ، وبين الكافر الجبار المتكبر في الدنيا ، والذي يلقى به في الآخرة في
دركات النار؟ فالمؤمن يدخل الجنة ، ويطمئن لما فيها من خيرات ، والكافر يزجّ به في
نيران جهنم ، فيبقى في عذابها على الدوام ، لا يقول عاقل بالتسوية بين الحالين أو
الفريقين. ثم أكد الله التهديد والوعيد بقوله : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) أي اعملوا أيها الضالون المكذبون ما شئتم من الأعمال ، فإن
الله عالم بكم ، وبصير بأعمالكم ، ومجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال ، خيرها وشرها
، وقوله تعالى : (لا يَخْفَوْنَ
عَلَيْنا) معناه : فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) دليل الوعيد والتهديد.
قال مقاتل : نزلت
هذه في أبي جهل ، وفي عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقيل :
__________________
في عمار بن ياسر
رضي الله عنه. قال بشير بن فتح فيما أخرجه ابن المنذر : نزلت هذه الآية في أبي جهل
وعمار بن ياسر.
والمفاضلة بين
الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة في كلمة (خير) ، وإن كانا لا يشتركان في صفة
الخير ، إنما هي بسبب كون الكلام تقريرا نهائيا بسوء مصير الكافرين ، لا مجرد خبر
وحكاية. وذلك مثل آية : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) [الفرقان :
٢٥ / ٢٤]. لأن المقرّر قد يقرر خصمه على قسمين : أحدهما بيّن الفساد ، حتى يرى
جوابه ، فإذا اختار طريق الفساد ، بان جهله وغباؤه.
وتابع القرآن
التهديد وتأكيد الجزاء ، بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الذين كفروا بالقرآن الكريم ذي الذكر العالي والشرف
الرفيع ، لما جاءهم ، نجازيهم على كفرهم ، والحال أن القرآن متصف بصفات ثلاث :
أولها : أنه كتاب عزيز عن المعارضة أو الطعن ، منيع عن كل عيب من أي بشر ،
وثانيهما أنه لا يتمكن أحد من إبطاله وتحريفه ، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه
، لا في اللفظ ولا في المعنى ، ولا في الحكم والأسلوب ، ولا في الغرض أو القصة ،
فلا يكذبه كتاب سابق قبله ، ولا فكر أو نظر لاحق بعده ، محفوظ من النقص والزيادة ،
كما في آية أخرى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ١٥ /
٩].
وثالث الصفات :
أنه تنزيل من إله حكيم في قوله وفعله ، محمود في جميع أوامره ونواهيه ، مشكور على
نعمه وأفضاله ، فكيف يأتيه الباطل بأي صورة أو باب؟! ثم أبان الله لرسوله وحدة
الرسالات ، وأنها تهدف إلى التوحيد الخالص ، وإثبات الآخرة ، وتقرير مبدأ الثواب
والعقاب ، مبينا أن ما يقال لك أيها الرسول من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك
بالسحر والجنون والكذب ، وما ينالك من مكروه ، ما هو إلا كأقوال الجاحدين
لأنبيائهم ورسلهم ، الذين تقدموك ، فإن أقوامهم كانوا يقولون
لهم مثلما يقول لك
هؤلاء ، من الأقوال الجارحة المؤلمة ، فامض لأمر الله تعالى ، ولا يهمك شأنهم ،
وربك بالمرصاد ، فهو غفار ستّار لمن تاب إليه وآمن به إيمانا صحيحا ، ومعاقب بعقاب
مؤلم شديد لمن استمر على كفره ، ومات على ضلاله كافرا لم يتب. قال ابن عطية : وفي
هذه الكلمات الموجزات جمّاع الزجر والنهي والموعظة ، وإليها يرجع كل نظر.
القرآن العربي شفاء وهدى
أكد الله تعالى
على أن القرآن الكريم كله عربي اللسان ، فصيح البيان ، ليس مختلطا بين العربية
والأعجمية ، ليؤدي مهمته على أكمل وجه ، فهو هداية للحيارى ، وشفاء لما في الصدور
، مما قد يكون فيها من وساوس وشبهات وضلالات ، وليس محلا للخلاف أو الاختلاف ،
وهكذا شأن جميع الكتب السماوية ، فهذا كتاب موسى ـ التوراة نزل وحدة متناسقة ، ومع
ذلك وقع الاختلاف فيه وفي القرآن ، من قبل المكذبين بهما وهم اليهود وغير المؤمنين
، ولكن وبال التكذيب على أصحابه ، والإنسان ولي نفسه ، فمن آمن وعمل صالح الأعمال
حقق الفوز والنجاة لنفسه ، ومن أساء الاعتقاد والعمل ، أتى بالضرر على نفسه ، وليس
الله تعالى بظلام لأحد ، وهذا ما أبانته الآيات القرآنية الآتية :
(وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
__________________
مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ
عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ
لِلْعَبِيدِ (٤٦))
[فصلت : ٤١ / ٤٤ ـ
٤٦].
هذه الآية الكريمة
نزلت بسبب تخليط قريش في أقوالهم ، من أجل الحروف المعرّبة في القرآن من كلام
العجم ، كالسّجين والإستبرق ونحوه ، فقال الله عزوجل : ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا (أي كلاما لا يبين ولا يفهم
ولا يفهم ولا يفصح) لقالوا واعترضوا : لولا بيّنت آياته بلغتنا حتى نفهمها.
وهذا غير صحيح ،
فهل يصح أن يكون هذا القرآن العربي بعضه عربيا ، وبعضه أعجميا؟ هذا لا يحسن ،
وإنما المقصود الدلالة على أن مشركي قريش قوم متعنتون ، محاربون للقرآن ، بأي لغة
أو صفة كان عليها. والواقع أن جميع ما في القرآن عربي ، إذا أرادوا الفهم والإفادة
منه ، ولو نزل بلغة أعجمية لأنكروا ذلك ، وغاية القرآن : أن تقول أيها الرسول
لقومك المشركين : إنه هداية من الظلمات إلى النور لقلب من آمن به ، وشفاء لما في
الصدور من الشكوك والرّيب ، كما جاء في آية أخرى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ١٧ /
٨٢].
وبعبارة أخرى :
أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم : إن هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين المبصرين
للحقائق ، وإنه عمى على الذين لا يصدقون بالله ورسوله ، ولا يقلّبون أنظارهم في
مصنوعات الخالق ، أي إنه معمّى عليهم ، فعلى أعينهم غشاوة ، وفي آذانهم صمم أو ثقل
في السمع ، وعلى قلوبهم أقفال ، وهذا من قبيل المجاز المراد به أنهم لا يفهمون ما
في القرآن ، كالعميان والطرشان ، ولا يهتدون إلى ما فيه من البيان ولا يبصرون ما
اشتمل عليه من البراهين والمواعظ ، لتعطيلهم سبل المعرفة والإدراك.
ثم أكد الله تعالى
على عدم استعدادهم لفهم القرآن ، فإن حالهم كحال من ينادى
__________________
من مسافة بعيدة ،
يسمع صوت من يناديه منها ، ولا يفهم ما يقال له. وهذا أيضا استعارة ، لقلة فهمهم ،
حيث شبّههم بالرجل ، ينادى من مكان بعيد ، يسمع منه الصوت ، ولا تفهم تفاصيله ولا
معانيه.
وهذا شأن مستمر
بين الأمم المكذبة ، فلا تستغرب أيها الرسول موقف قومك ، فتلك عادة قديمة للأمم مع
الرسل ، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم ، كما حدث من بني إسرائيل ، فلقد
أرسل الله موسى عليهالسلام وآتاه التوراة ، فاختلفوا في كتابهم بين مصدّق ومكذّب ،
وشأنك أيها الرسول مع قريش ، كشأن موسى مع بني إسرائيل ، حين جاءهم بالتوراة ،
ولقد أخّر الله العذاب على الفريقين ، ولولا الكلمة السابقة (وهي أن الله حتّم
تأخير عذابهم إلى يوم القيامة) لقضي بينهم ، أي لعجّل لهم العذاب ، كما فعل بالأمم
المكذبة السابقة ، وسبب الهلاك قائم فيهم ، فإن كفار قريش لفي شك من القرآن ، موقع
في الريبة والقلق ، ولم يكن تكذيبهم للقرآن ناجما عن تبصر وتأمل ، بل كانوا شاكّين
فيه وفيما قالوا ، غير متحققين لشيء كانوا فيه.
وقانون الجزاء
الإلهي واضح ، فمن عمل صالح الأعمال بأداء الفرائض واجتناب المعاصي ، فإنما ينفع
نفسه ، ويجازى بخير عمله ، ومن أساء فعصى الله تعالى ، فإنما يرجع وبال ذلك عليه ،
ويعاقب بسوء عمله ، والجزاء للفريقين قائم على أساس من الحق والعدل المطلق ، فلا
ينقص المحسن شيئا من ثوابه ، ولا يعاقب أحد إلا بذنبه أو معصيته.
العلم بالساعة وطبيعة الإنسان
هناك أمر خطير جدا
، مرتقب لا شك فيه : وهو يوم القيامة ، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت تجهيله ، فلا
يعلم به أحد من المخلوقات ، واختص الله تعالى وحده بعلم الساعة ، كما اختص بالعلم
بالأحداث المستقبلة ، ليظل الإنسان رقيبا على نفسه ،
مهيمنا على شهواته
، يعمل الخير حبا فيه ، ويبتعد عن الشر كرها فيه لذاته ، وطبع الإنسان غريب ، لا
يمل من طلب الخير ، وييأس ويقنط من رحمة الله إن أصابه شر. وفي حال النعمة والترف
يبتعد عن الله تعالى الذي أمده بالنعم ، ويهمل شكر ربه المنعم ، ويزعم أن له
المكان الحسن عند الله في الآخرة ، وإذا أصابه الشر ، أقبل على الدعاء ، والتضرع
لله سبحانه ، وإذا تعرض لخير نسي الله ونأى عنه ، فهو دائم الطمع ، كثير التبدل
والتغير ، لا يستقر على حال ، ولا يثبت على مبدأ ، ولا وفاء عنده لمعروف ، قال
الله تعالى مبينا ذلك كله :
(إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ
مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ
لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ
أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))
[فصلت : ٤١ / ٤٧ ـ
٥١].
المعنى : إن علم
وقت القيامة ومجيئها ، يردّه كل مؤمن متكلّم فيه إلى الله عزوجل ، لذا كان جواب النبي صلىاللهعليهوسلم لجبريل عليهالسلام ، في الحديث الصحيح المتفق عليه ، عن عمر رضي الله عنه : «ما
المسؤول عنها بأعلم من السائل». وفي حديث آخر ثابت : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها
إلا الله : (إن الله عنده علم الساعة ..)». الحديث ، وهو وارد في آية : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣١ / ٣٤].
__________________
وكذلك يعلم الله
تعالى الثمار وخروجها من الأكمام (الأوعية) ووقت ظهورها تماما ، ويعلم ما تحمل
الإناث ووقت الحمل والوضع ، وذلك أورده الله على سبيل المثال لجميع الأشياء ، إذ
كل شيء خفي ، فهو في حكم هذين الشيئين. وهذا كله مجهول ، لا يعلم به أقرب الناس من
هذه الأشياء كالمزارع والزوج أو الأنثى. وما قد يقال : إنما هو من محض التخمين ،
لا من باب العلم بيقين.
ثم رد الله تعالى
على المشركين لإبطال شركهم ، فاذكر أيها الرسول يوم ينادي الله تعالى المشركين ،
في يوم القيامة ، قائلا على سبيل التوبيخ والتهكم والتحدي : أين شركائي الذين كنتم
تزعمون من الأصنام وغيرها ، فادعوهم الآن للشفاعة بكم أو دفع العذاب عنكم؟ فيجيب
هؤلاء المعبودون بغير حق : لقد أخبرناك وأعلمناك أن ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك
يا رب شريكا ، ونحن لا نشاهدهم أمامنا ، بل ضلوا واختفوا عنا ، وذهبت تلك
المعبودات من الأصنام وغيرها محتجبة في آفاق الغيبة عن العيون ، وقد كانوا
يعبدونهم في الدنيا ، وتيقنوا الآن ألا مهرب لهم ولا ملجأ من عذاب الله. وهذا وعيد
وتهديد. وقد استعمل الظن هنا مكان اليقين : وهو كل موضع علم علما قويا وتقرر في
النفس ولم يلتبس بشيء.
ثم نزلت الآيات
الآتية في بعض كفار مكة ، كالوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة ، ومضمونها : أن
أولها يتضمن خلقا ربما شارك فيها بعض المؤمنين : وهو أنه لا يمل الإنسان من
طلب الخير من ربه ، كالمال والصحة والرفعة ونحوها ، وإن أصابه الشر من بلاء وشدة ،
أو فقر أو مرض ، كان شديد اليأس والقنوط من رحمة الله ، وهذه الصفة الأخيرة (اليأس)
من صفة الكافر وحده ، والصفة الأولى (طلب الخير في الدنيا) صفة مشتركة ، فأما خير
الآخرة فهو للمؤمنين.
__________________
ثم ذكر الله تعالى
ثلاث خصال أخرى للكافر أقبح مما قبلها : وهي أنه لئن آتاه الله الخير بتفريج كربه
بعد شدة أصابته ، كغنى بعد فقر ، وصحة بعد مرض ، وجاه بعد ذل ، ليقولن : هذا شيء
أستحقه على الله ، لرضاه بعملي وجهدي ، متناسيا فضل الله. والصفة الثانية : هي
أنني لا أعتقد أن القيامة ستقوم ، كما أخبر الرسل ، فلا رجعة ولا حساب.
والصفة الثالثة :
هي أنني إن أعدت إلى ربي ـ على سبيل الافتراض ـ فليحسنن إليّ ربي كما أحسن لي في
هذه الدنيا ، والحسنى : الكرامة والجنة ، فأجيب بمفاجأة نقيض ظنه : لنخبرن هؤلاء
الكفار يوم القيامة بما عملوا من المعاصي ، ولنجازينهم بعذاب شديد صعب. والعيش
بالأمل أو الأماني مذموم لكل أحد تارك الطاعة ، جاء في الحديث : «الكيّس : من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز :
من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني».
ثم ذكر الله تعالى
خلقا ذميما للإنسان جملة ، وهو واضح في الكفار ؛ وهي أن الله تعالى إذا أنعم على
الإنسان ، أعرض عن الشكر والطاعة ، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإذا
تبدل الحال ، وأصيب بشر ، من بلاء وجهد ، أو فقر أو مرض ، أطال الدعاء والتضرع إلى
الله تعالى ، وهذا خلق ذميم يدل على العمل الانتهازي أو المصلحي المحض. وأما
المؤمن في الغالب فإنه يشكر عند النعمة ، ويصبر عند الشدة.
__________________
الاعلام العام بآيات الله
إذا استبد الكفر
والعناد ببعض الناس ، لم يبق إلا أن يقهر على المعرفة ، ويتحدى بالمحسوسات
المشاهدة الدالة على الحق ، والتي تستأصل كل ريب أو شك في النفس إذا استجاب لهذا
الإقناع ، ولذا حمل القرآن الكريم على المشركين الذين أغلقوا على أنفسهم نافذة
الوصول إلى الحق والخير والهداية ، فاستحقوا التهديد والوعيد ، وكشف الله باطلهم ،
وأبان حقيقة أمرهم ، وهي أنهم قوم يشكون في الآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب وحساب
عسير. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))
[فصلت : ٤١ / ٥٢ ـ
٥٤].
أمر الله تعالى
نبيه عليه الصلاة والسّلام أن يقف قريشا على هذه الحجة الدامغة ، الصادرة من
أنفسهم ، فقل أيها الرسول : أرأيتم أي أخبروني إن كان هذا الشرع من عند الله
وبأمره ، ثم خالفتموه أنتم ، ألستم على هلكة من الله تعالى؟ فلا أحد أضل ممن يبقى
على هذه الحال من الغرور من الله ، ومجافاة الحق ، والوقوف في جانب المخالفة
والمشاقّة ، والمعاداة البعيدة المدى. وإن كان هذا القرآن من عند الله حقا ، ثم
كذبتم به ، ولم تقبلوه ، أفلا تكونون أعداء للحق والصواب؟ بل في الواقع لا أحد أضل
منكم لشدة عداوتكم ، وإمعانكم في الكفر والعناد ، ومعاداة الحق وأهله. فيكون
الضمير في قوله تعالى (أَنَّهُ الْحَقُ) عائدا على الشرع والقرآن.
__________________
ثم وعد الله تعالى
نبيه صلىاللهعليهوسلم بأنه سيري الكفار آياته ، وهذا يدعو إلى التأمل والتفكر في
تلك الآيات ، إننا سنظهر لهم دلالات صدق القرآن ، وعلامات كونه من عند الله ، في
أقطار السماوات والأرض والبلاد ، وإبداع الأشياء ، وفي خلق أنفس البشر ، حتى يتضح
الحق لكل ذي عينين.
وللمفسرين ثلاثة
اتجاهات في إراءة آيات الله تعالى في الآفاق ، فقال المنهال بن عمرو ، والسّدّي
وجماعة : هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك
من الأرض كخيبر ونحوها. ويكون قوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أراد به فتح مكة. قال ابن عطية : هذا التأويل أرجح
التأويلات.
وقال قتادة
والضحاك (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ) : هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض. ويكون قوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) يوم بدر.
وقال ابن زيد
وعطاء : الآفاق : آفاق السماء ، وأراد به الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير
ذلك. وقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : يراد به اعتبار الإنسان بجسمه وحواسّه ، وغريب خلقته ،
ومراحل تكوينه في البطن ونحو ذلك.
وهذا المعنى
الثالث : هو الظاهر لعمومه وانسجامه مع سياق الآيات ، فيراد من إراءة الله تعالى
آياته في الآفاق : إقناعهم بقدرته وعظمته ، وإلزامهم بالحجة المحسوسة الملجمة لهم
، ليتبين الحق ، ويظهر لهم أن القرآن هو الحق القاطع. وقد أيدت وصدقت القرآن
وإشاراته تلك النظريات العلمية الصحيحة في المطر والسحاب ، وغزو الفضاء ، واكتشاف
الكواكب وخزائن الأرض ، وعجائب خلق الأجنة في الإناث ، وغير ذلك وغير ذلك من
الآيات الدالة على كمال القدرة الإلهية ، وتمام الحكمة ، وعجائب مصنوعات الله ،
حتى يظهر أن دين الحق هو ما اشتمل عليه كتاب الحق : وهو القرآن العظيم.
وإذا لم يتأمل
الناس ولا سيما العلماء بآفاق السماوات والأرض وأسرار الأنفس ، كفى بالله شاهدا
على أفعال عباده وأقوالهم ، من الكفار وغيرهم ، وكفى بالله شاهدا على صدق القرآن
وأنه من عند الله.
ثم كشف الله تعالى
سبب عناد المشركين : وهو أنهم في الواقع في شك خطير من أمر البعث والحساب ،
والثواب والعقاب ، ولا قيمة لهذا الموقف المعادي ، فإن الله تعالى أنذر وبشّر ،
وأبلغ وأقنع ، وأحاط علمه بجميع المعلومات ، وشملت قدرته جميع المقدورات ،
والمخلوقات كلها تحت قدرته وفي قبضته ، والأحداث جميعها في تصرفه وعلمه وتدبيره ،
فبإظهار الله تعالى شرعه ودينه في كل مكان ، وفتح البلاد للنبي عليه الصلاة
والسّلام ، يتبين لهم أنه الحق ، وتوّج كل هذا بوعد الله تعالى نبيه عليه الصلاة
والسّلام أنه كافيه وناصره ومدبر أموره كلها ، وفي هذا الوعد بإحاطة الله لكل شيء
: وعيد للكفار أيضا. وإحاطته تعالى : هي بالقدرة والسلطان ، وقد تحقق الوعد
والوعيد مع مرور الزمان.
تفسير سورة الشورى
القرآن وحي الله تعالى
الوحي الإلهي
المنزل : له بداية ونهاية ، بدأ بعد خلق آدم عليهالسلام ، حيث أوحى الله تعالى إليه الأحكام الضرورية للحياة
البشرية الأولى ، وانتهى الوحي بخاتم الأنبياء والمرسلين ، حيث أنزل الله تعالى
عليه القرآن الكريم ليكون شرعا دائما ، ومنهاجا محكما ، وطريقا واجب الاتباع ، إلى
يوم القيامة. وقد دلت آيات القرآن الكريم في مناسبات متعددة ، ولا سيما إذا افتتحت
السور القرآنية بالأحرف الهجائية ، على أن القرآن كلام الله ووحيه ، ولم يوح به
سوى الله تعالى ، وكلام الله نزل بلغة العرب ، ومن مادة اللغة العربية وحروفها
وأبجديتها. وهذا مطلع سورة الشورى المكية النزول بإجماع أكثر المفسرين ، لإثبات
مصدر القرآن ، قال الله تعالى :
(حم (١) عسق (٢)
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))
[الشورى : ٤٢ / ١
ـ ٦].
افتتحت هذه السورة
بالحروف الأبجدية للتنبيه على ما يوحى فيها ، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن
المتكون من الحروف العربية التي ينطقون بها ويكتبون ،
__________________
فهل لهم أن يأتوا
بمثل القرآن أو بمثل سورة منه؟ فعجزوا وذلك دليل إعجاز القرآن ، وإعجازه دليل على
أنه من عند الله وحده.
والوحي قديم ،
فمثل هذا الوحي المنزل عليك أيها الرسول ، أوحى الله إلى سائر الأنبياء والرسل ،
من الصحف والكتب المنزلة ، والذي يوحي : هو الله العزيز في ملكه ، الغالب بقهره ،
الحكيم في صنعه ، والموحى به متفق في الجوهر والغاية والمضمون. وهو الدعوة لتوحيد
الله ، وإثبات النبوة ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر ، وما فيه من حساب وعقاب ،
وثواب وجزاء ، والتخلق بمكارم الأخلاق ، والبعد عن الرذائل. والله منزل الوحي : له
جميع ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، وهو العلي الأعلى المتعالي فوق
خلقه ، المتصف بالعظمة التي لا حدود لها ، وبالكبرياء الذي لا يوصف. فقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أي الملك والخلق والاختراع. و (العلي) من علو القدر
والسلطان. وكذلك (العظيم) في معناه. وليس المقصود علو المسافة ، ولا عظم الشيء أو
الجرم.
ومن دلائل عظمة
الله : أن السماوات تكاد تتصدع وتتشقق من سرعة جريهن ، خضوعا وخشية من سلطان الله
تعالى ، وتعظيما له وطاعة ، والتصدع من الجهة الفوقانية ، لقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي من أعلاهن.
ومن آيات العظمة
الإلهية : أن الملائكة الكرام يداومون على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ولا
يجوز عليه ، قارنين التسبيح (أي التنزيه) بالتحميد ، وشكر النعم التي لا تحصى. ومن
نعم الله تعالى : أن الملائكة يطلبون المغفرة لعباد الله المؤمنين ، ومن أفضال
الله : أنه سبحانه كثير المغفرة والرحمة ، فهو يقبل استغفار الملائكة ، لأنه قرن
الرحمة بالمغفرة. وهذا كما في آية أخرى تدل على فضل الله وهي : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَ
شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ
عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) [المؤمن : ٤٠
/ ٧] وقوله : (يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي يقولون : سبحان الله وبحمده. وقوله سبحانه : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ليس على عمومه ، وإنما معناها الخصوص في المؤمنين ، فكأنه
تعالى قال : ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين ، بدليل قوله تعالى في آية (المؤمن)
: (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا) إذ الكفار عليهم لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين.
ثم توعد الله
تعالى أهل الشرك والكفر محذرا لهم ، ومؤنسا نبيه عليه الصلاة والسّلام ، مما
يعانيه من إعراض قومه عن دعوته ، فقال : (اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي إن الذين اتخذوا الأصنام والأوثان آلهة يعبدونها من دون
الله ، والحفيظ عليهم كفرهم ، المحصي لأعمالهم ، المجازي لهم عليها بعذاب الآخرة ،
ولست أيها الرسول عليهم بوكيل يلي أمورهم ، ولا يسأل عن هدايتهم ، ولا يؤاخذ
بذنوبهم ، ولا يلازم أمرهم حتى يؤمنوا ، إنما عليك التبليغ فقط ، دون قسر أو إجبار
على الإيمان. و (الوكيل) القيم على الأمر.
هذه الطائفة من
الآيات ، تضع حد المواجهة الساخنة بين الله تعالى صاحب العزة والملك والجبروت ،
وبين أهل الشرك وعبادة الأوثان.
مقاصد القرآن الكريم
دعا القرآن العظيم
المنزل بلسان عربي مبين ، إلى وحدة الإله ، فهو سبحانه إله واحد ، لا يتعدد ولا
يقبل التعدد ، وإلى طاعة الله عزوجل ، فمن أطاع دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار ، وإلى الإيمان
بالله بطريق الاختيار لا بالجبر والإكراه ، والله
قادر على جعل
الناس قاطبة على دين واحد ، ودعا أيضا إلى وحدة الفكر والعمل والسلوك ، فإذا وقع
اختلاف ، فمرده إلى الله وكتابه ، وأرشد إلى التوكل على الله : خالق السماوات
والأرض ، وبيده مفاتيح الخزائن والنعم من المطر والنبات وغيرهما ، والرازق لمن
يشاء ، والمنعم بالحياة الزوجية ، وبتسخير الأنعام المزدوجة لعباده ، وليس كمثله
شيء وهذا ما عبرت عنه الآيات الآتية :
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ
وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))
[الشورى : ٤٢ / ٧
ـ ١٢].
هذه الآيات
الكريمات منهاج للمجتمع الإسلامي ، تتضمن وعيدا للكفار إذا أعرضوا عما أرسل الله
به نبيه ، وفيها رفع الحرج عن النبي إن لم يؤمنوا ، فما عليه سوى التبليغ للوحي
الإلهي فقط ، وهذا المنهاج ليس جديدا في الرسالات الإلهية ، فمثل الإيحاء إلى
الأنبياء بلغات أقوامهم ، أوحينا إليك قرآنا عربيا مبّينا لهم ، لتخوف به من عذاب
الله ، وتنذر أهل أم القرى ، أي مكة ومن حولها من العرب وبقية الناس ، وتنذر به
الناس يوم الجمع ، أي يوم القيامة الذي تجتمع فيه الخلائق ، حيث
__________________
يجتمع فيه بنو آدم
للعرض والحساب ، ويجتمع أهل الأرض بأهل السماء ، ذلك اليوم الذي لا شك في حدوثه في
نفسه وذاته ، ويصير الناس فيه فريقين : فريق في الجنة بسبب إيمانهم بربهم وبرسوله
وبكتابه ، ولإحسانهم أعمالهم في الدنيا ، وفريق آخر في النار ، لكفرهم بالله
ورسوله وقرآنه.
ولو أراد الله
تعالى لجعل الناس جميعا أهل دين واحد ، إما مهتدين ، وإما ضالين ، ولكنهم
باختيارهم ، اختلفوا على أديان متغايرة ، فمن استقام وجاهد نفسه أدخله الله برحمته
في جنته ، ومن ظلم نفسه وعصى ربه ، أدخله الله في النار. وأهل النار : هم الظالمون
المشركون ، الذين ليس لهم ولي ناصر يدفع عنهم العذاب ، وينصرهم وينجيهم من بأس
الله تعالى. وهذا يدل على أن الإيمان والكفر بمشيئة الله ، ولكن يؤول اختيار الناس
إلى أحد المصيرين : إما إلى الجنة وإما إلى النار. وقوله تعالى : (فَرِيقٌ) خبر مبتدأ مضمر أو محذوف ، تقديره : هم فريق في الجنة ،
وفريق في السعير.
بل في الواقع اتخذ
الكافرون آلهة يعبدونها من دون الله ، من الأصنام والأوثان وغيرها ، زاعمين أنهم
أعوان لهم ونصراء ، فإن أرادوا الناصر بحق ، فالله هو المعين الناصر ، لا تنبغي
العبادة إلا له وحده ، لأنه الخالق الرازق ، والضارّ والنافع لمن أراد ، وبحسب ما
يعلم من استعداد كل إنسان لمراد معين ، ولأنه هو القادر الذي تنفع ولايته ، وأنه
هو الذي يحيي الموتى ويحشرهم إلى الآخرة ، ويبعثهم من قبورهم. وأنه صاحب القدرة
المهيمنة على كل شيء.
ثم وجّه الله
تعالى إلى أن حل الخلافات بيد الله سبحانه ، فما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب
وتصديق ، وإيمان وكفر وغير ذلك ، فالحكم فيه ، والمجازاة عليه
ليست إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ولا بيده ، وإنما ذلك إلى الله تعالى ، وذلكم الحاكم بهذا
الحكم : هو الله الرب لكل الخلائق ، يتوكل عليه النبي في جميع أموره ، ولا يعتمد
على غيره ، ويرجع إليه وحده منيبا طائعا.
وأسباب الإنابة
إلى الله وحده لا غيره : أمور أهمها : أنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما من العدم
، وخالق الأزواج للرجال من جنسهم ، ليسكنوا إليهم ، ويتحقق التكاثر والتوالد ،
وخالق الأنعام جنسين ذكرا وأنثى ، والله هو الذي يكون سببا للتكاثر وبقاء النوع
الإنساني ، بخلق نسل بعد نسل ، وليس لله تعالى شبيه ولا نظير ، وهو تام السمع لأدق
المسموعات ومختلف الأصوات وكامل البصر ، يبصر الأشياء كلها صغيرها وكبيرها ،
ظاهرها وخفيها ، وبيده مفاتيح الخزائن في السماوات والأرض ، أي إن كل شيء يقع
بقدرته ، يوسّع الرزق لمن يشاء من خلقه ، ويضيقه على من يشاء بحسب علمه وحكمته ،
وهو تام العلم بكل شيء يحدث في هذا الوجود ، من إغناء وإفقار وغير ذلك.
وحدة الرسالات الإلهية
مهمة الأنبياء
والرسل واحدة ، قديما وختما بالرسالة المحمدية ، وهي تنحصر في الدعوة إلى وحدة
الله تعالى ، وإقامة الدين والمحافظة عليه ، وإطاعة الله ، والإيمان برسله وكتبه
واليوم الآخر ، ولكن يصعب أو يشق على المشركين ترك الوثنية والانضمام لمبدأ توحيد
الإله ، ولم يختلف جميع المدعوين إلى الإسلام من وثنيين وأهل كتاب من اليهود
والنصارى إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، ولو لا سبق القضاء الإلهي بتأخير العذاب
عنهم ، لعجلت لهم العقوبات في الدنيا ، قال الله تعالى مبينا هذا :
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى
وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ
مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)) [الشورى : ٤٢ / ١٣
ـ ١٤].
هذا خطاب توحيدي
لجميع الأمم في الدين ، فإن الله تعالى شرع وأبان لكم أيها المسلمون من المعتقدات
وأصول التوحيد ما أمر به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى : أن حافظوا على الدين (وهو
توحيد الله ، وإطاعة رسله) ولا تختلفوا في شرائع الله ، من الحلال والحرام ،
وإياكم من الوقوع في المهالك بتفرق الآراء والمذاهب. وهذا في أصول الاعتقاد وأصول
الشرائع والأخلاق ، فإنه لا خلاف فيها ، أما الأحكام الفرعية فيمكن وقوع الخلاف
فيها بين الشرائع ، كما تبين في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٥ / ٤٨].
ثم أخبر الله
تعالى نبيه عليه الصلاة والسّلام بصعوبة إقامة الدين ووحدته على المشركين بالله
تعالى ، العابدين للأصنام ، قال قتادة : كبر على المشركين : لا إله إلا الله ،
وأبى الله تعالى إلا نصرها وإظهارها ، أي شق على أهل الشرك الوثنيين القائلين
بتعدد الآلهة هذه الدعوة إلى وحدة الدين ، وهجر عبادة الأصنام والأوثان ، وأنكروا
مبدأ الوحدانية ، واشتد عليهم مقولة : لا إله إلا الله وحده ، وأبى الله إلا أن
ينصرها ، ويخذل ضدها.
والله يختار
لتوحيده والدخول في دينه من يشاء من عباده ، ويوفق لدينه وعبادته من يرجع إلى
طاعته ، ويقبل على عبادته ، وينيب تائبا إلى ربه ، ويثوب إلى رشده.
وهذا يدل على مزيد
فضل الله على عباده المؤمنين : أنه هداهم لدينه ، بعد أن أمرهم بالتمسك بمبدإ
الدين الواحد الذي اتفقت عليه الرسل كلهم.
وسبب التفرق في
الدين ، ليس بسبب الدين ذاته ، فإن أتباع الأديان لم يتفرقوا في اتباع الحق إلا
بعد قيام الحجة عليهم ، وبعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ، وبعد العلم الذي جاءهم :
وهو ما كان حصل في نفوسهم من علم كتب الله تعالى ، فبغى بعضهم على بعض حبا في
الزعامة والرئاسة ، وانحيازا للعصبية وشدة الحمية ، وحفاظا على مراكز القوة
والنفوذ والزعامة ، والمكاسب المادية ، وبغيا وحسدا ، وليس بسبب الرسالات والحجج.
ولو لا القضاء
السابق من ربك بتأخير مجازاتهم إلى الآخرة لعجل لهم الله العقوبة في الدنيا ،
ولفصل بينهم في الدنيا ، وغلب المحق على المبطل ، وهؤلاء المتفرقون : هم كل مدعو
إلى الإسلام من كفار العرب ، واليهود والنصارى وغيرهم. أما العرب : فكانوا يتمنون
بعثة نبي لهم ، فلما أرسل الله تعالى لهم محمدا صلىاللهعليهوسلم كفروا به ، كما جاء في آية أخرى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢)) [فاطر : ٣٥ / ٤٢].
وأما أهل الكتاب :
فعبرت آية أخرى أيضا عن سبب تفرقهم وهي : (وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)) [البينة : ٩٨ / ٤].
وإن ورثة الكتاب
الإلهي المعاصرين لمحمد صلىاللهعليهوسلم من اليهود والنصارى لفي شك موقع في الريبة والقلق من
كتابهم ، لأنهم لم يتبعوا الحق ، وإنما قلّدوا رؤساء الدين ، واتبعوا الأسلاف
والآباء بلا دليل ولا حجة وبرهان ، وهم في حيرة من أمرهم ، فلم يؤمنوا برسالة خاتم
النبيين ، ووصف الشك بالمريب : مبالغة فيه.
هذه دعوة صريحة
لأهل الأديان وغيرهم إلى وحدة الدين الإلهي ، ونبذ الفرقة والخلاف ، والالتقاء في
مظلة واحدة تسعد البشرية جمعاء ، وتنشر المحبة والود والإخاء في أنحاء الأرض
قاطبة.
الأمر بالاستقامة على الدين الواحد
بعد أن أبان الله
تعالى مبدأ وحدة الدين الحق ، وأسباب البعد عنه ، أمر الله نبيه بالدعوة إلى مبدأ
التوحيد ، ووحدة الرسالات الإلهية ، فليس الدين ملكا لأحد ، وإنما واضع الدين هو
الله جل جلاله ، وقد ارتضى لعباده ما اتفقت عليه الرسل الكرام ، بدءا من آدم عليهالسلام ، إلى خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه
عليه ، مما يوجب الإيمان بما أنزل الله تعالى من الكتب كلها ، لأنها مبشّرات
بالخير والسعادة ، قائمة على الحق والعدل والميزان ، كما قال الله تعالى :
(آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢ / ٢٨٥].
ودعوة الإسلام على
هذا النحو : فيها الخير للبشرية كلها ، قال الله تعالى مبينا أصول هذه الدعوة :
(فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ
آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))
[الشورى : ٤٢ / ١٥
ـ ١٩].
__________________
في الآية الأولى :
(فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ) عشرة أوامر ونواه ، كل واحد منها مستقل بذاته ، أولها
أمران : ادع أيها الرسول إلى مبدأ وحدة الدين المتفق عليه ، واستمر على هذه الدعوة
، واستقم على عبادة الله ، وتبليغ الرسالة ، فهي شملت جميع الطاعات وتكاليف النبوة
، هذا مع العلم بأن النبي بحسب قوته في تنفيذ أمر الله تعالى مطالب بتمام
الاستقامة ، وهذا ما دعاه أن يقول : «شيبتني هود وأخواتها» لأن فيها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١ / ١١٢]
وأما أمته فقال لهم النبي بحسب ضعفهم : استقيموا ولن تحصوا.
ثم جاء النهي :
وهو لا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما افتروه واخترعوه من عبادة الأصنام
والأوثان ، ووقعوا فيه من شكوك وتحريفات. ثم أمر الله نبيه أن يقول : صدّقت بجميع
الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله ، من التوراة
والإنجيل والزبور ، وصحف إبراهيم وموسى وشيث.
وأمر الله نبيه أن
يعلن أيضا بأن يعدل بين الناس مهما اختلفت أديانهم بالحق والعدل ، في القضاء
والحكم إذا ترافعوا إليه.
وأمره أيضا أن
يقول : ليس الله إلها لشعب دون شعب أو قوم دون قوم ، كما يعتقد اليهود بأن الإله
هو إله بني إسرائيل ، فالله المعبود بحق لا إله غيره ، هو إله المسلمين وربهم ،
وإله غيرهم ، وخالقهم وخالق الناس جميعا.
وأخبر الله تعالى
أن ثواب أعمال المسلمين وعقابهم خاص بهم ، لا يتحملها عنهم غيرهم ، وكذلك ثواب
أعمال غيرهم وعقابها خاص بهم ، ويبرأ كل فريق من الآخر
__________________
وأعماله ، كما جاء
في آية أخرى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)) [سبأ : ٣٤ / ٢٥].
ومن مضمون الخبر
أو الأمر : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بين الفريقين ، لأن الحق قد ظهر كالشمس ،
والخبر أو الأمر التاسع والعاشر : أن الله يجمع بين الجميع في المحشر يوم القيامة
، فيقضي بينهم بالحق في خلافاتهم ، فإليه مصير جميع الخلائق.
ثم أوضح الله
تعالى بطلان حجة المجادلين في دين الله ، وهم الذين يخاصمون في دين الله بعد
استجابة الناس له ، ودخولهم فيه ، حجتهم زائلة باطلة عند ربهم ، وعليهم غضب عظيم
من الله لمجادلتهم بالباطل ، ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
نزلت آية (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) حينما قال المشركون بمكة للمؤمنين : قد دخل الناس في دين
الله أفواجا ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟!
ثم رد الله تعالى
على المجادلين : بأنه سبحانه هو الذي أنزل جميع الكتب السماوية على الرسل إنزالا
ملازما للحق ، مشتملا عليه ، مقترنا به ، وأنزل مبدأ الميزان ، أي العدل والتسوية
والإنصاف ، ليحكم به بين البشر ، وسمي العدل ميزانا ، لأنه آلة الإنصاف والمعادلة
، فليعمل كل واحد بقاعدة العدل ، قبل الحساب ، وما يعلمك أيها الرسول وكل مخاطب أن
مجيء القيامة قريب الحصول ، فيحاسب كل امرئ على ما قدّم.
لكن يتعجل
المشركون غير المؤمنين بالقيامة بقدومها ، استهزاء وعنادا وتكذيبا ، وأما المؤمنون
فهم خائفون من وقوعها ، ويعلمون أنها كائنة لا محالة ، وأن وقوعها حق ثابت لا محيد
عنه.
ألا تنبه أيها
السامع بأن الذين يجادلون في مجيء القيامة ، ويخاصمون في شأنها مخاصمة شك ، لفي
بعد وجهل ومتاهة عن الحق.
وما أروع ما جاء
بعد هذه الآيات لفتح باب الأمل والرجاء والرحمة : وهو بيان أن الله كثير اللطف
بعباده ، ومن ألطافه أنه يرزق جميع عباده ، بحسب مشيئته ، لا فرق بين برّ وفاجر ،
ومن غير ضعف ، ولكن الله عظيم القوة ، باهر القدرة ، يغلب كل شيء ، ولا يعجزه شيء
في الأرض ولا في السماء.
العمل للدنيا والآخرة
من أبرز خصائص
الإسلام : أنه يحض أبناءه على العمل للدنيا والآخرة ، وهذا دليل الوسطية والعدل
والوعي. وأنه قضى على الوثنية في شبه جزيرة العرب ، بسبب حملته الشديدة على
المشركين ، ووعيدهم بالعذاب ، وإنذارهم به لولا تأخيره في الحكم الأزلي لإعطائهم
الفرصة لإصلاح عقائدهم ، وأدى ذلك إلى الحكم بإيقاع العذاب بالظالمين ، ونجاة
المؤمنين وتبشيرهم بجنان الخلد. وفي ثنايا الحملة على أهل الشرك رد قاطع على
افترائهم بأن القرآن ليس من كلام الله تعالى ، وترغيب لهم ولغيرهم بالمبادرة إلى
التوبة والاستجابة لنداء الحق والإيمان ، حتى يظفروا بمزيد فضل الله تعالى ،
ويتعرض الكافرون للعذاب الأليم. قال الله تعالى موضحا هذه الخصائص :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
تَرَى
__________________
الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً
فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ
الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)) [الشورى : ٤٢ / ٢٠
ـ ٢٦].
المعنى : من كان
يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة ، نقويه ونغنيه ، ونجزيه أحسن الجزاء ، ومن كان
يريد الحصول على شؤون الدنيا وطيباتها ، وإهمال شؤون الآخرة ، نعطه ما قضت به
مشيئتنا ، وليس له في الآخرة حظ. والمؤمن الصادق الواعي من يعمل للدنيا والآخرة ،
كما قال ابن عمر رضي الله عنهما : «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك
كأنك تموت غدا». وقوله تعالى : (نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ) وعد منجز.
بل إن المشركين
لهم أعوان من الشياطين ، شرعوا لهم ما لم يشرعه الله ، مثل تحريم بعض السوائم
وتخصيصها للأصنام ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وتحليل أكل الميتة والدم
والقمار ونحو ذلك من الضلالات.
ولو لا القضاء
الإلهي السابق بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة ، لقضي بين المؤمنين
والمشركين ، وعجلت عقوبة المشركين ، ولكن للظالمين المشركين العذاب المؤلم الشديد
في الآخرة ، كما قال الله تعالى : (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦)) [القمر : ٥٤ / ٤٦].
فقوله تعالى : (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ) استئناف كلام.
ثم ذكر الله تعالى
وصف هذا الجزاء الأخروي ، وهو أنك ترى بالعين المجردة
الكافرين المشركين
خائفين مضطربين يوم القيامة ، مما عملوا من السيئات في الدنيا ، والجزاء واقع نازل
بهم لا محالة ، أما الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال منهم يتمتعون في
روضات الجنان ، لهم ما يشتهون عند ربهم ، من ألوان النعم والملذات ، وذلك هو الفضل
الذي يفوق كل فضل في الدنيا. والروضات : المواضع البهية النّضرة ، وهي في الأغلب
مرتفعة ، وهي ممدوحة عند العرب. وكلمة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) العندية للتشريف والمكانة ، لا المكان المادي أي الجوار
المحسوس.
وهذا الجزاء
للمؤمنين حتمي الوقوع ، وهذا الجزاء هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين الذين
يعملون صالح الأعمال ، أي إن تلك البشارة لمن قرن أو جمع بين الإيمان والعمل بما
أمر الله ، وترك ما نهى عنه.
ثم أمر الله تعالى
رسوله صلىاللهعليهوسلم بالترفع والسمو عن أعراض الدنيا ، فيقول لقومه : لا أطلب
منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا ، إلا أن تودوني لقرابة
بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم. قال ابن عباس وغيره : لم يكن في قريش بطن إلا
ولرسول الله صلىاللهعليهوسلم فيه نسب أو صهر. فالآية على هذا هي استعطاف ودفع أذى سلامة
منهم .
قال قتادة : قال
المشركون : لعل محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا ، فنزلت هذه الآية ، ليحثهم على
مودّته ومودّة أقربائه. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به ابن عباس فيما رواه
البخاري وهو : «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» لأن الآية مكية ، ولم يكن
بين علي وفاطمة زواج إلا بعد بدر ، من السنة الثانية من الهجرة.
__________________
ثم ذكر الله تعالى
: ومن يعمل حسنة ، نزد له فيها حسنا ، أي أجرا وثوابا ، وإن الله يغفر الكثير من
السيئات ، ويكثّر القليل من الحسنات ، ويضاعف الثواب للمحسن.
بل أيقولون :
افترى محمد على الله كذبا بادعاء النبوة ونزول القرآن ، وهذا إفك مفترى ، يرد الله
عليه بأنك يا محمد لو افتريت على الله كذبا ، لطبع على قلبك ، فيمحو الله الباطل ،
ويثبّت أو يحق الحق بكلماته ويؤيده. إنه سبحانه عليم بما تكنه الصدور من حديث
النفس ووساوس القلب.
وللترغيب في
الصلاح : أن الله يقبل من عباده التوبة عن الذنوب ، ويعفو عن السيئات ، ويعلم ما
تفعلون من خير أو شر. ويستجيب الله للذين آمنوا ، وأطاعوا ربهم ، ويزيدهم من فضله
ونعمته على ما طلبوه منه ، وأما الذين كفروا بالله وبنعمته فلهم عذاب شديد مؤلم.
قسمة الأرزاق
لا تغيب العناية
والرعاية الإلهية عن المخلوقات طرفة عين ، فالله تعالى يقسم الأرزاق بحسب علمه
وحكمته ، وبتصريف قدرته ، فينزل الغيث وينشر رحمته ، ويرسل الرياح فتسوق السحب إلى
مواضع نزول القطر ، ويبث الدواب البرية والبحرية والجوية في أنحاء السماوات والأرض
، ويسيّر الفلك أو البواخر بمشيئته وتوفيقه ، ويعلم المجادلين في آيات الله ، علما
بأن متاع الدنيا فان ، والآخرة خير وأبقى ، فلا يغتر أحد بالدنيا ، وإنما يعمل بما
يسعده في الآخرة ، مفوّضا أمر النتائج لله عزوجل ، وهذه سنة الله في مدده وعطائه ، كما تصورها هذه الآيات
الشريفة :
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ
الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ (٢٨)
وَمِنْ
آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ
عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ
(٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)) [الشورى : ٤٢ / ٢٧
ـ ٣٦].
نزلت آية (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ) فيما أخرجه الحاكم وصححه عن علي : في أصحاب الصّفّة ، وذلك
أنهم قالوا : لو أن لنا ، فتمنوا الدنيا والغنى ، وقال خبّاب ابن الأرتّ : فينا
نزلت هذه الآية ـ أي في أهل الصفة ـ وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير
وبني قينقاع ، فتمنيناها.
المعنى : لو وسّع
الله الرزق على عباده ، ومنحهم فوق حاجتهم ، لحملهم ذلك على البغي والطغيان ،
وعصوا في الأرض ، كما حدث من قارون وفرعون ، ولكنه تعالى ينزّل الرزق لعباده
بتقدير معين ، على حسب مشيئته ، وبمقتضى حكمته ، إنه سبحانه خبير بأحوال عباده ،
بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه.
هذا إعلام من الله
تعالى : أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم ، لكان سبب بغيهم وفسادهم ،
ولكنه عزوجل أعلم بالمصلحة في لكل إنسان ، وله بعبيده خبرة وبصر
بأخلاقهم ومصالحهم ، فرب إنسان لا يصلح إلا بالفقر ، وآخر بالغنى.
والغيث سبب الرزق
، فينزل الله المطر بعد يأس الناس في وقت حاجتهم إليه ، وينشر رحمته ، أي المطر
على الأراضي ، وهو المتولي أمور أو شؤون عباده بالإحسان إليهم ، وجلب النفع لهم ،
ودفع الشر عنهم ، وهو المحمود على نعمه الكثيرة.
وكل ذلك يتم
بمعيار دقيق من الإله الحكيم القدير ، ومن دلائل عظمة الله وقدرته وسلطانه : خلق
السماوات والأرض على هذا النحو البديع ، وما نشر وفرّق في السماوات والأرض من
الدواب المتحركة ، ويشمل ذلك الملائكة والإنس والجن ، وسائر أنواع الحيوان ، والله
تام القدرة على جمعهم في صعيد واحد ، وحشرهم يوم القيامة.
وقد يحتجب الرزق
بسبب المعاصي ، وما أصابكم أيها الناس من المصائب ، كالآلام والأسقام ، والقحط
والغرق ، والصواعق والزلازل ونحوها ، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها ، ومعاص
ارتكبتموها ، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها في الدنيا ، ويعفو الله عن كثير من
المعاصي ، فلا يعاقب عليها.
جاء في الحديث
الذي أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن الحسن البصري : «لا يصيب ابن آدم
خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو عنه أكثر».
ولستم أنتم أيها
المذنبون الكافرون بمعجزين الله حيثما كنتم ، ولا تتمكنون من الإفلات من العقاب ،
فبنو آدم عجزة قاصرون ضعفاء ، وهم في قبضة القدرة الإلهية ، ولا يمكنهم الفرار من
طلب ربهم.
ومن آيات قدرة
الله وسلطانه : إجراء السفن السائرة في البحار كالجبال ، سواء أكانت شراعية أم
بخارية أم كهربائية أم ذرية ، وإن يرد الله إيقاف السفن الجارية ، يجعل الرياح
ساكنة ، والطاقة متعطلة ، فتصبح السفن ثوابت رواكد على ظهر البحر ، لا تسير ولا
تتحرك ، إن في أمر إجراء السفن في أعالي الموج والماء لدلالة عظيمة على قدرته
تعالى ، لمن كان كثير الصبر على الشدائد وعلى طاعة الله ، كثير الشكر على النعمة.
وإن يشأ الله يهلك أو يتلف السفن بالغرق بما كسب ركابها من البشر ، أي
بذنوب البشر ،
ويعف عن كثير من ذنوبهم ، أو عن كثير منهم ، فينجيهم من الغرق ، ويعلم الله الذين
ينازعون في آيات الله ، ويكذبونها ، ولا يتمكن أحد من الفرار أو المهرب أو النجاة
من عذاب الله.
وما أروع ما عقب
الله تعالى على هذه الآيات : وهو التحذير من الاغترار في الدنيا ، فما أعطيتم من
الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان ، فإنما هو متاع قليل في الدنيا ، وما عند
الله من ثواب الطاعة ونعيم الجنة خير من متاع الدنيا ، وأبقى وأدوم ، لأنه لا
ينقطع ولا ينقص ، أما متاع الدنيا : فهو ينقطع أو ينقص بسرعة ، وبقاؤه لأهل
الإيمان الصحيح بالله ورسوله ، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم.
قال علي رضي الله
عنه : تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله ، فلامه جمع ، فنزلت الآية : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ ..)
جاء في الحديث أنه
أنفق ثمانين ألفا.
صفات أهل الجنة
لم يترك القرآن
الكريم شيئا إلا أوضحه وأعلنه ، فذكر صفات أهل النار وأسباب استحقاقهم للعذاب ،
وذكر صفات أهل الجنة وما أهّلهم للنعيم والثواب ، وهذه الصفات الطيبة : هي الإيمان
بالله إلها واحدا ، والتوكل عليه بعد اتخاذ الأسباب ، واجتناب الكبائر من الذنوب
والعفو عند المقدرة ، وإطاعة الله وترك نواهيه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،
والتشاور في الأمور كلها ، والشجاعة والقوة في استرداد الحقوق المغتصبة ، وقد نصت
الآيات الكريمة الآتية على هذه الصفات ، لضرورة الاتصاف بها ، قال الله تعالى :
(وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
(٣٩)
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ (٤٣)) [الشورى : ٤٢ / ٣٧
ـ ٤٣].
نزلت آية (وَإِذا ما غَضِبُوا) في عمر حين شتم بمكة. وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس
على إنفاق ماله ، وحين شتم فحلم.
وصف الله تعالى
أهل الجنة بالإيمان بالله وبالتوكل على الله ، وبالصفات السبع الآتية :
ـ إنهم هم الذين
يتجنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيدا شديدا ، كالشرك والقتل
العمد وعقوق الوالدين ، ويتجنبون أيضا الفواحش : وهي كل ما استقبحه الشرع والعقل
السليم ، كالغيبة والكذب ، والزنا والسرقة والمحاربة (قطع الطريق).
ـ وهم عند الغضب
يكظمون الغيظ ، ويحلمون على الظالم ، ويعفون عن إساءته ، لأن الحلم سيد الأخلاق ،
والعفو والصفح سمة العظماء ، وهذا حض على كسر الغضب ، والتدرب على إطفائه ، إذ هو
جمرة من جهنم.
ـ وهم الذين
يستجيبون إلى ما دعاهم إليه ربهم ، ويطيعونه فيما أمر به من توحيد الله ، ونبذ
الشرك ، وإطاعة الرسول فيما أمر به وزجر عنه ، وهذا مدح لكل من آمن بالله تعالى
وقبل شرعه.
نزلت هذه الآية في
الأنصار ، دعاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الإيمان ، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.
ـ ويؤدون الصلاة
المفروضة في أوقاتها بنحو تام الأركان والشروط ، وبخشوع لله وقلب صاف مرتبط بالله
، والصلاة عماد الدين وأعظم العبادات.
ـ ويتشاورون فيما
بينهم في الأمور الخاصة والعامة ، كشؤون الحكم والولاية وإعلان الحرب ، وتولية
الولاة والقضاة والموظفين وغير ذلك من الشؤون العامة والخاصة.
ـ وينفقون في سبيل
الله وطاعته بعض ما رزقهم الله من أموال وخيرات ، لأن الإنفاق قوة للأمة ، وعلاج
للضعف ، وسبيل لإعزاز الأمة ، وتحقيق التكافل المطلوب بين الأغنياء والفقراء.
ـ وهم شجعان أشداء
، فإذا تعرضوا للظلم والاعتداء ، انتصروا ممن ظلمهم ، واستردوا حقوقهم السليبة ،
وإذا قدروا عفوا ، وهذا مدح لمن انتصر على البغي.
ورد الظلم مشروط
بتحقيق المماثلة دون تجاوز ، فيكون عقاب السيئة مماثلا لأصل الجناية ، والمساواة
مطلوبة بين الجريمة والعقوبة ، ومن عفا عن الظالم المسيء ، وأصلح بالود والعفو ما
بينه وبين من عاداه ، فثوابه على الله ، إن الله يعاقب المبتدئين بالظلم ،
المتجاوزين حدودهم ، وسمي جزاء السيئة سيئة ، مع أن المجازاة من الله تعالى ليست
سيئة ، تسمية للشيء باسم ما يوجبه ويسببه.
ثم أكد الله تعالى
على مشروعية دفع الظلم أو البغي ، في الآية : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ) اللام في (لمن) لام القسم ، أي جواب قسم محذوف.
أي تالله إن
المنتصر من الظالم بعد ظلمه له ، لا سبيل عليه بمؤاخذة أو عقاب ، لأن الانتصار بحق
، كأن يشرع القصاص في الجنايات العمدية ، أو تضمن جنايات الخطأ والإتلافات ، ويجوز
الشتم والسب معاملة بالمثل ، دون اعتداء ولا تجاوز ، وهذا في معنى آية أخرى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء :
٤ / ١٤٨] لكن من
أتلف مال إنسان لا تجوز مقابلته بالإتلاف ، وإنما يطلب الضمان أو التعويض عن
الضرر.
نزلت هذه الآية : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد شتمه بعض الأنصار ،
فرد عليه ، ثم أمسك.
وإنما المؤاخذة
والعقاب على الذين يبدءون الناس بالظلم ، أو يتعدّون مبدأ المماثلة ، ويتجاوزون
الحد في الانتقام ، ويجنون على النفوس والأموال بغير حق ، ويتكبرون بظلم الناس
وسلب الحقوق. ويضعون الأشياء في غير مواضعها ، من القتل وأخذ المال وإيذاء اليد
واللسان ، وأولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود ، لهم عذاب مؤلم شديد بسبب
اعتدائهم ، وهذا توعد بالعذاب في الآخرة. والبغي بغير الحق في الآية : هو نوع من
أنواع الظلم ، خصه الله بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه.
ثم أكد الله تعالى
الترغيب في العفو بالقسم في قوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ) أي تالله ، إن من صبر على الأذى ، وستر السيئة ، وغفر خطأ
من ظلمه ، فذلك الصبر والعفو ، لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة ، التي يثاب
عليها بالثواب الجزيل والثناء الجميل ، لمنع الاسترسال وراء الغضب وحب الانتقام ،
فقوله تعالى : (لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ) أي محكمها ومتقنها والحميد العاقبة منها ، وهذا دليل على
قوة الإرادة وتماسك الشخصية.
سوء حال الكفار في الآخرة
لا شيء أصعب على
النفس من الاصطدام أمام الواقع ، والمفاجأة بنوع العقاب الذي كان يظن أنه مجرد
تهديد ووعيد ، وحينئذ تكون الأحوال شديدة وصعبة ، فترى
الكافرين في
الآخرة يتمنون الرجوع إلى الدنيا ، فيحتقر شأنهم ، ولا يبالي بهم أحد من المؤمنين
، ويقفون أمام النار ذليلين خائفين ، ويلمسون الخسارة المحققة في الأنفس والأهل ،
ولا أمل لهم في النجاة ، فلا يجدون أنصارا يخلصونهم من العذاب ، ومن أضله الله
بسبب ما اكتسب واختار من الإثم ، فلا سبيل لنجاته. وهذه آيات كريمة تصور لنا هذا
الموقف المخزي :
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ
(٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))
[الشورى : ٤٢ / ٤٤
ـ ٤٦].
هذا تبيان حال
الكفرة الذين اختاروا الكفر على الإيمان ومالوا إليه ، فأضلهم الله تعالى ، وتركهم
يتيهون في وهاد الضلال ، لفقد استعدادهم للإيمان ، ومن يضله الله ، فما له من أحد
يتولى هدايته ونصره ، أو إنقاذه إلى طريق الهدى والرشاد. وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بيان أنه لا يقع شيء في الكون ، من الهدى والضلال وغيرهما
إلا بإرادة الله ومشيئته ، حتى لا يوصف بالعجز. وليس في هذا القول إجبار على
الضلال ، وإنما بيان من علم الله أنه يختار الضلال ، فيزيده الله ضلالا.
وأحوال هؤلاء
الضالين الظالمين في الآخرة معقدة وشائكة وأهمها ستة :
ـ ترى : الرؤية
هنا رؤية عين ، أي تبصر أيها الإنسان المشركين الكافرين بالله ، المكذبين بالبعث ،
حين نظروا إلى النار ، وعاينوا العذاب ، يتمنون الرجوع إلى الدنيا ، من أي طريق.
وهذه المقالة المعبرة عن بحثهم عن سبيل النجاة : تدل على سوء ما اطلعوا عليه.
والمردّ : موضع الرد إلى الدنيا ، قاصدين بذلك استدراك العمل والإيمان.
ـ وتبصرهم أيضا
يعرضون على النار ، وهم خائفون أذلاء ، يسارقون النظر إليها من شدة الخوف ، فقوله
تعالى : (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي قليل ، والطرف هنا مصدر ، أي يطرف طرفا خفيا.
ـ وقال أهل
الإيمان يوم القيامة حين رأوا الكافرين على هذه الحال : إن أهل الخسارة الكبرى :
هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، بدخول النار ، والخلود فيها ، خسروا أنفسهم
بصيرورتهم معذبين في النار ، وخسروا أهليهم لأنهم تسببوا في تعذيبهم.
ـ ألا إن الكافرين
في عذاب دائم لا ينتهي ، ولا يخرجون منه. وهذا إما من قول المؤمنين ، حكاه الله
تعالى ، أو استئناف من قول الله تعالى ، وإخبار لمحمد صلىاللهعليهوسلم بما يؤول إليه مصير الضالين المكذبين.
ـ وليس للظالمين
أعوان وأنصار من غير الله ، ينقذونهم مما هم فيه من العذاب.
ثم أكد الله تعالى
اليأس من نجاتهم بقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) والمعنى : ليس للكافرين أعوان وأنصار من غير الله ،
ينقذونهم مما هم فيه من العذاب ، وهذا إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر
الكفار ولايتها ، واعتقدوا ذلك دينا ، والمراد : فما لهم يوالون هذه التي لا تضر
ولا تنفع ، ولكن من يضلل الله فماله من سبيل هدى ونجاة ، أي من يحجب الله عنه
توفيقه إلى الإيمان ، بسبب علم الله السابق بما سيختاره ويقترفه من الآثام ، فلا
طريق له إلى النجاة والجنة. ولا غرابة في وقوع تلك الظواهر ، لأنهم قوم ضالون
منحرفون عن سبيل الإيمان والحق.
هذا وصف دقيق لسوء
أحوال الظالمين الكافرين الذين اختاروا الشرك والوثنية : قلق وحيرة ، وحسرة وندامة
، والتماس طريق النجاة باقتراح العودة إلى الدنيا ، ويتملكهم الخوف والذعر الشديد
، ويلحقهم الذل والهوان والتحقير ، ويبحثون عن
النصراء والأعوان
لإنقاذهم من عذاب الله فلا يسعفهم أحد ، إذ إنه ليس للأصنام المعبودة ، ولا لبعض
المتألهين ، أي شفاعة أو مجال ينفعون به غيرهم ، لأن الأمر كله بيد الله ، وتخيب
المساعي كلها في الإنقاذ ، لأن عالم الآخرة عالم الحساب ، والقضاء ، وتنفيذ الأحكام
، ولا يقبل من أحد العذر أو التأسف أو الندم ، فقد كان مجال هذا في الدنيا ، فهي
دار التكليف والاختبار ، أما الآخرة : فهي دار القرار النهائي ، ومقر إصدار
الأحكام الإلهية ، وتنفيذها من غير اعتراض ولا أمل في نقض حكم أو تغيير قضاء.
الاستجابة لأمر الله تعالى
وجّه الله تعالى
في قرآنه الناس جميعا إلى المبادرة للإيمان ، والإجابة لما يحيي القلوب ، ويضيء
النفوس ، وينقذ الإنسان من عواقب الهلاك ، والشر ، وأسلوب التوجيه متعدد ، ومتنوع
، بالترغيب مرة ، والترهيب مرة أخرى ، والإطماع بجنان الخلد ، والتحذير من أهوال
القيامة والحساب الشديد ، وبيان تقلب النفس ، تفرح عند الرحمة الإلهية ، وتجحد
النعمة عند التعرض لمصيبة ، وإدراك أن ملك السماوات والأرض بيد الله وحده ، يهب
الذرية للإنسان بحسب مشيئته وعلمه وحكمته ، وقد يمنعها عنه ، مع أن الله قدير على
كل شيء ، وهذه الآيات تبين مدى إجابة الإنسان لدعوة الله :
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ
__________________
الْبَلاغُ
وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً
وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)) [الشورى : ٤٢ / ٤٧
ـ ٥٠].
يأمرنا الله تعالى
بالاستجابة لدعوة الله تعالى وشريعته ، والمبادرة إلى الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من قبل مجيء يوم يكون كلمح البصر ، لا ملجأ ولا منجى
لأحد فيه ، ولا يردّ أحد بعده إلى عمل ، إنه يوم القيامة ، يحذرنا الله تعالى من
أهواله ومفاجاته ، حيث لا يفيد الإنسان شيء إلا العمل الصالح في الدنيا ، ولا
إنكار ما ينزل بالناس من عذاب. والنكير : مصدر بمعنى الإنكار ، لا بمعنى المنكر
اسم فاعل من فعل «نكر» ، لأن المعنى يصبح بعيدا ، لأن (نكر) إنما معناه لم يميّز
وظن الأمر على غير ما عهد. وهذا كقوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ (١٢)) [القيامة : ٧٥ /
١٠ ـ ١٢].
فإن أعرض المشركون
عن إجابة دعوة الله ورسوله ، فما أرسلناك أيها الرسول موكلا بهم ، رقيبا عليهم ،
تحفظ أعمالهم وتحصيها ، حتى تحاسبهم عليها ، فليس عليك إلا تبليغ الرسالة ، وأداء
الأمانة ، وإيصال الحجة.
إلا أن القوم
المشركين عتاة أشداء مضطربون ، إذا منحهم الله رحمة أو نعمة ، وأمدهم بأمن وخير ،
ووفرة رزق ، فرحوا بها واستبشروا ، وإن أصابتهم سيئة كجدب أو نقمة ، ومرض أو فقر ،
لاقترافهم المعاصي والذنوب ، فإن الإنسان جحود للنعمة ، متنكر للمعروف ، فإن
أصابته نعمة تكبر ، وإن تعرّض لمحنة أو مصيبة يئس وأعرض. والكفور : المبالغ في
كفران النّعم.
ثم أخبر الله
تعالى عن أدلة قدرته ، فهو مالك السماوات والأرض والمتصرف
فيهما بما يريد ،
وملكه محيط بالخلق ، ومشيئته نافذة في جميع المخلوقات ، وفي كل أمورهم ، فإن الله
تعالى وحده يخلق ما يشاء ، ويمنع من يشاء ، يهب من يشاء البنات فقط ، ويرزق من
يشاء البنين فقط ، ويعطي من يشاء الصنفين معا ذكورا وإناثا ، فالتزويج هنا بمعنى
الجمع بين البنين والبنات ، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له ، لأن الملك ملكه ،
يتصرف في شؤون خلقه على وفق العلم الشامل ، والحكمة الدقيقة ، والمصلحة الحقيقية ،
فإنه سبحانه عليم بمن يستحق كل صنف من أصناف الأولاد ، تامّ القدرة على منح ما
يريد أو منع ما يشاء. فقوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً) معناه أن يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا وأنثى. والعقيم
: الذي لا يولد له.
وإنما بدأ الله
تعالى بذكر الإناث تأنيسا بهن وتشريفا لهن ، وحملا على العناية بهن ، والإحسان
إليهن ، قال النبي عليه الصلاة والسّلام ـ فيما أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأحمد
: «من ابتلي من هذه البنات بشيء ، فأحسن إليهن كن له حجابا من النار». وقال واثلة
بن الأسقع فيما حكاه الثعلبي عنه : «من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر ؛
لأن الله تعالى بدأ بالإناث». وقال إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهمالسلام ، ثم عمّمت ، فلوط عليهالسلام أبو بنات ، لم يولد له ذكر ، وإبراهيم عليهالسلام عكسه ، لم يولد له إلا الذكور ، ومحمد عليه الصلاة
والسّلام ولد له الصنفان ، ويحيى بن زكريا عليهماالسلام عقيم.
وهذا التوزيع
الإلهي في رزق الأولاد ، كقسمة الأرزاق بين العباد ، نابع من الحكمة الإلهية لخير
الإنسان ، أو لما يعلم له من أحوال تناسبه أو لمصالح بعيدة المدى.
أنواع الوحي
الوحي الإلهي
حقيقة واقعة لا ينكرها إلا كل جاحد منكر للدّين ، وهو فضل من الله تعالى ونعمة ،
من أجل خير الإنسان ونفعه ، وهو واحد وأمر مشترك بين جميع الأنبياء والرسل ، ولو
لا الوحي لضل البشر وبقوا تائهين ، تتحكم فيهم الأهواء والشهوات ، وتستبد بهم
المطامع والمصالح الذاتية ، فكان من رحمة الله تعالى أن يجمع الناس على منهج واحد
وصراط مستقيم ، وذلك بالوحي المنزل على الرسل ، سواء ما كان منه مكتوبا أو بالمعنى
، وهذه آيات تدل على أنواع الوحي وأغراضه :
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))
[الشورى : ٤٢ / ٥١
ـ ٥٣].
سبب نزول الآية
الأولى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ)
أن اليهود قالوا
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلّمه موسى؟
فنزلت ، وقال : لم ينظر موسى إلى الله تعالى.
المعنى : لا يكون
لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ، ولا ينبغي له ، ولا يمكن فيه أن يكلمه
الله تبارك وتعالى إلا بأن يوحي إليه بأحد أنواع الوحي : إما أن يكون وحيا مباشرا
: وهو الإلهام والإلقاء في القلب يقظة أو في المنام ، كرؤيا إبراهيم الخليل عليهالسلام ذبح ولده.
__________________
وإما بأن يكون
بسماع كلام من وراء ستار أو حجاب ، أي من خفاء عن المكلّم ، لا يستطيع تحديده أو
تصوره بذهنه ، ومن غير واسطة ، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى ، كما كلم الله
موسى عليهالسلام من وراء الشجرة المباركة ، وكان موسى قد طلب رؤية الله بعد
التكليم ، فحجب عنها. وإما بأن يكون بوساطة إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو
غيره ، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي
إليه ، وهذا دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم.
ثم أوضح الله
تعالى تشابه الوحي بين النبي محمد وبين من تقدمه من الأنبياء عليهم الصلاة
والسّلام ، وهو أنه مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء. أوحينا إليك يا محمد هذا
القرآن الذي هو من أمر الله عزوجل ، وهو بمثابة الروح حياة للأنفس وإنارتها بعد ظلامها
وجهالتها ، ومبدأ للحضارة والعلم والتقدم ، والحد الفاصل بين عهدين : عهد الأمية
والجهالة والفوضى ، وعهد العلم والمعرفة والنظام ، فالروح في هذه الآية : هو
القرآن الكريم وهدى الشريعة ، سمّاه الله روحا ، لأنه يحيي به البشر والعالم ، كما
يحيي الجسد بالروح ، فهذا على جهة التشبيه. وقوله : (مِنْ أَمْرِنا) أي واحد من أمورنا أو كلامنا.
وإنزال القرآن على
قلب النبي صلىاللهعليهوسلم دليل على مقدار النعمة ، فأنت أيها النبي رجل أمي لا تقرأ
ولا تكتب ، ولم تكن قبل القرآن المنزل عليك تعرف ما القرآن ، وما معنى الإيمان ،
ولا تفاصيل الشرائع ، ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا ، نهدي
به من نشاء هدايته ، أي نرشد ، لأنه النور الذي يهتدي به الناس في ظلمات الحياة ،
كما جاء في آية أخرى : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)) [الإسراء : ١٧ / ٩].
والضمير في جعلناه : عائد على القرآن.
وإنك أيها الرسول
لترشد الناس إلى طريق مستقيم ، ومنهاج قويم ، فقوله تعالى : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني صراط شرع الله تعالى ورحمته ، وطريق الله الذي له ملك
السماوات والأرض ، وربّهما المتصرف فيهما ، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه ، والأمور
كلها صائرة على الدوام إلى الله تعالى ، وليس لأحد غيره ، فيحكم بقضائه العدل.
وهذا وعد للمتقين ، ووعيد للظالمين ، وتقريع لمن في ذهنه أن شيئا من الأمور إلى
البشر. قال سهل بن أبي الجعد : احترق مصحف ، فلم يبق منه إلا قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
لقد اقترنت جهود
النبي صلىاللهعليهوسلم بنور القرآن وهدايته ، وكان هذا الرسول يدعو إلى الخير ،
ومناصرة الحق ، ويستمسك بالقرآن المجيد ، ويدعو إلى السداد والطمأنينة ، والاعتدال
والوسطية وإقامة المجتمع الفاضل ، ولا يزال هذا النبي منصورا بأمر الله. والمقصود
هو الإرشاد إلى دين قويم ، لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي به ختمت النبوات
، وانتهت به الرسالات.
تفسير سورة الزخرف
عربية القرآن وموقف قريش منه
لم يدع الحق
سبحانه وتعالى عائقا أمام العرب لإيمانهم بالقرآن ونبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فجعل القرآن بلسانهم العربي ، وأخبرهم بأنه من كلام الله
تعالى ومن عنده ، لا من عند محمد عليهالسلام ، ولم يتركهم الله من دون إنذار أو تذكير ، ولو كانوا
مسرفين في الملذات والإنكار والتكذيب ، عاكفين على الشرك ، وحذرهم من تكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم ، كما فعل الذين من قبلهم ، وظلوا مستهزئين بنبيهم ومكذبين
له ، فأهلكهم الله تعالى ودمّرهم ، فعليهم أن يعتبروا بما حدث لأمثالهم ، وهذا ما
تضمنته الآيات الآتية في مطلع سورة الزخرف المكية بالإجماع :
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ
أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ
إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً
وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))
[الزخرف : ٤٣ / ١
ـ ٨].
افتتحت السورة
بالأحرف الهجائية : (حم) للتنبيه على خطر ما يأتي في هذه السورة ، ولتحدي العرب
بالإتيان افتراء بمثل أقصر سورة من القرآن ذات الموضوع الواحد ، لأنه بلغتهم ومن
أصول مادة كلامهم. لذا كان الغالب بعد هذه الأحرف
__________________
الكلام عن القرآن
، وقد أقسم الله تعالى بالقرآن البيّن الواضح ، الجلي المعاني ، الذي أبان طريق
الهدى والنور.
فكلمة (المبين)
إما من (أبان) أي ظهر ، فلا يحتاج إلى مفعول ، وإما من (بان) وهذا يحتاج إلى مفعول
تقديره : المبين الهدى والشرع ونحوه.
ومن أجل إفهام
العرب وتدبر معانيه ، جعلناه منزلا بلسان عربي فصيح واضح ، لتتعقلوا آياته ، فلا
يعسر فهمها وإدراكها ، والتعرف على أسرارها وإعجازها ، وجعلناه بلسانكم لئلا يبقى
لكم عذر ، وهذا هو المقصود من قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) فهو ترجّ بحسب معتقد البشر ، فمن تدبّر الآيات يرجى منه أن
يعقل ويفهم الكلام. وأم الكتاب : اللوح المحفوظ ، فإنه أصل جميع الكتب السماوية ،
وفي هذا تشريف للقرآن وترفيع.
وإن هذا القرآن
عند الله رفيع القدر ، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك ، ومحكم النظم ،
لا لبس فيه ، ولا اختلاف أو تناقض ، كما جاء في آية أخرى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ) [المائدة : ٥ / ٤٨].
وآية : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٤ / ٨٢].
وهل نترككم أيها
العرب وغيركم من غير تذكير ، ولا وعظ ، ولا أمر ولا نهي ، لأنكم مسرفون في الإنكار
والتكذيب؟ أو أنهملكم ونبعد الذكر عنكم ، ونمسك عن إنزال القرآن لكم ، لأنكم تجاوزتم
الحدود المعقولة في أعمالكم؟ وقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) صفحا : مصدر ، مفعول مطلق لنضرب من غير لفظه ، مثل : قعدت
جلوسا.
ولا تعجب أيها
الرسول من إعراض قومك عن رسالتك ، فهذه سيرة الأولين الغابرين ، فإنه لم يأتهم نبي
ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون ، كتكذيب قومك واستهزائهم بك. وقوله : (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ظاهرة العموم ، والمراد به الخصوص ، فيمن استهزءوا ، وإلا
فقد كان في الأولين : من لم يستهزئ. والآية وعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب
أشد منهم بطشا.
لقد أهلكنا قوما
هم أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك أيها النبي ، وقد سبق إيراد مواقفهم أكثر
من مرة ، وعرفت سنة الله فيهم. فعليهم أن ينظروا في مصائر المتقدمين ، ليحذروا
الوقوع في مثل مصائرهم. وكلمة (مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) معناها : سنة أو سيرة أو عقوبة المتقدمين ، والمعنى : سلف
أمرهم وسنتهم ، وصاروا عبرة للأمم. والأولون : هم الأمم الماضية كقوم نوح ، وعاد
وثمود وغيرهم. والمراد : أننا جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين : أن يصيبهم مثل
ما أصابهم ، كما جاء في آية أخرى : (فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف : ٤٣ / ٥٦].
هذه حملة مركزة
على قريش وأمثالهم ، حيث لا عذر لهم في ترك إجابة دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقد وضحت أمامهم السّبل ، وكثر تذكيرهم ، وتجاوزوا
الحدود في الإسراف والعصيان ، وضربت لهم الأمثال ، وجعلت أمامهم العبر والمواعظ ،
فلم يبق عندهم عذر في معارضة دعوة الإسلام ، فليتهم بادروا إلى الإيمان بالله وحده
، وترك الاستهزاء ، وإذا لم يتعظوا وأصروا على الكفر والتكذيب ، استحقوا إنزال
العذاب وألوان الخزي والهوان ، كما نزل بمن قبلهم من ألوان العقاب والإهلاك
والتدمير بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم ، والعاقل : من اتعظ بغيرهم ، وأقلع عن
المعصية إذا شاهد عقوبة العصاة.
من عجائب الصنع الإلهي
ما أحلم الله
تعالى على عباده ، وما أصبره على مخلوقاته ، يخلقهم ويرزقهم وينعم عليهم ، ومع ذلك
يكفرون به ، ويجحدون بوحدانيته ، فيتنزل لمستواهم الفكري ، ويقيم لهم الأدلة
والبراهين الكثيرة على عظمة ذاته وقدرته ، ومن أهمها إبداع مصنوعاته وعجائب
مخلوقاته ، وكثرة نعمه وآلائه ، وإذا افتقر الإنسان أو أصيب بمصاب ، لم يجد غير
الله ملجأ ، ولا سواه ملاذا ، فيفرّج كربته ، ويكشف أزمته أو محنته ، وهذه ثمانية
أدلة على وجود الله وتوحيده ، مما يلمسه كل إنسان. ويحسّ به من مشاهدات الكون :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ
لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ
(١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))
[الزخرف : ٤٣ / ٩
ـ ١٤].
هذه أوصاف أفعال
الله تعالى ، وهي نعم منه سبحانه على البشر ، تقوم بها الحجة القاطعة على كل كافر
مشرك بالله تعالى ، وهي هنا ثماني صفات :
١ ـ ٣ ـ تالله لئن
سألت أيها الرسول المشركين بالله : من الذي خلق السماوات والأرض؟ لأجابوا بأن
الخالق لهما هو الله وحده لا شريك له ، وأن الله هو القوي الغالب مما يدل على كمال
قدرته ، وأنه الواسع العلم ، مما يرشد إلى تمام علمه ، وهذا احتجاج على قريش ، يدل
على تناقضهم في أمرهم ، وذلك أنهم يقرون أن
__________________
الخالق الموجد لهم
وللسماوات والأرض هو الله تعالى ، وهم مع ذلك يعبدون أصناما ، ويدّعون أنها آلهة
لهم ، وهي عاجزة عن كل شيء ، وأما الله تعالى فهو الموصوف بالقدرة التامة على خلق
جميع الممكنات ، لتميزه بالقوة والعلم الكاملين.
٤ ـ والله تعالى
هو الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش والبساط ، صالحة للإقامة ، والاستقرار عليها ،
ويتصرّف فيها بسهولة ويسر.
٥ ـ وخلق الله
تعالى في الأرض والطرق والمسالك ، ليتمكن الإنسان من الاهتداء بسلوكها إلى المقاصد
والمنافع ، والانتقال بين الأرجاء ، للاتجار وطلب الرزق والسياحة ونحوها.
٦ ـ والله سبحانه
هو الذي أنزل من السحاب المطر بقدر الحاجة ، وبمقتضى المصلحة للزروع والثمار
والشرب ومصلحة الإنسان ، فأحيا به الأرض الميتة ، وأخرج منها النبات ، وكما أحيا
الله الأرض بعد موتها ، يحيي الأجساد يوم القيامة بعد موتها ، ويبعث الناس من
القبور. ومن حكمته تعالى وفضله : أنه لا ينزل المطر فوق الحاجة ، لئلا يؤدي إلى
الطوفان والغرق الشامل ، وهدم المنازل ، وتلف الزروع ، ولا يقصر عن الحاجة حتى
تتحقق الكفاية في النبات والزرع والناس. فكلمة (بقدر) أي بمقدار الكفاية.
٧ ـ والله تعالى
خلق الأزواج ، أي الأنواع أو الأصناف كلها من كل شيء ، من الزروع ، والثمار ،
والأشجار ، والإنسان والحيوان وغير ذلك ، مما نعلمه وما لا نعلمه.
٨ ـ والله هو الذي
خلق وسائل الركوب والحمل من السفن والأنعام : وهي الإبل والبقر والغنم. وفي
الأنعام فوائد أخرى من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار والأصواف. والله تعالى
صرح بكيفية الانتفاع بالسفن والأنعام : بأن
تستقروا على
ظهورها ، ثم تتذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم ، وتقولون بعد الركوب عليها : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي تنزه الله تعالى عن كل نقص وعجز ، الذي ذلّل لنا هذا
المركب ، وما كنا مطيقين لتسخيره ، لو لا أن سخره الله لنا ، وإنا لصائرون راجعون
إليه بعد مماتنا ، فيجازي كل نفس بما عملت من خير أو شر. وهذه الآية خاصة في ركوب
الحيوان ويقال عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.
ويقال عند ركوب الفلك بما جاء في آية أخرى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها
وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود : ١١ / ٤١].
والسنة للراكب إذا ركب أن يقول : الحمد لله على نعمة الإسلام ، أو على النعمة
بمحمد عليه الصلاة والسّلام ، أو على النعمة في كل حال.
وفي دعاء الركوب
هذا : إقرار واضح بعجز الإنسان ، وأمر بالإقرار بالبعث ، وترداد القول به.
روى ابن أبي نجيح
والنحاس عن مجاهد عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أن الإنسان إذا ركب ، ولم يقل ما في هذه الآية (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) جاء الشيطان فقال له : تغنّه ، فإن كان يحسن تغنّى ، وإلا
قال له : تمنّه ، فيتمنى الأباطيل ، ويقطع زمنه بذلك.
من أباطيل الجاهلية وتناقضات المشركين
على الرغم من
اعتراف المشركين بأن الله هو خالق السماوات والأرض ، صدرت منهم عدة أباطيل
ومتناقضات مع ذلك الاعتراف ، منها نسبة الملائكة لله وأنها بنات الله ، والزعم بأن
عبادة الملائكة بمشيئة الله ، وأن الملائكة إناث لا ذكور ، وإذا نوقشوا في هذا لم
يجدوا جوابا إلا أنهم يقلدون الآباء تقليدا أعمى ، مثلما يقول المترفون في غابر
الزمان ، حتى ولو عارض ذلك العقل أو المنطق ، أو رأوا أفضل
وأرشد مما كان عند
الأسلاف ، وحيث أفلس المترفون من كل دليل أو حجة ، وأصروا على التقليد الباطل ،
انتقم الله منهم فصاروا مضرب الأمثال ، كما تحكي هذه الآيات الشريفات :
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما
ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ
يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ
قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ
(٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ
قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ
مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ
آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))
[الزخرف : ٤٣ / ١٥
ـ ٢٥].
هذه ألوان من
تناقضات المشركين وأباطيلهم ، فإنهم على الرغم من إقرارهم بألوهية الله وأنه خالق
الأرض والسماء ، نسبوا له من عباده ولدا ، فقالوا : الملائكة بنات الله ، إن
الإنسان جحود نعمة ربه ، بيّن الجحود ، والجحود من أبين الكذب ، وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أتى بلفظ الجنس العام ، والمراد : بعض الإنسان ، وهو هؤلاء
المشركون الجاعلون الملائكة بنات الله. وجحودهم بهذا السخف الخالي من الحجة ،
فالله هو خالق كل شيء ، فكيف ينسب إليه شيء من مخلوقاته؟ وذلك
__________________
يتنافى مع كمال
الله عزوجل وتنزيهه عن مشابهة الحوادث. وهم قد زعموا أن كل العباد ليس
لله ، بل بعضها لله ، وبعضها للشركاء ، فالآية لإنكار الشريك لله.
لذا أنكر الله
تعالى على هؤلاء أشد الإنكار باتخاذ ولد لله ، وكيف يصح أن يتخذ لنفسه من خلقه
البنات أضعف الجنسين ، ويختار لعباده الأفضل وهو الذكور؟ وهذا يعني أن الله تعالى
جعل لنفسه المفضول من الصنفين ، وللناس الفاضل منهما ، مع أن الله تعالى هو الخالق
لكل شيء.
ومما ينكر على
المشركين أيضا : تشاؤمهم من الأنثى ، فإذا بشّر أحدهم بها ، أنف من ذلك واغتم ،
وامتلأ غيظا وكربا ، وتغيّر وجهه ، فكيف يأنفون من البنات ، ثم ينسبونها إلى الله عزوجل؟!
وأكد الله هذا
الإنكار عليهم ، في أنه كيف يجعل لله من الولد من صفته أن يتربى في حليّ الذهب
والفضة والزينة والنعمة ، وكان في الجدال عاجز البيان ، عيي اللسان ، لا يقدر على
الجدال وإقامة الحجة؟ وهذا دليل على رقة المرأة وضعفها ، وغلبة عاطفتها عليها.
ومن مفتريات
المشركين : أنهم حكموا بأن الملائكة إناث ، ترتيبا على قولهم السابق : الملائكة
بنات الله ، فأنكر الله عليهم ورد إفكهم وقولهم بأنه : هل حضروا خلق الله للملائكة
حتى يشهدوا بأنهم إناث؟ ستكتب وتدوّن شهادتهم الباطلة الزور بذلك في صحف أعمالهم ،
لمجازاتهم على ذلك ، وسؤالهم عنها يوم القيامة.
ومن افتراءات
المشركين أنهم قالوا : لو أراد الله ما عبدنا هؤلاء الملائكة ، أي إنهم نسبوا
عبادة الملائكة لمشيئة الله ، والواقع أن المشيئة الحاصلة لا تستلزم الأمر ، والله
لا يأمر إلا بالخير ، فرد الله عليهم : ليس لهم أي دليل علمي على صحة قولهم وحجتهم
، وما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتقولون ، ويظنون ظنا باطلا. ثم أبطل
الله تعالى قولهم
بالمطالبة بالدليل النقلي : هل أعطيناهم كتابا قبل القرآن ينطق بما يدّعون ،
ويتمسكون به ويحتجون به؟ ليس الأمر كذلك إطلاقا.
نزلت هذه الآية : (بَلْ قالُوا) كما ذكر مقاتل في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل
وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش ، قالوا هذا القول.
ولا حجة لهم إلا
تقليد الآباء والأجداد ، فإنهم قالوا : لقد وجدنا آباءنا على هذه الطريقة والمذهب
في عبادة الأصنام ، وإنا سائرون على منهاجهم ، ومتبعون آثارهم.
والتقليد الباطل
أو الأعمى قديم ، فمثل ما أرسلنا إليك أيها الرسول أرسلنا إلى من قبلك ، فجوبهوا
بمثل هذا ، وقال المترفون المنعمون : وهم قادة القوم لرسولهم المرسل إليهم لتخويفهم
من بأس الله وعذابه : إنا وجدنا آباءنا على هذه الملة أو الطريقة والدين ، وإنا
على مذهبهم سائرون ، ولطريقتهم متبعون.
وعبر هنا بكلمة (مقتدون)
لإفادة مجرد الاتباع ، وفي الآية السابقة (مهتدون) لإفادة ادعاء الهداية. وهذا يدل
على أن التقليد في العقيدة والعبادة ضلال.
وكان جواب الرسل
لأقوامهم عن التقليد : أتتبعون آباءكم ، ولو جئناكم بدين أهدى من دين آبائكم؟
فأجابوهم معلنين كفرهم صراحة : لا نعمل برسالاتكم ، ولا سمع ولا طاعة لكم ، وإنا
جاحدون منكرون ما أرسلتم به.
فلم يكن بعد
الإصرار على الكفر إلا أن انتقم الله من الأمم المكذبة للرسل بأنواع العذاب ، كقوم
نوح وعاد وثمود ، فانظر أيها المخاطب العاقل : كيف كان مصير المكذبين رسلهم ، كيف
بادوا وهلكوا ، وآثارهم موجودة للعبرة والنظر.
إنكار النبوة وحقارة الدنيا
من افتراءات
المشركين وتناقضاتهم في التقليد الأعمى وغيره : أنهم يقلدون في عبادة الأصنام ،
ولا يقلدون أبا العرب إبراهيم عليهالسلام في عقيدة التوحيد ، وأنهم يطيعون الشيطان ويتلهون بمتاع
الدنيا عن كلمة التوحيد ، ويصفون رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأنه ساحر كذاب ، منكرين نبوته ، ويدّعون أن الأحق بالنبوة
: الزعيم الشريف ، والثري الكبير ، وصاحب النفوذ. ولكنهم في كل ذلك مخطئون ، فإن
معايير اختيار النبي ليست كمعايير الدنيا ، فاصطفاء النبي يكون بالقيم الثابتة
الأدبية والروحانية والمقومات العالية عند الإنسان ، والدنيا ومتاعها حقير ، فليست
دليلا على السمو والتفوق ، والآخرة خير وأولى ، وصف الله تعالى هذه الأحوال في
الآيات الآتية :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي
عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى
جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا
سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ
عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً
سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))
[الزخرف : ٤٣ / ٢٦
ـ ٣٥].
لقد تبرأ إبراهيم
الخليل عليهالسلام من تقليد الآباء في الدين ، فاذكر أيها الرسول لقومك قريش
المقلّدين للآباء : لم لم يقلدوا أباهم إبراهيم الذي تبرأ مما يعبد أبوه
__________________
(آزر) وقومه من
الأصنام ، ودعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، قائلا : لا أعبد إلا الذي فطرني
، أي خلقني ، فإنه تعالى سيرشدني إلى الحق وإلى صراط مستقيم. وكانوا يعرفون الله
تعالى ويعظمونه ، إلا أنهم كانوا يشركون معه أصنامهم ، فكأن إبراهيم قال لهم : أنا
لا أوافقكم إلا على عبادة الله الفاطر ، أي الخالق.
وجعل إبراهيم عليهالسلام كلمة التوحيد : وهي عبادة الله وحده ، ونبذ عبادة الأوثان
هي الكلمة الباقية الدائمة في ذريته ، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم ،
ورجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة. والعقب : الذرية وأولاد الأولاد.
لكن هؤلاء
القرشيين ممن بقيت الكلمة فيهم ، متّعهم الله تعالى بطول العمر وسعة الرزق ، هم
وآباؤهم ، فاغتروا بالمهلة وإطالة العمر وتوافر النعمة ، إلى أن جاءهم الحق : وهو
القرآن الكريم ، والرسول الذي أبان الحق ، وأوضح مبدأ التوحيد بالحجة الساطعة.
ثم تمادوا في
ضلالهم ، فأخبر الله تعالى على سبيل التوبيخ والتقريع بأنهم قالوا عن القرآن : هذا
سحر ، وأنهم كفروا به ، وصفوا القرآن بالسحر لأنه يفرّق بين المرء وولده وزوجه ،
فيؤمن بعضهم ويبقى الآخر كافرا ، فهو في زعمهم كالسحر ، ولم يدروا أن المؤمن
المفارق بالقرآن يفارق عن بصيرة في الدين ، والمفارق بالسحر يفارق عن خلل في
الدين.
ثم أخبر الله
تعالى عن معيار الوثنيين في اختيار النبي ، فقالوا : هلا أنزل هذا القرآن على رجل
عظيم من أهل مكة أو الطائف ، وهما الوليد بن المغيرة ريحانة قريش ، ومسعود بن عروة
الثقفي زعيم ثقيف ، فكل منهما عظيم المال والجاه.
فرد الله تعالى
عليهم بثلاثة أوجه : أولها : أيجوز لهم أن يقسموا رحمة ربك وهي النبوة ، فيختاروا
لها من يريدون؟ نحن الذين نقسم الأرزاق والحظوظ بين العباد في
الدنيا ، ونرفع
درجة بعضهم على بعض في القوة والضعف ، والعلم والجهل ، والغنى والفقر ، ليتمكنوا
من تسيير شؤون الحياة ، فيسخّر بعضهم بعضا في العمل وقضاء الحوائج ، بالاستخدام أو
الاستئجار ، وثانيها : ما أعده الله لعباده الصالحين في الآخرة هو خير مما يجمعونه
من الأموال وسائر متاع الدنيا ، قال قتادة والسدّي : يعني الجنة ، أي في الآخرة ،
والرحمة في الدنيا : بالهداية والإيمان خير من كل مال. وهذا اللفظ تحقير للدنيا.
نزلت هذه الآية : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ) ... (أَهُمْ يَقْسِمُونَ) كما روى ابن المنذر عن قتادة في الوليد بن المغيرة ـ وكان
يسمى ريحانة قريش ـ لو كان ما يقوله محمد حقا ، لنزل علي أو على أبي مسعود (عروة
بن مسعود الثقفي) فقال الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النبوة ، فيضعونها حيث شاؤوا؟
وثالث الأوجه :
خشية أن يكون الناس كلهم على ملة الكفر ، تأثرا بالدنيا ، لأعطينا الكفار ثروات
طائلة ، وجعلنا سقوف بيوتهم ومصاعدهم وأبوابهم وأسرّتهم التي يتكئون عليها من فضة
خالصة ، ومن الذهب والزينة المزخرفة ، ولكن ليس كل ذلك إلا شيئا يتمتع به تمتعا
قليلا في الدنيا ، لأنها زائلة قصيرة الأجل ، والآخرة بألوان نعيمها مخصصة لأهل
التقوى : الذين يتقون الشرك والمعاصي ، ويؤمنون بالله وحده ، ويعملون بطاعته ،
فإنها الباقية التي لا تفنى ، وذات النعيم الدائم الذي لا يزول. فقوله تعالى : (أُمَّةً واحِدَةً) معناه في الكفر.
الإعراض عن شرع الله تعالى
إن من آفات
الاغترار بالدنيا وحب المال : الإعراض عن شرع الله تعالى وعما ذكّر به الرحمن
عباده ، وهذا يستوجب العقاب على الكفر ، ويجعل المعرضين عن ذكر
الله موصوفين
بالصمم والعمى ، لكونهم في ضلال مبين. ولم يقدّر هؤلاء المغترون بالدنيا من عرب
قريش منزلة القرآن الكريم الذي هو سبب لرفعة النبي وقومه. وتخليد سمعتهم ، ولسوف
يحاسبهم الله تعالى عن إهمال القرآن ، وترك التوحيد وعبادة الله. والدعوة إلى كلمة
التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ليست مختصة بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مجتمعين على إنكار الوثنية
وعبادة الأصنام ، وقد حذّر القرآن الكريم هؤلاء وأمثالهم من عاقبة الإعراض عن دينه
، فقال الله تعالى :
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ
أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ
تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ
فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ
إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))
[الزخرف : ٤٣ / ٣٦
ـ ٤٥].
آية (وَمَنْ يَعْشُ) نزلت ـ كما أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي ـ
في قريش قالوا : قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه ، فقيّضوا لأبي بكر طلحة
بن عبيد الله ، فأتاه وهو في القوة ، فقال أبو بكر : إلام تدعوني؟ قال : أدعوك إلى
عبادة اللات والعزى ، قال أبو بكر : وما اللات؟ قال : ربنا ، قال : وما العزى؟ قال
: بنات الله ، قال أبو بكر : فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه ، فقال طلحة لأصحابه :
أجيبوا الرجل ، فسكت القوم ، فقال طلحة : قم يا أبا بكر ، أشهد أن لا
__________________
إله إلا الله ،
وأشهد أن محمدا رسول الله ، فأنزل الله هذه الآية : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ ..) الآية.
والمعنى : من يتغافل
أو يتعام عن النظر في القرآن في القرآن والعمل به ، ومن يعرض عن شرع الله تعالى ،
ويقلّ نظره في تذكير الرحمن الذي ذكّر به عباده ، نيسر له شيطانا يلازمه ويغويه ،
فيكون له قرينا مصاحبا له على الدوام ، أي إن هذا عقاب على الكفر بالطبع على القلب
وعدم الفلاح ، وهذا كما يقال : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالتزيد في
المعاصي ، ويجازي على الحسنات بالتزيّد في الحسنات ، وقد روي هذا المعنى مرفوعا ،
ونقيض له شيطانا : نهيّئ ونضم ونيسر له.
وإن الشياطين
الذين يقيضهم الله تعالى لكل معرض عن ذكر الرحمن ، ليمنعونهم بالوسواس عن سبيل
الحق والرشاد ، ويحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم مهتدون إلى الحق والصواب.
ثم يتبرأ الكافر
في الآخرة من قرينه الشيطان ، فإنه إذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي
وكل به ، ويتمنى البعد عنه كما بين المشرق والمغرب ، فبئس الصاحب الملازم للإنسان
شيطانه.
ويقال للكافرين في
الآخرة توبيخا : لن ينفعكم في هذا اليوم شيء ، إذ تبين أنكم ظلمتم أنفسكم في
الدنيا ، ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب ، أي لن يفيدكم مواساة الآخرين في أنكم
وهم متساوون في العذاب ، إذ التأسي أو المواساة راحة لكل مصاب في الدنيا في الأغلب
، فهي أي المواساة تخفف ألم المصابين.
ثم أخبر الله نبيه
مواساة له أن دعوته لا تؤثر في قلوب قومه ، بالاستفهام ، فقال له : أتستطيع أيها
الرسول إسماع الصمّ والعمي والغارقين في ضلال واضح؟ وهذه أوصاف ثلاثة بعد وصفهم
بالعشا ، أي التعامي عن القرآن.
واقتضى هذا
الإعراض تهديدهم بالانتقام ، فإذا أمتناك أيها الرسول قبل نزول العذاب بهم ، فإننا
منتقمون منهم في الدنيا أو في الآخرة ، وإن أبصرناك الذي وعدناهم به من العذاب قبل
موتك ، فنحن قادرون عليه أيضا ، ومتى شئنا عذبناهم.
فتمسك أيها الرسول
بالقرآن الذي أوحينا لك به ، فإنك على الطريق القويم ، والمنهج السليم ، الذي
يوصلك إلى سعادة الدنيا ، ونجاة الآخرة وعزها.
ومنزلة القرآن
الكريم عظيمة جدا لك ولقومك ، فإنه لشرف عظيم لك ولقريش وللعرب قاطبة ، لنزوله
بلغتهم العربية ، وسوف تسألون عن هذا القرآن ، كيف عملتم به؟ كما جاء في آية أخرى
: (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ٢١ /
١٠] أي شرفكم وسمعتكم العالية.
ثم أفاد الله
تعالى أن الدعوة إلى توحيد الله وترك الشرك أمر قديم فاسأل سلالات من أرسلنا قبلك
من الرسل : هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ فجميع الرسل دعوا إلى
عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام ، ولم يجعل الله آلهة معبودة
من دون الرحمن.
الاعتبار بقصة موسى عليهالسلام
أنكر الله تعالى
في آيات سابقة على المشركين جعلهم الثروة أساس اختيار الأنبياء ، وضرب لهم مثلا
حسيا بفرعون الذي قال : إنني غني كثير المال والجاه ، وكان جدال موسى عليهالسلام له مفحما ، ومعجزاته مبطلة لكل إفك فرعون. وأظهر القرآن
الكريم مدى تأثير سلطة فرعون على قومه ، فإنه استخف عقولهم حينما دعاهم إلى تكذيب
موسى عليهالسلام ، فأطاعوه لضلالهم ، فانتقم الله تعالى منهم أشد
الانتقام ،
بالإغراق في البحر ، مما جعلهم مثلا قدوة للكفار ، وعظة وعبرة لمن يأتي بعدهم.
وهذا ما دوّنته آيات القرآن الكريم :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ
بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ
لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ
وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ
أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً
وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))
[الزخرف : ٤٣ / ٤٦
ـ ٥٦].
ساق الله تعالى
قصة موسى مع فرعون عظة وسلوى لما حدث بين النبي وقومه ، فلقد بعث الله تعالى إلى
فرعون وقومه موسى مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه : وهي الآيات التسع المذكورة في
سورة الإسراء [الآية ١٠١] وغيرها كالطوفان والجراد والقمّل والدم والضفادع والقحط
، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهاهم عن عبادة ما سواه من الأشخاص
والأصنام ، وقال لهم : إني مرسل إليكم من الله رب العالمين : الإنس والجن.
فلما أتاهم موسى
بتلك الآيات الدالة على صدقه ، إذا فرعون وقومه يستهزئون ويضحكون ممن جاءهم بها.
ويقصد بهذا إيناس النبي صلىاللهعليهوسلم عن إعراض قومه.
__________________
وتوالت آيات
التذكير لفرعون وقومه ، فما يريهم الله تعالى من آية إلا هي أعظم من سابقتها في
الحجية عليهم ، والإدلال على صحة الدعوة إلى التوحيد. فلما لم يعدلوا عن ضلالهم ،
أخذهم الله أخذ قهر بإنزال العذاب عليهم ، بسبب تكذيبهم بتلك الآيات ، لكي يرجعوا
عن كفرهم ، ويؤمنوا بالله وحده لا شريك له ، ويطيعوا موسى فيما أمر ونهى. وقوله
تعالى : (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) ترج بحسب معتقد البشر وظنهم. ويرجعون معناه : يتوبون
ويقلعون عن معاصيهم.
وكانوا كلما
جاءتهم آية وصفوها بالسحر ، وقالوا لموسى عليهالسلام : يا أيها الساحر العالم ـ وكانوا يسمون العلماء سحرة ـ ادع
لنا ربك لكشف العذاب عنا بما أخبرتنا به من عهده إليك ، فإننا بعدئذ لمؤمنون بما
جئت به. فدعا موسى ربه ، فكشف عنهم العذاب ، فلما رفع عنهم العذاب ، نقضوا عهدهم ،
وعادوا لكفرهم.
وازداد فرعون في
عتوه وطغيانه ، ولجأ إلى التفاخر بالملك والسلطان والثراء ، فقال : يا قوم ، أليس
لي ملك مصر العظيم ، فلا ينازعني فيه أحد ، والسلطة المطلقة لي ، ونهر النيل
وجداوله تجري من تحت قصري وأمامي في بساتيني ، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة
والملك؟!
ثم بل أنا خير
وأفضل بما لي من الملك والسلطة والغنى والجاه من موسى الضعيف الحقير ، الذي لا
يكاد يبين الكلام ، لما في لسانه من لكنة أو عقدة ، وهذا بحسب علمه الماضي ، ولم
يدر أن الله تعالى أزال عقدته. ثم قارن فرعون نفسه مع موسى مقارنة الغني المترف
المتفاخر بماله ، فقال : فهلا حلّي موسى بأساور الذهب إن كان عظيما ، أو جاء معه
وفد من الملائكة مقترنين متتابعين يحرسونه إن كان صادقا؟
فاستهان فرعون
بعقول قومه ورعيته ، ودعاهم إلى الضلالة ، فاستجابوا له ،
وأطاعوه فيما
أمرهم به ، وكذبوا موسى ورسالته فكانوا فاسقين ، أي خارجين عن طاعة الله تعالى.
فلما أسخطوا الله
، وأغضبوه بالتمادي في الضلال والعناد ، انتقم الله منهم انتقاما شديدا ، بالإغراق
جميعا في البحر ، وكان الإغراق مناسبا لتفاخرهم وتباهيهم واغترارهم. وإغضاب الله
تعالى : هو أن تعمل الأعمال الخبيثة التي تظهر من أجلها أفعاله الدالة على إرادة
السوء بمن شاء.
وبذلك جعلهم الله
قدوة لمن عمل بعملهم من الكافرين ، في استحقاق العذاب ، وعبرة وعظة لمن يأتي بعدهم
من الكفار. والسلف : هو الفارط من الأمم ، المتقدم لهم ، أي جعلناهم متقدمين للأمم
الكافرة عظة ومثلا لهم ، يعتبرون بهم ، أو يقعون فيما وقعوا فيه.
الاعتبار بقصة عيسى عليهالسلام
ضرب الله تعالى
الأمثال بالأقوام أحيانا ، وبأشخاص الأنبياء وسيرتهم أحيانا أخرى ، وذلك إما من
أجل تبيان أصول العقيدة ، أو للإفادة من منهج حياة الإنسان ، في مسيرة الأجيال
وعلى ممر الزمان ، وكان خلق عيسى عليهالسلام من غير أب ، مثار تعجب واستغراب ، وهو في الواقع لا يختلف
عن خلق آدم بلا أب ولا أم ، كما قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ..) [آل عمران : ٣ /
٥٩] ، وكان عند جماعة سببا للمبالغة المفرطة.
أخرج الإمام أحمد
والطبراني عن ابن عباس : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لقريش : إنه ليس أحد يعبد من دون الله ، وفيه خير ،
فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا ، وعبدا صالحا ، وقد عبد من دون الله؟ فأنزل
الله هذه الآية وما بعدها :
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
(٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها
وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ
قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ
فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))
[الزخرف : ٤٣ / ٥٧
ـ ٦٦].
المعنى : لقد
انتهز مشركو مكة ولا سيما ابن الزّبعرى مسألة عيسى ابن مريم الذي عبد من دون الله
تعالى ، وقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما أخبر عنه القرآن الكريم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢١ /
٩٨] وحاولوا أن يقولوا : كل معبود في النار ، فأوضح القرآن العظيم أن المقصود
الأصنام والأوثان ، ولا تتناول الآية عيسى والعزير والملائكة ، فهؤلاء كلهم عباد
موحدون الله عزوجل. فتبدد ما قالت قريش ، بعد أن ضجوا وضحكوا وجادلوا. وقال
كفار قريش مجادلين بالباطل : آلهتنا ليست خيرا من عيسى ، فإن كان كل معبود من غير
الله في النار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والعزير والملائكة ، ولم يضربوا
هذا المثل في عيسى إلا بقصد الجدل بالباطل ، فإنهم قوم شديد والخصومة والجدل. وذلك
أنه لما نزلت : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢١ /
٩٨] جاء عبد الله بن الزّبعرى ونظراؤه ، فقالوا : نحن نخصم محمدا ، أآلهتنا خير أم
عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال لهم : عيسى ، أي ما مثّلوا لك هذا التمثيل إلا
جدلا
__________________
منهم ومغالطة ،
ونسوا أن عيسى عليهالسلام لم يعبد برضا منه ولا عن إرادة ، وليس له في ذلك ذنب.
ثم أخبر الله
تعالى : أن عيسى ما هو إلا عبد من عبيد الله ، أكرمه الله ، وأنعم عليه بالنبوة
والرسالة ، وجعله الله آية وعبرة لبني إسرائيل ، فخلقه أسهل من خلق آدم ، ومعجزاته
كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله.
ولو يشاء الله
أهلك أولئك الكفرة المجادلين ، وجعل بدلا منهم ملائكة في الأرض يعمرونها ،
يخلفونهم فيها.
وإن نزول عيسى في
آخر الزمان وخروجه أمارة على وقوع القيامة ، لكونه من علاماتها ، لأن الله تعالى
ينزله من السماء قبيل الساعة ، كما أن خروج الدجال قبله من أمارات الساعة ، فلا
تشكّوا أيها البشر في وقوعها ، ولا تكذبوا بها ، فإنها كائنة لا محالة ، واتبعوا
هدى الله فيما أمر به من التوحيد وإبطال الشرك.
ولا يصرفنكم
الشيطان عن اتباع الحق ، بوساوسه التي يلقيها في نفوسكم أيها البشر ، إن الشيطان
لكم عدو ظاهر العداوة ، من عهد أبيكم آدم عليهالسلام.
ولما جاء عيسى
بالمعجزات الدالة على صدقه ، وبالشرائع الإلهية ، قال لبني إسرائيل : قد جئتكم
بالشرائع الصالحة التي ترغّب في فعل الخير والجميل ، وتكف عن الفعل القبيح ،
وجئتكم بأصول الدين العامة ، من توحيد الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر ،
ولأوضح لكم بعض ما تختلفون فيه من أحكام التوراة ، فاتقوا الله وخافوه بامتثال
أوامره ونواهيه ، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وشرائعه وتكاليفه.
إن الله عزوجل هو ربي وربكم ، وإلهي وإلهكم ، فأخلصوا العبادة له ، فإن
تخصيص العبادة بالله هو الطريق القويم.
فاختلفت فرق اليهود
والنصارى الذين بعث الله إليهم عيسى ، في شأنه ، أهو ابن الله أو إله؟ وانقسموا
فرقا وأحزابا ، فالويل والهلاك والعذاب الشديد للذين ظلموا من هؤلاء المختلفين في
طبيعة المسيح ، أهي بشرية أم ناسوتية إلهية؟ وانحرفوا في تقريرها.
فهل ينتظر
المشركون المكذبون للرسل إلا مجيء القيامة فجأة ، وهم لا يشعرون بمجيئها لانشغالهم
بشؤون الدنيا؟
أحوال المتقين والمجرمين يوم القيامة
وصف الله تعالى
ألوان نعيم أهل الجنة ، وأنواع عذاب أهل النار ، أما المتقون : فهم في وداد ومحبة
، وطمأنينة في نعيم الجنة ، وتمتع بأبهى المراتب وأصناف الترف ، جزاء عملهم الصالح
في الدنيا. وأما المجرمون : فهم في عذاب دائم ، يتمنون الموت فلا يجدونه ، بسبب
كفرهم ومعاصيهم ، وكراهيتهم للحق والعدل ، ويفاجأون بأن الله تعالى أحصى عليهم كل
ما بدر منهم من قول أو فعل ، إقامة للحجة عليهم ، وإثباتا لكل عمل صدر منهم ، وهذا
ما ذكرته الآيات الآتية :
(الْأَخِلاَّءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا
بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ
وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ
فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ
__________________
(٧٤)
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ
قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ
بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))
[الزخرف : ٤٣ / ٦٧
ـ ٨٠].
نزلت آية (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ) في أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، كانا خليلين ، فتواطا
على إيذاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفعل عقبة ما اتفقا عليه ، فنذر النبي قتله ، فقتله يوم
بدر صبرا (منصوبا للقتل) وقتل أمية في المعركة.
المعنى : الأصدقاء
في الدنيا ، المتحابون فيها ، يعادي بعضهم بعضا يوم القيامة ، ويتباغضون ، لأن كل
واحد يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله ، إلا المتقين الله بتنفيذ أوامره
واجتناب نواهيه ، فإن صداقاتهم تستمر في الآخرة ، ويرون أن النفع دخل من بعضهم على
بعض. والأخلاء : الأصحاب.
ويقال للمتقين
المتحابين في الله : لا تخافوا من عذاب الآخرة ، ولا تغتروا بنعيم الدنيا ، فإن
نعيم الآخرة هو الباقي ، والدنيا زائلة.
وهؤلاء المتقون :
هم المؤمنون بآيات القرآن ، المنقادون لأحكام الله وشرائعه ، وأسلموا وجوههم لله
وشرعه.
ويبشّرون بالجنة
فيقال لهم : ادخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات تكرمون ، وتنعّمون ، وتسعدون
السعادة الكاملة.
وألوان نعيمهم : أن
لهم مختلف أنواع المطاعم والمشارب ، يقدم لهم ذلك بآنية من الذهب ، وأكواب من
الفضة. والكوب : الكوز الذي لا عروة ولا مقبض له. وفيها
__________________
كل ما تشتهيه
الأنفس من الألبسة والمسموعات ، وكل ما تهواه النفوس ، وتلذ به الأعين من اللذائذ
والمشاهد المادية والمعنوية ، ففيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على
قلب بشر ، وهم فيها ماكثون على الدوام.
وسبب هذا الجزاء :
أن تلك الجنة صارت لكم كالميراث ، لما قدمتموه من العمل الصالح في الدنيا ، وليس
المعنى أن الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة ، وإنما المعنى أن حظوظهم فيها
على قدر أعمالهم ، وأما دخول الجنة نفسه فبفضل الله ورحمته.
ولكم في الجنة غير
الطعام والشراب فاكهة كثيرة الأنواع ، تأكلون منها مهما شئتم ، كلما قطفتم ثمرة تجدد
لكم أخرى. هذا حال أهل الجنة وما يقال لهم.
ثم ذكر الله بعدئذ
حال الكفرة من الخلود في النار ، واليأس من الخروج منها ، ليتبين الفرق وتتضح
الأمور ، فإن المجرمين (أي الكافرين) يخلدون في عذاب النار على الدوام ، ولا يخفف
عنهم العذاب فترة ليستريحوا منه ، وهم مبعدون آيسون من الخير ومن النجاة ، قائمون
في جهنم إلى الأبد.
وذلك لأن الله
تعالى لم يظلمهم ، أي لم يعذبهم بغير ذنب ، ولا يزيد في عذابهم ، ولكنهم ظلموا
أنفسهم بما ارتكبوا من الذنوب ، وبما عملوا من السيئات.
ونادى هؤلاء
الظالمون : يا مالك (وهو خازن النار) ليمتنا الله مدة ، حتى لا يتكرر عذابنا ،
فيقال لهم : إنكم ماكثون ، أي مقيمون في العذاب ، لا خروج لكم من النار. وجواب
مالك هذا : إما بعد ألف سنة كما قال ابن عباس أو بعد ثمانين أو أربعين سنة. ونظير
الآية كثير مثل : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٥ / ٣٦].
وسبب العقاب : لقد
بيّنا لكم الحق ، وأرسلنا إليكم الرسل ، وكان أكثركم ، أي
كلكم كارهين للحق
وأهله. بل إن مشركي مكة وأمثالهم دبروا كيدا للنبي صلىاللهعليهوسلم في دار الندوة بمكة ، ليقتلوه أو يحبسوه أو يطردوه ، وأحكموا
أمر الكيد والمؤامرة ، ولكن الله أبرم حكما لهم بنصره وحمايته وبيّت لهم جزاء
وعقابا شديدا. قال مقاتل : نزلت هذه الآية (أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً) في تدبيرهم في المكر بالنبي صلىاللهعليهوسلم في دار الندوة.
بل أيظنون أنا لا
نسمع سرهم وعلانيتهم ، سواء ما يضمرونه من شر وكيد ، أو ما يتناجون به علانية لحبك
المؤامرة وتنفيذها؟ بلى ، نحن نسمع ذلك ونعلم به تماما ، والملائكة الحفظة أيضا
يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل.
أخرج ابن جرير
الطبري في نزول هذه الآية ، عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة بين الكعبة
وأستارها : قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي ، فقال واحد منهم : ترون الله يسمع
كلامنا؟ فقال آخر : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، فأنزلت (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ..) الآية ، أي إنها نزلت لأن كثيرا من العرب كانوا لا يعتقدون
أن الله تعالى لا يسمع السرار.
نفي الولد والشريك عن الله تعالى
على الرغم من
تهديد الكفار بعذاب النار ، فإنهم بقوا على الشرك بنسبة الولد والشرك لله تعالى ،
فنفى الله تعالى ذلك نفيا باتا ، وأوضح أنه المعبود بحق ، وأنه الحكيم في صنعه ،
العليم بكل شيء ، ومالك السماوات والأرض ، وهو إله السماء وإله الأرض ، وأن الآلهة
المعبودة لا نفع ولا شفاعة لها ، وأن المشركين متناقضون حين أقروا بأن خالق الكون
هو الله تعالى ، ثم عبدوا غيره ، فهم قوم لا يؤمنون ، وحسابهم آت لا ريب فيه ، كما
بيّنت الآيات الآتية :
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ
رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))
[الزخرف : ٤٣ / ٨١
ـ ٨٩].
قل أيها النبي
لقومك الذين أشركوا مع الله إلها آخر : إن وجد للرحمن ولد ـ كما يقولون ـ فأنا أول
من يعبده على ذلك ، ولكن ليس له شيء من ذلك جل وعلا. وهذا وارد على سبيل الافتراض
أو لطيف الخطاب ، نحو قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٣٤ / ٢٤].
وأكد الله نفي
الولد عنه ، فقد تنزه وتقدس عما يقولون ، من الكذب بادعاء ولد له ، فهو رب
السماوات والأرض ومالكهما ، ورب العرش المحيط بالكون ، وهو منزه عما يصفه به
المشركون كذبا ، من نسبة الولد إليه. وخص الله السماوات والأرض والعرش ، لأنها
أعظم المخلوقات.
فاتركهم أيها
النبي يخوضوا في جهلهم وباطلهم وضلالهم ، ويلعبوا ويلهوا في دنياهم ، حتى يلقوا
يوم القيامة الذي يوعدون به. وهذا تهديد ووعيد ، ثم يؤكد الله تنزيه نفسه عن الولد
بجملة أمور ، وهي ما يأتي :
ـ الله كائن في
جميع الكون ، فهو الإله المعبود في السماء ، والإله المعبود في الأرض ، فلا يستحق
العبادة سواه ، وهو الحكيم في تدبير خلقه ، العليم بمصالحهم.
__________________
وهذه آية تحكم
بعظمة الله وتخبر بألوهيته ، والمراد بها : أنه تعالى هو المنافذ أمره في كل شيء.
ـ ولا نفع للأصنام
، فقد تعاظم الله وزادت خيراته وبركاته ، فهو مالك السماوات والأرض ، وما بينهما
من الفضاء والهواء ، وجميع الموجودات من إنسان وحيوان ، وهو خالق كل شيء ، وهذا
حصر لجميع الموجودات المحسوسة ، والله هو المختص بعلم الساعة ، أي بتحديد قيامها ،
ووقتها ، وتعيينه وحصره. فهذا مما استأثر الله بعلمه ، وإليه مرجع أو مصير الخلائق
كلها ، فيجازي كل إنسان بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. فقوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) هم المعبودون.
ـ ولا تملك
الأصنام ولا تقدر كأي معبود من دون الله الشفاعة بأحد ، كما يزعم عبدتها من أنها
تشفع لهم ، لكن من آمن وشهد بالحق المنزل من عند الله ، عن بصيرة ويقين ، وبأن
الله وحده لا شريك له ، فإن شفاعته مقبولة عند الله بإذنه ، وكان هؤلاء المشفعون
على علم وبصيرة بما شهدوا به.
ـ وتالله لئن سألت
هؤلاء المشركين بالله ، العابدين معه غيره عمن خلقهم؟ لأجابوا بأنه هو الله ، فهم
يعترفون بأن الله خالق جميع الأشياء ، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ،
ولا يقدر على شيء ، فكيف يصرفون عن العبادة الحقة؟ وهي عبادة الله عزوجل إلى عبادة غيره ، ومع وجود هذا الاعتراف ، إنهم إذن في
غاية التناقض ، والجهل ، والسفاهة ، ومدعاة التعجب. لقد أظهر الله تعالى الحجة
عليهم من أقوالهم وإقرارهم بأن الله تعالى هو خالقهم وموجدهم بعد العدم ، فلأي جهة
يصرفون؟!
ـ والله تعالى
عالم بالساعة ، أي القيامة ، وعالم بشكوى نبيه صلىاللهعليهوسلم وقوله : يا رب ،
إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون ولا يصدّقون بك ، ولا برسالتي
إليهم.
فأمره الله
بالمسامحة إلى أجل ، وقوله له : اصفح عن المشركين صفح المغاضب المعرض ترفعا ، لا
الموافق المجامل ، وأعرض عما يقولون وعما يتهمونك به من السحر والكهانة ، واصبر
على دعوتهم إلى توحيد الله إلى أن يأتي أمر الله. وهذا يتضمن شيئين : وهما تهديد
ووعيد من الله لهم ، ووعد متضمن بنصر الإسلام والمسلمين عليهم عما قريب ، وقد أنجز
الله وعده ، وأيد رسوله ، وهزم أركان الشرك والمشركين ، وطهر جزيرة العرب من لوثات
الشرك وآثار المشركين.
تفسير سورة الدخان
ليلة إنزال القرآن وتهديد المشركين
أنزل الله تعالى في
ابتداء تنزيله القرآن الكريم بعض السور والآيات في ليلة القدر المباركة ، رحمة من
الله بعباده ، وعلما منه بما يصلحهم ، والله سبحانه هو رب كل شيء من السماوات
والأرض ، وهو الإله الواحد الذي يحيي ويميت ، رب الأولين والآخرين ، فمن آمن
بالقرآن نجا ، ومن أعرض عنه هلك ، لذا استحق المشركون التهديد بالعذاب ، إما في
الدنيا بالجوع الشديد والجدب ، حتى إن الجائع يرى دخانا بينه وبين الناس ، وإما
قبيل يوم القيامة حيث يجيء دخان ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، ويشوي رؤوس
المنافقين والكافرين ، وهذا مقرر في مطلع سورة الدخان المكية بالاتفاق :
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ
أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى
لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ
وَقالُوا مُعَلَّمٌ
__________________
مَجْنُونٌ
(١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)) [الدخان : ٤٤ / ١
ـ ١٦].
ابتداء الله
السورة بالأحرف الهجائية للتنبيه على خطر ما فيها ، ولتحدي العرب الناطقين بلغة
الضاد المتكونة من أمثال هذه الحروف بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل بعضه. ثم أقسم
الله تعالى بالقرآن الواضح البيّن الشامل لكل أمور الدين والدنيا والمبين هدى الله
وشرعه ، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخير ، التي هي ليلة القدر ، أي إنه
تعالى ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر من ليالي رمضان. وقال العلماء : إن كتب
الله تعالى كلها إنما أنزلت في رمضان ، التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ،
والزبور في نحو ذلك ، ونزل القرآن في آخر رمضان في ليلة القدر. ومعنى هذا النزول :
أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وإنه سبحانه كان وما يزال ينذر بهذا القرآن
الناس من العذاب الأليم في الآخرة ، إذا أشركوا بالله واقترفوا المعاصي.
وفي ليلة القدر
يفصّل ويبين الأمر المحكم ، ويتخلص عن غيره ، فيكتب فيها ما يكون في السنة من
الآجال والأرزاق ، من خير وشر ، وحياة وموت وغير ذلك. قال الحسن البصري ومجاهد
وقتادة وغيرهم : في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال
والأرزاق وغير ذلك ، ويكتب ذلك ، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل.
أنزل الله القرآن
أمرا جازما من عنده ، متضمنا وحيه وشرعه ، وأرسل الرسول محمدا والأنبياء عليهم
الصلاة والسّلام إلى الناس لتلاوة آيات الله البينات ، رحمة من عند الله وإنقاذا ،
لبيان ما ينفعهم وما يضرهم ، إن الله هو التام السمع لكل صوت أو قول ، الشامل
العلم بكل صغيرة وكبيرة.
ودليل السمع
والعلم وتنزيل القرآن رحمة : أن الله هو رب السماوات والأرض
وما بينهما من
سائر المخلوقات ، وخالقها ومالكها وما فيها ، إن أردتم معرفة ذلك عن يقين تام ، لا
شك فيه.
ومن صفات الله بعد
إثبات الرّبوبية : اتّصافه بالوحدانية ، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره ، وهو
الذي يحيي الأشياء والمخلوقات ، ويميتها ، وهو أيضا ربّ الآباء الأوّلين والأجداد
الأقدمين ، وربّ الموجودين ومن يأتي بعدهم ومدبّر شؤونهم ، والرّبوبية تستحقّ
العبادة ، فالله وحده دون غيره يستحقّ العبادة.
بل هؤلاء المشركون
في شكّ من أمر البعث والتوحيد ، يلعبون ويعبثون. وهذا إضراب عما قبله من الكلام ،
ينفي ما تقدّم ، كأنه يقول : ليس هؤلاء ممن يؤمن ، ولا ممن تنفعه وصية ، بل هم
شاكّون لاعبون في أقوالهم وأفعالهم.
فانتظر أيها
المشرك يوم تأتي السماء إما بدخان حقيقي أو بما يشبه الدخان ، والذي يشبهه : هو ما
تعرّض له المشركون من شدة الجوع والقحط ، حتى كان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا
بينه وبين الناس ، والآيات الآتية تقوي هذا التأويل ، روى البخاري ومسلم وغيرهما
عن ابن مسعود قال : إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلىاللهعليهوسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط ، حتى أكلوا
العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد
، فأنزل الله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ ..) فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله ، استسق لمضر ، فإنها قد هلكت ،
فاستسقى ، فسقوا ، فنزلت.
وطلب الناس قائلين
: يا ربّنا اكشف عنا عذابك ، إنا مصدّقون بالله ورسوله ، ولكنهم لم يكونوا صادقين
، ومن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالعهد بالإيمان بعدئذ ، وكان قد جاءهم
رسول مبيّن أدلة الإيمان ، ثم أعرضوا عنه ، وقالوا : إنما يعلّمه القرآن بشر غيره
، إنه مجنون لا عقل له.
ورحمة من الله قال
: إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا ، لكنكم راجعون إلى الشّرك ، وقد رجعوا فعلا
، وإنكم مؤجّلو العذاب الشديد والانتقام الأشد في يوم القيامة ، إننا نعاقب هؤلاء
الكفار حينئذ.
قال البخاري في
تتمة الحديث السابق : فلما أصابتهم الرفاهية ، عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى
..) فانتقم الله منهم يوم بدر.
الاعتبار بقوم فرعون
كان القرشيون
أشداء مستكبرين ، وأباة أسيادا بين العرب ، فلفت القرآن الكريم أنظارهم إلى أن
الله تعالى أهلك من هو أشد منهم قوة وبأسا ، ومنهم قوم فرعون ، الذين أغرقهم الله
مع مليكهم بسبب جحودهم وإجرامهم وتكذيبهم رسولهم ، مما يوجب عليهم الاعتبار
والاتعاظ ، والإدراك بأن أموال الظالمين وثرواتهم آلت إلى من بعدهم ، ونجى الله
المؤمنين بحق برسالة موسى عليهالسلام ، وأنزل التوراة على رسولهم موسى ، ليعملوا بأحكامها
وشرائعها ، ويشكروا نعم الله التي أنعم بها عليهم ، وجعلهم مناط ابتلاء أو اختبار
، قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال :
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ
(٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ
جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ
وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً
__________________
آخَرِينَ
(٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ
عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا
مُبِينٌ (٣٣))
[الدخان : ٤٤ / ١٧
ـ ٣٣].
أي تالله لقد
اختبرنا قبل مشركي مكة قوم فرعون (قبط مصر) أرسل الله إليهم ، رسولا كريما في نفسه
، جامعا لخصال الخير أو المحامد والمنافع ، وهو موسى عليهالسلام.
وقال موسى لفرعون
وقومه : أرسلوا معي عباد الله ، وهم بنو إسرائيل ، وأطلقوهم من العذاب ، فإني رسول
مؤتمن على الرسالة ، غير متهم.
ولا تتجبروا ولا
تتكبروا عن اتباع آيات الله ، والانقياد لطاعته ومتابعة رسله ، فإني آتيكم ببرهان
ساطع دال على صدق رسالتي كالعصا واليد والآيات التسع.
وإني أستعيذ بالله
وألتجئ إليه ، وأتوكل عليه ، مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة ، أو الإيذاء
بالشتم وغيره.
وإن لم تصدقوني في
نبوتي وبما جئتكم به من آيات الله وشرائعه من عند الله ، فاتركوني ، ولا تتعرضوا
لي بأذى ، إلى أن يحكم الله بيننا.
فلما يئس موسى من
إيمانهم ، دعا ربه ، ووصف قومه بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك ، مشركون بك. فأمره الله
تعالى بأن يخرج ليلا بعباد الله بني إسرائيل ، لأن فرعون وقومه يتّبعونكم ، واترك
البحر الذي تمر فيه ساكنا مفتوحا كما هو ، لا تضربه بعصاك ، حتى يعود كما كان ،
ليدخله فرعون وجنوده ، فإنهم قوم مغرقون في البحر ، وهذا بشارة بنجاة موسى وقومه ،
وإهلاك عدوهم.
ولقد خلّف قوم
فرعون وراءهم كل ثرواتهم ، فكثيرا ما تركوا في مصر وراءهم ، من بساتين خضراء ،
وحدائق غنّاء ، وزروع نضرة ، ومجالس حسنة مرفّهة ، ونعم
__________________
كانوا يتمتعون بها
أو ناعمين بها. والفاكه : الطيب النفس. والنّعمة ـ بفتح النون ـ : غضارة العيش ،
ولذاذة الحياة. والنّعمة بكسر النون : أعم من هذا ، وقد تكون الأمراض والآلام
والمصائب نعما ، ولا يقال فيها نعمة.
كذلك ، فكما فعلنا
سابقا بالذين كذبوا رسلنا ، نفعل بكل من عصانا ، وأورثنا تلك البلاد والثروات للإسرائيليين
الذي كانوا مستضعفين.
فما تأسّفت عليهم
أوساط السماء والأرض ، ولم يكونوا ممهلين ، بسبب بغيهم وفسادهم ، بل عجّلت
عقوباتهم ، لفرط كفرهم ، وشدة عنادهم ، ولم يكونوا ممهلين مؤخّرين لتوبة ، لأنها
غير منتظرة منهم. قوله تعالى : (فَما بَكَتْ) استعارة تتضمن تحقير أمرهم ، وأنه لم يتغير شيء بهلاكهم .
وكان في مقابل
النقمة : وجود النعمة ، فلقد خلّصنا شعب بني إسرائيل ، من العذاب المشتمل على
إهانة ، بإهلاك عدوهم ، ومما كانوا فيه من الاستعباد ، حينما كانوا صلحاء غير
مفسدين في الأرض ، ونجاهم الله من فرعون الطاغية المسرف في ارتكاب المعاصي ،
المجاوز كل الحدود. واختار الله الإسرائيليين الصالحين على عالمي زمانهم ، عن علم
سابق من الله فيهم ، وأنه سينفذ فيهم ، وأعطاهم على يد رسولهم موسى المعجزات
الظاهرة الدالة على قدرة الله ، وآيات التوراة وغير ذلك مما فيه اختبار ظاهر ، وامتحان
واضح لمن اهتدى به ، وللنظر فيما يعملون. فإذا بدّلوا بالإيمان الكفر ، وبالصلاح
الفساد كما في عصرنا الحاضر ، غضب الله عليهم ، ولعنهم ، وجعل منهم القردة
والخنازير ، ويعود العقاب لهم كلما عادوا إلى البغي والفساد والاعتداء على حقوق
الآخرين.
__________________
إنكار البعث والرد على المشركين
المشكلة الحقيقية
في كفار قريش بعد وثنيتهم : أنهم كانوا منكري البعث ، فلا حياة ولا وجود بعد الموت
في زعمهم ، ولا دليل على إمكان الإعادة ، فتوالت الردود عليهم في القرآن الكريم ،
وتتابعت التنبيهات والتحذيرات ، وألوان الوعيد والتهديد ، ومن أخطرها : تحقق
العذاب فيهم في نيران جهنم ، وتناولهم أشد أنواع الشجر مرارة : وهو شجر الزقوم ،
فتغلي به بطونهم ، تنهال على رؤوسهم حمم النار ، فتصهرهم ، ويتعرضون لكل ألوان
الإهانة والذل فتتركهم أذلة مهانين منبوذين ، قال الله تعالى واصفا المشكلة
وأسبابها :
(إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ
(٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ
تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ
(٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما
خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ
مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ
هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ
الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
(٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))
[الدخان : ٤٤ / ٣٤
ـ ٥٠].
تشير هذه الآيات
في مطلعها إلى قريش إشارة تحقير ، فهؤلاء كفار مكة يقولون ما
__________________
هي إلا الموتة
الأولى التي نموتها في الدنيا ، ولا حياة ولا بعث بعدها. وإن كنتم أيها المسلمون
صادقين في ادعاء البعث ، فأعيدوا إلينا آباءنا إلى الدنيا بعد قوتهم ، لنسألهم عما
رأوا في آخرتهم. وهذه حجة واهية ، لأن البعث ليس الآن ، وإنما في يوم القيامة. فرد
الله تعالى عليهم مهددا ، ومنذرا ، ومتوعدا بالعقاب :
أهم ، أي كفار
قريش من عدنان خير في القوة والمنعة ، أم قوم تبّع الحميري من قحطان ، الذين كانوا
أقوى جندا وأعز مكانا؟ وكذلك الأمم السابقة كعاد وثمود ونحوهم ، أهلكناهم جميعا
لكفرهم وإجرامهم ، فإهلاك من دونهم أيسر وأقرب. وتبّع المشار إليه في هذه الآية :
رجل صالح من التبابعة ، ذم الله تعالى قومه ، ولم يذمّه ونهى العلماء عن سبّه.
والدليل على قدرة
الله تعالى الشاملة والعظمى : خلق السماوات والأرض ، فلم يخلق الله السماوات
والأرض وما بينهما ، عبثا ولعبا ، وباطلا ولهوا ، وإنما بإبداع لا نظير له. وما
خلقهما الله إلا خلقا ملازما للحق ولإظهاره وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته
، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك ، لقلة نظرهم ، وضعف وعيهم ، فمن أبدع
ذلك ، أليس قادرا على إمكانه إعادة الخلق؟!
إن يوم القيامة
الذي يفصل الله فيه بين الخلائق : هو موعد جمعهم ، ووقت حسابهم وجزائهم جميعا ،
إنه يوم لا ينفع قريب قريبا ، ولا ناصر منصورا ، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو
الإغناء ، فلا يفيد المؤمن الكافر ، ولا ينتصرون من أحد ، لكن من رحمهالله ، فإنه ينتصر وينجو ، فإن الله هو القوي الغالب القاهر
الذي لا يفلت أحد معتد من عذابه.
وسيلقى المشركون
منكرو البعث كلّ ألوان العذاب والمهانة ، فإن طعامهم هو طعام الآثمين قولا وفعلا :
وهو شجرة الزقوم الشديدة المرار ، والذي لا يشبع.
والأثيم : مبالغة
في الإثم ، وهذه الشجرة : هي الشجرة الملعونة التي تنبت في قعر جهنم.
وهذا الطعام يشبه
عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس ، لحرارته ورداءته ، يغلي غليانا شديدا في بطون
آكليه ، كغلي الماء الشديد الحرارة ، ويقال للملائكة خزنة النار : خذوا هذا الأثيم
، فجرّوه وسوقوه إلى وسط النار ، بعنف وشدة ، ثم صبوا على رأسه الماء الشديد
الحرارة ، الذي هو أشد الماء الساخن ، وقولوا له تهكما وتقريعا : ذق العذاب أيها
المتعزز المتكرم في زعمك في الدنيا ، وإن هذا العذاب هو الذي كنتم تشكّون فيه ،
حين كنتم في الدنيا ، وهو كما جاء في آية أخرى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ٥٢ / ١٣].
أخرج سعيد بن
منصور عن أبي مالك قال : إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزّبد ، فيقول : تزقموا ،
فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد ، فنزلت : (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ)
وأخرج الأموي في
مغازيه عن عكرمة قال : لقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا جهل ، فقال : إن الله أمرني أن أقول لك : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ
فَأَوْلى) [القيامة : ٧٥ /
٣٤ ـ ٣٥] فنزع يده ، وقال : ما تستطيع لي ولا صاحبك من شيء ، لقد علمت أني أمنع
أهل البطحاء ، وأنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر ، وأذلّه وعيّره بكلمته ،
ونزل فيه : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).
حال المتقين في الآخرة
أوضح الله تعالى
أحوال الكافرين وما يلقونه من أهوال الآخرة ، ثم من أجل الموازنة ، ذكر الله تعالى
حال المتقين يوم القيامة ، وما يحظون به من أنواع خمسة من
النعيم ، فلهم
جنان الخلد ، ويتدثرون بألبسة الحرير ، على سرر متقابلين ويتزوجون بالحور العين ،
ويتفكهون بكل فاكهة آمنين ، وحياتهم في الجنة خالدة أبدية ، ووقوا عذاب الجحيم ،
وذلك بفضل الله أعظم الفوز ، وأمكن معرفة ذلك يقينا بما دل عليه اللسان العربي
الفصيح ، الذي نزل به القرآن الكريم ، ولم يبق إلا إنجاز الوعد. وهذا ما أخبرت به
الآيات الآتية :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ
رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))
[الدخان : ٤٤ / ٥١
ـ ٥٩].
هذه أنواع النعيم
الخمسة للمتقين وهي :
ـ إن الذين اتقوا
ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، لهم مساكن ومقامات آمنة مأمونة من جميع
المخاوف ، طيبة المكان والنفس ، لا غيرة فيه بينهم ، في بساتين خضراء ، وينابيع
متفجرة بالماء. وهذا يقابل ما للكفار من شجرة الزقوم وشرب الحميم ، كما في آيات
سابقة.
ـ ملابسهم التي
يلبسونها : من حرير رقيق ، وخشن أو غليظ ، ذي بريق ولمعان ، وجمال فريد ، متقابلين
في جلساتهم للاستئناس ، لا يستدبر بعضهم بعضا في المجالس.
ـ كذلك أي ومع هذا
العطاء وإدخال الجنان يزوجهم ، أي يقرنهم الله بالحور البيض ، الواسعات الأعين مع
عظم السواد ، ولا يوجد عقود زواج بالحور ، وإنما
__________________
المراد قرنهم بهم.
وقد وصف الله الحور بأوصاف في آيات ، منها : (فِيهِنَّ قاصِراتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (٥٨) [الرحمن : ٥٥
/ ٥٦ ـ ٥٨](فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي
الْخِيامِ) (٧٢) [الرحمن : ٥٥
/ ٧٠ ـ ٧٢].
ـ وهم يطلبون
للخدمة والتصرف في الجنة ما شاؤوا من أنواع الثمار أو الفاكهة وهم آمنون من
انقطاعها أو امتناعها ، وإنما يحضرها الخدم كلما أرادوا ، وهم أيضا آمنون من
الأوجاع والأسقام ، ومن الموت والعناء ، ووساوس الشيطان. وهذا دليل على التمتع
بأنواع اللذة المادية والمعنوية.
ـ ثم إن حياتهم في
الجنة دائمة ، لا يتعرضون في الآخرة للموت أبدا ، ولا يذوقون طعم الموت فيها مطلقا
، لكن الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا : قد عرفوها وانتهى أمرها ، وحماهم
الله تعالى من عذاب النار ، ونجّاهم منه ، والمراد أن الله تعالى نفى عنهم أمرين :
ذوق الموت وعذاب النار.
وقدّر قوم معنى (إلا)
ب (سوى) وهو صحيح خلافا لرأي الطبري ، فإن الواضح المفهوم من الآية أنهم كما ذكر
الزمخشري وابن عطية لا يذوقون الموت أبدا ، إلا الموتة الأولى التي كانت قبل دخول
الجنة.
أخرج السّجستاني
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من اتقى الله دخل الجنة ينعّم فيها ، ولا يبأس ، ويحيا
فيها ، فلا يموت ، ولا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه».
وذلك كله : تفضل
من الله تعالى عليهم ، وإحسان إليهم ، ذلك هو الفوز الأكبر الذي لا يعلوه فوز. أخرج
الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اعملوا وسدّدوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا لن
يدخله
عمله الجنة ،
قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه
وفضل».
وتوّجت خاتمة سورة
الدخان بما يدل على وضوح هذه الأخبار ، وإنجاز الوعود بها ، بسبب كون القرآن
الكريم بلسان عربي مبين ، فإنما يسّرنا هذا القرآن بلسانك أيها النبي ، أي بلغة
العرب التي هي أفصح اللغات وأجلاها ، والتي هي لغة قومك ، وجعلناه ، أي القرآن
ميسرا للفهم ، لكي يتذكروا ويتعظوا ويعملوا بما فيه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) [القمر : ٥٤
/ ٢٢].
وعلى الرغم من هذا
الوضوح والتبيان ، كفر بعضهم وخالف ، فآنس الله تعالى رسوله ، واعدا إياه بالنصر ،
ومتوعدا من كذّبه بالهلاك ، في قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩) أي فانتظر
أيها النبي ما وعدناك به من النصر عليهم ، وإهلاكهم إن أصرّوا على الكفر ، وماتوا
وهم كافرون ، فإنهم منتظرون ما يحل بك من السوء ، وما ينزل بك من الموت وغيره.
تفسير سورة الجاثية
من آيات الله الدالة عليه
تكرر في القرآن
الكريم إيراد الأدلة الدالة على وجود الله تعالى ، ومن أدل الأدلة والبراهين :
إبداع السماوات والأرضين ، وخلق الإنسان والحيوان ، واختلاف الليل والنهار
وتعاقبهما ، وإنزال المطر سبب الرزق ، وتقليب الرياح في الجهات الأربع ، فمن أراد
أن يؤمن كفاه ذلك ، ومن عاند واستكبر ، فلا يجد بعد بيان الله وآياته وهو القرآن ،
ما يرشده إلى الإيمان بربه ، وهذا ما نجده بيّنا في الآيات الآتية ، في مطلع سورة
الجاثية :
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))
[الجاثية : ٤٥ / ١
ـ ٦].
افتتحت السورة (الجاثية)
المكية بالاتفاق بالحروف المقطّعة ، للتنبيه لما يأتي بعدها ، ولتحدي العرب
بالإتيان بمثل آيات القرآن ، ثم أخبر الله تعالى : بأن هذا القرآن تنزيل قاطع من
الله القوي الغالب الذي لا يقهر ، المحكم للأشياء. فقوله تعالى : (الْعَزِيزِ) معناه عام في شدة أخذه إذا انتقم ، ودفاعه إذا حمى ونصر ،
وغير ذلك.
__________________
ومقتضيات العزة
والحكمة : إن في خلق السماوات وخلق الأرض ، لأدلة قاطعة على وجود الله ، ووحدانيته
، وقدرته الباهرة. وقد ذكر تعالى الأدلة أو الآيات التي في السماوات والأرض مجملة
غير مفصلة ، فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الأفكار ، ويخبر الشرع بكثير منها ،
والذي يستفيد من دلالات هذه الآيات : هم المؤمنون ، الذين يعتمدون على العقل
الصحيح ، والتصديق الواقعي. وهذا دليل من الكون.
ثم ذكر الله تعالى
دليلا من الأنفس ، ففي خلقكم أيها البشر من غير وجود سابق ، سواء من تراب ، أو من
طريق التزاوج ، وما ينشر في الأرض والبحر والجو من الدواب المختلفة : آيات دالة
على وجود الله وتوحيده ، لقوم يوقنون ، لهم نظر صحيح ، يؤديهم إلى اليقين في
معتقداتهم ، والاطمئنان في قلوبهم.
وكذلك في اختلاف
الليل والنهار وتعاقبهما بالنور والظلام ، وتفاوتهما في الطول والقصر ، والحرارة
والبرودة ، والضياء والظلمة ، وفيما أنزل الله من السحاب ، من مطر يتسبب في رزق
الأنفس وإحياء الأرض بالنبات والزرع ، وفي تقليب الرياح وتغييرها من جهة إلى جهة ،
ومن حال إلى حال ، جنوبا وشمالا ، شرقا وغربا ، برودة وحرا ، ضررا ونفعا ، لينا
وشدة ، في كل ذلك دلالات عظيمة على وجود الله سبحانه ، ووحدانيته وقدرته التي
ينتفع بها عادة أهل العقول الراجحة ، ويتأمل بها ذوو الأفكار المتفحصون فيها وفي
حقائقها. والرياح جمعا : هي المبشّرات بالخير ، والريح بالمفرد : هي المنذرة
بالعذاب.
والعبرة من كل ذلك
أوجزها الله تعالى بقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي هذه الدلائل المذكورة من الآيات الكونية والقرآنية ، هي
حجج الله وبراهينه وبيناته ، نتلوها عليك أيها النبي ، متضمنة الحق المبين ، وهذا
على حذف مضاف ، أي نتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة بها. وقوله تعالى (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) معناه بالصدق
والاعلام بحقائق
الأمور في أنفسها ، ليستفيد منها البشر قاطبة ، فبأي بيان أو كلام يا أهل مكة
وأمثالكم بعد بيان الله وكلامه ، وتفصيل آياته ، وهو القرآن الكريم ، تؤمنون أو
تصدقون؟! والتعبير بكلمة (تلك) إشارة إلى علو مرتبة الآيات ، وفي هذا توبيخ وتقريع
، وفيه قوة التهديد.
ويلاحظ أن أدلة
إثبات وجود الله ووحدانيته ، ذيلت فيها آي القرآن بعبارة (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) و (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) و (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لإفادة التلازم بين الإيمان الذي هو التصديق ، واليقين
الذي هو كمال الاقتناع ، والعقل الذي هو إعمال الفكر الصحيح ، وهذه كلّها ضروريات للمعرفة
وتكوين العقيدة ، لأنه في ضمن الإيمان العقل ، واليقين ، والتصديق. ويتوقف
الاعتقاد على كل من العقل ، وتيقن الشيء ، ثم التصديق التام به الذي لا يخالطه أي
شبهة أو شك ، ولا يصح إيمان من دون هذه الأمور الثلاثة ، التي ينبغي استعمال كل
منها في موضعه ، فيبتدئ المفكر من العقل أو القلب الواعي ، ثم ينتقل بالدليل
القطعي إلى اليقين ، ثم يتحقق التصديق النهائي بالمعتقد الصحيح.
وعيد المكذبين بآيات الله
حينما لا تجدي
الكلمة المخلصة ، والموعظة البالغة ، ويصرّ الإنسان على موقف الضلال والعناد ، لا
يبقى بعد ذلك إلا التهديد والوعيد بالجزاء الحاسم ، وهكذا كانت توجيهات القرآن
الكريم ، مع المشركين المكيين وقت نزول الوحي ، لم يترك القرآن وسيلة لتذكيرهم ،
وإقناعهم بالبراهين الحسية القاطعة على توحيد الله تعالى إلا سلكها معهم ، ومع ذلك
آثروا الشقاق والخلاف والمعارضة ، والإبقاء على عقيدة الوثنية ، وتكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم وبما أنزل عليه من الآيات البينات ، فاستحقوا الوعيد
بجزاء النار ،
علما بأنه لم تنفعهم أصنامهم شيئا ، ولا منعت عنهم الضرر ، وهذا ما نصت عليه
الآيات الآتية ، لبيان أن القرآن وحده هو الهدى والمنقذ :
(وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا
عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ
(٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا
مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا
هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ
(١١))
[الجاثية : ٤٥ / ٧
ـ ١١].
الهلاك والعذاب.
والمصائب من الحزن والشدة ، لكل كذاب بآيات الله ، كثير الإثم والمعاصي ، لأنه
يسمع آيات الله تتلى على مسامعه ، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية الله وقدرته
، ويبقى مصرّا على كفره ، ويتكبر ويتعاظم عن الإيمان بالآيات ، معجبا بنفسه ،
وكأنه لم يسمع الآيات ، فهو في عدم الالتفات إليها ، والإصغاء لمغزاها ، يشبه حال
غير السامع ، فأخبره أيها النبي وبشّره بعذاب شديد مؤلم. والتعبير عن الخبر المحزن
بالبشارة تهكم واحتقار. وقوله تعالى : (يُصِرُّ) أي يثبت على عقيدته من الكفر.
وسبب نزول هذه
الآية : ما كان يفعله أبو جهل والنضر بن الحارث وغيرهما ، من إصرار على الكفر
وعناد. وتعم الآية كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة.
والسبب الثاني
لتعذيب أحد هؤلاء : أنه إذا علم هذا الأفاك الكذوب من آيات
__________________
الله شيئا ، أي
أخبر بشيء منها ، اتخذها مهزوءا بها ، وموضعا للسخرية والتندر ، أولئك الأفاكون ،
لهم عذاب مهين ، أي مشتمل على المذلة والهوان والافتضاح. وكلمة (أولئك) مشار بها
إلى قوله (لِكُلِّ أَفَّاكٍ) لأنه اسم جنس ، له الصفات المذكورة بعده.
وصفة ذلك العذاب :
أن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة ، أو أعقاب أفعالهم جهنم ، ولا يدفع عنهم
شيئا من العذاب ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال ، كما قال الله تعالى في
آية أخرى : (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [آل عمران : ٣ /
١٠ و ١١٦] ولا ينفعهم أي نفع ، ولا تفيدهم الأصنام التي اتخذوها آلهة ، يعبدونها
من دون الله ، وأعوانا وأنصارا ، يتوقعون منها النفع ودفع الضرر ، ولهم عذاب شديد
مؤلم في جهنم.
وقوله سبحانه (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) قال بعضهم : معناه : من أمامهم ، والواقع لا داعي لهذا
التأويل ، فكلمة (وراء) في اللغة هي المفيدة لما يأتي خلف الإنسان ، وما يأتي بعد
الشيء في الزمان فهو وراءه ، وجهنم وإحراقها للكفار : يأتي بعد كفرهم وأفعالهم.
وقوله سبحانه : (وَلا مَا اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يعني بذلك الأوثان. والفرق بين قوله أولا : (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ثم قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) أن الوصف الأول يدل على الإهانة مع العذاب ، والوصف الثاني
يدل على بلوغ العذاب أشده في كونه ضررا.
ثم وصف الله تعالى
القرآن الكريم بأنه طريق النجاة المحققة ، وأنه هاد إلى الحق ، ومرشد إلى الصواب ،
وناقل الناس من الظلام إلى النور ، والذين جحدوا بآيات ربهم في القرآن ، سواء الآيات
الكونية أو الشرعية ، لهم أشد العذاب يوم القيامة. ووصف العذاب سابقا بوصف (أليم) و
(مهين) و (عظيم) يؤدي إلى قوله تعالى : (عَذابٌ مِنْ
رِجْزٍ) أي عذاب من أشد أنواع العذاب وأكثرها إيلاما ، لأن الرجز :
أشد العذاب ، وقوله تعالى : (هذا هُدىً) إشارة إلى القرآن ، وأنه كامل في كونه هدى.
هذا التهديد
والوعيد لكل أفاك أثيم ، أي كذّاب كثير الآثام ، مبالغ في اقترافها والإصرار عليها
، يستدعي وقفة تبصر ، وتأمل في المصير المشؤوم ، سواء من الأفّاك نفسه ، أو من كل
سامع ، ربما يتصف بهذه الصفات.
ويؤكد ذلك : أن
الأفّاكين يتعرضون لخسارة محققة ، فلا تفيدهم الأصنام التي عبدوها شيئا. ويجد
المتأمل المتبصر القرآن أمامه هاديا إلى الخير ، ومبعدا له عن الشر ، وآخذا بيده
نحو الطريق الأفضل ، والسبيل الأقوم ، فما على كل عاقل إلا أن يقبل على مائدة
القرآن ، ينهل منها ما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.
من نعم الله تعالى
لا تفتأ تمر لحظة
في حياة الإنسان المؤمن وغير المؤمن إلا والله ينعم عليه بنعم كثيرة ، في نفسه
وأفعاله وتحركاته ، وأنشطته الاقتصادية والاجتماعية ، وكلاءة هذه النعم ليقوم
الدليل الدائم على وجود الله تعالى وفضله وتوحيده ، وأنه الإله المعبود بحق ، وفي
ذلك مدعاة التأمل والتفكر ، وضرورة التفويض لله تعالى في شأن عباده ، والسمو عن
التعصب ونظرة الحقد ، ومعاملة الآخرين غير المؤمنين بالسماحة والعفو ، والجزاء
ينتظر الجميع : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، قال الله تعالى مقرّرا هذه الأصول :
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ
__________________
(١٣)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))
[الجاثية : ٤٥ /
١٢ ـ ١٥].
هذه باقة مزدهرة
من أفضال الله ونعمه العديدة وهي :
ـ أن الله تعالى
هو الذي ذلّل لكم البحر لجريان السفن فيه بإذنه وتيسيره ، وللاتّجار والتّكسّب بين
الأقطار ، وللصيد ، ولاستخراج الدّر واللؤلؤ والمرجان وغيرها من أعماق البحار ،
وللسفر للحج والجهاد وغيرهما ، وليكون ذلك موجبا للشكر على هذه النّعم بسبب هذا
التسخير والتيسير ، وتحقيق المنافع لبني آدم.
وهذه آية عبرة في
جريان السفن في البحر ، لأن الله تعالى سخّر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق
الضعيف. وقوله (بِأَمْرِهِ) أناب القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك.
والابتغاء من فضل الله تعالى : هو بالتجارة في الأغلب. وتسخير البحر بثلاثة أشياء
: توفير الرياح المساعدة على سير السفن ، أو التمكين من اختراع الطاقة الكهربائية
والذّرية والفحم وغير ذلك ، وقدرة تحمّل الماء لمئات الأطنان والآلاف ، التي قد
تزيد حمولة السفينة فيها على نصف مليون طن ، وإبقاء الخشب والحديد طافيا على وجه
الماء دون إغراق.
ـ وذلّل لكم أيضا
جميع ما في السماوات من شمس وقمر ، وكواكب ونجوم ، ومجرّات ورياح ، وملائكة وغيرها
، وجميع ما في الأرض ، من جبال وبحار وأنهار ، ورياح وأمطار ، ومنافع أخرى ، فضلا
منه ورحمة ، إن في ذلك التسخير لدلالات واضحات على قدرة الله عزوجل وتوحيده وفضله ، لقوم يتفكرون فيها ، ويستدلّون بها على
التوحيد.
__________________
وقوله : (جَمِيعاً مِنْهُ) قال ابن عباس : كل إنعام فهو من الله تعالى. لذا أمر الله
بمحاسن الأخلاق ، فقل أيها النّبي للمؤمنين أتباعك بأن يعفوا ويصفحوا عن مؤذيات
المشركين الذين لا يتوقعون عذاب الله ونعيمه ، لعدم إيمانهم بالبعث ، ليجزي الله
أولئك المؤمنين ، بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة ، التي منها الصبر على
أذى الكافرين.
نزلت هذه الآية في
صدر الإسلام ، أمر الله تعالى المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن الكفار ، وألا
يعاقبوهم بذنب ، بل يأخذون أنفسهم بالصبر عليهم والمصابرة لهم. والآية تتضمن
الغفران عموما.
قال ابن عباس رضي
الله عنهما : لما أنزلت (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢ / ٢٤٥].
قال فنحاص اليهودي : احتاج ربّ محمد ، تعالى الله عزوجل عن قوله ، فأخذ عمر رضي الله عنه سيفه ، ومرّ ليقتله ،
فردّه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال له : إن ربّك يقول : (قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ..)
وأيام الله معناه
: أيام إنعامه ونصره ونعيمه في الجنة وغير ذلك. ويرجون : بمنزلة (يخافون). وقوله :
(لِيَجْزِيَ) وعيد للكافرين.
ومضمون الآية : أن
الله تعالى يجزي قوما بكسبهم ، ويعاقبهم على ذنوبهم وإجرامهم ، وأكّد ذلك بقوله
تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ ...) أي إن كل عمل صالح يعمل به الإنسان ، وهو مما أمر الله
تعالى به ، أو نهى عنه ، يعمل به لنفسه ومصلحته ، ومن أساء العمل باجتراح السيئات
والمنكرات ، فعلى نفسه جنى ، ثم تعودون أيها البشر إلى الله يوم القيامة ، فتعرضون
بأعمالكم عليه ، فيجزيكم عليها خيرها وشرّها. ويلاحظ أنه تعالى عبّر عن مجيء العمل
الصالح باللام ، والإساءة بعلى.
وقوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) معناه : أنكم جميعا معشر الخلائق ترجعون إلى قضائه وحكمه.
إن هذا البيان الإلهي أجمع بيان ، وأوجزه ، وأكثره عظة وعبرة ، ومعذرة ونفعا ،
فجزاء العمل الصالح حقّ وعدل ، وجزاء العمل السيئ حقّ وعدل أيضا ، والميزان ميزان
التمايز بالأعمال التي يفعلها الإنسان باختياره وإرادته ، فيسأل عنها على النحو
الصادر منه.
نعمة الشرائع
الشريعة الإلهية :
هي النظام الأمثل للحياة البشرية في جميع أنحائها ومشتملاتها ، تحقق الحاجة
والمصلحة ، وترعى الضعيف ، وتنصف المظلوم ، وتقيم العدل ، وتضمن للقائم بها عز
الدنيا ، وسعادة الآخرة ، وكان لبني إسرائيل شريعة في التوراة ، لكنها اندثرت
وضاعت ، واختلفوا فيها بغيا وعدوانا ، ثم ختمت الشرائع بشريعة خاتم النبيين ،
ليلزم بها جميع الناس ، فهي عين البصيرة والحق ، والهداية ، والرحمة الشاملة ،
وليس من المعقول ، ولا من مقتضى العدالة أن يتساوى المحسن والمسيء ، والصالح والفاجر
، والسعيد والشقي. وهذا ما أوضحته الآيات الكريمة :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ
مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما
كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ
فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ
لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ
__________________
وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ (٢٢))
[الجاثية : ٤٥ /
١٦ ـ ٢٢].
المعنى : تالله ،
لقد آتينا الإسرائيليين كتاب التوراة ، والسنّة والفقه والقضاء ، وما تكرر فيهم من
الأنبياء عليهمالسلام كموسى وهارون ، ورزقناهم من المستلذّات الحلال ، لتتم
النعمة ويحسن تعدادها ، مثل المن والسلوى وطيبات الشام بعد ، إذ هي الأرض المباركة
، وفضلناهم على عالم زمانهم. وآتيناهم بينات من الأمر ، أي الوحي الذي فصّلت به
لهم الأمور ، ولكنهم لم يشكروا هذه النعم الست ، بل اختلفوا في أمر الدين وأخطئوا
، فلم يكن اختلافهم اجتهادا في طلب الصواب ، حتى يعذروا في الاختلاف ، وإنما
اختلفوا بغيا وظلما بينهم ، بعد أن تبينوا الحقائق ، فتوعدهم الله تعالى بوقف
أمرهم على قضائه بينهم يوم القيامة ، فإن الله سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم
القيامة ، في شأن اختلافهم في أمر الدين ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
، ويبين المحق من المبطل ، وفي هذا تحذير للمسلمين أن يختلفوا كاختلاف بني
إسرائيل.
وأعقب الله تعالى
بعد شريعة موسى عليهالسلام شريعة النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإياك أيها النبي من الاختلاف ، واتبع شريعتك المنزلة
عليك : وهي المشتملة على الفرائض والحدود والأمر والنهي ، وهي من جملة أمر الله
المشتمل على الأوامر والنواهي ، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين
، الذين لا يعلمون توحيد الله وشرائعه. والذين لا يعلمون : هم الكفار الذين كانوا
يريدون صرف محمد صلىاللهعليهوسلم إلى إرادتهم.
__________________
إن هؤلاء الكفار
المشركين الجهلة ، لن يدفعوا عنك من الله شيئا أراده بك ، إن اتبعت أهواءهم ،
وخالفت شريعتك.
ثم حقّر الله
تعالى شأن الظالمين ، مشيرا بذلك إلى كفّار قريش ، فإنهم يتولى بعضهم بعضا ،
والمتقون : يتولاهم الله عزوجل ، فخرجوا عن ولاية الله تعالى وعونه ونصره ، وتبرأت منهم ،
ووكل الله تعالى بعضهم إلى بعض.
وهذا القرآن بصائر
للناس ، أي معتقدات وثيقة منوّرة للناس طريقهم ، وهادية إلى الجنة كل من عمل بها ،
ورحمة من الله وعذابه في الدنيا والآخرة ، لقوم يوقنون بصحة الشرع وتعظيم ما فيه.
بل ظن الذين
اقترفوا الآثام والمعاصي في الدنيا ، وكفروا بالله ورسله ، وعبدوا غيره ، أن
نجعلهم كالذين صدّقوا بالله ورسله ، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض ،
واجتناب المحارم ، بأن نسوي بينهم في الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة ، وأن
محياهم ومماتهم سواء ، فلا يستوي الفريقان حياة وموتا ، ثوابا وعقابا ، لأن
المحسنين عاشوا على الطاعة ، وأولئك المشركون عاشوا على المعصية ، إن زعموا ذلك ، ساء
الحكم حكمهم ، وبئس القرار قرارهم.
نزلت هذه الآية في
علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين عتبة وشيبة
والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون
حقا ، لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا ،
فأنكر الله عليهم هذا الكلام.
والدليل على صحة
مبدأ التفاوت في الآخرة وحكم الله بين المحسنين والمسيئين : أن الله تعالى خلق أو
أبدع السماوات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين الناس ،
فلو لم يوجد البعث
والحساب والجزاء ، لما كان ذلك الخلق بالحق ، بل كان بالباطل ، ومن العدل : اختلاف
الجزاء بين المحسن والمسيء ، فتجزى كل نفس بما قدمت ، من عمل صالح أو سيئ ، وهم لا
يظلمون شيئا بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
الوثنية وإنكار البعث
للمشركين الوثنيين
سيئات كثيرة ، ومآخذ وعيوب عديدة ، من أخطرها عبادة الأصنام ، عملا بالهوى والشهوة
، وإنكارهم البعث ، وقولهم : ما يهلكنا إلا الدهر ، أو الليل والنهار ، وبعدهم عن
الحق والخير ، بسبب كفرهم وعنادهم ، واعتمادهم على الأوهام والتخمينات ، والتقليد
الأعمى ، فنبههم القرآن الكريم إلى أدلة قدرة الله وتوحيده ، وإمكانه إحياء الناس
مرة أخرى ، وإلى حسابهم وجزائهم على ضلالهم ، ومفاجأتهم بصحائفهم المدوّن فيها
أعمالهم وعقائدهم ، بالحق والعدل ، دون زيادة أو نقص ، لتكون شاهدة عليهم ، وهذا
بيان القرآن لأحوالهم :
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا
وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ
حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥)
قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى
إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما
__________________
كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)) [الجاثية : ٤٥ /
٢٣ ـ ٢٩].
آسى الله تعالى أو
آنس نبيه عن إعراض المشركين عن الإيمان ، فطلب منه ألا يحفل بهم ، ولا يهتم بأمرهم
، فليس فيهم حيلة لبشر ، لأن الله بسبب إمعانهم في الكفر أضلهم. ومعنى الآية :
أخبرني عن حال هؤلاء المشركين الذين أطاعوا أهواءهم ، واتخذوا دينهم ما يهوونه ،
فكأنهم جعلوا الهوى إلها يعبدونه من دون الله ، فلا يهوى أحدهم شيئا إلا اتبعه ،
وخذلهم الله ، عالما بضلالهم ، لفساد استعدادهم وأحوالهم ، وطبع الله تعالى على
أسماعهم وقلوبهم ، فلا يسمعون الوعظ ، وجعل على أبصارهم غطاء ، فلا يبصرون الهدى
والحق ، فمن الذي يرشدهم للصواب بعدئذ؟ أفلا تتذكرون وتتعظون أيها المشركون؟
والهوى : ما تريده النفس وتحبّه.
نزلت كما أخرج ابن
المنذر وابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش تعبد الحجر حينا من
الدهر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه ، طرحوا الأول ، وعبدوا الآخر ، فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ). وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفرة ، فهي متناولة
جميع أهواء النفس الأمّارة بالسوء. وآية (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ..) قال مقاتل : نزلت في أبي جهل.
وهذه الآية لا حجة
للجبرية فيها ، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله تعالى : (اتَّخَذَ) وفي قوله تعالى : (عَلى عِلْمٍ) أي على علم من هذا الضلال ، فإن الحق هو الذي يترك ويعرض
عنه ، فهم معاندون مكابرون.
وقال المشركون
الماديون ، والدهريون المنكرون للبعث : ما في الوجود إلا هذه الحياة الدنيوية التي
نحن فيها ، وليست ثمّ آخرة ولا بعث ، وما يهلكنا إلا طول الزمان
أو الدهر ، ولا
دليل لهم على هذه المقالة من نقل أو عقل ، وما مستندهم إلا الظن والتخمين ، من غير
حجة أصلا ، فهي ظنون منهم وتخرّصات ، تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى. والدهر
والزمان بمعنى واحد عند العرب. أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، فأنزل الله : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)
ودليلهم على إنكار
البعث ما قالوا : إذا تليت عليهم بعض آيات القرآن ، واضحات الدلالة على قدرة الله
على البعث والقيامة ، قالوا : أحضروا آباءنا الذين ماتوا أحياء ، إن كنتم أيها
المؤمنون صادقين في إمكان البعث ، لنسألهم عما رأوا ، ويشهدوا لنا بصحة البعث.
فأجابهم الله
تعالى : قل أيها النبي لهؤلاء المشركين منكري البعث : إن الله أحياكم في الدنيا ،
ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ، ثم يجمعكم جميعا يوم القيامة ، جمعا لا شك فيه بعد
إماتتكم ، بلا ريب في نفسه وذاته ، فإن الذي قدر على البداءة ، قادر على الإعادة
بطريق الأولى ، ولكن أكثر الناس ، وهم مشركو العرب ينكرون البعث ، من غير تأمل ولا
تدبر وإمعان فكر.
ودليل آخر على
إمكان البعث : قدرة الله الخارقة ، فالله مالك السماوات والأرض ، والحاكم فيهما ،
والمتصرف بهما وحده في الدنيا والآخرة ، ويوم تقوم القيامة ، يخسر المكذبون
الكافرون المتعلقون بالأباطيل ، بدخول جهنم ، يظهر خسرانهم في ذلك اليوم ،
لصيرورتهم إلى النار.
ومن أهوال القيامة
: ترى كل أمة (جماعة عظيمة من الناس يجمعها معنى أو وصف شامل لها) جاثية على الركب
، وهي هيئة المذنب الخائف ، فهم لشدة الأمر ، يجثون على الركب بين يدي الله عند
الحساب ، وكل أمة تدعى إلى كتابها المنزل
على رسلهم ، أو
إلى صحف أعمالهم ، وفي يوم القيامة : يجزيكم الله بما عملتم في الدنيا من خير وشر
، تجازون فيها ، من غير زيادة ولا نقص.
وهذه صحف الأعمال
التي أمر الله الملائكة الحفظة بكتابتها ، تشهد عليكم ، وتذكر جميع أعمالكم ، من
غير زيادة ولا نقص ، إن الله كان يأمر الحفظة أن تكتب أعمال الناس عليهم ،
وتثبّتها وتحفظها عليهم ، ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابلون الملائكة الذين هم في
ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة ، أي إن الله عن طريق ملائكة يقيد كل ما عمل
الناس ، ويحدث تطابق ومراجعة بين ما دوّنته الحفظة ، من اللوح المحفوظ ، وبين ما
يفعله العباد ، ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك ، وهذا هو
الاستنساخ المذكور في الآية (٢٩).
أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة
أخبر القرآن
الكريم عن أحوال المؤمنين وجزائهم الحسن ، وأحوال الكافرين وسوء عقابهم ، للمقارنة
أو الموازنة بين مصير الفريقين ، فإن الأشياء تتبين بأضدادها ، فيبين الأمر في نفس
السامع ، ومن أسباب عقاب الكفار : إنكار القيامة ، واستبعادهم لها ، وتوهم وجودها
من غير تحقق ولا تيقن ، واستهزاؤهم بها ، واغترارهم بالدنيا ، وترك استعدادهم
للآخرة ، بالإيمان والعمل الصالح ، مع أن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة ، لأنه
يملك السماوات والأرض وما بينهما ، وهو رب العالمين جميعا ، وهو صاحب العزة
والكبرياء ، فلا يغالبه أحد ، هذا ما وصف القرآن لنا :
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
__________________
(٣٠)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ
إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ
الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ
وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ
هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ
الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))
[الجاثية : ٤٥ /
٣٠ ـ ٣٧].
ذكر الله تعالى
حال الفريقين من المؤمنين والكافرين ، ليتبين الأمر للمخاطب في نفسه ، ويعتبر من
المقارنة بين الحالين ، من طريق المقابلة وذكر الأضداد. فأما الذين صدقوا بالله
وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا صالح الأعمال ، بأداء الفرائض أو التكاليف ،
فيدخلهم ربهم الجنة ، وذلك الإدخال محقق لنيل البغية والظفر بالمطلوب.
وأما الذين أنكروا
وحدانية الله والبعث ، فيقال لهم على سبيل التوبيخ : ألم تكن آياتي الكونية
والقرآنية تتلى على مسامعكم ، فاستكبرتم وأبيتم الإيمان بها ، وكنتم قوما مجرمين
في أفعالكم ، بارتكاب الآثام والمعاصي.
وإذا قيل لهؤلاء
الكفار : إن وعد الله بالبعث والحساب حق ثابت ، والقيامة حتمية لا شك في وقوعها ،
فآمنوا بذلك ، أجبتم : لا نعرف ما القيامة؟ إن نتوهم بوقوعها إلا توهما ضعيفا ،
ولسنا بمتحققين أن القيامة آتية ، أي إن نظن بعد قبول خبركم إلا ظنا ضعيفا ، ولا
يعطينا يقينا.
وظهر لهم حال يوم
القيامة وقبائح أعمالهم ، وأحاط ونزل بهم جزاء أعمالهم
__________________
بدخولهم النار ،
وعوقبوا بما هزئوا به في دار الدنيا : وهو العذاب والنكال. وقوله : (ما كانُوا) على حذف مضاف ، تقديره : جزاء ما كانوا ، أي عقاب كونهم
يستهزئون.
والنجاة ميئوس
منها ،. فيقال لهم : اليوم نعاملكم معاملة الناسي لكم ، فنترككم في العذاب ، كما
تركتم العمل لهذا اليوم ، وتجاهلتم ما نزل في القرآن ، ومستقركم الذي تأوون إليه
هو النار ، وليس لكم من أنصار ، ينصرونكم ويمنعون عنكم العذاب ، وبعبارة أخرى :
نترككم كما تركتم لقاء يومكم هنا ، فلم تستعدوا ولم تتأهبوا له ، فسميت العقوبة في
هذه الآية باسم الذنب.
والمأوى : الموضع
الذي يسكنه الإنسان ، ويكون فيه عامة أوقاته.
وأسباب هذا العقاب
: أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا ، وخدعتكم الدنيا بزخارفها وزينتها ، فاطمأننتم
إليها ، فاليوم لا يخرجون من النار ، ولا يطلب منهم العتبى ، بالرجوع إلى طاعة
الله ، واسترضائه ، لأنه يوم لا تقبل فيه التوبة ، ولا تنفع فيه المعذرة ، لفوات
الأوان ، والله وحده هو القادر على البعث ، فله الحمد الخالص على النعم الكثيرة
لله خالق السماوات والأرض ومالكهما ، ومالك ما فيهما من إنس وجن وحيوان ، وأجسام
وأرواح ، وذوات وصفات.
ولله العظمة
والجلال في أرجاء السماوات والأرض ، وهو سبحانه القوي الغالب القاهر في سلطانه ،
فلا يغالبه أحد ، الحكيم في أقواله وأفعاله. وهذا تحميد لله تعالى ، وتحقيق
لألوهيته ، وإبطال لألوهية الأصنام ، جاء في الحديث الثابت الذي أخرجه أحمد ومسلم
وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن
نازعني واحدا منهما ، أسكنته ناري» وفي لفظ (قصمته).
الله تعالى هو
الجدير بالعبادة ، لأنه شامل الملك في السماوات والأرض ، وكامل الذات والوجود
والأوصاف ، والمتنزه عن كل نقص ، وله وحده الكبرياء والعظمة ، الظاهر آثارهما في
السموات والأرض ، العزيز الذي لا يغلب ، القادر الذي لا يعجز ، الحكيم في كل ما
قضى وقدر ، فاحمدوه وحده أيها العباد ، واعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأطيعوا كل
ما أمر. هذه خاتمة سورة الجاثية وهي خاتمة رائعة ، والقرآن كله ينطق بالحق والعدل.
تفسير سورة الأحقاف
إثبات وحدانية الله تعالى
إثبات توحيد الله
والبعث : هما أساس الخلاف الحادّ مع المشركين ، لذا عنيت آيات القرآن الكريم بالرد
على مزاعم هؤلاء المشركين حول تعدد الآلهة ، وألوهية الأصنام ، ونفي البعث ، ومحور
الرد يعتمد على إثبات القدرة الإلهية ، بخلق السماوات والأرض وما بينهما من
المخلوقات ، وسلب القدرة الخلاقة على الخلق عن الآلهة المزعومة ، ونفي إمكان نفعها
لعابديها في الدنيا والآخرة ، بل تكون أعداء لعابديها ، وهذا هو الكلام الفصل في
الآيات الآتية في مطلع سورة الأحقاف المكية :
(حم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ
كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ
(٦))
[الأحقاف : ٤٦ / ١
ـ ٦].
__________________
افتتحت السورة
بالأحرف المقطعة للتنبيه على ما يأتي في السورة ، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل
القرآن أو آية منه. وتقترن هذه الأحرف غالبا بالتحدث عن القرآن ، لإثبات نزوله من
عند الله وإعجازه. وتنزيل القرآن الكامل في كل شيء حاصل من الله عزوجل ، القوي الغالب لكل من حادّه أو عارضة ، المحكم المتقن ،
الحكيم في تدبيره وصنعه ، وأقواله وأفعاله ، يضع كل أمر في موضعه المناسب له.
ما أوجدنا أو
أبدعنا السماوات العليا ، والأراضي السفلى ، إلا بما يتفق مع الواجب الحسن ، الذي
حق أن يكون ، وإلى مدة معينة لا تزيد ولا تنقص ، وهي يوم القيامة. والذين جحدوا
وحدانية الله : معرضون عن الإنذار ، وإنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، فهم لاهون عما
يراد بهم.
ثم ردّ الله تعالى
على عبدة الأوثان ، آمرا نبيه أن يقول للمشركين الوثنيين : أخبروني عما تدعون من
غير الله كالأصنام وأهل القبور ، بعد التأمل في الكون ، وخلق السماوات والأرض وما
بينهما ، هل تمكّنوا من إبداع أو خلق شيء في الأرض؟ وهل لهم مشاركة في ملك
السماوات والتصرف فيها؟ الواقع أنهم عجزة عجزا تاما عن خلق شيء ، أحضروا لي دليلا
مكتوبا قبل القرآن ، مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل ، يدل على صحة عبادة
الأصنام؟ أو هل لكم بقية من علم الأنبياء السابقين ، أو أحد العلماء؟ يرشد إلى صحة
هذا المنهج الذي سرتم عليه ، ويقتضي عبادة الأصنام ، إن كنتم صادقين في ادعائكم
ألوهية الأصنام أو الأوثان؟ والمعنى : لا دليل لكم من النقل أو العقل على ذلك ،
وليس لكم كتاب منزل قبل القرآن ، يتضمن عبادة صنم أو وثن.
وقوله تعالى (مِنَ الْأَرْضِ) من : للتبعيض ، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه
فهو من الأرض.
ثم وبّخ الله
تعالى عبدة الأصنام ، مبينا أنه لا أحد أضل ممن هذه صفته ، بعبادة الأصنام من دون
الله ، فإنه يدعو من لا يسمع إلى يوم القيامة ، والأصنام غافلون عمن دعاهم ، لا
يسمعون ولا يعقلون ، لكونهم جمادات. والمراد : أنه ليس للأصنام قدرة على شيء ، ولا
علم لديها بشيء ، فهي جمادات ، وعبادة الجماد : محض الضلال ، فهم لا يتأملون ما هم
عليه في دعاء من هذه صفته.
وعبر عن الأصنام
بقوله : (وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ) كخطاب العقلاء ، معاملة لها كالعقلاء ، في مزاعم أصحابها
وعبدتها.
ومما يؤكد نفي
العلم الدال على عبادة الأصنام : أنه إذا جمع الناس الكفار ، [والأصنام يوم
القيامة في موقف الحساب ، كانت الأصنام لهم أعداء ، تظهر التبري منهم والإنكار
عليهم ، وتصبّ اللعنة عليهم ، وتقول كما حكى القرآن الكريم عنهم : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا
إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص : ٢٨ / ٦٣]
وكانت الأصنام جاحدين مكذبين بتلك العبادة. وكذلك تتبرأ الملائكة والمسيح عيسى ابن
مريم وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة.
إن العقل الإنساني
السوي ، وعزة الإنسان وكرامته ، يأبى كل ذلك الخضوع الإرادي لصنم أو وثن ، لا يضر
ولا ينفع ، ولا يعقل ولا يسمع ، ولا يفهم ولا يستجيب لشيء ، ومع كل هذه الأدلة
القاطعة والبراهين المحسوسة يظل البدائيون في بعض البلاد الإفريقية وغيرها عاكفين
على أصنامهم في القرن العشرين ، على الرغم من دراساتهم العلمية في الجامعات
الأمريكية والأوربية ، بعد عودتهم لبلادهم ، كما هو مشاهد ومعروف.
شبهات المشركين
حاول المشركون
الدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم ، بإلقاء الشبهات الفارغة حول القرآن الكريم ،
والوحي الإلهي والنبوة ، فوصفوا القرآن بالسحر ، وكذبوا بالنبوة ، فزعموا أن محمدا
افترى القرآن من عند نفسه ، لا بوحي من ربه ، وطالبوا بمعجزات مادية عجيبة للتحدي
والإرباك ، وبأن يخبرهم عن بعض الغيبيات ، واستعلوا على فئة الضعفاء ، وأنفوا من
مجالستهم ، وقالوا : لو كان هذا الدين خيرا ما سبقونا إليه ، فأبطل القرآن دعاويهم
، وأوضح مهمة القرآن من إنذار الظلمة وتبشير المحسنين ، وبيان عاقبة المستقيمين من
الخلود في الجنان ، وإبعاد المخاوف والأحزان عنهم ، قال الله تعالى واصفا ذلك :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا
تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى
بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما
كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ
كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ
هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا
كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى
لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ
خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))
[الأحقاف : ٤٦ / ٧
ـ ١٤].
__________________
المعنى : إذا تليت
آيات القرآن الواضحة على المشركين ، وصفوا الحق الذي أتاهم وهو القرآن بأنه سحر
واضح ، وتمويه كاذب ، أي إنهم كفروا وافتروا وكذّبوا.
بل إنهم يقولون :
افترى محمد القرآن ، واختلقه من عند نفسه ، كذبا على الله ، فقل أيها الرسول لهم :
لو افتريته وكذبت على الله ، على سبيل الافتراض ، لعاقبني الله تعالى أشد العقاب ،
ولا تملكون أن تعملوا لي شيئا ، أو تسعفوني وتنقذوني. والله أعلم بما تقولون في
القرآن وتخوضون فيه ، من تكذيبه ، ووصفه بالسحر والكهانة ، كفى بالله شاهدا صادقا
يشهد لي : بأن القرآن من عند الله ، وبتبليغه إياكم ، ومع هذا فالله غفور لمن تاب
وآمن ، وصدق بالقرآن وعمل به ، وهو رحيم به ، حيث لا يعاقبه على ما سبق منه ، وفي
هذا جمع بين الوعيد والترهيب ، والترغيب لهم في التوبة والإنابة.
وقل لهم أيها
الرسول على اقتراح المعجزات : لست بأول رسول في العالم ، ولا مبتدعا شيئا لا مثيل
له ، بل هناك رسل كثيرون قبلي ، ولا أعلم ما يفعل بي ولا بكم في المستقبل ، وإنما
أتبع الوحي الذي أنزله الله علي في القرآن والسنة ، ولا أبتدع شيئا من عندي ، ولست
إلا نذيرا لكم ، أنذركم عقاب الله وأخوّفكم عذابه ، وأوضح ما جاء من عند الله عزوجل.
ثم أكد الله خسارة
المشركين ، فقل أيها الرسول لهم : أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله في
الحقيقة ، ثم كفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل ، العالمين بالتوراة على صحته
وعلى ما قلت ، فآمن هذا الشاهد : وهو عبد الله بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة ، ثم
تكبرتم عن الإيمان به ، فقد ظلمتم أنفسكم ، والله لا يوفق الظالمين إلى الخير.
أخرج البخاري
ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبد الله بن سلام نزلت
هذه الآية ، (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
عَلى مِثْلِهِ) ، ثم قال مشركو مكة حينما رأوا إيمان جماعة من الفقراء
المستضعفين ، كعمار وصهيب وابن مسعود : لو كان هذا الدين خيرا ، ما سبقنا إليه
هؤلاء ، وحين لم يهتدوا بالقرآن ظهر عنادهم ، وسيقولون بعدئذ : هذا كذب مأثور عن
الأقدمين. نزلت كما أخرج الطبري عن قتادة قال : قال ناس من المشركين : نحن أعز ،
ونحن ونحن ، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان ، فنزل : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) وقال قتادة أيضا : هي مقالة أشراف قريش ، يريدون عمارا
وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم ، وآمن بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومما يدل على أن
القرآن حق وصدق ، وأنه من عند الله : اعترافكم أيها المشركون بإنزال التوراة على
موسى ، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين ، وهو رحمة لمن آمن به ، وهذا القرآن
الموافق للتوراة في أصول الشرائع ، مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب المتقدمة ،
أنزله الله لينذر به النبي من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم ، وهم مشركو مكة ،
ويبشّر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا.
ثم ذكر الله تعالى
حال المؤمنين ، وجزاءهم الأخروي ، فإن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على
منهج الشريعة ، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل ، ولا يحزنون من فوات
محبوب في الماضي. والخوف : هو الهمّ بما يستقبل ، والحزن : هو الهمّ بما مضى ، وقد
يستعمل فيما يستقبل استعارة ، لأنه حزن لخوف أمر ما.
أولئك المؤمنون
الموحدون المستقيمون على أمر الله : هم أهل الجنة ماكثون فيها على الدوام ، مقابل
ما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا ، أي إن الجزاء بسبب العمل الصالح في الدنيا ،
على منهج العدل والحق. وهذا دليل على أن الله تعالى جعل الأعمال أمارات على جزاء
الإنسان ، لا أنها توجب على الله تعالى شيئا ، لكن لا يكون دخول الجنة إلا بفضل من
الله وإحسان.
الإيصاء ببرّ الوالدين
ـ ١ ـ
البارّ بوالديه
الوالدان : سبب
وجود الولد ، ولهما الفضل بتربيته ورعايته ، صغيرا وكبيرا ، لذا كانت الوصية من
الله تعالى لعباده ببر الأبوين ، والإحسان إليهما ، وكان برّ الوالدين في الشريعة
واجبا بآيات كثيرة في القرآن العظيم ، وعقوقهما كبيرة من الكبائر ، روى الإمام
أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة
المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده».
وألزم القرآن
الكريم في آياته الأولاد برّ آبائهم وأمهاتهم ، ونهى عن عقوقهم ، وذكر الله تعالى
حق الأمهات على الأبناء والبنات ، وجعل الأم في أربع مراتب ، والأب في مرتبة واحدة
، كما في هذه الآيات :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما
عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))
[الأحقاف : ٤٦ /
١٥ ـ ١٦].
نزلت هذه الآية ـ كما
ذكر الطبري ـ في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ثم
__________________
هي تتناول من
بعده. وقال السدّي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، والأولى أنها للعموم
الشامل لهاتين الواقعتين وغيرهما.
والمعنى : وصينا
الإنسان وأمرناه أن يحسن لوالديه ، في الحياة وبعد الموت. والتوصية : الأمر
المقترن بالوعظ والإشعار بالعناية بالشيء المأمور به. والإحسان : بالحنو عليهما
والكلام اللطيف معهما ، والإنفاق عليهما عند الحاجة ، والبشاشة عند لقائهما. وذكرت
الأم مرة في قوله تعالى : (بِوالِدَيْهِ) ثم ذكرت في مراتب ثلاث أخرى وهي حمل الأم ثم وضعها ، ثم
رضاعها الولد الذي عبر عنه بالفصال ، وهذا يناسب ما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب. وذلك حين قال
له رجل : «يا رسول الله ، من أبرّ؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم
من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أباك» .
والحمل والوضع
بكره ، أي بمشقة. حتى إذا بلغ الولد أشده ، أي كمل عقله ورأيه ، واشتد ساعده ،
وذلك : ستة وثلاثون ، في أقوى الأقوال ، وبلغ أربعين سنة ، قال : رب ألهمني ووفقني
أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي ، وعلى والديّ ، من نعمة الهداية إلى الدين الحق
والتوحيد ، وغير ذلك من نعم الدنيا ، كسلامة العقل والصحة ، ووفرة العيش ، وكمال
الخلقة ، وحنان الأبوين في الصغر ، وألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني :
وهو الصلوات ، وأصلح لي في ذريتي بجعلهم أهل طاعة وخيرية ، ومعنى الآية : أن هكذا
ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله تعالى في كل الشرائع.
إني تبت من الذنوب
، ورجعت إليك من العيوب ، وإني من المنقادين لطاعتك ، المخلصين لتوحيدك.
__________________
وجزاء هؤلاء
الصالحين : أن الله تعالى يتقبل من أولئك الموصوفين بالصفات المتقدمة أحسن أعمالهم
، وهو ما قدّموه من صالح العمل ، وعمل الخير في الدنيا ، المتفق مع أمر الله تعالى
، ويعفو عنهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم وذنوبهم ، فلا يعاقبهم عليها ، لأنها تتلاشى
بالحسنات ، كما قال الله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١ / ١١٤].
وهم من جملة أصحاب الجنة ، الذين سبقت لهم رحمة الله تعالى ، وقد وعد الله أهل
الإيمان بالقبول ، وعدا صادقا منجزا.
وقوله تعالى : (أُولئِكَ) بالإشارة إلى البعيد ، لبيان علو منزلتهم ، وهو إشارة إلى
الإنسان المذكور باعتبار الجنس ، في قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) وجمعه باعتبار أفراد الإنسان ، الذين تحقق فيهم ما ذكر من
الأوصاف ، بمعرفة حقوق الوالدين ، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر ، وذلك
مشعر بأن هذه الأوصاف : هي أوصاف الإنسان الكامل. وقوله : (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي حسن ما عملوا ، فيشمل الحسن والأحسن. وقوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لما قبله ، أي وعدهم ذلك وعد الصادق في قوله
وفعله ، وتنفيذ وعده.
واستفيد من هذه
الآية : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ومن آية لقمان : (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) [لقمان : ٣١ / ١٤]
أن أقل الحمل ستة أشهر ، لأن الرضاع يكون في حولين كاملين في آية : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢ / ٢٣٣]
فإذا كان أكثر مدة الرضاع حولين كاملين ، بقي للحمل من الثلاثين شهرا : ستة أشهر.
وكان علي رضي الله عنه أول من استدل بهاتين الآيتين ، للدلالة على أقل مدة الحمل ،
وهي ستة أشهر.
ـ ٢ ـ
العاق لوالديه
الموازنة أو
المقارنة بين الأضداد تظهر الفوارق ، وتحمل الإنسان على تبين الاتجاه الأفضل ،
وترك التوجه الأدنى أو الأسوأ. فإذا كان البارّ بوالديه يتبوأ عند الله المنزلة
العالية ، ويرضى عنه ، ويدخله جنته ، فإن العاق لوالديه ، في غضب الله وسخطه ،
وتعرضه لعذاب النار ، وتحقق خسارته.
وقد أنزل الله
تعالى آيات تفيد العموم في حال البارّ والعاقّ ، ولم يصح كون آيات العقوق نزلت في
عبد الرحمن بن أبي بكر ، بدليل قول عائشة رضي الله عنها : والله ما نزل في آل أبي
بكر من القرآن غير براءتي ، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) وهذه هي الآيات الآتية في العاق لوالديه :
(وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ
مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ (٢٠))
[الأحقاف : ٤٦ /
١٧ ـ ٢٠].
قال ابن عطية :
الأصوب أن تكون هذه الآية في أهل هذه الصفات ، ولم يقصد بها عبد الرحمن بن أبي بكر
ولا غيره من المؤمنين ، والدليل القاطع على ذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) وكان عبد الرحمن
__________________
رضي الله عنه من
أفضل الصحابة ومن الأبطال ، وممن له في الإسلام غناء ، ويكفيه مقامه مع مروان يوم
اليمامة وغيره.
والمعنى : والذي
قال لأبويه حينما دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر : أفّ لكما ، أي أتضجر
وأتبرم مما تقولانه ، أتخبرانني أنني سأبعث من قبري بعد الموت لموعد الله؟ إن هذا
البعث مستنكر ، فقد مضت الأمم الكثيرة من قبلي ، كعاد وثمود ، ماتوا ولم يبعث منهم
أحد. ووالده يسألان الله أن يوفقه للإيمان ، ويقولان له : ويلك آمن بالله وبالبعث
، أي هلاكا لك ، إن وعد الله حق لا خلف فيه ، والمراد : الحث على الإيمان ، فيقول
هذا الولد مكذبا لما قال والده : ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا أباطيل
السابقين التي سطروها في الكتب ، والبعث باطل في زعمه.
فكان جزاء هذا
القائل ما ذكر الله تعالى : أولئك القائلون هذه المقالة هم الذين وجب عليهم العذاب
، واستحقوا غضب الله ، في جملة الأمم الكافرة المتقدمة ، فهم منضمون في ذلك إليهم
، سواء كانوا من الجن ، أو الإنس الذين كذبوا الرسل ، وهم من جملة الخاسرين ،
الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يقتضي أن الجن يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن.
ثم ذكر الله تعالى
مراتب كل من فريقي الإحسان والإساءة ، فلكل فريق منهم مراتب ومنازل عند الله يوم
القيامة ، أما المحسنون الأبرار : فهم في المراتب العليا ، وأما المسيئون الأشرار
: فهم في المراتب الدنيا. والله يوفي الفريقين جزاء أعمالهم من الخير والشر ، ومن
أجل ما عملوا منها ، وليوفيهم جزاء أعمالهم بنحو تام ، المحسن بإحسانه ، والمسيء
بإساءته ، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب. فقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) يعني لكل من المحسنين والمسيئين منازل.
وأحوال العقاب
وأهوال القيامة شديدة كئيبة ، فاذكر أيها النبي لقومك حين
تعرض النار على
الكفار ، أي يعذبون فيها ،. فهو عرض بالمباشرة ، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا :
استوفيتم لذاتكم في الدنيا ، وتمتعتم بها ، باتباع الشهوات واللذات ، وصرفتموها في
معاصي الله سبحانه ، دون مبالاة بالذنب ، ففي هذا اليوم تجازون بالعذاب الشديد
الذي فيه مذلة وهوان ، بسبب تكبركم عن عبادة الله ، والإيمان به وتوحيده بغير حق ،
وخروجكم من طاعة الله إلى دائرة الفسق والفجور ، فقد آثرتم اللذة الفانية على
الدائمة.
و (الطيبات) :
الملاذ. و (عذاب الهون) العذاب الذي اقترن به هوان ، وهو عذاب العصاة المواقعين ما
قد نهوا عنه ، وهذا واضح في الدنيا ، فعذاب المحدود في معصية ، كالحرابة ونحوها
مقترن بالهوان ، وعذاب المقتول في حرب ليس فيه هوان. والهون والهوان : بمعنى واحد.
وهذه الآية ، وإن
كانت في الكفار ، فهي رادعة لأولي العقل (النّهى) من المؤمنين ، عن الشهوات
واستكمال الطيبات. ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : «أتظنون أنّا لا نعرف طيب
الطعام؟ ذلك لباب (خالص) البر (القمح) بصغار المعزى ، ولكنا رأينا الله تعالى نعى
على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا». ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن
زياد.
العبرة من قصة هود عليهالسلام
لقد أورد القرآن
الكريم أخبار مجموعة من قصص الأنبياء للعبرة والعظة ، على النحو الجماعي والفردي.
ومن هذه القصص قصة هود مع قومه عاد ، وعاد قبيلة عربية من إرم ، كانوا يسكنون
الأحقاف : واد باليمن فيه منازلهم بين عمان ومهرة ، والغاية من هذه القصة تذكير
أهل مكة وأمثالهم ، بقوم هود وما حل بهم ، وقد كانوا
أشد منهم قوة
وأكثر جمعا ، وقد أبادهم الله بالريح الصرصر العاتية ، فهل من عاقل متعظ؟ هذا ما
ذكرته الآيات الآتية :
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ
آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ
إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي
أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها
فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا
يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما
كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))
[الأحقاف : ٤٦ /
٢١ ـ ٢٨].
أمر الله تعالى
نبيه صلىاللهعليهوسلم بذكر قصة هود عليهالسلام مع قومه عاد ، على جهة المثال لقريش وأشباهها. اذكر أيها
النبي لقومك أخا عاد : وهو هود عليهالسلام ، وهذه الأخوة هي أخوة القرابة ، لأن هودا عليهالسلام كان من أشراف قبيلته عاد ، وليست أخوة في الدين ، وذلك حين
أنذر ، أي خوّف قومه في وادي الأحقاف بحضرموت ، وأخبرهم أن الرسل قبله وبعده
أنذروا مثل إنذاره ، وهو ألا يعبدوا غير الله تعالى ، ولا يشركوا به شيئا ، فإني
أخشى أن يحل بكم عذاب شديد عظيم الأهوال ، والنذر : جمع نذير ، اسم فاعل ، أي
منذر.
__________________
فأجابوه بقولهم :
لقد أتيتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة الله ، فأتنا بما تعدنا من العذاب
العظيم ، إن كنت صادقا في قولك ووعيدك.
فرد هود عليهالسلام قائلا : إنما العلم بوقت نزول العذاب محصور بالله تعالى ،
لا عندي ، وشأني مقصور على أن أبلغكم ما أرسلت به من ربكم من الإنذار والتحذير من
العذاب ، لا أن آتي به ، فليس ذلك في مقدوري ، ولكني أراكم قوما تجهلون المخاطر في
المستقبل ، إذا أصررتم على الكفر ، ولم تهتدوا بما جئتكم به.
وجاءت أمارات
العذاب ، حيث رأوا سحابا متجها نحو أوديتهم ، فقالوا : هذا سحاب ممطر ، ففرحوا به
واستبشروا ، بعد أن امتنع عنهم المطر ، فلم يكن مطر رحمة ، وإنما مطر عذاب ، وهذا
هو العذاب الذي تعجلتم بطلبه ، وهو ريح سموم فيها عذاب أليم ، وهو المذكور في
الآية السابقة حين قلتم : (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وضمير (رأوه) عائد على غير مذكور ، دل عليه قوله : (عارِضاً) وهو الشيء المرئي الطالع عليهم ، فصار في حكم المعلوم.
وتلك الريح تخرب
وتهلك كل شيء مرت به ، من نفوس وأموال ، بإذن الله في ذلك ، فأصبح قوم عاد جثثا
هامدة ، وبادوا عن آخرهم ، ولم تبق لهم بقية ، وأصبحوا لا يرى إلا آثار مساكنهم ،
وهذا الحكم كحكم كل من كذب رسلنا وخالف أمرنا ، ومثل هذا الجزاء نجازي كل قوم أجرموا
، فلم يؤمنوا بالله ، والمقصود : تخويف أهل مكة وأمثالهم.
وقوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) ظاهره العموم ، ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره.
ولقد مكنا قوم عاد
والأمم السالفة في الدنيا ، من الأموال والأولاد ، وقوة الأبدان ، وطول العمر ،
بمقدار لم نجعل لكم يا أهل مكة مثله ولا نحوه ، فقد كانوا
أشد منكم قوة ،
وأكثر أموالا وأولادا ، وأعز جانبا ، وأمنع سلطانا. وإنهم أعرضوا عن هداية الله ،
على الرغم من منحهم السمع الجيد ، والبصر السليم ، والفؤاد الواعي ، فما أفادهم كل
ذلك شيئا ، لعدم إعمال تلك الحواس في المفيد ، لأنهم كانوا ينكرون آيات الله ،
وأحاط أو نزل بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء بقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا).
ومن الواجب على
العقلاء الاتعاظ بهذا المصير ، فلقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم من البلاد ، من
القرى المكذبة بالرسل ، مثل قرى ثمود ، ومدائن لوط ، ومدين في جوار الحجاز ، وأهل
سبأ باليمن ، وبيّنا الآيات وأوضحناها ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، فلم يرجعوا.
فهلا نصرتهم
آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله لتشفع لهم ، ودفعت الهلاك عنهم ، بل غابوا وذهبوا
عنهم ، ولم يحضروا لنصرتهم ، وعند الحاجة إليهم ، وسبب ذلك الضياع وانعدام نفع
آلهتهم : هو إفكهم ، أي كذبهم ، وما كانوا يفترون ، أي يكذبون ويختلقون. وفي هذا
توبيخ لأهل مكة ، وتنبيه إلى أن أصنامهم لا تنفعهم شيئا ، فلو نفعت لأغنت من كان
قبلهم.
وفادة الجن على النبي صلىاللهعليهوسلم
الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم رسول لجميع العالمين من الإنس والجن ، وقد بلّغ رسالته
للفريقين ، فكان فيهما من آمن ، ومن كفر ، فالمؤمن مثاب على إيمانه وعمله الصالح ،
والكافر معاقب على كفره وجحوده برسالة هذا النبي. أما طريقة التبليغ للإنس فمعروفة
، وهي التبشير والإنذار ، وإيضاح الدلالات الدالة على وجود الله وتوحيده ووجوب
طاعته ، بالحجة والإقناع ، وأما طريقة تبليغ الجن فمجهولة لدينا ، ولا
يدركها العقل ،
وإنما نؤمن بما جاء في الخبر الصحيح ، إما من القرآن الكريم وإما من السنة
النبوية. وهذه آي تصف قصة الجن ووفادتهم على النبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))
[الأحقاف : ٤٦ /
٢٩ ـ ٣٢].
أخرج ابن أبي شيبة
عن ابن مسعود قال : إن الجن هبطوا على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا
، وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا) الآية ، إلى قوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). وهذا تأنيب للمشركين حيث إن الجن آمنوا ، وهم كفروا.
والمعنى : اذكر
أيها النبي لقومك حين وجهنا إليك نفرا من الجن ، لاستماع القرآن والاهتداء به ،
فلما حضروا تلاوته ، قالوا : أنصتوا ، لكي يفهموا ويتدبروا ، فلما انتهى النبي صلىاللهعليهوسلم من تلاوة القرآن في صلاة الفجر ، عادوا إلى قومهم ، مخوفين
إياهم من مخالفة القرآن ، ومحذرين لهم من العذاب. وكان هذا الوفد : من جن نصيبين
أو من نينوى بالموصل ، بعد رجوع النبي صلىاللهعليهوسلم من الطائف لدعوتهم إلى الإسلام ، وعددهم تسعة ، وذلك في
بطن نخلة : على بعد نحو ليلة من مكة ، على طريق الطائف.
__________________
وفي قولهم : (أَنْصِتُوا) تأدب مع العالم ، وتعليم كيف يكون التعليم.
وأكدت سورة الجن
على هذا ، باستماعهم القرآن وإيمانهم به ، ومطلعها : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا
أَحَداً) (٢) [الجن : ٧٢ /
١ ـ ٢].
وأدى وفد الجن هذا
مهمة تبليغ القرآن ورسالته إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ، إننا سمعنا كتابا
أنزله الله من بعد توراة موسى ، مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على الرسل ، يرشد
إلى الدين الحق ، وإلى طريق قويم نافع في العقيدة والعبادة والمعاملة والخبر.
وخصصوا موسى عليهالسلام بالذكر ، لأحد أمرين : إما لأن هذه الطائفة من الجن كانت
تتدين بدين اليهود ، وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى عليهالسلام قد ذكر محمدا صلىاللهعليهوسلم وبشّر به.
وأضافت الجن
قائلين : يا قومنا ، أجيبوا داعي الله : وهو رسول الله خاتم النبيين ، أو أجيبوا
القرآن الداعي إلى توحيد الله وعبادته وطاعته ، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي من
حقوق الله ، ويحمكم ويمنعكم من عذاب موجع مؤلم ، هو عذاب النار ، والمؤمن يدخل
الجنة ، وتحميه الحفظة من النار.
وفي هذه الآية
دلالة واضحة على أن الله تعالى أرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى الثقلين : الجن والإنس ، حيث دعاهم إلى الله تعالى ،
وقرأ عليهم سورة الرحمن التي فيها خطاب الفريقين ، فكان النبي إذا قرأ : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) [الرحمن : ٥٥
/ ١٣] قالوا : لا شيء من آلائك ربنا نكذّب ، ربنا لك الحمد. ولما ولّت هذه الجماعة
تفرقت على البلاد منذرة للجن ، قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم.
وأتم الجن كلامهم
لقومهم بعد الأمر بإجابة داعي الله ، وبالتحذير من مخالفته ،
قالوا : ومن لا
يجب رسول الله صلىاللهعليهوسلم محمدا إلى توحيد الله وطاعته ، فلا يتمكن من الإفلات من
الله ، ولا يعجز الله أبدا ، والمعجز : الذاهب في الأرض ، لتعجيز طالبه ، وليس له
من غير الله أنصار ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله ، أولئك الذين لا يجيبون داعي
الله في خطأ واضح ، وانحراف ظاهر عن الحق ، وهذا تهديد ووعيد ، فجمع الجن في
كلامهم على طريقة القرآن بين الترغيب والترهيب. ثم توالت وفود الجن إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفدا وفدا.
إثبات عقيدة البعث والأمر بالصبر
أثبت الله تعالى
بالأدلة القاطعة مسألة المعاد بعد الموت ، لأن المشركين الوثنيين كانوا ينكرونها ،
وذلك في مناسبات مختلفة ، ومنها في سورة الأحقاف التي تهدف إلى إثبات أصول العقيدة
الثلاثة : وهي التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، وناسب هذه الأصول الأمر بالصبر في
الدعوة إلى هذه الأصول ، كما صبر الأنبياء والرسل الكرام في دعوتهم ، لتعليمنا
وعظتنا. وهذا ما ذكرته الآيات الآتية :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا
بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا
تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا
إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ
(٣٥))
[الأحقاف : ٤٦ /
٣٣ ـ ٣٥].
الآية الأولى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) خطاب لقريش ، لأنهم قالوا : إن الأجساد لا يمكن أن
__________________
تبعث ولا تعاد ،
وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض ، فأقيمت عليهم الحجة من
أقوالهم.
والرؤية في قوله :
(أَوَلَمْ يَرَوْا) رؤية القلب ، أي أولم يتفكر القرشيون المنكرون للبعث ،
ويعلموا أن الذي خلق الكون من السماوات والأرض في ابتداء الخلق ، ولم يعجز عن ذلك
ولم يضعف عن الخلق ، بل قال لها : كوني فكانت ، بقادر على أن يحيي الموتى من
قبورهم مرة أخرى؟! بلى (جواب بعد النفي المتقدم) أي بل إن الله قادر على ذلك كله ،
إنه سبحانه وتعالى قادر على أي شيء أراد خلقه ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في
السماء.
وبعد لفت النظر
هذا ، جاء وعيد الكفار من قريش وسواهم ، واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذّب
الكافرون بالله في نار جهنم ، ويعرضون مباشرة عليها ، ويقال لهم توبيخا وتقريعا : أليس
هذا العذاب الذي تعذّبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه ، وقد كنتم تكذبون به؟
فيجيبون : بلى وربنا ، فذلك تصديق حيث لا ينفع. قال الحسن البصري : إنهم ليعذّبون
في النار ، وهم راضون بذلك لأنفسهم ، فيعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المحاور من
الملائكة عند ذلك : (فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي يقال لهم على سبيل الإهانة والتوبيخ : ذوقوا عذاب النار
، بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له.
والداعية الناجح :
هو الذي لم يترك سبيلا للإصلاح والإرشاد إلا سلكه ، وتدرّع بالصبر ، ولم يغضب ولم
يضجر ، لذا أمر الله نبيه بأن يصبر على تكذيب قومه ، قائلا : فاصبر يا محمد على
تكذيب قومك كصبر أولي الجد والعزيمة من الرسل ، وأنت منهم ، وهم أصحاب الشرائع
الكبرى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا
تستعجل يا محمد لهم العذاب ، فإنه واقع بهم حتما.
ومفعول الاستعجال
محذوف : وهو العذاب ، معناه : لا تستعجل لهم عذابا ، فإنهم إليه صائرون.
كأن الكافرين حين
يشاهدون الوعيد المحقق بالعذاب ، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من الساعات ،
لاحتقارهم ذلك ، ولما يشاهدونه من الأهوال العظام ، كما جاء في آية أخرى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (١١٣) [المؤمنون :
٢٣ / ١١٢ ـ ١١٣]. وآية : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦) [النازعات :
٧٩ / ٤٦]
وهذا القرآن
العظيم الذي يتم الوعظ به : تبليغ كاف ، يقطع حجة الكافرين ، والبلاغ : بمعنى
التبليغ ، فالقرآن بلاغ ، كما قال تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢) [إبراهيم :
١٤ / ٥٢]. وقال سبحانه : (إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (١٠٦) [الأنبياء :
٢١ / ١٠٦].
ولا يهلك الله
بعذابه إلا القوم الفسقة الخارجين عن الطاعة ، المنغمسين في المعصية ، وهذا من عدل
الله تعالى ألا يعذّب أحدا إلا بذنب. وفي هذه الآية وعيد عظيم وإنذار بيّن ، لأن
الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها ، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة
، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار ، قال صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه مسلم والدارمي وأحمد : «لا يهلك على الله إلا
هالك». قال الثعلبي : يقال إن قوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ
إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين.
تفسير سورة محمد عليهالسلام
الموازنة بين سلوك الكافرين والمؤمنين
كثيرا ما يعقد
الحق سبحانه وتعالى موازنة أو مقارنة بين أحوال الكافرين وسلوكياتهم ، وبين أحوال
المؤمنين الذين يعملون الصالحات واختياراتهم ، فيزيد الفريق الأول وهم الضالون
ضلالا وحيرة ، ويجعلهم مثلا وعبرة ، ويزيد الفريق الثاني وهم المؤمنون صلاحا
وتوفيقا ، ويكفّر عنهم سيئاتهم ، ويعصمهم من المعاصي ، ويرشدهم إلى عمل الخير في
الدنيا ، ويورّثهم نعيم الجنة في الآخرة ، وهذا لون بيّن من هذه المقارنة في
الآيات الآتية في مطلع سورة محمد المدنية بالإجماع ، علما بأن التشريع المكي ما
كان قبل الهجرة ، والتشريع المدني : ما كان بعد الهجرة :
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ
بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ (٣))
[محمد : ٤٧ / ١ ـ ٣].
قال ابن عباس
ومجاهد : نزلت هذه الآيات في أهل مكة والأنصار ، فقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) : هم أهل مكة
نزلت فيهم. وقوله :
__________________
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) هم الأنصار ، أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من بلده ، والأنصار أهل المدينة آووه ، ثم هي بعد تعمّ كل
من دخل تحت ألفاظها.
المعنى : الذين
جحدوا توحيد الله وآياته ، وعبدوا غيره ، وصدّوا غيره عن الإسلام ، بنهيهم عن
الدخول فيه ، وهم كفار قريش ، أبطل الله ثواب أعمالهم وأحبطها وضيّعها ، ولم يجعل
لها ثوابا ولا جزاء في الآخرة ، فقوله تعالى : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أتلفها ، ولم يجعل لها غاية خير ، ولا نفعا. وهذا يشمل
جميع أعمال الكفار البرّة في الجاهلية ، من صلة الرحم ونحوه ، والإنفاق الذي
أنفقوه في سفرهم إلى بدر ، ومثلها أعمال الكفار في كل زمان. وذلك كما في آية أخرى
: (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) [الفرقان :
٢٥ / ٢٣].
وأما الذين صدّقوا
بالله ورسوله وبالقرآن ، وعملوا صالح الأعمال ، واعتقدوا بالحق المنزل من ربهم ،
فيكفّر الله عنهم سيئاتهم ، ويصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة ، ويغفر لهم
سيئاتهم ، ويرشدهم إلى أعمال الخير في الدنيا ، ويمنحهم نعيم الجنة في الآخرة.
وهذا يشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم من التابعين لهم بإحسان ، والمؤمنين الذي
يعملون الصالحات : وهي الفرائض والواجبات ، وبقية أعمال البر. وقوله : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) معناه حالهم ، أو أمرهم ، أو شأنهم ، وأصل معنى هذه اللفظة
: أنها بمعنى الفكر ، وموضع نظر الإنسان وهو القلب ، فإذا صلح ذلك فقد صلحت حاله ،
فكأن اللفظة مشيرة إلى إصلاح عقيدتهم وغير ذلك تابع.
ثم أوضح الله
تعالى أن سبب إضلال الكافرين ، وإصلاح وإسعادهم : المؤمنين هو أفعال كل منهم ، فالجزاء
المتقدم للفريقين بسبب اتباع الكافرين الباطل ، من الشرك بالله ، والعمل بمعاصيه
واختيارهم على الحق ، وإصغائهم للشيطان وكل ما
يأمر به ، وأما
جزاء المؤمنين فبسبب اتباعهم الحق وهو الشرع وكل ما أمر الله باتباعه من التوحيد
والإيمان ، والعمل الصالح ، واتباع ما جاء به النبي محمد صلىاللهعليهوسلم.
ومثل ذلك البيان
الرائع ، يبين الله للناس أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة ، ويظهر
مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم ، فالاتباع المذكور من الفريقين : هو سبب
التفرقة بينهما ، وجعل ذلك مضرب الأمثال ، فكما اتّبعوا هذين السبيلين ، وصار
مصيرهم على هذا النحو ، يجعل الله ذلك تبيانا لكل الناس ، ومعرفة أمر كل فرقة ،
ليعتبروا ويحتاطوا للأمر.
إن تبيان جزاء
المؤمنين وجزاء الكافرين في الآخرة سلفا في الدنيا ، أمر يتفق مع أصول التجريم
والعقاب ، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ، أو لا جزاء إلا بعد إنذار سابق ، فإذا
عرف الإنسان في الدنيا مصيره في الآخرة ، هان الأمر ، وظهر الحق والعدل ، ولم يبق
ما يسوّغ اللوم والعتاب ، وامتنعت المفاجأة بعناصرها المعروفة ، وحينئذ يكون المرء
مأخوذا بذنبه أو بما كسبت يداه ، ولا ظلم ولا محاباة ولا داعي للاعتراض أو
الانتقاد ، قال الله تعالى : (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ) (١٥) [القيامة :
٧٥ / ١٢ ـ ١٥]. وقال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور : ٥٢ / ٢١].
أحكام القتال والأسرى
إذا نشبت الحرب
بين المؤمنين وغيرهم ، وجب على المؤمنين اتباع قواعد حربية معينة أثناء المعركة
وبعد انتهائها ، لأن الحرب ضرورة ، وخاضعة للنظام ، حتى لا تبيد البشرية ، وتسود
الفوضى ، ويصعب تلافي الآثار والنتائج المترتبة عليها. والإسلام حريص على السّلام
والأمن. وانتشار دعوته ، إنما هو بالحكمة والإقناع
والموعظة الحسنة.
وإذا أصرّ العدو على الحفاظ على دينه وأحواله ، وجب إبرام المعاهدات التي تنظم
العلاقات المختلفة ، حتى لا يبغي أحد على أحد ، ويطمئن كل طرف إلى وضعه ، ومراعاة
مصالحه ، على قدم المساواة. وهذه آيات تدعو لتنظيم معارك القتال وتسوية آثارها ،
وتوجيه الطبائع البشرية وجهة صالحة :
(فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا
اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً
لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))
[محمد : ٤٧ / ٤ ـ ٩].
آية (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قال فيها قتادة ـ كما أخرج ابن أبي حاتم ـ نزلت يوم أحد ،
ورسول الله في الشّعب ، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون يومئذ
: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون : الله أعلى وأجل ، فقال المشركون : إن
لنا العزّى ، ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم.
والمعنى : إذا
واجهتم أيها المسلمون الكفار في القتال ، فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، واضربوا الرقاب
ضربا. وهذا بمثابة قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٩ / ٥]
وهذا حكم في أثناء القتال الناشب إذا توافرت أسبابه أو دواعيه المشروعة ، وهو قائم
على مبدأ المعاملة بالمثل ومراعاة طبيعة القتال وأدواته
__________________
وهي في الماضي :
السلاح الأبيض. وهذه الآية محكمة غير منسوخة مبيّنة لآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ). قال ابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء : إن هذه الآية
(آية سورة محمد هنا) محكمة مبيّنة لتلك (آية سورة براءة).
ثم بيّن الله حكم
الأسر وتوابعه وهو :
حتى إذا أكثرتم
فيهم القتل ، وتحققت الغلبة لكم عليهم ، وانتهت الحرب بتحقيق النصر ، فأسروهم
وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا ، ومصيرهم بعد الأسر : إما المنّ عليهم
بإطلاق سراحهم بعوض أو بغير عوض ، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع
الفداء : وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر. وذلك حتى تضع الحرب
أوزارها أي أثقالها وآلاتها : وهذا مجاز عن انتهاء الحرب ، أي حتى تنقضي الحرب ،
بتحقيق الغلبة والنصر.
والمن والفداء
ثابت غير منسوخ ، صرّح به هنا ، ولم يصرح به في آية التوبة السابق ذكرها ، وقد منّ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، كما قال الحسن
البصري.
وذلك هو الحكم في
قتال الكفار ، والله قادر على الانتصار من أعدائه ، بالانتقام منهم ، وإهلاكهم
وتعذيبهم ، بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة ، والغرق دون قتال منكم أيها
المؤمنون ، ولكن الله أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض. والذين قتلوا في سبيل الله
، أي استشهدوا ، فلن يضيع الله تعالى أجرهم ، ولا يبطل ولا يحبط أعمالهم كإحباط
أعمال الكفار وهذا أحد أنواع ثواب الشهداء.
ومن فضل الله على
الشهداء : أنه تعالى يوفقهم قبل موتهم للعمل بما يحبه ويرضاه ، وسيهديهم إلى طريق
الجنة ، ويصلح شأنهم أو موضع نظرهم وفكرهم وهو القلب. ويرشدهم إلى طريق الجنة التي
قد عرّفها وبيّنها لهم ، وأعلمهم بها ، أي
جعلهم يعرفون
منازلهم منها. أخرج البخاري من قوله صلىاللهعليهوسلم : «.. والذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة
منه بمنزله في الدنيا».
ثم بشّرهم الله
بالنصر بشرطه : وهو يا أيها المؤمنون بالله والقرآن والإسلام ، إن تنصروا دين الله
ورسوله ، بجدّكم وإيمانكم ، ينصركم الله بخلق القدرة لكم والجرأة وغير ذلك من المعارف.
والذين كفروا
بالله ورسوله ، فهلاكا وعثارا وخيبة لهم ، وأبطل الله أعمالهم ، فلا ثواب لهم ،
ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله : (فَتَعْساً لَهُمْ) مقابل تثبيت أقدام المؤمنين المنتصرين ، الناصرين لدين
الله ورسوله.
ذلك التعس أو
الهلاك ، وإضلال الأعمال أو إبطالها بسبب كراهيتهم القرآن ، أي ما أنزل الله في
قرآنه على نبيه المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، من التكاليف الإلهية ، فهم لا يريدونه ولا يحبونه ،
فأبطل الله ثواب أعمالهم بذلك السبب. والمراد بالأعمال المحبطة أو الملغاة : أعمال
الخير أو الحسنات حال الكفر ، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه ، وإنما تفيدهم
هذه الأعمال الخيرية في الدنيا. وإذا أسلم الكافر يضاف عمله الخيري إلى حسناته في
الإسلام.
الاعتبار بآثار الماضين
رغّب القرآن
الكريم في مناسبات مختلفة في النظر في آثار الأمم المتقدمة ، والتأمل في أحوال أهل
الإيمان وأهل الكفر ، للعبرة والاتعاظ ، بقصد إصلاح الأفراد والجماعات ، حين
يعلمون أن الله ناصر المؤمنين ، وخاذل الكافرين ، ثم يكافئ أهل الإيمان بجنان
الخلد ، لانحيازهم إلى الحق وإيمانهم به ، ويعاقب أهل الضلال أو الكفر
بنيران الجحيم ،
لاتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان ، وهذه آيات تناسب الكلام على فريقي الناس عادة
: مؤمنين وكفارا ، قال الله تعالى :
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ
اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا
ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))
[محمد : ٤٧ / ١٠ ـ
١٤].
أفلا يتأمل
القرشيون المشركون بمصائر الأمم السابقة ، فيسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان
مصيرهم أو عاقبتهم ، مثل أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ، ليعتبروا ويروا ما حلّ
بهم ، كيف دمّر الله عليهم ديارهم ، واستأصلهم بالإهلاك ، وأتلف ممتلكاتهم
وأموالهم ، بسبب تكذيبهم رسلهم ، وما أداه إليه كفرهم ، ولهؤلاء الكافرين المكذبين
أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة في الدنيا ، مثل هزيمتهم في بدر وفتح مكة ، ولهم
عقاب أشد في الآخرة.
وهذه الآية توقيف
لقريش وتوبيخ ، نزلت يوم أحد ، ومنها انتزع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ردّه على أبي سفيان بن حرب حين قال له : الله مولانا ، ولا
مولى لكم.
وسبب هذا العقاب
بالتدمير والاستئصال للكافرين ، ونجاة المؤمنين : أن الله ناصر عباده الذين آمنوا
بالله تعالى ، وأطاعوا رسوله ، وأن الكافرين المكذبين لرسوله لا ناصر لهم ، يدفع
عنهم العذاب. قال قتادة : نزلت يوم أحد ، والنبي صلىاللهعليهوسلم في
__________________
الشّعب ، إذ صاح
المشركون : يوم بيوم ، لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم. كما تقدم بيانه.
ثم بيّن الله
تعالى أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة ، فقال عن المؤمنين : إن الله يدخل
عباده المؤمنين المصدقين بالله ورسوله ، والعاملين الأعمال الصالحة جنات تجري
الأنهار من تحت قصورها ، تكريما لهم.
وأما الذين جحدوا
بوجود الله وتوحيده ، وكذبوا رسوله ، فيتمتعون أو ينتفعون بمتاع الدنيا الحقير ،
ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا ملء بطونهم ،
وإشباع شهواتهم ، والنار مقر لهم أو مثوى ، أي موضع الإقامة ، والتشبيه بأكل الأنعام
يراد به الأكل المجرد من الفكر والنظر ، أي إن هذا التشبيه وقع فيما عدا الأكل على
قلة الفكر وعدم النظر.
ثم هدّد الله
مشركي مكة وتوعدهم بما حدث لأمثالهم ، فكثير من أهل المدن والأمم السابقة ذات
القوة والنفوذ ، كانوا أشد بأسا وقوة ، من أهل مكة الذين أخرجوك منها ، فأهلكناهم
، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب. فإذا أهلك الله تعالى عتاة
الأمم الذين كذبوا الرسل. فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم. وإن امتنع عذاب الاستئصال
في الدنيا إكراما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم نبي الرحمة ، فإن عذاب الآخرة كائن لهم حتما.
وسبب التفرقة بين
الفريقين في الجزاء هو :
هل من كان على
بصيرة ويقين من أمر دينه ، وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد الله ، مثل من
زيّن له سوء عمله ، فرآه حسنا ، وهو عبادة الأوثان ، والإشراك بالله ، واقتراف
المعاصي ، فإنهم اتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام ،
وانهمكوا في أنواع
الضلالات ، بلا شبهة توجب الشك ، أو دليل صحيح من المنقول أو المعقول؟ والمعنى :
لا يستوي الفريقان.
وهذا توقيف وتقرير
على شيء متفق عليه ، وهي معادلة بين هذين الفريقين. وقوله تعالى : (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) معناه على قضية واضحة ، وعقيدة نيّرة بيّنة. قال قتادة : الإشارة
بهذه الآية إلى محمد صلىاللهعليهوسلم ، في أنه الذي على بيّنة من ربه ، وإلى كفار قريش في أنهم
الذين زيّن لهم سوء أعمالهم ، وبقي اللفظ عاما لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر.
وهذا دليل على
خلود معاني القرآن وألفاظه إلى يوم القيامة.
مثل الجنة وموقف المنافقين من القرآن
يختلف المؤمنون
والكافرون في الاهتداء والضلال ، وفي الجزاء والمآل ، فيكون للمؤمنين ألوان النعيم
في الجنة ، وللكافرين والمنافقين أصناف العذاب الدائم في جهنم ، ويزيد الله
المهتدين هدى ويوفقهم للعمل الصالح ، ويتعرض الضالون يوم القيامة لعذاب شديد ،
والله سبحانه إله واحد لا شريك له ، وهو المتفرد بالحساب ، والعليم بتصرف العباد
وسكونهم. وهذا ما عبرت عنه الآيات الآتية :
(مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ
إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ (١٦)
__________________
وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ
السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ
إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))
[محمد : ٤٧ / ١٥ ـ
١٩].
صفة الجنة الموعود
بها للمتقين القائمين بأوامر الله وطاعته ما تسمعون فيها كذا وكذا ، فيها أنهار
جارية من ماء غير متغير الطعم والريح واللون لطول مكثه ، بل إنه ماء عذب فرات
متدفق نقي ، من شربه لا يظمأ أبدا ، وفيها أنهار من حليب طازج ، لم يتغير طعمه
بحموضة أو غيرها ، وفيها أنهار من خمر لذيذة الطعم ، طيبة الشرب ، ليست مرة أو
كريهة الرائحة ، ولا تسكر ولا تصدّع الشارب أو تذهب عقله ، وإنما هي لذيذة
للشاربين ، وفيها أنهار من عسل صاف غير مشوب بمادة أخرى ، حسن اللون والطعم والريح
، ولهم في الجنة مختلف الثمار والفواكه ذات الألوان البديعة ، والروائح الذكية ، والطعوم
الشهية ، أساكن هذه الجنان أو أهؤلاء كمن هو خالد في النار إلى الأبد؟ وسقوا
بالإكراه من ماء حار شديد الغليان ، فقطّع أمعاءهم وأحشاءهم؟!
والمراد : أمثل
أهل الجنة ، بهذه الأوصاف ، كمن هو خالد مقيم دائما في النار؟ فتكون الكاف في قوله
تعالى : (كَمَنْ) مؤكدة للتشبيه. و (فِيها أَنْهارٌ) : في موضع الحال ، على هذا التأويل.
ثم ذكر الله تعالى
حال المنافقين ، فقال :
ومن الكفار
الخالدين في النار : منافقون يستمعون كلام النبي صلىاللهعليهوسلم في خطبه ومجالسه ، فلا يدركون منه شيئا لعدم إيمانهم ،
فإذا خرجوا من عنده قال بعضهم لأهل العلم الواعين لما سمعوا ، على طريقة الاستهزاء
والاستخفاف : ماذا قال النبي
__________________
آنفا؟ أي في
الساعة المتقدمة لهذا الوقت؟ أي ماذا قال قبيل وقتنا؟ والمراد : أنا لم نلتفت إلى
قوله ، ولم نأبه لكلامه ، أو لا معنى لقوله ولا نفع له ولا قدر.
روى مقاتل : أن
النبي صلىاللهعليهوسلم كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا
عبد الله بن مسعود استهزاء : ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس : وقد سئلت فيمن
سئل.
فوصفهم الله بأنهم
هم أولئك المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم ، بسبب نفاقهم ، فلم يؤمنوا ولم
يهتدوا إلى الحق ، ولم ينفذ الخير إلى قلوبهم ، واتبعوا شهواتهم وأهواء نفوسهم في
الكفر والعناد ، أي تركوا اتباع الحق. والطبع على قلوبهم إما حقيقة واقعية ، وإما
استعارة بتشبيه قلوبهم التي لم يتسرب إليها الخير بالآنية المختومة.
وعلى عكسهم
المؤمنون الذين طلبوا الهداية إلى طريق الخير والإيمان ، فوفقهم الله تعالى ، وشرح
صدورهم ، فآمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمروا به ، وزادهم الله هدى بزيادة
التفهيم والأدلة ، وبالتوفيق للعمل الذي يرضاه ، وأعانهم على التقوى ، وأعطاهم
إياها ، أي جعلهم متقين له ، والتقدير : تقواهم إياه.
ثم هدد الله
المنافقين بما يجدونه في القيامة ، وهو : هل ينتظر المنافقون والكافرون إلا مجيء
القيامة التي تأتيهم فجأة ، وهم غافلون عنها ، وقد حدثت أماراتها وعلاماتها ، منها
بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة (القيامة) حيث لا
ينفعهم ذلك ، كما في آية أخرى : (يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٨٩ / ٢٣].
وقوله تعالى : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) إخبار مستأنف ، فينبغي الاستعداد والخوف منها لمن حزم أمره
ونظر لنفسه. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بإصبعيه.
وبعد هذه المقارنة
بين المهتدين والضالين ومصير كل فريق ، أمر الله تعالى رسوله بالثبات على منهاجه
وعلى استغفار ربه ، فإذا علمت أيها النبي حال الفريقين : المؤمن والكافر ، من
السعادة والشقاوة ، وعلمت بمجيء القيامة ومعرفة أشراطها (علاماتها) فاثبت على ما
أنت عليه من التوحيد ومراقبة النفس ، واعلم أنه لا إله إلا الله ، ولا رب سواه ،
وداوم على الاستغفار من الذنوب الصادرة منك على خلاف الأولى ، والاستغفار للمؤمنين
والمؤمنات ، أي بالدعاء لهم بالمغفرة عن المعاصي ، والله يعلم أعمالكم ، ومتقلبكم
، أي تصرفكم يقظة في أشغالكم نهارا ، وسكونكم ومستقركم ليلا في منامكم في مضاجعكم
وإقامتكم في قبوركم. وإدراك هذه المعلومات سبيل لغرس رقابة الله في النفس ، سرا
وعلانية ، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات. روى مسلم عن الأغر
المازني قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة».
حال المؤمنين والمنافقين في الدين
يختلف حال
المؤمنين والمنافقين وموقفهم من الدين أو الأحكام العملية ، كالجهاد والصلاة
والزكاة ونحوها ، أما المؤمنون فيجدّون في فهم دين الله تعالى وتنفيذه ، ويحرصون
على ظهوره وانتشاره في العالم ، وأما المنافقون فيتكاسلون في تطبيق الدين ويحرصون
على فساده وأهله. وكان المؤمنون يأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ ، والله تعالى
جعل للوحي أمدا معينا ووقتا محددا لا يتجاوزه ، فمدح الله المؤمنين على حرصهم على
انتشار الدين ، وذمّ المنافقين على تقاعسهم في الدين وتبرمهم من أحكامه ، وصف الله
تعالى في هذه الآيات الآتية حال الفريقين.
__________________
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))
[محمد : ٤٧ / ٢٠ ـ
٢٣].
يتمنى المؤمنون
المخلصون تشريع الجهاد ، حرصا على ثوابه ، ونيل درجات المجاهدين ، وللدفاع عن
أنفسهم وأموالهم ، وإظهار عزتهم ورفعتهم ، فيقولون : هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها
ربنا بقتال الأعداء ، فإذا أنزلت سورة محكمة ، أي دائمة المشروعية ، لا يقع فيها
نسخ ، يأمر الله فيها بالقتال ، وصيرورته فرضا على المسلمين ، فرح بها المؤمنون ،
وشق على المنافقين ، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض وهو النفاق ، ينظرون إليك أيها النبي ـ بسبب الجبن والخوف
من لقاء الأعداء ـ نظر المحتضر الذي شخص بصره إلى السماء عند الموت ، أو المغمى
عليه ، خوفا من قتال الأعداء ، فالويل أي الهلاك لهم. وفي هذا تهديد للمنافقين ،
ووعيد بقرب هلاكهم ، وافتضاح شأنهم.
فلعلكم إن توليتم
عن الطاعة والجهاد ، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه ، أن تعودوا إلى سيرة
الجاهلية ، فتسفكوا الدماء وتفسدوا في الأرض بالبغي والنهب ، وارتكاب المعاصي ،
وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ، ووأد البنات ، ومقارفة سائر مفاسد الجاهلية.
وكلمة (عسى) للتوقع ، وهي من الله تفيد التحقق.
__________________
لكن طاعة وقول
معروف : أحسن أو أمثل ، فذلك هو الأمر المرضي لله تعالى ، فإذا جدّ الحال ووجب ،
أي وفرض القتال ، فلو صدقوا في ذلك القول ، وفي القتال ، وأطاعوا الله تعالى ،
وأخلصوا له النية ، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة. ثم
وبخهم الله تعالى على تقصيرهم ، فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد ، وأعرضتم عن
الإسلام أو عن القتال وتنفيذ أحكامه ، أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية ،
فتسفكوا الدماء ، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم ، والنهب والسلب وسائر المعاصي ،
وتقطّعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وارتكاب سائر مفاسد الجاهلية ،
وبعبارة أخرى : فهل عسى أن تفعلوا إن توليتم غير أن تفسدوا في الأرض ، وتقطّعوا
أرحامكم؟
ثم صب الله عليهم
اللعنة ، فقال : أولئك الظالمون ، وسفاكو الدماء بغير حق : هم الذين أبعدهم الله
من رحمته ، وطردهم عنها ، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق ، وأعمى أبصارهم عن
رؤية الحق ، وعن النظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام الله
تعالى ، وشرعه في عباده ، من تحريم الدماء والأموال بغير حق ، وهذا نهي عن الإفساد
في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، ويتضمن الأمر بالإصلاح في الأرض ، وصلة
الأرحام ، وهو الإحسان إلى الأقارب.
أخرج البخاري
ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : وخلق الله تعالى الخلق ، فلما فرغ منه ، قامت الرحم
، فأخذت بحقوي الرحمن عزوجل ، فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ،
فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذاك
لك» قال أبو هريرة
__________________
رضي الله عنه :
اقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)؟!
أوضحت هذه الآيات
موقف المنافقين المخزي من القرآن وتكاليفه العملية أو الواقعية ، فهم يخافون من
الجهاد ، ويتنكرون لقول المعروف وطاعة الشرع الشريف. وهم بطبيعتهم قوم جهلاء ،
يمارسون أفعال الجاهلية ، ويميلون إليها : من الإفساد في الأرض ، وتقطيع الأرحام ،
مما يوجب عليهم الطرد من رحمة الله ، ومنع تسرب الخير والفكر الرشيد إلى قلوبهم.
تدبر القرآن الكريم
أمر الله تعالى كل
السامعين للقرآن العظيم بتدبر آياته وفهمها ، وحذرهم من هجره ، ووبخهم على الإعراض
عنه ، كي تتحقق الفائدة من استماع القرآن ، ويبتعدوا عن الموبقات المهلكات التي
يقعون فيها إذا لم يفعلوا ذلك. والذين آثروا الكفر وانحازوا إليه ، إنما فعلوا ذلك
، لا جهلا بمصداقية القرآن والنبوة ، وإنما يعد تبيّن حقيقة الإسلام بالأدلة
القاطعة ، والمعجزات النبوية الباهرة. وسيلاقون الأهوال العظام عند الموت ، لاتباع
أهوائهم ، والله قادر على كشف أحوالهم ، ولكنه تركهم سادرين في غوايتهم لاختبارهم
في الدنيا ، وسيجازيهم بما عملوا ، كما جاء في الآيات الآتية :
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا
__________________
لِلَّذِينَ
كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ
إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ
وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢))
[محمد : ٤٧ / ٢٤ ـ
٣٢].
أفلا يتفهم
المنافقون وغيرهم آيات القرآن ، فيعملوا بمواعظة ، ويقتنعوا بأدلته ، أم (بمعنى بل
وألف الاستفهام) على قلوبهم أغطية منعتهم الإيمان!! والآية توبيخ لهم ، لتركهم هدي
القرآن وبيانه.
إن الذين فارقوا
الإيمان ، ورجعوا إلى الكفر ، من بعد تبيّن الهدى عند الداعي إليه ، بالأدلة
الواضحة ، والمعجزات الظاهرة ، زين لهم الشيطان خطاياهم ، وسهّل لهم الوقوع فيها ،
وحسّن لهم الكفر ، وخدعهم بالأماني المعسولة والأمنيات الزائفة.
قال قتادة : إنها
نزلت في قوم من اليهود ، كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ، ثم ارتدوا عن الهدى. وقال ابن عباس : نزلت في منافقين
كانوا أسلموا ، ثم نافقت قلوبهم.
ثم أوضح الله
مظاهر ضلالهم وهي :
ذلك الارتداد
والكفر بعد الإيمان من المنافقين : بسبب كراهية ما نزّل الله تعالى في قرآنه ،
وقولهم للمشركين واليهود : سنطيعكم في بعض الأمور ، كعداوة النبي ومخالفة
__________________
ما جاء به ،
والتخلف عن الجهاد معه ، والله عالم بتآمرهم سرا ، وبكل ما بيّتوه من مكائد
ومؤامرات. وهذا مثل قولهم في آية أخرى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ..) [الحشر : ٥٩ / ١١].
وحالهم عند الموت
في غاية السوء ، فإن الملائكة عند قبض أرواحهم تستخرجها بعنف وقهر ، وتضرب وجوههم
وظهورهم ، أي إنهم إذا خافوا من فرض القتال وقراع الأعداء ، فكيف يكون فزعهم
وجزعهم إذا توفتهم الملائكة؟!.
وسبب أهوال موتهم
: اتباعهم ما أسخط الله ، من الكفر والمعاصي ، وتآمرهم مع أعداء الله ، على معاداة
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكراهيتهم ما يرضي الله من الإيمان الصحيح وتوحيد الله
وطاعته ، فأبطل الله أعمالهم الخيرية قبل الردة وبعدها كالصدقة وإغاثة الملهوف ،
لأنهم فعلوها في حال الكفر ، كما جاء في آية أخرى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) [الفرقان :
٢٥ / ٢٣].
ثم وبخ الله
المنافقين وهددهم بقوله : أيظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد
وعداوة للمؤمنين أن الله لن يكشف أحقادهم وعداوتهم؟ إنهم مخطئون في هذا ، فالله
عالم الغيب والشهادة ، يعلم السر وأخفى.
ولو نشاء أيها
النبي لعيّناهم بالأسماء والتعريف التام ولعرفتهم بعلاماتهم المميزة ، ولكنه تعالى
لم يعينهم إبقاء عليهم وعلى قراباتهم ، وو الله لتعرفنهم في لحن القول ، أي
الأسلوب المعتمد على التعريض والتلويح ، والمنحى والمقصد ، والله يعلم جميع
أعمالهم ، فيجازيهم عليها من خير أو شر ، وهذا وعد ووعيد ، روى مسلم وأحمد عن
حذيفة ما يدل على أن النبي صلىاللهعليهوسلم عرّفه بهم أو ببعضهم.
ومنهج الحياة :
الاختبار ، فلنختبرنكم أيها المنافقون وغيركم بالأوامر والنواهي
أو لنعاملنكم
معاملة المختبر ، ومنها الجهاد في سبيل الله ، حتى نتبين أو نعلم علم ظهور وانكشاف
المجاهدين في سبيل الله بحق ، والصابرين على دينه ومشاق التكليف ، ونظهر أخباركم
ونكشفها للناس ، ليعرف الطائع من العاصي. وعلم الله تعالى بالمجاهدين قديم أزلي.
وإنما المراد إظهار جهادهم إلى الوجود ، وتبيان تكسبهم الذي يتعلق به ثوابهم.
إن الذين كفروا
بالله ووحدانيته ، وصدّوا الناس عن دينه وطريق الحق ، بمنعهم من الإسلام واتباع
الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ومخالفتهم إياه ، فكانوا في شق أو جانب والنبي صلىاللهعليهوسلم في شق ، بعد أن تبينوا معالم الهدى عند الداعي إليه ، لن
يلحقوا أي ضرر بالله ، وسيبطل الله أعمالهم ، ويبدد مكرهم ، ولا يثيبهم على
أعمالهم يوم القيامة.
نزلت في قوم من
بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل ، بعد تبيّنهم أمر محمد صلىاللهعليهوسلم من التوراة. وقيل : نزلت في قوم من المنافقين ، وقال ابن
عباس : نزلت في المطعمين في سفرة بدر.
إطاعة الله والرسول
لم يترك القرآن
الكريم شيئا من أمور الدين إلا بيّنه ، فإن الله تعالى أمر المؤمنين بطاعته وطاعة
رسوله ، وأوضح حكم من مات من الكفار على كفرهم ، وأنهم لا يعفون من العقاب ، ونهى
المؤمنين عن الدعوة إلى السلم أو المسالمة في حال القوة والتفوق ، وحرّضهم على
الجهاد بالنفس والمال ، ورغبّهم في الإنفاق في سبيل الله ، وحذّرهم من التقصير
بإبدالهم أقواما آخرين ، هم أفضل لإقامة الدين ، ونصرة الإسلام ، وكل ذلك ظاهر في
الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ
(٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ
مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا
يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا
وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ
نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))
[محمد : ٤٧ / ٣٣ ـ
٣٨].
أخرج النسائي
والبزار وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هذه الآية (إطاعة الله
والرسول) نزلت في بني أسد من العرب ، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : نحن قد آثرناك على كل شيء ، وجئناك بنفوسنا وأهلينا ،
كأنهم منّوا بذلك ، فنزل فيهم (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا ..) الآية [الحجرات : ٤٩ / ١٧] ، ونزلت فيهم هذه الآية.
المعنى : يا أيها
الذين صدقوا بالله ورسوله ، أطيعوا الله وأطيعوا رسوله ، بامتثال الأوامر واجتناب
النواهي ، ولا تبطلوا حسناتكم بالردة ، أو بالمعاصي الكبائر ، أو بالرياء والسمعة
، والمن والأذى ، أو بالشك والنفاق ، أو بالعجب والتكبر.
وإذا بطلت أعمال
المكلف ، ففضل الله باق ، يغفر له إن شاء ، ما لم يمت على الكفر ، فإن الذين جحدوا
وحدانية الله ، ومنعوا أنفسهم والناس عن دين الله ، ثم ماتوا وهم كفار ، فلا غفران
لذنوبهم ، بل يعاقبهم الله تعالى.
قال مقاتل : نزلت
في رجل سأل النبي صلىاللهعليهوسلم عن والده ، وقال : إنه كان محسنا في حال كفره. أخرج مسلم :
أن هذه الآية نزلت بسبب أن عديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، إن حاتما كانت له
أفعال برّ ، فما حاله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هو في
__________________
النار ، فبكى عدي
رضي الله عنه وولّى ، فدعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له : أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار
، ونزلت هذه الآية في ذلك ، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة. ونظيرها
آية : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤ / ٤٨].
ثم أمر الله تعالى
المؤمنين بترك مسالمة الأعداء ، وهم في حال قوة ، فلا تضعفوا عن القتال أيها
المؤمنون ، ولا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة ابتداء منكم ، وإظهارا للعجز
والضعف ، ولا مانع من قبول السلم إذا مال إليه الأعداء ، أما في حال كونكم أنتم
الغالبون القاهرون ، فلا تبدؤوهم بطلب الصلح ، والله معكم ، بالنصر والمعونة عليهم
، ولن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم أو جزائها. وقوله تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) فيه بشارة بالنصر على الأعداء. فأما إن كان الكفار أقوى من
المسلمين ، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين صدّه كفار قريش عن مكة. وعملا بقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها) [الأنفال : ٨ / ٦١].
فقوله : (وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ) في موضع الحال ، أي وأنتم الغالبون والظاهرون.
واحرصوا أيها
المؤمنون على جهاد الأعداء ، واسترخصوا الحياة الدنيا واطلبوا الآخرة ، توهب لكم
الحياة ، فإن حياة الدنيا لعب ولهو ، أي باطل وغرور ، لا ثبات له ولا قيمة له ،
وهذا تحقير لأمر الدنيا ، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها. وإن تؤمنوا بالله ورسوله
حق الإيمان ، وتتقوا ربكم حق التقوى ، بأداء فرائضه ، واجتناب نواهيه ، يؤتكم ثواب
أعمالكم وطاعاتكم في الآخرة ، ولا يطالبكم بالتصدق أو الزكاة بجميع أموالكم ، بل
يطالبكم بإخراج القليل منها.
وسبب الحرص على
الدنيا : أن ربكم إن يطلب أموالكم كلها ، ويلح في الطلب عليكم ، تشحوا وتبخلوا ،
وتمتنعوا من الامتثال.
وها أنتم أيها
المؤمنون المخاطبون : مدعوون للإنفاق في سبيل الله ، أي في الجهاد والزكاة ونحوهما
، فبعضكم يبخل باليسير من المال ، ولا يجيب لدعوة الإنفاق ، ومن يبخل في هذا
الجانب ، فإنما يمنع نفسه من الأجر والثواب بفعله ، ويعود عليه وبال أعماله ،
والله هو الغني عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه. وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى
، وعن طاعة الله واتباع شرعه ، يستبدل قوما آخرين أطوع لله منكم ، وليسوا أمثالكم
في التولي عن الإيمان والتقوى ، وفي البخل بالإنفاق في سبيل الله. أخرج سعيد بن
منصور ، وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن هذا ، وكان سلمان إلى جنبه ، فوضع يده على فخذه ،
وقال : قوم هذا ، ولو كان الدين في الثريا ، لناله رجال من أهل فارس».
تفسير سورة الفتح
صلح الحديبية وآثاره
إن أهم شيء في
حياة الشعوب والأمم المعاصرة الاعتراف بهم من الدول أو أنظمة الحكم الأخرى ؛ ليصير
لهم وجود قانوني دولي ، فيصبح التعامل معهم والتبادل وإبرام المعاهدات ذا صفة
نظامية قوية ، ومن هنا كان صلح الحديبية بين النبي صلىاللهعليهوسلم وأمته وبين المشركين القرشيين أصحاب الزعامة العربية فتحا
عظيما سمي فتحا مبينا ، والفتح الأكبر أو الأعظم في السنة السادسة من الهجرة ،
تمهيدا لفتح مكة ، قال الزهري : «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه».
ونزلت سورة الفتح المدينة (بعد الهجرة) بسببه ، بعد انصراف النبي صلىاللهعليهوسلم من الحديبية ، فهي بهذا في حكم المدني.
أخرج الحاكم وغيره
عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : «نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في
شأن الحديبية من أولها إلى آخرها» وهذا مطلعها :
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)
وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ
فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ
__________________
بِاللهِ
ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))
[الفتح : ٤٨ / ١ ـ
٧].
إنا فتحنا لك أيها
النبي فتحا ظاهرا عظيما هو صلح الحديبية ، عند جمهور الناس ، وهو الصحيح ، وليس
فتح مكة ، أي إن ما يسّر الله تعالى لك أيها الرسول في خروجك إلى مكة للعمرة فتح
مبين تستقبله ، ونزلت سورة الفتح مؤنسة للمؤمنين ، لأنهم كانوا استوحشوا من ردّ
قريش لهم ، ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فنزلت السورة
مؤنسة لهم في صدهم عن البيت الحرام ، ومذهبة ما كان في قلوبهم. ورأى النبي صلىاللهعليهوسلم أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو ، وظهرت على يديه آية الماء
في بئر الحديبية ، حيث وضع فيه سهمه ، وثاب (تفجر) الماء ، حتى كفى الجيش ، وتمت
فيه بيعة الرضوان. وهي الفتح الأعظم ، كما قال جابر بن عبد الله ، والبراء بن عازب
، وأدى ذلك إلى فتح خيبر ، وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا ، ولم يفتتحها إلا أهل
الحديبية ، ووقعت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ، انتصر فيها الروم ،
فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لظهور أهل الكتاب على المجوس ، وتخضيد شوكة الكفر
الوثني.
ثم عظّم الله
تعالى أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم وشرّفه بأن أنبأه بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
، أي لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، والهداية إلى الصراط
المستقيم ، والنصر العزيز المنيع الذي لا ذل معه ، أو الفريد الذي لا شبيه له.
ولكي يتم الله
إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين ، وانتشار الإسلام ، وفتوح البلاد شرقا وغربا ،
وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم ، ولينصرك الله على
أعدائك نصرا غالبا منيعا ، لا يتبعه ذل. وإتمام النعمة على النبي :
__________________
هو إظهاره ،
وتغلبه على عدوه ، والرضوان في الآخرة ، والنصر العزيز : هو الذي معه غلبة العدو
والظهور عليه.
أخرج أحمد
والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال : أنزلت على النبي صلىاللهعليهوسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : لقد أنزلت على آية أحب إلي مما على الأرض ، ثم قرأها
عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك ،
فما ذا يفعل بنا؟ فنزلت : (لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً).
إن الله عزوجل هو الذي أوجد الطمأنينة في قلوب المؤمنين ، وهم الصحابة
رضي الله عنهم ، يوم الحديبية ، الذين استجابوا لله ولرسوله ، ليزيدهم الله يقينا
جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. ويسمى هذا اليوم : رفع الروح المعنوية للجيش ،
وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين : هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت ،
وعلموا أن وعد الله حق. فازدادوا بذلك إيمانا إلى إيمانهم الأول ، وكثر تصديقهم. وهذا
دليل على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب.
ولله تعالى
السلطان على جنوده في السماوات والأرض ، من الملائكة والإنس والجن والشياطين ،
والقوى الكونية في السماء والأرض ، من بحار وأنهار وزلازل وبراكين وأعاصير. وكان
الله ولا يزال عليما بمصالح خلقه ، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره ، وهذا إشارة
إلى تسكين النفوس أيضا ، وأن تكون مسلمة ، لأنه ينصر من شاء ، متى شاء ، وعلى أي
صورة شاء ، مما لا يدبره البشر. ومن جنده السكينة التي أنزلها في قلوب الصحابة ،
فثبّتت بصائرهم.
ثم عرف الله نبيه
ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين ، فقد دبر الله ما دبر ، من تسليط المؤمنين على
الكافرين ، ليعرفوا نعمة الله في ذلك ، ويشكروها ، وليدخل
المؤمنين
والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها ، وهم ماكثون فيها على الدوام
، وليكفّر (يستر) عنهم خطاياهم ولا يظهرها ، وكان إنجاز ذلك الوعد بإدخالهم الجنة
وتكفير سيئاتهم عند الله ، وفي حكمه ، فوزا عظيما كبيرا ، ونجاة من كل غم ، وظفرا
بكل مطلوب.
ولكي يعذب أهل
النفاق وأهل الشرك بالهم والغم بسبب ما يشاهدونه ، من انتشار الإسلام وانتصار
المسلمين ، وقهر المخالفين ، وبما أصيبوا به من القهر والقتل والأسر في الدنيا ،
وبما أعد لهم من العذاب في الآخرة ، ولقد أصابهم ما أرادوا بالمسلمين فعليهم دائرة
هي السوء ، والمراد : الهزيمة والشر ، أي دائرة السوء الذي أرادوه بالمسلمين في
ظلهم السيئ.
ثم أكد الله تعالى
أنه لو شاء لانتصر من الكافرين ، فلله تعالى تدبير أمر جنوده في هذا العالم كيف
يشاء ، كما تقدم بيانه ، وكان الله وما يزال عليما بمصالح خلقه ، حكيما في صنعه
وتقديره وتدبيره.
مهام النبي صلىاللهعليهوسلم ومغزى بيعة الرضوان
إن مهمة تكليف
الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسّلام مهمة عظيمة وشاقة ، وتتميز مهمة نبينا صلىاللهعليهوسلم بمعان أو وظائف تتفق مع كونه خاتم النبيين وإمام المرسلين
، فهو الشاهد على أمته والأمم المتقدمة بتبليغ الرسالة الإلهية ، وهو المبشر أهل
الطاعة برحمة الله تعالى ، والمنذر لأهل الضلال من عذاب الله تعالى. والغاية من
رسالته التوصل إلى الإيمان الحق بالله ورسوله ، وتأييد دعوته ، وتنزيه (تسبيح)
الله بوصفه بكل صفات الكمال ، وتجريده عن كل صفات النقصان. ومعنى بيعته بيعة
الرضوان يوم الحديبية على الموت دفاعا عنه : بيعة لله تعالى ذاته ، فمن نقض بنود
البيعة عاد
وبال نقضه على
نفسه ، ومن أوفى بالعهد مع الله ، فسيلقى الثواب العظيم. وهذا ما سجلته الآيات
التالية :
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ
الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ
عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))
[الفتح : ٤٨ / ٨ ـ
١٠].
إنا أرسلناك أيها
النبي لأداء وظائف ثلاث هي : الشهادة على الناس من أمتك وغيرهم ، بأعمالهم
وأقوالهم بتبليغ شرع الله إليهم ، وتبشير المؤمنين الطائعين برحمة الله وجنته ،
وإنذار الكافرين والعصاة وتخويفهم من عذاب الله عزوجل.
والغرض السامي من
إرسالك أيها الرسول : هو أن تؤمن أمتك بالله ورسوله ـ والخطاب للرسول وأمته ـ وأن
يعظموك ويفخموك ، وأن يحترموك ويقدروك ، وينزهوا الله تعالى عما لا يليق به من
الشريك والولد والصاحبة ، والتشبّه بالمخلوقات ، وذلك على الدوام ، وبخاصة في
الصباح والمساء ، لقوله : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي في الغدو والعشي. وهذه هي صلاة البردين ، أي صلاة الفجر
والعشاء ، جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى : «من صلّى البردين دخل
الجنة». والفعلان : (تعزروه وتوقروه) عند جمهور المفسرين : للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وفعل (تسبحوه) لله تعالى. وقال بعض المتأولين : الضمائر
في الأفعال الثلاثة هي كلها لله تعالى.
ثم بيّن الحق
تعالى عظمة بيعة الرضوان في الحديبية مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهي بيعة
__________________
الشجرة حين أخذ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الأهبة لقتال قريش ، لما بلغه مقتل عثمان بن عفان رضي الله
عنه ، الذي أرسله لمفاوضة قريش ، قبل أن ينصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الحديبية ، وكان معه ألف وأربع مائة رجل ، وبايعهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، حتى
قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الموت. وقال ابن عمر وجابر : على ألا نفرّ.
والمبايعة مفاعلة
من البيع ، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، ثم صار اسم
البيعة يطلق على معاقدة الخلفاء والملوك. وعلى هذا سمّت الخوارج أنفسها الشّراة ،
أي الذين اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم.
ومعنى الآية : إن
الذين يبايعونك أيها الرسول بيعة الرضوان بالحديبية : تحت الشجرة على قتال قريش ،
إنما يبايعون الله ، أي يطيعونه ويعاهدونه على امتثال أوامره ، وصفقتهم إنما
يمضيها الله تعالى ويمنح الثمن ، أي الثواب عليها ، فمن بايع النبي في الظاهر ،
فقد بايع الله في الحقيقة والواقع.
وأكد الله هذا
المعنى بقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) أي بأنّ عقد الميثاق مع الرسول صلىاللهعليهوسلم كعقده مع الله تعالى على السواء ، وأن الله حاضر معهم ،
يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم ، والله تعالى هو المبايع
حقيقة بوساطة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، فهو السفير المعبر عن الله ، وسفارته بين الله وأوليائه
المؤمنين.
فمن نقض البيعة مع
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإنما وبال نقضه وضرره على نفسه ، لا يجاوزه إلى غيره.
ومن وفى بالعهد وثبت عليه ، ونفّذ ما عاهد عليه الرسول صلىاللهعليهوسلم في البيعة ، فسيؤتيه الله ثوابا جزيلا ، ويدخله الجنة ،
كما عبر الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ٤٨ / ١٨].
إن هذه البيعة تعد
وقفة مشرفة ، وتضحية بالغة ، وتصميما عاليا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ،
لتحقيق أعظم الغايات ، لذا كان هذا الموقف مما يغبطون عليه ، وقد أكرمهم الله
تعالى بهذا الرضوان الإلهي على مدى الدهر ، وجعله قرآنا يتلى ، وأنموذجا عظيما
للأبطال والشجعان ، في سجلات اللقاءات والإعداد للمعارك الفاصلة الخالدة.
أوضاع المتخلفين عن الحديبية
تخلف عن الذهاب مع
النبي صلىاللهعليهوسلم في عمرته يوم الحديبية قوم من الأعراب : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل وهم
غفار وأشجع والدّليل ، رأوا أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل
المجاورة وهم الأحابيش ، ولم يكن الإيمان قد تمكن من قلوبهم ، وقالوا : لن يرجع
محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله تعالى في الآيات الآتية ، وأعلم
محمدا صلىاللهعليهوسلم باعتذارهم في الظاهر قبل أن يصل إليهم ، وبطلبهم المشاركة
في وقعة خيبر وغنائمها ، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد. قال الله تعالى :
(سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا
فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ
بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً
وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً
بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ
لِمَنْ يَشاءُ
__________________
وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ
قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ
قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ
قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا
عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ
يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)) [الفتح : ٤٨ / ١١
ـ ١٧].
هذه أخبار أنبّأ
الله تعالى بها نبيه قبل وقوعها ، أولها اعتذار المتخلفين عن الذهاب معه في عمرته
يوم الحديبية ، فإنهم سيقولون له بعد عودته : شغلتنا الأموال والأهلون ، فاستغفر
لنا ، لكنهم لم يصدقوا في هذا الاعتذار ، وإنما قالوا ذلك بألسنتهم في الظاهر ،
وبما لا يعبر عن حقيقة نواياهم وقلوبهم ، في أن محمدا وصحبه سينهزمون أمام قريش وثقيف
والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش ، فقل أيها النبي لهم : من يحمي أموالكم
وأهليكم إن أراد الله بكم سوءا ، أو أراد بكم نفعا ، ثم رد الله عليهم بقوله : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً).
ثم فسر لهم علة
تخلفهم بقوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ) أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ، بل ظننتم أنه لن يعود
الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون معه إلى أهليهم وأوطانهم أبدا ، وأن العدو
سيقتلهم ، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم ، فقبلتموه ، وظننتم أن الله تعالى لن
ينصر رسوله ، وكنتم قوما هلكى أو هالكين عند الله تعالى ، بسبب فساد هذا الاعتقاد.
ثم أخبر الله
تعالى عن عقاب أهل الكفر : وهو أن من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله ، ولم يخلص عمله
لربه ، كما صنع هؤلاء المتخلفون عن الحديبية ، فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب
السعير المتلظية بهم.
وقدرة الله شاملة
، فهو مالك السماوات والأرض ، وسلطانه مطلق فيهما ، يتصرف فيهما كيف يشاء ، يغفر
لمن شاء مغفرة ذنوبه ، ويعذب من أراد تعذيبه على كفره وعصيانه ، وكان الله وما
يزال غفورا لذنوب عباده التائبين رحيما يرحم جميع خلقه.
وسيقول لك أيها
النبي هؤلاء الأعراب المتخلفون عنك في عمرة الحديبية : إذا سرتم إلى خيبر ، وظفرتم
بمغانمها : اتركونا نتبعكم في السير ، ونشهد معكم الموقعة ، وهذا دليل آخر على
كذبهم في اعتذارهم بعد كشف أمرهم : (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إنهم يريدون في شأن غنائم خيبر تبديل حكم الله ووعده لأهل
الحديبية ، بتخصيصهم بمغانم خيبر ، فقد أمر الله رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد
من غير أهل الحديبية ، ووعدهم بمغانمها وحدهم ، فقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ) معناه : أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر.
فقل أيها النبي
لهم : لن تسيروا معنا إلى خيبر ، وقد قال الله ذلك سابقا : وهو أن غنائم خيبر لمن
شهد الحديبية خاصة ، لا نصيب فيها لغيرهم. وحينئذ سيقول المخلفون عند سماع هذا
القول : بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة ، فلذا لم تأذنوا لنا في الخروج
، فرد الله عليهم : ليس الأمر أمر حسد كما تزعمون ، بل إنكم لا تفهمون إلا فهما
قليلا ، أي لا تفهمون شيئا من أحكام الدين : وهو جعل القتال من أجل الله تعالى ،
والإخلاص فيه.
ومع ذلك ، ميدان
القتال متسع ، فإنكم إن أردتم صدق الانتماء للمسلمين ، فإنكم ستطالبون إلى قتال
قوم أولي شدة وبأس ، تخيرونهم بين أحد أمرين : إما القتال وإما الإسلام ، لا ثالث
لهما. وهذا يشمل مشركي العرب والمرتدين. قال عكرمة وابن جبير وقتادة : هم هوازن
ومن حارب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حنين ثم وعد الله وأوعد ،
وهو إن تطيعوا
فيما تدعون إليه من الجهاد ، يؤجركم الله أجرا حسنا ، وإن أعرضتم كما فعلتم زمن
الحديبية يعذبكم الله.
ثم استثنى الله
تعالى أصحاب الأعذار من التكليف بفرضية الجهاد : ليس هناك حرج على هؤلاء المعذورين
بهذه الأعذار وهي العمى ، والعرج المستمر ، والمرض المزمن ، أو الطارئ في وقت
طروئه ، لعدم استطاعتهم. ثم رغب الله في الجهاد وطاعة الله ورسوله ، فمن يطع الله
ورسوله ، يدخله جنات تجري الأنهار من تحت قصورها ، ومن يستنكف عن الطاعة ، ويعص
الله ورسوله ، يعذبه الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس :
لما نزلت : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ..) الآية.
بيعة الرضوان وآثارها الخيّرة
كان لبيعة الرضوان
عام الحديبية أثر كبير في تاريخ المسلمين ، وكانت بركة عليهم ، حيث ظفروا برضوان
الله تعالى ، وبشّروا بغنائم كثيرة ، يأخذونها ، وبهزيمة أعدائهم الكفار ،
وبحمايتهم من إغارة ثمانين رجلا مسلحين من جبل التنعيم على النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى أصحابه.
أخرج مسلم
والترمذي عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية ، هبط على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم (موضع في الحل بين
مكة وسرف) يريدون غرّة (غفلة) رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخذوا ، فأعتقهم أي الرسول ، فأنزل الله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ..) الآية. وجاء النص على هذه الوعود والبشائر في الآيات
الآتية :
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
(١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ
أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ
قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))
[الفتح : ٤٨ / ١٨
ـ ٢٤].
تالله لقد رضي
الله عن المؤمنين المخلصين ، الذين بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان ، بالحديبية ، على قتال قريش وعدم
الفرار ، بايعهم النبي على الموت ، وكان عددهم في الأصح ألفا وأربع مائة. وسميت
بيعة الرضوان ، لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
..).
ورضاه لأنه تعالى
علم ما في قلوبهم من الإيمان والإخلاص ، والسمع والطاعة ، فأنزل الطمأنينة وسكون
النفس عليهم ، وجازاهم بفتح خيبر ، بعد انصرافهم من الحديبية ، ثم أتبعه بفتح مكة
وسائر الأقاليم المجاورة.
وأثابهم أيضا
مغانم كثيرة يأخذونها ، وهي غنائم خيبر ، وكان الله وما يزال قويا غالبا قادرا ،
مدبرا أمور خلقه ، على وفق الحكمة والسداد.
ووعدكم الله أيها
المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار ، على ممر الدهر ، إلى يوم القيامة ،
ولكن عجّل لكم غنائم خيبر ، وكف عن قتالكم أيدي قريش يوم الحديبية بالصلح ، وأيدي
اليهود أهل خيبر وحلفائهم ، من أسد وغطفان ، كل ذلك
__________________
لتشكروه ، ولتكون
تلك النعم علامة للمؤمنين ، يعلمون بها صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم في جميع ما يعدهم به ، وليثبّتكم على طريق الهداية إلى
الطريق القويم : طريق الحق ، وطاعة الله ورسوله. ووعدكم أيضا غنائم وفتوحات أخرى ،
غير صلح الحديبية وفتح خيبر ، لم تكونوا تقدرون عليها الآن ، قد أحاط الله بها
علما ، أنها ستؤول إليكم ، وتفتحونها وتأخذونها ، مثل غنائم هوازن في معركة حنين ،
وفتوحات فارس والروم ، وقد تحقق كل ذلك ولله الحمد ، وأنجز الله وعده ، وكان وما
يزال على كل شيء قديرا مقتدرا ، لا يعجزه شيء.
ولو بادركم
بالقتال كفار قريش بالحديبية ، لنصر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين عليهم ،
ولانهزموا هزيمة منكرة ، فارّين هاربين ، ثم لا يجدون حارسا وحاميا ، يحرسهم
ويواليهم على قتالكم ، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم.
تلك سنة الله
الدائمة في نصره جيش الإيمان على جيش الكفر ، وإعلاء كلمة الحق وإبطال الباطل ،
على الرغم من عدم تكافؤ القوى ، مثل النصر يوم وقعة بدر ، وتلك السنة مستمرة ثابتة
، لا تغيير لها.
والله تعالى بكرمه
وفضله : هو الذي كف أيدي المشركين عن المسلمين ، وأيدي المسلمين عن المشركين ، لما
جاؤوا يصدّون رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجنوده عن البيت الحرام ، عام الحديبية ، في داخل مكة
وحدودها ، حيث هبط ثمانون رجلا ، كما تقدم ، على النبي صلىاللهعليهوسلم من جبل التنعيم ، متسلحين بكامل أسلحتهم ، يريدون مباغتة
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأخذهم المسلمون ، ثم تركوهم. وهذا امتنان من الله تعالى
على عباده المؤمنين ، بكف المشركين عنهم ، وكف المسلمين عن قتال أعدائهم. وكان
الله وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين ، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وكانت هذه الحملة
مرسلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل ، فلما أحسّ بهم
المسلمون ، بعث
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أثرهم خالد بن الوليد ، وسماه حينئذ (سيف الله) في جملة
من الناس ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة ، وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فمنّ عليهم وأطلقهم ، فهذا هو كفّ الله تعالى أيديهم عن
المسلمين بالرعب ، وكفّ أيدي المسلمين عنهم بالنهي عن القتال في بيوت مكة وغيرها ،
وذلك هو (بطن مكة).
أسباب وآثار صلح الحديبية
أوضح الله تعالى
في كتابه موقف المشركين من المسلمين قبل صلح الحديبية ، من إعلان الكفر وصد المؤمنين
عن البيت الحرام ، وبيّن حكمة هذا الصلح ، من أجل تعظيم حرمة المسجد الحرام ، ونشر
الإسلام وسلامة النساء والرجال المؤمنين ، والقضاء على الحمية الجاهلية في مهدها ،
وكانت آثار هذا الصلح عظيمة ، بإنزال السكينة والطمأنينة والثبات على قلب الرسول صلىاللهعليهوسلم وأتباعه المؤمنين :
(هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
(٢٦))
[الفتح : ٤٨ / ٢٥
ـ ٢٦].
المعنى : لم يكن
كفّ المسلمين عن المشركين عام الحديبية لخير فيهم ، فإنهم هم
__________________
الذين كفروا بالله
ورسوله ، ومنعوكم أيها المسلمون من الطواف بالبيت الحرام ، وأنتم أحق به وأهلوه ،
وصدوا الهدي (ما يهدى إلى الحرم من الأنعام) محبوسا في مكانه ، عن بلوغ محل ذبحه ،
بغيا وعدوانا ، وكان الهدي مائة أو سبعين بدنة (ناقة أو جمل). ومحلّه : موضع نحره
الذي يذبح فيه عادة ، وهو منى ، أو الحرم المكي ، فصار محل الإحصار (المنع من دخول
مكة) على طريق الرخصة محلّا للنحر ، وكان ذلك خارج الحرم. وتم عقد صلح الحديبية
بين سهيل بن عمرو مفاوض قريش ، وبين النبي صلىاللهعليهوسلم ، على أن يعود الرسول عنهم ، ويعتمر من العام القابل ،
فهذا كان صدّهم إياه.
وعلة صرف المسلمين
عن القتال وعدم تمكينهم من دخول مكة : حماية أهل الإيمان سرا ، وهو أنه كان بمكة
مؤمنون ، رجال ونساء ، خفي إيمانهم ، فلو استباح المسلمون أرض مكة ، أهلكوا أو
قتلوا أولئك المؤمنين ، فتصيبهم من جهتهم مشقة وأسى أو مكروه ، خطأ بغير قصد ولا
علم ، لوقوع القتل جهلا ، فيقول المشركون : إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم ، فدفع
الله تعالى عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين ، وقد يدفع الله تعالى بالمؤمنين عن
الكفار.
وقوله تعالى : (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي لو لا وطؤكم قوما مؤمنين ، فهي على هذا في محل رفع ، أو
هو منصوب بدلا من ضمير (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي لم تعلموا وطأهم أنه وطء مؤمنين.
ولكن كفّ الله
أيديكم عنهم وحال بينكم وبين قتالهم ، ليخلص المؤمنين من أسرهم ، وليدخل في رحمته
من يشاء ، فيدخل كثير منهم الإسلام.
لو تميز الذين
آمنوا من الذين كفروا وذهبوا عن مكة ، وانفصل بعضهم عن بعض ، لعذب الله الذين
كفروا عذابا مؤلما وهو القتل ، بأن نسلطكم عليهم ، فتقتلوهم قتلا شديدا.
ووقت هذا العذاب :
حين جعل الذين كفروا في مكة في قلوبهم أنفة الجاهلية التي لا تعرف المنطق والحق
والعدل ، وهو قولهم : «واللات والعزّى لا يدخلونها علينا» وإباؤهم كتابة البسملة
ووصف محمد بأنه رسول الله ، في مقدمة صلح الحديبية.
فأنزل الله تعالى
الطمأنينة والثبات والصبر على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث لم يدخلهم ما دخل أهل
الكفر من الحمية ، وثبّتهم على الرضا والتسليم ، وألزمهم كلمة التقوى : وهي عند
الجمهور (لا إله إلا الله ، محمد رسول الله) وتعظيم الحرم ، وترك القتال فيه ، ولم
يستفزهم صنيع الكفرة المشركين ، لانتهاك حرمة الحرم.
وكان المؤمنون أهل
هذه الكلمة على الإطلاق ، في علم الله تعالى وسابق قضائه سبحانه لهم ، فهم أهل
الحق والاعتقاد الصحيح ، على نقيض المشركين ذوي العقيدة الفاسدة ، وكان الله وما
يزال عليما بمن يستحق الخير ، ممن يستحق الشر ، وهذا إشارة إلى علمه تعالى
بالمؤمنين الذين دفع الله السوء بسببهم عن كفار قريش ، وإلى علمه بوجه المصلحة في
صلح الحديبية ، فيروى أنه لما انعقد هذا الصلح ، أمن الناس في تلك المدة الحرب
والفتنة ، وامتزجوا ، وعلت دعوة الإسلام ، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب
، وزاد عدد المسلمين في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك ، فقد كان الرسول صلىاللهعليهوسلم عام الحديبية في ألف وأربع مائة ، ثم سار إلى مكة بعد ذلك
بعامين في عشرة آلاف فارس.
تحقيق رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأوصافه وأصحابه
رؤيا الأنبياء حق
وجزء من الوحي ، ولقد رأى النبي صلىاللهعليهوسلم في منامه عند خروجه إلى العمرة ، أنه يطوف بالبيت الحرام
هو وأصحابه ، بعضهم محلّقون ، وبعضهم مقصرون ، وقال مجاهد : أري ذلك بالحديبية ،
فأخبر الناس بهذه الرؤيا ، ووثق
الجميع بأن ذلك
يكون في وجهتهم تلك (أي عام الحديبية) ولكن سبق في علم الله أن ذلك ليس في تلك
الوجهة ، وإنما في عام مقبل ، وتحقق ذلك. وكانت مهمة الرسول وما زالت هداية إلى
الطريق القويم وإلى الدين الحق. وأوصاف صحابته عجيبة : هي الشدة على الأعداء ،
والرحمة بالمؤمنين ، وكثرة العبادة ، والحرص على الثواب وإرضاء الله ، والتميز
بالنور ، وتوصيفهم في التوراة والإنجيل ، وانتقالهم إلى مرحلة القوة والكثرة ،
ووعدهم من الله بالمغفرة والجنة ، كما في هذه الآيات الآتية :
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً (٢٩))
[الفتح : ٤٨ / ٢٧
ـ ٢٩].
أخرج الفريابي ،
وعبد بن حميد ، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : أري النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة ، هو وأصحابه آمنين ،
محلّقين رؤوسهم ومقصرين ، فلما نحر الهدي بالحديبية ، قال أصحابه : أين رؤياك يا
رسول الله؟ فنزلت : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ..)
المعنى : تالله
لقد صدق الله تعالى تأويل رؤياه ، التي رآها ، تصديقا مقترنا بالحق :
__________________
أنكم ستدخلون
المسجد الحرام بمشيئة الله تعالى ، في عام قابل ، وليس في عام الحديبية ، حالة
كونكم آمنين من العدو ، محلقا بعضكم جميع رأسه ، ومقصرا بعضكم الآخر ، لا تخافون
من أحد.
فعلم الله ما لم
تعلموا من الحكمة والمصلحة في تأخير العمرة إلى العام القادم ، وانتشار الإسلام
ودخول الناس فيه ، والحفاظ على من كان من المؤمنين في مكة ، فجعل من دون ذلك الفتح
فتحا قريب الحصول : هو بيعة الرضوان ، في رأي كثير من الصحابة ، أو هو صلح
الحديبية فيما روي عن مجاهد وابن إسحاق ، أو هو فتح خيبر ، وهو الأولى ، فهو
كالدليل على صدق الرؤيا وتحققها.
وليس الفتح القريب
هو فتح مكة ، لأن ذلك لم يكن من دون دخول النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح لمكة كان
سنة ثمان من الهجرة. وربط دخول المسجد الحرام بمشيئة الله ، لتعليم العباد الأدب ،
وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة الله تعالى ، سواء كان محقق الوقوع أو محتمل
الوقوع.
وأكد الله تعالى
تحقيق الرؤيا بتصديق الرسول صلىاللهعليهوسلم في كل شيء ، فالله هو الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ، أي
بالإرشاد إلى الطريق الأقوم ، وإلى دين الإسلام ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ،
ليحقق إعلاءه وإظهاره على كل الأديان ، وإن بقي من الدين الآخر أجزاء. وكفى بالله
شاهدا عندكم بهذا الخبر ومعلما به ، وبهذا الوعد ، من إظهار دينه على جميع الأديان
، وهو رد على سهيل بن عمرو سفير أهل مكة لعقد صلح الحديبية ، الذي أبى أن يكتب في
مقدمة الصلح البسملة وكلمة (رسول الله). فالآية على هذا وعيد للمشركين الذين رفضوا
هذه الكلمة ، فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية.
محمد رسول من عند
الله حقا بلا شك ، وهو مبتدأ وخبر ، وصحابته الذين معه
يمتازون بالشدة
والصلابة على الكفار الذين جحدوا بوحدانية الله ، ويتراحمون فيما بينهم. وكلمة : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) مبتدأ ، وخبره : أشداء ، ورحماء : خبر ثان. ووصف الشدة كما
في آية أخرى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ٩ / ١٢٣].
ووصف الرحمة كما جاء في حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد ومسلم ، عن أبي هريرة عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل
الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».
وهاتان صفتان لهم
، وبقية الصفات هي :
ـ إنك تشاهدهم
يكثرون الصلاة بإخلاص ، فتراهم راكعين ساجدين ، يطلبون الثواب والرضا من الله ،
ويحتسبون عند الله تعالى جزيل الثواب : وهو الجنة.
ـ وعلامتهم
المميزة لهم : وجود النور والوقار في الوجه والسمت الحسن والخشوع.
ـ ذلك الوصف
المذكور للصحابة هو وصفهم المذكور في التوراة ، والإنجيل ، كانوا ضعافا ، فتقوّوا
، وصاروا في تكاثرهم مثل الزرع الذي أخرج فروعه على جوانبه ، فاشتد وقوي ، وأعانه
وشدّه ، واستقام وقوي على سوقه أو أصله ، يعجب هذا الزرع الزّرّاع لقوته وحسن
منظره ، وتكاثر ليكونوا غيظا للكافرين.
و (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) جملة في موضع الحال ، فإذا أعجب الزراع ، فهو أحرى أن يعجب
غيرهم. وقوله : (لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) ابتداء كلام ، قبله محذوف ، تقديره : جعلهم الله تعالى بهذه
الصفة ليغيظ بهم الكفار ، أي المشركين ، وعد الله تعالى الذين آمنوا بالله ورسوله
، وعملوا صالح الأعمال ، أي الواجبات ، منهم : أن يغفر ذنوبهم ، ويجعل لهم ثوابا
جزيلا في الجنة و (من) لبيان الجنس لا للتبعيض.
تفسير سورة الحجرات
تقديم الكتاب والسنة والأدب مع الرسول صلىاللهعليهوسلم
أمر الله عزوجل بالتزام أحكام القرآن والسنة ، ونهى عن تقديم شيء على كلام
الله ورسوله ، وألزم المؤمنين بتعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم في خطابهم له ، من غير رفع الصوت ، وفي ترك مناداتهم له
كرعاة الشاء باسمه المجرد عن وصف الرسالة بقولهم : «يا محمد ، يا محمد» من خارج
حجرات (غرف) زوجاته ، تأدبا معه بالآداب العالية المشتملة على التوقير والتعظيم ،
وهذا صريح في الآيات الآتية ، في مطلع سورة الحجرات المدنية بالإجماع من أهل
التأويل :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
[الحجرات : ٤٩ / ١
ـ ٥].
يا أيها الذين
صدقوا بالله ورسوله لا تتقدموا بقول أو حكم قبل حكم الله
__________________
ورسوله ، فربما
أخطأتم ، واتقوا الله في كل أموركم ، وراقبوه في تجاوز ما لم يأذن به الله تعالى
ورسوله ، فإن الله سميع لأقوالكم ، عليم بأفعالكم ونياتكم. وهذا نهي صريح عن
مخالفة القرآن والسنة.
نزلت ـ كما روى
البخاري والترمذي وغيرهما ـ لما قدم وفد بني تميم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه :
يا رسول الله ، لو أمّرت الأقرع بن حابس ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله ،
بل أمّر القعقاع بن معبد ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت
خلافك ، وارتفعت أصواتهما ، فنزلت الآية في ذلك.
وأكّد الله تعالى
الأدب السابق بغض الصوت ، فيا أيها المؤمنون ، إذا خاطبتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ، لأن ذلك يدل على ترك
الاحترام والأدب ، وخاطبوه بالسكينة والوقار والصوت الهادئ ، خلافا لعادتكم مع
بعضكم برفع الصوت ، والجهر غير المعتاد بالقول ، ولا تقولوا : يا محمد ، ويا أحمد
، ولكن : يا نبي الله ، أو يا رسول الله ، توقيرا له ، واحتراما لرسالته ، نهاكم
الله عن رفع الصوت المزعج ، خشية أن يذهب ثواب أعمالكم ، أو وقوعكم في الكفر ، من
حيث لا تشعرون بذلك. أخرج ابن جرير عن قتادة قال : كانوا يجهرون له بالكلام ،
ويرفعون أصواتهم ، فأنزل الله : (لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ) الآية.
ثم رغب القرآن في
خفض الصوت ، فقال الله تعالى : إن الذين يخفضون أصواتهم أثناء مكالمة النبي صلىاللهعليهوسلم أو في مجالسه ، أخلص الله قلوبهم للتقوى ، وجعلها أهلا
ومحلا لها ، أو اختبرها وطهّرها كما يمتحن الذهب بالنار ، فيسّرها وهيأها للتقوى ،
ولهم مغفرة لذنوبهم ، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. نزلت ـ كما
أخرج ابن جرير ـ في ثابت بن قيس الذي آلى على نفسه ألا يرفع صوته أبدا على صوت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ)
تألّى أبو بكر ألا
يكلم رسول الله إلا كأخي السرار (أي كصاحب السر) فأنزل الله تعالى في أبي بكر : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ).
وروى الإمام أحمد
عن مجاهد قال : كتب إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل
بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه : إن الذين لا يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
ثم ذمّ الله تعالى
الذين ينادون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، من خارج حجرات (بيوت) نسائه ، كما يفعل أجلاف الأعراب ،
فقال الله مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل : (إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ ..) أي إن الذين ينادونك أيها النبي من بعيد ، من وراء بيوت
نسائك ، وهم جفاة بني تميم ، أكثرهم جهال ، لا يعقلون الأصول والآداب الاجتماعية ،
ولا يقدّرون ما يجب لك من الاحترام والتعظيم. وقوله : (أَكْثَرُهُمْ) يراد به في أكثر أحوالهم لا يعقلون أو أكثرهم لا كلهم لا
يعقلون.
أخرج الطبراني
وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال : جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلىاللهعليهوسلم ، فجعلوا ينادون : يا محمد ، يا محمد ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ
الْحُجُراتِ) الآية. وفي مصحف ابن مسعود : «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون».
وليتهم لو صبروا
حتى تخرج إليهم كالمعتاد ، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة ،
لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورعاية قدره الشريف ، والعمل بما يستحقه من الإعظام
والاحترام ، والله غفور (كثير المغفرة) لذنوب عباده ، رحيم (واسع الرحمة) بهم ، لا
يؤاخذ مثل هؤلاء ، فيما فرض منهم من إساءة الأدب ، جهلا وعادة قبيحة ، فهم يحتاجون
إلى التعليم ، وهذا حث على التوبة ، وترجية لهم وإعلام بقبول توبة التائب ،
وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.
التثبت من نقل الأخبار
تناقل الأخبار آفة
المجتمعات ، فقد يكون بعضها إشاعة ، أو كذبا ، وقد يكون هناك كثير من المبالغة في
الخبر وتضخيمه ، وغالبا ما يكون نقل الخبر بحاجة ماسة إلى الدقة في النقل ، وضبط
اللفظ ، وفهم المراد ، وتأويل المسموع ، لذا كان لا بد من الكتابة أو التدوين أو
التسجيل ليكون الخبر صحيحا أو مطابقا للواقع ، وقد يكون الخبر كله ملفقا أو موضوعا
لدوافع سياسية أو مناصرة اتجاه معين أو لبذر بذور الفرقة ، وتأجيج نار الخلاف بين
الناس ، الأقارب أو الأباعد ، لذا أوجب القرآن التثبت من الأخبار ، تحقيقا للمصلحة
العامة أو الخاصة ، ومنعا من إيقاع الفتنة ، وزرع الفرقة ، فقال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا
أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ
لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(٨))
[الحجرات : ٤٩ / ٦
ـ ٨].
سبب نزول الآية ـ فيما
أخرجه ابن جرير الطبري وأحمد وغيرهما بسند جيد عن ابن عباس ـ أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدّقا (جابيا
للصدقات) وكان معاديا لهم ، فأراد إذايتهم ، فرجع من بعض طريقه ، وكذب عليهم ،
وقال للنبي صلىاللهعليهوسلم : إنهم قد منعوا الصدقة وطردوني وارتدوا ، فغضب النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهمّ بغزوهم ، ونظر في ذلك ، وبعث خالد بن الوليد إليهم
، فورد وفدهم
__________________
منكرين لذلك ،
فنزلت الآية بهذا السبب. وهي وإن نزلت خاصة في هؤلاء القوم ، فهي عامة إلى يوم
القيامة ، ما نسخها شيء.
ومعناها : يا أيها
الذين صدقوا بالله ورسوله ، إن أتاكم فاجر ، لا يبالي بالكذب ، بخبر فيه إضرار
بأحد ، فتبينوا الحقيقة ، وتثبتوا من الأمر ، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في
صحة الخبر ، لتظهر الحقيقة ، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى ، وتلحقوا بهم ضررا لا
يستحقونه ، وأنتم جاهلون حالهم ، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على
ذلك.
وفي تنكير (فاسق) و
(نبأ) دلالة على العموم في الفساق والأنباء ، مما يدل على أن شهادة الفاسق لا تقبل
، وأن خبر الواحد العدل حجة.
وعليكم أيها
المؤمنون تعظيم قائدكم ، فاعلموا أن معكم رسول الله ، فعظموه وانقادوا لأمره ،
فإنه أعلم بمصالحكم ، ولا تقولوا قولا باطلا ، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من
غير تبيّن حقيقة الخبر ، ولو أطاعكم في كثير من الأخبار التي تخبرونه بها باجتهادكم
وتقدمكم بين يديه ، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت : وهو المشقة والإثم والهلاك.
ولكن الله تعالى
أنعم عليكم بنعم كثيرة ، فلا تتقدموا في الأمور ، واقنعوا بإنعام الله تعالى عليكم
، وحبّب ، أي قرّب الإيمان إلى بعضكم وحسّنه وخلقه في قلوبكم ، وكرّه إليكم الكفر (جحود
الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم
الطاعة) أي جعل هذه الثلاثة مكروهة في قلوبكم ، بما وصف من العقاب عليها ، هؤلاء
الذين قبلوا هذه النصائح واستقاموا على طريق الحق ومقتضى الشرع ، وأدب الدين ،
وشكروا الله على ذلك ، هم الراشدون المهديون ، الذين لم يتورطوا في اتهام غيرهم
دون تثبت. وقوله (أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ) التفات من الخطاب إلى الغيبة.
وإن تحبيب الإيمان
إليكم ، وتكريه الأمور الثلاثة المتقدمة تفضل الله بها عليكم تفضلا وإنعاما من
لدنه ، والله عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة ، حكيم في تدبير شؤون خلقه ، وفي
أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره. وقوله : (فَضْلاً) مصدر مؤكد بنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إذ التحبيب
والتزيين هو نفس الفضل.
كان قتادة رحمهالله يقول : قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) وأنتم والله أسخف رأيا ، وأطيش أحلاما ، فليتّهم رجل نفسه
، ولينتصح كتاب الله تبارك وتعالى.
إن في هذا الأدب
وهو التثبّت من الأخبار المنقولة ، والروايات المروية ، فائدة عظيمة للأفراد
والجماعات ، فكم من خبر مفترى ولّد أحقادا ومنازعات ، واتهامات باطلة ، فيندم ناقل
الخبر لتركه التأمل والتأني ، قال عليه الصلاة والسّلام : «التأني من الله ،
والعجلة من الشيطان» .
فض المنازعات الداخلية (البغاة)
تقع الصراعات أو
المنازعات الداخلية المسلحة عادة في كل زمان ومكان ، بسبب بعض الشبهات أو
التأويلات ، من فئات تستبد بها الأهواء أحيانا ، أو الجنوح أحيانا ، أو مناصرة لحق
يرونه ، وظلم يبغون رفعه ، وتتكبد الأمة خسارة كبيرة في القضاء على الثورات
المسلحة والفتن الداخلية ، ولو احتكموا إلى القرآن بمعانيه الدقيقة ، لما نشب
بينهم شيء من الخلاف ، وقد أنزل الله تعالى في قرآنه حكما سديدا في هؤلاء في
الآيات الآتية :
__________________
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))
[الحجرات : ٤٩ / ٩
ـ ١٠].
سبب نزول هذه
الآية ـ فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم ـ عن أنس بن مالك رضي
الله عنه : «أنه قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا نبي الله ، لو أتيت عبد الله بن أبيّ ، فانطلق إليه
على حمار ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فبال الحمار ، فقال : إليك عني
، فو الله ، لقد آذاني نتن حمارك ، فقال عبد الله بن رواحة : والله ، إن بول حماره
أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب لكل منهما أصحابه ، فوقع
بينهما حرب بالجريد والأيدي والنعال ، فأنزل الله فيهم (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا ..).
والمعنى : إذا
تقاتلت جماعتان من المسلمين ، فعلى ولي الأمر الإصلاح بينهما بالنصح والدعوة إلى
الله والإرشاد ، وإزالة الشبه ، ورفع أسباب الخلاف. والتعبير ب (إن) للدلالة على
ندرة الواقعة ، والخطاب لولاة الأمور ، ويفيد الوجوب. وهو يدل على أن المعصية ،
وإن عظمت ـ لا تخرج من الإيمان.
فإن اعتدت أو
تجاوزت إحدى الجماعتين على الأخرى ، ولم تتقبل النصيحة ، فعلى المسلمين أن يقاتلوا
الطائفة الباغية ، حتى ترجع إلى حكم الله وترك البغي ، ويكون القتال بالسلاح وغيره
، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة ، وهي الفيئة ، فإن تحقق
__________________
المطلوب سلما بغير
سلاح ، كان مسرفا في الزيادة ، وإن تعين السلاح ، فعل حتى الفيئة.
فإن رجعت الفئة
الباغية عن بغيها ، ورضيت بأمر الله وحكمه ، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين
الطائفتين في الحكم ، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ، ويأخذوا على يد الطائفة
الظالمة حتى تخرج من الظلم ، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى ، حتى لا يتجدد القتال
بينهما مرة أخرى ، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما ، إن الله يحب العادلين
ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور ، روى عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما ـ فيما أخرج ابن أبي حاتم والنسائي ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ ، بين يدي
الرحمن عزوجل ، بما أقسطوا في الدنيا».
ثم أمر الله
بالإصلاح في كل نزاع ، لأن الله جعل بين المؤمنين أخوة في الدين ، يجمعهم أصل واحد
، وهو الإيمان ، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين ، وقاعدة الإصلاح قائمة على
تقوى الله ، لذا أمر الله بعدئذ بالتقوى في هذا الإصلاح وفي كل أمر ، بأن يلتزم
الجميع بالحق والعدل ، والبعد عن الظلم ، ورقابة الله وخشيته ، فإن المتنازعين
إخوة في الدين ، والإسلام سوّى بين جميع المؤمنين ، لعلكم ترحمون أيها المتخاصمون
بسبب التقوى : وهي التزام الأوامر ، واجتناب النواهي ، وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) إنما المفيدة للحصر : تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين ،
لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه ، وهذا يدل على أن أخوة الدين أقوى وأمتن
وأخلد من أخوة النسب ، كما ذكر القرطبي وغيره.
وليست الفئة
الباغية كافرة ، قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمشركون هم أهل صفّين والجمل؟
قال : لا ، من الشرك فرّوا ، قيل : أفمنافقون؟ قال : لا ، لأن المنافقين لا يذكرون
الله إلا قليلا. قيل : فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا.
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «حكم الله تعالى في الفئة الباغية ألا يجهز على جريح ،
ولا يطلب هارب ، ولا يقتل أسير» .
ولا ضمان في أثناء
القتال بين الفئتين المتحاربتين ، فإذا لم يقع قتال ، نفّذت الأحكام العادية
العامة ، فيجب القصاص من القاتل عمدا ، وتجب الدية في القتل الخطأ ، والكفارة.
إن تحكيم كتاب
الله والرضا بما فيه ، وإفهام المتأولين خطأ تأويلهم هو قاعدة حل المنازعات
الداخلية في الإسلام ، ولو طبقت هذه القاعدة لما وجدنا اقتتالا قائما بين
المسلمين.
الآداب الاجتماعية ووحدة الشعوب في الإنسانية
الدين رباط جامع
بين العقيدة والعبادة ، والمعاملة ، والأخلاق أو الآداب ، وليست الآداب مجرد صفات
ترفيه أو كمالية في الإسلام ، وإنما هي من صلب الدين ، يحكمها مبدأ الحلال والحرام
، والثواب والعقاب ، والرضا والسخط ، خلافا لما يظن بعض الناس خطأ أن الأخلاق صفة
كمالية لا تخضع للحساب والعقاب ، ومن المعلوم أن تقدم المجتمعات ورقيها إنما يكون
بالأخلاق السوية والآداب العالية ، لذا كانت سورة الحجرات كلها في الأخلاق
والمبادئ الاجتماعية والإنسانية ، ومنها هذه الآيات :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ
__________________
بَعْدَ
الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ
اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))
[الحجرات : ٤٩ /
١١ ـ ١٣].
ينهى الله تعالى
عن السخرية واحتقار الناس ، والنهي يفيد التحريم ، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله
، لا يهزأ رجال من آخرين ، فربما كان المهزوء به عند الله خيرا من المستهزئ أو
الساخر ، ولا تهزأ نساء من نساء أخريات ، فلربما كانت المهزوء بها أفضل وأكرم عند
الله من المستهزئة ، ولا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة ، ولا
تتداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها ، ساء الوصف الذي يوصف به الرجل : وهو
الفسق والفجور ، بعد اتصافه بالإيمان ، فالإيمان فضيلة زاجرة عن ضده وهو الفسق
والكفر ، ومن لم يتب عما نهى الله عنه من هذه الأوصاف الثلاثة (وهي السخرية ،
واللمز أو التعييب ، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين أنفسهم وغيرهم ، لأن
الإصرار على المنهي عنه كفر وظلم.
قال الضحاك : نزلت
في وفد بني تميم الذين نزلت الآية الأولى من سورة الحجرات فيهم ، استهزءوا بفقراء
الصحابة ، مثل عمار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة
وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وآية (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) نزلت كما قال ابن عباس في صفية بنت حييّ بن
__________________
أخطب ، أتت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن النساء يعيّرنني ، ويقلن لي :
يا يهودية بنت يهوديين!! فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هلا قلت : إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد»
فأنزل الله هذه الآية.
وآية (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) نزلت ـ كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن
الضحاك ـ قال : كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة ، فيدعى ببعضها ، فعسى أن
يكرهه ، فنزلت : (وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ).
ثم أمر الله
باجتناب سوء الظن ، وحرمه ، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله ، ابتعدوا عن كثير من
الظن ، فبعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير موقع في الإثم ، لنهي الله عنه ، وكل
رشيد يحترس من سوء الظن ويسد ذرائعه ، ثم نهى الله عن التجسس ، فلا تبحثوا عن
عورات المسلمين ومعايبهم ، وتذيعوا أسرارهم ومثالبهم ، والتجسس : البحث عما هو
مكتوم ، من العيوب. والتحسس : البحث عن الأخبار ، والاستماع لحديث القوم وهم له
كارهون ، ثم حرم الله الغيبة : وهي ذكرك أخاك بما يكره ، فلا يذكر بعضكم بعضا في
غيبته بما يسيء إليه ، صراحة أو إشارة ، لما فيه من الأذى بالمغتاب ، وهو يتناول
كل ما يؤذي الآخرين ، سواء في الدين أو الدنيا ، في الخلق أو الخلق ، في المال أو
الولد أو الزوجة أو الخادمة أو اللباس ونحو ذلك.
وشبه الله تعالى
الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير ، وهو ما يكرهه كل إنسان ، وإذا كان يكرهه
، فالغيبة مثله ، فهي كأكل جثة الإنسان ، وهذا تنفير وتوبيخ وتقبيح شديد ، فضلا عن
كونه محرما شرعا ، أي إن الغيبة حرام شراعا ، وقبيحة عقلا وعرفا ودينا.
أخرج ابن المنذر
عن ابن جريح قال : زعموا أن آية (وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) نزلت في سلمان الفارسي ، أكل ثم رقد ، فذكر رجل أكله
ورقاده ، فنزلت.
وتجوز الغيبة عند
رفع الظلم وفي الشهادة والقضاء والاستشارة والتحذير من الفاسق ، ثم جاءت آية
الشعوب الإنسانية ، فيا أيها الناس ـ والنداء هنا بصفة الناس وما
قبلها بصفة الإيمان ـ لقد خلقناكم جميعا من أصل واحد ، ومن نفس واحدة ، من آدم
وحواء ، فأنتم متساوون ، لأن نسبكم واحد ، وأباكم واحد ، وأمكم واحدة ، فلا تفاخر
بالأنساب ، فالكل سواء ، وقد جعلناكم شعوبا (أمما كبيرة) وقبائل دونها للتعارف لا
للتناكر ، ولا للتفاخر بالأنساب ، إن أكرمكم وأفضلكم عند الله بالتقوى أو بعمل
صالح ، فدعوا التناكر والتفاخر ، إن الله عليم بكم وبأعمالكم ، خبير بأحوالكم
وأموركم.
أخرج الترمذي
والدارمي وأحمد عن أبي بكر : «قيل : يا رسول الله ، من خير الناس؟ قال : من طال
عمره ، وحسن عمله».
وحكى الزهراوي :
أن سبب نزول هذه الآية غضب الحارث بن هشام ، وعتّاب ابن أسيد ، حين أذن بلال يوم
فتح مكة على الكعبة.
الإيمان والإسلام
لا تنهض الأمة
كلها ولا ترتقي ، أو تسمو طفرة واحدة ، وإنما تحتاج لفترة زمنية أو تدرج زمني
لتشمل التربية جميع أفرادها وجماعاتها ، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في صدر
الإسلام ، لم يكن الجميع على المنهج الأفضل المطلوب ، وإنما هناك تفاوت ، فالذين
لازموا الرسول صلىاللهعليهوسلم استناروا بأدبه وأدب القرآن ، والذين بعدوا عنه ، لم
يتنوروا بعد بأخلاق الإسلام ، لذا بعد أن حرض القرآن على التقوى ، قالت
__________________
الأعراب (جماعة من
سكان البادية وهم بنو أسد) أول ما دخلوا في الإسلام : لنا النسب الشريف ، فلنا
الشرف ، فذمّهم الله تعالى ، وأوضح ضعف إيمانهم ، كما تصور الآيات الآتية :
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ
اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ (١٨))
[الحجرات : ٤٩ /
١٤ ـ ١٨].
آية (قالَتِ الْأَعْرابُ) نزلت ـ كما ذكر الواحدي عن مجاهد ـ في نفر من بني أسد ابن
خزيمة ، قدموا المدينة في سنة جدبة ، وأظهروا الشهادتين ، ولم يكونوا مؤمنين في
السرّ ، وكانوا يقولون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو
فلان ، فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
والمعنى : قال
جماعة من الأعراب سكان البادية ، وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام : صدقنا بالله
ورسوله وآمنا في قلوبنا ، فقال الله لهم : (لَمْ تُؤْمِنُوا) أي لم تصدقوا بقلوبكم ، ولكن قولوا : أسلمنا ، أي انقدنا
لك يا رسول الله ، واستسلمنا ،
__________________
وسالمناك فلا
نحاربك ، والإيمان بعد لم يدخل في قلوبكم ، والله كثير المغفرة لمن تاب وأناب
وأخلص العمل ، واسع الرحمة فلا يعذب بعد التوبة.
دلت الآية على أن
الإيمان : الذي هو التصديق بالقلب مع اطمئنان النفس أخص من الإسلام : الذي هو
الاستسلام والانقياد لله تعالى ، الذي يعصم أو يحقن الدم. ثم بيّن القرآن حقيقة
الإيمان ، إنما المؤمنون الإيمان الخالص : هم الذين صدقوا بالله ورسوله تصديقا
تاما في القلب ، وإقرارا باللسان ، ثم لم يشكوا ولم يترددوا في إيمانهم ، بل ثبتوا
على حال واحدة ، وهي التصديق المحض بالحق مع الاطمئنان النفسي ، والأمن الذاتي ،
وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد ، من أجل طاعة الله وابتغاء رضوانه ، قاصدين
بجهادهم وجه الله وإعلاء كلمته ودينه ، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم
الصادقون في إيمانهم.
ثم أمر الله تعالى
نبيه صلىاللهعليهوسلم بتوبيخهم وبيان حقيقة أمرهم بقوله : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي قل أيها الرسول لهم : أتخبرون الله بما في ضمائركم من
الدين ، أو بقولكم : (آمَنَّا) وهو يعلم منكم خلاف ذلك ، لأنه العليم بكل شيء في السماوات
والأرض وما بينهما ، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟
ثم ذكر الله
سبحانه أن إسلامهم لم يكن لله ، فإنهم يمتنون بإسلامهم ، أي يعدّون إسلامهم منّة
ونعمة عليك أيها النبي ، حيث قالوا : جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما
قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، أي إنا آمنّا بك ، واتّبعناك ولم نحاربك ، كما فعلت
محارب وحصفة وهوازن وغطفان وغيرهم ، فنزلت هذه الآية فيهم ، أي في بني أسد ، كما
حكى الطبري وغيره.
قل أيها النبي :
لا تعدّوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ، بل الله
يمتن عليكم ، حين وفقكم للإيمان ، بزعمكم إذ تقولون : آمنا ، فقد
لزمكم أن الله
تعالى مانّ عليكم إن صدقتم في ادعائكم الإيمان. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في
ادعائهم الإيمان.
ثم أكد الله تعالى
علمه بكل شيء بقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
..) أي إن الله تعالى عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء
السماوات والأرض ، ومن جملة ذلك : ما يسّره كل إنسان في نفسه ، والله مطلع على كل
شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم بالخير خيرا ، وبالشر شرا ، وهذه الآية تؤكد الإخبار
بعلم الله بجميع الكائنات ، وبصره بأعمال المخلوقات ، ليترسخ ذلك في الأذهان
ويستقر في أصائل القلوب.
لقد أوضحت هذه
الآيات : أن المؤمنين هم الذين يصدقون بقلوبهم أن الله تعالى هو الخالق والقادر
والعالم بكل شيء ، والرازق صاحب الفضل ، والذي لا أول له ولا نهاية ، وكل شيء هالك
إلا وجهه ، وهم يصدقون برسالة رسول الله وأنه خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ،
والمبلغ وحي ربه عليه ، وأنه عبد الله ورسوله إلى الناس جميعا ، لا إلى العرب خاصة
، ولم يشكّوا في شيء ، وإنما كان إيمانهم كالجبال الرواسي راسخا في القلب ، ويقينا
تاما لا يشوبه شيء ، وأنهم يجاهدون في سبيل الله جهادا بالنفس والمال.
وأما الإسلام :
فهو الإعلان باللسان عن أركانه ، من النطق بالشهادتين ، وتنفيذ واجباته ، من إقام
الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
تفسير سورة ق
إنكار البعث
تكرر الحديث في
القرآن المجيد عن إنكار المشركين البعث ، مستهجنين أن إعادة الرفات البالية التي
صارت ترابا مشتتا ، كيف يمكن إعادتها للحياة مرة أخرى ، وذلك بسبب فقد الإيمان ،
والجهل بقدرة الله الخارقة والشاملة لكل شيء ، وجاء الرد القرآني على هذا الإنكار
من نواح ثلاث : أولها : أن الله الذي خلقهم أول مرة قادر على إعادتهم ، والإعادة
أهون من البدء في مستوى عقل البشر ، وثانيها : أن الله الذي خلق السماوات والأرض
وما بينهما من المخلوقات قادر على خلق جديد. وثالثها : أن إنبات النبات والزرع
والشجر من التراب الميت في الظاهر ، وإحياء الأرض بالمطر ، مثل إحياء الإنسان
بقدرة الله ، وقدرة الله تعالى تتجاوز كل التصورات. وهذا ما دوّنته الآيات في مطلع
سورة (ق) الآتية ، وهي مكية بالإجماع وآيات سور كثيرة لإثبات الحشر ، قال الله
تعالى :
(ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ
الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ
(٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها
وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ
__________________
وَأَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
(٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً
لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))
[ق : ٥٠ / ١ ـ ١١].
افتتح الله السورة
بحرف (ق) للتنبيه لأهمية ما بعده ، وأكثر ما يأتي بعد الحروف
الأبجدية أو حروف المعجم الإشارة للقرآن ، لبيان الإعجاز القرآني وتحدي العرب
للإتيان بمثله ، ما دام متكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون.
ثم أقسم الله
تعالى بالقرآن الممجّد المعظم الرفيع الكثير البركة والخير ، أنك يا محمد جئتهم
منذرا بالبعث ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده : وهو إثبات النبوة والمعاد.
هؤلاء كفار قريش
تعجبوا لأن جاءهم رسول منهم ينذرهم بالبعث ، فقالوا : هذا شيء يدعو للعجب : وهو أن
ينذرهم رجل منهم ، معروف بالأمانة والصدق والعدل.
وشبهة تعجبهم :
أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض ، وصرنا ترابا منثورا ،
وعظاما بالية؟ ذلك البعث رجوع مستبعد عقلا ، لأنه في عقلهم المحدود والضعيف غير
ممكن وغير مألوف عادة. وقوله : (بَلْ عَجِبُوا) معناه قد عجبوا والضمير عند جمهور المتأولين : هو لجميع
الناس ، مؤمنهم وكافرهم. أما المؤمنون فنظروا واهتدوا ، وأما الكافرون فبقوا على
عمايتهم.
فرد الله تعالى
عليهم مبينا مدى قدرته على البعث وغيره ، بقوله : لقد علمنا علما متيقنا ما تنقص ،
أي تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى ، ولا يخفى علينا شيء
__________________
من ذلك ، وعندنا
كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها ، وهو اللوح المحفوظ. إنه
تعالى يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقي منه ، وأن ذلك في كتاب ، وكذلك يعود
في الحشر ، معلوما ذلك كله. والحفيظ : الجامع الذي لم يفته شيء.
وسبب كفرهم
وعنادهم : أن كفار قريش في الواقع كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم الثابتة بالمعجزات ، وكان تكذيبهم من غير ترو ، ولا تدبر
وتفكر ، وإنما بمجرد تبليغهم به من قبل هذا الرسول ، فهم في أمر مضطرب مختلط من
دينهم ، يقولون مرة عن القرآن والنبي : ساحر وسحر ، ومرة : شاعر وشعر ، ومرة :
كاهن وكهانة ، فهم في قلق واضطراب ، لا يدرون ماذا يفعلون.
ثم استدل الله
تعالى على قدرته العظيمة على البعث وغيره بدليل حسي مشاهد لهم : أفلم ينظر هؤلاء
الكفار نظرا واضحا إلى هذه السماء المخلوقة العجيبة ، فهي مرفوعة بلا عمد ، ومزينة
بالكواكب ، ومبنية بناء راسخا ، ليس فيها شقوق وصدوع وفتوق ، ثم ألم ينظروا أيضا
إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها ، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تضطرب بأهلها ،
وأنبتنا فيها من كل صنف نباتي ذي بهجة وجمال وحسن منظر.
فعلنا ذلك ليتبصّر
العباد والمنيبون الراجعون إلى ربهم وطاعته ، ويتفكروا في بدائع مخلوقاته ،
ويتذكروا هذه الأدلة ، وخص الله تعالى بالذكر العبد المنيب وأفرده تشريفا ، من حيث
إن هؤلاء العباد هم المنتفعون بالتبصرة والذكرى.
وكيفية الإنبات من
التراب التي يشبهها إعادة الخلق أو البعث والحشر : أن الله قال : لقد أنزلنا من
السحاب المطر الكثير النفع ، المنبت كل شيء من الأشجار في البساتين ، ومن الحبوب
التي تحصد كالقمح والشعير ونحوهما. وأنبتنا أيضا به النخيل الجميل الطويل الشاهق
في السماء ، والتي لها طلع (أول ما يخرج من ثمر النخيل)
منضّد متراكم بعضه
فوق بعض ، ليكون مصدر رزق وقوت للعباد ، وأحيينا بالمطر كل أرض أو بلدة ميتة لا
حراك فيها ، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء.
وهذه الآيات كلها
إنما هي أمثلة وأدلة على البعث. والخروج : هو الخروج من القبور.
سيرة المكذبين الأول وتدوين أقوال الإنسان
ذكّر الله تعالى
بما صدر عن الأمم السابقة من تكذيب الأنبياء ، مثل قول نوح وأصحاب الرّس (البئر
العظيمة باليمامة) وثمود ، وعاد ، وفرعون ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة (الغيضة
الكثيفة قوم شعيب) وقوم تبّع (الملك الحميري باليمن) وذكّر المولى عزوجل بأنه يعلم كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال ووساوس
النفس ، وأخبر بتسجيل الملكين عن اليمين وعن الشمال كل قول أو فعل للإنسان ، كما
تصوّر الآيات الآتية :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ
لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ
مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧)
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨))
[ق : ٥٠ / ١٢ ـ ١٨].
__________________
هدّد الله كفار
قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم ، الذين كذّبوا الرسل ،
فعذبهم بالطوفان كقوم نوح عليهالسلام ، أو بالغرق في البحر كفرعون وقومه ، أو بريح شديد عاتية
كعاد قوم هود عليهالسلام ، أو بالريح الحصباء وخسف الأرض ، كقوم لوط عليهالسلام ، أو بالصيحة الواحدة من جبريل عليهالسلام : وهم ثمود قوم صالح عليهالسلام ، وأهل مدين قوم شعيب ، وأصحاب الرسّ باليمامة ، وأصحاب
الأيكة ، قوم شعيب عليهالسلام ، أو بخسف الأرض وهو قارون وأصحابه ، أو بالإحراق بالنار
وهم حمير قوم تبّع ، وتبّع : اسم لكل من ملك حمير باليمن ، مثل كسرى في الفرس ،
وقيصر في الروم.
كل هؤلاء كذبوا
رسلهم الذين أرسلوا إليهم ، فوجب عليهم الوعيد ، وحقت عليهم كلمة العذاب على التكذيب.
وكان تبّع (أسعد
أبو كرب) أحد التبابعة رجلا صالحا ، صحب حبرين ، فتعلّم منهما دين موسى عليهالسلام ، فأنكر قومه عليه ذلك ، فندبهم إلى محاجّة الحبرين ،
فوقعت بينهما محاجّة عظيمة ، واتفقوا على أن يدخل جميعهم النار التي في القربان ،
فمن أكلته النار فهو المبطل ، فدخلوا فاحترق قوم تبّع ، وخرج الحبران تعرق جباههما
، فهلك القوم المخالفون ، وآمن سائر قوم تبّع بدين الحبرين . وذكر الطبري عن سهل بن سعد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان قد أسلم».
والدليل على إمكان
البعث : أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول (بدء الخلق) حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا ،
فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟ بل هم في
__________________
الواقع في شك
وحيرة من خلق مبتدأ جديد أو مستأنف بين مصدق ومكذب ، وهو بعث الأموات من القبور.
وكما أن قدرة الله
على البعث وغيره تامة ، علم الله شامل ، وتالله لقد أوجدنا الإنسان (اسم جنس)
ونعلم بجميع أموره ، ونحن أقرب إليه من حبل وريده ، فكيف يخفى علينا شيء مما في
قلبه؟ إن الله تعالى يعلم كل ما يصدر عن الإنسان ، حتى ما يجول في خاطره ، وحتى
حديث النفس ، وإن كان لا عقاب على حديث النفس ، لما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي
هريرة : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل
به».
وقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) عبارة عن قدرة الله تعالى على العبد ، وكون العبد في قبضة
القدرة والعلم ، قد أحيط به. والآية حجة على منكري البعث والجزاء ، والله تعالى
وكل بكل إنسان ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله ، إحقاقا للحق وإقامة العدل ،
وإلزاما للحجة.
والله أقرب شيء
للإنسان حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به ، فيأخذان ذلك
ويثبّتانه ، عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، والقعيد : من يقعد معك ، فملك
اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئات.
ويحتمل أن يكون
العامل في قوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى) فعلا مضمرا تقديره : اذكر إذ يتلقى. والمتلقيان : الملكان الموكلان
بكل إنسان.
والقرب المراد في
الآية : بالقدرة والملك. ويكون هناك إخبارات متوالية : الإخبار بعلم ما في نفس
الإنسان ، والإخبار بتدوين الملكين ما يصدر عن الإنسان ، ثم خبر مجيء سكرة الموت ،
والنفخ في الصور ، ومجيء كل نفس معها السائق والشهيد (أي ملكان أحدهما يسوقه إلى
المحشر والآخر يشهد عليه).
قال الحسن البصري
: الحفظة (من الملائكة) أربعة : اثنان بالنهار ، واثنان بالليل ، ويؤيد ذلك الحديث
الذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ،
ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم وهو
أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، فيقولون : تركناهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون».
ويروى أن ملك
اليمين الذي يكتب الحسنات أمير على ملك الشمال ، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك
اليمين للآخر : تثبّت لعله يتوب.
سكرة الموت وأحوال العذاب الأخروي
الانتقال عن عالم
الدنيا يكتنفه مصاعب وأهوال ومخاطر كثيرة ، أولها سكرات الموت : وهي ما يعتري
الإنسان عند نزعه ، والناس فيها مختلفة أحوالهم ، لكن لكل واحد سكرة ، وكان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول ـ فيما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه
وابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها : «.. لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات».
ثم يعقب ذلك أهوال
، منها : نفخ الصور ، ومجيء كل نفس معها سائق يسوقها إلى المحشر وآخر يشهد عليها ،
وعند الوقوف بين يدي الرحمن للحساب ومعاينة الحقائق يكشف الغطاء عن الإنسان ، فيرى
ببصيرته أو بصر عينه ما غفل عنه في الدنيا ، ويقوم الحوار بين الكافر وقرينه
الشيطان يوم القيامة ، ويكون القرار الحاسم إما بالزج في جهنم وإما بدخول الجنة ،
وهذا ما تذكره الآيات الآتية :
(وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
(٢٠)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ
مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ
قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ
مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما
يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))
[ق : ٥٠ / ١٩ ـ ٣٥].
أيها الإنسان ،
جاءتك في نهاية العمر شدة الموت وغمرته التي تغشى الإنسان ، وتبين لك بالموت الحق
يقينا ، والمراد بقوله : (بِالْحَقِ) بلقاء الله تعالى وفقد الحياة الدنيا ، ذلك الموت الذي كنت
تميل عنه وتفر منه.
ونفخ في الصور
نفخة البعث ، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد الله به
الكفار بعذاب الآخرة.
وأتت كل نفس من
البشر ، بالبدن والروح ، معها ملك يسوقها إلى المحشر ، وملك يشهد عليها أو لها
بالأعمال من خير أو شر.
ويقال للإنسان
الكافر أو كل واحد بر أو فاجر حينئذ في المحشر : لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا
المصير أو هذا اليوم ، فرفعنا عنك حجاب الغفلة والانهماك في لذائذ الدنيا ، فاحتدت
بصيرتك أو بصر العين ، فصرت ترى ميزانك وغير ذلك من أهوال القيامة ، وأدركت ما
أنكرته في الدنيا.
__________________
ويقدّم القرين
السائق للإنسان : وهو الملك الموكل به أو قرينة من ربانية جهنم : هذا ما عندي مهيأ
معدّ لجهنم ، أو هذا العذاب الذي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد ، أو هذا الذي
أحصيته من الأعمال عتيد لدي ، وموجب عذابه.
وقال الزهراوي :
قرينه : شيطانه ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف. والواقع أن القرين
في الآيتين مختلف. فالقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) إذ المقارنة تكون على أنواع.
ويقول الله تعالى
للسائق والشهيد : اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر ، كثير
المنع للخير كالزكاة ، معتد ظالم بالأذى والفحش ، شاكّ في الله وفي أخباره ، الذي
جعل مع الله شريكا إلها آخر ، فألقياه في النار ذات العذاب الشديد. ويحدث حوار بين
الكافر وقرينه الشيطان الذي كان معه في الدنيا ، فيقول : القرين الشيطان عن الكافر
المقارن له ، والمتبرئ منه : يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان ، بل كان هو
في نفسه ضالا ، مؤثرا الباطل ، معاندا للحق ، فدعوته فاستجاب لي ، فهو الذي كان في
ضلال بعيد الغور ، يستحق معه هذا العقاب.
قال الله عزوجل للكافر وقرينه الشيطان : لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في
موقف الحساب ، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بوعيدي وإنذاري ولقد قضيت ما أنا قاض ،
ولا يغير حكمي وقضائي ، ولا خلف لوعدي ، بل هو كائن لا محالة ، ولست بظالم أحدا
بغير جرم اقترفه أو ذنب ارتكبه ، بعد قيام الحجة.
والعذاب قائم ،
فاذكر أيها الرسول لقومك حين يقول الله لجهنم : هل امتلأت ، من الإنس والجن ، فتنطق
قائلة : هل من زيادة تزيدونني بها؟ غيظا على العصاة. وهذا حقيقة في الراجح ، وأنها
قالت ذلك وهي غير ملأى. والنعيم محقق ، حيث قربت الجنّة ، لأهل التقوى تقريبا غير
بعيد ، أو في مكان غير بعيد ، بل هي بمرأى منهم.
وتقول الملائكة
للمنعّمين : هذا النعيم الذي ترونه من الجنة : هو ما وعدتم به في كتب ربكم ، وعلى
ألسنة رسله المرسلين إليكم ، وهذا الثواب لكل رجّاع إلى الله تعالى وطاعته بالتوبة
عن المعصية وترك الذنب الحافظ لحدود الله ، ذلك المحافظ على الحدود فلا يقربها :
هو من خاف الله ولم يكن رآه ، وجاء بقلب خاشع مخلص في طاعة الله ، سليم من أي شبهة
أو شك.
ويقال لهم أيضا :
ادخلوا الجنة سالمين من العذاب ، ومن زوال النعم ، ومن كل المخاوف ، ذلك هو يوم
الخلود الدائم أبدا. لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر ما يريدون من الجنة وتشتهيه
أنفسهم ، ولدينا زيادة من النعم لم تخطر لهم على بال.
إثبات البعث وتهديد منكريه
أنذر الله تعالى
منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة ، ثم هددهم وأنذرهم بعذاب الدنيا المدمر ،
وبين الإنذارين تبيان حال المتقين في الجنة ، للجمع بين الترغيب والترهيب ،
والإهلاك عظة وتذكير.
ثم أكد الله تعالى
دليل إمكان البعث بخلق السماوات والأرض وما بينهما ، وأمر رسوله بالصبر على ما
يقولون من إنكار البعث ، وبتنزيه الله عن كل نقص ، فقد اقترب يوم البعث ، وسمع صوت
الداعي إليه ، والله وحده هو المحيي والمميت ، وإليه المصير ، وهو سبحانه الأعلم
بما يقول المشركون في البعث ، وما عليك أيها النبي إلا متابعة مهمتك في الإنذار ،
والتذكير بالقرآن كلّ من يخاف وعيد الله وعقابه ، كما تذكر هذه الآيات :
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ
(٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ
يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ
عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ (٤٥))
[ق : ٥٠ / ٣٦ ـ ٤٥].
كثيرا ما أهلكنا
قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم ، كانوا أكثر منهم ، وأشد قوة ، وآثارا في
الأرض ، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم ، وقد فتشوا وبحثوا في البلاد ، هل لهم من
مفر أو مهرب يهربون إليه؟ وهل نفعهم ما جمعوا من أموال؟
إن فيما ذكر من
قصة هؤلاء الأمم ، وما ذكر في هذه السورة من المواعظ والعبر ، لتذكرة وموعظة وعبرة
لمن يعتبر بها ، من كل ذي عقل واع ، أو أصغى سمعه لفهم الحقائق ، وهو شهيد ، أي
حاضر بروحه وعقله لا بجسده فقط.
ودليل إمكان البعث
: تالله لقد أبدعنا من غير مثال سابق خلق السماوات والأرض وما بينهما من عجائب
المخلوقات ، في ستة أيام ، وما أصابنا إعياء ولا تعب ، فالقادر على خلقها قادر خلق
البشر مرة أخرى. والله قادر على خلقهما في لحظة واحدة.
نزلت ردا على
اليهود الذين قالوا : إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ، ثم
__________________
استراح يوم السبت
، فنزلت : (وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ) أي تعب وإعياء. وتظاهرت الأحاديث بأن بدء خلق الأشياء كان يوم
الأحد ، وعند مسلم وفي الدلائل للبيهقي : أن ذلك كان يوم السبت. وأجمعوا على أن
آدم عليهالسلام خلق يوم الجمعة.
ثم أمر الله نبيه
بأوامر في مواجهة منكري البعث : وهي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون
المكذبون بالبعث ، وعلى ما يقوله بعض أهل الكتاب : ثم استراح يوم السبت. ونزّه
الله دائما عن كل عجز ونقص ، مقرونا التسبيح بالحمد دائما ، قائلا : سبحان الله
وبحمده ، وقت الفجر ووقت العصر ، وبعض الليل ، وفي أعقاب (أدبار) الصلوات. والمراد
بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس : صلاة الفجر ، وقبل الغروب : صلاة الظهر والعصر
، ومن الليل : العشاءان ، وأدبار السجود : النوافل بعد الفرائض. وقوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة ، وذلك يشمل جميع
الأقوال الزائفة من قريش وغيرهم.
واستمع ، أي انتظر
أيها الرسول صيحة القيامة : وهي النفخة الثانية في صور إسرافيل عليهالسلام ، يوم ينادي نداء يسمعه جميع أهل المحشر قائلا : هلموا إلى
الحساب ، فيخرجون من قبورهم. وقوله : (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلائق.
وصيحة البعث كائنة
حقا ، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على
الأعمال ، وذلك يوم الخروج من القبور. إننا وحدنا نحن الإله نحيي الموتى في الدنيا
والآخرة ، ونميت الأحياء في الدنيا حين انقضاء الآجال ،
__________________
وإلينا المرجع في
الآخرة للحساب والجزاء ، فنجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
وإلينا مصير
الخلائق وقت أن تتصدع الأرض عنهم ، فيخرجون من القبور ، ويساقون إلى المحشر ،
مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم ، ذلك حشر ، أي جمع هين علينا ، لا مشقة فيه ولا
عسر.
ثم هدد الله تعالى
المشركين بقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ ..) أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون ، من تكذيب
رسالتك أيها النبي ، ومن إنكار البعث والتوحيد ، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم
ويقسرهم على الإيمان ، إنما أنت مبلّغ. قال قتادة : نهى الله تعالى عن التجبر ،
وما أنت عليهم بمتعظّم ، من الجبروت.
فذكّر أيها الرسول
بهذا القرآن العظيم ، وبلّغ أنت رسالة ربك ، فإنما يتذكر به من يخاف الله ويخشى
وعيده للعصاة بالعذاب ، ويرجو وعده وفضله ورحمته ، وأما من عداهم فلا تأبه بهم.
روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما : أن المؤمنين قالوا : يا رسول الله ، لو خوّفتنا ، فنزلت : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ).
تفسير سورة الذاريات
وقوع البعث وحال الكفرة وعذابهم
تابع الحق تبارك
وتعالى الكلام عن إثبات البعث والرد على منكريه من المشركين في سورة الذاريات
المكية بعد سورة ق ، وكلتا السورتين في هذا الموضوع ، مع بيان بعض أحوال البعث بين
المؤمنين والكافرين في السورة الأولى ، والتنبيه على أحداث الأمم السابقة مع
أنبيائهم في السورتين ، والانتهاء إلى تقرير التوحيد وهدم الشرك ، وخطأ موقف الناس
من الحياة ، وغلبة الطبيعة على المصلحة الحقيقية في المستقبل. وكان مطلع سورة
الذاريات قسما من الرب تعالى على صدق البعث ووجوده ، كما في هذه الآيات :
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣)
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ
لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ
(٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ
فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))
[الذاريات : ٥١ /
١ ـ ١٤].
__________________
أقسم الله تعالى
لتأكيد قضية الإيمان بالبعث : بهذه المخلوقات ، وللتنبيه عليها ، والتشريف لها ،
والاعتبار بها ، حتى يتوصل الناظر فيها إلى التوحيد ، فقال : أقسم لإثبات الحشر
بالرياح التي تذرو التراب وغيره وتفرقه ، وبالسحب الحاملة الماء الثقيل ، وبالسفن
الجارية بيسر وسهولة فوق الماء ، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار والآجال
بين المخلوقات ، بأن الموعود به من الحشر إلى الله تعالى ، ووقوع المعاد ، صادق
واقع ، وأن الجزاء بالثواب والعقاب قائم فعلا حتما. والحاجة إلى هذا القسم :
الاعلام بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم ، وجريا مع اعتقاد العرب أن الإيمان الكاذبة تذر الديار
بلاقع (خرائب) وتضر صاحبها ، فالحلف لزرع الثقة التامة ، وبخاصة أنهم يعلمون أن
محمدا صلىاللهعليهوسلم لا يحلف كاذبا.
والسماء ذات
الطرائق والممرات ، أو ذات الخلق السوي القوي ، إنكم يا جماعة قريش مختلفو الأقوال
، مضطربو الكلام ، فمرة تقولون في القرآن والرسول : شعر وشاعر ، وأحيانا سحر وساحر
، وتارة كهانة وكاهن أو مجنون. وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به وبرسوله وعن
الخير إلى الشر ، من صرف في علم الله تعالى.
قبح أو لعن
الكذابون أصحاب القول المختلف ، المرتابون في وعد الله ووعيده ، الذين هم في جهالة
تغمرهم ، وغفلة في الكفر تخيم عليهم ، والغمرة : كل ما ستر الشيء وغطّاه.
يسألك المشركون
تكذيبا وعنادا واستهزاء قائلين : متى يوم الجزاء؟ فقل لهم : إنه يوم يعذب الكفار
ويحرقون في نار جهنم. وقوله : (يُفْتَنُونَ) بمعنى يحرقون ويعذبون في النار ، يقال : فتنت الذهب :
أحرقته لتختبره ، وقوله (يَوْمَ هُمْ) منصوب على الظرف من مقدّر ، تقديره : هو كائن يوم هم على
النار ، أو نحو هذا ، كما قال الزجاج.
وتقول لهم خزنة
النار : ذوقوا عذابكم أو حريقكم ، هذا العذاب الذي كنتم
تستعجلون أو
تطلبون تعجيله ، استهزاء منكم ، وظنا أنه غير كائن ، واستعجالهم هو قولهم : (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب
منهم.
يفهم من هذه
الآيات أن وقوع البعث أمر مقطوع به ، ولو لا التأكيد عليه ، لما أقسم الله بهذه
المخلوقات ، والقسم عليها بغير بدئها بالحروف الأبجدية هو الظاهرة الشائعة في
القرآن لإثبات أصول العقيدة : وهي التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، فسورة الصافات
مثلا أقسم الله فيها لإثبات توحيد الذات الإلهية ، فقال : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٤) [الصافات : ٣٧
/ ٤]. وسورة النجم والضحى ، أقسم الله فيها على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فقال : (وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) [النجم : ٥٣ /
١ ـ ٢]. وقال : (وَالضُّحى (١)
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣) [الضحى : ٩٣ /
١ ـ ٣]. وبقية السور كان المقسم عليه كما في الذاريات هو البعث والجزاء.
ويلاحظ أيضا أن
الله تعالى أقسم بجموع المؤنث السالم في سور خمس ، ففي سورة (الصافات) لإثبات الوحدانية
أقسم الله بالساكنات ، وفي بقية السور ، أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر ، فقال : «والذاريات»
«والمرسلات» «والنازعات» «والعاديات» لأن في الحشر جمعا وتفريقا ، وهو يناسب
الحركة.
وتعجل العرب
المشركين العذاب ، وإصرارهم على كفرهم : هو الذي جعلهم يسألون استهزاء وشكا في
القيامة وعنادا ، متى يوم الحساب؟ فكان جواب الخالق : إنه اليوم الذي تحرقون فيه
في نار جهنم ، وضم إليه التوبيخ والتهكم بهم قائلا منه أو من طريق الخزنة : ذوقوا
عذابكم وجزاء تكذيبكم ، ذلك العذاب الذي استعجلتم به في الدنيا.
حال المتقين ونعيمهم
في آيات سابقة في
سورة الذاريات ذكر الله تعالى حال الكفرة ، وما يلقون من عذاب الله تعالى ، ثم
أعقب ذلك بيان حال المتقين ، وما يلقون من النعيم في الآيات الآتية ، ليبين الفرق
ويتبع الناس طريق الهدى. وهذا لون بياني رائع للمقارنة أو الموازنة ، فيظهر الحق
من الباطل ، قال الله تعالى :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ
(١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ
(٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ (٢٣) [الذاريات : ٥١ /
١٥ ـ ٢٣].
إن الذين اتقوا
ربهم بالتزام أوامره واجتناب نواهيه باتقاء الكفر والمعاصي ، هم في الآخرة في جنات
(بساتين) فيها عيون جارية ، آخذين في دنياهم ما آتاهم ربهم من أوامره ونواهيه
وفرائضه وشرعه.
إنهم كانوا في
الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة ، يراقبون الله تعالى فيها ، كما جاء في آية
أخرى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤) [الحاقة : ٦٩
/ ٢٤].
ومن إحسانهم في
العمل : أنهم كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل ، ويصلون أكثره ، أي إن نومهم كان
قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة ، من كل ليلة.
وقوله : (ما يَهْجَعُونَ) ما عند جمهور النحويين : مصدرية ، و (قَلِيلاً) خبر كان ، والمعنى : كانوا قليلا من الليل هجوعهم ،
والهجوع فاعل (قليلا).
__________________
وكانوا في الجزء
الأخير من الليل يطلبون من الله تعالى المغفرة ، قائلين : اللهم اغفر لنا وارحمنا
، أي إنهم كانوا يحيون أكثر الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ،
كأنّهم باتوا في معصية.
وجعلوا في أموالهم
جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين ، على سبيل البر والصلة ، والسائل : هو
الفقير الذي يسأل. والمحروم : هو الذي حرم المال ويتعفف عن السؤال. وهذا الجزء
الذي جعلوه للفقراء : هو على وجه الندب ، لا على وجه الفرض ، ومعلوم : يراد به
متعارف. وكذلك قيام الليل الذي مدحوا به ليس من الفرائض ، وأكثر ما تقع الفضيلة
بفعل المندوبات.
أخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث سرية ، فأصابوا وغنموا ، فجاء قوم بعد ما فرغوا ـ لم
يشهدوا الغنيمة ـ فنزلت الآية : (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩).
وبعد هذا البيان ،
يوجد كلام مقدّر تقديره. فكونوا مثلهم أيها الناس ، وعلى طريقتهم ، فإن النظر
المؤدي لهذا التقدير له وجه جيد.
ثم ذكر الله تعالى
بعض الأدلة على قدرته الدالة على وقوع الحشر ، فقال : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠) أي وفي معالم
الأرض من جبال ووديان وقفار ومعادن ، وعيون وأنهار وبحار ، وأنواع مختلفة من
النبات والحيوان والناس ، مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، وقدراتهم الفكرية والجسدية
وغير ذلك ، من عجائب الصنع الإلهي ، في ذلك دلائل واضحة ، وعلامات ظاهرة على عظمة
الخالق وقدرته الباهرة ، للذين يوقنون بالله تعالى ، لأنهم الذين يعترفون بذلك ،
ويتدبرون فيه ، فينتفعون به.
ومن أدلة قدرة
الله وتوحيده : خلق النفوس البشرية ، أفلا تنظرون نظرة متأمل
معتبر ، ناظر بعين
البصيرة. ففي تركيب الجسم بأجهزته المختلفة من جهاز هضم ودم وتنفس ، وإحساس في
الأعصاب ولمس وذوق ، وفي تركيب الدماغ وما يشتمل عليه من عشرات ملايين الخلايا ،
في ذلك دلالة على الخالق المبدع. والله ضامن الرزق لعباده ، ففي السماء تقدير
الأرزاق وتعيينها ، وفيها ما توعدون من خير وشر ، وجنة ونار ، وثواب وعقاب ، ففي
السحاب (السماء) المطر ، وفي السماء عوامل الرزق من شمس وقمر وكواكب ومطالع ومغارب
تختلف بها الفصول ، ويكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء
المطر ، وتسوقها الرياح ، وتغذيها الشمس بحرارتها ، ويمنحها ضوء القمر قوة ونموا.
ثم أقسم الله
تعالى على أحقية البعث وضمان الرزق فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) أي فو رب
العزة والجلال إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات ، وما وعدتكم به من أمر القيامة
والبعث والجزاء ، وتيسير الرزق وضمانه : حق لا مرية فيه ، كائن لا محالة ، فلا
تشكّوا فيه ، كما لا تشكّوا في نطقكم وتيسيره حين نطقكم ، فهو كمثل نطقكم ، شبّه
هذا القول والخبر في التيقن به بالنطق من الإنسان ، وهو في غاية الوضوح ، ولا لبس
فيه ، خلافا للرؤية والسمع ، قد يقع فيهما اللّبس.
قصة ضيف إبراهيم عليهالسلام
تكررت قصة إبراهيم
الخليل في القرآن بمناسبات مختلفة لكونه شيخ المرسلين ، ولأنها ذات موضوعات متنوعة
، منها حوارة من غير معرفة مع الملائكة الضيوف الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط ،
حتى ينزجر كفار قريش وأمثالهم ما دام هذا القرآن يتلى ، وتبين من القصة : مدى كرم
إبراهيم ، وبشارته من الملائكة بغلام هو
إسحاق بن سارة ،
في حال الشيخوخة وعقم امرأته. كما تبين أيضا مدى تأثير العذاب بالحجارة الشديدة
الأذى ، وإنجاء لوط عليهالسلام وأهله إلا امرأته ، وذلك في الآيات التالية :
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً
قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ
عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
(٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا
إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))
[الذاريات : ٥١ /
٢٤ ـ ٣٧].
هل بلغك أيها
النبي وكل مخاطب قصة إبراهيم عليهالسلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله تعالى ، الذين جاءوه
بصورة بني آدم ، في طريقهم إلى قوم لوط ، فحين دخلوا عليه سلموا بقولهم : سلاما ،
أي نسلم عليك سلاما ، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات : سلام عليكم ،
إنكم قوم لا أعرفكم ، فمن أنتم؟
فذهب إبراهيم عليهالسلام خفية من ضيوفه ، في سرعة ، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا على
الحجارة المحماة ، فقال بعد دعوتهم للأكل بتلطف وأدب : (أَلا تَأْكُلُونَ).
فلما أعرضوا عن
الأكل ، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، أحسّ في نفسه
__________________
خوفا منهم ، على
عادة الناس أن الامتناع عن الطعام يبيّت شرا ، وأن تناول الطعام أمان للمضيف ،
ودليل على سرور الضيف ، فظن إبراهيم عليهالسلام أنهم جاؤوا للشر ، لا للخير ، فقالوا له : إننا ملائكة رسل
من الله تعالى ، وبشروه بغلام يولد له ، بالغ العلم : وهو إسحاق عليهالسلام في رأي الجمهور ، فأقبلت امرأته سارّة ، لما سمعت بشارتهم
، صائحة صارخة ، وضربت وجهها بيدها ، كعادة النساء عند التعجب ، وقالت : كيف ألد ،
وأنا كبيرة السن ، وعقيم لا تلد ، حتى في عهد الشباب؟!
قالت الملائكة :
مثلما قلنا لك قال ربك ، فلا تشكّي في ذلك ، ولا تعجبي منه ، فنحن رسل الله ،
والله على كل شيء قدير ، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله ، العليم بما تستحقونه من
الكرامة وبكل شيء في الكون ، وكان هذا الحوار مع كل من إبراهيم عليهالسلام ، وزوجته سارّة.
ثم سألهم إبراهيم عليهالسلام قائلا : فما شأنكم الخطير ، وأمركم المبهم؟ وكأنه يقول :
ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط عليهالسلام ، بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين ، والمجرم : فاعل
الجرائم : وهي صفات المعاصي من كفر ونحوه ، لنهلكهم بحجارة من طين متحجر ، مطبوخ
بالنار ، كالآجرّ ، معلّمة بعلامتها من السماء ، تعرف بها ، كالخواتيم ، على كل
حجر اسم المضروب به ، كما قيل ، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة ،
المجاوزين الحد في الفجور.
ولم يكن هذا
العذاب عشوائيا يصيب الجميع ، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين ، فلما أردنا
إهلاك قوم لوط ، أخرجنا من كان في تلك القرية المؤمنين برسالة لوط عليهالسلام ، تنحية لهم من العذاب ، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم
وجهه لله تعالى ،
وانقاد لأوامره ،
واجتنب نواهيه ، وهو بيت لوط بن هاران بن تارح ابن أخي إبراهيم عليهالسلام ، آمن أي لوط برسالة عمه إبراهيم ، وتبعه في رحلاته إلى
مصر ، ثم تركه عن تراض ، ونزل إلى سدوم في الأردن. وكان المؤمنون الناجون ثلاثة
عشر ، هم لوط وأهل بيته إلا امرأته.
وقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) و (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لا تغاير هنا بينهما ، لأن أسرة لوط كانوا قوما مؤمنين
ومسلمين ، والمقرر عند أهل السنة : أن الإيمان أخص من الإسلام ، فكل مؤمن مسلم ولا
ينعكس ، فاتفق الوصفان هنا ، لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال. ودليل
التفرقة بين الإيمان والإسلام قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ٤٩ /
١٤].
والعبرة من قصة
قوم لوط : ما أخبر الله تعالى عنه : لقد أبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من
يخاف عذاب الله ويخشاه ، وهم المؤمنون ، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم ، فإنها ما
تزال ظاهرة بينة ، وأثرا باقيا مؤرخا لا يفنى ذكره. فهو آية (علامة) على قدرة الله
تعالى ، وانتقامه من الكفرة.
تدمير قوم نوح وفرعون وعاد وثمود
لقد طوى الله عزوجل وجود أقوام غابرين من التاريخ ، فاستأصلهم ولم يبق أحدا
منهم ، وهم قوم نوح وفرعون ولوط وعاد وثمود ، وإنما ترك بعض آثارهم للعبرة والعظة
، مع بيان جرائمهم ومعاصيهم التي ارتكبوها ، لمعرفة أن العذاب أو الجزاء قائم على
مبدأ الحق والعدل ، فلا ظلم ولا تجاوز فيه ، وإنما التجاوز لحدود الله ، وتكذيب
رسله : كان هو السبب المباشر ، ومناط العقاب ، مما يثير التفكير ويبعث على التأمل
لتفادي الموبقات ، وهذا ما دونته الآيات الآتية هنا بإيجاز :
(وَفِي مُوسى إِذْ
أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ
وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
(٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ
نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))
[الذاريات : ٥١ /
٣٨ ـ ٤٦].
لقد جعلنا في قصة
موسى عليهالسلام آية وعبرة ، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا
ونذيرا ، بحجة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وغيرهما.
فأعرض استكبارا
ونأى أو تولى بجانبه تفاخرا بجنده ، وقال محقّرا شأن موسى : هو إما ساحر أو مجنون
، فكان جزاؤه : أنّا أخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر فألقيناهم في البحر ، وفرعون
آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية.
وجعلنا أيضا في قصة
عاد عظة وعبرة ، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية ، لا خير فيها ولا بركة ، لا
تلقح شجرا ، ولا تحمل مطرا ، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب ، فلا تترك شيئا مرّت
عليه من النفوس والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
وجعلنا في قصة
ثمود كذلك آية وعظة ، حين قلنا لهم : عيشوا متمّتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك.
فتكبروا عن امتثال أوامر الله تعالى ، فنزلت بهم صاعقة نار من السماء أبادتهم.
والصاعقة : الصيحة العظيمة ، وهي التي تكون معها النار ، وذلك أنهم
__________________
انتظروا العذاب
ثلاثة أيام ، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع ، في غدوة النهار ، وهم يعاينون مشاهد
الدمار ، جزاء لما اقترفوه من كفر ومعاص.
فلم يقدروا على
القيام من مصارعهم ، والهرب من تلك الصرعة القاضية ، بل أصبحوا في دارهم هلكى
جاثمين ، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله ، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم
العذاب.
وأهلكنا بالطوفان
قوم نوح ، من قبل هؤلاء ، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود ، لأنهم كانوا
قوما خارجين عن طاعة الله ، متجاوزين حدوده.
هذه هي نهاية قوم
عتاة طغاة ، ظلموا وبغوا ، وكذبوا رسلهم وافتروا ، وأصروا على الكفر والضلال ،
وعاندوا وعارضوا كل هداية من الله تعالى ، وليتهم أشفقوا على أنفسهم ، واتعظوا
بأحداث السابقين قبلهم ، ولكنهم لم يفعلوا ، والقضية سهلة ، والتكليف يسير ، لا
يحتاجون إلى أكثر من إعلان الإيمان بالله تعالى ، وأن يستقيموا على أوامره ،
ويجتنبوا نواهيه ، ويصدقوا برسالات الرسل الكرام الذين لا همّ لهم إلا الإصلاح ـ إصلاح
العقيدة والتصور والعبادة والمعاملة ، ولكن قتل الإنسان ما أكفره!
إن عبادة الأصنام
التي كانت سائدة بين هؤلاء الأقوام ، لا تحقق لعابديها نفعا أو خيرا ، ولا تمنع
عنهم ضررا ، أو تحميهم من الشر ، وغريب أنهم إن انحدر فيهم الفكر على هذا النحو من
الطعن والمساس بكرامتهم ، ألم يبق أمامهم حقل التجربة والاختبار؟!
وأما توحيد الله
تعالى فمصدر كل خير ونفع ، والمانع من كل شر وضرر ، أفلا يجدر بأصحاب العقول
الواعية أن يبادروا إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى؟! إن ألوان العذاب في إهلاك
الأقوام الوثنيين السابقين ، تدل على أن الله تعالى قادر على أن
يعذب أو يفني بما
به البقاء والوجود ، من عناصر الحياة الأربعة : وهي التراب والماء والهواء والنار
، فعذب الله قوم لوط بالتراب ، وعذّب قوم نوح وقوم فرعون بالماء أو الإغراق في
البحر ، وعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية (الهواء) وعذب قبيلة ثمود بالنار
الصاعقة النازلة من السماء ، ولا يقتصر الأمر على هذه النماذج ، فالله قادر على كل
شيء ، وابتكار أصناف أخرى من العذاب ، ردعا للظالمين ، وتمكينا لهم من التوبة
والعدول عن موجبات العذاب.
وهكذا حكم الله
وسنته مع جميع الأمم والأقوام والأفراد والجماعات ، ولن تجد لسنة الله تبديلا أو
تحويلا.
إثبات التوحيد وإنذار المكذبين
بعد بيان مصائر
الأقوام الغابرين المكذبين برسالات رسلهم ، والمنكرين وحدانية الله تعالى ، أورد
الله سبحانه بعض الأدلة القاطعة الدالة على توحيده وقدرته ، وأنذر المشركين
المعاندين في بطاح مكة وما حولها من عبدة الأصنام ، حتى لا ينالهم مثل عذاب من
تقدمهم ، وكأن التكذيب للرسل شيء موصول بين الناس ، فإذا أرادوا الخير لأنفسهم
والنجاة من مثل ذلك العذاب المتقدم ، فليس عليهم إلا الإقرار بوجود الله ووحدانية
الذات الإلهية ، وعبادته وحده ، فإن أصروا على موقفهم ، فإن العذاب واقع بهم حتما
، كما جاء في الآيات الآتية :
(وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(٥٠) وَلا
__________________
تَجْعَلُوا
مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما
أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
(٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ
اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))
[الذاريات : ٥١ /
٤٧ ـ ٦٠].
لقد بنينا السماء
بقوة ومقدرة ، وإنا لذوو قدوة وسعة على خلقها وخلق غيرها ، فنحن قادرون ، لا نعجز
عن ذلك ، ولا يمسنا تعب ، فقوله : (لَمُوسِعُونَ) نوسع الأشياء قوة وقدرة.
والأرض مهدناها
وبسطناها كالفراش ، لصلاحية العيش عليها والاستقرار فيها ، فنعم الماهدون ، أي
الباسطون الموطئون ، نحن جعلناها مهدا لأهلها ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها.
وأوجدنا من جميع
المخلوقات صنفين : ذكرا وأنثى ، مصطحبين متلازمين ، وهذا إشارة إلى المتضادات
والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ،
والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو هذا.
وهذا أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه فعلا واحدا كالتسخين
والتبريد. خلقنا هذه الأصناف المتلازمة ، على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن
الخالق واحد لا شريك له. وكلمة (لعلكم) بحسب خلق البشر وعرفهم.
__________________
فالجئوا إلى أمر الله
، بالدخول في الإيمان وطاعة الله تعالى ، فإني لكم منذر واضح الإنذار ، ومخوّف من
عذابه وعقابه. ولا تشركوا مع الله إلها آخر سواه ، فإن الإله المعبود بحق : هو
واحد ، ولا تصلح العبادة لغيره.
وعبر الله تعالى
عن الأمر بالإيمان والطاعة بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقابا وعذابا
وأمرا ، حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة (فروا) بين التحذير والاستدعاء.
ثم نهى الله تعالى
عن عبادة الأصنام والشياطين ، وكل مدعو من دون الله تعالى ، وفائدة تكرار قوله
تعالى : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) الإبلاغ وهزّ النفس وتحكيم التحذير.
وكما كذّبك قومك
من العرب أيها الرسول ، ووصفوك بالسحر أو الجنون ، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت
رسلها ، فهذا شأن الأمم في القديم ، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
ومن العجب كأن
أفراد الأمم أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب ، وتواطؤوا عليه ، والواقع أنهم لم يتواصوا
بذلك لتباعد زمانهم ، لكنهم قوم طغاة ، جمعهم الطغيان : مجاوزة الحد في الكفر.
وهذا توقيف وتعجيب من توطؤ نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ،
مع تباعد أزمانهم ، لكنهم فعلوا فعلا كأنه فعل من تواصى. والعلة في ذلك أن جميعهم
طاغ ، والطاغي : المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله تعالى.
فأعرض عنهم أيها
الرسول ، وكفّ عن جدالهم ، فقد فعلت ما أمرك الله به ، وبلّغت الرسالة ، فما أنت
بملوم عند الله بعد هذا؟ وليس عليك إلا البلاغ.
أخرج ابن منيع
وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي رضي الله
عنه قال : لما
نزلت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤) لم يبق منا
أحد إلا أيقن بالهلكة ، إذا أمر النبي صلىاللهعليهوسلم أن يتولى عنهم ، فنزلت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسنا ، أو فسّروا بذلك.
وغاية إيجاد الخلق
: العبادة ، فما خلقت الإنس والجن إلا للعبادة ، ولمعرفتي ، لا لاحتياجي إليهم.
والغاية من هذا الخلق سامية ، فلا أريد من خلقهم جلب نفع لي ، ولا دفع ضرر عني ،
ولا أريد منهم إطعامي ، على عادتهم ، إن الله هو واسع الرزق ، يرزق جميع مخلوقاته
، وهو ذو القوة والقدرة الهائلة ، والشديد القوة. وبعبارة أخرى : ما خلقت الجن
والإنس إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقرّوا لي بالعبودية.
ثم هدد الله مشركي
مكة وأمثالهم على وثنيتهم ، فإن للظالمين أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول ،
نصيبا من العذاب ، مثل عذاب أمثالهم القدامى ، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم ،
فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه.
فهلاك وشدة عذاب :
للكافرين في يوم القيامة ، الذي كانوا يوعدون به.
تفسير سورة الطور
إيقاع العذاب بالكفار يوم القيامة
أقسم الله تعالى
ببعض مخلوقاته تنويها بشأنها على تمام قدرته وشمولها ، في إيقاع العذاب بالكفار
يوم القيامة ، وهذا القسم عظيم يشمل المقسم به من الجبال ، والمدّونات الإلهية في
الصحف ، والكعبة المشرفة ، والسماء العالية ، والبحار المترعة بالماء ، والعذاب
المذكور يكتنفه أهوال شدائد ، ومخاطر مدلهمة محيطة بأهل العذاب ، منها اضطراب السماء
، ودك الجبال ، وذعر أهل الضلال ، ودفعهم بعنف إلى نار جهنم وإدخالهم فيها ومقاساة
شدائدها ، كما تذكر هذه الآيات في مطلع سورة الطور المكية :
(وَالطُّورِ (١)
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧)
ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ
الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ
فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ
أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ
عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))
[الطور : ٥٢ / ١ ـ
١٦].
__________________
المعنى : أقسم (أنا
الحق) بالطور ، أي بكل الجبال ، والطور اسم جنس للجبال عند أهل اللغة ، وبالكتاب
المكتوب أسطارا الذي يشمل الكتب الإلهية المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور
والقرآن وغيرها ، في الورق المعد للكتابة ، المبسوط غير المطوي ، وبالكعبة المشرفة
التي تعمّر كل عام بالحجاج والزوار ، وتعميرها للإعلام بشأن الكعبة ، وبالسماء
العالية التي هي كالسقف ، وبالبحر المملوء ماء ، المحبوس عن الأرض ، إن المقسم
عليه وهو عذاب الله لواقع كائن في القيامة لا محالة ، لمن يستحقه من الكافرين
والعصاة الذين كذبوا الرسل.
ويصاحب وقوع
العذاب : اضطراب السماء اضطرابا شديدا ، وإزالة الجبال من مواضعها كسير السحاب ،
وصيرورتها هباء كالصوف المندوف.
فويل ، أي هلاك
وسوء ومشقة أو واد في جهنم لأولئك الذين كذّبوا الرسل ، في ذلك اليوم ، من شدة هذا
العذاب ، وهم الذين كانوا يتخبطون في الأباطيل ، فيكذبون بالقرآن ، ويستهزئون
بالنبي. والفاء في قوله (فَوَيْلٌ) لاتصال المعنى ، وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان ، أما أهل
الكبائر من المسلمين فلا يخلّدون في النار ، لأنهم لا يكذبون الرسل.
ويكون إلقاء
المكذبين في النار بأن يدفعوا إليها دفعا عنيفا شديدا ، وفي إهانة وتعتعة. وكلمة (يَوْمَ يُدَعُّونَ) يوم : بدل من (يَوْمَئِذٍ).
ويقال لهم تقريعا
وتوبيخا من قبل الزبانية ـ وهذا كلام محذوف مختصر ـ : هذه النار التي تشاهدونها هي
النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا ، والتكذيب بها : تكذيب للرسول الذي أخبر
بها من طريق الوحي.
ويقال لهم أيضا
تذكيرا بما كانوا يقولون في الدنيا : أهذا الذي ترون : سحر كما
كنتم تقولون لرسل
الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه الحق ، ولكنكم أنتم عمي وعن هذا ، كما كنتم
عميا عن الحق في الدنيا ، والواقع : أن المرئي حق ، ولا عمى في البصر.
ومما يقال لهم
كذلك تيئيسا لهم وقطعا لرجائهم : ادخلوا النار وتلظوا بحرها ، وقاسوا شدائدها ،
سواء صبرتم عليها أم لم تصبروا ، فلا ينفعكم شيء ، وعذابكم حتم ، جزعتم أم صبرتم ،
فلا بد من جزاء أعمالكم ، والجزاء بالعمل كائن ، خيرا أو شرا ، كان الصبر أو الجزع
، لا محيد لكم عن النار ، ولا خلاص لكم منها ، ولا يظلم ربك أحدا ، بل يجازي كل
إنسان بعمله.
هذه أخبار موجعة
مؤلمة ، تدل على تطبيق مبدأ الحق والعدل ، كما تدل على القدرة الإلهية الشاملة ،
وعلى إثبات يوم الحساب ، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب ، وعلى إمكان البعث.
فالعاقل الذي يريد
الخير لنفسه وإسعاد ذاته ، يبادر إلى الإيمان بما أخبر الله تعالى به من الغيبيات
الأخروية ، ومن آمن بشيء بذل كل جهده في التوصل إلى مآربه ، والظفر برضوان الله
تعالى ، فيكون الإيمان بيوم البعث دافعا إلى الخير والعمل الصالح ، ومحذّرا من
الشر والمنكر والعمل الضار.
وغير العاقل عقلا
واعيا يسير على وفق هواه وشهواته ، ولا يأبه بهذه المواعظ والزواجر ، وتراه مضطرب
النفس في الدنيا ، حائرا تائها في مسيرة الحياة ، وفي الآخرة أشد توجعا وقلقا ،
ويأسا ، وندما ، فهو يجني حصاد ما قدم في دنياه ، ويلقى المصير المناسب لعمله.
جزاء المتقين
يقابل جزاء
الكافرين الموصوف في الآيات السابقة في سورة الطور جزاء المتقين المتميز بروضات
النعيم ، ليبين الفرق ، ويقع التحريض على الإيمان. والمتقون هنا : هم متقو الشرك ،
لأن مصير كل مؤمن في النهاية إلى الجنات ، وكلما زادت درجة التقوى ، تأكد تحصيل
نعيم الآخرة ، وهذا النعيم ذو ألوان مادية ومعنوية كثيرة ، والماديات : أطعمة
وأشربة وفواكه وألبسة ، ونحوها ، تزدان بالخدمات المميّزة ، ومن الخدم الغلمان
كأنهم لؤلؤ مكنون : وهو أجمل اللؤلؤ. وهذا على خلاف حال الدنيا حيث يكون الخدم في
الغالب في قبح وتبذل ، لا صون معه ولا جلاء فيه. ويعرف ذلك من الآيات الآتية :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ
رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ
عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ
أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا
تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ
مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا
إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا
وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ
هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))
إن أهل التقوى
الذين اتبعوا أوامر الله وابتعدوا عن معاصيه ، وتجنبوا الشرك هم في جنات (بساتين)
نضرة. ويتنعمون فيها بنعيم دائم ، خلافا لما عليه الكفرة من عذاب
__________________
الجحيم. فاكهين (فرحين
مسرورين) بما منحهم الله من النعيم ، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس
والمساكن والمراكب والفرش والحور العين وغير ذلك ، وحماهم الله من عذاب النار ،
وتلك نعمة مستقلة بذاتها ، تضم إلى نعمة دخول الجنة ، والوقاية من العذاب : تظهر
في متقي المعاصي الذي لا يدخل النار. وأما متقي الشرك الذي يعذب على معاص أخرى ،
فوقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم.
وتقول لهم ملائكة
الرضوان في الجنة مهنئة لهم : كلوا من طيبات الرزق ، واشربوا مما لذّ وصفا وطاب ،
من غير نكد ولا كدر ، بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا ، تفضلا من الله
وإحسانا.
وأنواع المتع
الأخرى أنهم والحال يجلسون على أسرّة مصفوفة ، متصل بعضها ببعض ، حتى تصير صفا
واحدا ، للدلالة على الاطمئنان والراحة وفراغ البال من الشواغل ، ويزوجهم ربهم
بقرينات صالحات هن الحور العين : ذوات البياض في الجسم ، وبياض العين مع شدة سواد
المقلة ، وواسعات الأعين.
ومن زيادة النعم
والفضل والإحسان : أن الله تعالى يلحق الذرية الذرية المؤمنة كبارا وصغارا على
القول الأرجح ، بالآباء المؤمنين ، والمعنى : يرفع ذرية المؤمن إليه ، بشفاعته
التي يأذن الله بها. وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء ، فإنه سبحانه يلحق
الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء ، جاء في حديث أخرجه سعيد بن منصور وابن
جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : «إن الله ليرفع ذرية المؤمن
معه في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية. وقوله : (بِإِيمانٍ) : هو في موضع الحال.
ولا ينقص الله
الآباء نعمة أو ثوابا لأعمالهم ، بإلحاق ذريتهم بهم ، وكل إنسان مرتهن يوم القيامة
بعمله ، فلا يتحمل أحد ذنب شخص آخر ، أيا كان أبا أو ابنا ،
والمعنى : أن الله
تعالى يلحق المقصّر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئا ، والرهين : المرتهن.
وفي ألفاظ (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) وعيد.
وأصناف النعم
المادية على المتقين هي :
ـ (وَأَمْدَدْناهُمْ) أي وزودناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة ،
ولحما مختلفا من أنواع اللحوم ، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به. ولا
كلفة في الجنة ، فلا يتكلّف فيها الذبح والسلخ والطبخ. روي أن المنعّم إذا اشتهى
لحما ، نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها.
ـ ويتعاطون في
الجنة كأسا من خمر الجنة ، والكأس : الإناء الذي فيه الشراب ، ويتجاذبون الكؤوس مع
جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة ، لشدة فرحهم ، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى
اللغو (الكلام الذي لا خير فيه) والتأثيم (الذي يوقع في الإثم) خلافا لشراب الخمور
في الدنيا.
ويطوف (يدور)
عليهم للخدمة بالكأس والفاكهة والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم ، كأنهم في الحسن
والبهاء لؤلؤ مستور ، مصون في الصّدف.
ـ وأقبلوا
يتحادثون ، ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، وما كان
فيها من متاعب ومخاوف.
وأجاب المتحدثون
سائليهم : إنا كنا في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله ، فتفضل الله علينا
بالمغفرة والرحمة ، ووفقنا للعمل الصالح ، ووقانا عذاب السموم (عذاب النار).
والسموم : اسم من أسماء جهنم. والسموم : الحارّ ، الذي يبلغ مسامّ الإنسان ، ويقال
للريح الباردة : سموم.
إنا كنا في الدنيا
ندعوه ، أي نعبده ونسأله المغفرة والرحمة ، فاستجاب لنا ، إنه سبحانه هو الكثير
الإحسان ، الواسع الرحمة والفضل.
متابعة نشر الرسالة وإثبات التوحيد
أمر الله تعالى
نبيه بمتابعة التبليغ ونشر الدعوة أو الرسالة ، مهما كانت الصعاب ، والتحديات
الباطلة ، والاتهامات الواهية ، فليس هو بكاهن ولا شاعر ولا مجنون ، وإنما أعداؤه
قوم طغاة تجاوزوا الحد في الكفر والعناد ، ثم أثبت الله قدرته وتوحيده بخلق البشر
وخلق السماوات والأرض ، مما يدل على إمكان إعادة الخلق والبعث وليس للمشركين دليل
مقبول على عقائدهم الزائغة ، ولا سلطان لهم على شيء فلا يضر كيدهم رسول الله ،
وسينصره الله ، ويظهر دينه ، ولو كره الكافرون ، وهذا ما قررته الآيات الآتية :
(فَذَكِّرْ فَما
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا
يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ
(٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ
تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا
هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٤٣))
[الطور : ٥٢ / ٢٩
ـ ٤٣].
لا تأبه أيها
الرسول بمحاولات الصد والإحباط من قومك قريش ، واثبت على ما
__________________
أنت عليه من تذكير
الناس وموعظتهم ، فلست بحمد الله بكاهن تدعي الإخبار عن الماضي بلا وحي ، ولا
بمجنون : يتخبطه الشيطان من المس.
بل يقولون : إنه
شاعر ننتظر به حوادث الأيام ومصائبها ، فيموت كما مات غيره ، والريب : الشك ،
وأطلق على الحوادث على سبيل الاستعارة التصريحية ، لعدم البقاء والدوام على الحال
، والمنون : الدهر ، لأنه يقطع الأجل ، وهذا إنكار من الله عليهم باتهامهم الرسول
مما ليس فيه ، ثم هددهم الله : فقل لهم أيها الرسول : انتظروا موتي أو هلاكي ،
فإني معكم من المنتظرين عاقبة الأمر ، وقضاء الله فيكم.
أأنزل عليهم شيء
من السماء ، أم تأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض ، وهو زعمهم أن القرآن سحر أو
كهانة ، أو شعر ، وقولهم في الرسول : إنه كاهن أو شاعر أو مجنون. أم إنهم قوم طغاة
تجاوزوا الحد في العناد والضلال عن الحق.
أم إنهم يقولون :
إن محمدا اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه ، بل في الواقع إنهم لا يؤمنون بالله ،
ولا يصدقون بما جاء به رسوله.
فإن ص دقوا في
زعمهم هذا بأن محمدا افترى القرآن ، فليأتوا بمثل هذا القرآن في نظمه وسمو بلاغته
، وبديع أسلوبه ، وعظمة بيانه. والواقع أنهم لو اجتمعت معهم الجن وجميع الإنس ، ما
جاؤوا بمثله أو بمثل سورة منه ذات موضوع معين.
ثم أبطل الله شرك
المشركين وردّ على إنكارهم وحدانية الخالق ، فهل وجدوا من غير موجد ، أم إنهم
أوجدوا أنفسهم؟ وبما أن الأمرين منتفيان عقلا وواقعا ، فالله هو الذي خلقهم ، وهو
الإله الواحد.
وهل خلقوا
السماوات والأرض وما فيهما من العجائب ، وأسباب العيش ، ليدعوهم ذلك إلى التكبر ،
بل في الواقع إنهم غير مستيقنين حقا بأن الله هو الخالق ، خلافا لإقرارهم ، فهم لا
يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين. وخص الله من
الأشياء السماوات
والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، وهذا توبيخ لهم على أنفسهم.
أم عندهم
الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، فهل يملكون خزائن الله من النبوة والرزق
والمال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء ، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا ، أم هم
المسلطون على المخلوقات ، يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع ليس الأمر كذلك ، بل
الله هو المالك المتصرف في كل شيء وهو الفعال لما يريد.
بل أيقولون : إن
لهم سلّما منصوبا إلى السماء والأماكن العالية يصعدون به ، ويستمعون فيه كلام
الملائكة وما يوحى إليهم ، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما
هم فيه بحجة ظاهرة واضحة ، كما أتى محمد صلىاللهعليهوسلم بالبرهان الدال على صدقه ، والواقع لا دليل ولا حجة على ما
يقولون.
وبعد رد الله على
إنكار الكفرة توحيد الألوهية ، ردّ على من نسب البنات من الملائكة إلى الله ،
وأنها نسبة باطلة ولا عدل فيها. والمعنى : بل أتجعلون لله البنات ، وتخصون أنفسكم
بالبنين؟ وهذا تهديد ووعيد.
بل أتسألهم أجرة
يدفعونها إليك على تبليغ الرسالة ، فهم من التزام الغرامة مثقلون بحملها ، فهم
لذلك يكرهون الدخول فيما يوقعهم في الغرامة الثقلية؟! بل أيدّعون أن عندهم علم
الغيب ، وهو ما في اللوح المحفوظ ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب أو
يخبرون بما شاؤوا؟ ليس الأمر كذلك ، فلا يعلم الغيب أحد إلا الله تعالى.
بل أيريدون تدبير
مكيدة أو مؤامرة كما دبروا في دار الندوة لقتل النبي صلىاللهعليهوسلم؟ ولكن النتيجة أن الكافرين هم المكيدون أي المغلوبون
المهلكون ، سمى الله تعالى غلبتهم كيدا ، إذ كانت عقوبة الكيد ، من قبيل المشاكلة
والمشابهة لما فعلوا أو دبروا.
ثم نزّه الله
تعالى نفسه عما يشركون به من الأصنام والأوثان ، والمعنى : بل ألهم إله غير الله
يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدون سواه
، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام.
وهذه الأشياء التي
ناقشهم الله بها حصرت جميع المعاني والاحتمالات التي توقع في التكبر والعناد ، وهي
كلها ليست لهم ، ولا يبقى شيء يوجب ما هم عليه إلا أنهم قوم طاغون ، وذلك سبب
عقابهم.
الإعراض عن الكافرين
لم يدع القرآن
الكريم وسيلة للإيمان إلا أتى بها ، ولا طريقا للكفر إلا سدّه ، وناقش المشركين
مناقشة هادئة في عقائدهم ، لينقلهم من هذا الداء الخطير إلى الإيمان الصحيح ،
وحينما استبد العناد بهم ، ولم يتزحزحوا عن مواقفهم الضالة ، هددهم المولى عزوجل ، وأنذرهم بعقاب الدنيا وعذاب الآخرة. وحاولوا الدفاع عن
آرائهم ، فاقترحوا للتحدي والمعارضة تحقيق بعض المستحيلات ، فكان الأمر الإلهي
للنبي صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عنهم ، والصبر في تبليغ الرسالة وإنذارهم ،
وانتظار وعد الله ، والتزام التسبيح لله وحده حين يقوم من منامه أو من مجلسه ،
وعقب غروب النجوم في آخر الليل ، وهذا ما قررته الآيات الآتية :
(وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ
__________________
ظَلَمُوا
عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))
[الطور : ٥٢ / ٤٤
ـ ٤٩].
كانت قريش في جملة
ما اقترحت تحقيقه : (أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ١٧ /
٩٢]. فإن ير هؤلاء المشركون قطعا من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم ، لما صدّقوا
ولما أيقنوا ، ولما انتهوا عن كفرهم ، وإنما يقولون : هذا سحاب متراكم بعضه على
بعض ، نرتوي به ، وهذا مثل حسي للمكابرة ، لإنكارهم ما تبصره الأعين ، مفاده : لو
رأوا كسفا ساقطا حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم الغلو والبعد عن الحق أن يغالطوا أنفسهم
وغيرهم.
فإذا كان هذا
شأنهم ، ولم يتركوا كفرهم ، فدعهم أيها الرسول ، ولا تأبه بهم ، حتى يأتي يوم
مصرعهم أو موتهم أو قتلهم ، مثل يوم بدر. والصعق : التعذيب في الجملة.
وذلك اليوم هو
اليوم الذي لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في الدنيا ، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم ، ولا ينصرهم
ناصر ، بل هو واقع بهم لا محالة.
وإن للظالمين
أنفسهم بالكفر والمعاصي ، ومكايدة النبي وعبادة الأوثان ، عذابا دون أو قبل عذاب
الآخرة ، وهو إما قتلهم يوم بدر والفتح ونحوهما ، وإما مصائب الدنيا من الأوجاع
والأسقام ، وإما عذاب القبر أو الجوع والقحط ، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل
بهم من العذاب والبأس. وهذا كما في آية أخرى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢١) [السجدة : ٣٢
/ ٢١].
__________________
واصبر أيها الرسول
على أذى قومك ، ولا تبال بهم ، وتابع تبليغ رسالتك وإنذارك ، وانتظار وعد الله
بنصرك عليهم ، فكل ما يحكم به الله ويقدّر هو خير ورحمة ، فإنك في حراستنا وحفظنا
وحمايتنا ، والله عاصمك ومؤيدك ، ونزّه الله عما لا يليق به ، لإنعامه عليك ،
تنزيها مصحوبا بالحمد ، حين تقوم من منامك أو من مجلسك وغيرهم ، وحين تقعد ، وفي
كل تصرّفك ، وحين تقوم للصلاة ، فتقول : «سبحان الله وبحمده» وقوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) معناه بإدراكنا وحفظنا وحيطتنا ، وهذه الآية ينبغي أن
يقدرها كل مؤمن في نفسه ، فإنها تفسح مضايق الدنيا.
والتسبيح والتحميد
مرغب فيه في كل وقت ، ومنه أداء الصلوات المفروضة ، ومنه ما بعد النوم ، لما رواه
أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من تعارّ من الليل ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله
الحمد ، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله
أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي ، أو قال : ثم دعا ،
استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ، ثم صلّى ، قبلت صلاته».
وأخرج أبو داود
والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبي شيبة ، عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس : «سبحانك
اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك».
والتسبيح دائم
ليلا ونهارا لقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) أي وإذا قمت
من نومك ، فسبّحه ، واذكره واعبده في بعض الليل ، وفي آخر الليل حين غروب النجوم ،
لأن العبادة حينئذ أشق على النفس ، وأبعد عن الرياء ، قال الرازي : والظاهر أن
المراد من (وَإِدْبارَ
النُّجُومِ) وقت الصبح حين يدبر النجم ،
__________________
ويخفى ، ويذهب
ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله : (حِينَ تَقُومُ) المراد به النهار ، وقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ) ما عدا وقت النوم.
فتكون هذه الآية
عامة في جميع الأوقات ، في الليل والنهار ، كما جاء في آية أخرى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء :
١٧ / ٧٩].
هذا التوجيه
الإلهي بالتسبيح والتحميد يقوّي العزيمة ، ويشحذ الإرادة ، ويمنح النفس ثقة بالنصر
في نهاية الأمر ، ويخفف المعاناة والهموم ، كلما ضاق الأمر ، وحزن الإنسان ، وفيه
ترويض على الصبر مما يعانيه الداعية إلى الله ، حيث وجد الإعراض عن دعوته والصدود
، فإن النصر سيكون بمشيئة الله حليفة ، لذا صبر النبي صلىاللهعليهوسلم مدة ثلاثة عشر عاما على أذى قومه ، وتابع نشر دعوته ،
فتحقق له النصر والظفر ، وانتشر دينه في الآفاق.
تفسير سورة النجم
إثبات ظاهرة الوحي
تميزت سورة النجم
المكية بالإجماع بأنها أول سورة أعلن بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجهر بقراءتها في الحرم ، والمشركون يستمعون ، وفي آخرها
سجد ، وسجد معه المؤمنون والمشركون ، والجن والإنس ، غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة
من تراب إلى جبهته ، وقال : يكفيني هذا ، روى ذلك البخاري عن ابن عباس ، رضي الله
عنهما. وأقسم الله تعالى في مطلع هذه السورة بالنجم تشريفا له لإثبات ظاهرة الوحي
على قلب النبي صلىاللهعليهوسلم ، بواسطة أمين الوحي جبريل عليهالسلام الذي رآه النبي صلىاللهعليهوسلم على صورته الحقيقية مرة أخرى ، وذلك في السماء بعد رؤيته
في الأرض ، قال الله تعالى :
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ
هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ
قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ
الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما
طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))
[النجم : ٥٣ / ١ ـ
١٨].
__________________
أقسم الله تعالى
بالنجم إذا مال للغروب ، تشريفا له ، حتى يؤول ذلك إلى معرفة الله تبارك وتعالى.
مثل قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) [الواقعة :
٥٦ / ٧٥].
والمقسم عليه وهو
الوحي حق ثابت. فما عدل النبي صلىاللهعليهوسلم عن طريق الحق إلى الباطل ، وما جهل بما أوحي إليه. والضلال
: هو الذي يكون بغير قصد من الإنسان. والغي : ما تتكسبه وتريده.
وما يقول هذا
النبي قولا عن هوى وغرض ، إن كل ما ينطق به هو وحي أوحاه الله إليه ، ويبلّغ جميع
وحي الله من غير زيادة ولا نقصان. والمراد بالوحي : القرآن. والوحي : إلقاء المعنى
في خفاء.
ومعلّم القرآن
الناقل عن رب العزة : هو جبريل عليهالسلام ، الشديد بقواه العلمية والعملية ، وهو ذو قوة وشدة ، وذو
حصافة في العقل ، ومتانة في الرأي ، وقد اعتدل على صورته الحقيقية التي خلقه الله
عليها ، حين كان في الأفق الأعلى ، أي في الجهة العليا من السماء ، وهو أفق الشمس
، فسدّ الأفق حين جاء بالوحي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم أول مجيئه.
ثم قرب جبريل من
الأرض إلى محمد صلىاللهعليهوسلم عند حراء ، وتعلق بالهواء ، وازداد في القرب من محمد
والنزول ، فكان فيما بينهما مقدار ما بين قوسين من المسافة أو أقل من ذلك ، فأوحى
جبريل إلى عبد الله ، ما أوحى من القرآن في تلك النزلة ، من شؤون الدين والتشريع ،
وهذا كان في أثناء رؤية حقيقة جبريل ، والرسول في الأرض في حراء. ورآه مرة أخرى
على حقيقته ، والرسول في السماء ، ليلة الإسراء ، وحينما رآه سدّ الأفق ، له ست
مائة جناح.
ولم تكن رؤية
جبريل خيالا ، وإنما حقيقة معاينة ، فما أنكر فؤاد النبي ما رآه من
صورة جبريل ،
وإنما كان في كامل وعيه ، وكان فؤاده صادقا ، فتكون عينه أصدق ، فكيف تجادلونه
وتكذبونه معشر قريش فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة؟ وقوله : (أَفَتُمارُونَهُ) خطاب لقريش معناه : أتكذبون فتجادلونه على ما يراه معاينة؟
ولم يرو قط أن محمدا صلىاللهعليهوسلم رأى ربه عزوجل قبل ليلة الإسراء. ولكن لا مانع من رؤية القلب. أخرج مسلم
والترمذي وأحمد : أن أبا ذر سأل النبي صلىاللهعليهوسلم : هل رأيت ربّك؟ فقال : «نور أنى أراه».
ولقد رأى محمد صلىاللهعليهوسلم جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها ،
وذلك في ليلة الإسراء ، عند سدرة المنتهى التي هي في المشهور : شجرة في السماء
السابعة ، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين.
ونحن نؤمن بسدرة
المنتهى ، على النحو الوارد في ظاهر القرآن الكريم ، دون تعيين مكانها وأوصافها.
وتلك السدرة يحيط
بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط ، مما لا يحصره وصف ولا عدد.
وهذا يشعر بالتعظيم والتكثير.
ما مال بصر النبي صلىاللهعليهوسلم عما رآه ، وما تجاوز ما رأى ، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر
ملكوت الله رؤية عين ، وليست من خدع البصر ، وهذا يؤكد أن معراج النبي صلىاللهعليهوسلم إلى السماء كان بالروح والجسد.
لقد رأى في ليلة
المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف ، وهو رؤية جبريل على صورته ،
وسائر عجائب الملكوت و (الكبرى) : وصف ل (آيات). وهذا كما جاء في آية أخرى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [الإسراء : ١٧ / ١]
ولكن دون تحديد المرئي ، للإشارة إلى تعظيمه وأهميته.
__________________
قال الألوسي نقلا
عن الكشاف : إن هذه الآيات سيقت لتحقيق أمر الوحي ، ونفي الشبهة والشك فيه ،
ليتأكد الكل أن هذا الوحي ليس من الشعر ولا من الكهانة ، فليس للشيطان ولا للجن أي
قدرة على تصورهم وإدراكهم صورة جبريل الحقيقية أو غيرها ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم عرفه بقلبه وبصره ، ورآه في حالاته المتعددة ، ومن ثم لم
يكن من المعقول أن يشتبه عليه.
أصنام الجاهلية العديمة الفائدة
حرص القرآن الكريم
على أصول ثلاثة في العقيدة : وهي التوحيد ، والرسالة أو النبوة ، والإيمان باليوم
الآخرة ، وتقرير التوحيد يتطلب هدم الإشراك بالله ، وبيان انعدام فائدة الأصنام ،
وهذا ما ذكرته الآيات الآتية ، بأسلوب استنكاري مع التهكم والتوبيخ ، إذ كيف يليق
بكرامة الإنسان وحرمة العقل الإنساني ، أن يعبد الإنسان حجرا أو معدنا أو شخصا
يجعله إلها آخر مع الله؟ وهي لا تستطيع منع الضرر عن أنفسها ، قال الله تعالى :
(أَفَرَأَيْتُمُ
اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ
الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ
إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ
الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما
__________________
لَهُمْ
بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ
يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ
اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
(٣١))
[النجم : ٥٣ / ١٩
ـ ٣١].
أوضح القرآن عظمة
الله وقدرته ، ثم أتبع ذلك الكلام عن الأصنام ، فقال : أرأيتم هذه الأوثان
وحقارتها ، وبعدها عن القدرة والصفات العلية؟ أنظرتم إلى اللات : صنم ثقيف والطائف
، والعزى : شجرة بين مكة والطائف تعظمها قريش ، ومناة : صخرة هذيل وخزاعة ، وغيرها
من الأصنام ، إنها حجارة صماء ، أو أشجار مستنبتة ، فكيف تشركونها بالله ، وهي
مصنوعة لكم ، أو مخلوقة غير خالقة ، فمن يستحق العبادة أهي أم الله الخالق القادر؟!
أتجعلون لله ولدا
، ثم تجعلونه أنثى ، وتختارون الذكور لأنفسكم؟ تلك قسمة جائرة عن الحق ، فكيف
تقاسمون ربكم هذه القسمة الجائرة بين المخلوقين؟!
إن تسمية هذه
الأصنام آلهة ، مع أنها لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ولا تفهم ، ولا تضر ولا تنفع
، إنها مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ، لا مسميات حقيقية ، اتخذتموها
آلهة أنتم وآباؤكم ، لم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تعتمدون به على أنها آلهة.
ما يتّبعون في
تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا ، ولا يتّبعون إلا ما
تهواه نفوسهم وميولهم ، من غير نظر إلى الحق الواجب اتباعه ، ولقد جاءهم من الله
القرآن الكريم الذي فيه الهداية والإرشاد.
__________________
والقضية ليست
تمنيات ، بل إن الإنسان يقرر ما يتمنى ويتصور ، وليس كل من تمنى خيرا حصل له ،
وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم ، فالسلطان ليس لغير الله ،
وليس للأصنام مع الله أمر ولا شأن في الدنيا ولا في الآخرة ، كما جاء في آية أخرى
: (لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء : ٤ / ١٢٣].
وطريق الشفاعة هو
: كثير من الملائكة الكرام في السماء ، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله ، لا
تشفع لأحد إلا لمن أذن ورضي الله أن يشفع له ، فكيف بهذه الجمادات؟.
ثم أنكر الله
تعالى على المشركين جعلهم الملائكة بنات الله ووصفهم بالأنوثة ، فالذين لا يصدقون
بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث ، وأنهم بنات الله ، تعالى
الله عما يقولون علوا كبيرا.
وليس لهؤلاء
المشركين علم صحيح بصدق ما قالوه ، ولا معرفة ولا برهان ، فإنهم لم يعرفوهم ولا
شاهدوهم ، وما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة ،
ومثل هذا الظن لا يجدي شيئا ، ولا يقوم أبدا مقام الحق ، فأعرض أيها الرسول عمن
أعرض عن القرآن أو تذكير الله ، ولم يكن همّه إلا الدنيا ، وترك النظر إلى الآخرة
، فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم فقد بلّغت ما أمرت به ، وليس عليك إلا البلاغ.
وقوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا
الْحَياةَ الدُّنْيا) يدل على إنكارهم البعث والحشر.
إن أمر الدنيا
وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم ، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين ،
إن ربك هو عالم بمن انحرف عن سبيله ، سبيل الحق والهدى ، وعالم بمن اهتدى إلى
الدين الحق ، فأعرض عنهم ، لأن الله هو الخالق لكل شيء ، وسيجازي كل فريق أو أحد
على عمله.
ولله تعالى ملك
جميع ما في السماوات وما في الأرض ، وهو الغني عما سواه ، الحاكم في خلقه بالعدل ،
وقد خلق الخلق بالحق ، وجعل عاقبة أمر الخلق أن يجزي كلا من المحسن والمسيء بعمله
، يجزي المسيء بإساءته التي عملها ، ويجزي المحسن بإحسانه ، فتكون لام (ليجزي) لام
العاقبة أو الصيرورة.
قال ابن الجوزي في
تفسيره : والآية : (وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ) إخبار عن قدرته وسعة ملكه ، وهو كلام معترض بين الآية الأولى
أي : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وبين قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا) لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن ، جازى كلا بما يستحقه
، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
صفات المحسنين وتوبيخ بعض المشركين
يدعي بعض الناس
أنهم أتقياء بررة ، محسنون خيّرون ، ولكنهم في الواقع بعيدون عن الإحسان بالمعيار
الشرعي الصحيح ، فإن المحسنين هم الذين أحسنوا أعمالهم واجتنبوا الكبائر والفواحش
، فلا يدعي إنسان ما ليس فيه أو يزكي نفسه بما ليس فيها. وفي مقابل هؤلاء المقصرين
كان بعض المشركين كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهمي ، وأبي جهل بن هشام
في غاية الجفاء. والبعد عن معايير الشرع والخلق القويم ، وهذا ما حكته الآيات
الآتية :
(الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
هُوَ أَعْلَمُ
__________________
بِمَنِ
اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ
عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى
(٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
(٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))
[النجم : ٥٣ / ٣٢
ـ ٤١].
أخرج الواحدي
والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : كانت
اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير : هو صدّيق ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «كذبت اليهود ، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» فأنزل
الله عند ذلك هذه الآية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ
إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)
المحسنون : وهم
الذين تقدم ذكرهم : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) فكلمة (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ) نعت لكلمة (الذين) المتقدم قبله : هم الذين يبتعدون عن
كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم ، وعن الفواحش كجرائم الحدود من زنا
وقذف وسرقة وحرابة وشرب مسكر. والكبائر : كل ذنب توعد الله عليه بالنار وهي السبع
الموبقات الآتي بيانها ، والفواحش : ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر
، ولكن لا يقع منهم إلا اللمم : أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظر إلى
المحرّمات والقبلة ، فإن اقترفوا اللمم تابوا.
ورد في الصحيحين
عن علي رضي الله عنه : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات : الإشراك بالله تعالى ،
والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ،
والنولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
__________________
ثم رغب الله
بالتوبة بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ
الْمَغْفِرَةِ) أي إن الله تعالى كثير الغفران للذنوب إذا تاب العبد منها.
والله تعالى بصير
بكم حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب ، وحين أوجدكم أجنة : أولادا في
بطون أمهاتكم ، فلا تمدحوا أنفسكم ، ولا تبرّئوها عن الآثام ، ولا تدّعوا الطهارة
عن المعاصي ، فالله هو العليم بمن اتقى الشرك والمعاصي. وظاهر الآية : النهي عن أن
يزكي أحد نفسه.
ثم ذكر الله تعالى
على سبيل التعجب والتقريع خبر بعض المشركين ، الذي تميز بسوء فعله ، حيث أعرض عن
الإيمان ، وأحجم عن العطاء ، وجهل ما غاب عنه من العذاب.
ومعنى الآية : أخبرني
وأعلمني بهذا الذي تولى عن الخير ، وأعرض عن اتباع الحق ، أعطى قليلا من المال ثم
لم يتمه ، ليتحمل عنه غيره وزره ، هل عنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟ أو أعلم
من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإن المتحمّل عنه ينتفع بذلك؟
أخرج الواحدي وابن
جرير عن مجاهد وابن زيد قال : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتّبع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم على دينه ، فعيّره بعض المشركين ، وقال : لم تركت دين
الأشياخ وضللتهم ، وزعمت أنهم في النار؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له إن هو
أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه ، أن يتحمل عنه عذاب الله سبحانه وتعالى ،
فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل ومنعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي : نزلت
في العاص بن وائل السهمي ، وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل بن هشام.
ثم ذكّر الله
تعالى هذا المعرض عن الإسلام بأن المسؤولية شخصية ، فقال : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) أي بل أإنه لم يخبر بما في أسفار التوراة ، وصحف إبراهيم
الذي أكمل ما أمر به ، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل : أنه لا تؤخذ نفس بذنب
غيرها ، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو ذنب ، فعليها وحدها وزرها ، لا يحمله عنها
أحد. وهو مبدأ المسؤولية الشخصية التي هي من مفاخر الإسلام.
وأنه ليس للإنسان
إلا أجر سعيه وجزاء عمله ، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله ، وهو مبدأ كون الجزاء
مرتبطا بالعمل ، وهذا متمم للمبدأ السابق ، فكما لا يتحمل أحد مسئولية غيره ، كذلك
ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ، والمراد بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل
، فالخير مثاب عليه ، والشر معاقب عليه.
وأن سعي الإنسان
أو عمله محفوظ ، يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء ويدخره الله له بصفته وسيلة إثبات
وإشادة ، ولوم للمقصرين ، وقوله (فَهُوَ يَرى) أن يراه الله تعالى ومن شاهد الأمر. وفي عرض الأعمال على
الجميع تشريف للمحسنين ، وتوبيخ للمسيئين. ثم يجزي الله هذا الإنسان جزاء كاملا
غير منقوص ، فيجازي بالسيئة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ،
والله يضاعف لمن يشاء. وهذا وعيد للكافرين ، ووعد للمؤمنين.
من مظاهر القدرة الإلهية
تعددت مظاهر
القدرة الإلهية في الكون والإنسان والحياة ، وتلك المظاهر تصدر عن حكمة إلهية
بالغة ، وسلطان عظيم شامل ، وعدل كامل ، ورحمة شاملة ، فلا يكون عقاب إلا بعد
إمهال ، ولا عذاب إلا بعد إنذار ، ولم يبق إلا اعتدال الإنسان ووعيه في مراعاة مصلحته
واستحضاره عظمة ربه ، والاتعاظ بالأمثال والعبر التي
جعلت في تدمير
الأمم أو الأقوام الغابرة ، وذلك قبل أن يموت الإنسان ويفاجأ بقيام القيامة ، وهذا
ما أخبر عنه القرآن الكريم في الآيات الآتية :
(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ
وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ
نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ
هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ
أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى
(٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا (٦٢))
[النجم : ٥٣ / ٤٢
ـ ٦٢].
ـ إن المرجع
والمصير إلى الله تعالى يوم القيامة ، لا إلى غيره ، فيجازي المخلوقات بأعمالهم ،
وهذا ترهيب للمسيء ، وترغيب للمحسن.
ـ والله هو الذي
أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه ، وأبكى من شاء بأن غمّه. والمراد أن الله خلق ما
يسرّ من الأعمال الصالحة ، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة ، وهذا دليل القدرة
الإلهية.
أخرج الواحدي عن
عائشة قالت : مرّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوم يضحكون ، فقال : لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ،
ولضحكتم قليلا ، فنزل عليه جبريل عليهالسلام بقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣) فرجع إليهم ،
فقال : ما خطوت أربعين
__________________
خطوة ، حتى أتاني
جبريل عليهالسلام ، فقال : ائت هؤلاء ، وقل لهم : إن الله عزوجل يقول : (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣).
ـ وأنه تبارك
وتعالى أمات من شاء وأحيا من شاء.
ـ وأنه هو الذي
خلق الصنفين : الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان ، من قطرة ماء يصبّ في الرحم ،
ويتدفق فيه. ثم ينفخ الله الروح في النطفة فتصير شيئا حيا.
ـ وأن على الله
تعالى إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث والنشور والحشر ، فكما خلق الله
الإنسان من البداءة ، هو قادر على الإعادة ، وهي النشأة الأخرى يوم القيامة.
ـ وأنه سبحانه
وحده الذي أغنى من يشاء من عباده ، وأفقر من يشاء منهم ، بحسب الحكمة والمصلحة
للخليقة. وكلمة (أَغْنى) قال حضرمي : معناه أغنى نفسه. و (وَأَقْنى) أفقر عباده إليه. وقال الأخفش : أغنى : أفقر. قال ابن عطية
: وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة ، والوجه فيها بحسب اللغة : أكسب ما يقتنى. وقال
ابن عباس رضي الله عنهما : أقنى : أقنع.
ـ وأنه تعالى رب
هذا النجم المضيء الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر ، وهما شعريان : إحداهما
الغميصاء ، والأخرى : العبور ، لأنها عبرت المجرّة ، وكانت خزاعة
ممن يعبد هذه الشعرى. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب ، وكانت قريش
تطلق على الرسول صلىاللهعليهوسلم : (ابن أبي كبشة) تشبيها له به ، لمخالفته دينهم ، كما
خالفهم أبو كبشة ، وكان من أجداد النبي صلىاللهعليهوسلم من جهة أمه.
ـ وأنه تعالى دمر
وأفنى قوم هود عليهالسلام ، وهم عاد القدماء ، وهي أول أمة
__________________
أهلكت بعد نوح ،
وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله ورسوله ، فأهلكهم الله بريح صرصر
عاتية ، وعاد الأخرى : هي ثمود قوم صالح.
ـ وأهلك قبيلة
ثمود ، كما أهلك عادا ، ودمرهم بذنوبهم ، فلم يبق منهم أحدا.
ـ وأهلك الله قوم
نوح من قبل هذين الفريقين : عاد وثمود ، إنهم كانوا هم أظلم من عاد وثمود ، وأشد
طغيانا منهم ، وأكثر تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم ، لأنهم بدؤوا
بالظلم.
ـ وخسف الله مدائن
قوم لوط ، بجعل عاليها سافلها ، أسقطها جبريل عليهالسلام بعد أن رفعها ، ثم أمطر عليها حجارة من سجيل منضود ،
فغطاها بالعذاب على اختلاف ألوانه ، وهذا أسلوب فيه تفخيم وتهويل لأمر العذاب.
ـ فبأي نعم ربك
أيها الإنسان المكذب تتشكك وتمتري.
ـ هذا القرآن
ورسول الله نذير مخوف محذّر من جملة النذر المتقدمة ، لأن القرآن منذر كالكتب
السماوية السابقة.
ـ اقتربت القيامة
، ليس هناك أحد قادر على كشفها والاعلام عنها إلا الله تعالى ، لأنها من أخفى
المغيبات ، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة ، وأنتم لا تشعرون.
ـ كيف تعجبون من
صحة القرآن ، تكذيبا منكم ، وتضحكون منه استهزاء ، وتسخرون من آياته ، ولا تبكون
كما يفعل الموقنون ، وأنتم لاهون عنه ، غافلون معرضون؟! فاسجدوا أيها المؤمنون
شكرا على الهداية ، واخضعوا لله ، وخصوه بالعبادة ، فهو المستحق لذلك.
تفسير سورة القمر
موقف المشركين من دعوة الإسلام
طالب المشركون
بتحقيق معجزات مادية ، على سبيل المكابرة والعناد ، على الرغم مما رأوا من الآيات
والمعجزات الباهرة الدالة على صدق نبوة الرسول محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوسلم ، ومع الإخبار بأنباء إهلاك الأمم المكذبة رسلها ،
ليعتبروا ويتعظوا ، ومع تحذيرهم مما يتعرضون له في الآخرة من عذاب شديد ، ونشر من
القبور ، ذليلين مهانين ، مسرعين إلى الداعي إسرافيل إلى شيء رهيب ، وهو موقف
الحساب. وهذا ما أطلعتنا عليه أوائل سورة القمر المكية بالإجماع إلا الآية واحدة ،
اختلف فيها أهي مكية أم مدينة ، وهي آية : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) :
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ
يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))
[القمر : ٥٤ / ١ ـ
٨].
أخرج البخاري ومسلم
والحاكم ـ واللفظ له ـ عن ابن مسعود قال : رأيت القمر
__________________
منشقا شقين بمكة ،
قبل مخرج النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : سحر القمر ، فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ).
والمعنى : قربت
القيامة ودنت ، لكنّ وقتها مجهول التحديد ، أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم
والترمذي ، عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بالسبّابة والوسطى.
وانشق القمر فعلا
نصفين ، معجزة للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها.
أخرج الإمام أحمد
والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس : أن أهل مكة سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين ، حتى رأوا حراء (وهو
جبل مشهور بمكة) بينهما.
لكن المشركين ظلوا
على عنادهم ، فإنهم وإن يروا علامة على النبوة وصدق النبي صلىاللهعليهوسلم ، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها ، ويولّوا مكذبين بها ،
قائلين : هذا سحر محكم قوي ، من المرّة أي القوة ، أو دائم مطرد متماد. وكذبوا
بالحق الساطع حين جاءهم ، وهو آيات الله الظاهرة ، اتبعوا شهواتهم ، لا بدليل ،
ولا بتثبّت ، بسبب جهلهم وسخفهم ، فهددهم الله ورد على تكذيبهم وأخبرهم بأن كل أمر
مستقر ، أي كل شيء منته إلى غاية ، فالحق يستقر ثابتا ظاهرا ، والباطل يستقر زاهقا
ذاهبا ، ومن جملة ذلك أمر النبي صلىاللهعليهوسلم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق ، وأنهم على باطل.
ثم ونجّهم الله
على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) أي وتالله لقد
جاء مشركي مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها ، وما حل بهم من العقاب
والنكال ، مما أخبر به القرآن ، ما فيه كفاية لزجرهم وكفّهم عما هم فيه من الشرك
والوثنية ، ويدخل في كلمة (الأنباء) جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص
وأحداث الأمم الكافرة.
وهذه الأنباء وما
فيها من عبرة وعظة وهداية : حكمة بالغة كاملة ، قد بلغت منتهى البيان ، ليس فيها
نقص ولا خلل ، فلا تفيدهم الإنذارات شيئا بسبب عنادهم الذي يصرفهم عن الحق ، كما
جاء في آية أخرى : (وَما تُغْنِي
الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠ / ١٠١]
وكلمة (ما) إما نافية ، أو استفهامية بمعنى التقرير ، أي فما غناء النذر مع هؤلاء
الكفرة؟ والحكمة البالغة : هي المؤثرة تأثيرا بالغا في وعظ النفوس.
فأعرض عنهم يا
محمد ، ولا تتعب نفسك بدعوتهم ، حيث لا يؤثر الإنذار فيهم ، بعد هذا العناد
والمكابرة ، وانتظرهم ، واذكر يوم يدعو الداعي فيه وهو إسرافيل ، إلى شيء هائل
تنكره نفوسهم ، استعظاما له ، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا ، وهو موقف الحساب الرهيب
، وما يشتمل عليه من الأهوال والبلايا. وكلمة (نكر) : منكور غير معروف ، ولا يرى
مثله ، وهو نعت للأمر الشديد ، وهذا وعيد لهم.
وذلك اليوم هو يوم
يخرج الناس من قبورهم ، ويكون الكفار ذليلة أبصارهم ، من الذل والهوان ، كأنهم
لانتشارهم واختلاطهم إذا توجهوا نحو المحشر والداعي : جراد منتشر موزع في الآفاق ،
أو مثل الفراش المبثوث ، كما في آية أخرى : (يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٤) [القارعة :
١٠١ / ٤].
ويكونون مهطعين ،
أي مسرعين في مشيهم نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه ، ويسيرون نحو الداعي لهم
وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر ، ويقول الكافرون : هذا يوم صعب ، شديد الهول على
الكفار ، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين. وشدته لما يرون من مخايل هوله وعلامات
مشقته. وذلك كما جاء في آية أخرى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) [المدثر : ٧٤
/ ٩ ـ ١٠].
ويدل ذلك بطريق
المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.
قصة نوح عليهالسلام مع قومه
ساق الله تعالى في
قرآنه قصص الأقوام السابقين ، وعيدا لقريش وضرب مثل لهم ، ومن أقدم هذه القصص :
قصة نوح عليهالسلام مع قومه ، فإنهم كذبوه ، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالسب
والرد القبيح والتخويف ، ووصفوه بأنه مجنون. فاستنجد بربه ، فأجابه ، ودمّر القوم
بالطوفان. وهذه هي نهاية الظلمة الذين عارضوا الرسل ، وقاوموا الدعوة إلى الله
ووحدانيته ، واتبعوا الأهواء ، وصدوا عن سبيل الله ، سبيل الحق والعدل وتوحيد الله
، فكان لا بد من التذكير بقصتهم للاعتبار والاتعاظ ، كما يبدو في هذه الآيات :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ
مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي
بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))
[القمر : ٥٤ / ٩ ـ
١٧].
هذه القصة من قصص
أربع في هذه السورة وعيد للمشركين حين نزول الوحي ، على تكذيبهم رسولهم نوحا عليهالسلام ، فلقد كذبت قبلهم قوم نوح بالرسل ، حيث كذبوا عبد الله
نوحا عليهالسلام ، واتهموه بالجنون ، وزجروه عن دعوة النبوة وتبليغها
بأنواع الأذى والتخويف. قوله : (عَبْدَنا) تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق العبودية لله ، فلم يكن
على وجه الأرض في وقته عابد سواه ، فكذبوه.
__________________
فدعا نوح عليهالسلام ربه تعالى قائلا : إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء ، فانتصر أنت
لدينك ، بعد علمك بتمردهم وعنادهم ، فأجابه الله : لقد صببنا عليهم ماء غزيرا
كثيرا متدفقا. وكلمة (أبواب السماء) هي تشبيه ومجاز ، لأن المطر كثر كأنه من
أبواب. ومنهمر : شديد الوقوع وغزير.
وجعلنا الأرض كلها
عيونا متفجرة ، وينابيع متدفقة ، فالتقى ماء السماء ، وماء الأرض ، على أمر قد قضي
عليهم ، ورتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت ، أو على مقادير قد قدرت ورتبت وقت
التقائه ، وهو وصف الطوفان لعقابهم والانتقام منهم.
وحملنا نوحا عليهالسلام على سفينة ذات ألواح : وهي الأخشاب العريضة ، ودسر : وهي
المسامير التي تشدّ بها الألواح ، وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.
تسير السفينة
بمنظر ومرأى منا ، وحفظ وحراسة لها ، جزاء لهم على كفرهم بالله ، وانتصارا لنوح عليهالسلام ، لأن إرساله نعمة ، وتكذيبه كفران موجب للنقمة. وهذا دليل
على ضرورة اتخاذ الأسباب ، لتحقيق النتائج المرجوة. فقوله : (بِأَعْيُنِنا) معناه بحفظنا وكفايتنا وتحت نظر منا لأهلها.
ولقد أبقينا خبر
السفينة عبرة للمعتبرين ، أو تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة ، فهل
من متعظ يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟!
فانظر أيها السامع
كيف كان عذابي لمن كفر بي ، وكذب رسلي ، ولم يتعظ بإنذاراتي التي جاء بها المرسلون
، وكيف انتصرت لهم وثأرت لهم ، وكيف كانت إنذاراتي؟ وهو اطلاع لقريش على سبيل
التوبيخ والتخويف ، معناه : كيف كان عاقبة إنذاري ، لمن لم يحفل به ، مثلكم أيها
القوم؟ وجمع النّذر : إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب ، لأن الإنذار وهو الاعلام
المتقدم رحمة وشفقة. وقوله : (كُفِرَ) معناه جحد به.
ولقد سهلنا القرآن
وقرّبناه للحفظ عن ظهر قلب ، ويسرنا إدراك معناه لمن أراده للتذكر ، فهل من متعظ
بمواعظه ، معتبر بعبره؟!
إن الله تعالى
يسّر حفظ القرآن وفهم معانيه ، بما فيه من حسن النظم ، وشرف المعنى ، فله التصاق
بالقلوب مع محبة ، وامتزاج بالعقول السليمة مع قناعة. وقوله تعالى في نهاية هذه
القصة وبقية القصص الأربع : (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) استدعاء وحض على حفظه وتذكر مراميه ، لتكون زواجره وعلومه
وهداياته حاضرة في النفس. وهي تعداد نعم الله تعالى في أنه يسّر الهدى.
والحكمة من تكرار
: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) تجديد
التنبيه على الاستذكار والاتعاظ ، والتعرف على تعذيب الأمم السابقة ، والاعتبار
بحالهم. وهكذا كان حكم تكرار آية الرحمن : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) عند عدّ كل
نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية ، لتكون ماثلة أمام الأذهان ، محفوظة في
كل أوان ، وكذلك تكرار هذه القصص في القرآن بعبارات مختلفة ، لتنبيه الغافل على أن
كل موضع له فائدة ، لا تعرف في غيره.
قصة عاد وثمود
تكرر بعد تكذيب
قوم نوح برسولهم تكذيب قبيلتي عاد وثمود برسوليهم هود وصالح عليهماالسلام ، وكان الجزاء الماحق مثل جزاء من قبلهم ، وتشابهت الجرائم
وتماثلت العقوبات ، من أجل تحقيق غاية واحدة : هي زجر الكافرين عن كفرهم ، ونقلهم
من ذل الكفر والمعصية إلى عز الإيمان والطاعة. فإذا بقوا على مواقفهم لم يبق بعدئذ
عذر لهم ، ويكون عقابهم حقا وعدلا ، وهذا ينبغي أن يكون أمثولة مستحضرة
في أذهان
المناوئين والمعارضين لدعوة الإسلام والحق على يد خاتم النبيين المرسل إلى الناس
كافة بشيرا ونذيرا ، قال الله تعالى مبيّنا قصتين بعد قصة نوح عليهالسلام :
(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً
نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ
الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ
وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى
فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ
(٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ (٣٢)) [القمر : ٥٤ / ١٨
ـ ٣٢].
كذبت قبيلة عاد
العربية ، قوم هود عليهالسلام رسولهم ، فانظروا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان
عذابي لهم ، وإنذاري إياهم.
وقوله (فَكَيْفَ كانَ) كيف منصوب إما على خبر (كان) وإما على الحال ، و (كان)
بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه. والنذر : جمع نذير.
إنا سلطنا عليهم
ريحا شديدة الصوت والبرد ، في يوم شؤم عليهم ، متتابع أو دائم الشؤم حتى أهلكهم
ودمّرهم. قال قتادة : استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم.
تقتلع الناس من
الأرض اقتلاع النخلة من أصلها ، أي إنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا ، وهم جثث
طوال عظام ، كأنهم بقايا أو مؤخرات نخل منقلع عن
__________________
مغارسه ، أي إن ما
تقطّع وتشعب من شخص الإنسان يشبه أعجاز النخل ، والنخل : تذكر وتؤنث ، فلذلك قال :
منقعر. والكاف في قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) في موضع الحال.
فانظروا كيفية
عقابي وإنذاري ، ولقد سهّلنا القرآن للحفظ والاستذكار والاتعاظ ، فهل من متذكر
متعظ؟! والإنذار بالتخويف وهزّ الأنفس. قال الرّمّاني : لما كان الإنذار أنواعا ،
كرر التأكيد والتنبيه. وفائدة تكرار قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ) التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس.
كذبت أيضا بالنذر
، أي الرسل قبيلة ثمود قوم صالح عليهالسلام ، وهم أهل الحجر بين الحجاز والشام ، وتكذيب نبيهم صالح عليهالسلام تكذيب لجميع الرسل ، لاتفاقهم على أصول الدين ، فقالوا
حسدا منهم لصالح عليهالسلام ، واستبعادا أن يفضل نوع من البشر بعضه الآخر : أنكون
جميعا ، ونتّبع واحدا؟ وكيف نتبع بشرا من جنسنا ، منفردا وحده ، لا تبع ولا متابع
له على ما يدعو إليه؟ لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا ، وإنا إذا اتبعناه نحن
في خطأ وبعد عن الصواب ، وفي أمر متلف مهلك بالإتلاف ، وفي احتراق نفس هما وحنقا
باتباعه ، أو في جنون أو عناء.
كيف خص بالوحي
والنبوة من بيننا ، وفينا من هو أحق بذلك منه؟ بل هو كذوب متجاوز الحد فيما يدّعيه
من نزول الوحي عليه ، ومتكبر بطر. والأشر : البطر المرح ، أي ليس الأمر كما يزعم ،
فكأنهم بهذا الوصف اتهموه بأنه أراد الاستعلاء عليهم وأن يقودهم وهم يطيعونه.
فرد الله عليهم
مهددا ومتوعدا بقوله : (سَيَعْلَمُونَ غَداً
..) أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في
الدنيا أو في يوم القيامة ، وسيتبين لهم
من المفتري الكذاب
، البالغ الحد في كونه أشرا ، أصالح في تبليغ الرسالة أم هم في تكذيبهم إياه؟
والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.
ولقد أرسلنا لهم
الناقة العظيمة التي اقترحوها أن تخرج من صخرة صماء من الجبل ، وذلك على سبيل
الاختبار والامتحان ، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم بارتقاب الفرج والصبر.
وأخبرهم أن ماء
البئر أو النهر الصغير مقسوم بينهم وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، وكل نصيب من
الماء يحضره صاحبه في نوبته ، فتشرب الناقة في يوم ويشربون هم في يوم آخر ، أو
إنهم يشربون من الماء يوما ، ومن لبن الناقة يوما آخر ، فكأنه تعالى أنبأهم بنعمة
الله تعالى عليهم في ذلك.
ولكن ثمود ملّوا
هذه القسمة ، فتجرأ أحدهم وأشقاهم وأجرؤهم بتواطؤ معهم على عقر الناقة ، فأهوى
بسيفه على قوائمها ، فكسر عرقوبها ، ثم نحرها. فعاقبتهم ، فانظروا كيف كان عقابي
لهم على كفرهم بي ، وتكذيبهم رسولي الذي يخوفهم عذاب الله تعالى.
وتعاطى : مطاوع
طاوع ، كأن هذه الفعلة تدافعها الناس ، فتناولها هذا الشقي. إنا أرسلنا عليهم صيحة
جبريل ، فصاح بهم ، فأبيدوا جميعا ، وصاروا كعشب أو تبن صاحب الحظيرة الذي جمعه
فيها ، أو كالشجر اليابس المتهشم. ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ ، فهل من
متعظ؟!
قصة لوط وآل فرعون
من غرائب القصص :
قصة قوم لوط ، فإن الأمم الأخرى كذبوا الرسل وأصروا على العناد والكفر ، أما قوم
لوط فقد ضموا إلى ذلك اقترافهم فاحشة خطيرة هي
اللواط ، وارتكبوا
سفساف الأخلاق وأدناها ، وأكثرها إخلالا بالمروءة ، فكان عقابهم ـ وهو الخسف وقلب
ديارهم عاليها سافلها ـ فريدا من نوعه بين أنواع العقاب الإلهي ، تطهيرا للأرض أو
البيئة من مفاسدهم وموبقاتهم. وهذا ما أنبأ به القرآن في الآيات الآتية :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ
نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ
(٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ
راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ
(٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها
فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))
[القمر : ٥٤ / ٣٣
ـ ٤٢].
كذبت بالرسل أيضا
من الأمم البائدة قوم لوط ، فإنهم كذبوا رسولهم في دعوته ، وكذبوا بالآيات التي
أنذرهم بها ، واقترفوا الفاحشة ، وتكذيب رسول واحد كتكذيب جميع الرسل ، لأن مهمتهم
واحدة ، ولقد أنذر لوط قومه بعذاب الله ، فلم يرتدعوا ، فعاقبناهم. بأن أرسلنا
عليهم ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى أو الحجارة ، وشبّه ذلك بالسحاب ، فدمرتهم
جميعا إلا لوطا عليهالسلام وآله الذين آمنوا به واتبعوه ، فإنا أنجيناهم من الهلاك في
آخر الليل قبل الفجر.
وإنجاء هؤلاء
الناجين كان إنعاما من الله عليهم ، وتكريما لهم ، ومثل ذلك الجزاء الحسن ، نجزي من
شكر نعمة الله ولم يجحدها ، بأن آمن وأطاع أمر ربه ، واجتنب نهيه.
__________________
والله تعالى عدل
في العذاب ، حيث جاء بعد إنذار ، فلقد أنذرهم الرسول بطشة الله بهم ، أي عذابه
الشديد ، فتشككوا بإلقاء الشبه والضلال في هذا الإنذار ، وكذبوه.
ومن جرائمهم :
أنهم أرادوا تمكينهم ممن أتى لوطا عليهالسلام من الأضياف الملائكة ، الذين جاؤوا في صورة شباب مرد :
حسان ، ليفجروا بهم ، فصيرنا أعينهم مطموسة ، قال قتادة : هي حقيقة ، جرّ جبريل عليهالسلام شيئا من جناحه على أعينهم ، فاستوت مع وجوههم. وقال ابن
عباس والضحاك : هي استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ، فلم يروا شيئا ،
فجعل ذلك كالطمس.
وقال الله لهم على
لسان الملائكة : ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي.
ولقد نزل بهم
العذاب بكرة ، أي صباحا في أول النهار ، عند طلوع الشمس ، وكان عذابا متصلا مستقرا
بهم ، لم يفارقهم حتى ماتوا ، وهم أيضا معذبون في قبورهم بانتظار جهنم ، ثم يتصل
ذلك بعذاب النار ، فذوقوا جزاء أفعالكم عذابي الشديد ، وتحملوا مقتضى إنذاركم
المتقدم ، وهذا مكرر تأكيدا وتوبيخا.
ولقد سهّلنا آيات
القرآن للاتعاظ والتذكر ، فهل من متعظ معتبر؟! وذكرت هذه الجملة عقب كل قصة من
القصص الأربع ، للتأكيد والتنبيه ، والزجر والاتعاظ.
ووالله لقد جاءت
الإنذارات بالعذاب قوم فرعون وأتباعه ، على يد موسى وهارون عليهماالسلام ، ويحتمل أن يريد ب (آل فرعون) قرابته ، وخصهم بالذكر ،
لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم.
كذبوا بآيات الله
المتعددة ، وبالمعجزات الباهرة التي أجراها الله تعالى على يد موسى ، ومنها الآيات
التسع كالعصا واليد ، فكذبوا بها كلها ، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب
في انتقامه ، قادر على إهلاكهم ، قاهر لا يعجزه شيء ، حيث أغرق فرعون وجنوده
بالبحر ، ونجى موسى ومن آمن معه.
إن هؤلاء الأقوام
العتاة (قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون) بلغوا الحد الأقصى في الضلال
والفجور ، وتجاوزوا المعتاد والحدود كلها ، فكانوا أمثولة العالم ، وحديث البشرية
إلى يوم القيامة ، فالله تعالى يعاقب بمثل هذا العقاب كل من اتصف بصفات تلك
الأقوام ، والجزاء من جنس العمل. وهو سبحانه أيضا ينجي أهل الإيمان الذين أطاعوا
الله ورسوله ، ولم يخشوا إلا الله لا صنما ولا وثنا ، ولا حجرا ولا صخرة ، ولا
كوكبا ، ولا شخصا مهما بلغ في عتوه وضلاله ، ويظل البقاء على الدوام لأهل الحق
والسداد ، ويفنى مع الزمان أهل الباطل والعدوان.
تهديد المشركين وتهنئة المتقين.
بعد أن أورد الله
تعالى قصص إهلاك الأمم المتقدمة الذين كذبوا الرسل ، وهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم
لوط وآل فرعون في سورة القمر ، هدّد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم ، بأن ينزل بهم
من العذاب ما نزل بمن تقدمهم ، لتشابههم في السبب : وهو الإصرار على الضلال والشرك
وتكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم ولهم في الآخرة عذاب أشد وأبقى. ثم بشّر الله تعالى وهنأ
المتقين الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بطاعته بالجنة والأنهار العذبة التي
آمنوا بها ، وفي مقاعد النور والخير والإحسان التي صدقوا بها ، بقرب من الله عزوجل قرب مكانة وتكريم ، لا قرب مكان وتعيين ، فقال الله سبحانه
:
(أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ
__________________
فِي
ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا
مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا
إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
(٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))
[القمر : ٥٤ / ٤٣
ـ ٥٥].
هذا خطاب لكفار
قريش على جهة التوبيخ ، أكفاركم يا مشركي العرب خير من الذين تقدم ذكرهم ، ممن
أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل ، وجحودهم كتب السماء ، أم عندكم براءة : سلامة من
العذاب مكتوبة ، فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب أو نكال؟ والمعنى : ليس
كفاركم معشر العرب خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ،
فلستم بأفضل منهم ، حتى تأمنوا ما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم الرسل. وهذا تهديد
وتوبيخ للمصرّين على الكفر من مشركي العرب.
ثم خاطب الله نبيه
محمدا صلىاللهعليهوسلم : أم يقولون : نحن جميع واثقون بأنا منتصرون بقوتنا ، على
جهة الإعجاب والاستكبار ، على الضعفاء الأذلاء ، والاستفهام إنكاري ، سيهزمون فلا
ينفع جمعهم.
سيهزم جمع
المشركين ، ويولّون الأدبار هاربين ، وهذا من أدلة النبوة ، فقد هزموا يوم بدر ،
وقتل زعماء الكفر. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا يوم بدر : «نحن جميع
منتصر» فنزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) واستشهد رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في بدر بهذه الآية.
__________________
ثم تركت هذه
الأقوال وأضرب عنها ، عناية بأمر القيامة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال
، فقال الله تعالى : (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ) أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي ، وليس هذا العذاب
في الدنيا بالقتل والأسر والقهر ، هو تمام ما وعدوا به من العذاب ، وإنما هو مقدمة
له ، وعذاب القيامة أعظم وأنكى ، وأشد مرارة وقسوة من عذاب الدنيا.
ونوع عذاب الآخرة
: هو أن المجرمين ، أي الكفار ـ في رأي أكثر المفسرين ـ في الدنيا في حيرة وبعد عن
الهدى والصواب ، وفي الآخرة في احتراق وتسعّر ، أي في نيران مستعرة.
يوم يجرّون في
النار على وجوههم للإهانة والإذلال ، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : ذوقوا وقاسوا حرّ
النار وآلامها وشدة عذابها. وهذا توعد بالسحب في جهنم. وأكثر المفسرين على أن
المجرمين هنا يراد بهم الكفار ، وقال قوم : المراد بالمجرمين : القدرية الذين
يقولون : إن أفعال العباد ليست بقدر من الله تعالى.
ثم أوضح الحق
تعالى أن جميع ما يحدث في الكون ومنه أفعال الناس كلهم هو مخلوق لله تعالى ، فقال
: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) أي إن كل شيء
من الأشياء وكل فعل من الأفعال في الكون والحياة ، خيرا أو شرا ، مخلوق لله تعالى
، مقدر بقدر معلوم ، وفي هيئة وزمن مخصوص ، وهو محكم مرتب بحكمة الله تعالى ، وعلى
وفق المكتوب في اللوح المحفوظ ، ومعلوم لله في الأزل. وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء
مخلوق ، إلا ما قام الدليل العقلي على أنه ليس بمخلوق ، كالقرآن وصفات الله تعالى.
وهذه الآية رد
واضح على طائفة القدرية الذين ينكرون القدر ، ويقولون : المرء يخلق أفعاله. أخرج
الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خاصمت قريش
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في القدر ، فنزلت هذه الآية.
وأخرج الطبري
ومثله البخاري عن علي رضي الله عنه : قال أبو عبد الرحمن السّلمي : «فقال رجل : يا
رسول الله ، ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى ، سنيسره
للعسرى». وأخرج النحاس عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «القدرية الذين يقولون : الخير والشر بأيدينا ، ليس لهم
في شفاعتي نصيب ، ولا أنا منهم ، ولا هم مني».
ثم أوضح الله نفاذ
مشيئته وقدره في الخليقة ، فقال : (وَما أَمْرُنا) أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء يكون مرة واحدة ، لا حاجة فيه
إلى تأكيد ثان ، فيكون أمرنا بكلمة واحدة نافذا حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته.
ولمح البصر : إغماض العين ثم فتحه.
ثم أعاد الله
تعالى التنبيه للحق ، فتالله لقد أهلكنا أمثالكم في الكفر يا معشر قريش ، من الأمم
السابقة المكذبين بالرسل ، فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك؟! وجميع ما فعله
السابقون وتفعلونه من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ وغيره من كتب الملائكة.
وكل صغير وكبير من الأقوال والأفعال مسطور في اللوح المحفوظ وغيره من كتب الملائكة
، وكل صغير وكبير من الأقوال والأفعال مسطور في اللوح المحفوظ وفي دواوين الملائكة
وصحائفهم. ثم أخبر الله تعالى عن جزاء المتقين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي إن أهل التقوى والإيمان والصلاح في بساتين غناء ،
وأنهار متدفقة ، في المقعد الذي صدّقوا به ، في الخبر به عند الملك العظيم ،
المقتدر على ما يشاء ويريدون ، وهو الله تعالى ، والعندية : لبيان الرتبة والقربة.
والنّهر اسم جنس ، ويراد به الأنهار.
تفسير سورة الرحمن
نعمة القرآن والكون
نعم الله تعالى لا
تعدّ ولا تحصى ، منها الكبرى المستقرة ، ومنها الصغرى المتجددة بتجدّد الحياة
الإنسانية وغيرها ، فعلى كل إنسان شكر هذه النعم اعترافا بها وإجلالا لها ووفاء
لحق المنعم ، وربما كان أدق هذه النعم هو النسبية الكائنة بين الأشياء ، بحيث لا
يكون هناك زيادة ولا نقص ، ونجد الحديث عن هذه النعم الكبرى في مطلع سورة الرحمن
التي هي مكية النزول في الأصح.
وإنما نزلت حين
قالت قريش بمكة : «وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟». قال الله تعالى :
(الرَّحْمنُ (١)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ
رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ
وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (١٣))
[الرحمن : ٥٥ / ١
ـ ١٣].
__________________
عدد الله نعمه في
هذه السورة مبتدئا بذاته المقدسة مصدر النعم.
الرحمن : هو الله
تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية ، وهم اسم من أسماء الله الحسنى.
وهو الذي أنزل القرآن وعلّمه الناس. أوجد الإنسان : وهو هنا اسم جنس ، وعلّمه
النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول.
ومن نعم الله
تعالى العلوية مجال التعلم : أن الشمس والقمر يجريان بحساب دقيق منظم ، معلوم في
بروج ومنازل معلومة ، لا يتجاوزانها ، ويدلان على اختلاف الفصول وعدد الشهور
والسنين ، ومواسم الزراعة ، وآجال المعاملات وأعمار الناس.
ومن نعمه في عوالم
الأرض السفلى : أن النبات الذي لا ساق له ، والشجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله
تعالى فيما أراد ، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا ، فيظهران في وقت محدد
ولأجل معين ، وهما غذاء الإنسان ، ومتعة له.
وظاهرة التوازن أو
النسبية بين الأشياء : هي في أن الله رفع السماء فوق الأرض ، ووضع شرع العدل وأمر
به ، كما قال الله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٥٧ / ٢٥].
وأمر الله بإقامة
العدل على الوجه الصحيح ، ومنه إقامة الوزن للأشياء بالعدل ، ونهى عن نقص المكيال
والميزان ، كما قال تعالى : (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الشعراء : ٢٦ /
١٨٢] وذلك بقدر الإمكان. وأما ما لا يقدر البشر عليه من تحرير الميزان وتسويته
بدقة ، فهو موضوع عن الناس.
وقوله : (وَلا تُخْسِرُوا) من أخسر ، أي نقص وأفسد.
وهذا لتأكيد الأمر
بالعدل ، فقد أمر الله سبحانه أولا بالعدل والتسوية ، ثم نهى عن التجاوز والزيادة
عند استيفاء الحق ، ثم منع الخسران الذي هو النقص والبخس.
ثم ذكر الله تعالى
ما في الأرض من نعم كثيرة في مقابل السماء ، فالله هو الذي وضع الأرض وبسطها
لينتفع بها الناس ، وأرساها بالجبال الراسخات ليستقر الناس على وجهها.
ثم أوجد الله طرق
المعايش في الأرض ، ففيها كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان
والطعوم والروائح ، وفيها أشجار النخيل ذات أوعية الطلع وأغطية النّور والزهر الذي
يتحول بعدئذ إلى تمر ، وفيها جميع ما يقتات الإنسان من الحبوب كالحنطة والشعير
والذرة ونحوها ، ذات العصف : وهو ورق الزرع الجاف ، ويتحول إلى التبن الذي هو رزق
البهائم ، وفيها كل مشموم من النبات ذي الرائحة الجميلة ، وتنكير كلمة (فاكهة)
وتعريف كلمة (النخل والحب) لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص ،
أما ثمر النخيل والحب فهو قوت محتاج إليه في كل زمان ، متداول في كل وقت ، ويحتاج
إليه جميع الأشخاص ، وكذلك الريحان الذي لا يفارق أغلب النباتات.
فبأي النعم
المتقدمة يا معشر الجن والإنس تكذبان؟ فهي من الرب المنعم الذي يتعهد عباده
بالتربية والنماء ، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على كل حال. والضمير قوله : (رَبِّكُما) للجن والإنس. وعرف ذلك إما من قوله : (لِلْأَنامِ) أي الثّقلان ، وإما من تفسيرهما في قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) و (وَخَلَقَ الْجَانَ). ويقال بعد ذلك : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد
ولك الشكر.
وقد تكررت هذه
الآية (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) في سورة
الرحمن إحدى وثلاثين مرة ، بعد كل خصلة من النعم ، وجعلها الله فاصلة بين كل
نعمتين ، لتأكيد التذكير بالنعمة ، وتقريرهم بها ، وللتنبيه على أهميتها ، والنعم
تشمل دفع المكروه ، وتحصيل المقصود.
إن هذه النعم
المادية لا شك في أهميتها والحاجة إليها ، لكن أعظم نعمة وأول نعمة وأخلدها وأجدها
هي نعمة القرآن ، كما افتتحت بها السورة ، وكما وصف هذا الكتاب في آية أخرى مثل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ١٦ / ٨٩].
ومثل : (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلَّا خَساراً) (٨٢) [الإسراء :
١٧ / ٨٢].
نعم إلهية أخرى
يذكّرنا الله
تعالى بنعمه على الدوام ، ليدلنا على قدرته العظمى ووحدانيته الخالدة ، فهو سبحانه
خلق الإنسان في أصله من الطين اليابس ، وخلق أصل الجن من النار ، وهو رب المشارق
والمغارب ، وهو الذي حجز بين البحرين : العذب والملح ، وسيّر السفن في أعالي
البحار ، وأعد كل ذلك لخير الإنسان ما دام في الحياة ، ثم يفنى كل شيء ، ويبقى
الله ذو الجلال والعظمة والإكرام. وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية :
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))
[الرحمن : ٥٥ / ١٤
ـ ٢٨].
__________________
من دلائل القدرة
الإلهية : أن الله تعالى خلق أصل الإنسان وهو آدم من طين يابس له صلصلة ، أي صوت
مثل الخزف : وهو الطين المطبوخ بالنار ، ليتماسك ويصير صلبا.
وخلق الله تعالى
أصل الجن : وهو إبليس من طرف النار ، أي من لهب خالص لا دخان فيه ، فبأي نعم الله
يا معشر الثقلين : الإنس والجن تكذبان أو تنكران هذا الواقع المشاهد؟
والله تعالى رب
مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، ورب مغربي الشمس في الصيف والشتاء ، وبهما تتكون
الفصول الأربعة ، وتختلف أحوال المناخ من حر وبرد واعتدال. فبأي نعم الله هذه
تكذبان أو تنكران؟! وخص الله تعالى ذكر المشرقين والمغربين بالتشريف في إضافة الرب
إليهما ، لعظمهما في المخلوقات ، وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة ، وهي : الشمس
وجريها. ومتى ذكر المشرق والمغرب : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ) [المزمل : ٧٣ / ٩]
فيراد منهما جنس المشرق والمغرب في الجملة ، ومتى ذكر المشارق والمغارب (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٧٠ /
٤٠] فيراد به مشارق كل يوم ومغاربه ، ومتى ذكر المشرقان والمغربان كما هنا فيراد
بهما نهايتا المشارق والمغارب ، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. وقال مجاهد : هو
مشرق الصيف ومغربه ، ومشرق الشتاء ومغربه. والله تعالى أرسل البحرين ، والمراد
بهما نوعا الماء العذب والأجاج ، أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين ، قريب
بعضهما من بعض ، ولكن بينهما حاجز يحجزهما ويمنعهما من الاختلاط ، فلا يبغي أحدهما
على الآخر ، بالامتزاج ، والاختلاط. فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان أو
تنكران؟
يخرج من أحد
البحرين ـ على حذف مضاف ـ وهو الأجاج : اللؤلؤ وهو : كبار
الجوهر المتكون في
الصدف ، والمرجان : صغاره ، وهو حجر أحمر. وتتكون هذه الأشياء في البحر بنزول
المطر فبأي نعم الله الظاهرة لكم أيها الجن والإنس تكذبان؟ ففي ذلك من دلائل القدرة
الإلهية ما لا يستطيع أحد تكذيبه ، وخروج هذه الأشياء إنما هو من الملح ، لكنه
تعالى قال : (مِنْهُمَا) تجوّزا.
والله الذي خلق
وألهم صنع الجواري : وهي السفن ، جمع جارية ، الرافعات أشرعتها في الهواء كالجبال
الشواهق ونحوها من المرتفعات من الظراب والآكام. ولفظة (الْمُنْشَآتُ) تعم الكبير والصغير. وقوله (كَالْأَعْلامِ) هو الذي يقتضي الفرق بينهما هنا. وإنما قال : (وَلَهُ الْجَوارِ) خاصة ، مع أن الله السماوات والأرض وما بينهما ، لأن أموال
الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى ، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن
والإنس؟ لقد خلقت لكم هذه النعم ، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة أو كيفية
إجرائها في البحر ، أو منافعها في تقريب المسافات ، ونقل الحمولة وأنواع التجارة
والصناعات ، ليستفاد منها في بلاد أخرى.
ومما يؤكد كون هذه
الأشياء من دلائل القدرة الإلهية : أن وجودها وزوالها بيد الله تعالى ، فجميع من
على الأرض من الناس والدواب ، وجميع أهل السماوات إلا من شاء الله ، سيتعرضون
للفناء والموت ، وتزول الحياة ، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى ، ذو العظمة
والكبرياء ، وصاحب الفضل والإكرام الذي يسبغ به على من يشاء من عباده ، فبأي شيء
من نعم الله هذه تكذبان أيها الجن والإنس؟!
والضمير في قوله
تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) (٢٦) عائد للأرض ،
ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى ، كما قال تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٨ / ٣٢].
والآية تشمل بالفناء جميع الموجودات الأرضية من حيوان وغيره. وغلّبت عبارة من يعقل
في قوله
__________________
تعالى : (كُلُّ مَنْ). وقوله (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ) الوجه : عبارة عن الذات ، لأن العضو منفي عن الله تعالى ،
وهذا كما تقول : هذا وجه القول والأمر ، أي حقيقته وذاته ، و (ذُو الْجَلالِ) صفة لفظة الوجه.
نعم الله وعجائبه يوم القيامة
النّعم الإلهية
موصولة في الدنيا والآخرة ، وفي كل نعمة تعجب من صنعها وتيسيرها للناس ، وفيها
دلالة واضحة على عظمة القدرة الإلهية ، وكون كل شيء بخلق الله وإبداعه ، حتى إن كل
الاكتشافات والاختراعات المادية ، وإن صدرت في الظاهر من الإنسان ، فإنما هي
بإلهام الله وإرشاده وتعليمه ، وكذلك غزو الفضاء بالآلات والأقمار الصناعية وسفن
الفضاء والصواريخ ، إنما تم بتمكين الله وتعليمه. وسيفاجأ الإنسان في الآخرة
بغرائب الأحداث والظواهر الكونية خلافا للمألوف في الدنيا ، كانشقاق السماء
وتبدّلها ، وتسيير الجبال وإزالتها ، وتفرّد الله بالحساب والجزاء ، وكون
المسؤولية شخصية أو فردية ، وتميّز المجرمين عمن سواهم ، ومشاهدة جهنم المستعرة
تغيّظا وإرهابا. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال :
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا
لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
(٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥)
فَبِأَيِّ آلاءِ
__________________
رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ
(٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ
ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))
[الرّحمن : ٥٥ /
٢٩ ـ ٤٥].
المعنى : كل إنسان
بحاجة إلى الله تعالى ، فجميع من في السماوات والأرض يطلبون حوائجهم من الله تعالى
، فلا يستغني عنه أهل السماء والأرض. والسائل الناطق يتكلم ، وغير الناطق يعتمد
على حاله ، فحاله يقتضي السؤال. والله سبحانه يظهر في كل وقت أو زمن شأنا من شؤون
قدرته الأزلية ، من إحياء وإماتة ، ورفع وخفض وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم
نهايتها إلا هو جلّ وعلا. والشأن : اسم جنس للأمور. فبأي نعم الله تكذبان معشر
الجن والإنس ، فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده : نعمة لا تجحد ، ولا تكذّب.
وسنتجرّد لحسابكم
وجزائكم على أعمالكم معشر الجن والإنسان ، فبأي شيء من نعم الله تكذبان أيها
الثقلان. وقوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) : عبارة عن
إتيان الوقت الذي قدّر فيه وقضى أن ينظر في أمر عباده ، وذلك يوم القيامة. وليس
المعنى : أن هناك شغلا يفرغ منه ، وإنما هي إشارة وعيد. والثّقلان : الجن والإنس ،
يقال لكل ما يعظم أمره : ثقيل.
أيها الجنّ والإنس
، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره
، فاخرجوا منها ، لا تقدرون على النفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر ، ولا قوة لكم على
ذلك ولا قدرة ، فلا يمكنكم الهرب.
__________________
والمعشر : الجماعة
العظيمة. والسلطان : القوة على تحقيق غرض الإنسان ، أو الحجة. والأقطار : الجهات.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم
أقطار السماوات والأرض. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان : الجن والإنس؟
ولو خرجتم من
جوانب السماوات والأرض يسلط عليكم أيها الإنس والجن لهب النار الخالص ، ويصبّ على
رؤوسكم نحاس مذاب ، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. وتثنية ضمير (عليكما)
لبيان الإرسال في الجملة على النوعين من الإنس والجن ، لا على كل واحد منهما ، ولا
على الجميع.
ومن أحوال الآخرة
والجزاء : أنه إذا جاء يوم القيامة انصدعت السماء ، وتبددت وصارت كوردة حمراء ،
وذابت مثل الدهن ، أو بدت كالجلد الأحمر ، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت ،
وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها. فبأي نعم الله تكذّبان أيها الإنس والجن؟
ففي الخبر بذلك رهبة ورعب.
ويوم تنشق السماء
، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه ، لأنهم يعرفون بعلامتهم عند خروجهم
من قبورهم ، ولأن الله تعالى أحصى أعمالهم وحفظها عليهم. والآية تقتضي نفي السؤال.
وهناك آيات أخرى تفيد إثبات السؤال مثل : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ١٥ / ٩٢
ـ ٩٣]. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن السؤال متى أثبت فهو بمعنى التقرير
والتوبيخ ، ومتى نفي فهو بمعنى الاستخبار المحض والاستعلام ، لأن الله تبارك
وتعالى عليم بكل شيء.
فبأي نعم الله
تكذبان أيها الإنس والجن؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم. وسبب
عدم السؤال أنه يعرف الكفار (المجرمون) والفجار يوم خروجهم من
القبور بعلاماتهم
، وهي كونهم سود الوجوه ، زرق العيون ، يعلوهم الحزن والكآبة ، فيؤخذ بنواصيهم
وأقدامهم مجموعا بينهما ، وتضمّ الأقدام إلى النواصي. فبأي النّعم تكذبان؟ فقد
أنذرتم وحذرتم سابقا.
ويقال لهم ، أي
للمجرمين يوم القيامة توبيخا وتقريعا : هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها
، التي كنتم تكذبون بوجودها ، ها هي حاضرة أمامكم. وإنهم يترددون بين نار جهنم
وجمرها ، وبين حميمها : وهو الماء المغلي في جهنم من مائع عذابها. والحميم : الماء
الساخن. فبأي النّعم تكذبان بعد هذا البيان والاعلام السابق؟!
نعم مادية على المتقين في الآخرة
في مقابلة ألوان
العذاب على الكفار في الآخرة في سورة الرّحمن ، ذكر الله تعالى بعدها ألوان النعيم
المادية من الطعام والشراب والفاكهة ، والفرش والنساء الحوريات ، ترغيبا في التقوى
أو العمل الصالح ، وتحذيرا من العصيان والمنكرات ، فمن خاف ربّه انزجر عن معاصي
الله ، ومن آمن بالله المستحق للعبودية والطاعة لذاته ، أقبل على ساحات الرّضوان
الإلهي ، وحقق لنفسه السعادة والطمأنينة والهناءة. وأنواع النعيم الأخروي هي ما
يأتي في قوله تعالى :
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا
أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ
تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ
عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ
__________________
وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ
قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ
وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))
[الرّحمن : ٥٥ / ٤٦
ـ ٦١].
لمن خاف قيامه بين
يدي ربّه للحساب ، بالكفّ عن المعاصي والتزام الطاعات : نعمتان كبريان : روحية
ومادية ، أما الروحانية : فهي رضا الله تعالى كما في قوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التّوبة : ٩ / ٧٢].
وأما المادية : فهي جنّتان تشتملان على متع الدنيا في الشكل ، لكنها أسمى منها
وأفضل ، فهما جنّتان لا جنّة واحدة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثّقلان؟ فإن نعم
الجنان لا مثيل لها ، فضلا عن دوامها. وهذا دليل على أن الجن المؤمنين يدخلون
الجنة إذا اتّقوا معاصي ربّهم وخافوه.
وللجنتين
الماديتين أغصان الأشجار وأنواع الثمار ، فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجنّ
تكذّبان؟
وقد نزلت آية : (وَلِمَنْ خافَ) فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : في أبي بكر
الصّدّيق رضي الله عنه.
وفي كل من الجنتين
عين جارية ، لسقي الأشجار والأغصان ، والاثمار من جميع الأنواع ، فبأي نعم ربّكما
معشر الجنّ والإنس تكذبان؟ فتلك حقيقة قاطعة ، وواقع ملموس.
وفي هاتين
الجنّتين من كل فاكهة صنفان ، يستلذّ بكل واحد منهما ، أحدهما :
__________________
رطب ، والآخر يابس
، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب ، خلافا لثمار الدنيا ، بل فيهما مما
يعلم وخير مما يعلم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فبأي
هذه النعم تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ وهي نعم واقعية وثابتة.
ثم بعد الطعام ذكر
الله الفراش ، فهؤلاء الخائفون من عصيان الله يتنعمون على فرش بطائنها (وهي ما تحت
الظهائر) من إستبرق (ما غلظ من الدّيباج) وثمر الجنّتين أو المجتنى قريب التناول.
فبأي شيء من هذه النّعم يحصل التكذيب والإنكار؟! وكلمة (مُتَّكِئِينَ) إما حال من محذوف تقديره : يتنعمون متكئين ، وإما من قوله
تعالى : (وَلِمَنْ خافَ). والاتّكاء : جلسة المتنعّم المتمتّع.
أخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : بطائنها من إستبرق
، فما الظواهر؟ قال : ذاك مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السّجدة : ٣٢ /
١٧] وكذلك قال. والجنى : ما يجتنى من الثمار ، ووصف بالدنوّ لأنه فيما روي في
الحديث يتناوله الرجل على أي حالة كان ، من قيام أو جلوس أو اضطجاع ، لأنه يدنو
إلى مشتهيه. ثم وصف الله الحور العين في الجنّتين ، فقال :
(فِيهِنَّ قاصِراتُ ..) أي في الجنّتين الحور العين اللاتي قصرن ألحاظهن على
أزواجهن ، لم يفتضضهنّ قبلهم أحد من الإنس أو الجن. ويقال لدم الحيض ولدم الافتضاض
: طمث ، فإذا نفي الطمث فقد نفي القرب منهن على جهة الوطء. والضمير في قوله : (فِيهِنَ) عائد للجنات ، إذ الجنّتان جنات في المعنى. فبأي النّعم
تكذبان أيها الثّقلان؟! ومعنى قوله : (وَلا جَانٌ) يحتمل أن يكون اللفظ مبالغة وتأكيدا ، كأنه تعالى قال : لم
يطمثهن شيء. ويحتمل أن الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج
الله تعالى ، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات.
ثم وصف الله نساء
الحور بكأنهن الياقوت صفاء ، والمرجان بياضا أو حمرة ، فبأي شيء من نعم الله تعالى
تكذبان أيها الإنس والجن؟
ثم بيّن الله سبب
هذا الثواب ، بقوله : (هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ ..) أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في
الآخرة ، فبأي شيء من نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟ وهذه آية وعد وبشرى لنفوس
جميع المؤمنين ، لأنها عامة.
نعم أخرى على المتقين في الآخرة
تابع الله تعالى
في سورة الرّحمن سرد أوصاف النعيم المادية للمتقين الخائفين من معاصي الله ،
المقدمة لهم يوم القيامة ، ففي الآيات السابقة بيّن الحق تعالى أن ثواب الخائفين
جنّتان. وفي هذه الآيات ضمّ إليهما جنّتان أخريان لمن كان دون المتّقين في الرتبة
والفضيلة ، ولكنهما خضراوان ، وفوّارتان بالماء ، ومشتملتان على أنواع الفاكهة
اللذيذة ، والخيرات الحسان وهي أفضل النساء ، وهن عذارى ، وأهل هاتين الجنتين
متكئون على وسائد مخضرة وبارعة الحسن والجمال ، وكل ذلك من الله تعالى المتّصف
بالعظمة والجلال ، المتنزه عن كل ما لا يليق به ، ومصدر هذا الإنعام والفضل على
عباده ، كما تصوّر لنا هذه الآيات :
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ
(٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ
__________________
يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥)
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ
(٧٨))
[الرّحمن : ٥٥ /
٦٢ ـ ٧٨].
ومن دون الجنّتين
المتقدمتين في بيان سورة الرّحمن في المنزلة والقدر : جنّتان أخريان. والجنّتان
الأوليان : جنّتا السابقين ، والأخريان جنّتا أصحاب اليمين. فبأي شيء من النّعم
الإلهية تكذّبان أيها الإنس والجنّ؟
والجنّتان شديدتا
الخضرة ، من شدة الرّي المائي. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟
وفي الجنّتين
عينان فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب ، فهناك جنّتان تجريان بالأنهر ، وجنّتان
فوّارتان ، والجري أقوى من النّضخ. فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
وفي هاتين
الجنّتين نساء جميلات ، خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه ، فبأي نعم الله تكذبان أيها
الجن والإنس؟!
وهؤلاء النساء
الخيرات ، حور شديدات البياض ، واسعات الأعين ، مع شدة السواد وشدة البياض وصفائه
، مخدرات محجّبات مستورات في خيام الجنّة ، المكونة من الدّر المجوفة. والخيام :
البيوت من الخشب ، لا يتبذلن في شارع ولا سوق ، ولا يخرجن لبيع أو شراء ، وهنّ
مقصورات على أزواجهن ، لا ينظرن إلى رجال غيرهن. وهذه هي المرأة المحببة للرجال ،
خلافا لأذواق المنحلّين اليوم.
ولم يمسّهن ولم
يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن ، توفيرا للمتّقين الخائفين ربّهم ، فبأي نعم
الله تكذبان؟
__________________
وهؤلاء الأتقياء
البررة متكئون على وسائد خضراء ، وبسط منقوشة بديعة ، فاخرة الصنع ، فبأي نعم الله
تكذبان أيها الإنس والجن؟! ويلاحظ أن أثاث الجنّتين الأوليين أرفع من هذه الصفة ،
فإنه تعالى قال فيهما هناك : (مُتَّكِئِينَ عَلى
فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) فبأي شيء من هذه النّعم تكذّبان معشر الجنّ والإنس؟!
وختمت الصفات
المتقدمة في الجنّتين الأوليين ببيان سببها وهو : أن استحقاق هذا الفضل والإحسان
جزاء الإحسان المتقدم في الدنيا.
وهنا ختمت هذه
الصفات والسورة كلها بالإقرار بمصدر هذا الفضل ، وهو الله تعالى الذي تنزه عن كل
ما لا يليق به ، فهو المتفرّد بصفات العزّة والعظمة ، وإكرام عباده المخلصين ، وهو
أحقّ بالعبادة والإجلال فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر
فلا ينسى. وهذه الخاتمة تدلّ على بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله ، منزهين له ،
مستمتعين به. وأما أوصاف نعيم الدنيا فختمت بما يشير إلى فناء كل شيء من الممكنات
يوم القيامة مع بقاء الله : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧).
وفي الجملة : هناك
لأهل التقوى أربع جنان ذات منازل مختلفة ، اثنتان منهما للمقرّبين السابقين ،
واثنتان دونهما في المكانة والمنزلة لأصحاب اليمين. والفروق واضحة بين كل من
النوعين ، وذلك دليل على إقامة صرح العدالة في الثواب والتكريم ، فلا يستوي كل
فريق مع الآخر ، مع تفاوتهما في العمل الصالح ، وممارسة كل مظاهر التقوى ، وأعمال
البر في الدنيا ، مما يؤهل كل فريق لما أعدّه الله له من الإحسان والنّعم الموافية
لعمله.
تفسير سورة الواقعة
قيام القيامة وانقسام الناس فريقين أو ثلاثة
تحدّثت سورة
القيامة على خبر إثبات وقوعها ، وكون ذلك ذلك الخبر حقيقة ثابتة واقعة ، وعلى كون
الناس فيها بحسب حظوظهم وأعمالهم فريقين : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، ومن
الفريق الأول فئة السابقين وهم الأنبياء المقربون عند ربّهم في جنات النعيم ،
فيصير الناس ثلاثة أصناف ، لكل صنف مكان عند الله ، فالسابقون وهم الأنبياء والرّسل
والصّديقون والشهداء وأمثالهم : في منزلة خاصة هي أعلى المنازل ، وأصحاب الميمنة :
في منزلة أدنى في الجنة ، وأصحاب الشمال وهم الكفار في نيران الجحيم ، وهذا ما
نجده صريحا في الآيات الآتية في مطلع سورة الواقعة المكّية بإجماع من يعتدّ بقوله
من المفسرين :
(إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا
رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً
مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما
أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ
(٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))
[الواقعة : ٥٦ / ١
ـ ١٢].
إذا حدثت القيامة
، والواقعة اسم من أسماء القيامة ، كالصّاخّة والآزفة والطّامّة.
__________________
وهذه كلها أسماء
تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها ، ليس لوقوعها صارف ولا دافع ، ولا بد من أن تكون ،
وليس لها تكذيب ولا رد. وكلمة (كاذِبَةٌ) إما مصدر كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين ، أي ليس لها
تكذيب ولا ردّ ، وهذا قول قتادة والحسن ، وإما أن تكون صفة لمقدّر ، كأنه تعالى
قال : ليس لوقعتها حال كاذبة.
ـ وهي خافضة
أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين ، فتجعلهم في الجحيم ، وهم الكفرة والفسقة ،
ورافعة أقواما كانوا في الدنيا مغمورين ، فتجعلهم في الجنة ، وهم المؤمنون. فقوله
: (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣) خبر لمبتدأ ،
أي هي خافضة رافعة.
ـ إذا زلزلت
وحرّكت الأرض بعنف تحريكا شديدا ، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال.
ـ وفتّتت الجبال
فتّا ، وصارت غبارا متفرّقا منتشرا أو شائعا في الهواء ، كالهباء الذي يطير في النار. وهذا يدلّ على دكّ الجبال وزوالها عن
أماكنها يوم القيامة.
ـ وأصبحتم يوم القيامة
من قسمين إلى ثلاثة أصناف : أهل اليمين أصحاب الجنة ، وأهل الشمال أهل النار ،
والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنة والرحمة ، وهم الأنبياء والرّسل
والصّديقون والشهداء.
فأصحاب اليمين :
هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذون إلى الجنة ، فما أحسن حالهم وصفتهم
وأكمل سعادتهم!
وقوله : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. وقوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مبتدأ ، والفاء تدلّ على التفسير ، وقوله : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ما : مبتدأ ثان ، وأصحاب الميمنة : خبر : ما ، والجملة خبر
المبتدأ الأول.
__________________
وأصحاب الشمال :
هم الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم ، ويساقون إلى النار ، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!!
والسابقون من كل
أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد وأعمال البر ، وهم : الأنبياء والرّسل عليهمالسلام ، والشهداء والصّديقون ، والقضاة العدول ، ونحوهم ، إنهم
السابقون إلى الجنة والرحمة ، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته
والمقرّبون من الله تعالى في جنّة عدن ، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم.
وقوله : (أُولئِكَ) تدلّ على علو مكانتهم. وقوله : (وَالسَّابِقُونَ) مبتدأ ، و (وَالسَّابِقُونَ) الثاني خبر على مذهب سيبويه ، وجملة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) مبتدأ وخبر ،
استئناف بياني. وقال بعض النّحويين : (وَالسَّابِقُونَ) الثاني : نعت للأول ، وجملة (أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ) (١١) على هذا
القول : في موضع الخبر.
وهذه الآية تتضمن
أن العالم يوم القيامة ثلاثة أصناف : مؤمنون هم على يمين العرش ، وهنالك الجنة ،
وكافرون وهم على شمال العرش ، وهنالك النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة وهم عند
الله تعالى في جنة عدن ، أو في الفردوس أعلى الجنان وهي أعلى منازل البشر في
الآخرة. ذكر الله تعالى أصحاب الميمنة متعجبا منهم في سعادتهم ، وأصحاب المشأمة
متعجبا منهم في شقاوتهم ، ثم ذكر السابقين مثبتا حالهم ، فأخبر أنهم نهاية في
العظمة والسعادة.
والقول في يمين
العرش وشماله أمر تقديري ، كالقول في يمين الكهف وشماله في آية : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ
تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ
الشِّمالِ) [الكهف : ١٨ / ١٧]
بأن تقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان ، فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين ،
وآخره عن شمال.
والسابقون : هم
الذين سبقت لهم السعادة ، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى
أعمال البر وإلى
ترك المعاصي. أخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها ، عن النّبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟
قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوا بذلوه
، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».
نعيم السابقين المقرّبين
السابقون السابقون
: هم الذين سبقوا في الدنيا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي ، وهم المقرّبون عند
الله في أعلى منازل البشر في الآخرة ، كما تقدم ، وهؤلاء الصفوة المتميزة العليا
من أهل الجنة ، ومن مختلف الأمم إلى يوم القيامة ، يتمتعون بأكمل أنواع النعيم
المادي والمعنوي في الآخرة ، وقد ذكر الله تعالى ألوان نعيمهم في الآيات الآتية من
سورة الواقعة :
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ
عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا
يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣)
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))
[الواقعة : ٥٦ /
١٣ ـ ٢٦].
السابقون
المقرّبون : جماعة كثيرة لا يحصى عددهم ، من الأمم ، وهم من الأولين
__________________
أكثر من الآخرين
الذين عبّر عنهم بالقليل ، والأولون : هم في رأي مكي وغيره الأنبياء الذين كانوا
في صدر الدنيا أكثر عددا. أو هم في رأي الحسن وغيره السابقون من الأمم ، والسابقون
من هذه الأمة (أتباع النّبي صلىاللهعليهوسلم).
أخرج أحمد وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال : لما نزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) شقّ ذلك على
المسلمين ، فنزلت : (وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ) (٤٠).
ولا أرى تعارضا
بين هذه الآيات ، فهي في السابقين المقرّبين ، وآية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) فهي في أصحاب
اليمين.
وروي عن عائشة رضي
الله عنها أنها تأوّلت أن الفريقين في أمة كل نبي : هي في الصّدر ثلة ، وفي آخر
الأمة قليل. وروى سفيان الثوري عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النّبي صلىاللهعليهوسلم : «الثّلّتان جميعا من أمّتي».
وحال هؤلاء
المقرّبين : هم في الجنة متكئون على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب ، مشبكة بالدّر
والياقوت والزّبرجد ، في حال التقابل ، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، وهم في حبور
وسرور ، وصفاء واطمئنان.
ـ يدور عليهم
للخدمة غلمان باقون على صفة واحدة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ولا يبعد أن يكونوا
كالحور العين مخلوقين في الجنة ، للقيام بهذه الخدمة.
ـ يطوفون على أهل
الجنة السابقين بأكواب لا عرى لها ولا خراطيم ، وبأباريق لها العرى والخراطيم ،
وبكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون ، ولا تعصر عصرا كخمر
الدنيا ، فهي صافية نقية من الكحول المسكر ، لا تتصدّع رؤوسهم من شربها ، ولا
يسكرون منها ، فتذهب عقولهم.
ـ ومعهم ما
يختارونه من ثمار الفاكهة ، وأنواع لحوم الطيور التي يشتهونها ، مما لذّ وطاب ،
ومن المعلوم أن لحوم الطيور أيسر هضما وأعذب طعما.
ـ ولهم نساء
حوريات بيض ، مع شدة سواد العين ، وشدة بياضها ، واسعات الأعين حسانها ، كأنواع
اللآلى والدّرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة ، وبياضا ومتعة ، وجمالا
من أحسن الألوان ، يفعل بهم ذلك كله ، مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ـ وفي الجنة لا
يسمعون كلاما لاغيا لا معنى له ، واللغو : الفاحش من القول ، ولا كلاما فيه ما
يوقع في الإثم من سبّ أو شتم أو ساقط الكلام. ولكن يسمعون أطيب الكلام ، ويتبادلون
فيما بينهم التحية وأكرم السّلام ، كما في آية أخرى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم : ١٤ /
٢٣]. والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم ، كنعيم الدنيا ، وإنما هو خال من
الكدر والهمّ ، واللغو ، والقبح. وحكمة تأخير بيان ذلك عن ذكر الجزاء ، مع أنه من
النّعم العظيمة : أنه من أتم النّعم ، فجعله المولى من باب الزيادة والتمييز ،
لأنه نعمة اجتماعية تدلّ على نظافة أو طهر الوسط الاجتماعي ، بعد تبيان النّعم
الشخصية.
وقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) دليل على أن هذه الرّتب والنّعم هي بحسب أعمالهم ، لأنه
روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقسّمة على قدر الأعمال. وأما دخول الجنة نفسه
: فهو برحمة الله تبارك وتعالى وفضله ، لا بعمل عامل ، كما جاء في حديث صحيح ،
أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد ، ولفظ البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لن ينجّي أحدا منكم عمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول
الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله
برحمته ، سدّدوا
وقاربوا ، واغدوا وروحوا ، وشيء من الدّلجة ، والقصد القصد تبلغوا ».
وفي البخاري أيضا
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «سدّدوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله
الجنة ، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله ، وإن قلّ».
جزاء أصحاب اليمين
ذكر الله تعالى
ألوان النعيم للسابقين المقرّبين عند الله يوم القيامة ، ثم أتبعه ببيان أصناف
النعيم لأصحاب اليمين ، من الفاكهة الكثيرة ، والظلال ، والمياه ، والأنهار
الجارية ، والفرش المرفوعة ، والحور العين العذارى في عمر واحد أو متساويات السّن
: أتراب ، ومحبّبات إلى أزواجهن ، وهذا أنموذج إغرائي لمن اهتم بالماديات ، قياسا
على أحوال الدنيا التي قد تفتقد فيها هذه الأشياء لكثير من الناس ، فيجدون الحلم
والعوض محقّقا في الآخرة ، وهذا ما نصّت عليه الآتية التالية :
(وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤)
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً
أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))
[الواقعة : ٥٦ /
٢٧ ـ ٤٠].
__________________
أخرج سعيد بن
منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا : لما سأل أهل الطائف الوادي
يحمى لهم ، وفيه عسل ، ففعل ، وهو واد معجب ، فسمعوا الناس يقولون : في الجنة كذا
وكذا ، قالوا : يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي ، فأنزل الله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ
الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (٢٨) الآيات. وهم
أصحاب المرتبة المتوسطة ، ومنهم عصاة المؤمنين بعد مجازاتهم على معصيتهم أو العفو
عنهم.
المعنى : عطف الله
تعالى في بيانه على بيان جزاء السابقين المقرّبين : ما أعدّه لأصحاب اليمين
الأبرار ، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، فإن منزلتهم دون المقرّبين ، ولكن في درجة
عالية في الجنة ، فهم أصحاب الميمنة ، وما أدراك ما هم ، وأي شيء هم ، وما حالهم
ومآلهم؟! وهذا يشير إلى التفخيم والانتباه للتعرّف على حالهم ، فجاء البيان المفصل
لما أبهم من حالهم ، فقال الله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (٢٨) أي يتمتعون
في جنات فيها شجر يشبه شجر السّدر : وهو من العضاة له شوك ، وأما سدر الجنة فهو
على خلقة سدر الدنيا ، له ثمر كقلال هجر ، طيب الطعم والريح ، ووصفه تعالى بأنه
مخضود ، أي مقطوع الشوك الذي لا أذى فيه.
ولهم أيضا مثل
الطّلح : وهو كذلك من العضاء شجر عظيم كثير الشّوك ، ولكن طلح الجنة على صفات
كثيرة مباينة لحال الدنيا ، ومنضود معناه : مركب ثمره ، بعضه على بعض من أرضه إلى
أعلاه.
أخرج البيهقي عن
مجاهد قال : كانوا يعجبون بوج (واد مخصب بالطائف) وظلاله وطلحة وسدره ، فأنزل الله
: (وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠)
وهم في ظلال وارفة
دائمة الظّل ، وحولهم ماء جار لا ينقطع ، ويتناولون من أنواع
الفاكهة الكثيرة
ما شاؤوا ، فهي لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات ، كما تنقطع فواكه الدنيا أحيانا
، ولا تمنع عمن أرادها في أي وقت ، على أي صفة ، أعدت لمن أرادها.
ويجلسون وينامون
على فرش مرفوعة على الأسرّة ، وذات رفعة ، والفرش : الأسرّة ، جمع فراش : وهو ما
يفترش للجلوس عليه أو النوم عليه ، وقال أبو عبيدة وغيره : أراد بالفرش النّساء.
والمرفوعة : معناه المرتفعة الأقدار والمنازل. ثم أشار الله تعالى إلى نساء أهل الجنة
، والضمير في رأي قتادة عائد على الحور العين المذكورات قبل ، أو إلى الفرش
المرفوعة ، أي النساء في رأي أبي عبيدة معمر ، وإن لم يتقدم لهن ذكر ، لدلالة
المعنى على المقصد ، كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٨ / ٣٢].
وهؤلاء النّساء
يتجدد خلقهن ، فقال الله تعالى : (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (٣٥) أي خلقناهنّ
شيئا بعد شيء ، وأوجدناهنّ خلقا جديدا ، من غير توالد ، وجعلناهن بكارى عذارى لم
يفتضهن قبلهم إنس ولا جان. وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا ، من غير وجع ، كما في
حديث رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».
وهنّ عرب أتراب ،
أي متحبّبات إلى أزواجهن ، عشقا لهم ، من غير سابق معرفة ، ومتساويات السّن والشكل
والقدّ ، حتى يقول الرائي : هم أتراب.
وأصحاب اليمين :
هم سالف الأمم ، جماعة عظيمة من الأولين ، وهم مؤمنو الأمم الماضية ، وجماعة من
الآخرين ، وهم مؤمنو هذه الأمة ، أتباع النّبي صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة. ويرى ابن عطية رحمهالله : بل جميعهم من هذه الأمة ، إلا من كان من السابقين. ورأى
آخرون الفرقتين في أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فالتابعون بإحسان ، ونحوهم هم الثّلة الأولى ، وسائر
الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان.
وذكر أبو حيان في
البحر المحيط أنه لا تنافي بين قوله تعالى : (وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ) (٤٠) وقوله قبل : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) لأن قوله : (مِنَ الْآخِرِينَ) هو من السابقين ، وقوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ) (٤٠) هو في أصحاب
اليمين.
ومردّ كل ذلك إلى
الله تعالى ، وتعرف الجماعات بمدى إيمانها وعملها الصالح ، سواء أكانوا من الماضين
أم من اللاحقين ، إقامة للعدل بين الجميع.
جزاء أصحاب الشّمال
اصطلاح الشمال
دائما يدلّ على مواجهة تعبير اليمين ، الأول يدلّ على الانحراف ومعارضة الفطرة ،
والثاني يدلّ على الاستقامة والطاعة لله تعالى. وأهل اليمين يتمتعون بألوان النعيم
الأخروي ، المادّي والمعنوي ، النفسي والاجتماعي ، وأهل الشمال يتعرضون لمختلف
أنواع العذاب الأخروي ، بالسّحق والإحراق ، وتجدّد العذاب على الدوام ، شرابهم
صديد أهل النار ، والماء الشديد الغليان ، وطعامهم شجر الزّقوم الشديد المرار ،
الذي تعاف مثله الإبل في الدنيا ، مع التقريع ، والإهانة ، والإذلال ، والسخرية ،
كما تصور هذه الآيات :
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ
(٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ
إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ
الْمُكَذِّبُونَ (٥١)
__________________
لَآكِلُونَ
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ
عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ
يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))
[الواقعة : ٥٦ /
٤١ ـ ٥٦].
هذا بيان جزاء
أصحاب الشمال وبيان سببه الموجب له ، أصحاب الشمال ، وما أدراك ما هم؟ وأي شيء هم
فيه ، وأي صفة لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟ وهذا فيه معنى اللوم وتعظيم المصاب. هم
في ريح يابسة ، لا بلل معها ، شديدة الحرارة ، ويشربون الماء المغلي ، ويتظلّلون
بدخان جهنم الشديد السواد ، ليس باردا كالظلال الباردة عادة ، ولا حسن المنظر ولا
نافعا ، وكل ما ليس فيه خير ، فهو ليس بكريم ، أي ليس للظلال صفة مدح ، فهو سيّئ
الصفة ، وهم فيه مهانون.
وأصحاب الشمال :
مبتدأ ، وقوله : (ما أَصْحابُ
الشِّمالِ) مبتدأ وخبر ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
وأسباب هذا العذاب
ثلاثة أشياء :
أنهم كانوا في
الدنيا مترفين ، أي يتنعمون في سرف وتخوض ، وكانوا يصرّون على الذنب العظيم ، وهو
الشّرك والوثنية ، وكانوا ينكرون البعث ، فيقولون : كيف نبعث بعد الموت ، وبعد
الصيرورة ترابا وعظاما بالية أو نخرة؟
والمترف : المنعم
في سرف وخوض في الباطل. ويصرّون : معناه يعتقدون اعتقادا لا ينوون عنه إقلاعا.
والحنث : الإثم ، ومنه حديث البخاري ومسلم وابن ماجه والنّسائي وأحمد : «ما من
مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ، إلا كانوا لهما حصنا حصينا من
النار» . أي لم يبلغوا الحلم الذي يتعلق به السؤال عن الآثام.
__________________
والمراد بالإثم :
هو الشّرك ، وهذا هو الظاهر. وقوله : (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ) العامل فيه : فعل مضمر ، تقديره : أنبعث أو أنحشر؟ ولا
يعمل فيه ما بعده ، لأنه مضاف إليه.
فردّ الله تعالى
على إنكارهم الآخرة ، فقال : (قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠) أي قل لهم
أيها الرسول : إن المتقدّمين من الأمم والعالم كله محشورون مبعوثون ليوم معلوم
مؤقت. والميقات : مفعال من الوقت ، كميعاد من الوعد.
ثم خاطب الله كفار
قريش ومن كان على حالهم بقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) (٥١) أي إنكم معشر
الضّالّين عن الحق ، الذين أنكرتم وجود الله وتوحيده ، وكذّبتم رسله ، ستأكلون في
الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر والطعم ، حتى تملؤوا بطونكم ، لشدة
الجوع. ثم إنكم سوف تشربون على الزّقوم عقب أكله ، من الماء الحار ، لشدة العطش ،
ويكون شرابكم منه كشرب الإبل العطاش ، التي لا تروى لداء يصيبها ، حتى تموت.
والهيم : الإبل العطاش الظّماء. وشرب بضم الشين : إما مصدر ، أي كالشرب الحاصل من
الإبل ، وإما إنه اسم لما يشرب ، أي شراب الإبل.
وهذا الذي وصفنا
من المأكول والمشروب ، من شجر الزقوم ، وشراب الحميم هو ـ على سبيل السخرية
والاستهزاء ـ ضيافتهم عند ربّهم يوم حسابهم ، وهو الذي يعدّ لهم ويأكلونه يوم
القيامة ساعة قدومهم. والنّزل : أول ما يأكل الضيف. ويوم الدين : يوم الجزاء. وهذا
خلافا لجزاء أهل الإيمان ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٠٧) [الكهف : ١٨
/ ١٠٧] أي ضيافة وكرامة.
__________________
إن سوء هذا المصير
لأهل الشّمال وهم الكفرة الظالمون واضح السبب : وهو انهماكهم في شهوات الدنيا ،
وشركهم ، وإنكارهم البعث أو اليوم الآخر ، وهذا الإنكار مصدر كل شرّ ، لأن من آمن
بالحساب ، خافه ، ومن كفر بالحساب اقتحم المهالك من غير تقدير العواقب الوخيمة.
من أدلة إثبات القدرة الإلهية على البعث
كلما وصف الله
تعالى إنكار المشركين للبعث ، أعقبه بإيراد الأدلة الكافية على القدرة الإلهية
الخارقة الكافية على تحقيق هذا الأمر ، من واقع الناس وأحوالهم التي تحيط بهم ، من
خلقهم ورزقهم والإنعام عليهم ، وخلق السماوات والأرض ، وإحياء الأرض بالنباتات.
والبعث ما هو إلا إعادة خلق هيّن على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء صغير أو كبير
في الأرض ولا في السماوات ، فمن لاحظ كل هذا سهل عليه إدراك كيفية البعث الداخل
تحت الأمر التكويني السريع : (كن فيكون). وهذه بعض أدلة القدرة الإلهية في الآيات
الآتية : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ
الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
(٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ
مِنَ
__________________
الْمُزْنِ
أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا
تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
(٧٤))
[الواقعة : ٥٦ /
٥٧ ـ ٧٤].
هذه أدلة واقعية
محسوسة على قدرة الله تعالى ، فلقد ابتدأنا خلقكم أول مرة ، بعد العدم ، فهلا
تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والعمل الصالح ، وتقرون بأن من قدر على الخلق ،
قادر على الإعادة بطريق الأولى؟
أخبروني عما
تقذفون من المني في الأرحام ، أأنتم تخلقونه بشرا سويّا ، أم نحن الخالقون
الموجدون له؟! وهذا حضّ على التصديق على وجه التقريع. فلا يخفى على أحد ما يوجد في
المني من عمل وإرادة وقدرة.
نحن قسمنا الموت
بينكم ووقّتناه لكل فرد منكم ، فمنكم من يموت كبيرا ، ومنكم من يموت صغيرا ، والكل
سواء في الموت ، وما نحن بمسبوقين يسبقنا أحد على أن نبدّل بكم غيركم ، فتموت طائفة
ونبدّلها بطائفة ، وهكذا قرنا بعد قرن ، وننشئكم بأوصاف لا يصلها علمكم ، ولا تحيط
بها أفكاركم. وهذا وعيد يستوجب العظة والعبرة. وهو دليل على كذب المكذبين بالبعث ،
وتصديق الرّسل في الحشر.
ودليل آخر : أنه
قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم على مراحل وأطوار
، من نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فهيكل عظمي ، فإكساؤكم باللحم ، وجعل لكم السمع
والبصر والفؤاد ، فهلا تتذكرون قدرة الله تعالى على النشأة الأخرى ، وتقيسونها على
النشأة الأولى؟! وهذه الآية نص في استعمال القياس والحضّ عليه.
__________________
ودليل آخر :
أخبروني عما تحرثون من الأرض ، وتطرحون فيه البذر ، هل أنتم أوجدتموه زرعا ونباتا
كاملا فيه السنبل والحب ، بل نحن الذين ننبته في الأرض ونصيّره زرعا تامّا؟ بل أنت
يا ربّ.
لو أردنا أن نجعل
هذا الزرع يابسا أو هشيما متكسّرا لفعلنا ، فصرتم تتعجبون من سوء حاله وما نزل به
، قائلين : إننا لخاسرون مغرمون. والمغرم : الذي ذهب ماله بغير عوض ، أو إننا
لهالكون هلاك أرزاقنا.
وبعد المأكول يكون
المشروب ، أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش ، أأنتم
أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا ، فكيف لا تصدقون بالبعث
بعد هذا الإيجاد؟! لو أردنا أن نجعل هذا الماء ملحا لا يصلح للشرب ولا للزرع ،
لفعلنا ، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم هذا الماء عذبا فراتا زلالا ، تشربون
منه ، وتنتفعون به؟!
ثم ذكر النار أداة
الطّهي والإنضاج ، فهل رأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد ، أأنتم
أنشأتم شجرتها التي تقدحون منها النار ، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟
نحن جعلناه هذه
النار تذكرة لكم بحرّ نار جهنم الكبرى ، ليتّعظ بها المؤمن ، وينتفع بها المقوون ،
أي المسافرون الضاربون في البوادي ، والأراضي القفر. فنزّه الله تعالى القادر على
خلق هذه الأشياء أيها النّبي وكل مخاطب بالقرآن ، حيث أوجد هذه الأشياء المختلفة
المتضادة ، من إيجاد عنصر الرطوبة بالماء ، وعنصر الحرارة بالنار ، ومادة الملوحة
في البحار والمحيطات. أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النّبي صلىاللهعليهوسلم قال : «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار
جهنم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية؟ فقال : إنها قد فضلت عليها بتسعة
وستين جزءا».
إثبات النّبوة والوحي القرآني
أقسم الله تعالى
بمساقط أو مواقع النجوم على أن القرآن كتاب كريم ، مصون في كتاب محفوظ ، وهو اللوح
المحفوظ ، منزل تنزيلا من ربّ العالمين ، والشّك فيه شكّ ساقط لا قرار له. لذا
وبّخ الله تعالى المشركين على عقيدتهم الباطلة بإنكار توحيد الله وتكذيب رسوله ،
وإنكار المعاد. ثم ذكر الله تعالى أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم سورة
الواقعة ، وهم السابقون المقرّبون ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وجزاء كل
فريق يوم القيامة ، وهذا هو الحق الثابت الذي لا شك فيه ، فيقتضي التوجّه للآخرة
وتنزيه الله عن كل نقص ، كما تقرر هذه الآيات :
(فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ
الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا
تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨)
فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ
الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (٩٦))
[الواقعة : ٥٦ /
٧٥ ـ ٩٦].
أخرج مسلم عن ابن
عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة
وضعها
__________________
الله ، وقال بعضهم
: لقد صدق نوء كذا ، فنزلت هذه الآيات : (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) حتى بلغ : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ) (٨٢).
أقسم الله تعالى
بمواقع النّجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من ربّ العالمين ، ومواقع النجوم :
مساقطها عند الغروب. وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.
والضمير يرجع إلى
القسم المفهوم ، من الكلام المتقدّم. والمقسم عليه هو أن هذا القرآن الذي نزل على
محمد صلىاللهعليهوسلم لكتاب كثير المنافع والفوائد ، لما فيه من : العلم والهدى
والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وجاء القسم هكذا :
(فَلا أُقْسِمُ) بالنّفي ، والمراد : أقسم ، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل (أقسم)
كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه ، فيفيد التأكيد ، أي كأنه تعالى يقول : فلا صحة لما
يقوله الكفار. فتكون (لا) نافية ، في رأي بعض النحويين ، وقال بعضهم : هي زائدة ،
والمعنى : فأقسم ، وزيادتها في بعض المواضع أمر معروف. وقال آخرون : هي مؤكدة ،
تعطي في القسم مبالغة ، وهي كاستفتاح كلام ، مثل : (فلا وأبي ، أي فو أبي).
وبعد أن وصف الله
القرآن بأنه كريم ، أي كثير المنافع ، وصفه بثلاث صفات أخرى وهي : أنه محفوظ في
اللوح المحفوظ ، لا يطّلع عليه إلا الملائكة المقرّبون وهم الكروبيون. ولا يمسّه
في السماء إلا الملائكة الأطهار ، وكذلك لا يمسّه في الدنيا إلا المطهّرون من
الحدثين الأصغر والأكبر ، وهو منزّل تنزيلا متدرّجا من الله تعالى ، فليس هو بسحر
ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر ، بل هو الحق الثابت الذي لا مرية فيه. وقال جماهير
العلماء : لا يمسّ المصحف من بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر
، وفي كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمرو بن حزم ـ الذي أخرجه عبد الرزاق وأبي داود وابن
المنذر ، عن عبد الله بن أبي بكر ـ «ولا يمسّ القرآن إلا طاهر».
ثم وبّخ الله
تعالى الكفار المتهاونين في شأن القرآن ، فقال : (أَفَبِهذَا
الْحَدِيثِ ..) أي أبهذا القرآن الموصوف بالصفات الأربع السابقة أنتم
متهاونون ، يلاين بعضكم بعضا ، ويتبعه في الكفر؟ وتجعلون شكر رزقكم من السماء :
وهو المطر ، أو من الأرض : وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة الله وبالبعث وبما دلّ
عليه القرآن ، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ وهذا توبيخ للقائلين في المطر : هذا
بنوء كذا وكذا ، كالأسد والجوزاء وغير ذلك.
وتوبيخ آخر
للمشركين ، فهلا إذا وصلت الروح الحلق حين الاحتضار ، وأنتم ترون بالعين المحتضر
قد قارب فراق الحياة ، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت ، ونحن بالعلم
المحيط أقرب إليه منكم ، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبض روحه.
والمراد التأمّل والنظر في أن الله مالك كل شيء.
فهلا إن كنتم غير
محاسبين أو غير مملوكين ولا مجزيين في عالم البعث والحساب ، تمنعون موته وترجعون
الروح التي بلغت الحلقوم (مجرى الطعام) إلى مقرّها الذي كانت فيه ، إن كنتم صادقين
في زعمكم أنكم لن تبعثوا. وهذه الحال : هي نزاع المرء للموت. والمدين : المملوك في
الأصح.
ومصائر الناس عند
احتضارهم وبعد وفاتهم أصناف ثلاثة :
١ ـ فأما إن كان المتوفى
من السابقين المقرّبين : وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبّات ، وتركوا المحرّمات
والمكروهات وبعض المباحات ، فلهم استراحة ورحمة وطمأنينة وهو الروح ، ورزق حسن
للبدن وهو الريحان أو الطيب ، وجنة نعيم للروح والجسد ، أي إن المرء من السابقين
يلقى عند موته روحا (رحمة وسعة) ، وريحانا (وهو الطّيب) وهو دليل النّعم ، أو هو
كل ما تنبسط إليه النفوس.
٢ ـ وأما إن كان
المتوفى من أهل اليمين : وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، فتبشرهم الملائكة
قائلين : سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي ليس في أمرك إلا السّلام
والنّجاة من العذاب.
٣ ـ وأما إن كان
المتوفى من المكذبين بالحق والبعث ، الضّالّين عن الهدى ، وهم أصحاب الشمال ، فإن
ضيافتهم ساعة لقائهم ماء شديد الحرارة ثم تصلية في جهنم. إن هذا الخبر لهو محض
اليقين وخالصة ؛ والحق الثابت الذي لا شكّ فيه ، فأعرض عن أقوال الكفار ، وأقبل
على أمور الآخرة ، وعبادة الله تعالى.
تفسير سورة الحديد
عبادة الله وتسبيحه في جميع الأوقات
تسبيح الله تعالى
: وهو التّنزيه عما لا يليق بالله ، المعروف في قولهم : «سبحان الله» : هو حقيقة
ثابتة مستقرة في الكون والإنسان والحياة ، يعلنها الواقع ، ويفرضها المنطق ، لأن
الله سبحانه هو الخالق الرازق ، المحيي والمميت ، فيكون التسبيح من السماوات
والأرض وما فيهما دائما مستمرا ، لأن الله تعالى هو الحقيقة الأبدية ، والمهيمن
على كل شيء في الوجود ، والعالم بكل شيء في السماء والأرض ، وإليه المرجع والحساب
، ويسيّر الكون ، ويوجد تعاقب الليل والنهار ، وهو على كل شيء قدير. وهذا ما قررته
الآيات الآتية في مطلع سورة الحديد المدنيّة بالإجماع :
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ
مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))
[الحديد : ٥٧ / ١
ـ ٦].
__________________
أخبر الله تعالى
عن تسبيحه ، أي تنزيهه بعبارة (سبحان الله) بصيغة الماضي المتضمّنة إفادة الدوام
والاستمرار ، والتسبيح حقيقة وليس مجازا ، وهذا في الجمادات وغيرها من القادرين
على التسبيح. والمعنى ينزه الله تعالى عن كل نقص كل شيء في السماوات والأرض ، من
الجماد والنبات ، والإنسان والحيوان ، تعظيما له وإقرارا بربوبيّته ، سواء بلسان
المقال ، كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ ، أو بلسان الحال كتسبيح الجمادات
والنباتات. والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء ، والحكيم في تدبيره
وأمره وخلقه وشرعه.
ولله تعالى المالك
المطلق للسماوات والأرض ، يتصرّف فيهما وحده ، وله السلطان التام ، وهو نافذ الأمر
، وهو الذي يحيي من يشاء ، ويميت من يشاء ، وهو تامّ القدرة على كل شيء ، لا يعجزه
شيء ، كائنا ما كان.
والله هو الأول :
الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، والآخر : الذي ليس له نهاية منقضية ، والظاهر :
بالأدلة ونظر العقول في صنعته ، والباطن : بلطفه وغوامض حكمته ، وباهر صفته التي
لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام والتصورات ، وهو بكل شيء عالم علما
تامّا ، وعموما شاملا.
والله هو الذي
أبدع السماوات والأرض في ستة أيام ، والأصوب أنها من أيام الدنيا ، وأكثر الناس
على أن بدء الخلق في يوم الأحد. وعند مسلم : أن البداية في يوم السبت. ثم استوى
على العرش استواء يليق بذاته ، على نحو يريده ، مما لا يعلم به إلا هو ، بالقهر
والغلبة المستمرين بالقدرة ، والعرش ، أي الكرسي أعظم المخلوقات ، وليس فيه تحديد
بمكان أو جهة ، ويعلم الله كل شيء ، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك ، ويخرج
منها من نبات ومعادن وغير ذلك ، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك ، وما
يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد
الصالحة والسيئة ،
والدعوات والأبخرة المتصاعدة ونحوها ، والله معكم أيها العباد بقدرته وعلمه ،
وإحاطته وهدايته ، أينما كنتم في البر والبحر والجو ، والله رقيب عليكم ، بصير
بأعمالكم ، لا يخفى عليه شيء منها.
والله مالك
السماوات والأرض ، والدنيا والآخرة ، وترجع إليه جميع الأمور ، وهذا خبر يعمّ جميع
الموجودات. وقوله : (لَهُ مُلْكُ) مكرر مع الآية السابقة للتأكيد. والأمور ليست جمع المصدر ،
بل هي جميع الموجودات ، لأن الأمر والشيء والموجود أسماء شائعة في جميع الموجودات
أعراضها وجواهرها.
والله المتصرّف في
الخلق ، يقلّب الليل والنهار ، ويقدرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ،
ويقصر النهار ، وتارة على العكس ، وتارة يجعلهما معتدلين متساويين ، وتتوالى
الفصول الأربعة ، بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ، وهو سبحانه يعلم السرائر
وضمائر الصدور ومكنوناتها ، وإن خفيت ، لا يخفى عليه من ذلك خافية ، سواء الظاهر
منها والباطن. وقوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) تنبيه على العبرة فيما يتفاوت فيه الليل والنهار من الطول
والقصر ، وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة ، وذلك بحر من
بحار الفكر والتأمل لمن يتأمله.
و (يُولِجُ) معناه : يدخل ، و (بِذاتِ الصُّدُورِ) ما فيها من الأسرار والمعتقدات ، وذلك أغمض ما يكون. وهذا
كله حثّ على التأمّل في ملكوت الله ، وعلى الشكر على ما أنعم الله ، وعلى وجوب
تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالله.
والخلاصة : هذه
الآيات إخبار بتسبيح الله من كل شيء ، وبيان موجبات التسبيح وأسبابه ، فما أعظم
التأمل بالخالق الموجود ، وبالكون المخلوق الدّال على الخالق ، وما أسعد الإنسان
الذي يفكّر في هذا الوجود ليستدلّ به على الرّب المعبود!!
الأمر بالإيمان والإنفاق
بعد أن أثبت الله
تعالى في أوائل سورة الحديد وحدانيته وعلمه وقدرته ، بمشاهد السماوات والأرض
والأنفس ، أعقبها بالأمر ببعض الواجبات ، فأمر بالإيمان الخالص بالله تعالى
وبرسوله ، ثم أوجب على المؤمنين الإنفاق في سبيل الله ، وحثّ عليه بمضاعفة الأجر
أو الثواب عليه. وأعلمنا بأن آياته الدينية والكونية تخرج الناس من ظلمات الكفر
إلى نور الإيمان ، وأن أهل الإيمان يسعى نورهم بين أيديهم إلى جنان الخلد التي
تبشّرهم بها الملائكة ، كما يتّضح من هذه الآيات :
(آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى
عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ
اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى
وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً
حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))
[الحديد : ٥٧ / ٧
ـ ١٢].
مطلع الآيات : أمر
للمؤمنين بالثبوت على الإيمان والإنفاق في سبيل الله ، أي صدّقوا بالله إلها واحدا
، وبرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم رسولا من عند الله ، وداوموا على الإنفاق من الأموال ، مما
جعلكم خلفاء في التّصرف فيه ، من غير تملّكه حقيقة ،
__________________
فالذين صدقوا
بالله ورسوله من أهل الإيمان ، وأنفقوا في سبيل الله ، لهم ثواب كبير واسع. وقوله
: (مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من
غيره ويتركها لغيره ، وليس له إلا ما تضمنه قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي
وأحمد عن مطرف عن أبيه قال : أتيت النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو يقرأ (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) (١) [التكاثر :
١٠٢ / ١] قال : يقول ابن آدم ، مالي مالي ، قال : وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما
أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت».
ثم وبّخ الله
تعالى على ترك الإيمان بقوله : (وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ ..) أي ما الذي يمنعكم عن الإيمان ، والرسول محمد معكم يدعوكم
إلى ذلك ، فتصدقوا بربّكم ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ، وقد
أخذ العهد عليكم في عالم الذّر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم ، إن كنتم مؤمنين في
حال من الأحوال ، فالآن آمنوا ، أو إذا دمتم على ما بدأتم به.
والغاية من إنزال
القرآن : أن الله هو الذي أراد بإنزال الآيات الواضحات في القرآن وغيره ، أن
يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والتناقض ، إلى نور الهدى واليقين والسعادة ، وإن
الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده ، حيث أنزل الكتب ، وبعث الرسل ، لهدايتهم.
وأي شيء يمنعكم من
الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد لأجل إعلاء كلمته؟ وكل الأموال والثروات
صائرة إلى الله تعالى ، إن لم تنفقوها في حياتكم ، كرجوع الميراث إلى الوارث ، ولا
يبقى لكم منه شيء ، فالمال مال الله ، ولا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح
مكة وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين ،
لأن حاجة الناس كانت حينئذ أكثر ، والعدد أقل
وأضعف ، وكل واحد
من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم
الظاهرة والباطنة ، فيجازيكم بذلك.
ذكر الواحدي عن
الكلبي : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وثمرة الإنفاق
تبدو في مضاعفة الثواب ، فمن الذي ينفق ماله في سبيل الله ، محتسبا أجره عند ربّه؟
فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا ، والله يضاعف له ذلك القرض ، فيجعل له الحسنة بعشرة
أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع ، وهو الجنة.
وحال المؤمنين
المنفقين يوم القيامة هو : اذكر أيها النّبي ذلك اليوم حين تنظر المؤمنين
والمؤمنات يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم ، وهو نور حقيقة
يعطونه ، وتكون كتبهم بأيمانهم ، أي أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم ، وهدايتهم إلى
الجنة ، وتبشّرهم الملائكة بالجنات (البساتين) التي تجري من تحتها الأنهار ،
ماكثين فيها على الدوام ، تكريما لهم ، وذلك هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له.
فللمؤمنين نور حقيقة يوم القيامة يمنحهم الله إياه ، وهذا النور من جميع جهاتهم ،
فهو كاف بين أيديهم ، وعن أيمانهم ، وكائن بسبب إيمانهم على قراءة إيمانهم.
حال المنافقين في الآخرة
يظهر الفرق واضحا
في الآخرة بين المؤمنين ، حيث يعطى كل مؤمن مظهر ومبطن للإيمان نورا ، وبين
المنافقين حيث يطفى نور كل منافق ، ويبقى نور المؤمنين ، فيلتمس أهل النفاق عون
المؤمنين ومساعدتهم لهم ، فيجابون بالخيبة واليأس ، لأن النار
مأواهم ، وهذه هي
نهاية أهل السعادة من المؤمنين الأبرار ، وعاقبة أهل الشقاوة ممن نافقوا في الدنيا
، فأظهروا الإيمان ، وأبطنوا الكفر والضلال. وذلك إنذار واضح ووعيد شديد للمنافقين
والمنافقات ، كما في هذه الآيات الآتية :
(يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ
(١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى
جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ
مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))
[الحديد : ٥٧ / ١٣
ـ ١٥].
يوم يقول
المنافقون : متعلّق بآخر الآية السابقة ، فالعمل فيه هو قوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، كأنه تعالى يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري
المنافقين كذا وكذا ، وهو عند انطفاء أنوارهم ، فيقولون للمؤمنين : انتظرونا حتى
نتّبعكم ولعلنا نستضيء بنوركم ، ونخرج من هذا الظلام الدامس ، فيجابون بما يخيب
الآمال ويقال لهم من قبل الملائكة أو من المؤمنين :
ارجعوا إلى الدنيا
التي تركتموها وراءكم ، فالتمسوا النور بما التمسناه به ، من الإيمان والعمل
الصالح ، وهذا تهكّم بهم واستهزاء بطلبهم. وينتهي الحوار بأن يضرب بين المؤمنين
وبين المنافقين سور أو حاجز ، باطنه ، أي جانبه الذي يلي أهل الجنة : فيه الرحمة ،
وهي الجنة ونعيمها ، وظاهره البادي ، أي جانبه الذي يلي المنافقين أهل النار ، من
جهته عذاب جهنم. فالرحمة : الجنة ، والعذاب : جهنم.
__________________
وينادي المنافقون
المؤمنين : ألم نكن معكم في دار الدنيا ، نوافقكم في أعمالكم وعباداتكم في المساجد
، وأداء مناسك الحج ، وحضور معارك الجهاد ، والعمل بأعمال الإسلام كلها. فأجاب
المؤمنون المنافقين قائلين : بلى قد كنتم معنا في الظاهر ، ولكنكم اختبرتم أنفسكم
، وأهلكتموها بالنفاق وإبطان الكفر ، وتوقعتم الدواهي والمصائب بالمؤمنين ، وشككتم
في أمر الدين والبعث بعد الموت ، ولم تصدّقوا بما نزل به القرآن ، ولا آمنتم
بالمعجزات ، وخدعتكم الأماني المعسولة الباطلة ، حيث قلتم : سيغفر لنا ، وسيهلك
محمد هذا العام ، ستهزمه قريش ، وغرّكم طول الأمل وامتداد الأجل ، حتى فاجأكم
الموت أو الفتح وظهور الإسلام ، وخدعكم بالله الشيطان.
ففي هذا اليوم لا
يقبل منكم أيها المنافقون فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب ، ولا أيضا من
الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا ، منزلكم الذي تأوون إليه النار ، هي أولى بكم من
كل منزل ، وبئس المصير الذي تصيرون إليه ، وهو النار.
وقوله : (هِيَ مَوْلاكُمْ) قال المفسّرون : معناه : هي أولى بكم ، وهذا تفسير بالمعنى
، وإنما هي ـ كما قال ابن عطية ـ استعارة ، لأنها من حيث تضمّهم وتباشرهم هي
تواليهم ، وتكون لهم مكان المولى ، أي الناصر والعون. وعلى هذا ، فتكون كلمة (مَوْلاكُمْ) ظرف مكان بمعنى أنه مكانكم الذي يقال فيه : إنه أولى بكم.
إن هذا الحوار أو
النقاش السابق وصفه في الدنيا قبل الآخرة إعجاز قرآني ، وإنذار موجه لخير الإنسان
، لأنه يبين نوع الجزاء المؤلم ، وسببه الذي أدى إليه ، فلا يبقى هناك مجال للوم
أو الاعتذار ، فمن أنذر فقد أعذر ، وأدى ما عليه ليتجنب الأسباب المؤدية إلى
الهلاك والخسران ، في يوم لا تغيير فيه ولا تبديل في القضاء والحكم الحاسم.
إن النفاق مرض
عضال يضرّ بالأمة والمجتمع ، كما يضرّ بأهله الذين كانوا أغبياء أو حمقى أو ضعيفي
نظر ووعي. ولقد عانى المسلمون في الصدر الأول من هذا المرض وأهله الذين كانوا شوكة
للطعن من الخلف ، لو لا تأييد الله ونصره وإحباط مكائدهم.
الحضّ على خشية الله والصدقات
لا تكفي المقارنة
الوصفية أحيانا بين الأشياء والأحوال المتضادّة ، مثل وصف جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين
، لذا كان المولى يتعهد أهل الإيمان بمزيد من التوجيه والنصح والإرشاد والتربية
الفاضلة ، ليكونوا دائما عنوانا مشرّفا على رسالة الإسلام العظيمة ، رسالة الخير
والإنقاذ والنجاة للبشرية جمعاء. ومن هذا التوجيه القرآني للمؤمنين : حثّ المؤمنين
على ملازمة الخشوع وخشية القلب لمواعظ الله تعالى ، وتحذيرهم من التشبه ببعض قساة
القلوب الذين قطعوا صلتهم بأنبيائهم ، وأهملوا أوامر دينهم ونواهيه ، كما يتبين في
هذه الآيات :
(أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ
وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))
[الحديد : ٥٧ / ١٦
ـ ١٩].
__________________
أخرج ابن أبي شيبة
في مصنفه ، عن عبد العزيز بن أبي رواد : أن أصحاب النّبي صلىاللهعليهوسلم ظهر فيهم المزاح والضحك ، فنزلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ..) الآية.
في هذه الآية معنى
الحضّ والتقريع ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد
ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. والخشوع : اللين والذّلّ لله تعالى ، وهو هيئة تظهر
في الجوارح (الأعضاء) متى كانت في القلب ، فلذلك خصّ الله تعالى القلب بالذكر.
والمعنى : ألم يحن الوقت لكي تلين قلوب المؤمنين وترق عند سماع تذكير الله ووحيه؟
أو لأجل ذكر الله وقرآنه ، أو لأجل تذكير الله تعالى إياهم وأمره فيهم ، فيفهمون
المطلوب ويطيعون الآمر والنّاهي وهو الله تعالى.
ولا يتشبهوا بحملة
الكتاب الإلهي من قبلهم قبل نزول القرآن ، حين طال عليهم الزمان والفجوة بينهم
وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم بذلك السبب ، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة ، ولا
بالوعد والوعيد ، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واتّبعوا أهواءهم ، وكثير منهم
خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه ، فصارت أعمالهم باطلة ، وقلوبهم فاسدة.
ثم ضرب الله المثل
في تأثير مواعظ القرآن ، وهو كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها ،
قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد الضلال ، ببراهين القرآن
وأدلته ، فقد أوضحنا لكم الآيات والحجج ، كي تتدبّروها ، وتعقلوا ما فيها من
المواعظ ، وتعملوا بها.
والثواب كبير على
الصدقة في سبيل الله ، فإن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر ،
ودفعوا المال بنيّة خالصة ، ابتغاء رضوان الله ، يضاعف لهم الثواب ، فتكون الحسنة
بعشرة أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ولهم
فوق ذلك ثواب سخي
كثير النفع ، حسن العطاء والأثر. فقوله : (إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي إن الذين تصدّقوا.
والذين أقرّوا
بوحدانية الله وصدقوا رسله ، هم في منزلة الصّديقين ، قال مجاهد :
كل من آمن بالله
ورسله فهو صدّيق. والصواب أنهم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه. والذين
استشهدوا في سبيل الله ، لإعلاء كلمته ودينه ، ولرفع راية الحق والتوحيد وأهله ،
لهم الثواب العظيم عند ربّهم ، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
فقوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ) خبر عن الشهداء فقط في قول ، وخبر عن المؤمنين المذكورين
في أول الآية في أكثر الأقوال. وهذا إشارة لصنفين من المؤمنين : وهم الشهداء
والصّدّيقون ، والصّنفان الآخران : الأنبياء والصّالحون ، وهؤلاء الأربعة هم
المذكورون في آية أخرى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النّساء : ٤ / ٦٩].
والصّدّيقون :
مبالغة من الصّدق أو من التّصديق ، وهم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه.
والذين أنكروا
وجود الله ، وجحدوا وحدانيته ، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة ،
وصدق رسله ، أولئك لا غيرهم أصحاب النار خالدين فيها أبدا. وهذا حال الأشقياء ،
بعد التعرف على حال السعداء.
حال الدنيا وحقيقة الآخرة
زهّد القرآن
الكريم بالدنيا حتى لا تطغى على العمل للآخرة ، ولأنها فانية زائلة ، وأوضح حقيقة
الآخرة ، حتى يقبل العالم على الإيمان بها والإعداد لها ، ولأنها خلود دائمة ،
والخالد أبقى وأجدى ، فيفضل على المؤقت الزائل ، ويحرص العقلاء أهل
الإيمان والتقوى
على التنافس في عمل الآخرة ، لأنها درجات يتفاضل فيها السعداء ، وكلما كان المؤمن
في درجة أعلى ، والفردوس أعلى الجنان ، كان أو في نعمة ، وأكثر غبطة ، وهذا ما
نجده في الآيات الآتية :
(اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ
فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ
مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (٢١))
[الحديد : ٥٧ / ٢٠
ـ ٢١].
هذه آية وعظ
وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها ، والتعريف بحقيقة الآخرة ورفعة مكانتها للمؤمنين
العاملين ، وشدة عذابها للأشقياء الضّالين.
اعلموا أيها الناس
جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب ليس فيها جدّ يدوم ، ولهو يتلهى به ثم يزول ،
وزينة يتزين بها مؤقتا ثم يذهب ، ومفخرة يتفاخر بها ، وتكاثر في الأموال والأولاد
ثم ينتهي من غير أثر. والحياة الدنيا في هذه الآية : عبارة عن الأشغال والتصرفات
والأفكار المختصة بالدنيا ، المجردة عن أي عمل صالح للآخرة.
واللعب واللهو شيء
واحد ، أو إن اللعب : ما لا فائدة فيه ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه.
والزينة : التحسين الخارج عن ذات الشيء. والتفاخر : التباهي بالأنساب والأموال
وغيرها. والتكاثر : هو الرغبة في الدنيا ومظاهرها وألوانها وعددها ، ليعتز بها
الكاثر على من دونه.
والدنيا بهذه
الأوصاف سبب البعد عن الدين ، فهي التي يؤثرها ضعفاء النفوس
__________________
والعقول على
الآخرة ، وحبها رأس كل خطيئة ، وهي مركب الشيطان ، وسبب قسوة القلب ، وضعف الذّمة
وقلّة التقوى ، وكل ما فيها عرض زائل يخدع السّذج والبسطاء ، وما هي إلا كمثل مطر
، أعجب الزّراع النبات الحاصل به ، ثم يجفّ وييبس بعد خضرته ، ثم يصير فتاتا هشيما
متكسّرا بعد يبسه ، تعصف به الرياح. والكفار هنا : الزّراع ، لأنهم يكفرون ، أي
يسترون البذر في الأرض.
ونظير الآية كثير
في القرآن ، مثل قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها
أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ ..) [يونس : ١٠ / ٢٤].
ثم حذّر القرآن من
أمر الدنيا ، ومن مخاطر ومهالك العذاب في الآخرة ، ورغّب في الاستعداد للظفر
بالجنة والمغفرة والرضوان ، فليس في الآخرة إلا أمران : إما عذاب شديد لأعداء الله
والرّسل ، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. وما الحياة الدنيا إلا
مجرد متاع يتمتع به ، وخديعة لمن يغتر بها ، ولم يعمل لآخرته. وقوله : (مَتاعُ الْغُرُورِ) معناه الشيء الذي لا يعظّم الاستمتاع به إلا مغتر.
والآخرة : مجال
التّسابق في الخيرات والمبرات ، لذا قال الله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ ..) أي بادروا إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم من الأعمال
الصالحة والإيمان المنجي ، وإلى ما يوصل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا
، وقد عبّر عن المساحة بالعرض ، ولم يقصد أن طولها أكثر ولا أقل. وهذه الآية حجة
عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات. وقوله : (سابِقُوا) معناه : كونوا في أول صف المسابقة في الجهاد وغيره من
الطاعات والفرائض.
هذه الجنة أعدت
وخلقت للذين صدقوا بالله ورسله ، وعمل بما فرض الله عليه ، واجتنب نهيه. وهذا دليل
على أن الجنة مثل النار مخلوقة الآن معدّة لأهلها.
ومن حظي بالجنة
والمغفرة فذلك من فضل الله ورحمته ، يؤتيه من يريد من عباده ، والله صاحب الفضل
العميم الواسع ، ورحمته سبقت غضبه.
ألا إن الجنة
غالية الثمن ، وثمنها سهل بسيط وهو الإيمان والعمل الصالح والتسبيح والتحميد
والتهليل والتكبير ، فتلك غراسها الطيبة.
المصيبة والقدر ونظام الحياة
الإسلام دين
إيجابي وتنظيمي في آن واحد ، وإيجابيته ظاهرة في العقيدة ، خلافا لتصوّر الجهلة
والعوام السّذّج ، فإن من آمن بالقدر لا يعني اتّكاله على المقدّر ، لأنه يجهل ذلك
، وإنما يكون إيمانه بالقدر مبعث الإقدام والجرأة والشجاعة ، فلا يهاب الموت إذا
قاتل العدو ، لأن الموت لا يتقدم ولا يتأخر ، وأن الإقدام لا يقتل ، وإذا أنفق في
سبيل الله ، فلا يخشى الفقر ، لأنه يوقن بأن الرازق هو الله ، وأن الجود أو السخاء
لا يفقر. والحياة منظمة بقانون إلهي شامل مبني على العلم والوعي والتخطيط ، وإعداد
القوة ، والعدل في الحكم ، ومجاهدة النفس من أجل صلاح النفس والمجتمع ، وجهاد
العدو الخارجي الذي لا يفهم بغير القوة. وهذه آيات تدلّ على الإيجابية واحترام
نظام الحياة :
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما
فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ
(٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ
فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ
__________________
الْكِتابَ
وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))
[الحديد : ٥٧ / ٢٢
ـ ٢٥].
لا توجد مصيبة من
خير أو شر في الدنيا ، سواء في الأرض كالقحط والجدب ، أو الغلاء وغير ذلك ، أم في
الأنفس كالأمراض والموت والفقر ، وذهاب الأولاد وغير ذلك ، إلا وهي مسطرة أو مدونة
في اللوح المحفوظ ، من قبل إيجاد الخليقة ، إن ٧ ثباتها في اللوح المحفوظ مع
كثرتها والعلم بها قبل وجودها سهل يسير على الله ، غير عسير ، لأن الله هو الخالق
، وهو أعلم بما خلق ، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون إلى يوم القيامة. وخصّ
الكلام بالمصيبة لأنها أهم على البشر ، وهي بعض الحوادث ، فدلّ على أن جميع
الحوادث خيرها وشرها معلوم عند الله ، مدوّن في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، أي إن
الكتاب السابق أزلي قبل هذه الأشياء كلها ، وإن تحصيل هذه الأشياء كلها في كتاب.
أخبرناكم بذلك
لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا ، ولا تفرحوا فرح بطر وأشر بما هو آت
، فلا تأسوا على ما فاتكم ، لأنه لو قدّر شيء لكان ، ولا تفرحوا بما جاءكم أو
أعطاكم ، فذلك كله من قدر الله ورزقه لكم ، إن الله يعاقب كل مختال في نفسه ، أي
متكبّر ، فخور على غيره ، مباه بماله أو جاهه.
والمختال غالبا يكون
بخيلا ، لذا ذكر الله خصال البخلاء ، فهؤلاء البخلاء الفخورون : هم الذين يبخلون
عادة بأموالهم وإيمانهم وغير ذلك ، فلا يؤدون حقّ الله فيها ، ولا يواسون فقيرا ،
بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال ، ويرغّبون الناس بالبخل بما يملكون ، حتى
يجعلوا لهم أشباها وأمثالا ، ومن يعرض عن
__________________
الإنفاق وعن أمر
الله وطاعته ، فإن الله غني عنه ، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه ، لا
يضرّه ذلك ، ولا يضرّ البخيل إلا نفسه.
إعراب : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) على مذهب الأخفش : صفة لكلمة كل في قوله : (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم الذين يبخلون ، أو مبتدأ
وخبره محذوف معناه الوعيد والذّم ، وحذفه للإبهام.
ثم أوضح الله
تعالى الغرض من بعثة الرّسل وهو تنظيم شؤون الحياة ، فقال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ ..) أي تالله لقد أرسلنا رسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي ،
وبعثنا الأنبياء بالمعجزات البيّنة والحجج الواضحات ، وأنزلنا معهم الكتاب ، أي
جنس الكتاب الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وأنزلنا
معهم الميزان ، أي العدل في الأحكام ، أي أمرناهم به ، ليتبع الناس ما أمروا به من
الحق والعدل ، وتقوم حياتهم عليه ، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم
الدينية والدنيوية.
وخلقنا الحديد
وبقية المعادن ، وجعلناه رادعا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ففيه
قوة رادعة ، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير. من حاجاتهم ومعايشهم ، كأدوات
الطعام ، ومرافق المنازل وحياة الإقتصاد ، وصناعة السلم والحرب وغير ذلك.
وهناك مضمر بعد
قوله : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) تقديره : لينتفع الناس ، وذلك مقدمة لما أظهره بعدئذ وهو (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ليدلّ على أن هذا هو المقصود.
إنما شرع الله ذلك
ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه ورسله بإخلاص ، باستعمال الحديد في أسلحة
الجهاد ومقاومة الأعداء ، إن الله قوي قادر ، عزيز قاهر غالب ، يستطيع دفع عدوان
الظالمين ، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم.
إن إيجاد دولة
قوية معززة بقيمها وأنظمتها وأنشطتها وقوة أبنائها ، واعتمادها على ذاتها جهادا
وتضحية ، وتصنيعا وزراعة واتّجارا ، هو ما أراده الله من إنزال الشرائع ، وإرسال
الرسل ، وفيه الخير والعزة والمنعة والحفاظ على الكرامة والحقوق.
وحدة أصول الشرائع
أرسل الله تعالى
الرسل بالبيّنات والمعجزات لمهام عظمي ، لإقامة نظام المجتمع القوي المتين الفاضل
، بالكتاب الإلهي ، والعدل ، وصلابة الموقف وازدهار الصناعة ، ثم أتبع ذلك ببيان
وحدة الرسالات الإلهية والنّبوات والشرائع في أصولها من عهد نوح وإبراهيم ، ثم
موسى وعيسى عليهمالسلام ، إلى عهد خاتم النّبيين صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا
واضح في الآيات الآتية :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ
مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))
[الحديد : ٥٧ / ٢٦
ـ ٢٩].
المعنى : تالله
لقد بعثنا نوحا أبا البشر الثاني إلى قومه ، وإبراهيم أبا الأنبياء إلى قوم
__________________
آخرين ، وجعلنا
الرسالة والنّبوة في ذرّيتهما ، وجعلنا الكتب المنزلة فيهما. والكتاب : يعني الكتب
الأربعة ، فإنها جميعا في ذرّية إبراهيم عليهالسلام. وذكر نوح وإبراهيم تشريف لهما ، وبيان نعم الله عليهما ،
ثم على ذرّيّتهما. ومع ذلك من ذرّيتهما من فسق وعاند ، وهم الكثيرون ، ومنهم
المهتدون الطائعون. وهذا يدلّ على أن الانحراف عن جادة الحق ، كان بعد التمكّن من
معرفته.
ثم أتبعنا بعدهم
في الزمان رسلنا ، واحدا بعد الآخر ، ثم خصّ الله تعالى عيسى ابن مريم بالاتباع
تشريفا له ، ولشهرته في عصر التنزيل القرآني ، وأن الله آتاه الإنجيل ، وهو الكتاب
الذي أوحاه الله إليه ، متضمنا أصول شرعه ، ومكملا للتوراة ، وموضحا حقيقة
الشريعة. ومن صفات عيسى عليهالسلام : أن الله جعل في قلوب أتباعه الخلّص : وهم الحواريون
وأنصارهم رقّة في الطبع ، ورحمة بالخلق ، خلافا لليهود القساة ، لكنهم ابتدعوا
الرهبانية من جهة أنفسهم : وهي الانقطاع للعبادة ورياضة الروح واعتزال الناس ، ولم
يشرعها الله لهم ولم يأمرهم بها ، ولكنهم قصدوا من ذلك ابتغاء رضوان الله ، وكان
مآلهم أمرين : أولهما ـ أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر الله به ، والثاني ـ أنهم
لم يقوموا بحقّ ما التزموه ، ولم يراعوا كونه قربة لله عزوجل ، ولم يرعوه حق الرعاية ، بل غيّروا وبدّلوا ، فأعطينا
المؤمنين منهم إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان ، وكثير من هؤلاء
المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته ، يأكلون الأموال بالباطل ، وينحرفون
في سلوكهم.
وناسب ما ذكر :
الاتّعاظ والإعتبار وبيان ثواب المؤمنين بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام ،
فقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ..) أي يا أيها الذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته ، وصدّقوا
رسوله من مؤمني أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، خافوا الله تعالى ، بترك ما نهاكم
عنه ، وأداء ما أمركم به ، وآمنوا
برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته ، بسبب اكتمال
إيمانكم ، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط ، تهتدون به في
الآخرة ، ويغفر لكم ذنوبكم ، والله واسع المغفرة والرحمة.
أخرج ابن أبي حاتم
عن مقاتل قال : لما نزلت : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص : ٢٨ / ٥٤]
فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النّبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : لنا أجران ، ولكم أجر ، فاشتد ذلك على الصحابة ،
فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ ..) الآية ، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب ،
وزادهم النور.
ثم ردّ الله تعالى
على اليهود الذين زعموا اختصاص النّبوة فيهم ، فقال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ..) أي اتّقوا الله وآمنوا ، يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة (وهي
مضاعفة الأجر ، وإيتاء النور ، وغفران الذنوب) ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا
آمنوا من أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على ردّ ما أعطى الله لرسوله ، ولا إعطاء ما
منع عنه ، وهم عاجزون من أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضّل به على المستحقين
له ، كالنّبوة والرسالة وغيرهما ، وأن الفضل محصور بيد الله ، ومنه النّبوة والعلم
والتقوى ، يعطيه من يشاء ، والله واسع الفضل ، كثير العطاء والخير لمن يشاء من
عباده. والمراد : أن إيمان أهل الكتاب بكتابهم ورسولهم لا يكفي ، ما لم يؤمنوا
بالنّبي محمد صلىاللهعليهوسلم.
أخرج ابن جرير عن
قتادة قال : بلغنا أنه لما نزلت : (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) حسد أهل الكتاب المسلمين عليها ، فأنزل الله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية.
تفسير سورة المجادلة
الظّهار حكمه وكفّارته
كانت في الجاهلية
العربية تشيع عادات وأحكام غريبة ، سواء في نظام المجتمع القبلي كعادة الأخذ
بالثأر وحبّ الانتقام والتهور في الشجاعة ، أو في علاقات الأسرة العربية كأنظمة
الزواج الجاهلي المشترك ، وحرمان المرأة من الميراث ، وتحريم المرأة بالظّهار
تحريما أبديّا ، فلما جاء الإسلام ألغى بعض الأنظمة ، وعدّل بعضها ، وأبقى بعضها
مثل تحمّل العاقلة (العصبة) دية القتل الخطأ ، ومن الأحكام التي عدّلها جعل
الظّهار يفيد التحريم المؤقت وينتهي بالكفارة ، لأنه إثم من القول وزور ، كما جاء
في مطلع سورة المجادلة المدنية النزول بالاتّفاق ، في الآيات الآتية :
(قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))
[المجادلة : ٥٨ /
١ ـ ٤].
__________________
أخرج الحاكم وصححه
عن عائشة رضي الله عنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة
بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول : يا رسول الله ، أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى
إذا كبرت سنّي ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل
جبريل بهؤلاء الآيات : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..) وهو أوس بن الصامت.
لقد قبل الله شكوى
المرأة التي تراجعك الكلام أيها النّبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها ، قائلا لها :
«أنت علي كظهر أمّي» أي في الحرمة ، وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها ، والله
يسمع ما تتراجعان به من الكلام ، إن الله يسمع كل مسموع ، ويبصر كل مبصر على الوجه
الأتم الأكمل ، ومن ذلك محاورة هذه المرأة معك نبي الله. والمحاورة : مراجعة القول
ومعاطاته. والشكوى : الإخبار عن مكروه أصابك.
ثم وبّخ الله
المقدمين على الظّهار ، فالذين يشبّهون أزواجهم بأمّهاتهم ، بقولهم لهنّ على لسان
الواحد منهم : أنت علي كظهر أمي ونحوه ، أي في التحريم ، ليست نساؤهم بأمهاتهم ،
فذلك كذب منهم ، لأن الأمهات في الحقيقة هنّ اللواتي ولدنهم فقط. وإنهم ليقولون
قولا ينكره الشّرع ، ويقبحه ، وهو كذب محض وبهتان ، وإن الله تعالى واسع المغفرة
والعفو لمن تاب وأناب ، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر. فوصف
الزوجة وتشبيهها بالأم خبر مزوّر مكذوب ، لا يغيّر الحقيقة ، وهذا يدلّ على أن
الظّهار حرام موجب للإثم والمعصية. وقد كان الظّهار طلاقا في الجاهلية ، يوجب
التحريم المؤبّد.
وكفّارة الظّهار
لمن يريد نقضه والعودة لحالته الطبيعية مع زوجته ، من إرادة الاستمتاع : هو عتق
رقبة كاملة لا بعضها ، وهي هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، وبه
أخذ الحنفية
والظاهرية. وقيّد بقية العلماء الرقبة بوصف الإيمان ، كما هو المقرّر في كفّارة
القتل الخطأ حيث قال الله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) [النّساء : ٤ / ٩٢]
، من طريق الإلحاق أو القياس ، والمسمى في أصول الفقه : حمل المطلق على المقيد ،
بسبب الاتّحاد في السبب بين القتل والظّهار ، فيتّحدان في الحكم.
وذلك من قبل
التماس ، أي العودة إلى الجماع ، والله تام العلم والخبرة بما تعملون. وذلكم ، أي
الإلزام بالكفارة عظة لكم لتنتهوا عن الظّهار. وهذا تحذير من التقصير في الكفارة.
والمسيس في رأي الحسن البصري والثوري وجماعة : هو الوطء ، ويجوز غيره من أنواع
الاستمتاع. واتّجه الجمهور إلى تعميم الحكم على منع الوطء والمباشرة بأنواعها من
تقبيل ومضاجعة واستمتاع بأعلى المرأة كالحيض ، فلا يجوز للمظاهر أن يطأ ولا يقبّل
ولا يلمس بيده ولا يفعل شيئا من هذا النوع إلا بعد الكفارة.
فمن لم يجد الرقبة
في ملكه أو ملك غيره ، بأن لم توجد كما في عصرنا ، أو لم يجد ثمنها ، فيجب عليه
صيام شهرين متتابعين متواليين من غير تفريق لا يفطر فيهما ، إما بصيام ستين يوما
تباعا ، أو بأن يصومهما بالأهلّة ، يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال ، فإن أفطر
يوما أو أكثر بغير عذر ، أو جامع المرأة ، استأنف من جديد صيام الشهرين في رأي
الجمهور ، وقال الشافعي وأبو يوسف : لا يستأنف إذا وطأ ليلا ، لأنه ليس محلّا
للصوم. ولا ينقطع التتابع عند المالكية إذا أفسد الصوم لعذر غالب كالمرض والنسيان
ونحوه ، وينقطع عند الحنفية والشافعي في المذهب الجديد. فمن لم يستطع الصوم
لشيخوخة أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة ، فعليه إطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مدّان
من القمح (أو نصف صاع من القمح) عند الحنفية ،
وصاع من تمر أو شعير كالفطرة ، ومدّ وثلثان من القمح إن اقتاتوه
عند المالكية ، ومدّ من قمح أو نصف صاع من تمر أو شعير عند الشافعية والحنابلة.
والطعام : هو غالب قوت البلد. ومن العلماء من يرى إطعام مدّ بمدّ النّبي صلىاللهعليهوسلم.
ذلك الترخيص
والتسهيل من النقل من تحرير رقبة إلى الصوم والإطعام ، وتشريع الكفارة بسبب
الظّهار ، لتصدقوا بشرع الله وأمره ، وتلك حدود الله ، فالتزموها وقفوا عندها ،
وللكافرين المتجاوزين حدود الشرع عذاب مؤلم شديد على كفرهم ، وهو نار جهنم ، وعذاب
في الدنيا ، وهذا وعيد وتهديد.
وعيد المعادين لله ورسوله
امتدح الله تعالى
بعد آيات الظّهار المؤمنين الواقفين عند حدود الله ، ثم أتبعه بوعيد المعادين لأمر
الله ورسوله بالإهانة في الدنيا ، والعذاب الشديد في الآخرة ، إذ لا تخفى على الله
خافية منهم ، أو حال من أحوالهم في السّر والعلن ، وسوف ينبئهم الله بأفعالهم يوم
القيامة والحساب ، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال. فنزلت هذه الآيات في شأنهم ،
وهم المنافقون وقوم من اليهود كانوا في المدينة يحتكّون بالنّبي صلىاللهعليهوسلم ، وينتظرون به وبالمؤمنين الشّر ، ويدبّرون المؤامرات ،
ويتمنون فيهم المكروه ، ويتناجون بذلك ، نزلت هذه الآيات بهم إلى آخر النجوى :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ
وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما
__________________
يَكُونُ
مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٧))
[المجادلة : ٥٨ /
٥ ـ ٧].
إن الذين يعادون ،
ويخالفون أوامر الله والرسول ، ويعاندون الأحكام والشرع ، أذلّوا وأهينوا ، كما
أذلّ المنافقون السابقون من قبلهم من كفار الأمم الغابرة ، بسبب معاداة شرع الله
تعالى ، وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم ، ووعيد لكل من يهجر شريعة
الله ، وقد أنزلنا في هذا القرآن للناس آيات واضحات ، دالّة على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم ، لا يخالفها إلا كل كافر معاند ، وللجاحدين بتلك الآيات ،
المستكبرين عن اتّباع شرع الله والانقياد له : عذاب يهين صاحبه ويذلّه ، بسبب كفره
واستكباره ، وذلك العذاب هزيمة وهوان في الدنيا ، ونار جهنم في الآخرة.
والمحادّة : أن
يكون كل واحد من المتعاديين في حد أو جهة ، والآخر في حدّ أو جهة مغايرة أو
مخالفة. وكبت الرجل : إذا بقي حزنان يبصر ما يكره ، ولا يقدر على دفعه.
اذكر أيها الرسول
ذلك اليوم الذي يأتي فيه العذاب ، وهو يوم القيامة ، تعظيما له ، وأخبر بأن لهم
عذابا مهينا يوم يحشرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب ، مجتمعين
في حال واحدة ، فيخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ، لإقامة الحجة عليهم ،
فقد حفظ الله وضبط كل ما صنعوا من خير أو شرّ ، والله سبحانه مطّلع على كل شيء ،
ولا يخفى عليه شيء. وهذا وعيد وإنذار.
ألم تعلم أيها
النّبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل ، محيط بكل شيء في
__________________
الأرض والسماء ،
بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما ، فما يوجد من تناجي أو تسارر ثلاثة أشخاص إلا
كان الله رابعهم ، مطّلع عليهم ، يسمع كلامهم وسرّهم ونجواهم ، ولا خمسة أفراد إلا
كان الله سادسهم بالعلم والقدرة والإحاطة ، ولا أكثر من هذا العدد مهما بلغ ولو
ملايين إلا كان الله معهم ، عليم بهم وبأقوالهم وأسرارهم ، في أي مكان وأي زمان ،
ثم يخبرهم الله بكل ما عملوا يوم القيامة ، إن الله واسع العلم بكل شيء ، وسع علمه
وسمعه وبصره السماوات والأرض وما بينهما.
وكلمة (نَجْوى) إما أن يكون المراد به جمعا من الناس ، أي أولو نجوى ،
ويكون قوله تعالى بعدها : (ثَلاثَةٍ) على هذا بدلا من (نَجْوى) أو صفة ، أو يكون (النجوى) مصدرا محضا وهو التناجي ، فيقدر
قبل (أدنى) فعل ، تقديره : ولا يكون أدنى.
والسبب في ذكر
الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الإثنين والأربعة : هو إما تصوير الحالة الواقعية التي
نزلت الآية بسببها ، فإنها نزلت في قوم منافقين ، اجتمعوا على التّناجي مغايظة
للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين. وإما أن طبيعة المشاورة تتطلب وجود عدد وتر ،
فيكون الاثنان أو الأربعة وغيرهما من الأرقام الزوجية يمثلان التنازع ، والثالث
والخامس كالمتوسط الحكم بينهم ، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد
والمجموعات الباقية.
وقد أجمع
المفسّرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك.
وقد جمعت هذه
الآية بين جميع وسائل العلم ، فإنه مع علم الله تعالى وسمعه وبصره بكل شيء هو
سبحانه وتعالى مطّلع على جميع أمور خلقه ، ومحيط علمه بكل كائن صغير أو كبير ، كما
جاء في ختام الآية : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ
بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) وفي هذا إعلام لمن يتناجون بالسوء والمكر ، على سبيل
التوبيخ لهم والتبكيت وإلزام الحجة.
قال الإمام أحمد :
افتتح الله الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم. ومن المعلوم أن العالم بالأسرار
والقدير على اتخاذ القرار يفعل ما يشاء بالناس ، مما يقتضي الحذر والالتزام بمرضاة
العالم.
آداب المناجاة
تابع الله تعالى
في كلامه عن النّجوى أو المسارّة بين الأفراد بيان حال الذين نهوا عن النّجوى وهم
اليهود والمنافقون ، ثم عودتهم إلى المنهي عنه ، وتحيتهم بالسوء للنبي صلىاللهعليهوسلم قائلين له : السّام عليك ، أي الموت ، مما أوجب تهديدهم
بدخول جهنم. وناسب ذلك التعريف بآداب المناجاة الاجتماعية ، من الامتناع عن
التناجي بالإثم والعدوان ، والإلزام بالتناجي بالبر والتقوى ، أي بالخير ، وفعل كل
ما يقي الإنسان عذاب النار ، من فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات ، فقال الله
تعالى :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا
اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ
الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))
[المجادلة : ٥٨ /
٨ ـ ١٠].
__________________
الآية الأولى نزلت
في قوم من اليهود ، نهاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن التّناجي بحضرة المؤمنين ، وإظهار ما فيه ريبة من ذلك ،
فلم ينتهوا ، فنزلت هذه الآية. أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال : كان بين
النّبي صلىاللهعليهوسلم وبين اليهود موادعة ، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة ،
جلسوا يتناجون بينهم ، حتى يظنّ المؤمن أنهم يتناجون بقتله ، أو بما يكرهه ،
فنهاهم النبي صلىاللهعليهوسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوى) الآية. وقال ابن عباس : نزلت في اليهود والمنافقين.
والمعنى : ألم
تعلم وتنظر إلى الذين نهيتهم عن التّناجي والمسارّة بالسوء ، ثم عودتهم إلى ما
نهيتهم عنه ، وهم اليهود والمنافقون ، كما ذكر في سبب النزول. ويتسارّون فيما
بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب ، واعتداء وظلم للآخرين ، وعدوان على المؤمنين ،
وتواص بمخالفة النبي صلىاللهعليهوسلم.
وإذا أتى إليك بعض
اليهود حيّوك بتحية سوء ، لم يحيّك بها الله مطلقا ، فيقولون :
السّام عليكم يا
محمد ، والسّام : الموت ، يريدون بذلك السّلام في الظاهر ، وإنما يعنون الموت في
الباطن ، فيجيبهم النّبي صلىاللهعليهوسلم بقوله : وعليكم ، فسمعتهم عائشة رضي الله عنها يوما ، فيما
رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، فقالت : بل عليكم السّام واللعنة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : مهلا يا عائشة ، إن الله يكره الفحش والتّفحش ، قالت : أما
سمعت ما قالوا؟ قال : أما سمعت ما قلت لهم؟ إني قلت : وعليكم.
ثم كشف الله تعالى
خبث طويتهم والحجة التي إليها يستريحون ، وذلك أنهم كانوا يقولون ، أي المنافقون
وبعض اليهود الذين تخلّقوا بخلقهم ، : نحن الآن نلقى محمدا بهذه الأمور التي تسوؤه
ولا يصيبنان سوء ، ولا يعاقبنا الله تعالى بذلك ، ولو كان نبيّا لهلكنا بهذه
الأقوال ، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم ، فأخبر الله تعالى بذلك ، وأنها
كافيتهم ، أي إنهم قالوا ذلك المقال ، فجاوبهم الله : بأن جهنم تكفيهم ، يدخلونها
، فبئس المرجع والمآل : وهو جهنم.
ثم ذكر الله تعالى
آداب المناجاة ، حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَناجَيْتُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله ـ والإيمان يقتضي
امتثال أمر الله ، والبعد عما ينافي العقيدة ـ إذا تحدّثتم سرّا فيما بينكم ، فلا
تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين ، من التّناجي بالمعصية والذنب ،
والاعتداء على الآخرين وظلمهم ، وعصيان النبي صلىاللهعليهوسلم ومخالفته.
وتحدّثوا بما هو
طاعة وترك معصية ، وبما فيه خير واتّقاء الله فيما تفعلون وتتركون ، فإنكم إليه
تجمعون يوم القيامة للحساب ، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم ، ويحاسبكم عليها. وهذه
وصية للمؤمنين بألا يكون منهم تناج في مكروه ، وذلك عامّ جميع الناس إلى يوم
القيامة.
ثم ذكر الله تعالى
أن التّناجي والشيطان لا يضرّ أحدا إلا بإذن الله ، أي إنما التّناجي بالسوء من
تزيين الشيطان ووسوسته ، للإساءة للمؤمنين وإيقاعهم في الحزن ، بإيهامهم أنهم في
مكيدة يكادون بها ، وليس الشيطان أو التّناجي الذي هو منه بتحريضه ، بضارّ أحدا من
المؤمنين إلا بإذن الله ، أي بأمره وقدره ، ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالتوكّل
على الله ربّهم ، وتفويض الأمر إليه في جميع شؤونهم ، والاستعاذة بالله من الشيطان
، وترك المبالاة بما يزيّنه من النجوى. لذا قال الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن مردويه عن ابن مسعود رضي
الله عنه : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث ، فإن ذلك يحزنه».
أدب المجالسة والتصدّق قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم
منع الإسلام من
التّناجي سرّا أو بالإثم والعدوان ، حفاظا على الثقة والبعد عن الريبة والشك ،
وتبييت الغدر ، والطعن ، وأمر في المجالس بالتوسع ، للتعاون والمحبة
والودّ واحترام
الآخرين. وكل ذلك لإشعار المسلمين أنهم في الواقع إخوة أمناء وأحبّاء ، وصف واحد
أمام الأعداء ، حديثهم واضح لا غش فيه ، ومجلسهم قائم على المساواة وتبادل
الاحترام ، وكان في صدر الإسلام الأمر بالتصدّق قبل مكالمة النّبي صلىاللهعليهوسلم توقيرا له وتعظيما ، ثم رفع ذلك ، دفعا للحرج وتيسيرا على
جميع المؤمنين. وهذا مقرر في الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ
اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))
[المجادلة : ٥٨ /
١١ ـ ١٣].
قال زيد بن أسلم
وقتادة : نزلت (آية الأمر بالتّفسح) بسبب تضايق الناس في مجلس النّبي صلىاللهعليهوسلم وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر
إليه ، فيأتي الرجل الذي له الحق والسّن والقدم (التقدم) في الإسلام ، فلا يجد
مكانا ، فنزلت الآية بسبب ذلك.
يا أيها المصدّقون
بالله ورسوله ، إذا طلب منكم التوسع في المواضع أو المجالس ، فليفسح بعضكم لبعض ،
وليوسع أحدكم للآخر ، يوسع الله لكم في جنته ورحمته. فالسّنة المندوب إليها هي
التفسّح ، أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
__________________
والدارمي وأحمد ،
عن أبي هريرة : أن النّبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، فيجلس فيه ، ولكن
تفسّحوا وتوسّعوا».
فيكون القيام من
المجلس منهيّا عنه ، لهذا الحديث. أما القيام إجلالا للقادم فجائز بالحديث الذي أخرجه
البخاري وأبو داود وأحمد ، عن أبي أمامة بن سهل : أن النّبي صلىاللهعليهوسلم حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه قال : «قوموا إلى سيدكم».
وواجب على المعظّم ألا يحبّ ذلك ويأخذ الناس به ، لحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو
داود والترمذي عن معاوية : «من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من
النار».
وإذا قيل لكم
ارتفعوا وقوموا من المجلس ، فافعلوا ذلك ، وقد نزلت الآية آمرة بالقيام من المجلس
، متى فهم ذلك بقول أو فعل ، تمكينا من جلوس آخرين.
أخرج ابن أبي حاتم
عن مقاتل : أنها نزلت يوم الجمعة ، وقد جاء ناس من أهل بدر ، وفي المكان ضيق ، فلم
يفسح لهم ، فقاموا على أرجلهم ، فأقام صلىاللهعليهوسلم نفرا بعدّتهم ، وأجلسهم مكانهم ، فكره أولئك النفر ذلك ،
فنزلت آية (وَإِذا قِيلَ
انْشُزُوا فَانْشُزُوا).
وعلّة الأمر
بالقيام للآخرين ، وهو جواب الأمر بالنشوز أو النهوض : هو أن الله تعالى يرفع
منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة ، بتوفير نصيبهم فيها ، ويرفع أيضا بصفة خاصة
منازل العلماء درجات عالية ، في الكرامة في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، فمن جمع
الإيمان والعمل رفعه الله بهما درجات ، ومنه الرفع في المجالس ، والله خبير بمن
يستحق ذلك وبمن لا يستحقه ، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده ، ومجازيهم عليها
بما يناسب ، من خير أو شرّ.
ثم أمر الله تعالى
بالصدقة قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن المسلمين أكثروا
المسائل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد
الله أن يخفف عن
نبيّه ، فأنزل : (إِذا ناجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً)
فلما نزلت ، صبر
كثير من الناس ، وكفّوا عن المسألة ، فأنزل الله بعد ذلك : (أَأَشْفَقْتُمْ) الآية.
والمعنى : يا أيها
الذين صدّقوا بوجود الله وتوحيده ، وصدقوا برسالة رسوله ، إذا أردتم مناجاة النّبي
صلىاللهعليهوسلم أو مساررته في أمر من أموركم ، فقدّموا قبل المناجاة صدقة
، تصدّقوا بها ، لتعظيم النّبي صلىاللهعليهوسلم ، والتّخفيف عنه ، ونفع الفقراء. ذلك ، أي تقديم الصدقة
قبل المناجاة ، خير لكم ، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره ، والثواب الأخروي ،
وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشّح والبخل وحبّ المال ، ونفع الفقراء ، فإن لم يجد
أحدكم تلك الصدقة ، فلا حرج عليكم بالمناجاة بدون صدقة ، والله واسع المغفرة
والرحمة لأهل الطاعة.
ثم رفع الله تعالى
الحكم السابق بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ) أي أخفتم الفقر من تقديم الصدقات قبل مناجاة نبيّكم صلىاللهعليهوسلم ، قال مقاتل : إنما كان ذلك عشر ليال ، ثم نسخ ، بما يلي.
ومعناه : وحين لم
تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم ، ورخّص الله لكم في الترك
والمناجاة من غير صدقة ، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإطاعة
الله ورسوله ، والله خبير محيط بأعمالكم ، فمجازيكم عليها.
وليس في الآية ما
يدلّ على وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة ، فقد يكون عدم الفعل ، لأنهم لم
يناجوا. ولا يدلّ قوله : «فتاب عليكم» على أنهم قصّروا ، لأن المعنى أنه تاب عليهم
برفع التكليف عنهم تخفيفا ، ومثل هذا يمكن التعبير عنه بالتوبة.
موالاة الأعداء
حذّر القرآن
المؤمنين من موالاة غيرهم ممن لا يريد بهم إلا السوء أو الشّر ، وذلك حفاظا على
وحدة الأمة ورعاية مصالحها ، وإغلاق المنافذ للنفاذ بين جيوب الصف الإيماني من أجل
إفساده وبذر بذور الفتنة والفرقة بين فئاته. وهذا مبدأ أساسي في السياسة الخارجية
والداخلية ، لا تستغني عنه أمة من الأمم ، وكما جاء في كلام الله عزوجل في هذه الآيات :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ
جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ
كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ
وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ
اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))
[المجادلة : ٥٨ /
١٤ ـ ٢٢].
__________________
الآية الأولى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود وهم
المغضوب عليهم.
ومعناها : أخبرني
عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود ومالؤوهم في الباطن ، ونقلوا إليهم
أسرار المؤمنين ، فموقفهم يدعو إلى العجب. لذا فإن الله سخط عليهم ، وهم ، أي
المنافقون ، في الواقع ليسوا من المؤمنين ولا من اليهود ، ويحلفون ، يعني
المنافقين ، بالأيمان الكاذبة ، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه ، وأنه كذب لا
حقيقة له.
هيّأ الله لهم
العذاب المؤلم الشديد ، وهو عذاب الآخرة ، على أعمالهم السيئة المنكرة ، ومن أهمها
موالاة الكافرين ، ومعاداة الكافرين ، ساء الفعل القبيح فعلهم في الماضي. اتّخذوا
أيمانهم (جمع يمين) وقاية وسترا لتغطية نفاقهم ، وصون دمائهم ، فانخدع بهم بعض
الناس ، ومنعوا الناس عن الإسلام ، بسبب تثبيطهم وتهوين شأن المسلمين ، فلهم عذاب
مذلّ ذو إهانة في نار جهنم بسبب أيمانهم الكاذبة بالله تعالى.
لن تفيدهم أو
تجديهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من عذاب الله ، وأولئك المتصفون بهذه الصفات هم
أهل النار ، لا يفارقونها ، ويمكثون فيها على الدوام ، لا يخرجون منها ولا يموتون
فيها.
اذكر لهم أيها
النّبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء ، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم ،
فلا يترك أحدا منهم ، فيحلفون بالله عزوجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة ، كما كانوا يحلفون للناس
في الدنيا ، ويظنّون أو يتخيّلون بجهلهم ، في الآخرة ، أنهم بتلك الأيمان الكاذبة
على شيء مما ينفع أو يدفع الضّر وتقبل منهم ، كما ظنّوا في الدنيا ، ألا إنهم بهذا
التّصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه. نزلت في شأن منافق قال له النّبي
صلىاللهعليهوسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال :
ذرني آتك بهم ،
فانطلق ، فدعاهم ، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا ، فأنزل الله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ..)
لقد استولى عليهم
الشيطان وغلب على عقولهم فأنساهم ذكر الله ، فتركوا أوامر الله والعمل بطاعته ،
أولئك ـ والإشارة لبعدهم في الغواية والضلال ـ جنود الشيطان وأتباعه ، ألا إن
أعوان الشيطان هم الخاسرون الهالكون ، لأنهم باعوا الجنة بالنار ، والهدى بالضلال.
ان الذين يعادون
الله ورسوله ، ويخالفون أوامر الله ونواهيه ، هم لا غيرهم في عداد الأذلّين
المهانين. وقد قضى الله في الأزل أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة وانتشار
الإسلام ، إن الله قوي على نصر رسله ، غالب لأعدائه. وهذا تبشير بنصر المؤمنين على
الكافرين.
قال مقاتل : لما
فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على
فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم
عليها ، والله إنهم لأكثر وأشد بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك؟ فنزلت : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي)
وشأن المؤمنين
أنهم لا يوادّون أعداء الله ، فلا تجد قوما آمنوا بالله واليوم الآخر يصادقون من
عادى الله تعالى ورسوله ، حتى ولو كان المعادون من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم
وعشيرتهم (قرابتهم أو قبيلتهم) التي ينتمون إليها ، أي لا يجتمع في قلب واحد إيمان
كامل مخلص مع موادّة الكفار ، أولئك الذين يتجنّبون موادّة أعداء الله والرسول ،
ثبّت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم ، وقوّاهم بنصره وأفرغ الطمأنينة في نفوسهم ،
ويدخلهم ربهم جنات تجري من تحت قصورها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، وقد قبل
الله أعمالهم ورضي عنهم ، وفرحوا بما أعطاهم ربّهم ، أولئك هم
أنصار الله وجنده
الذين يمتثلون أوامره ، ويقاتلون أعداءه ، وينصرون أولياءه ، ألا إن هؤلاء الأنصار
هم لا غيرهم الفائزون بالجنان والسعادة الأبدية.
قال الرازي : إن
الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً ..) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي صلىاللهعليهوسلم إليهم ، لما أراد فتح مكة.
تفسير سورة الحشر
إجلاء بني النّضير من المدينة
كان اليهود
بطوائفهم الثلاث في المدينة هم الذين بدؤوا بنقض العهد مع النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وتواطؤوا مع المشركين الوثنيين على مكايدة النّبي والمسلمين
ومقاتلتهم ، وأظهروا العداوة لهم ، فحاصرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة ، وكان حصارهم في ربيع
الأول ـ السنة الرابعة من الهجرة.
أخرج الحاكم وصححه
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت غزوة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود على
رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة ، فحاصرهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من
المتعة والأموال إلا الحلقة وهي السّلاح ، فأنزل الله فيهم : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ)
مطلع سورة الحشر
المدنية بالإجماع ، وتسمى سورة بني النضير :
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
__________________
بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)
وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ
اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))
[الحشر : ٥٩ / ١ ـ
٥].
نزّه الله تعالى
عن كل نقص جميع الكائنات في السماوات والأرض ، وسبّحه إما على الحقيقة وذلك بما
يتفق مع طبيعة الجمادات ، وإما مجازا ، أي ان آثار الصنعة فيها والإيجاد لها
كالتسبيح ، وهو القوي المنيع الجناب ، الغالب القاهر في ملكه ، الحكيم في صنعه
وقدره وشرعه ، يضع الأشياء في موضعها الصحيح.
ومن حكمة الله
وقدرته : أنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج الذين كفروا من الكتابيين وهم يهود بني
النضير ، من ديارهم في المدينة المنورة ، في الجمع الأول والجلاء والإخراج ، فكان
أول جلاء من المدينة : هو الذي فعله رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والجلاء الآخر أو الثاني من خيبر إلى الشام : هو الذي
فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ما توقعتم أيها
المسلمون أن يخرج بنو النضير من ديارهم من المدينة ، لقوتهم ومنعتهم ، وكانوا أهل
حصون وقلاع ، وعقارات وبساتين نخيل واسعة ، وذوو عدد وعدة ، فجاءهم أمر الله وبأسه
وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال أنهم لن يقدر عليهم ، وهو أن الله أمر نبيّه
بإجلائهم وقتالهم ، وألقى الخوف الذي يملأ الصدر في قلوبهم ، فلم تكن آمالكم
وظنونكم أنهم يخرجون ويتركون أموالهم لكم.
ولما أيقنوا
بالجلاء ، أخذوا يهدمون بيوتهم من الداخل ، كيلا يستفيد منها المسلمون ، كما
دمّرها المؤمنون من الخارج ، فاتّعظوا أيها العقلاء بما حدث ، واعلموا أن الله
يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر الله ورسوله.
__________________
ولولا أن قضى الله
عليهم بالخروج والجلاء من الوطن على هذا النحو ، لعذّبهم في الدنيا بالقتل والسّبي
، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة ، بعد غزوة الخندق ، وكما فعل بالمشركين يوم
بدر في السنة الثانية ، وبيهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر
الكبرى ، ولهم في القيامة عذاب شديد في نار جهنم. وسبب إجلاء بني النضير :
محاولتهم إلقاء صخرة من فوق سطح على النّبي صلىاللهعليهوسلم ، مكان جلوسه بجوار جدار ، فأطلعه الله تعالى بالوحي على
مؤامرتهم ، فقام ورجع إلى المدينة ، وأمر بالتهيؤ لحربهم وإجلائهم عن المدينة ،
فحاصرهم ست ليال ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فطلبوا الصّلح على الجلاء وتحميل
الإبل أموالهم إلا السّلاح.
وإنما فعل الله
بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء ، وتسليط المؤمنين عليهم ، لأنهم عادوا الله ورسوله ،
وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين ، من البشارة بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، علما بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ومن يعادي الله
ورسوله بعدم الطاعة ، ويتواطأ مع المشركين ، وينقض العهد أو ميثاق الصحيفة على
الأمن والسّلام والتعايش الديني والاجتماعي ، والاقتصادي ، فإن الله يعاقبه أشد
العقاب ، ويعذبه في الدنيا والآخرة.
وفي أثناء الحصار
: أمر النّبي صلىاللهعليهوسلم بقطع نخل بني النضير وإحراقه ، حتى لا يبقى لهم تعلّق
بأموالهم وأمل بالعودة ، ونادوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيب من
يصنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها ..) الآية.
أي إن ما قمتم به
من قطع النخيل وإحراقه ، أو تركه قائما دون قطع ، فهو بأمر الله ومشيئته ، وقد أذن
بذلك ، لإعزاز المؤمنين ، وإذلال الرافضين للطاعة ، وهم اليهود ، ولإخزاء الفاسقين
، أي الخارجين عن الحدود ، الجاحدين بما أنزل الله تعالى على رسله. واللينة :
النخلة.
فالآية ردّ على
قول بني النّضير : إن محمدا ينهى عن الفساد ، وها هو ذا يفسد ، فأعلم الله تعالى
أن ذلك بإذنه ، وليخزي الفاسقين من بني النضير.
حكم الفيء (أموال الأعداء)
ترتب على إجلاء
بني النضير من المدينة وصلحهم على ترحيل أموالهم إلا السّلاح : ظهور ما يسمى
بالفيء ، وهو الأموال التي أخذت منهم صلحا ، فلم تؤخذ بطريق القتال ، لأن المقاتلة
كانت قليلة ، فأجري ذلك مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا ، وخصّ الله تعالى بتلك الأموال
رسوله ، يتصرف فيها بحسب ما يرى من المصلحة ، فقسمها بين المهاجرين ، ولم يعط
الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ،
والحارث بن الصّمة.
وهذا في الآيات
الآتية المبينة حكم الفيء وطريقة تقسيمه في المصالح العامة :
(وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ
وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ
فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى
__________________
أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))
[الحشر : ٥٩ / ٦ ـ
١٠].
هذا حكم قسمة
الفيء ، وإعلام أن ما أخذ من بني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وليس على حكم الغنيمة التي تؤخذ من العدو بطريق العنوة
أو القتال ، وإنما حكمه حكم خمس الغنائم تصرف في المصالح العامة ، فما ردّه الله
تعالى على رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير فهو آت من غير
قتال ، ولكن الله يسلّط بقدرته وتدبيره رسله على من يشاء من أعدائه ، فيأخذون
أموالهم دون قتال ، والله قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء بمن يشاء. وفي ذلك قال
عمر رضي الله عنه : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلىاللهعليهوسلم ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ينفق منها على أهله نفقه سنة ، وما بقي منها جعله في
السلاح والكراع (الخيل) عدّة في سبيل الله تعالى.
ومصارف الفيء : هي
أن كل ما ردّه الله تعالى على رسوله صلىاللهعليهوسلم من كفار أهل القرى ، كقريظة والنضير وفدك وخيبر ، صلحا من
غير قتال ، ولم ينتزع بإيجاف خيل (وهو السرعة في الجري) ولا ركاب وهي الإبل الخاصة
، يحكم الله به بما يشاء ، فيكون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في حياته ، يتصرف به بحسب ما يراه من المصلحة ، ثم يكون من
بعده مصروفا في مصالح المسلمين العامة. ويقسم خمسة أقسام : سهم الله تعالى ورسوله
: هو للرسول في حياته ، ولمصالح المسلمين من بعده ، وسهم قرابة الرسول صلىاللهعليهوسلم : وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وسهم اليتامى ، وسهم
المساكين ، وسهم ابن السبيل (المسافر المنقطع عن بلده في سفره) والأربعة الأخماس الباقية
لمصالح المسلمين
__________________
العامة. أما
الغنيمة فيصرف خمسها لهؤلاء الأصناف الخمسة المذكورين في الآية ، وآية الغنائم : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ ...) [الأنفال : ٨ / ٤١]
، والأربعة الأخماس الباقية للمقاتلين في المعركة.
وعلّة هذا التقسيم
وحكمه : ألا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء فقط ، ولا يصيب الفقراء منه
شيء ، فيغلب الأغنياء الفقراء ، ويقسمونه بينهم ، وهذا مبدأ إغناء الكل.
وما أمركم به
الرسول صلىاللهعليهوسلم فخذوه ، وما منعكم
عنه فاتركوه ، وخافوا الله بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، إن الله شديد العقاب
لمن عصاه ، وخالف أمره ، وارتكاب ما زجر عنه. ثم بيّن الله تعالى حال الفقراء
المستحقّين للفيء ، فسهم هؤلاء غير سهم الله والرسول ، وهم فقراء المهاجرين الذين
أبعدوا من ديارهم وأموالهم ، طلبا لمرضاة الله وفضله ، وإعلاء كلمة الله ودينه ،
ونصرة الله ورسوله بجهاد الأعداء ، هؤلاء المهاجرون هم الصادقون في إيمانهم ،
الذين صدّقوا قولهم بفعلهم.
ثم يعطى سهم
للأنصار الذين سكنوا المدينة دار الهجرة ، من قبل مجيء المهاجرين ، ويحبّون
المهاجرين ، ويواسونهم بأموالهم ، ولا يجدون في أنفسهم حاجة أي حسدا أو حقدا بسبب
ما أوتي المهاجرون دونهم ، بل طابت أنفسهم بذلك ، ويقدمون غيرهم على أنفسهم في
حظوظ الدنيا ، ولو كان بهم حاجة وفقر ، ومن كفاه الله داء بخل نفسه ووقي من ذلك ،
فأدى ما يجب عليه شرعا من زكاة أو حقّ ، فقد فاز وظفر بكل المطلوب. والإيثار على
النفس أكرم خلق.
والذين أتوا في
الزمان من بعد المهاجرين والأنصار ، وهم التابعون لهم بإحسان يقولون : ربّنا اغفر
لنا ، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، وانزع من قلوبنا الغلّ أو الحقد والبغض
والحسد للمؤمنين قاطبة ، فإنك يا ربّ واسع الرأفة ، كثير الرحمة ،
فاقبل دعاءنا. قال
الإمام مالك : إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض ، فلا حظّ له في
الغنيمة أدبا له.
مواقف المنافقين واليهود في القتال
ضمّ التّكتل
المعادي للمسلمين في صدر الإسلام فئات ثلاثا : هم المشركون الوثنيون ، والمنافقون
واليهود ، وهم الحلف الثلاثي لمعسكر الشّر والكيد ، والتّآمر والعدوان ، فقد
جمعتهم المصالح ، لمحاربة أهل القرآن وأتباع النّبي عليه الصّلاة والسّلام ،
وأظهروا مواقف عدوانية خطيرة ، لا بدّ من صدّها والوقوف ضدّها ، ولم تمض إلا فترة
زمنية قليلة إلا وانفرط عقد هذا الحلف المشبوه ، وتبددت قوى أهله ، وزال كيد أصحاب
الكيد والضّلال ، قال الله تعالى واصفا مواقف فئتين من هذا التّكتل ، وهم
المنافقون واليهود :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا
لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي
قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ
لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ
اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ
خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))
[الحشر : ٥٩ / ١١
ـ ١٧].
__________________
أخرج ابن أبي حاتم
عن السدّي قال : أسلم ناس من أهل قريظة ، وكان فيهم منافقون ، وكانوا يقولون لأهل
النضير : «لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم» فنزلت هذه الآية فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا
يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ..)
نزلت في عبد الله
بن أبي ابن سلول ، ورفاعة بن التابوت ، وقوم من منافقي الأنصار.
والمعنى : ألم
تنظر نبي الله إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد الله بن أبي ، وعبد الله بن نبتل
، ورفاعة بن زيد ، وأمثالهم ، حين بعثوا إلى يهود بني النضير : أن اثبتوا وتحصّنوا
، أو تمنّعوا ، فإننا لا نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم
، ولا نطيع في شأنكم ومن أجلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد
وأتباعه ، وإن طال الزمان ، وإن قوتلتم لننصرنكم على أعدائكم ، وكانوا كذبة فيما
قالوا من ذلك ، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج والنصرة ، إما
لنيّتهم المبينة ألا يفوا بما وعدوا به ، وإما لأنهم لا ينفّذون ما قالوا.
ثم فصّل الله تعالى
أخبارهم الكاذبة ومواقفهم الخادعة ، فقال : (لَئِنْ أُخْرِجُوا) أي تالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم ، لا يخرج
معهم المنافقون ، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم ، ولئن قاتلوا معهم ،
لفرّوا هاربين منهزمين ، ثم لا يصير الفريقان من المنافقين واليهود منصورين بعد
ذلك ، بل يذلّهم الله ويخذلهم ، ولا ينفعهم نفاقهم.
إنكم أنتم أيها
المسلمون أشدّ خوفا ورهبة في صدور المنافقين واليهود من رهبة الله ، فهم يخافون
منكم أكثر من خوفهم من الله ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة الله ، حتى يخشوه
تمام الخشية ، ولو فقهوا لعلموا أن الله تعالى أحقّ بالرّهبة منه دونكم.
وأسلوب المنافقين
واليهود في قتال المؤمنين أنهم لا يواجهون جيش الإسلام مواجهة ، ولا يقاتلونهم
مجتمعين ، وإنما يقاتلونهم من وراء الحصون والقلاع ، أو من خلف الأسوار التي
يتستّرون بها ، لجبنهم ورهبتهم ، وحربهم الدائرة بينهم شديدة ، تظنهم جميعا
متوحّدين ، وهم متفرّقون ، لما بينهم من أحقاد وعداوات ، ولأنهم قوم لا يعقلون
الحق وأمر الله. وبأسهم : أحقادهم وأضغانهم.
ولهم أشباه ونظائر
، فهؤلاء اليهود والمنافقون أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر ، في السنة
الثانية من الهجرة ، ومثل ما أصاب من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم
النّبي صلىاللهعليهوسلم من المدينة إلى أذرعات بالشام ، بعد سنة ونصف من الهجرة ،
إنهم ذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا ، ولهم عذاب مؤلم جدّا في
الآخرة. ولهم مثل آخر ، فإنهم مثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشّر ، وأغراه
بالكفر وزيّنه له ، وحمله عليه ، فلما كفر مطاوعة للشيطان ، تبرأ الشيطان منه ،
وقال على وجه التّبري من الإنسان : إني أخاف عذاب الله ربّ العالمين إذا ناصرتك ،
أي ان مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير كمثل الشيطان والإنسان ،
فالمنافقون مثلهم الشيطان ، وبنو النضير مثلهم الإنسان.
فكان عاقبة
الفريقين : فريق المنافقين واليهود ، وعاقبة الشيطان الآمر بالكفر والإنسان
المستجيب لوسوسة الشيطان : أنهما صائران إلى نار جهنم ، خالدان فيها على الدوام ،
وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا.
التذكير بالآخرة
تكرر في القرآن
الكريم كثيرا الأمر بتقوى الله التي هي التزام المأمورات ، واجتناب المنهيات ،
وذلك فيما يقارب مائتين وأربعين مرة ، إما بالأمر ، أو بالخبر ،
أو بالوصف
والإشادة بالمتّقين ، من أجل تربية الإنسان وتصحيح عقيدته وعبادته وسلوكه في
الحياة ، ورغّب القرآن في الإعداد للجنّة ، وحذّر من عمل أهل النار ، ووصف أهل
الجنة المستحقين لها بالفائزين ، وأهل النار بالفاسقين. وهذه آيات وعظ وتذكير
وتقريب للآخرة. وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية ، قال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
(١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ
الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
(٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))
[الحشر : ٥٩ / ١٨
ـ ٢٤].
يا أيها المصدّقون
بالله ورسوله ، افعلوا ما أمرتكم به ، واجتنبوا ما نهيتكم عنه ، ولتتأمل نفس واحدة
ما أسلفت ليوم القيامة ، واتّقوا الله ـ وكرّر الأمر بذلك للتأكيد ـ فإن الله
مطّلع على أعمالكم ، ومجازيكم عليها كلها.
واحذروا أن تكونوا
كالذين تركوا أمر الله ، وأهملوا حقوق الله الواجبة على عباده ، ولم يخافوا ربّهم
، فجعلهم ناسين أنفسهم بسبب نسيانهم لربّهم ، فلم يعملوا
__________________
الأعمال الصالحة
التي تنفعهم في المعاد ، وتنجيهم من العذاب ، أولئك هم التاركون حقوق الله ،
الخارجون عن حدود الله وطاعته.
ولا مساواة بين
المحسنين والمسيئين ، فلا يستوي مستحقّو النار ، ومستحقّو الجنّة في حكم الله
تعالى في الفضل والمنزلة ، أصحاب الجنّة هم الناجون ، الظافرون بكل مطلوب. وهذا
ترغيب في العمل للجنة ، وترهيب من العمل للنار. وهذه الآيات الثلاث كلها لتأكيد
الأمر بالتقوى وطاعة الله تعالى.
وللقرآن عظمته
البالغة ومواعظه المؤثرة ، فلو أنزلنا هذا القرآن على جبل من الجبال ، لرأيته مع
كونه بالغ الصلابة ، في غاية الخشوع والخضوع والانقياد لأمر الله ، يكاد يتشقّق من
خوف الله وخشية عذابه ، وهذه الأمثال المذكورة نضربها للناس جميعا ، لعلهم يتفكرون
فيما يجب عليهم التفكّر فيه ، ويتّعظوا بالمواعظ. وهذه موعظة بالغة للإنسان ، وذمّ
لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعية الله تعالى ، مع وجود الأوصاف لله التي توجب
لمخلوقاته هذه الخشية.
ولقد عظم القرآن
الكريم بعظمة صفات منزله ، فالله هو الإله الواحد الذي لا إله غيره ، ولا ربّ سواه
، عالم بكل ما غاب عن الأحاسيس ، وبكل ما هو مشاهد محسوس ، وهو ذو الرحمة الشاملة
الواسعة ، المنعم بجلائل النّعم ودقائقها.
والغيب : ما غاب
عن المخلوقين ومنه الآخرة. والشهادة : ما شهدوه ، ومنه الدنيا.
هو الله الواحد
الأحد ، وكرّر ذلك للتأكيد والتقرير ، والمالك لجميع الأشياء ، المتصرّف فيها على
وجه التمام والكمال ، الطاهر من كل عيب أو نقص ، الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله ،
السالم من أي نقص وعيب ومن أي جور ، أي ذو السّلام ، المصدق أنبياءه فيما بلّغوا ،
والمصدّق المؤمنين في أنهم آمنوا ، المهيمن ، أي الرقيب الحافظ لكل شيء ، الأمين
عليه ، القوي الغالب ، ذو العزّة والجبروت فلا يدانيه شيء
ولا يلحق رتبته ،
والبليغ الكبرياء والعظمة ، الذي له التكبّر حقّا ، المنزه نفسه عن إشراك الكفار
به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات ، الخالق : المقدر لخلقه على حسب ما
تقتضيه حكمته ، الموجد خلقه من غير تفاوت مخلّ به ، المصوّر : الموجد صور الأشياء
وكيفياتها ، له الأسماء الحسنى : الدّالة على محاسن المعاني ، ينزهه كل ما في
السماوات والأرض ، وهو بهذه الصفات القوي الغالب القاهر الذي لا يغالبه مغالب ،
الشديد الانتقام من أعدائه ، الحكيم في تدبير خلقه وشرعه وقدره ، وفي كل الأمور
التي يقضي فيها ، فهو كامل القدرة ، تام العلم. أي إن الله واجب الوجود أزلا وأبدا
، الحاضر الذي لا يزول. المعبود بحق ، فلا يستحقّ العبادة أحد غيره ، كامل الصفات
والأفعال.
فقوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته ، لا إله إلا هو ،
وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلىاللهعليهوسلم
بقوله : «إن لله
تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنّة» . وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة ، واختلف الرّواة في
بعضها. وأخرج الدّيلمي عن ابن عباس مرفوعا : «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر
سورة الحشر». فيدعى بها لاشتمالها على الاسم الأعظم. والعبرة في الدعاء بهذه
الأسماء : الإخلاص وصفاء النفس والروح ، والتوجّه الصادق لله عزوجل.
__________________
تفسير سورة الممتحنة
حكم موالاة الأعداء
في مواطن كثيرة من
آي القرآن الكريم حذّر الله تعالى من موالاة الكفار ، ونهى عن اتّخاذهم أولياء ،
أي أصدقاء ، لوجود التهمة وانعدام الثقة بنصحهم وقولهم ، ومن أجل الحفاظ على
المصالح العامة العليا للأمة ، التي إن روعيت تحقق النصر والأمن والمصلحة ، وإن
ألغيت أو عبث بها بعض الناس ، وقعت الأمة في الهزائم المتوالية ، والهزّات ،
والمحن المتلاحقة ، وسورة الممتحنة كلها نزلت ـ كما أخرج أصحاب الكتب السّتة ـ في
شأن حاطب بن أبي بلتعة الذي أخبر قريشا بكتاب مع امرأة بعزم النّبي صلىاللهعليهوسلم على حربهم ، ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليّا وعمارا وعمرا أو الزبير والمقداد بن الأسود (أي
ثلاثا) والظاهر المشهور أنهم علي والزبير والمقداد ، لتخليص الكتاب من المرأة ،
ففعلوا ، وقد أراد حاطب الذي شهد بدرا مصانعة قريش ليحموا له أهله وأمواله ، ولم
ينافق أو يكفر ، فأنزل الله هذه السورة (الممتحنة) التي هي مدنية بالإجماع ومطلعها
:
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً
__________________
فِي
سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))
[الممتحنة : ٦٠ /
١ ـ ٣].
يا أيها المصدّقون
بالله تعالى ورسوله ، لا تتخذوا عدوي وعدوّكم ، وهم هنا كفار قريش ، أنصارا
وأعوانا وأصدقاء لكم ، تنقلون إليهم أخبار نبيكم والمؤمنين ، بسبب المودة التي
بينكم وبينهم. وهذا نهي صريح عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.
وسبب النّهي :
أنهم كفروا بالله ورسوله ، وبما جاءكم من الحق وهو القرآن وهداية الله ، وأخرجوا
الرسول والمؤمنين من مكة ، من أجل إيمانهم بالله تعالى ، وعبادتهم إياه ، وذلك
للدواعي الآتية المتعلقة بكم :
ـ لا تتخذوهم
أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله وطلب مرضاته.
ـ وتنقلون إليهم
الأخبار ، وتسرّون إليهم بمودّتكم لهم ، وأنا الله العالم بالسرائر والضمائر
والظواهر ، وبكل ما تخفون وما تعلنون.
ـ ومن يوال
الأعداء منكم ، فقد انحرف وأخطأ طريق الحق والصواب ، وحاد عن قصد السبيل التي توصل
إلى الجنة والرضوان الإلهي.
وكذلك لأسباب
ثلاثة منهم تمنع موالاتهم ، وتدلّ على عداوتهم وحقدهم وكراهيتهم :
ـ إن يلقوكم
يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ، ويكونوا حربا عليكم.
__________________
ـ ويمدّوا إليكم
أيديهم بالضرب والأذى والقتل وغير ذلك من صنوف الاعتداء ، وينالوكم بألسنتهم
وكلماتهم سبّا وقذفا وشتما وبكل إساءة.
ـ ويتمنّوا ارتدادكم
وكفركم بربّكم ورجوعكم إلى الكفر ، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا ، فعداوتهم لكم
كامنة وظاهرة ، فكيف توالون مثل هؤلاء الذين يبتدءونكم بالعداوة والسوء؟! ورابطة
الدين والإيمان أنفع لكم من رابطة القرابة والموالاة ، فلن تفيدكم يوم القيامة
أقاربكم وأولادكم ، حتى توالوا الكفار لأجلهم ، كما وقع في قصة حاطب ابن أبي بلتعة
التي هي سبب نزول هذه الآيات ، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة
الكفار ، وترك موالاتهم ، وتوثيق صلات الإيمان وأخوة الدين ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ٤٩ /
١٠]. ففي الآخرة يفرّق الله بينكم ، فيدخل أهل طاعته الجنة ، وأهل معصيته النار ،
والله مطّلع على أعمالكم ، ومبصر بها ، ومجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرّا
فشرّ.
والقصد من هذه
الآية : أن القرابة النّسبية لا تنفع شيئا عند الله تعالى ، إن أراد الله بكم سوءا
، ولن تفيدكم القرابة إذا أرضيتموها بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ،
فقد خاب وخسر وضلّ عمله ، ولو كان قريبا لنبي أو منسوبا لآل البيت الطاهرين ،
لقوله تعالى في الأبوين : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ٣١ / ١٥].
هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة
فيقول الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١) [المؤمنون :
٢٣ / ١٠١]. ويقول سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) [الزّخرف :
٤٣ / ٦٧].
ألا إن المودّة لا
تنفع يوم القيامة إن لم تكن فيما يرضي الله ، حبّا ومعاداة ، لانفصال كل اتّصال
يومئذ ، واعتماد كل إنسان على ما قدّم لنفسه.
إبراهيم الخليل أسوة حسنة
الأنبياء الكرام
كلهم قدوة للناس ، ولا سيما إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليهمالسلام ، وذلك في كل ما أمرهم الله تعالى به ، ومنه التّبرؤ من
الكفار ومعاداتهم ، ولو كانوا إخوة أو آباء أو غيرهم ، فإذا آمنوا انقلبت العداوة
موالاة ومحبة وثقة ، ولكن الله تعالى استثنى من التّأسي بأقوال إبراهيم عليه
الصّلاة والسّلام استغفاره لأبيه ، الذي كان عن موعدة وعده بها قبل أن يعلم أنه
عدوّ لله ، ففي هذا لا يستغفر أحد لأبيه إذا كان كافرا ، ولا تأسّي بما حدث ، كما
تصرّح هذه الآيات الكريمة :
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ
كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ
الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (٩))
[الممتحنة : ٦٠ /
٤ ـ ٩].
لا بدّ لكل أمة من
نبراس أو رمز أو قدوة عملية ، يعمل الناس بسيرته العملية ،
__________________
وقد جعل الله
للمسلمين من الأنبياء الماضين إبراهيم الخليل عليهمالسلام قدوة طيبة حميدة ، يقتدون به وبمن آمن برسالته الداعية
لتوحيد الله عزوجل والمنفّذة للدعوة ، حين قالوا لقومهم الكفرة عبدة الأوثان
: إننا بريئون منكم ، لكفركم بالله وشرككم به ، وبريئون من كل ما تعبدون من غير
الله من الأصنام ، فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان ، وكذّبناكم في أقوالكم ولم
نؤمن بشيء منها.
وعادتنا معكم :
أنه قد ظهرت العداوة والكراهية بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم ، فنحن نتبرأ
منكم إلى الأبد ، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده لا شريك له ، وتعبدوا الله دون
غيره ، وتتركوا ما أنتم عليه من الشّرك والوثنية.
ثم استثنى الله
تعالى شيئا لا يتأسّى به بإبراهيم عليهالسلام ، ألا وهو استغفاره لأبيه ، وقوله له : لا أملك لك من ردّ
عذاب الله شيئا إن أشركت به ، فلا تتأسوا به في هذا الاستغفار للمشركين ، فإن
استغفار إبراهيم لأبيه كان بسبب وعد سابق وعده إيّاه ، فلما تبيّن له أنه عدوّ لله
، تبرأ منه.
واعتصم إبراهيم عليهالسلام والمؤمنون به : بتوحيد الله حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم
قائلين : يا ربّنا اعتمدنا عليك في جميع أمورنا ، ورجعنا وتبنا إليك ، فإليك
المرجع والمصير في الآخرة ، لا لأحد سواك.
يا ربّنا لا
تغلّبهم علينا ، فنكون لهم فتنة وسبب ضلالة ، لأنّهم يتمسكون بكفرهم ويقولون :
إنما غلبناهم لأنا على الحقّ وهم على الباطل ، هذا قول قتادة ، وقال ابن عباس : لا
تسلّطهم علينا فيفتنونا عن ديننا ، وهذا القول الثاني أرجح ، لأنهم إنما دعوا
لأنفسهم ، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار. واغفر لنا ذنوبنا يا ربّنا ، فإنك
أنت القوي الغالب القاهر ، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك ، وشرعك وقدرك ،
وتدبير خلقك.
ثم أكّد الله
تعالى المطالبة بالتّأسّي بإبراهيم والمؤمنين معه ، فلقد كان لكم في إبراهيم
والمؤمنين معه قدوة حسنة ، لمن كان يطمع في الخير والثواب من الله ، في الدنيا
والآخرة ، ويتأمّل النجاة في اليوم الآخر ، ومن يعرض عما أمر الله تعالى به ،
ويوال أعداء الله ويوادّهم ، فإنه لا يضرّ إلا نفسه ، فإن الله هو الغني عن خلقه ،
المحمود : المستحقّ الحمد من جميع مخلوقاته بما أنعم عليهم.
ولما نزلت هذه
الآيات ، وصمم المؤمنون على قطع الصّلات بالكفار وإظهار عداوتهم ، تأسّفوا على
قراباتهم أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا ، حتى يبقى بينهم الودّ والتّواصل ، فنزل قوله
تعالى : (عَسَى اللهُ) الآية مؤنسة لهم في ذلك ، ومرجّية أن يقع ، فأسلموا في فتح
مكة ، وصار الجميع إخوانا.
والمعنى : ربّما
أسلم أعداؤكم ، وصاروا من أهل دينكم ، فتحوّلت العداوة إلى مودّة ، والبغضاء إلى
محبة ، والله قادر على كل شيء ، وغفور لمن أخطأ ، فوادّهم ، واسع الرّحمة بهم ،
فلم يعذّبهم بعد التوبة.
ثم سامح أو رخّص
الله في مواصلة الكفار الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يطردوهم من ديارهم ، فلا
يمنعكم الله من فعل الخير مع الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء
والضعفاء منهم ، ولم يخرجوكم من دياركم ، ولا يمنعكم أيضا من أن تحكموا بينهم
بالعدل ، إن الله يرضى عن العادلين.
نزلت هذه الآية ـ كما
أخرج أحمد والبخاري ومسلم ـ في أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، حين استأذنت
النّبي صلىاللهعليهوسلم في صلة أمها وإعطائها شيئا من المال ، وهي مشركة ، فقال : «نعم
، صلي أمك» ، فأنزل الله فيها : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
..)
والقصد من الآية :
أن الله تعالى لا ينهى عن برّ المعاهدين من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك
القتال ، وعلى ألا يعينوا عليهم.
ـ إنما ينهاكم
الله معشر المؤمنين عن موالاة الذين عادوكم ، وهم مشركو قريش المردة وأمثالهم
الذين قاتلوكم وأخرجوكم من دياركم ، وساعدوا على إخراجكم ، أن تتخذوهم أولياء ، أي
أنصارا وأصدقاء ، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم ، لأنهم صانعوا من
يستحقّ العداوة.
اختبار المهاجرات إلى دار الإسلام
تضمن صلح الحديبية
بين النّبي صلىاللهعليهوسلم ومشركي مكة على أن يردّ المؤمنون إلى الكفار كل من جاء
مسلما من رجل أو امرأة ، فنزلت آية اختبار المهاجرات إلى دار الإسلام إثر صلح
الحديبية ، ونقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية ، وحكم بأن المهاجرة
المؤمنة لا تردّ إلى دار الكفر ، بل تبقى عند المسلمين وتستبرأ بحيضة ، وتتزوج ،
ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق ، وأمر الله أيضا المؤمنين بطلب صداق من فرّت
امرأته من المؤمنين ، معاملة بالمثل ، كما يتبين في هذه الآيات :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ (١١))
[الممتحنة : ٦٠ /
١٠ ـ ١١].
أخرج البخاري
ومسلم عن المسور ومروان بن الحكم : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما
__________________
عاهد كفار قريش
يوم الحديبية ، جاءه نساء من المؤمنات ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ..) إلى قوله : (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)
والمعنى : يا أيها
الذين آمنوا ، أي صدّقوا بالله ورسوله ، إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بلاد الكفار ، فاختبروهن وجرّبوهن وتعرفوا حقيقة ما
عندهن ، لتعلموا صدق رغبتهن في الإسلام ، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وسماهن الله
تعالى : (مُؤْمِناتٍ) قبل التّيقن من ذلك ، عملا بظاهر أمرهن. وقوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) أمر بمعنى الوجوب ، وقيل : بمعنى النّدب أو الاستحباب.
قال ابن عباس
وآخرون في كيفية هذا الامتحان : كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها ،
ولا بجريرة جرّتها ، ولا بسبب من أعراض الدنيا ، سوى حب الله تعالى ، ورسوله صلىاللهعليهوسلم والدار الآخرة.
ثم حضّ الله تعالى
على امتحانهن ، واحتمال الاسترابة ببعضهن ، فقال : (اللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَّ ..) أي إن الامتحان في الظاهر فقط ، أما في الحقيقة والواقع
فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله تعالى ، والله أمركم بالظواهر ، وهو يتولى السّرائر
، فإن ترجح لكم أو غلب على ظنّكم أنهنّ مؤمنات ، فلا تردوهنّ إلى أزواجهن
المشركين. وسمي الظنّ علما : من باب الظّن الغالب.
والعلّة في ألا
يردّ النساء إلى الكفار : هي امتناع الوطء وحرمته ، فليست المؤمنات حلالا للكفار ،
وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها ، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي
التي حرّمت المسلمات على المشركين الوثنيين. وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن
يتزوج المشرك المؤمنة ، كزواج أبي العاص بن الربيع بزينب ابنة النّبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم أسلم سنة ثمان.
__________________
وأحكام تسوية زواج
المسلمة المهاجرة : هي ما يأتي :
ـ ادفعوا إلى
أزواج المهاجرات من المشركين ما غرموه عليهن من المهور.
ـ ولا إثم ولا حرج
عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن ، وبشرط
انقضاء عدتهن ، وكون الزواج من الولي وغير ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم
عن الحسن البصري في قوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت ، فتزوجها رجل ثقفي
، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
ـ ويحرم عليكم
أيها المؤمنون بعد نزول هذه الآية الزواج بالمشركات الكوافر ، واستمرار العصمة
الزوجية معهن ، فمن كانت امرأته مشركة وثنية ، فليست له بامرأة ، لانقطاع عصمتها
باختلاف الدين.
ـ وطالبوا بمهور
نسائكم إذا ارتددن ، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. ذلكم
المذكور من إرجاع المهور من الجانبين ، واستثناء النساء من حكم صلح الحديبية : هو
حكم الله وشرعه يحكم به بين عباده ، والله واسع العلم ، بالغ الحكمة في أقواله
وأفعاله ، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
ـ وإن ذهبت امرأة
من أزواجكم إلى الكفار ، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الحرب ، فعاقبتم ، أي
فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم ، وذلك بأن يأتيكم شيء من أزواجهن ،
فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، إذا لم يردّ
المشركون على زوجها مهرها ، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم ،
وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه ، أي إن علة إيجاب التقوى : هي الإيمان بالله
تعالى ، والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه.
أخرج ابن أبي حاتم
عن الحسن في قوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الآية ، قال
ـ كما تقدم ـ :
نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت ، فتزوجها رجل ثقفي ، ولم ترتدّ امرأة من
قريش غيرها.
وفي الجملة : على
الكفار ردّ مهر المرأة العائدة إلى دار الكفر ، فإن ردّوه تحقّق المطلوب ، وإلا
فمن غنائم الحرب العائدة منهم.
بيعة المهاجرات
من المعلوم أن
رسالة الإسلام عامة للإنس والجن ، للعرب وغيرهم ، وللعالم كله ، ذكورا وإناثا ،
لإصلاح الحياة البشرية بنمو متوازن ، فتعمّ الاستقامة ، ولا يبقى فيها زاوية في
المجتمع دون ترميم أو إصلاح ، لذا كانت بداية دعوة النّبي صلىاللهعليهوسلم إلى دين الله وتوحيده ، موجهة للرجال والنساء معا ، عن
طريق البيعة أو المعاهدة ، فكانت بيعة الرجال أولا ، ثم بيعة النساء ، قبل فرض
شريعة القتال ، ولما فرغ النّبي صلىاللهعليهوسلم يوم فتح مكة من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء ، وهو
على الصفا ، وعمر أسفل منه يبايع النساء ، بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويبلغهن عنه. وهذا ما أخبرت به الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))
[الممتحنة : ٦٠ /
١٢ ـ ١٣].
__________________
نزلت الآية الأولى
يوم فتح مكة ، فإنه صلىاللهعليهوسلم لما فرغ من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء. أخرج البخاري
عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ..) الآية ، فمن أقرّت بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «قد بايعتك» كلاما ، ولا ، والله ما مسّت يده يد امرأة
في المبايعة قط ، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك».
والمعنى : إذا
جاءك أيها النّبي المؤمنات بالله ورسوله ، يعاهدنك ويقصدن مبايعتك على الإسلام
والطاعة ، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن أو حجر أو ملك أو كوكب أو بشر
، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادهن ، أي بالوأد
وغيره ، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات ، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا
ليسوا لهم.
ولا يعصينك في أمر
معروف : وهو كل ما وافق طاعة لله ، أي كل ما أقرّ به الشّرع ، أو نهى عنه ، كالنهي
عن النّوح وتمزيق الثياب ، وجزّ الشعر ، وشقّ الجيب ، وخمش الوجوه ، والدعاء
بالويل ، والخلوة بالأجنبي غير المحرم ، فبايعهن ، واطلب من الله المغفرة لهن ،
بعد هذه المبايعة منك ، إن الله واسع المغفرة لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم ،
فلا يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام.
وكانت بنود بيعة
النساء هذه ، قد بويع بها الرجال أيضا. روى البخاري عن عبادة ابن الصامت قال : كنا
عند النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ، ولا
تزنوا ، ولا تسرقوا»؟ قرأ آية النّساء ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب
من ذلك شيئا ، فعوقب ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فستره الله ، فهو
إلى الله ، إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له منها».
لقد أجمع الصحابة
على أن النّبي صلىاللهعليهوسلم لم تمسّ يده الشريفة يد امرأة أجنبية ، أخرج
البخاري عن عائشة
رضي الله عنها قالت ـ كما تقدم ـ : فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قد بايعتك» كلاما ، ولا والله ما مسّت يده يد امرأة في
المبايعة قط ، ما يبايعهن إلا بقوله : «قد بايعتك على ذلك».
وأخرج عبد الرزاق
وأحمد والنّسائي وغيرهم عن أميمة بنت رقيقة : «.. قلن : يا رسول الله ، ألا
تصافحنا؟ قال : «إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة».
وفي لفظ آخر : «إني لا أصافحكن ، ولكن آخذ عليكن ما أخذ الله».
ثم أكّد الله
تعالى النّهي عن موالاة الكفار الأعداء كما بدأ سورة الممتحنة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَوَلَّوْا قَوْماً ..) أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود
والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم ، ولعنهم ، واستحقّوا الطرد والإبعاد من
رحمته أنصارا وأصدقاء ، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزوجل ، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة ، بسبب كفرهم وعنادهم ، كيأس
ذلك الكافر من الرحمة في قبره ، وذلك لأنه قد رين (غطّي) على قلوبهم ، وحملهم
الحسد على ترك الإيمان ، وغلب على ظنونهم أنهم معذّبون ، وهذه كانت صفة كثير من
معاصري النّبي صلىاللهعليهوسلم. وقوله تعالى : (قَوْماً غَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) القوم : إما كفار قريش في رأي ابن عباس ، ويكون معنى قوله
تعالى : (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ) كما يئس بقية الكفار في قبورهم من لقاء بعضهم بعضا ، لأن
اعتقاد أهل مكة في الآخرة كاعتقاد الكافر في البعث ولقاء موتاه. وإما أن المراد
بهم هم اليهود في رأي ابن زيد والحسن البصري ومنذر بن سعيد ، ويكون معنى قوله
تعالى : (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ) : كما يئس الكفار من الرحمة إذا مات وكان صاحب قبر.
والآية نزلت ، كما
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمر ، وزيد بن الحارث يوادّان
رجلا من يهود ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) الآية.
تفسير سورة الصّف
وحدة الصّف وتطابق القول مع العمل
نظّم الإسلام
المجتمع تنظيما دقيقا على أسس متينة ، وأخلاق ومبادئ رصينة ، لتكون الأمة كتلة
واحدة متراصّة ، فأمر بوحدة الصّف في القتال ، ومواجهة الأعداء ، ودعا إلى العمل
المطابق للقول ، فلا يكون هناك ازدواج أو تنافر بين الكلمة وبين الفعل ، لأن ظهور
مثل هذه الظاهرة يهدم الثقة ، ويزعزع بنية الأمة ، ويشيع تصوّرا كئيبا على عدم
الصدق في الإيمان وصحّة الاعتقاد ، وضعف الفكر وانعدام التخطيط للمستقبل. وهذا ما
حذّر منه القرآن الكريم في الآيات الآتية في مطلع سورة الصّف ، التي هي مدنيّة على
الصحيح عند جمهور العلماء :
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ
مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ
اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي
إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ
__________________
قالُوا
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ (٩)) [الصّف : ٦١ / ١ ـ
٩].
أخرج التّرمذي
والحاكم وصححه والدارمي ، عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله
لعملناه ، فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) فقرأها علينا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى ختمها.
المعنى : نزّه الله
ومجّده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله : جميع ما في السّماوات وما في
الأرض ، من العقلاء وغيرهم ، وهو في سلطانه وقدرته القوي الغالب القاهر فوق عباده
الذي لا يغالب ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، وفي تدبيره خلقه وتصريف أمورهم وفي
أفعاله كلها.
يا أيها المصدّقون
بالله ورسوله ، لأي شيء تقولون قولا وتخالفون عملا؟ وهذا إنكار شديد على كل من وعد
وعدا أو قال قولا ، ثم لا يفي به.
ثم ذمّ الله تعالى
كل من يخالف فعله قوله : لقد عظم جرما أن تقولوا قولا ، وتفعلون غيره ، فإن خلف
الوعد دليل على حبّ الذات فقط ، وإهدار مصلحة الآخرين وكرامتهم ووقتهم. وكل من
يقول ما لا يفعل فهو ممقوت مذموم كذوب غير مخلص. والمقت : البغض من أجل ذنب أو
ريبة أو دناءة ، يصنعها الممقوت.
ثم مدح الله تعالى
الذين أقدموا على قتال عدوّهم صفّا واحدا ، حيث ذكر أن الله يرضى عن المقاتلين
المتّحدين صفا واحدا ، وكتلة متراصّة لا تتزحزح من المواقع ،
كأنهم بناء راسخ
شامخ. وهذا تأكيد لمحبة الله للمقاتلين صفّا. ومحبة الله : هي ما يظهر عليهم من
نصره وكرامته. والمحبة : صفة فعل ، وليست بمعنى الإرادة ، لأن الإرادة لا يصح أن
يقع ما يخالفها ، والمقاتلون على غير هذه الصفة كثيرون.
ثم ذكّر الله
تعالى بمقالة موسى وعيسى حين كذّبهما القوم ، ليكون ذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين
يقولون ما لا يفعلون ، لأن التكذيب تصادم مع الواقع.
واذكر أيها الرسول
لقومك خبر موسى عليهالسلام حين قال لقومه بني إسرائيل : يا قوم لم تلحقون الأذى بي
بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم ، أو لم تؤذونني بالشّتم
والتعييب ، وأنتم تعلمون يقينا صدقي فيما جئتكم به من الرسول ، فلما زاغوا ، أي
تركوا الحقّ ولم يتبعوا نبيّهم ، أمال الله قلوبهم عن الهدى ، والله لا يوفّق للحق
ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم ، وعصوا رسلهم. فاحذروا
أيها المؤمنون أن يصيّركم العصيان وقول الباطل إلى مثل حالهم.
واذكر أيضا أيها
النّبي لقومك خبر عيسى حين قال : يا بني إسرائيل ، إني رسول الله إليكم بالإنجيل ،
لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، وإنما أؤيدها وأكملها ، فكيف تعصونني؟ وإن التوراة
بشّرت بي ، وأنا مبشّر بمن بعدي : وهو الرسول العربي أحمد ، أي أحمد الناس لربّه ،
وهو محمد عليه الصّلاة والسّلام ، فلما جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة
بالمعجزات والأدلّة القاطعة ، قال الكفار : هذا سحر واضح لا شك فيه. أخرج البخاري
ومسلم عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي
الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي (أي بعدي) وأنا
العاقب». أي الآخر الآتي بعد الأنبياء.
ولا أحد أظلم ممن
يفتري الكذب على الله ، ويجعل له شركاء ، وهو يدعى إلى إسلام القلب لله ، وإلى
التوحيد والإخلاص ، والله لا يرشد للحق والصواب القوم الكافرين الظالمي أنفسهم
بالكفر.
إن الكفار يريدون
أو يحاولون إبطال دعوة الإسلام ، ومنع هدايته ، ومقاومة دعوته ، والله مظهر دين
الإسلام في الآفاق ، ولو كره الكافرون ذلك.
إن الله هو الذي
أرسل رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بالهدى التّام ، ودين الحقّ الناصع ، المتمثّل بالقرآن
والسّنة ، ليجعله متفوقا على جميع الأديان ، ولو كره المشركون ذلك ، فإنه كائن لا
محالة وهذا تأكيد لأمر الرسالة ومؤازرتها.
حكى الماوردي عن
عطاء عن ابن عباس : أن النّبي صلىاللهعليهوسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا
معشر اليهود ، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم
أمره ، فحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) واتّصل الوحي بعدها.
وإنما قال : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أولا ليتناسب مع كلمة (النّور) فالكفر أعم من الشرك ،
والنّور أعم من الدين والرسول صلىاللهعليهوسلم.
التجارة الناجحة
إن سبيل الفلاح
والنجاح هو في اتّباع شرع الله ودينه ، ولا نجد أحدا يعرض عن تعاليم الله تعالى
إلا كان خاسرا خائبا ، لأنه ورّط نفسه في المهالك والعقاب الأليم. وحينئذ تكون
التجارة الرابحة : هي في إعلان الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله بالمال
والنفس ، لتحقيق العزّة والانتصار ، والظفر بالسعادة ، وتكون مناصرة دين
الله والحق صمام
أمان من الضياع ، وتحقيق النجاة ، كما ناصر الحواريون نبيّهم عيسى ابن مريم رسول
الله عليهالسلام ، فيما تقرّره الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ
الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))
[الصّف : ٦١ / ١٠
ـ ١٤].
أخرج ابن جرير عن
أبي صالح قال : قالوا : لو كنا نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله وأفضل؟ فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ..) الآية ، فكرهوا الجهاد ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢)
يا أيها الذين
صدقوا بالله ورسوله ، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة؟! وهذا أسلوب فيه ترغيب
وتشويق ، والمراد بالتجارة هنا العمل الصالح ، ونوع التجارة : هي أن تواظبوا على
الإيمان بالله ورسوله ، وتخلصوا العمل لله ، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة الله ونشر
دينه بالأنفس والأموال ، والأموال مقدمة للإعداد الحربي ، لبدء الاستعداد بها.
وكلمة (خَيْرٌ) إما للتفضيل أي خير من كل عمل ، أو إخبار أن هذا خير في
ذاته ونفسه.
__________________
ذلكم المذكور من
الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من أموالكم وأنفسكم ، ومن أنواع التجارات في الدنيا
والعناية بها وحدها ، إن كنتم تعلمون الحقائق والغايات. وثمرة الإيمان والجهاد هي
: إن فعلتم ما أمرتكم به والتزمتم منهاجي ، غفرت لكم ذنوبكم ، وأدخلتكم جنات (بساتين)
تجري الأنهار من تحت قصورها ، وفيها مساكن طيبة للنفوس ، ودرجات عالية ، في جنات
إقامة دائمة ، لا تنتهي بموت ولا بخروج منها ، وذلكم المذكور من المغفرة ودخول
الجنات : هو الفوز الأعظم الذي لا فوز بعده. وهذا في الآخرة.
وفي الدنيا تتحقق
لكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم : هي نصر مبين من الله لكم ، وفتح عاجل للبلاد ،
كمكة وغيرها من بلاد فارس والروم ، أي إن قاتلتم في سبيل الله ، ونصرتم دينه ،
تكفّل الله بنصركم. وبشّر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا ، وبالجنة
في الآخرة.
ثم أمر الله أو
ندب إلى النصرة ، فيا أيها المؤمنون كونوا على ما أنتم عليه من نصرة دين الله
وتأييد شرعه ورسوله ، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال ، والأنفس والأموال ،
واستجيبوا لدين الله ورسوله ، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح عليهالسلام وخلصاؤه) لعيسى حين قال لهم : من الذي ينصرني ويعينني في
الدعوة إلى الله؟ فقال الحواريون : نحن أنصار دين الله ، ومؤيدوك فيما أرسلت به ،
فبعثهم الله مبشّرين ودعاة إلى دينه في أنحاء بلاد الشام.
فلما بلّغ عيسى عليهالسلام رسالة ربّه إلى قومه ، وآزره الحواريون ، اهتدت طائفة (جماعة)
من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق ، وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه : عبد الله ورسوله
، وضلّت طائفة أخرى ، وكفرت بعيسى ، وجحدوا نبوته ، واتّهموه وأمّه بالفاحشة ،
وهما منها بريئان براءة مطلقة.
فنصرنا المؤمنين
على من عاداهم من فرق النصارى ، وقوّينا أهل الحق منهم بالحجة والتأييد من عندنا
على المبطلين ، فأصبحوا غالبين عليهم.
وإيراد هذا المثل
واضح التأثير ، فإن القلة المتمسكة بالحق ، الناصرة لدين الله وشرعه ، تصبح عما
قريب هي صاحبة القوة والمجد ، وكما تحقق ذلك في التاريخ المسيحي قبل الإسلام ،
تحقق كما هو معروف في التاريخ الإسلامي بعد نزول القرآن ، ونبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وذلك في مختلف الأنحاء ، في داخل الجزيرة العربية حيث
تطهرت من الشرك والوثنية ، وفي خارجها حيث دحرت قوى مملكتين عظيمتين ، وهما فارس
والروم ، وحلّت محلهما القوة المسلمة الجديدة التي تنشد الخير والسعادة والنجاة
للعالم أجمع.
تفسير سورة الجمعة
فضل البعثة النبوية
كانت البعثة
النبوية وما تزال خيرا عميما على العرب والناس قاطبة ، لاشتمالها على مقومات
الحياة السعيدة الطيبة ، وكونها مصدر العلم والمعرفة والبيان ، وتتويجها بنزول
القرآن الكريم ، وتعريف النبي الناس بخصائص القرآن وأسراره ، وشرائعه ، وإيتاء
النبي صلىاللهعليهوسلم السّنة الشريفة التي هي الحكمة والميزان ، وسميت السّنة
حكمة ، وهي سداد القول وصواب العمل ، ووضع ذلك في موضعه الصحيح اللائق به ، لأن
أقواله صلىاللهعليهوسلم وأفعاله وإقراراته هي عين الحكمة : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ ..) [النّساء : ٤ /
١١٣] ، وسميت السّنة أيضا ميزانا في قوله تعالى :
(اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) (١٧) [الشورى : ٤٢
/ ١٧] لأن السّنة النبوية المشتملة على أقواله وأفعاله صلىاللهعليهوسلم وأحواله ميزان لكل ذلك.
وجاء أيضا في مطلع
سورة الجمعة التي هي مدنية بالإجماع ما ينص صراحة على أن السّنة هي الحكمة ، في
الآيات الآتية :
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
(١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
__________________
وَإِنْ
كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))
[الجمعة : ٦٢ / ١
ـ ٤].
ينزّه الله ويمجده
جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته ، ولأنه مالك
السماوات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته ، المنزه عن جميع النقائص والعيوب ،
القوي في سلطانه وقدرته ، الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب ، البالغ العزة
والحكمة ، المتقن في تدبيره وأفعاله كل شيء.
واللام في قوله (لِلَّهِ) يسبح لله : زائدة بقصد التوكيد والتمكين.
والله سبحانه هو
الذي أرسل في العرب الأميّين ، حيث كان أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب ، أرسل فيهم رسولا
من جنسهم ، فهو أمّي مثلهم ، يتلو عليهم آيات القرآن ، ويطهرهم من الشرك ، وينمي
الخير فيهم ، ويعلّمهم القرآن والسّنة ومعالم الشريعة ، وإن كانوا من قبل مجيئه
لفي خطأ واضح ، بعيد عن الحق. فالكتاب في الآية : الوحي المتلو وهو القرآن ،
والحكمة : السّنة ومعالم الشريعة ، أي أحكام الدين والقرآن. وهذه الآية تعديد نعم
الله تعالى على العرب فيما أولاهم.
ووصف العرب
بالأميّين لعدم تمكّن أكثرهم من القراءة والكتابة ، كما جاء في قوله صلىاللهعليهوسلم ـ الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي ـ : «إنا
أمّة أميّة لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا» أي تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون.
وهذا الوصف تأكيد
أيضا البيان النعمة على العرب بذكر حالهم التي كانت على الضد من الهداية ، الغارقة
في الضلالة. وكلمة (مِنْهُمْ) دالّة على أن النّبي محمدا صلىاللهعليهوسلم العربي الهاشمي هو من العرب الخلّص.
__________________
وامتدّت بركة
البعثة النّبوية إلى جميع طوائف الناس ، من الروم والفرس وغيرهم ، حيث أعدّ الله
لقبول دينه جماعة آخرين : وهم من دخل في الإسلام بعد الصحابة إلى يوم القيامة ،
وهم لم يلحقوا بالصحب الكرام في ذلك الوقت ، وسيلحقون بهم من بعد ، والله هو القوي
الغالب القاهر ، ذو العزة والسلطان ، القادر على التمكين لأمّة الإسلام في الأرض ،
وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره ، وأفعاله وأقواله ، وتدبير خلقه. وكلمة (مِنْهُمْ) في قوله : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) إنما يراد بها في البشرية والإيمان ، كأنه تعالى قال :
وآخرين من الناس ، سواء من العرب أو من غيرهم هم من الأمة الإسلامية.
وكلمة (آخَرِينَ) إما معطوفة بالنصب على ضمير (يُعَلِّمُهُمُ) أي يعلّم العرب وغيرهم ، أو معطوفة بالجر على قوله تعالى :
(فِي الْأُمِّيِّينَ) أي وبعث في الأمّيين رسولا منهم ، وفي آخرين.
وهذا دليل على
عموم بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم إلى جميع الناس ، فهي إلى العرب وغيرهم ، ويدلّ على ذلك
كتب النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ملوك وأمراء فارس والروم وغيرهم من الأمم ، يدعوهم
فيها إلى الله عزوجل وإلى اتباع ما جاء به. وقوله : (لَمَّا) نفي لما قرب من الحال ، والمعنى : أنهم مزمعون أن يلحقوا
بهم. وهي (لم) زيدت عليها (ما) للتأكيد.
هذه البعثة النبوية
خير كبير ورحمة وفضل على الأمة العربية والناس جميعا ، لقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ..) أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلىاللهعليهوسلم : فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده ، والله صاحب الفضل
العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه ، وهو ذو المنّ العظيم على جميع خلقه في
الدنيا ، بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا ، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على
الأعمال. فقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) تبيين لموقع النعمة وتخصيصه إياهم (أي العرب وغيرهم) بها.
وفي القرآن آيات
كثيرة أخرى تدل على عموم الرسالة الإسلامية لجميع أبناء البشرية رجالا ونساء ، بل
وللجنّ أيضا كما هو ثابت في سورة الجنّ وغيرها ، مثل قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ٧ /
١٥٨]. وقوله سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) [الفرقان : ٢٥
/ ١].
موقف اليهود من التوراة
زعم اليهود أن
النبي محمدا صلىاللهعليهوسلم بعث إلى العرب خاصة ، ولم يبعث لهم ، لمفهوم الآية السابقة
: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ..) فردّ الله عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة ، وأنهم لو
عملوا بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بالرسول محمد ، لانتفعوا بها وآمنوا به ،
ولم يقولوا هذا القول. وكذلك ردّ الله عليهم حين قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ٥ / ١٨]
بأنه لو كان قولهم حقا وموثوقا به ، لتمنّوا على الله أن يميتهم ، لينقلهم إلى دار
كرامته التي أعدّها لأوليائه ، وهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا ، بسبب ما
قدموا من الكفر وتحريف الآيات. وهذا ما صرّحت به الآيات التالية متضمنة هذين
الرّدّين :
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ
أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ
__________________
مِنْهُ
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))
[الجمعة : ٦٢ / ٥
ـ ٨].
إن مثل اليهود
الذين كلفوا العمل بالتوراة والقيام بأوامرها ونواهيها ، ثم هجروها وتركوها ، كمثل
الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره ، وهو لا يقدّر قيمتها وأهميتها ، ولا
الفرق بينها وبين الأحمال الأخرى ، لأنه عديم الفهم. وهذا كما حمل الإنسان
الأمانة. فهم لم يلتزموا حدود التوراة ، حين كذبوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والتوراة تنطق بنبوته ، فكأن كل خير لم ينتفع به من
حمّله ، كمثل حمار عليه أسفار ، لا يميز بينها. والأسفار جمع سفر : وهو الكتاب
المجتمع الأوراق منضّدة.
ما أقبح ما يمثّل
به للمكذبين الذين كذبوا بآيات الله ، وما أشنع هذا التشبيه ، وهو تشبيه اليهود
بالحمار ، فإياكم أن تكونوا أيها المسلمون مثلهم. والله لا يوفق للحق والخير القوم
الكافرين ، بنحو عام ، ومنهم اليهود بالأولى. فقوله : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) معناه وتقديره : بئس المثل مثل القوم.
ثم ذمّ اليهود
ذمّا آخر ، وردّ على مزاعمهم ردا آخر ، قل أيها الرسول : يا أيها اليهود إن كنتم
تزعمون أنكم أولياء الله ، أي أحباؤه من دون الناس ، وأنكم على هدى ، وأن المسلمين
على ضلالة ، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة أو التكريم في زعمكم ، وادعوا
بالموت على الضّال من الفئتين ، إن كنتم صادقين في هذا الزعم.
روي أنها نزلت بسبب
أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلىاللهعليهوسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره ، فذكروا نبوّته ، وقالوا لهم :
إن رأيتم اتّباعه أطعناكم ، وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم ، فجاءهم جواب أهل خيبر
يقولون : نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن ، وأبناء عزير ابن الله ، ومنا الأنبياء ،
ومتى كانت النّبوة في العرب؟ نحن أحقّ بالنّبوة
__________________
من محمد ، ولا
سبيل إلى اتّباعه ، فنزلت الآية ، بمعنى : إنكم إذا كنتم من الله بهذه المنزلة ،
فقربه وفراق هذه الحياة الخسيسة أحبّ إليكم ، فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين ،
تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة.
قال ابن عطية : ثم
أخبر الله تعالى أنهم لا يتمنون الموت ولا يريدونه إلا كرها ، لعلمهم بسوء حالهم
عند الله تعالى وبعدهم عنه. وروى كثير من المفسّرين أن الله تعالى جعل هذه الآية
معجزة لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وآية باهرة ، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام
معدودة مات وفارق الدنيا. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : تمنّوا الموت على جهة التعجيز وإظهار الآية ، فما تمنّاه
أحد ، خوفا من الموت ، وثقة بصدق محمد صلىاللهعليهوسلم.
ثم توعّدهم الله
تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه ، ثم بما بعده من الرد إلى الله تعالى ، عالم
الحس والمشاهدة ، وعالم المغيبات المجهولة للبشر ، فيخبركم بأعمالكم ، ويجازيكم
عليها بما أنتم له أهل. إن هذه الرّدود القاطعة ، والتحدّيات القرآنية السافرة
لليهود تدلّ دلالة قاطعة على أنهم قوم لا يريدون الحق ، ويزعمون أنهم شعب الله
المختار ، وهذا كذب وافتراء ، فهم أبعد الناس عن القربى من الله ، وعن رضا الله
عنهم. إنهم قتلة الأنبياء ، وطعنة أعراض وكرامات الأنبياء ، وهم أبعد الناس عن
التوراة وعن أحكام الله وشرائعه ، إنهم أعداء الله والإنسانية على حد سواء ،
وبخاصة هم أعداء العرب والمسلمين جميعا.
صلاة الجمعة والعمل بعدها
الإسلام دين جمع
بين الدنيا والآخرة ، والمادة والروح ، والعبادة والمعاملة ، فهو دين الوسطية
والاعتدال ، وإعطاء كل ذي حق حقّه ، فالعبادة فريضة والجمعة فريضة ، يجب احترامها
والقيام بها على وجه أتم ، من السعي إليها إن كانت جمعة ،
والاستماع إلى
خطبتها ، فلا يجوز الاشتغال عنها بأي عمل آخر من بيع وشراء أو تجارة ، أو لهو ،
أداء مهمة. لكن بمجرد الانتهاء منها ، طلب الإسلام التفرغ للأعمال الأخرى ،
والسّعي في توفير المكاسب والمعايش مع ملازمة ذكر الله وخشيته سرّا وعلانية ، وهذا
ما أمرت به الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ
وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))
[الجمعة : ٦٢ / ٩
ـ ١١].
يا معشر أهل
التصديق والإيمان بالله ورسوله وبالإسلام الحق ، إذا أذّن لصلاة الجمعة في يومها
المعروف ، بالأذان الثاني بعد جلوس الخطيب على المنبر ، فيحرم التشاغل بأعمال
الدنيا ، وعليكم المبادرة إلى أداء الفريضة ، من الاستماع إلى ذكر الله ، وهو
الخطبة ، وأداء صلاة الجمعة في المسجد الجامع ، وترك البيع وسائر أوجه المعاملات
من إجارة وشركة ونحوهما ، وذلكم السّعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع
وترك السّعي ، لما في الامتثال من الثواب والجزاء الحسن ، إن كنتم من أهل الدّراية
والعلم الصحيح بما ينفع. وخصّ البيع بالذكر ، لأنه من أهم ما يشغل الإنسان نهارا ،
وفيه إشارة إلى ترك جميع التّجارات والمهن والحرف في وقت الخطبة والصلاة. أما
الأذان الأول فهو تنبيه للإعداد للصلاة والمضي إليها خشية أن يفوت تحقيق المقصد
الشرعي من تشريع صلاة الجمعة والاستماع لخطبتها.
__________________
والسّعي في الآية
: ليس الإسراع في المشي ، كالسّعي بين الصّفا والمروة ، وإنما المراد إتيان الصلاة
بالسكينة والوقار ، والسّعي : هو بالنّية والإرادة والعمل. والذّكر : هو وعظ
الخطبة.
ويسنّ لصلاة
الجمعة ثلاثة أذانات : ما قبل دخول الوقت بحوالي نصف ساعة أو أقل ، والأذان بعد
دخول الوقت ، وهو الذي زاده عثمان رضي الله عنه لما اتسعت المدينة ، على الزوراء (أعلى
دار كانت بالمدينة قرب المسجد) ويوصف بأنه الأذان الثاني أو الثالث ، والأذان بين
يدي الخطيب ، وهو الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد شاهدت في بلاد المغرب في الرباط وغيرها في وقت واحد
أذانات ثلاثة متوالية ، قبل شروع الخطيب بالخطبة ، وذلك إحياء للسّنة كما يبدو ،
ولكن الغريب كونها متعاقبة في زمن واحد ، حيث لا يصلّون السّنة القبلية.
ويكره البيع
تحريما بعد الأذان عند الحنفية ، ويحرم عند الآخرين ، لكنه ينفذ ويمضى ولا يفسخ
عند الشافعية ، ويفسخ في المشهور عند المالكية ما لم يتم القبض ، ولا يصح عند
الحنابلة ، لأن الجمعة واجبة على الرجال المقيمين الأحرار الذين لا عذر لهم ، وترك
الجمعة إخلال بالفرض للأمر بها ، ولقوله صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه أحمد والحاكم عن أبي قلابة ، وأحمد والنّسائي
وابن ماجه والحاكم عن جابر : «من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات ، من غير ضرورة ،
طبع الله على قلبه» إسناده صحيح ورجاله ثقات ، كما قال الهيثمي.
والعمل مباح بعد
الفراغ من الصلاة وإتمامها ، لقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ..) أي إذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها ، فيباح لكم التوزّع في
نواحي الأرض للتجارة وبقية الأعمال ، ولكن لا تنسوا في أثناء العمل تذكر الله
كثيرا ومتابعة الأذكار ، كالتسبيح والتحميد والتكبير والاستغفار ونحو ذلك. وقوله
تعالى : (فَانْتَشِرُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللهِ) أمر ومقتضى الأمر هنا الإباحة في طلب المعاش ، مثل قوله
تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) [المائدة : ٥ / ٢].
ثم عاتب الله
المؤمنين حين تركوا النّبي صلىاللهعليهوسلم وهو يخطب ، وخرجوا من المسجد ، للاشتغال بالتجارة
والاستماع إلى طبولها المعبّرة عن الفرحة بقدوم التجارة من بلاد الشام أو غيرها ،
وذلك في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً ..) أي إذا رأى المصلّون في الجامع الذين يستمعون إلى الخطبة
قافلة التجارة القادمة من الشام ، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وضجيج المزامير ،
احتفالا بزواج وغيره ، خرجوا من المسجد ، وانصرفوا إلى الملاهي ومتع الدنيا ،
وتركوك أيها النّبي قائما على المنبر تخطب فيهم ، لوعظهم وإرشادهم ، فقل لهم أيها
الرسول : ما عند الله من الثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة
التي هي هنا سبب الخروج ، والله مصدر الرزق وخير الرازقين ، فمنه اطلبوا الرزق ،
وإليه توسّلوا بعمل الطاعة ، فذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه ، والله
يرزق بسخاء من توكّل عليه ، وطلب الرزق في وقته ، وهو سبحانه كفيل برزق العباد ،
ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وقوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
نزلت هذه الآية
بسبب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان قائما على المنبر ، يخطب يوم الجمعة ، فأقبلت عير (إبل
محملة بالتجارة) من الشام ، تحمل ميرة (طعاما للسفر ونحوه) وصاحبها دحية بن خليفة
الكلبي. قال مجاهد : وكان من عرفهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والمعازف والصياح
من ورائها ، فدخلت العير بمثل ذلك ، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه ،
وتركوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قائما على المنبر ، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا ، قال
جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أنا أحدهم.
أخرج عبد بن حميد
عن الحسن البصري أن النّبي صلىاللهعليهوسلم قال في شأن الباقين معه دون خروج من المسجد : «والذي نفس
محمد بيده ، لو تتابعتم ، حتى لا يبقى منكم أحد ، لسال عليكم الوادي نارا».
وتدلّ هذه الآية
على قيام الخطيب. وأول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله عنه ، وأول من خطب
جالسا معاوية رضي الله عنه.
تفسير سورة المنافقون
صفات المنافقين
خصّص الله تعالى ـ
بعد تعداد خصال المنافقين في مناسبات قرآنية عديدة ـ سورة لبيان أوصاف المنافقين
هي سورة (المنافقون) المدنية بالإجماع ، التي نزلت في غزوة بني المصطلق ، بسبب أن
عبد الله بن أبيّ بن سلول كان منه في تلك الغزوة أقوال غريبة ، وكان له أتباع
يقولون قوله ، ويتصفون بصفاته ، فهم كذبة في حلفهم وشهادتهم في الظاهر ، ونحو ذلك
مما تقدم قبل الغزوة كالتحريض على ترك الإنفاق أو التصدق على بعض الأصحاب ، وهم
قوم مغرورون سواء في الغزوة أو بعدها ، بدليل ما أظهروه من كراهية وعداء مثل تحدّي
المؤمنين بأنهم أذلّة وهم أعزّة ، والتهديد والتصميم على إخراج المسلمين من
المدينة بعد عودتهم من تلك الغزوة ، كما تصوّر هذه السورة ومطلعها :
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
__________________
عَلَيْهِمْ
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا
قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ
إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))
[المنافقون : ٦٣ /
١ ـ ٦].
فضح الله تعالى
بهذه الآيات سرائر المنافقين ، فإنهم إذا جاؤوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كابن أبي وأتباعه كذبوا وقالوا : نحلف بأنك رسول الله إلى
الناس كافة ، وهم في إخبارهم هذا كاذبون ، لإخبارهم بضد ما في قلوبهم ، والله يعلم
بصدق محمد صلىاللهعليهوسلم في رسالته ، وهو ما تضمنه كلامهم ، والله يقسم بأن
المنافقين لكاذبون في أيمانهم. وقوله : (يَشْهَدُ) ونحوها من أفعال اليقين والعلم بمنزلة القسم.
إنهم جعلوا
أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحماية أنفسهم من القتل والأسر ، وأموالهم من الأخذ ،
كما يفعل بالأعداء المقاتلين ، فاغتر بهم من يجهلهم ، وظنوا أنهم مسلمون ، وشككوا
غيرهم بحقائق الإيمان والجهاد ، ومنعوهم من الإسلام والطاعة ، إنهم ساء ما عملوا
ويعملون. فهم في هذا أجرموا بجرمين كبيرين : الحلف بالإيمان الكاذبة ، والصّد عن
الدخول في الإسلام ، ومنع الاسهام في الجهاد في سبيل الله ، فكانوا أقبح الناس.
والمراد : صدّوا غيرهم ممن كانوا يريدون الإيمان بسبب تشكيكهم ودسائسهم المنكرة.
وأسباب هذا الموقف
وافتضاح الله لهم وتوبيخهم : أنهم آمنوا نفاقا ، ثم كفروا حقيقة ، فختم الله على
قلوبهم بسبب كفرهم ، فلا يدخلها إيمان ، ولا تهتدي إلى حق ،
__________________
ولا ينفذ إليها
خير ، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم ، ولا يدركون أدلة صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم في رسالته.
ثم وبّخهم الله
لأنهم كانوا رجالا فصحاء ووجهاء ، فكان منظرهم يخدع ، فإذا نظرت إليهم أعجبتك
هيئاتهم ، وإن تكلموا سمع كلامهم ، وظنّ السامع أنه حق وصدق ، لفصاحتهم ، وذلاقة
ألسنتهم ، كأنهم في الواقع أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان ، ومجرد كتل بشرية
لا تفهم ولا تعلم.
وهم مع جمال
هيئاتهم ، ومناظرهم في غاية الجبن والضعف ، يظنون كل صوت عال أنه واقع بهم ،
لفراغهم النفسي وترددهم وقلقهم وخوفهم المسيطر عليهم ، وانهزامهم الداخلي ، فهم
الأعداء الألدّاء ، فاحذر مؤامراتهم ، ولا تطلعهم أيها النّبي على شيء من الأسرار
، لأنهم جواسيس للمشركين والكفار ، لعنهم الله وطردهم من رحمته ، وأهلكهم ، كيف
يصرفون عن الحق إلى الباطل والضلال. وكلمة (قاتلهم) : كلمة ذم وتوبيخ للتعجب ، أو
إن القتل مستعمل في اللعن والطرد ، على سبيل الاستعارة التبعية لعلاقة المشابهة ،
في أن كلّا منهما نهاية الشدائد والعذاب.
وإذا طلب منهم
بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي أن يأتوا لرسول الله ليطلب لهم المغفرة من الله ،
أعرضوا واستكبروا واستهزءوا ، ورأيتهم يعرضون إعراضا شديدا ، مع إمالة رؤوسهم ،
ويمنعون عن سبيل الله غيرهم ، فلا يتركونهم يؤمنون ، وذلك في حال من الاستكبار
والأنفة.
أخرج ابن جرير عن
قتادة قال : قيل لعبد الله بن أبي : لو أتيت النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فاستغفر لك ، فجعل يلوي رأسه ، فنزلت فيه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا
يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ..) الآية. وهذا دليل على إعراضهم عن الاعتذار.
والاستغفار في
الواقع لا ينفعهم ، فسواء استغفرت لهم أيها الرسول أم لم تستغفر
لهم ، لن يغفر
الله لهم لإصرارهم على الكفر والنفاق ، ولا يجديهم الاستغفار شيئا ، ما داموا على
النفاق ، إن الله لا يوفق الخارجين عن الطاعة ، المنهمكين في المعاصي ، المظهرين
خلاف ما يبطنون ، والله لا يغفر لهم دون حدّ في الاستغفار ، وذلك ناسخ في رأي
بعضهم لآية الاستغفار سبعين مرة بدليل حديث : «لو علمت أني لو زدت غفر لهم» .
أخرج ابن جرير عن
عروة قال : لما نزلت (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التّوبة : ٩ / ٨٠].
قال النّبي صلىاللهعليهوسلم : «لأزيدن على السبعين» فأنزل الله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ) (لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية. وقد حاول عبد الله بن أبي أثناء خروجه لغزوة بني
المصطلق إيقاع الفتنة بين المهاجرين لسبقهم إلى ماء بلغوا إليه ، وبين الأنصار ، فخرج
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «ما بال دعوى الجاهلية؟» فلما أخبر بالقصة قال : «دعوها
فإنها منتنة».
من أسباب النّفاق
النّفاق مرض عضال
خطير بالنسبة للأمة ، لأنه يزعزع أوضاع الجبهة الداخلية أو ما يسمى حديثا بالوحدة
الوطنية ، أما بالنسبة للمنافقين فهو داء نابع من الجبن والسخف ، وضعف الإدراك
والملكات العقلية ، لأن النفاق لا بد من أن يظهر أثره ، ويفتضح شأن صاحبه. ولكن
منافقي المدينة في الماضي انضمّ إلى نفاقهم استكبار أو استعلاء ، وظنوا أن لهم قوة
يتمكنون من تهديد بقية الأمّة ، فأعرضوا عن الاعتذار ولم يوافقوا على طلب
الاستغفار ، وحجبوا المعاونة عن المهاجرين حتى يموتوا جوعا ،
__________________
وصمموا بعد وقعة
بني المصطلق (قبيلة من اليهود) على طرد المؤمنين من المدينة ، وأحجموا عن الإنفاق
في سبيل المصلحة العامة أو الخير ، كما يتبين من منطوق الآيات الآتية :
(هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا
يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ
ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))
[المنافقون : ٦٣ /
٧ ـ ١١].
أخرج البخاري
وأحمد والترمذي وغيرهم عن زيد بن أرقم قال : سمعت عبد الله ابن أبي يقول لأصحابه :
«لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا ، فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعزّ منها الأذلّ» ، فذكرت ذلك لعمّي ، فذكر ذلك عمي للنّبي صلىاللهعليهوسلم ، فدعاني النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فحدّثته ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فكذّبني
، وصدّقه ، فأصابني شيء لم يصبني مثله ، فجلست في البيت ، فقال عمي : ما أردت إلى
أن كذبك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومقتك ، فأنزل الله : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ) فبعث إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقرأها ، ثم قال : «إن الله قد صدّقك».
هؤلاء المنافقون
يقولون للأنصار : لا تطعموا أصحاب محمد المهاجرين ، حتى يجوعوا ويتفرّقوا عنه.
فردّ الله عليهم بأن الله هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين ، وبيده
__________________
مفاتيح أرزاق
العباد ، يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن الأرزاق
بيد الله ، فظنّوا أن الله لا يوسّع أو يعوّض على المؤمنين ما فقدوه أو تركوه من
أموالهم في مكة.
والأظهر أن
الخزائن أشياء مخلوقة موجودة ، يصرّفها الله تعالى حيث يشاء.
هؤلاء المنافقون :
هم الذين يقولون ـ والقائل زعيمهم عبد الله بن أبي ـ : لئن عدنا من هذه الغزوة ـ غزوة
بني المصطلق ـ إلى المدينة ، ليخرجن الأعزّ (أي نفسه) منها الأذلّ (أي الرسول
والمؤمنين) ، ولم يلبث بعد أن رجع زعيم النفاق ابن أبيّ إلى المدينة أياما يسيرة ،
حتى مات ، وردّ الله على المنافقين : بأن لله وحده القوة والغلبة ، ولمن منحها من
رسله وصالح المؤمنين ، لا لغيرهم ، ولكن المنافقين لا يعلمون أو لا يدرون ذلك. وفي
ذلك وعيد لهم.
ثم حذّر الله
المؤمنين من التشبه بالمنافقين ، فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) أي يا أيها المصدّقون بالله ورسوله ، لا تشغلكم الأموال
وتدبيرها ، عن القيام بذكر الله تعالى من التوحيد والصلاة والدعاء وغير ذلك من
تسبيح وتحميد وتهليل ، وأداء الفرائض الأخرى غير الصلاة. ومن يتلهى بالدنيا
ومتاعها وزخارفها ، وينصرف عن الدين وطاعة ربّه ، فإنه من الخاسرين ، الكاملي
الخسران ، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، لأنه باع خالدا بفان زائل ،
وهذا تحذير وتوعّد وتخويف. والأظهر أن (ذكر الله) ، هنا عام في التوحيد والصلاة
والدعاء وغير ذلك من فرض ومندوب.
ثم حثّ الله
المؤمنين على الإنفاق في طاعته ونشر دينه وجهاد عدوه ، فقال :
__________________
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ ..) أي وبادروا إلى الإنفاق من بعض ما رزقناكم ، في سبيل الخير
العام ، شكرا على النعمة ، ورحمة بالفقراء ، ورعاية للمصلحة العامة العليا ، من
قبل مجيء أسباب الموت ومشاهدة علاماته ، فيقول الواحد منكم : هلا أمهلتني يا ربّ ،
وأخّرت موتي إلى مدة أخرى قصيرة ، فأتصدّق بمالي ، وأكن من الصالحين المستقيمين.
وهذا دليل على أن كل مفرّط أو مقصّر في عمل الخير يندم عند الاحتضار. وقوله تعالى
: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ ..) الأظهر أنه عام في كل مفروض ومندوب. وكذا قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) ظاهره العموم. وقوله تعالى : (يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ) أي علاماته وأوائل أمره. وقوله (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) مطالبة بالعودة إلى الدنيا والإمهال.
ولن يؤخر الله
تعالى أي نفس عن الموت أو قبض الروح إذا حضر أجلها ، وانقضى عمرها ، والله لا يخفى
عليه شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم عليها ، بالخير خيرا ، وبالشّرّ شرّا. وهذا حضّ
على المبادرة لعمل الخير ، ومسابقة الأجل بالعمل الصالح.
إن النّدم من أي
إنسان على التفريط وطلب العودة إلى الدنيا لتدارك التقصير عما فاته ، لا يفيد
الإنسان شيئا ، فلات ساعة مندم ، فقد تم القضاء ، ونفذ الأمر ، ولا أمل في النجاة
إلا بالعمل الصالح.
تفسير سورة التّغابن
إثبات القدرة الإلهية والرّد على منكري البعث
قدرة الله تعالى
الخارقة واضحة ثابتة بأدنى تأمّل ، في هذا الكون الذي أوجده الله من العدم ، حيث
لا يوجد شيء عقلا ولا طبعا بدون موجد ، وأوجد الإنسان وصوّره في أحسن تصوير ،
وأحاط علم الله بكل شيء في السموات والأرض. فلا يؤبه بإنكار المشركين وحدانية الله
، والنّبوات ، وبعث الناس من القبور ، ومع ذلك أقسم الله تعالى على وجود البعث ،
وإخبار الناس جميعا بما عملوا في الدنيا ، وذلك أمر يسير على الله ، كما في الآيات
الآتية في مطلع سورة التّغابن المدنيّة عند الأكثرين ، وقيل : إنها مكّية :
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ
وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥)
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
(٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(٧))
[التّغابن : ٦٤ /
١ ـ ٧].
__________________
ينزه الله تعالى
عن كل نقص وعيب ، ويمجّده جميع المخلوقات في السماوات والأرض ، لأنه المالك المطلق
وحده ، والمحمود المشكور وحده ، المستحق للحمد والشكر ، من جميع مخلوقاته ، على
جميع ما يخلقه ويقدّره ، وهو القادر على كل شيء ، أي موجود ، وفيه عموم التنبيه ،
لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومن آثار قدرته :
أنه تعالى هو الذي أوجدكم على هذه الصفة ، وصار أمر كل واحد ما اختاره ، فمنكم
الكافر باختياره وكسبه على نقيض فطرته ، ومنكم المؤمن باختياره على حسب فطرته
السوية القائمة على التوحيد ، والله العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل
واحد منكم ، الشهيد على أعمال عباده.
ـ ومن مظاهر قدرته
: أنه أوجد السماوات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة لنفع العالم في الدين
والدنيا ، فلم يكن خلقها عبثا ولا لغير معنى. وأبدع خلقكم أو تصويركم ، أي التشكيل
والتخطيط في أحسن وجه وأجمل عضو ، وإليه في الآخرة مرجعكم ومآلكم ، فيجازي كل
إنسان بما كسب.
ـ ومن آثار قدرته
: أنه تعالى يعلم جميع ما في السماوات والأرض ، فلا تخفى عليه خافية من ذلك ،
ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه ، والله محيط علمه بما يضمره كل إنسان في نفسه من
الأسرار والعقائد. وقوله : (وَيَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) عطف خاص على عام ، فإنه تعالى علم أعظم المخلوقات ، ثم
تدرج القول إلى أخفى من ذلك ، وهو جميع ما يقوله الناس في السّرّ والعلن ، ثم تدرج
إلى شيء خفي : وهو ما يهجس بالخواطر. و (بِذاتِ الصُّدُورِ) : ما فيه من خطرات واعتقادات ، والصّدر هنا : هو القلب.
ألم يبلغكم معشر
مشركي مكة خبر الكفار من الأمم الماضية ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وما حلّ بهم من
العذاب والنّكال ، بسبب مخالفة الرّسل والتكذيب بالحق ، فقد دعتهم الرّسل إلى
توحيد الله وعبادته ، وترك عبادة الأوثان ، فعاندوا وأعرضوا ،
فأصابهم عاقبة
كفرهم وتكذيبهم ، ورديء أفعالهم ، بعقاب الدنيا ، والعذاب المؤلم في الآخرة ، وهو
عذاب النار.
وذلك العذاب في
الدارين بسبب أنه كانت تجيئهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة والأدلة الواضحة ، فقالوا :
كيف يتصور أن يهدينا البشر؟ فكفروا بالرسل وبرسالاتهم ، وأعرضوا عنهم وعن الحق
والعمل به ، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به ، واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم
الباطلين ، حين أهلكهم ، وعما ظهر من هلاكهم ، وأنهم لن يضرّوا الله شيئا ، فبان
أنه كان غنيّا أولا ، والله غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له ، محمود من
كل مخلوقاته ، بلسان المقال أو الحال.
وكلمة (أَبَشَرٌ) اسم جنس ، فوصف بالجمع ، على أنه مبتدأ ، ويهدوننا خبر. ثم
أخبر الله عن عقيدة الكفار بإنكار البعث ، فقد زعم الذين كفروا ، يعني قريشا ، ثم يعمّ كل كافر بالبعث ، أنه
لا بعث ولا حساب ولا جزاء ، فردّ الله عليهم وأخبرهم بأنكم والله ستبعثون وتخرجون
من قبوركم أحياء ، ثم تخبرون بجميع أعمالكم جليلها وصغيرها ، إقامة للحجة عليكم ،
ثم تجزون به ، وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على الله تعالى. وفيه تأكيد البعث على
جهة الإخبار والتوبيخ.
وليس في القرآن
قسم يقسم به الله بنفسه إلا في ثلاثة مواضع : هذا الموضع : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) وقوله في آية أخرى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ
هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥٣) [يونس : ١٠ /
٥٣] ، وقوله في موضع ثالث : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣٤ / ٣].
والمواضع الثلاثة لإثبات البعث بالقسم الإلهي العظيم.
__________________
فليس لمؤمن أو
عاقل أن ينكر الآخرة وما فيها من حساب ، وعقاب وثواب ، لإقامة صرح العدالة بين
الناس.
الدّعوة إلى الإيمان بالله ورسوله
والتحذير من مفاجات القيامة
بعد أن أقسم الله
تعالى على إثبات وجود البعث ، أمر بالإيمان الخالص بالله تعالى وبرسوله ، وبالقرآن
نور الله الهادي إلى صراط مستقيم ، ثم هدّد وحذّر من الحساب العسير يوم القيامة
وهو يوم الجمع ، حيث يغبن كل إنسان عمله ، لتركه الاستعداد ليوم الآخرة ، وليس
هناك أحد أخلص من الله وأحبّ لعباده ، حيث أمر بما فيه المصلحة لهم ، وحذّرهم من
المخاطر ، ونبّههم إلى التسابق في عمل الخير ، ووصف لهم أنواع النعيم ، وألوان
العذاب في الجحيم ، ورغّبهم بالإيمان والطاعة والتوكّل على الله سبحانه ، كما في
هذه الآيات :
(فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))
[التّغابن : ٦٤ /
٨ ـ ١٣].
__________________
هذا بعد إثبات
البعث اليسير على الله : دعوة إلى الله تعالى وتبليغ وتحذير ، فصدّقوا بالله
ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، وبالقرآن الكتاب المنير الهادي إلى السعادة ، والمنقذ من
الضلالة ، والله مطّلع على كل شيء ، عالم بكل ما تعملون أو تقولون ، ومجازيكم على
ذلك خيرا أو شرّا بحسب عمل كل واحد.
الله خبير ينبئكم
بما عملتم يوم يجمعكم أو يحشركم في صعيد واحد للجزاء ، يوم القيامة ، ذلك اليوم
الذي يظهر فيه الغبن أو النقص ، غبن الكافر بتركه الإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره
في الإحسان ، فتظهر فيه الخسارة الفادحة للفريقين. فإذا وقع الجزاء عيّر المؤمنون
الكافرين ، لأنهم يجزون الجنة ، ويحصل الكفار في النار.
ومن يصدق بالله
تصديقا صحيحا ، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض والطاعات ، واجتناب المنهيات
المنكرات ، يمح الله سيئاته وذنوبه ، ويدخله الجنات التي تجري من تحت قصورها
وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، وذلك الشرف والإنعام والتكريم : هو
الظفر أو الفوز الذي لا يعادله شيء قبله ولا بعده.
وإنما قال : (خالِدِينَ) بلفظ الجمع ، بعد قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ) بلفظ الواحد ، لأن ذلك بحسب اللفظ ، وهذا بحسب المعنى.
وأما الذين كفروا
بالله وكذبوا بآياته القرآنية الدّالة على البعث والقدرة الإلهية ، وأنكروا رسالة
النّبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، فأولئك هم أصحاب النار ، خالدين (ماكثين فيها على الدوام)
وبئس المرجع مرجعهم ، وساءت النار مثواهم.
وهذه موازنة بين
الفريقين ، تدلّ على حال السعداء ، وحال الأشقياء ، لبيان حال التغابن في الآخرة ،
لا في الدنيا.
ثم أوضح الله
تعالى أن كل ما يصيب الإنسان فهو بقضاء الله وقدرته ، على وفق السّنة الكونية ،
القائمة على العلم الإلهي ، والإرادة المدبّرة ، أي إن كل ما يصيب
الإنسان من مصائب
ورزايا ، ومن خير أو شرّ فهو بإذن الله تعالى ، أي بعلمه وإرادته وتمكينه الوقوع ،
بحسب الحكمة الإلهية ، وما على الإنسان إلا العمل بأمر الله ، واجتناب ما نهى عنه
، لأن الأمر الإلهي غير الإرادة.
ومن يصدق بالله ،
ويعلم أن ما أصابه من مصيبة أو شرّ أو خير ، يهد الله قلبه للرّضا والصبر والثبات
على الإيمان ، والله واسع العلم ، لا تخفى عليه من ذلك خافية. وبعبارة أخرى : من
آمن بالله تعالى ، وعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره وعلمه ، هانت عليه مصيبته ،
وسلّم الأمر لله تعالى.
ثم أمر الله تعالى
بالطاعة ، أي أيها الناس اشتغلوا بطاعة الله فيما شرع ، وبطاعة رسوله فيما بلّغ ،
وافعلوا ما به أمر ، واتركوا كل ما نهى عنه وزجر ، فإن أعرضتم عن الطاعة ، وتنكبتم
طريق العمل ، فإثمكم على أنفسكم ، وليس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا التبليغ الواضح. قال الزّهري : من الله الرسالة ، وعلى
الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم. والآية وعيد وتبرئة لمحمد صلىاللهعليهوسلم إذا بلّغ.
والله هو الإله
الواحد الذي لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، وهو المستحقّ للعبودية والعبادة دون
غيره ، فوحدوا الله وأخلصوا العمل له ، ولا تشركوا به شيئا ، وتوكّلوا عليه ، أي
فوّضوا أموركم إليه ، واعتمدوا عليه ، لا على غيره. وهذا تحريض للمؤمنين على
مكافحة الكفار ومجاهدتهم والصبر على دين الله تعالى ، وإرشاد إلى وجوب الاعتماد في
كل شيء على الله ، وطلب العون الدائم منه ، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
إن هذه الإرشادات
الإلهية ترشد إلى الصواب في الأمور ، وتدلّ على فلسفة الأحداث ، وتعلّقها بالإرادة
الإلهية ، وبالعلم الرّباني ، وبالحكمة السّرمدية ، فكل ذلك مرتبط بعلم الله تعالى
الشامل لكل شيء ، ويجب على العبد المؤمن الرّضا
والتسليم ، وحسن
الظن والثقة بالله ، ووجوب الاعتماد على الله بعد اتّخاذ الأسباب ، والقيام
بالأعمال المطلوبة شرعا.
فتنة الأزواج والأولاد والأموال
حذّر الله تعالى
من فتنة الأزواج والأموال والأولاد الذين يكونون سببا في التقصير بالطاعة ،
والتورّط أحيانا في المعصية ، وناسب ذلك أن يأمر الله بالتقوى والإنفاق في سبيل
الله ، لأن ذلك هو رأس مال الإنسان ، وسبيل إسعاده في الدنيا والآخرة ، فلكل مرض
علاج ، وعلاج الانحراف المبادرة إلى الاستقامة ، والتزام جادة الامتثال والطاعة ،
كما توضح هذه الآيات الآتية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))
[التّغابن : ٦٤ /
١٤ ـ ١٨].
أخرج الترمذي
والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْواجِكُمْ) في قوم من أهل مكة ، أسلموا ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن
يدعوهم (أن يهاجروا) ، فأتوا المدينة ، فلما قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رأوا الناس قد فقهوا ، فهمّوا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله
: (وَإِنْ تَعْفُوا
__________________
وَتَصْفَحُوا)الآية ، أي إن سبب الآية أن قوما آمنوا بالله تعالى ،
وثبّطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة ، فلم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد
تفقّه في الدين ، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم
يا أيها الذين
صدقوا بالله ورسوله ، إن بعض أزواجكم وأولادكم عدو لكم عداوة أخروية ، في غير
صالحكم ، يشغلونكم عن الخير والعمل الصالح المفيد لكم في الآخرة ، فاحذروا أن
تؤثروا حبّهم وشفقتكم عليهم على طاعة الله تعالى. ثم رغّب الله تعالى بالعفو عنهم
، فإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم ، وتصفحوا بترك اللوم عليها ، وتستروا
الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها ، فالله واسع المغفرة لذنوب عباده ، شامل الرحمة بهم
، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.
ثم أخبر الله
تعالى أن الأموال والأولاد فتنة أي موضع اختبار ومحنة ، تشغل المرء عن مراشده ،
وتحمله على إيثار الدنيا على الآخرة ، والوقوع فيما لا يحمد عليه ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أخرجه أبو يعلى في مسنده ـ : «الولد مبخلة مجبنة». والله
عنده الثواب الجليل لمن آثر طاعة الله تعالى ، وترك التورّط في المعصية ، بسبب
محبة ولده وماله. وهذا تزهيد في الدنيا ، وترغيب في الآخرة. أخرج أحمد والترمذي
والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لكل أمّة فتنة ، وإن فتنة أمّتي المال».
والتخلّص من
الفتنة : بالتقوى والطاعة ، فأمر الله بالتقوى : وهي التزام الأوامر واجتناب
النواهي ، بقدر الطاقة والجهد ، وأمر بالاستماع للأوامر وإطاعتها ، والإنفاق من
الأموال التي رزق الله بها العباد في وجوه الخير. وقوله : (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) منصوب بقوله : (أَنْفِقُوا). والخير هنا : المال ، أو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنفاقا
خيرا. ففي الإنفاق خير للأنفس في الدنيا والآخرة.
ومن وقاه الله
وحفظه من داء الشح (البخل مع الحرص) فأنفق في سبيل الله ووجوه الخير ، فأولئك هم
الفائزون بما يطلبون. أخرج البخاري في تاريخه وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه
: أن النّبي صلىاللهعليهوسلم قال : «شرّ ما في الرجل : شحّ هالع ، وجبن خالع».
أخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ) [آل عمران : ٣ /
١٠٢] اشتدّ على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم ، وتقرّحت جباههم ، فأنزل
الله تخفيفا على المسلمين : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ).
جاء في الصحيحين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم
عنه فاجتنبوه».
ثم أكّد الله
تعالى الحث على النفقة ، بقوله : فيما معناه : إن تتصدقوا صدقة حسنة بإخلاص وطيب
نفس ، يضاعف الله الثواب لكم أضعافا مضاعفة ، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم ، والله يجزي
الكثير على القليل ، تام الشكر ، أي يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل ، واسع الحلم
، أي لا يعاجل بالعقوبة على المعصية. وقوله : (شَكُورٌ) إخبار بمجازاته تعالى على الشيء ، وأنه يحط به عمن شاء
عظائم الأمور.
ثم رغّب الله
ترغيبا زائدا بالنفقة ، وهو أن الله تعالى شامل العلم بما غاب عنكم وما حضر ، غالب
قاهر ، ذو حكمة بالغة ، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة. إن التحذير من فتنة المال
والتعلّق به ، ثم توالي تأكيدات ثلاثة على الإنفاق بأساليب متنوعة ، ترويض على
اقتلاع داء البخل من النفس ، وحمل للنفس على ادّخار ثواب النفقة في سبيل الخير
والمعروف عند الله تعالى الذي لا تضيع عنده الودائع.
__________________
تفسير سورة الطلاق
الطّلاق السني في العدة
كره الإسلام
الطلاق ، لأنه تبديد الشمل ، وقطع الصّلة ، وهدم الحياة الزوجية ، وإذا كان لا بدّ
منه ، فينبغي اقترانه ببدء العدة ، حتى لا تطول مدّتها على المرأة ، وتتضرر
فالإضرار بالطلاق حرام ، وكيلا يقع الزوج في الندم إذا طلّق في وقت غير مناسب ،
فيحرم في وقت الحيض ، أو في طهر جامعها فيه ، وهذا هو الطلاق البدعي ، ويقابله
الطلاق السني الذي أمر به في الآيات الآتية من مطلع سورة الطلاق ، المدنية
بالإجماع :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا
يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
(٣))
[الطّلاق : ٦٥ / ١
ـ ٣].
__________________
أخرج ابن أبي حاتم
وابن جرير وابن المنذر عن أنس قال : طلّق رسول الله صلىاللهعليهوسلم حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)
الآية ، فقيل له :
راجعها فإنها صوّامة قوّامة ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
خوطب النّبي في
مطلع السورة للتنبيه على سماع القول وتلقّي الأمر ، ثم خوطبت أمته ، أي إذا طلقتم
أنت وأمتك ، فيا أيها الرسول والمؤمنون به ، إذا أردتم تطليق النساء ، وعزمتم عليه
، فطلّقوهن (أي يجب عليكم) مستقبلات لعدتهن ، حتى لا تطول العدة عليهن ، ولئلا
يلحقهن ضرر بتطويل العدة ، واضبطوا أيها الأزواج مدة العدة واحفظوها ، لتكون عدة
كاملة ، وهي ثلاثة أقراء (أطهار في رأي ، وحيضات في رأي آخر) وضبط العدة واجب ،
لترتب أحكام فيها ، من معرفة وقت الرجعة ، والإشهاد عليها ، وأداء نفقة المعتدة
وسكناها ، والتزام بيوتهن ، واتّقوا الله الرّب تعالى ، فلا تعصوه فيما أمركم ،
ولا تلحقوا ضررا بالمرأة ، ولا تخرجوا المطلقات من بيوتهن (بيت الزوجية) في مدة
العدة ، فلكل معتدة الحق في السكنى على حساب الزوج ، ما دامت في عدتها منه ، وليس
للزوج أن يخرجها ، ولا يجوز لها الخروج من بيت الزوجية : بيت العدة لغير ضرورة
ليلا أو نهارا ، إلا إذا ارتكبت فاحشة ظاهرة ثابتة كالزّنا.
وهذه الأحكام
المتعلقة بالعدة : هي حدود الله التي حدّها لهم ، لا يحلّ لهم تجاوزها إلى غيرها ،
ومن يتجاوز هذه الحدود ، فقد ظلم نفسه وأضرّ غيره ، وأهلكها. وعلّة تحريم تعدي
حدود الله : أنك لا تدري أيها المطلق حين ألزمنا بإبقاء المطلقة في منزل الزوج مدة
العدة ، أن يتراجع الزوجان ، ويندم كل منهما على ما حدث ، وهذا هو الغالب الواقع ،
ويؤلف الله بين قلوبهما ، ويراجع المطلق زوجته ، وتعود الحياة الزوجية كما كانت ،
بل ربما أحسن مما مضى ، لأن الطلاق أمر صعب شاق على كل من الرجل والمرأة.
فإذا اقترب انتهاء
العدة ، وشارفت المعتدات على انقضاء العدة ، أي اقترب وقت انتهاء العدة ، فعليكم
أيها الأزواج اختيار أحد أمرين : إما الإمساك بالمعروف : وهو الرجعة إلى عصمة
الزوج واستمرار الزوجية ، مع إحسان الصحبة والمعاشرة بالمعروف كما أمر الله تعالى
، وإما المفارقة بالمعروف ، أي تركهن إلى انقضاء عدتهن ، مع إيفاء حقّهن واتّقاء
الإضرار بهن ، من غير توبيخ ولا مشاتمة ، بل تنفصل المرأة على وجه حسن.
ويأمركم الله
بالإشهاد على الرجعة أو الفراق من شاهدي عدل ، حسما للخلاف ، وإعلاما للناس حتى لا
يطعن بالزوج إن راجع ، أو بالمرأة إن تزوجت بزوج آخر ، وأدّوا أيها الشهود الشهادة
خالصة لوجه الله ، دون تحيّز أو ميل لأحد الخصمين. وهذه الشهادة على الرجعة
والفراق مندوبة باتّفاق المذاهب الأربعة ، للإجماع على عدم وجوبها عند الطلاق ،
فكذلك عند الإمساك.
ذلكم المذكور الذي
أمرناكم به من الإشهاد وإخلاص الشهادة لله تعالى ، وإيقاع الطلاق على وجه السّنة ،
وإحصاء العدة ، والكفّ عن الخروج والإخراج ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم
الآخر ، ويخاف عقاب الله في الآخرة.
ومن يتّق الله
فيما أمره به وترك ما نهاه عنه ، ويقف عند حدوده ، يجعل له مخرجا أو مخلصا مما وقع
فيه ، ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه ، على وجه لا يخطر بباله ، ولا يكون في
حسابه.
ومن يفوّض أمره
لله فيما نابه ، فالله كافيه ، إن الله يبلغ ما يريده ، ويحقق مراده ، قد جعل
للأشياء قدرا محددا قبل وجودها ، وقدّر لها أوقاتها. والآية كلها عظة لجميع الناس
وحضّ على التوكّل.
نزلت آية : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) كما أخرج الحاكم عن جابر : في رجل من أشجع ،
كان فقيرا ، خفيف
ذات اليد ، كثير العيال ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فسأله ، فقال له : اتّق الله ، واصبر ، فلم يلبث إلا
يسيرا ، حتى جاء ابن له بغنم ، وكان العدو أصابوه ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبره خبرها ، فقال : كلها ، فنزلت. وهو حديث منكر له
شاهد ، أي إن الولد كان أسيرا ، فهرب وأخذ من العدو قطيع غنم.
أنواع العدد ومقاديرها وحقوق المعتدات
إذا وقع الطلاق في
بدء العدة ، ولم تقع الرجعة للحائض في العدة (ثلاثة قروء) وجب على المطلقة
الاعتداد بثلاثة قروء (حيضات أو أطهار) ، إن كانت حائضا ، وأما الآيسة من الحيض ،
والصغيرة التي لم تر الدم ، فعدتهما ثلاثة أشهر ، وعدة الحامل بوضع الحمل.
وللمعتدة الحق في النفقة والسكنى في بيت الزوجية بحسب الوسع والطاقة ، ولو في حجرة
من بيت الزوج ، ومعيار مقدار النفقة هو بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا ، وتوسّعا أو
اعتدالا ، فالتكليف على قدر الحال. وهذا ما نصّت عليه الآيات الآتية :
(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
(٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ
أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ
وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
__________________
لَهُ
أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها
سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))
[الطّلاق : ٦٥ / ٤
ـ ٧].
أخرج ابن جرير
وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال : لما نزلت الآية التي في
سورة البقرة في عدد من عدد النساء ، قالوا : قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن :
الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض ، وأولات الأحمال ، فأنزلت : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) الآية.
النساء اللاتي
أصبحن آيسات من مجيء الحيض لكبرهن ، ببلوغهن مثلا سنّ الخامسة والخمسين أو الستين
، عدتهن وعدة الصغيرات اللاتي لم يبلغن سن الحيض : ثلاثة أشهر.
وعدة أصحاب الحمل (الحبالى)
: بوضع الحمل ، ولو بعد الطلاق أو الموت بساعة ، في قول الجمهور ، لأن النّبي صلىاللهعليهوسلم أذن لسبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد وضعها حملها بليال ،
بعد وفاة زوجها : بأن تتزوج ، فتزوجت ، أي عقدت زواجها وكان زوجها سعد ابن خولة قد
توفي في حجة الوداع ، ووضعت حملها قبل أربعة أشهر.
وقد نزلت هذه
الآية كما ذكر ابن مسعود بعد آية عدة الوفاة : (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) [البقرة : ٢ / ٢٣٤].
ومن يخف الله
تعالى ويرهب عقابه ، فيأتمر بما أمر الله ، وينته عما نهى عنه ، يسهّل عليه أمره
كله في الدنيا والآخرة ، وهذا تنويه بفضيلة التقوى.
ذلك ، أي جميع
الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة : هو أمر الله الذي أمر به عباده ، وأنزله
إليهم في قرآنه ، ومن يخف الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، يمح
__________________
عنه ذنوبه من
صحائف أعماله ، ولا يؤاخذه بها ، ويجزل له الثواب على عمله ، وكرر الأمر بالتقوى
للتأكيد عليها.
وحقوق المعتدة :
هي السكنى والنفقة ، فأسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم
وسعتكم ، ولو في غرفة من غرف الدار التي تسكنون فيها ، ولا تلحقوا بهنّ ضررا في
النفقة والسكنى ، فتضطروهن إلى الخروج من المسكن ، أو التنازل عن النفقة.
وإن كانت النساء
أصحاب حمل (حبليات) فيجب عليكم بلا خلاف الإنفاق عليهن والسكنى حتى يضعن حملهن.
وأوجب الحنفية السكنى والنفقة لكل مطلقة ، ولو مبتوتة ، وإن لم تكن ذات حمل ،
لقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ). ولم يوجب المالكية والشافعية للمطلقة ثلاثا إلا السكنى
فقط دون النفقة ، ومذهب الإمام أحمد : ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى ، لحديث
فاطمة بنت قيس عند مسلم وأحمد ، حيث طلقها زوجها ثلاثا ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا نفقة لك ولا سكنى».
و (أُولاتِ) أي ذوات ، جمع ذات ، وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية
تعمّ الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة ، لحديث سبيعة المتقدم.
ويجب على الزوج
دفع الأجرة على الرضاع ، فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد الطلاق ، فأعطوهن
أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل ، وتشاوروا أيها الأزواج والزوجات في إرضاع
الطفل ، بحسب المعروف ، أي بالمسامحة ، من غير إضرار ولا مضارّة ، وليأمر كل واحد
صاحبه بخير.
وإن تضايقتم
واختلفتم وأصابكم إعسار في شأن الإرضاع ، فأبى الزوج إعطاء الأم الأجر الذي تريده
، وأبت الأم إرضاعه إلا بما تريد من الأجر ، فيستأجر الأب مرضعة أخرى ، ترضع ولده.
ومقدار النفقة :
أن ينفق الوالد بحسب طاقته أو سعته ، والفقير بحسب ما أعطاه الله من الرزق بقدر
سعته أيضا ، ولا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق ، فلا يكلف الفقير
بالإنفاق على الزوجة والقريب ذي الرحم ما ليس في وسعه ، كنفقة الغني. والعجز عن
النفقة الزوجية يجيز عند الجمهور التفريق بين الزوجين ، وقال الحنفية : لا يفرق
بينهما.
ثم وعد الله تعالى
بالإغناء ، فسيجعل الله تعالى بعد ضيق وشدة سعة وغنى ، وهذا وعد من الله تعالى ،
ووعده حق لا خلف فيه ، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب ، وباليسر بعد العسر ، كما جاء
في آية أخرى : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الانشراح :
٩٤ / ٥ ـ ٦].
وعيد المخالفين ووعد المؤمنين الطائعين
اقتضى بيان أحكام
الطلاق والعدد وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى والوصية بالتقوى : إنذار المخالفين
أمر الله ورسوله ، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الماضية الذين كفروا وكذّبوا رسلهم ،
والتذكير بعظيم قدرة الله تعالى ، وإحاطة علمه بكل شيء ، تأكيدا للتحذير من مخالفة
الأوامر بعد تبيان الأحكام الشرعية ، وهذا موضح بالآيات الآتية :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ
أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا
أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
(١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
__________________
تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ
رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))
[الطّلاق : ٦٥ / ٨
ـ ١٢].
هذا وعيد لكل
مخالف أمر الله تعالى ، مكذب رسله ، فكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله ، ولم
يقبلوا شرعه ، وتكبروا وتمردوا ، فحاسبها الله تعالى بأعمالها المعمولة في الدنيا
ولم يغتفر لهم زلّة ، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب ، وعذب أهلها عذابا مؤلما منكرا
، في الآخرة ، وأما في الدنيا فعذبهم بالجوع والقحط والخسف ونحو ذلك. وعبّر
بالماضي في قوله : (فَحاسَبْناها
وَعَذَّبْناها) عن المستقبل ، للدلالة على التحقّق والوقوع ، لوعيد الله.
وسبب العذاب : أن
أولئك المعذبين لقوا عاقبة أمرهم وشؤم كفرهم ، وكان مصيرهم الخسارة والهلاك
والنكال في الدنيا ، والعذاب في الآخرة.
وأعدّ الله لهم في
الآخرة عذابا شديدا مؤلما ، لكفرهم وتمرّدهم ، وهو عذاب النار. فكان قوله تعالى : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) الظاهر أنه في الدنيا ، بدليل قوله بعدئذ : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) الذي يبين خسران عاقبتهم ، هو عذاب الآخرة.
ثم ندب الله تعالى
أولي العقول إلى التقوى تحذيرا ، وأمرهم بها صراحة ، وذكّرهم بما يوجب التقوى أو
العمل الصالح بنحو دائم ، فاتقوا الله يا أولي الألباب (العقول) من هذه الأمة.
الذين صدّقوا بالله ورسله ، وأسلموا لله تعالى ، وانقادوا لعظمته وحكمه ، واتّبعوا
رسولهم محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فإن الله قد أنزل إليكم القرآن الكريم تذكرة دائمة ،
وأرسل لكم رسولا مذكّرا بهذا القرآن ، فهو الترجمان الصادق ، وهو الذي يبلّغكم وحي
الله وشرعه ، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة ،
__________________
يبيّن فيها للناس
الشرائع والأحكام ، لإخراج المؤمنين بالآيات والرسول من دائرة الظلمات إلى أنوار
الهداية الربانية ، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
وقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
رَسُولاً) مختلف فيه ، فقال قوم من المتأولين : المراد بالاسمين
القرآن ، و (رَسُولاً) بمعنى رسالة. وقال آخرون : رسولا نعت أو كالنعت لقوله
سبحانه : (ذِكْراً) أي ذكرا ذا رسول. وقال آخرون : المراد بهما جميعا محمد صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : ذا ذكر رسولا ، والذكر : اسم من أسماء الرسول
عليه الصّلاة والسّلام ، وهذا هو الظاهر ، لكن قال ابن عطية رحمهالله : وأبين الأقوال عندي معنى : أن يكون (الذّكر) القرآن ، و
(الرّسول) محمدا صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : بعث رسولا ، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل
الناصب للرسول ، ونحا هذا المنحى السّدي.
ثمّ رغّب الله
المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح ببيان الجزاء الحسن لهما ، وهو أن من يصدّق بالله
، ويعمل العمل الصالح ، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه ، يدخله الله
جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها أبدا على
الدوام ، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة. والرزق الحسن في الآية : رزق الجنة ،
لدوامه وتدفّقه.
ثم أورد الله ما
يدلّ على عظيم قدرته وسعة علمه ، وهو أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات السبع ،
والأرضين السبع ، أي كونها سبعا مثل السماوات السبع ، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه
بين السماوات والأرض ، وقد فعل ذلك لتعلموا كمال قدرة الله ، وإحاطة علمه بجميع
الأشياء ، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان ، فاحذروا المخالفة ، لأن الله
مطّلع على كل شيء ، واتّعظوا بمصائر الأمم السابقة ، فإن الله تام العلم بأعمالكم
كلها ، وسيجازيكم عليها ، والكل خاضع له سبحانه ، وفي دائرة سلطانه ، فيكون الله
قادرا على إثابة الطائعين ، وتعذيب العاصين والمخالفين لأمره.
تفسير سورة التّحريم
تحريم بعض الأشياء وكفارة اليمين
النّبي صلىاللهعليهوسلم بشر ، يغضب ويرضى ، وغيرة النّساء من أهم أسباب إغضاب
الزوج ، وقد تامرت عائشة وحفصة عليه ، فحرّم على نفسه العسل. أخرج البخاري ومسلم
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحبّ الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف من العصر ، دخل على
نسائه ، يمكث عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلا ، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا
دخل النّبي صلىاللهعليهوسلم عليها ، فلتقل له : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فقال : لا ، بل شربت عسلا عند زينب بنت
جحش ، ولن أعود إليه ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا» فنزلت الآيات الآتية في
مطلع سورة التحريم المدنيّة بالإجماع :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ
إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ
مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا
إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ
هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ
__________________
(٤)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ
مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً
(٥))
[التّحريم : ٦٦ /
١ ـ ٥].
يا أيها الرسول
النّبي ، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح الله لك ، قاصدا إرضاء أزواجك ، والله
غفور لما فرط منك ، من تحريم ما أحلّ الله لك ، وما تقدّم من الزّلة ، رحيم بك ،
فلا يعاقبك على ذنب تبت منه. وهذا عتاب بطريق التلطّف ، وإشارة إلى أن ترك الأولى
بالنسبة له مثل الذنب ، وإن لم يكن ذنبا في الواقع.
وقد صحح ابن
العربي أن التحريم كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب. وتظاهرت عليه عائشة وحفصة
فيه ، وجرى ما جرى ، فحلف ألا يشربه ، وأسرّ ذلك ، ونزلت الآية في الجميع.
وقال ابن عطية :
إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح ، وعليه تفقه الناس في الآية ، ومتى حرّم
الرجل مالا أو جارية دون أن يعتق أو يشترط عتقا أو نحو ذلك ، فليس تحريمه بشيء.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم حرّم على نفسه الاستمتاع بمارية القبطية الجارية التي أهداها
المقوقس إليه ، حين قضى معها وقت القيلولة ، في حجرة حفصة أو في حجرة عائشة ،
فغضبت بعد أن جاءت ، فقال لها الرسول صلىاللهعليهوسلم : أيرضيك أن أحرّمها؟ قالت : نعم ، واستكتم صاحبة الغرفة ،
لئلا تعلم عائشة أو حفصة بالخبر ، خوفا من غضبها.
والكفارة عن
اليمين المحلوفة : أن الله تعالى شرع لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في
اليمين المنعقدة في سورة المائدة [الآية : ٨٩] ، والله متولّي أموركم وناصركم
__________________
على الأعداء ، وهو
العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم ، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير الأمور.
واذكر حين أسرّ
النّبي صلىاللهعليهوسلم لزوجته حفصة أنه حرّم العسل على نفسه ، أو حرّم مارية ،
فلما أخبرت به غيرها ، وأطلع الله نبيه على ما حدث منها من إخبار غيرها ، عرّف
زوجته (حفصة أو عائشة) بعض ما أخبرت به ، وأعرض عن تعريف البعض الآخر.
فحينما أخبرها
بإفشائها هذا الحديث ، قالت : من أخبرك به؟ قال : أخبرني به الله الذي لا تخفى
عليه خافية ، فهو واسع العلم بالأسرار ، وتامّ الخبرة بكل شيء في السماء والأرض.
ثم أمر الله تعالى
حفصة وعائشة بالتوبة مع العتاب ، فإنكما إن تتوبا إلى الله ، فتكتما السرّ ،
وتحبّا ما أحبّه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتكرها ما كرهه ، قبلت توبتكما من الذنب ، وكان خيرا
لكما ، فقد مالت قلوبكما عن الصواب والسداد والحق. وإن تتعاونا على ما يؤذي النبي
، بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سرّه ، فإن الله يتولّى نصره ، وكذلك في الولاية (أو
النصرة) جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر وعلي ، والملائكة بعد نصر الله له ،
ومناصرة جبريل والمؤمنين أعوان له وحراس وحفظة.
ثم حذّرهما من
العواقب ، فلله القدرة التامّة ، فإن ربّه عسى إن طلّقكن أيتها النسوة قادر أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل
منكن ، قائمات بفروض الإسلام ، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه
ورسله ، مطيعات لله سبحانه ولرسوله ، تائبات من الذنوب ، مواظبات على العبادة
متذلّلات لله ، صائمات ،
__________________
بعضهن ثيبات (مدخول
بهن) وبعضهن بكارى أو عذارى (غير مدخول بهن). والآية تهديد ووعيد على محاولات
إيذاء النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفيها أيضا وعد من الله لنبيّه أن يزوجه بما يريد ، في
الدنيا والآخرة.
أخرج البخاري عن
أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلىاللهعليهوسلم في الغيرة عليه ، فقلت : عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله
أزواجا خيرا منكن ، فنزلت هذه الآية.
وليس بعد هذه
الموالاة أو المناصرة شيء مثيل لها ، مبالغة في تعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتخلّصا من المكيدة ومكر النساء وغيرهن ، وإحباطا لكل
كيد من المشركين والمنافقين.
اتّقاء النار والتوبة والجهاد
أمر الله المؤمنين
بطائفة من المواعظ ، هي وقاية النفس والأهل من النار ، بترك المعاصي وفعل الطاعات
، والمبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الخطايا والذنوب ، والإقدام على الجهاد ـ جهاد
الكفار والمنافقين ، لإقرار عقيدة التوحيد ، وتنظيف المجتمع من كل مظاهر الضعف
والطعن والتفريق في الداخل ، لتبقى الأمة واحدة نقية ، كما يتضح في هذه الآيات :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا
الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يَوْمَ لا
__________________
يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (٩))
[التّحريم : ٦٦ /
٦ ـ ٩].
يا أيها الذين
صدقوا بالله ورسوله ، روّضوا أنفسكم وأهليكم ، واتّخذوا لها وقاية من النار ، أما
بالنسبة للنفس فبحملها على طاعة الله تعالى ، وأما بالنسبة للأهل فبالوصية لهم ،
والحمل على الطاعة أيضا ، حتى لا تصيروا معهم إلى النار الرهيبة ، التي تتوقد
بالناس والحجارة ، كما يتوقد غيرها بالحطب. وهذا دليل على أن المعلّم يجب أن يكون
عالما بما يأمر به وينهى عنه.
وعلى النار خزنة
من الملائكة غلاظ الخلق والطباع ، أشداء القلوب والبطش والفظاظة ، ذوو قوة هائلة ،
والشدة : القوة ، وعدد زبانية جهنم تسعة عشر ، كما جاء في آية أخرى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) [المدّثّر :
٧٤ / ٣٠]. يتميّزون بالطاعة التامّة لله ، فلا يخالفونه في أوامره ، ويؤدّون ما
يؤمرون.
وفائدة الجملتين :
(لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أن الأولى لبيان الطواعية في الماضي ، والثانية للمستقبل
وفورية التنفيذ والامتثال.
ثم أخبر الله
تعالى عما يقال للكافرين ، ليكون ذلك وعظا للمؤمنين ، يقال لهم عند دخول النار يوم
القيامة ، تيئيسا لهم : لا تعتذروا عن شيء ، فالمعذرة لا تنفعكم ، وإنما تجزون
بأعمالكم ، فلا تلوموا إلا أنفسكم.
ثم أمر الله
المؤمنين بالتوبة النّصوح الخالصة له وهي مبالغة من النّصح ، فيا أيها الذين صدقوا
بالله ورسوله ، ارجعوا إلى الله وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة ، تمحو
__________________
ما قبلها من
السيئات : وهي الندم بالقلب على الذنب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع البدني عن
المعصية ، والعزم على ترك العودة إلى العصيان ، عسى وهي هنا ترجية ، أي لعل الله
أن يمحو سيئات أعمالكم التي قارفتموها ، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها
وأشجارها الأنهار ، حين لا يوقع نبيّه والمؤمنين أتباعه بالمكروه بترك أو نقص شيء
أو سوء منزلة ، بل يعزّهم ويكرمهم ، وحين ترى نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم ،
ويسبقهم أمامهم ، ويجاورهم عن أيمانهم ، حال مشيهم على الصراط ، كما جاء في آية
أخرى : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) [الحديد : ٥٧ / ٢٨].
ويبقى النّبي صلىاللهعليهوسلم مخصوصا مفضّلا بأنه لا يخزي.
ويدعو المؤمنون
حين يطفئ الله نور المنافقين يوم القيامة ، قائلين : (رَبَّنا أَتْمِمْ
لَنا نُورَنا) أي أبقه لنا ، وأدمه علينا ، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط
، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا ، ولا تفضحنا بالعقاب ، واغفر لنا ذنوبنا ،
وحقّق رجاءنا ، إنك القادر التامّ القدرة على كل شيء.
ثم أكّد الله
تعالى أمر الجهاد وفرضه المتقدّم ، فيا أيها النّبي القائد ، دم على جهاد الكفار
بالسيف ، وجاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم ، واضربهم على جرائمهم ، وعند قوة
الظن بهم ، ولكن دون تعيين الله لرسوله منافقا يقع القطع بنفاقه. وليكن جهادك
للفريقين بعنف وقسوة قلب ، وشدة وانتهار ، وقلة رفق بهم ، وشدّد عليهم في الدعوة
إلى الإسلام في الدنيا ، ومثواهم جهنم في الآخرة ، وساء المرجع مرجعهم. وعذابهم في
الدنيا حين التأكّد من نفاق بعضهم : الطّرد من المسجد ،فقد أمر النّبي صلىاللهعليهوسلم بعضهم قائلا : اخرج يا فلان.
وسيكون مقر
الفريقين من الكفار والمنافقين نار جهنم ، فلا أمل لهم بعد هذا البيان بالنجاة أو
التخلّص من العذاب.
إن هذه التوجيهات
والمواعظ في الدنيا لها أهميتها الكبرى لصلاح النفس والبيئة ، ونقاء القلب وطهره
وتجرّده من جميع شوائب المعصية ، وإقرار مبدأ توحيد الله وإزالة كل عوائق الكفر في
الوقوف أمام نشر دعوة الإسلام.
مثلان من سيرة النّساء
ضرب الله تعالى
مثلين للكفار والمؤمنين ، مؤدّاهما : أن من كفر لا يغني عنه من الله شيء ، ولا
ينفعه ملجأ أو معتصم ، ولو كان متعلّقا أو متأمّلا بأقوى الأسباب. وأن من آمن لا
يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى ، ولو كان في أسوأ منشأ وأخس حال. فامرأة نوح
وامرأة لوط كانتا في بيت النّبوة ، ولكنهما خانتا زوجيهما في الكفر ، فلم تفدهما
رابطة الزواج شيئا من عذاب الله ، ولكن ليست الخيانة أخلاقية ، قال ابن عباس رضي
الله عنهما : وما بغت زوجة نبي قط ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا. وآسية امرأة
فرعون ، ومريم ابنة عمران كانتا في وسط صعب مناف للإيمان ، فصبرتا على المكروه ،
فكانتا في منزلة عالية عند الله تعالى ، وذلك المثلان في الآيات الآتية :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))
[التّحريم : ٦٦ /
١٠ ـ ١٢].
__________________
جعل الله مثلا
لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم ، أنه لا يغني أحد عن أحد ، فكل
إنسان مسئول عن نفسه ، ومجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها في مجال
النجاة عند الله ، ما دام الإنسان كافرا ، أي مات على الكفر ولم يتب.
وهذا المثل : أن
امرأة نوح وامرأة لوط عليهماالسلام ، كانتا في عصمة نبيّين رسولين ، وبينهما معاشرة واختلاط
بسبب رابطة الزوجية ، لكنهما خانتا الرسولين في الكفر وترك الإيمان برسالتهما ،
وعدم الإيمان بهما ، فكانت امرأة نوح (واعلة) تقول عن زوجها لقومه : إنه مجنون ،
وكانت امرأة لوط (والهة) تدلّ قومه على أضيافه ، بإيقاد النار ليلا ، وبالتدخين
نهارا ، فلم ينفعهما الزواج شيئا من النفع عند الله : نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين
لهما ، ولا تمكنا من دفع العذاب الإلهي عنهما ، أو رفع محذور عنهما ، مع علوّ
مكانة زوجيهما عند الله.
وهذا تعريض بزوجي
النبي صلىاللهعليهوسلم : حفصة وعائشة ، لما فرط منهما ، وتحذير لهما ولغيرهما
بأنه لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام إن عصين الله تعالى.
ثم ضرب الله مثلا
آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين مؤمنتين ، على ضدّ حال المرأتين الكافرتين في المثل
السابق.
وهذا المثل الذي
ضربه أو جعله الله للمؤمنين : هو حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم ، وعمة موسى عليهالسلام ، آمنت بموسى ، حين سمعت قصة إلقائه عصاه ، فعذّبها فرعون
في الشمس بسبب إيمانها ، وبعث إليها من يقتلها بالحجر الأعظم ، فلم تتراجع عن
إيمانها ، ونجاها الله حين أحسّت الشرّ من محاولي قتلها ، حين دعت بهذا الدعاء : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي
الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) أي ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين
منك ، وخلّصني من بطش فرعون وشروره ، وأنقذني من القوم الظالمين ، وهم كفار القبط.
فقبض الله تعالى روحها. وهذا دليل على صدق إيمانها بالله واليوم الآخر.
والمرأة الثانية
في هذا المثل : هي حال مريم ابنة عمران أم عيسى عليهماالسلام ، التي صانت فرجها عن الفاحشة ، فكانت مثال العفة والطّهر
، فأمر الله جبريل أن ينفخ الروح في فرجها ، فحملت بعيسى ، وصدّقت بشرائع الله
التي شرعها لعباده وبصحفه المنزلة على إدريس وغيره ، وبكتبه المنزلة على الأنبياء
، وهي التوراة والإنجيل ، وكانت من القوم المطيعين لربّهم ، حيث كان أهلها أهل بيت
صلاح وطاعة ، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربّهم ، أي كانت من القوم
القانتين في عبادتها وحال دينها. وقوله تعالى : (مِنْ رُوحِنا) إضافة مخلوق إلى خالق ، ومملوك إلى مالك ، كما تقول : بيت
الله ، وناقة الله ، كذلك الروح والجنس كله هو روح الله.
أخرج الإمام أحمد
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «خطّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله
ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت
محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون». وجاء في صحيحي البخاري
ومسلم عن أبي موسى الأشعري عن النّبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كمل من الرّجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية
امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء ،
كفضل الثريد على سائر الطعام».
تفسير سورة الملك
من أدلّة القدرة الإلهية
أقام الحق تبارك
وتعالى في مناسبات عديدة أدلة قاطعة على علمه وقدرته ، لإثبات عظمته ووحدانيته
ومقدرته على البعث أو القيامة ، ليؤمن الكافر ، ويزداد المؤمن إيمانا ، وتلك
الأدلة تتركز حول خلق الإنسان ، وخلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من
كواكب ، وخلق الموت والحياة ، وتعاقب الليل والنهار وغير ذلك. وفي مطلع سورة الملك
أو الواقية أو المنجية ، التي هي مكّية بالإجماع ، بعض هذه الأدلّة :
(تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي
خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً
وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا
أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ
الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ
اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))
[الملك : ٦٧ / ١ ـ
١١].
__________________
تعاظم الله تعالى
وتقدّس وتمجّد عما سواه ، ذاتا وصفة وفعلا ، وتبارك أيضا : تزايد في الخيرات ، فهو
المالك لكل شيء ، وهو تام القدرة على كل شيء ، لا يعجزه شيء ، يتصرّف في ملكه كيف
يريد ، من إحياء وإماتة ، ورفع وخفض ، وإنعام وانتقام ، وإعطاء وحرمان.
فهو الذات الأعظم
، والمالك المطلق ، والمتصرف كيف يشاء والقادر على كل شيء. ومن آثار قدرته : ـ أنه
تعالى أوجد الموت والحياة ، وقدرهما من الأزل ، ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم
، فيجازيكم على ذلك ، وهو القوي الغالب القاهر ، الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد ،
الواسع المغفرة والسّتر لذنوب عباده. وهذا دليل على أن الموت أمر وجودي ، لا عدمي
، لأنه مخلوق. والقصد من الابتلاء : إقامة الدليل الحسّي على أفعال العباد ،
وإظهار كمال المحسنين وإساءة المسيئين. والموت والحياة : معنيان يتعاقبان جسم
الحيوان (الكائن الحي) يرتفع أحدهما بحلول الآخر. وقدّم الموت على الحياة في الآية
، لأنه أدعى إلى العمل. وقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليختبركم في حال الحياة ، ويجازيكم بعد الموت.
ـ ومن مظاهر قدرته
: أنه تعالى أوجد أو أبدع السماوات السبع ، المتطابقة بعضها فوق بعض ، كل سماء
منفصلة عن الأخرى ، لا تشاهد أيها الناظر المتأمّل في مخلوقات الرحمن تناقضا
وتباينا أو قلّة تناسب وخروج عن الانسجام ، وإن كنت في شك من ذلك ، فكرر البصر ،
هل تشاهد فيها من صدوع وشقوق؟ وهذا دليل على تعظيم خلقها وسلامتها من العيوب. ثم
ردد البصر ودقّق مرة بعد مرة ، يرتد إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل
أو العيب في خلق السماء ، وهو كليل عيي من كثرة التأمل وإعادة النظر.
ـ ومن مظاهر
القدرة الإلهية أيضا أننا ـ الله ـ زيّنا أقرب السماوات إلى الناس
بمصابيح ، أي
بكواكب أو نجوم ثوابت وسيارات ، تضيء كإضاءة السّراج ، وجعلنا بعض تلك الكواكب
راجمات لرجم الشياطين ، وهيّأنا أو أعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في
الدنيا بالشهب المنقصة عذاب النار الملتهبة ، بسبب فسادهم وإفسادهم.
وهيأنا للذين
كفروا بربّهم ، وكذبوا رسله ، عذاب نار جهنم ، وبئس المرجع وما يصيرون إليه ، وهو
جهنم. ثم ذكر الله تعالى للنار أربع صفات وهي :
ـ إذا طرح الكفار
في نار جهنم ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت
الحمير أول نهيقها ، وهي أيضا تغلي بهم غليان المرجل.
ـ تكاد تلك النار
، أي تقترب أن تتقطع من شدة غيظها على الكفار. لكن أولاد الأنبياء والمؤمنين قبل
البلوغ : هم في الجنة ، وكذلك أولاد المشركين بدليل هذه الآية المتضمنة مساءلة
الخزنة.
ـ وكلما طرح فيها
فوج ، أي جماعة من الكفار ، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ : أما
جاءكم في الدنيا رسول منذر ، ينذركم هذا اليوم ، ويخوّفكم منه؟ والآية تقتضي أنه
لا يلقى فيها أحد إلا سئل على جهة التوبيخ عن النّذر.
فأجابهم الكفار :
مقرين بأنهم جاءوهم وكذّبوهم ، قائلين : بلى جاءنا رسول من عند الله ربّنا ،
فأنذرنا وخوّفنا ، لكنا كذبنا ذلك النذير ، وقلنا له : ما نزّل الله من شيء على
لسانك ، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب ، وأخبار الآخرة والشرائع المنزلة ، وما
أنتم أيها الرّسل ، إلا في متاهة وانحراف عن الحق ، وبعد عن الصواب. وقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ
كَبِيرٍ) يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار ، ويحتمل أن يكون من
كلام الكفار للنذر.
وأجابوا أيضا
بأننا نلوم أنفسنا ، فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع
الواعين والمهديين
، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع ، لم نكن من أهل النار ، ولم نكن من الكافرين
بالله. فأقرّوا معترفين بما صدر عنهم من ذنوب : وهو الكفر وتكذيب الأنبياء ، فبعدا
لهم من الله ومن رحمته ، فهم أصحاب النار الملتهبة. إنهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا
ينفع فيه الاعتراف.
وعد المؤمنين ووعيد الكافرين
لا تظهر ثمرة
الإيمان إلا بخشية الله تعالى ، ولا تتحقق الخشية إلا برقابة الله في السرّ والعلن
، ولا ينفصل الدين عن العمل للدنيا ، والعمل للدنيا أمر مطلوب للتعرّض لرزق الله
تعالى ، فإن الرزق مرتبط بالسّعي. وكيف يأمن الكافرون عذاب الله تعالى في الدنيا
كالخسف والزلزال ، أو إرسال الحاصب وهي الريح الشديدة التي فيها حصباء لرجم العصاة؟
ألم يعتبر هؤلاء بمن كذب من الأمم الماضية فعوقبوا عقابا منكرا عظيما؟ ولم لم
يتأمّلوا بمخلوقات الله العجيبة ومنها الطيور سابحات في الفضاء ، بإمساك الله
وتدبيره؟ كما هو واضح مما يأتي من الآيات :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ
أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ
__________________
يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ
الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))
[الملك : ٦٧ / ١٢
ـ ١٩].
يصف الله المؤمنين
، وهم : إن الذين يخافون ربّهم بالغيب ، أي في خلواتهم ، غائبين عن أعين الناس ،
حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى ، أو بالغيب الذي أخبروا به من الحشر والنّشر ،
والصّراط والميزان ، والجنة والنار ، فآمنوا بذلك وخشوا ربّهم فيه ، لهم مغفرة
واسعة لذنوبهم ، ولهم ثواب جزيل ، وهو الجنة.
والله مطّلع على
كل شيء ، فسواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به ، فالله عليم به ، يعلم كل ما في الصدور
، أي خواطر النفوس والضمائر. والآية خطاب عامّ لجميع الخلق في جميع الأعمال. قال
ابن عباس : نزلت في المشركين ، كانوا ينالون من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فخبّره جبريل عليهالسلام بما قالوا فيه ، ونالوا منه ، فيقول بعضهم لبعض : أسرّوا
قولكم ، لئلا يسمع إله محمد ، فنزلت هذه الآية.
وأدلة سعة علم
الله تعالى كثيرة ، ألا يعلم الخالق خلقه فهو الذي خلق الإنسان ، وأوجد السرّ
ومضمرات القلوب؟ فالله أعلم بمن خلقه ، لأن الصانع أعلم من غيره بالمصنوع ، وهو
سبحانه العليم بدقائق الأمور وما في القلوب ، والخبير بما تسرّه أو تضمره من
الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
وقوله : (مَنْ خَلَقَ) من : فاعل لفعل (يعلم) كأنه تعالى قال : ألا يعلم الخالق
خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف. أو منصوب بفعل (يعلم) كأنه تعالى قال : ألا يعلم
الله من خلق؟
وأدلة قدرة الله
تعالى كثيرة ، منها أنه هو الذي سخّر لكم الأرض ، وذلّلها لكم ،
__________________
أي جعلها مذلولة
سهلة ، لينة ، قابلة للاستقرار والحياة عليها ، فسيروا في نواحيها وجوانبها ،
وكلوا مما رزقكم الله وخلقه لكم في الأرض ، ومكّنكم من الانتفاع بها ، وإليه
النشور ، أي البعث من قبوركم إلى الله ، لا إلى غيره. والآية دليل على قدرة الله
ومزيد إنعامه على خلقه ، وعلى أن السّعي واتّخاذ الأسباب لا ينافي التوكّل على
الله ، وعلى أن الاتّجار والتّكسب مندوب إليه. أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن
قرّة قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم ، فقال : من أنتم؟ فقالوا :
المتوكّلون ، قال : بل أنتم المتأكلون ، إنما المتوكّل رجل ألقى حبّه في بطن الأرض
، وتوكّل على الله عزوجل.
أتأمنون أن يخسف ،
أي يغوّر ويقلع الله بكم الأرض؟ كما خسف بقارون ، بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون أو
تسعون في جوانبها وطرقها ، فإذا هي تضطرب وتتحرك بشدة. والمراد بهذا الاستفهام
الوعيد والإخبار بقدرة الله على تعذيب من كفر بالله أو أشرك مع الله إلها آخر.
بل هل أمنتم ربّكم
الله الذي هو في السماء كما تزعمون ، وهل أمنتم قدرة الله على أن يرسل عليكم ريحا
شديدة مصحوبة بالحصى أو الحجارة الصغيرة؟ وحينئذ إذا عاينتم العذاب تعلمون كيف كان
إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به.
ولقد كذب الكفار
الذين كانوا قبلهم ، كذبوا الرّسل ، فكيف كان إنكاري عليهم بما سلّطت عليهم من
العذاب الشديد؟!
أو لم ينظروا إلى
الطير فوقهم في الأجواء العليا ، وهنّ باسطات أجنحتها تارة ، وقابضات لها تارة
أخرى؟ ما يمسكهنّ في الهواء إلا الله الرّحمن القادر على كل شيء ، إنه تعالى عليم
بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته ، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.
تحدّي عبدة الأصنام وإظهار كمال القدرة الإلهية
تحدّى الله
المشركين عبدة الأصنام وأبطل اعتقاداتهم في أصنامهم من قوة وجلب خير فيها ، ثم
أقام تعالى أدلّة أربعة على كمال قدرته وهي تحليق الطيور في الهواء ، كما في آية
سابقة ، وتزويد الإنسان بمفاتيح المعرفة ، من السمع والبصر والفؤاد أو العقل ،
وشعوره بذاته في الوجود ، وضمان تكاثر النوع الإنساني ، ورفده بالمدد الإلهي
والرزق الدائم ، ثم أظهر الله حفظه لنبيّه حين دعوا عليه بالهلاك ، وإعذاره حين
طالبوا بتعيين وقت العذاب الذي خوّفهم به ، كما في هذه الآيات وما بعدها :
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي
هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ
فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ
لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ
أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً
ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (٢٤))
[الملك : ٦٧ / ٢٠
ـ ٢٤].
قل يا محمد لهؤلاء
المشركين عبدة الأصنام ، على جهة الإنكار والتيئيس من تحصيل مبتغاهم من الأوثان :
بل من هؤلاء الجند من غير الإله الرحمن ، أي أعوان المذهب الذين يعينونكم على ما
تطلبون ، ويمنعونكم من عذاب الله ، إن أراد بكم سوءا؟! ما الكافرون في الواقع إلا
في تغرير خادع من الشيطان بأن العذاب غير نازل بهم. والآية ردّ على الكافرين
الممتنعين من الإيمان ، والمعتمدين خطأ على وجود قوة من جهة الإخوان والأعوان.
ـ وقل لهم أيضا :
من هؤلاء الذين يرزقونكم إن منع الله رزقه عنكم؟ لا أحد
__________________
يعطي ويمنع غير
الله ، ولا أحد يرزق أو ينصر إلا الله عزوجل. بل إنهم في الواقع تمادوا في غيّهم وعنادهم واستكبارهم ،
ونفروا أو ابتعدوا عن الحق ، وساروا في طغيانهم الفكري وممارساتهم الضّالّة ، ولم
يتّعظوا ولم يتفكّروا في الحقيقة. والآية واضحة الدلالة على أنه لا ناصر ينصر من
عذاب الله ، ولا رزاق يرزق غير الله ، إن حجب رزقه عن مخلوقاته.
والفرق واضح بين
المؤمن والكافر : أرأيتم معشر الناس حال المؤمن والكافر؟! الكافر يمشي متعثّرا في
كل وقت ، ساقطا على وجهه من حين لآخر ، لا يدري مسلكه وكيفية ذهابه ، بل هو تائه
حائر ضالّ. أهذا أهدى إلى الطريق القويم ، أم ذلك المؤمن الذي هو كمن يسير معتمدا
على ذاته ، معتدلا في مشيته ، ناظرا أمامه ، على طريق مستو ، لا عوج فيه ولا
انحراف؟ فهو في نفسه مستقيم ، وطريقه مستقيمة ، سواء في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس وابن
الكلبي وغيرهما : نزلت هذه الآية مثلا لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ولأبي جهل بن هشام. وهي إما إخبار بأحوال الفريقين في
الدنيا أو في الآخرة.
وهذا برهان آخر :
برهان الرزق بعد تمكين الطير من التحليق ، على قدرة الله ، وبرهان ثالث : قل :
أيها الرسول لهؤلاء المشركين : إن الله ربّكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم
تكونوا شيئا مذكورا ، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ ، وحاسة البصر للنظر في
بدائع خلق الله ، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات الله وإدراك حقائق
الأشياء ، ولكن قليلا ما تستعملون هذه الطاقات التي أنعم الله بها عليكم ، وقليلا
ما تشكرونه بصرف تلك النّعم إلى ما أوجدت لأجله في الخير ، والبعد عن التّورّط في
الشرّ ، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة الله ، فأنتم ما شكرتم نعمته
مطلقا. وإنما خصّت بالذكر مواهب السمع والبصر والفؤاد ،
لأنها أداة العلم
والمعرفة. وقوله تعالى : (قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) إما تعبير عن قلّة الشكر ، أو إرادة نفي الشكر جملة.
وبرهان رابع على
كمال قدرة الله ، قل أيها النّبي أيضا للمشركين : إن الله هو الذي خلقكم ووزعكم في
الأرض على جهة التكاثر ، مع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم ، ثم إليه تجمعون بعد
هذا التفرق والتّشتت ، فهو يجمعكم كما فرّقكم ، ويعيدكم كما بدأكم ، للحساب
والجزاء. فالحشر المشار إليه في الآية : هو بعث القيامة.
إن أدلة إثبات
القدرة الإلهية كثيرة ، ذكر منها في هذه الآيات ثلاثة ، وفي الآية السابقة عليها
ذكر دليل آخر ، فتكون الأدلة الأربعة : تمكين الطيور من التحليق في أجواء السماء ،
ومثلها وعلى نسقها اختراع الطائرات ، وإمداد المخلوقات بالرزق من عند الله ، دون
غيره ، وإيجاد المخلوقات ، ومن أخصّها الإنسان ، وتزويده بطاقات السمع والبصر
والعقل ، التي هي مفاتيح المعرفة والعلم والإبداع ، وضمان تكاثر النوع الإنساني
الموزع في أنحاء الأرض ، مع اختلاف الألوان والأشكال ، والألسنة واللغات ، والعروق
والأجناس ، وكل قوم راضون بأوطانهم وديارهم ، ومتمسكون بأراضيهم للحفاظ على وجودهم
، ثم يجمعون يوم القيامة إلى الله في المحشر ، لإقامة صرح العدالة ، وإنصاف
المظلومين من الظالمين ، والمحسنين من المقصّرين أو المسيئين.
العالم بالقيامة وتهديد المنكرين لها
يوم القيامة أو
البعث حق ثابت قطعا ، لا شكّ فيه ، ولكن العلم به وبوقته مختصّ بالله تعالى ،
ومهمة النّبي صلىاللهعليهوسلم مجرد الإخبار والإنذار ، وفي ذلك اليوم الرهيب يصطدم
الكافرون بأهواله. وتمنّي الكافرين هلاك النّبي صلىاللهعليهوسلم أمل خادع لا فائدة فيه ، ولا يبدل
من جزائهم شيئا ،
فالعذاب لاحق بهم ، ولا ينجيهم إلا الإيمان بالله وحده لا شريك له ، ومع هذا
الموقف الرافض منهم للإيمان ينعم الله على المخلوقات بلا حساب ، ومن نعمه العظمى :
رفد الناس بالماء سبب الحياة ، كما جاء في الآيات الآتية :
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ
اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ
يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ
وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))
[الملك : ٦٧ / ٢٥
ـ ٣٠].
هذا إخبار عن
مقالة الكفار الذين يستعجلون أمر القيامة ، ويطالبون بالخبر الصادق بها ، إن
المشركين يقولون تهكّما واستهزاء وتحديا : متى يقع يا محمد ما تعدنا به من القيامة
والحشر والعذاب والنار في الآخرة ، والخسف ومجيء الريح الشديدة ذات الحصباء ، أي
الحصى والحجارة في الدنيا ، إن كنتم يا محمد ومن آمن معك صادقين فيما تدعونه؟
فأخبرونا به ، وبيّنوه لنا. إنهم يطالبون بتعيين وقت الحشر والعذاب الأخروي ، أو
الدنيوي ، ولكنهم في هذا مخطئون الطلب ، لأن العلم بتوقيت العذاب محصور بالله
تعالى. فأجبهم وقل لهم أيها النّبي : إنما علم الساعة ووقتها ووقت العذاب بالتحديد
مقصور على الله عزوجل ، وإنما أنا مجرد رسول منذر مخوف لكم تخويفا واضحا. فلما
رأوا العذاب الموعود به قريبا في الدنيا ، وقامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا
أن الأمر كان قريبا ، اسودّت وجوههم ، وعلتها الكآبة والحزن ، وغشيتها المذلّة
والهوان ، وقالت لهم ملائكة العذاب خزنة النار ، على
__________________
وجه التقريع
والتوبيخ : هذا هو الذي كنتم في الدنيا تطلبونه ، وتستعجلون به استهزاء ، وهذا هو
جوابكم لرسولكم : (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف : ٤٦ /
٢٢].
ثم إن أولئك
المشركين تمنّوا موت الرسول صلىاللهعليهوسلم ، روي أن كفار مكّة ، كانوا يدعون على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فنزلت الآية الكريمة : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ
اللهُ وَمَنْ مَعِيَ ..)
وهذا هو الأمر
الثاني الذي حكاه الله عن الكفار المشركين بعد تخويفهم بعذاب الله ، إنهم طالبوا
أولا بتعيين تاريخ القيامة ، ثم دعوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأجابهم الله تعالى من وجهين :
أولا : قل يا محمد
لهؤلاء المشركين بالله ربّهم ، الجاحدين نعمه : أخبروني عن أي فائدة أو نفع لكم ،
أو راحة فيما إذا أهلكني الله بالإماتة ، أو رحمني بتأخير الأجل ، أنا ومن معي من
المؤمنين ، فلو فرض أنه وقع بنا ذلك ، فلا ينجي الكافرين أحد من عذاب الله ، سواء
أمات الله رسوله ومن آمن معه ، أو أمهلهم ، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط.
ثانيا : قل لهم :
إن الذي نجانا نحن هو الإيمان بالله الرحمن ، والتوكّل عليه فقط ، والتوكّل :
تفويض الأمر كله لله عزوجل.
وأما أنتم إذا
بقيتم على ما أنتم عليه من الكفر والضلال ، فستعلمون غدا ، وستدركون من الذي كان
في خطأ كبير واضح ، منا أو منكم ، وستعرفون لمن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة.
وفي هذا تعريض بالكفار أنهم يتّكلون على الرجال والأموال.
والدليل الواضح
على وجوب التوكّل على الله لا على غيره : أنه هو مصدر جميع
النّعم ، ومنها
نعمة الإمداد بالماء ، قل لهم يا محمد : أخبروني إن صار ماؤكم المتدفّق في الآبار
والأنهار والعيون غائرا ذاهبا في أعماق الأرض ، بحيث لا يناله أحد ، فمن الذي
يأتيكم بماء كثير جار غير منقطع؟! إنه لا يأتيكم به أحد ، إلا الله تعالى ، بإنزال
المطر والثلج وإجراء الأنهار ، والمقصود بالآية : أن يجعلهم القرآن مقرّين ببعض
نعم الله ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر والضلال. فإذا أقرّوا بذلك ، والإقرار
نابع من الواقع ، ولا بدّ من أن يقولوا : هو الله ، فيقال لهم حينئذ : فلم تجعلون
من لا يقدر على شيء أصلا شريكا لله في العبودية والعبادة؟! والآية دليل على وجوب
الاعتماد على الله تعالى في كل حاجة ، وذلك من فضل الله ومن مظاهر قدرته
ووحدانيته.
تفسير سورة القلم (ن)
النّبي صلىاللهعليهوسلم المثل الأعلى في الأخلاق
يتميّز الأنبياء
عادة بالاتّصاف بأكرم الصفات وأسمى الآداب والأخلاق ، لينشروا دين الله ودعوة
التوحيد في الأرض ، ويتحمّلوا صنوف المواجهة والمعارضة ، ويحلموا على الناس
ويتوسّعوا فيهم ، ونبيّنا صلىاللهعليهوسلم هو في قمة الخلق
والأدب ، وصفوة الناس في مكارم الأخلاق والآداب ، لأنه خاتم النّبيين ، والرسول
إلى الناس كافة وإلى العرب خاصة ، وسمة هؤلاء : القسوة والجفاء ، والشدة والغلظة ،
والنجاح في الدعوة إلى الله يتطلب إلانة القلوب القاسية ، وإزالة جفاء النفوس ،
لذا وصف الله تعالى نبيّه محمدا صلىاللهعليهوسلم بالخلق العظيم ، كما يبدو في الآيات الآتية في مطلع سورة
القلم أو ن المكّية على الصحيح :
(ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ
لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ
وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ
وَبَنِينَ (١٤) إِذا
__________________
تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ (١٦))
[القلم : ٦٨ / ١ ـ
١٦].
ن أو نون : حرف
مقطّع في قول جمهور المفسّرين للتنبيه لخطورة وأهمية ما بعدها ، وتنبيه المشركين
وتحدّيهم بأن القرآن الذي أعجزكم مكوّن من حروف هجائية هي مادة تكوين لغتكم
العربية ، التي تنطقون بها ، ثم مع هذا عجزتم عن الإتيان بمثله أو مثل سورة منه.
ثم أقسم الله تعالى بالقلم وبما يكتب به ، أي أقسم بالقلم أداة الكتابة وبالمكتوب
به. لست يا محمد بسبب نعمة النّبوة بمجنون ، كما يزعمون ، وإنما أنت ذو مكانة
عالية وعقل رشيد وفكر سديد.
أخرج ابن المنذر
عن ابن جريج قال : كانوا يقولون للنّبي صلىاللهعليهوسلم : إنه مجنون ، ثم شيطان ، فنزلت : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ) (٢).
وهو جواب القسم ،
أي إنك بسبب نعمة ربّك ـ وهي جملة اعتراضية ـ لست مجنونا. والجنون : ستر العقل ، بمعنى
أن كلامه خطأ ككلام المجنون ، فنفى الله تعالى ذلك عنه.
ومطلع السورة حيث
أقسم بالقلم ، وأثره : إشادة بالكتابة التي هي قوام العلوم والمعارف وأمور الدنيا
والآخرة ، فإن القلم أخو اللسان ، وطريق الفطنة ، ونعمة عامّة من الله تعالى.
ـ وإن لك أيها
النّبي لثوابا عظيما على ما تحمّلت من مهامّ النّبوة ، وذلك الثواب غير مقطوع ،
وإنما هو مستمر.
وإنك لصاحب الخلق
العظيم الذي أمرك الله به في القرآن ، لما تحملت من قومك ، ما لم يتحمله أمثالك.
وجمّاع هذا الخلق يتمثل في قوله الله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) [الأعراف :
٧ / ١٩٩].
__________________
ثم هدّد الله
المشركين وتوعّدهم بقوله : (فَسَتُبْصِرُ ..) أي ستعلم أيها النّبي ، وسيعلم يوم القيامة المشركون الذين
كذّبوك في الدنيا ، من المفتون المجنون الضّال ، أي في أي فريق منّا أو منكم النوع
المفتون؟ ثم أكّد الله تعالى وعيده ووعده بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ ..) أي إن الله يعلم من هو في الحقيقة الضّال ، أنت أم من
اتّهمك بالضلال ، ومن هو المهتدي من الفريقين ، منكم ومنّا؟! والمعنى : بل هم
الضّالون ، لمعارضتهم ما فيه نفعهم العاجل والآجل.
ثم أوضح الله
تعالى ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة ، مما يقتضي التشدّد معهم ، فداوم أيها
النّبي على مخالفة الكفار المكذّبين لرسالتك ، وتشدد في ذلك.
لقد تمنّوا لو
تلين لهم ، فيلينون لك ، بأن تركن إلى آلهتهم ، ولا تهاجمها ، فيقرّون بعبادة
إلهك. ثم خصص الله تعالى الوليد بن المغيرة أو غيره بالتحذير من طاعته ، لاتّصافه
بالصفات المذمومة ، والمشهور أنه الوليد ، وقيل : إنه الأخنس بن شريق أو أبو جهل
أو الأسود بن عبد يغوث. وظاهر اللفظة : عموم من بهذه الصفة ، والمخاطبة بهذا
المعنى مستمرة باقي الزمان ، لا سيما لولاة الأمور. وهذه الصفات :
ـ إياك أيها النبي
إطاعة كل شخص كثير الحلف بالباطل ، حقير الرأي والفكر.
وهو أيضا عيّاب
طعّان ، يذكر الناس بالشرّ في وجوههم ، ويمشي بالنميمة والسّعاية بالفساد بين
الناس. روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة : «لا يدخل الجنّة قتّات» أي نمام.
ـ وهو منّاع للخير
، أي بخيل ، يمنع الخير عن الناس من الإيمان والعمل الصالح.
ظالم متجاوز الحق
وحدود الله من أمر ونهي ، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين ،
وكان يقول لهم ولأمثالهم : لئن تبع دين محمد منكم أحد ، لا أنفعه بشيء أبدا ،
فمنعهم الإسلام وهو الخير الذي منعهم إياه.
ـ وهو عدا ما ذكر
غليظ جاف الطبع ، شديد الخلق ، دعيّ في قريش ، ملصق بالقوم ، وليس هو منهم. قال
قرة الهمداني : إنما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة ، وبواعث كفره وكبره :
ـ أيكفر بالله
تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، لأن الله أنعم عليه بالأموال والبنين؟ حيث جعل جزاء
النعم الكفر والجحود؟ فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة
النعمة بالكفر بآيات الله والإعراض عنها.
ـ وإذا تليت عليه
آيات القرآن ، زعم أنها كذب من أكاذيب وقصص الماضين ، وليس هو من عند الله تعالى.
لكن عقابه في الدنيا أو الآخرة أننا سنجعل له على أنفه وسما بالسواد ، وبالفعل
فإنه قاتل يوم بدر ، فخطم بالسيف في القتال.
وقوله : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) (١٤) العامل في (أن)
فعل مضمر ، تقديره : كفر أو جحد.
قصة أصحاب الجنّة
ينعم الله تعالى
على بعض العباد بالثروة أو المال الوفير ، ليعرف هل المنعم عليه شاكر لربّه في
طاعة الله وشكر نعمة الله ، فيزيده من النعمة ، أو يكفر بها فيقطعها عنه. وهذا مثل
عظيم لأهل مكة وعتاة الكفار وأصحاب الثراء ، وهو مثل أصحاب الجنة ذات الثمار
والحبوب ، طلب منهم أن يشكروا نعمة الله ، ويؤدّوا الفقراء حقوقهم ، فجحدوا النعمة
وحرموا المساكين حظّهم ، فحرمهم الله الثمار كلها. روي أنّ واحدا من ثقيف ، وكان
مسلما ، كان يملك ضيعة ، فيها نخل وزرع بقرب صنعاء ، وكان يجعل من ناتجها عند
الحصاد نصيبا وافرا للفقراء ، فلما مات ، ورثها منه بنوه ،
ثم قالوا : عيالنا
كثير ، والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين ، مثلما كان يفعل أبونا ، فأحرق
الله جنتهم ، كما يبدو في هذه الآيات :
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ
كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ
مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى
حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا
وَهُمْ
يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا
الْيَوْمَ
عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ
قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ
(٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا
أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ
الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))
[القلم : ٦٨ / ١٧
ـ ٣٣].
إنا اختبرنا أهل
مكة بالجوع والقحط ، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف. وخبرهم عند قريش ، حين
حلفوا أنهم سيقطعون ثمر البستان عند الصباح ، حتى لا يعلم بهم الفقراء ، فيأخذون
ما كانوا يأخذونه ، طمعا في اقتناء كامل الغلّة والزرع. والقصد من الاختبار :
معرفة حالهم ، أيشكرون نعم الله عليهم ، فيؤمنوا برسول الله المرسل إليهم بشيرا
ونذيرا ، أم يكذّبونه ويجحدون برسالته ، وينكرون حقّ الله عليهم؟ ولا يقولون : إن
شاء الله ، أو لا يستثنون نصيب المساكين.
فطاف على تلك
الجنة (البستان) من عند الله نار أحرقتها ، أي أصابتها آفة
__________________
سماوية ، حتى صارت
سوداء كالليل المظلم. والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل. والصّريم : الرّماد
الأسود ، بلغة جذيمة.
ولكنهم لم يقدّروا
العواقب ، وصمموا على ما أرادوا ، فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح ، ليذهبوا إلى
الجذاذ ، أي القطع : أن اخرجوا مبكّرين في الصباح إلى الثمار والزروع ، إن كنتم
قاصدين للصّرام أي القطع.
ـ فبادروا مسرعين
إلى حقلهم ، وهم يتناجون سرّا ويقول بعضهم لبعض : لا تمكّنوا اليوم فقيرا واحدا
يدخل عليكم. و (يتخافتون) يتكلمون كلاما خفيّا.
ـ وذهبوا في
الغداة مبكّرين ، زاعمين أنهم قادرون على الصّرام (القطع) ومنع المساكين وحرمانهم.
وقوله : (عَلى حَرْدٍ) أي ظنّوا أنهم قادرون على منع المساكين.
ـ فلما وصلوا إلى
جنّتهم وشاهدوها وهي على هذه الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد ، قال بعضهم لبعض
: قد أخطأنا الطريق ـ طريق بستاننا ، وليس هذا.
ـ ثم لما تأمّلوا
وعلموا أنها جنّتهم (بستانهم) وأن الله تعالى عاقبهم بإبادة ما فيها ، قالوا : بل
نحن في الحقيقة محرومون من ثمر جنّتنا ، لعزمنا على منع المساكين حقوقهم.
ـ قال أعقلهم
وأحسنهم رأيا : هل تنزهون الله عن كل عيب أو نقص ، وتذكرونه وتشكرونه على ما أنعم
به عليكم ، وتستغفرون الله من فعلكم ، وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها؟
فاعترفوا بذنبهم ،
وقالوا : تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع ببستاننا ، فإنا كنا ظالمين أنفسنا
في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع.
ثم لام بعضهم بعضا
على ما كانوا أصرّوا عليه من منع المساكين من حقّ الجذاذ ، أي القطاف ، ولم يجدوا
أمامهم إلا الاعتراف بالخطإ والذنب. قالوا : يا هلاكنا أقبل ، فإنا كنّا معتدين
متجاوزين الحدّ ، حتى أصابنا ما أصابنا.
ثم دعوا ربّهم أن
يعوّضهم خيرا عما حلّ بهم قائلين : لعل الله ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنّتنا
، فإنّا متضرّعون متّجهون إليه ، راجون العفو والخير منه.
ثم هناك ابتداء
مخاطبة للنّبي صلىاللهعليهوسلم في أمر قريش في قوله تعالى : (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل ذلك العذاب الذي نزل بالجنّة : العذاب الذي ينزل
بقريش بغتة ، وهو عذاب كل من خالف أمر الله ، وعذاب الآخرة أشد وأعظم من عذاب
الدنيا ، فلو كان المشركون يعلمون ذلك ، لعادوا إلى رشدهم ، وبادروا إلى الإيمان
برسالة النّبي محمد صلىاللهعليهوسلم. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم. قال كثير من المفسّرين :
العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة : هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين ، حتى
رأوا الدخان ، وأكلوا الجراد.
انتفاء المساواة بين الطائعين والعصاة
حذر القرآن الكريم
الكافرين من عذاب الدنيا والآخرة ، ووعد الله المتقين بجنات النعيم ، والجزاء حق
وعدل للفريقين ، ولا يعقل بل ولا تقرّ العدالة التساوي بين طائع وعاص ، ومؤمن
ومجرم ، وكيف يحكم عاقل بالمساواة بينهما ، من غير منطق ، ولا كتاب إلهي ، ولا وعد
من الله تعالى ، ولا من الشركاء المزعومين الذين لا وجود لهم ، وهذا ما قررته
الآيات الآتية :
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ
فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ
أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما
تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ
__________________
كانُوا
صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا
يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))
[القلم : ٦٨ / ٣٤
ـ ٤٣].
أخبر الله تعالى
أن المتقين لهم عند ربّهم جنات النعيم ، فروي أنه لما نزلت هذه الآية ، قالت قريش
: إن كان ثمّ جنات نعيم ، فلنا فيها أكبر الحظ ، فنزلت آية : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ) (٣٥). وهذا على
جهة الاطلاع والتوبيخ.
والمعنى : إن لكل
من اتّقى الله وأطاعه ، في الآخرة ، جنات فيها النعيم الخالص الذي لا يزول ولا
ينقضي. وحينما زعم المشركون المكّيون أن لهم الأفضلية في الآخرة ، لأفضليتهم في
الثروة والنفوذ ، أو على الأقل المساواة مع المسلمين ، أجابهم الله تعالى بقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ ..).
أي كيف يعقل أن
نسوّي بين الفريقين في الجزاء ، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم لا يبالي
بمعصيته؟ كلا ، فلا مساواة بين المطيع والعاصي.
ثم نفى الله تعالى
وجود أي دليل عقلي أو نقلي على هذا الزعم فيما يلي :
ـ كيف تظنون ذلك ،
وكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج ، كأن قانون الجزاء مفوض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل
وصحة الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم ، وهذا نفي للدليل العقلي على المساواة.
أم (بل وألف
الاستفهام) أي بل ألكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه ، يتضمن
حكما مؤكدا كما تدّعون؟ ومفاد الحكم التسوية بين المطيع والعاصي ، وهل في ذلك
الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.
__________________
ـ بل ألكم من الله
عهد موثق ، وأيمان مغلظة مؤكدة ، قائمة إلى يوم القيامة ، في أن الله تعالى يدخلكم
الجنة ، ويحقّق لكم رغائبكم كما تريدون وتشتهون؟ وأن لكم إنفاذ الحكم الذي تصدرونه؟
كأنه تعالى يقول : هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأن ننعّمكم يوم القيامة وما
بعده؟
اطلب منهم يا محمد
موبّخا ومقرّعا وقل لهم : من المتضمن المتكفل بهذا ، أو أيهم كفيل لهم بذلك ، بأن
لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟!
ـ بل ألهم شركاء
لله بزعمهم كالأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟ فإن
كان لهم شركاء ، فليأتوا بهم لمناصرتهم ، إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي
التقليد وإبطال اعتقاد المشركين.
ثم تحدّاهم الله
بالإتيان بالشركاء يوم القيامة حيث يشتدّ الأمر ، وذلك وقت أن يكشف عن الساق ، أي
يوم اشتداد الأمر ، وعظم الخطب في القيامة ، وحين يدعى هؤلاء المشركون وأنصارهم من
الكفار والمنافقين ، إلى السجود ، توبيخا لهم على تركه في الدنيا ، فلا يتمكنون من
السجود ، لأن ظهورهم تيبس ، وتصبح شيئا واحدا ، فلا تلين للسجود. قال مجاهد في
قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ) هي أول ساعة من القيامة ، وهي أفظعها.
وتكون أبصارهم
خاشعة ذليلة منكسرة ، تعمّهم الذّلة الشديدة ، والحسرة والندامة ، وقد كانوا في
الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى ، فامتنعوا وتمرّدوا ، وكانوا سالمين
أصحاء ، متمكنين من الفعل ، ولا يوجد مانع يمنعهم من السجود. قال النخعي والشعبي :
المراد بالسجود : الصلوات المفروضة. والواقع أنهم لا يدعون إلى السجود تعبّدا ، وإنما
توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا. وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا
، مع صحتهم وسلامتهم ، عوقبوا بنقيض ما كانوا
عليه ، بعد قدرتهم
عليه ، ولا يستطيع أحد أن يسجد ، لصيرورة ظهره كتلة واحدة أو طبقة واحدة. وقوله
تعالى : (وَقَدْ كانُوا
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يريد في دار الدنيا ، وهم سالمون مما نال عظام صدورهم من
الاتصال والعتوّ.
التخويف من قدرة الله تعالى
تخويف للكافرين في
القرآن بعد تخويف ، لقد خوّفهم الله تعالى بأهوال القيامة وشدائدها ، ثم خوّفهم
وهدّدهم أيضا بما في قدرته من القهر ، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن
الكريم. ثم أمر الله تعالى نبيّه بالصبر ، وترك الضجر في أمر التبليغ خلافا لما
فعل يونس عليهالسلام. وليس للنّبي أن يأبه بجسد قومه له ، بعد أن صبّره وقوى
معنوياته ، وأن الشرف العظيم له ، حين جعل القرآن المنزل عليه عظة للجن والإنس
جميعا. وهذا مفاد الآيات الآتية :
(فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ
مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
(٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ
مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ
بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
(٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا
سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))
[القلم : ٦٨ / ٤٤
ـ ٥٢].
هذا وعيد وتهديد
من الله تعالى ، مفاده : دعني وإياهم ، واترك أمر أولئك
__________________
المكذبين بالقرآن
الكريم ، فإني أنا أكفيك أمرهم ، وأعلم كيف أجازيهم ، فإنا سنأخذهم بالعذاب على
غفلة ، بعد سوقهم إليه درجة فدرجة ، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك
استدراج ، لأنهم يظنونه إنعاما ، وهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج.
والاستدراج :
يستعمل في الشرّ ، ويراد به : النزول بالشخص درجة درجة إلى حيث تريد ، لتوريطه فيه
، والمراد : إدناؤهم من العذاب تدريجا بالإمهال وإدامة الصحة ، وزيادة النعمة. أخرج
البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه ، عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ
الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١١ / ١٠٢].
وأمهلهم وأؤخرهم
ليزدادوا إثما ، ويتورّطوا ، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد ، فلا يفوتني
شيء لكل من خالف أمري ، وكذّب رسلي. وسمي الجزاء كيدا ، لكونه في صورة الجرم.
فالمراد بالكيد هنا العقوبة : التي تحلّ بالكفار من حيث هي على كيد منهم ، فسمّى
العقوبة باسم الذنب. و (المتين) القوي الذي له متانة.
ثم أخبر الله
تعالى عن إزالة أي مانع يمنع المشركين من قبول الإسلام ، فقال : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) و (أم) هي التي
تتضمن الإضراب عن الكلام الأول ، لا على جهة الرفض له ، لكن على جهة الترك ،
والإقبال على ما سواه.
والمراد : بل أتطلب
يا محمد منهم أجرة على الإرشاد والهداية وتبليغ الرسالة إليهم ، فهم من الغرامة
المالية مثقلون بأدائها ، لشحّهم ببذل المال. الحقيقة أنك أيها النبي تدعو إلى
توحيد الله تعالى بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك عند الله
تعالى ، وهم مع
ذلك يكذبونك في دعوتك. وهذا توبيخ للكفار ، لأنه لو سألهم أجرا ، فأثقلهم عدم ذلك
، لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وفرارهم.
بل أعندهم علم
الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون ، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك؟!
وبعد هذا التفنيد
لمواقف الكفار وشبهاتهم ، أمر الله رسوله بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته ،
فاصبر يا محمد على قضاء ربّك وحكمه فيك ، وفي هؤلاء المشركين ، وعلى أذى قومك
وتكذيبهم إياك ، ولا تكن ضجرا متعجلا مغاضبا مثل يونس عليهالسلام ، حين ترك قومه ، وركب البحر ، والتقمه الحوت ، ثم ندم على
ما فعل ، فألقاه الحوت على الشاطئ. أي لا تتصف بصفات يونس من الضجر والمغاضبة ،
فتبتلى ببلائه.
ولو لا أن تداركه
من ربّه رحمة ونعمة ، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه ، فتاب الله عليه ، لألقي من بطن
الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات ، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه ، مطرود من
الرحمة والكرامة. فاصطفاه ربّه واختاره للنبوة ، وأتم عليه رسالته ، حين أعاده
لقومه البالغين مائة ألف أو أكثر ، فآمنوا جميعا.
ثم حذّر الله
تعالى نبيّه من عداوة المشركين ، وترك المبالاة بحسدهم ، فإنهم ، أي الكفار يكادون
يجعلونك بأبصارهم تزلق ، وتهلك ، لما سمعوا القرآن ، وقولهم عنك : إنك مجنون ،
تنفيرا عنك ، وتحييرا في شأنك ، والمعنى : أنهم وصفوه بالجنون لأجل القرآن. وما
القرآن في الواقع إلا خير وبركة ، وموعظة وتذكير للجن والإنس ، فلا يتحمله إلا من
كان أهلا له من العقلاء. قال الحسن البصري : دواء الإصابة بالعين : أن يقرأ هذه
الآية (وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ..) الآية.
تفسير سورة الحاقّة
التخويف بيوم القيامة وجزاء المكذبين بها
القيامة أو
الحاقّة أعظم وأخطر بكثير مما نتصور ، وحينما كذبت أقوام بها كثمود وعاد وفرعون
وقومه وقرى قوم لوط ، دمّرهم الله تدميرا شديدا ، جعل عبرة بالغة للأجيال الآتية
من بعدهم. وهذا ما تحكيه لنا سورة الحاقّة المكّية بالإجماع ، التي سمعها عمر رضي
الله عنه من النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال في أوائلها في نفسه : إنه لشاعر ، كما تقول قريش ،
حتى بلغ إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١)
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٣)) ثم مرّ حتى انتهى إلى آخر السورة فأدخل الله تعالى في قلبي
الإسلام. وهذا مطلع هذه السورة : (الْحَاقَّةُ (١) مَا
الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ
بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا
عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
__________________
فَعَصَوْا
رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً
وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))
[الحاقّة : ٦٩ / ١
ـ ١٢]
البعث والقيامة ،
وما أدراك ما القيامة ، وهي التي يتحقق فيها الوعد والوعيد ، وسميت بالحاقّة لأن
أمور الحساب مثبتة فيها ، وحقّقت لكل عامل عمله ، ومتحققة الوقوع من غير شك ولا
ريب. وكلمة (الحاقّة) اسم فاعل من (حق الشيء يحق) إذا كان صحيح الوجود. وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) مبالغة في
أهوالها وصفاتها.
ونوع العقاب ببعض
الأمم السابقة التي كذبت بيوم القيامة ، تخويفا لأهل مكة وغيرهم : هو :
كذبت قبيلة ثمود
قوم صالح وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة التي هي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها.
فأما جماعة ثمود فأهلكوا هلاكا تامّا بالطاغية : وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة
التي جاوزت الحدّ في الشدة. قال قتادة : الطاغية : معناه الصيحة التي خرجت عن حدّ
كل صيحة. وهذا أولى الأقوال وأصوبها.
وأما قبيلة عاد
قوم هود ، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت والبرد ، قاسية شديدة الهبوب ،
جاوزت الحدّ ، لشدة هولها ، وطول زمنها وشدة بردها ، سلّطها الله عليهم طوال مدة
سبع ليال وثمانية أيام متتابعة ، لا تنقطع ولا تهدأ ، وكانت تقتلهم بالحجارة ،
تحسمهم حسوما ، أي تفنيهم وتذهبهم. فتشاهد إن حضرت أولئك القوم في ديارهم موتى
مصروعين على الأرض ، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية ، لم يبق الله منهم أحدا ، فهل
تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل
__________________
بادوا عن آخرهم ،
ولا خلف لهم. ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور».
وقوله : (مِنْ باقِيَةٍ) إما مبالغة كعلّامة ونسّابة ، والمعنى : من باق ، أو من
فئة باقية ، وإما مصدر ، أي من بقاء.
وأتى بالفعلة
الخاطئة الطاغية فرعون ومن تقدّمه من الأمم الكافرة ، وأهل المنقلبات (المؤتفكات)
قرى قوم لوط ، وخطؤهم : الشّرك والمعاصي الكبائر.
فعصت كل أمة من
هؤلاء رسولها المرسل إليها ، فأهلكهم الله ودمّرهم ، وأخذهم أخذة أليمة شديدة ،
زائدة على عقوبات سائر الأمم الأخرى. و (الرّابية) النامية التي قد عظمت جدا.
ثم عدد الله تعالى
نعمته على الناس في قصة الطوفان.
إننا لما تجاوز
الماء حدّه وارتفع بإذن الله ، وجاء الطوفان في زمن نوح عليهالسلام ، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم ، في السفينة
التي تجري في الماء ، لتتحقق لهم النجاة من الغرق ، ولنجعل نجاة المؤمنين ، وإغراق
الكافرين عبرة وعظة ، تستدلون بها على عظيم قدرة الله ، وبديع صنعه ، وشدة انتقامه
، ولتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت ووعت. فقوله تعالى : (لِنَجْعَلَها) و (وَتَعِيَها) عائد إلى الواقعة المعلومة ، وهي نجاة المؤمنين ، وإغراق
الكافرين ، أي : من تذكرها ازدجر.
أخرج ابن أبي حاتم
وابن جرير عن مكحول مرسلا قال : لما نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سألت ربّي أن يجعلها أذن عليّ» ، قال مكحول : فكان علي
يقول : ما سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا قط ، فنسيته.
هذا أنموذج من
أوصاف العقاب الأليم الذي أوقعه الله ببعض الأقوام الغابرة ، اتصفت بأقسى ألوان
الشدة في الدنيا ، لتكون درسا بليغا ، وعظة بالغة للأقوام
والأفراد
والجماعات إذا فعلوا مثل فعلهم ، سواء من أهل مكة المشركين في الماضي ، أو من أهل
الأقطار والبلاد الأخرى. وهذا اللون من العقاب أخفّ بكثير إذا قورن بألوان العذاب
الأخروي. والفرق بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فرق واضح ، الأول مؤقت ، ومقصور على
فئات خاصة ، والثاني دائم خالد لا يزول ، شامل كل من جحد بالله ومات على كفره.
هول القيامة وحال الأبرار فيها
للقيامة أهوال
وأحزان ، ومفاجات وكوارث ، تبدأ من نفخة الفزع التي ينفخها إسرافيل في الصور (وهو
القرن الذي ينفخ فيه) ومعها يكون الصعق ، ثم يعقبها نفخة البعث ، وبعد النفخة
الأولى تدكّ الأرض والجبال ، وتنشق السماء وتنتثر الكواكب والنجوم ، ثم يكون
الحساب للأبرار والفجّار ، أما الأبرار : فهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ،
ويهنأون في العيش الرغيد الخالد ، في جنات النعيم ، وأما الفجار : فهم الأشقياء
الذين يعطون كتبهم بشمائلهم أو من وراء ظهورهم ، ويعذّبون في الجحيم بسبب كفرهم
وإحجامهم عن الخير ، كما يتضح في الآيات الآتية :
(فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا
دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي
__________________
عِيشَةٍ
راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))
[الحاقّة : ٦٩ /
١٣ ـ ٢٤].
ذكّر الله تعالى
بأمر القيامة في هذه الآيات ، ومبدؤها حين ينفخ إسرافيل النفخة الأولى التي يكون
عندها خراب العالم ، وحدوث الفزع والصعق. ثم تكون نفخة البعث. وقيل : هي نفخات
ثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ثم نفخة البعث.
وبعد النفخة
الأولى ترفع الجبال من أماكنها بقدرة الله ، ويضرب بعضها ببعض ضربة واحدة ، وتصير
مع الأرض كتلة واحدة ، وترجع كثيبا مهيلا ، وتتبدد وتتغير. فحينئذ قامت القيامة ،
ووقعت النازلة. فقوله : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) معناه : قامت القيامة والطّامّة الكبرى.
وتصدّعت السماء ،
فتصير يومئذ ضعيفة مسترخية ، غير متماسكة الأجزاء ، وتتبدل هي والأرض تبدّلا
محسوسا واضحا ، ويبرز الناس للحساب بين يدي الله تعالى.
وتكون الملائكة
على جوانب السماء وحافاتها على أتم الاستعداد لتنفيذ ما يأمرهم الله به. ويحمل عرش
ربّك فوق رؤوس الملائكة الذين هم على الأرجاء (الجوانب) ثمانية أملاك. وقوله : (الْمَلَكُ) اسم جنس ، يريد به الملائكة. وضمير (أَرْجائِها) عائد على السماء ، أي الملائكة على نواحيها وجوانبها.
والعرش في اللغة : سرير الملك ، وهو أعظم مخلوقات الله تعالى ، نؤمن به ، ونفوض
الأمر في وصفه لله عزوجل.
في ذلك اليوم ،
يعرض العباد على الله تعالى لحسابهم ، فلا يخفى على الله من
__________________
ذواتكم وأقوالكم
وأفعالكم وأموركم خافية ، كائنة ما كانت ، فهو تعالى يعلم السرّ وأخفى. وهذا تهديد
ووعيد.
والناس بعد الحساب
فريقان : سعداء أبرار ، وأشقياء فجّار.
أما الأبرار : فهم
الذين يؤتون كتبهم التي كتبتها الحفظة عليهم من أعمالهم ، فيقول السعيد صاحب
اليمين لكل من لقيه : خذوا هذا الكتاب فاقرؤوا ما فيه ، لعلمه أنه صار من الناجين
، بعد أن كان خائفا مضطربا كشأن أهل المحشر كلهم ، كما قال تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسابِيَهْ) (٢٠) أي تيقّنت
وعلمت أني ألقى حسابي في هذا اليوم ، فيؤاخذني الله بسيئاتي ، ولكنه تعالى تفضّل
علي بالعفو ، ولم يؤاخذني بها. والآية عبارة عن إيمان هذا السعيد بالبعث وغيره.
فهو يقول : لقد علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة ، وأن هذا اليوم كائن
لا محالة. قال قتادة : ظنّ هذا ظنّا يقينيا فنفعه ، وقوم ظنوا ظن شك فشقوا به.
ومصير هذا السعيد
: أنه بعد تلقي كتابه بيمينه هو في عيشة مرضية أو ذات رضا ، خالية من المكدّرات ،
غير مكروهة ، في جنة مرتفعة المكان ، رفيعة القدر ، عالية المنازل ، مكانا وقدرا ،
دائمة السرور ، ثمارها قريبة التناول لكل أحد بحسب راحته ، يتناولها القائم
والقاعد والمضطجع. والقطوف : جمع قطف : وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف. ودنوها : هو
أنها تأتي طوع التّمني ، فيأكلها القائم والقاعد والمضطجع ، بفيه ، من شجرتها.
ويقال لهؤلاء
السعداء من الملائكة الأبرار : كلوا أيها المتّقون الأبرار في الجنّة من طيباتها
وثمارها ، واشربوا من أشربتها الهانئة ، أكلا وشربا هنيئا ، أي لا تكدير فيه ولا
تنغيص ، جزاء لما عملتم ، وبسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا. و (الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) هي أيام الدنيا ، لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت. و (أَسْلَفْتُمْ) قدمتم.
وهذا تفضّل من
الله تعالى عليهم ، وامتنان وإنعام وإحسان ، لما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اعملوا وسدّدوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا لن
يدخله عمله الجنّة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني
الله برحمة منه وفضل».
إن دخول الجنان
بفضل من الله ورحمة وإحسان ، أما تفاوت الناس الصالحين في درجات الجنّة ، فإنما هو
بحسب تفاضلهم في أعمالهم ، وهو ما صرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى : (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النّحل : ١٦ / ٣٢].
وهذا جمع موفّق بين الآيات والأحاديث النّبوية.
حال الفجّار في القيامة
يتميز أسلوب
القرآن الكريم بالموازنة أو المقارنة بين الأضداد والمتغايرات ، ليختار الإنسان
العاقل الواعي بحرّيته طريق الخير أو طريق الشرّ ، ويكون عمله هو سبب جزائه الحسن
أو السوء ، وقد ذكر الله تعالى في آيات سابقة حال الأبرار الأتقياء من نعيم الجنان
، ليستعد الإنسان للعمل بعملهم ، ثم أعقبه ببيان حال الأشقياء التعساء في نيران
الجحيم ، ليتجنّب المرء مسيرتهم وسلوكهم ، لأن الجزاء الواضح في الآخرة مرتبط بنوع
العمل ، فأهل الإيمان والعمل الصالح هم السعداء ، وأهل الكفر والجحود والمعاصي هم
الهالكون الخاسرون ، بسبب الإعراض عن الإيمان الصحيح بالله ورسالاته وعن أعمال
البر والخير ، كما يبدو في هذه الآيات :
(وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥)
وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها
كانَتِ
الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ
الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا
يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))
[الحاقّة : ٦٩ /
٢٥ ـ ٣٧].
المعنى : أما
الشّقي الذي أعطي كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، فيقول حزنا وكربا لما رأى من سوء
عمله وعقيدته : يا ليتني لم أعط كتابي. ولم أعلم شيئا عن حسابي ، لأن كله وبال علي
، ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت القاطعة نهاية الحياة ، ولم أبعث بعدها ،
أي ليتها لم يكن بعدها رجوع ولا حياة ، فهو يتمنى دوام الموت وعدم البعث ، لما شاهد
من سوء عمله ، وما يجابهه في الآخرة من العذاب. جمعت الآيات بين مقابلة العذاب
النفسي بتمنّي عدم تلقّي الكتاب ، وبين الشعور بالعذاب الجسدي ، حين تمنّي الموت ،
ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه ، كما قال قتادة.
ويضيف الكافر
قائلا : ما أفادني مالي شيئا ، ولم يدفع عني شيئا من عذاب الله تعالى ، وذهب منصبي
وجاهي وملكي وحجتي ، والسلطان : هو الحجة ، على الراجح ، فلم يدفع عني العذاب. قال
ابن عطية : والظاهر عندي أن سلطان كل أحد : هو حاله في الدنيا من عدد وعدد ، ومنه الحديث
: «لا يؤمنّ الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» .
هؤلاء الذين يؤتون
كتبهم بشمائلهم : هم المخلّدون في النار ، أهل الكفر ، فيتمنون
__________________
أن لو كانوا
معدومين لا يجري عليهم شيء ، حين لا يجدون شيئا ينفعهم في الآخرة من مال أو ولد أو
حجة مقبولة.
فيأمر الله زبانية
جهنم قائلا لهم : خذوه ، أي خذوا هذا الكافر الشّقي ، مكبّلا بالقيود والسلاسل
والأغلال ، بجمع يده إلى عنقه في الغلّ ، ثم أدخلوه الجحيم ليصلى حرّها ، ثم
أدخلوه في سلسلة (حلق منتظمة) طولها سبعون ذراعا تلفّ على جسمه ، لئلا يتحرّك. وقد
جعل الله تعالى في قرآنه السبع مائة ، والسبعين ، والسبعة ، مواقف ونهايات لأشياء
عظام ، فلذلك مشى العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات ، وهذه السلسلة من الأشياء
التي جعل الله تعالى فيها السبعين : نهاية.
وسبب وعيد هذا
الشّقي وعذابه : أنه كان لا يؤمن بالله العظيم ، أي كافرا جاحدا ، لا يصدق بالله
صاحب العظمة والسلطان ، ولا يحب الخير ولا يفعله ، ولا يحث على إطعام الفقير
والمسكين البائس ، فضلا عن أنه لا يبذل المال لمحتاج. أي لا يؤدي حقوق الله من
توحيده وعبادته ، وترك الشّرك به ، ولا يوفي بحقوق العباد من الإحسان والمعاونة
على البر والتقوى. وفي ذكر الحضّ دون الفعل تشنيع على صاحبه ، يفيد أن تارك الحض
كتارك الفعل. وهذا دليل على أن غير المؤمنين إطلاقا مطالبون بفروع أحكام الشريعة
الإسلامية ، من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها من شرائع المعاملات والأحوال الشخصية.
والعذاب متعين
لازم لهذا الشقي ، فليس له يوم القيامة قريب ينفعه ، أو صديق يشفع له ، أو منقذ
ينقذه من العذاب. والحميم : هو الصديق اللطيف المودة.
وأما وسائل بقاء
الحياة في النار لأهلها ، فتتجدد حياتهم كلما عذّبوا ، وليس لهم طعام يأكلونه إلا
أقبح الأشياء ، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار من صديد ودم وقيح ، إنها سموم
قاتلة في الباطن ، مع العذاب في الظاهر ، وهذا الطعام لا يتناوله إلا
الآثمون أصحاب
الخطايا والذنوب. والخاطئ : الذي يتعمد الإثم والخطأ وترك الصواب. والمخطئ : الذي
يفعله من غير تعمّد.
نفى الله تعالى في
هاتين الآيتين أن يكون للكافر في الآخرة من يواليه ، ونفى أن يكون له طعام إلا من
غسلين : ما يسيل من أجساد أهل النار ، وذلك غاية القبح.
القرآن تنزيل من الله وتذكرة
ختم الله تعالى
سورة الحاقّة بما يدلّ على تعظيم القرآن الكريم ، وكونه تنزيل ربّ العالمين ، على
قلب رسوله الأمين ، وأنه تذكرة للمتقين ، ولا قيمة لتكذيب المكذبين ، وسيبقى حق
اليقين الذي لا شك فيه ، ومصدر غصة وعذاب وحسرة على الكافرين ، وهو الكتاب المعجز
الدالّ على إخراس ألسنة المتقولين فيه ، قال مقاتل : سبب نزول الآيات أي التي يقسم
الله فيها على أن القرآن قول الله الذي يبلّغه رسول كريم : أن الوليد ابن المغيرة
قال : إن محمدا ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عقبة : كاهن ، فقال الله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ بِما
تُبْصِرُونَ) (٣٨) الآيات ، أي
أقسم. وهذه هي الآيات :
(فَلا أُقْسِمُ بِما
تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ
أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))
[الحاقّة : ٦٩ /
٣٨ ـ ٥٢].
__________________
فلا أقسم : لا إما
زائدة أي فأقسم ، أو ردّ لما تقدم من أقوال الكفار. والمعنى : أقسم أي أقسم لخلقي
بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي ، وما لا تشاهدون مما
غاب عنكم من المغيبات ، إن هذا القرآن هو كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو تلاوة وتبليغ رسول كريم : هو جبريل عليهالسلام ، أو محمد عليه الصّلاة والسّلام ، وعليه الأكثرون ، وأضيف
القول إليه ، لأنه هو الذي تلاه وبلّغه.
وليس القرآن بقول
شاعر كما تزعمون ، لأن محمدا صلىاللهعليهوسلم ليس بشاعر ، وليست آيات القرآن من أصناف الشعر ، وأنتم
تؤمنون أو تصدّقون تصديقا يسيرا ، حين تقولون عن الخالق : إنه الله.
وليس هو بقول كاهن
: وهو من يدّعي الغيب ومعرفة أسرار المستقبل ، كما تزعمون ، فإن القرآن سبّ
الشياطين ، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم ، ولكنكم تتذكرون تذكّروا قليلا ، فيلتبس
الأمر عليكم.
بل هو تنزيل من
الله ربّ الإنس والجنّ ، نزل به جبريل الرّوح الأمين على قلب الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم. ثم أكّد الله تعالى أن هذا النّبي صلىاللهعليهوسلم لا يستطيع أن يختلق القرآن ، فإنه لو افترى القرآن ، وجاء
به من عند نفسه ، ونسبه إلى الله تعالى ، على سبيل الفرض ، لأخذناه وأهلكناه
بالقوة ، ولنلنا عقابه بقوة منا ، واليمين : القوة كما قال ابن عباس رضي الله
عنهما. ثم لبترنا منه الوتين من قلبه ، وهو العرق أو الوريد المتصل من القلب
بالرأس ، إذا قطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأشنع وأشد ما يفعله الملوك بمن
يغضبون عليه.
فليس منكم أحد
يحجزنا ويمنعنا منه ، أو ينقذنا منه ، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟!
وقوله : (حاجِزِينَ) جمع روعي فيه المعنى ، لأن قوله :
(مِنْ أَحَدٍ) في معنى الجماعة ، يقع في النفي العام على الواحد والجمع ،
والمذكر والمؤنث ، والمراد : لا يمنعنا أحد عن الرسول أو عن القتل.
وأوصاف القرآن
الكريم : هي أنه عظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره ،
واجتناب نواهيه.
وإنا لنوقن ونجزم
أن بعضكم مكذبون بالقرآن ، كفرا وعنادا ، ونحن نجازيهم على ذلك ، وبعضكم مصدّقون
به ، لاهتدائه إلى الحق. وفي هذا وعيد شديد للمكذبين.
وإن هذا القرآن
سيكون حسرة وألما وندامة على الكافرين ، يوم القيامة ، من حيث إنهم كفروا به ،
ويرون من آمن به ينعّم ، وهم يعذّبون.
وإن القرآن هو
الخبر الصدق ، واليقين الحق الذي لا شك فيه ، لكونه من عند الله ، وليس من قول أحد
من البشر. وقوله : (لَحَقُّ الْيَقِينِ) في رأي الكوفيين : من إضافة الشيء إلى نفسه ، كدار الآخرة
، ومسجد الجامع. وفي رأي البصريين والحذّاق : أن الحقّ مضاف إلى الأبلغ من وجوهه ،
قال المبرد : إنما هو كقولك : عين اليقين ، ومحض اليقين.
ثم أمر الله تعالى
نبيّه بتسبيح الله باسمه العظيم ، أي نزّه الله تعالى الذي أنزل هذا القرآن العظيم
، عما لا يليق به ، بقولك : سبحان ربي العظيم. وفي ضمن ذلك : الاستمرار على تبليغ
رسالته.
روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لما نزلت هذه الآية : «اجعلوها في ركوعكم». واسم الرّب
: كل لفظ يدل على الذات الأقدس أو على صفة من صفاته ، كالله والرّحمن والرّحيم.
وتنزيه الاسم الخاص : تنزيه للذات ، فتكون الباء في قوله : (بِاسْمِ) زائدة.
تفسير سورة المعارج
التهديد بالعذاب الأخروي
المشركون قوم حمقى
، فإنهم طالبوا بإنزال العذاب في الدنيا ، واستعجال العذاب الأخروي تحدّيا
واستهزاء وعنادا ، على الرغم من إخبار القرآن بتعذيب من قبلهم ممن هو أشد منهم قوة
وجحودا وثراء وزعامة ، فجاءهم إنذار آخر من السماء يهددهم بعذاب واقع ، مع وصف
مرعب ليوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال وتغيرات غريبة تباين المألوف ، مما
يزيد في الخوف أو الذّعر ، وذلك في مطلع سورة المعارج المكّية بالإجماع في هذه
الآيات :
(سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي
الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ
كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ
حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي
تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ
إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧)
وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))
[المعارج : ٧٠ / ١
ـ ١٨].
__________________
أخرج النّسائي
وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) قال : هو النّضر بن الحارث ، قال : «اللهم إن كان هذا هو
الحقّ من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء».
دعا داع وطلب طالب
بإنزال عذاب واقعي ، كائن للكافرين ، نازل بهم ، لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد
إذا أراده الله تعالى. وقوله : (لِلْكافِرينَ) بمعنى : على الكافرين ، فاللام بمعنى على هنا ، أو كأن
قائلا قال : لمن هذا العذاب؟ فقيل : للكافرين. وسؤال العذاب من طالبه للاستهزاء
والتعنّت. والسائل كما تقدّم : هو النضر بن الحارث أو غيره.
والعذاب واقع من
جهة الله تعالى ، ذي المصاعد الذي تصعد إليه الكلمة الطيبة والعمل الصالح ، أو
تصعد فيها الملائكة ، وقال ابن عباس : المعارج : السماوات تعرج فيها الملائكة من
سماء إلى سماء. تصعد في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليهالسلام ، خصصه بالذّكر تشريفا ، في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة
من سنوات الدنيا ، لو أراد البشر الصعود إليها. وهذا بحسب مواقف القيامة ومواطنها
، فيها هذه المواطن ، وفيها خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة ، كما في آية أخرى : هي
(فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السّجدة : ٣٢ / ٥].
وهذا في حقّ الكافر ، أما في حقّ المؤمن فلا يجدون هذه المسافة لقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) [الفرقان :
٢٥ / ٢٤]. والمستقر والمقيل : هو الجنة.
ثم أمر الله نبيّه
بالصبر على مثل هذا السؤال ، فاصبر يا محمد صبرا جميلا ، ولا تأبه بسؤالهم العذاب
استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي ، واحلم على تكذيبهم لك.
إن المشركين يرون
يوم القيامة ووقوع العذاب فيه بعيدا أو مستحيل الوقوع ، والله يراه قريبا ، ويعلمه
كائنا ممكنا غير متعذر ، لأن كل ما هو آت قريب.
وأوصاف ذلك اليوم
يوم القيامة : أن السماء تصير كمائع الزيت أو المعادن المذابة ، وتكون الجبال
كالصوف المنفوش أو المندوف إذا طيّرته الريح ، ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو
حاله في ذلك اليوم ، وهو يراه في أسوأ الأحوال ، فتشغله نفسه عن غيره.
ويبصّر أو يرى كل
صديق صديقه ، ويعرّف به ، لا يخفى منهم أحد عن أحد ، دون أن يكلم بعضهم بعضا ،
ويتمنّى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحقّ به النار : أن يفتدي نفسه من عذاب يوم
القيامة الذي نزل به ، بأعزّ ما لديه ، من المال والبنين ، والزوجة ، والإخوة
والأخوات ، والعشيرة أو الرّهط والقرابة الأدنين ، كبني هاشم مع النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وكل من في الأرض جميعهم من الثّقلين : الإنس والجنّ
وغيرهما من الخلائق ، ثم ينجيه من هذا الفداء ، الذي تضمنه قوله : (لَوْ يَفْتَدِي) فهو كالمتقدم الذّكر. فالفاعل لقوله : (يُنْجِيهِ) هو الفداء ، أي لا نجاة.
ثم أكّد الله
تعالى رفض قبول الفداء بقوله : (كَلَّا) للردع والزجر ، فهي ردّ لقولهم وما ودّوه ، أي ليس الأمر
كذلك. فلا يقبل الفداء من المجرم ، إنها جهنم الشديدة الحرّ مأواه ، التي تنزع
اللحم عن العظم ، والأعضاء عن مفاصلها ، وجلدة الرأس عنه ، ثم يعود كما كان.
وتنادي جهنم الكفار وهم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا ، وتولى عنه ، وجمع
المال فجعله في وعاء ، فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير ، ومنع حق الله فيه ، من
الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة.
وقوله : (فَأَوْعى) أي جعله في الأوعية. وهذا إشارة إلى كفار أغبياء جعلوا جمع
المال جلّ همهم ومقصد حياتهم ، فجمعوه من غير حلّ ، ومنعوه من حقوق الله تعالى.
ودعاء جهنم لأهلها
إما حقيقة ، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، كما قال ابن
عباس وغيره. وقال
الخليل بن أحمد : هي عبارة عن حرصها عليهم ، واستدنائها لهم ، وما توقعه من
عذابها.
والواقع أن غضب
الله وسخطه يحيط بجهنم وأهلها ، وكل ما فيها وما حولها عذاب في عذاب ، وشقاء في
شقاء ، أعاذنا الله تعالى منها ومن الاقتراب من حرّها.
طبع الإنسان وعلاجه
على الرغم من
أهوال القيامة الموحية بأشد ألوان العذاب ، يجمح بالإنسان طبعه وميله إلى الشرّ ،
بسبب أوصاف الهلع والجزع والمنع التي تؤدي به إلى السوء ، لكن تعديل الغرائز
وترقية الطباع أمر متحمل. ويمكن ترويض هذه الأخلاق وعلاجها بالحكمة والمجاهدة ،
وفي ضوء تقدير المخاطر ، ومن أجل النجاة من المخاوف التي تحيط بالإنسان في آخرته.
والقرآن الكريم نبّه إلى طرق العلاج لطبيعة الإنسان بأسلوب معقول وواضح ، كما
يتبين من هذه الآيات :
(إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ
غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠)
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ
قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ (٣٥))
[المعارج : ٧٠ /
١٩ ـ ٣٥].
__________________
إن الإنسان (اسم
جنس يفيد العموم) مجبول على الضجر والهلع : وهو شدة الحرص ، وقلة الصبر ، فإذا
أصابه شرّ من فقر أو مرض مثلا ، فهو كثير الجزع ، أو الحزن ، والشكوى ، وإذا أصابه
خير من غنى أو منصب وجاه ، أو قوة وصحة ونحو ذلك ، فهو كثير المنع والبخل. والهلع
بعبارة أخرى : فزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع. أخرج الإمام
أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «شرّ ما في الرجل : شحّ هالع ، وجبن خالع».
ثم استثنى الله
تعالى من اتصف بصفات عشر وهي :
ـ هؤلاء الناس
يتّصفون بصفات الذّم ، إلا المصلّين الذين يؤدّون صلاتهم ، ويحافظون على أوقاتها
وواجباتها ، ويداومون عليها ، وهاتان الصفتان : أداء الصلاة والمواظبة عليها ،
تساعدان على التخلّص من صفات الهلع والجزع والمنع ، أي إن هذا المعنى يقل فيهم ،
لأنهم يجاهدون أنفسهم بالتقوى ، ويؤثرون الآخرة على الدنيا.
ـ والذين يكون في
أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين ، سواء سألوا الناس أو تعفّفوا ،
والسائل : الفقير الذي يتكفّف فيعطى ، والمحروم : الذين يتعفّف فيحرم. والحق
المعلوم : هو الزكاة المفروضة في رأي. وفي رأي آخر أصح هي في الحقوق التي سوى
الزكاة ، وهي ما ندبت الشريعة إليه من المواساة. وقد قال ابن عمر والثعلبي ومجاهد
وكثير من أهل العلم : إن في المال حقّا سوى الزكاة.
ـ والذين يوقنون
بوجود يوم القيامة يوم الحساب والجزاء ، لا يشكون فيه ولا يجحدونه ، فهم يعملون
عمل من يرجو الثواب ، ويخشى العقاب. وسمي يوم القيامة بيوم الدين ، لأنه يوم
المجازاة ، والدين : الجزاء.
ـ والذين هم
خائفون من عذاب الله ، إذا تركوا الواجبات ، واقترفوا المنكرات ، فيكون العذاب
واقعا بهم إلا بعفو من الله تعالى.
ـ والذين يكفّون
فروجهم عن الحرام ، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه ، وهو الزوجة وملك
اليمين الذي هو الإماء ، حين كان الرّق قائما ، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما
، فمن قصد المتعة بغير هذين السبيلين : الزواج والتمتع بملك اليمين ، فهم
المتجاوزون الحدود ، المعتدون الضارّون.
وقوله : (غَيْرُ مَلُومِينَ) معناه أنهم غير ملومين على أزواجهم وما ملكت أيمانهم. و (ابْتَغى) معناه : طلب ، وقوله : (وَراءَ ذلِكَ) معناه سوى ما ذكر.
ـ والذين يؤدّون
الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها ، ويوفون بالمعاهدات والاتفاقات والعقود
المبرمة ، ولا ينقضون البيع ولا شيئا من الشروط المتفق عليها. فإذا اؤتمنوا لم
يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا ، وإذا حدّثوا لم يكذبوا. وهذه صفات المؤمنين ،
وأضدادها صفات المنافقين. والأمانات : هي في الأموال والأسرار ، وفيما بين العبد
وربّه تعالى ، فيما أمره به ونهاه عنه. قال الحسن : الدّين كله أمانة. والعهد : كل
ما تقلّده الإنسان من قول أو فعل أو مودّة. أخرج البخاري في كتاب الأدب : «حسن
العهد من الإيمان». و (راعُونَ) جمع راع ، أي حافظ.
ـ والذين يؤدّون
الشهادة على الحقوق والمنازعات في محاكم القضاء بحق ، ويحافظون عليها دون زيادة
ولا نقصان ، ودون مجاملة لقريب أو بعيد ، أو رفيع أو ذي منصب وجاه ، ولا يكتمونها
ولا يغيرونها. ولا يكون أداء الشهادة في حقوق العباد إلا بعد طلب لأداء الشهادة ،
أما في حقوق الله تعالى كمنع منكر وقمع مخالفة فتؤدي حسبة من دون طلب.
ـ والذين يحافظون
على مواقيت الصلاة وأدائها بأركانها وواجباتها ومندوباتها ، لا يخلّون بشيء منها ،
ولا يتشاغلون بشاغل عنها ، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض معها ، فيبطل ثوابها ،
وتضيع ثمرتها. وذلك بالدخول فيها في حماس ورغبة بها ،
ويفرغون قلوبهم من
شواغل الدنيا ، ويفكرون فيما يتلون فيها من آيات القرآن ، أو يرددون من أذكار
التكبير والتسبيح والتحميد ، وتكون قلوبهم حاضرة مع الله تعالى ، ويتأملون في
معاني آيات الله تعالى.
أولئك الموصوفون
بالصفات السابقة ينعّمون بجنات الخلود ، ويكرمون بأنواع التكريم وألوان الملاذّ
والمسارّ.
والجزاء بهذه
الخاتمة الرائعة يحمل المتّصفين بهذه الصفات على التخلّص من أوصاف الهلع والجزع
والمنع.
تهديد المكذّبين بالرّسالة النّبوية
أسرع الكفار
المكذّبون بدعوة النّبي صلىاللهعليهوسلم إلى الاعتصام بالكفر ، وإلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام
والأوثان ، فتوعّدهم الله بالإبادة والهلاك ، وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عنهم حتى يوم القيامة ، حيث تكون أبصارهم ذليلة ،
وتغشاهم المذلّة والهوان بسبب تكذيبهم أيضا بيوم القيامة.
قال المفسّرون :
كان المشركون يجتمعون حول النّبي صلىاللهعليهوسلم يستمعون كلامه ، ولا ينتفعون به ، بل يكذبون به ويستهزئون
ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة ، لندخلنها قبلهم ، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم
، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨). والآيات
التي قبلها وبعدها هي :
(فَما لِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ
(٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ
__________________
امْرِئٍ
مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا
يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا
لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
(٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى
نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))
[المعارج : ٧٠ /
٣٦ ـ ٤٤].
ما بال هؤلاء
الكفار تجدهم مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك ، وتراهم عن يمينك أيها
النّبي وعن شمالك جماعات متفرّقة ، وموزّعين مشتّتين ، وقوله : (قِبَلَكَ) معناه فيما يليك ، والمهطع : الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد
أقبل عليه ببصره. وعزين : جماعات يسيرة ، ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة.
نزلت هذه الآية
لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن ، فكان كثير من
الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته ، ويقول بعضهم لبعض : شاعر ،
وكاهن ، ومفتر ، وغير ذلك.
ثم أيأس الله
أولئك الكفار من دخول الجنان بقوله فيما معناه : أيطمع هؤلاء المشركون المكذبون
برسالة الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا ، بل مأواهم جهنم ، إنا
خلقناكم من الماء المهين الضعيف ، أي من خلق من ذلك ، فليس بذات خلقه يعطى الجنة ،
بل بالأعمال الصالحة إن كانت. وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب الذي هدّدوا به ،
وأنكروا حدوثه ، أو استبعدوا وجوده.
نزلت هذه الآية
كما تقدم : (أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨) لأن الكفار
قالت : إن كانت ثمّ آخرة وجنّة ، فنحن أهلها وفيها ، لأن الله تعالى لم ينعم علينا
في الدنيا بالمال والبنين وغير ذلك إلا لرضاه عنا.
__________________
ثم أنذرهم الله
سبحانه بالهلاك إن داموا على الكفر ، وهدّدهم بإيجاد آخرين مكانهم ليؤمنوا ، فقال
: (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) (٤٠) أي فإني أقسم
بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة ، على أننا قادرون
على أن نخلق أمثل منهم ، وأطوع لله تعالى ممن عصوه ، ونهلك هؤلاء ، ولن يعجزنا شيء
، ولسنا بمغلوبين إن أردنا ذلك ، بل نفعل ما أردنا ، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا
تأخير ذلك. وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى على الإيجاد والإعدام ، مؤكدا
بالقسم. وهو تهكّم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم ، حيث إنهم ينكرون البعث ، ثم
يطمعون في دخول الجنة ، ويقرّون بأن الله هو خالق السماوات والأرض وخالقهم مما
يعلمون ، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية. والمشارق والمغارب : هي
مطالع الشمس والقمر وسائر الكواكب ، وحيث تغرب ، لأنها مختلفة عند التفصيل ، فلذلك
جمع.
ثم أمر الله تعالى
رسول الله عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض عنهم حتى يوم البعث ، زيادة في التهديد
، وهو معنى قوله : اتركهم يا نبي الله يتحدّثون في باطلهم ، ويلهون في دنياهم ،
ويعاندون في تكذيبهم وإنكارهم البعث ، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال ،
ويجازوا بأعمالهم. والآية وعيد ، وما فيه من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف.
اذكر أيها النّبي
يوم يقومون من القبور بدعوة الله تعالى لموقف الحساب ، مسرعين متسابقين ، كأنهم في
إسراعهم إلى الموقف ، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب ، من
علم أو راية. والأجداث : القبور ، والنصب : ما نصب للإنسان ، فهو يقصد مسرعا إليه
، من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام. وقد كثر استعمال هذا الاسم في الأصنام حتى
قيل لها : الأنصاب.
إنهم في خروجهم من
الأجداث (القبور) تكون أبصارهم ذليلة كسيرة ، وتغشاهم المذلّة الشديدة ، لهول
العذاب الذي يواجههم ، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا ، ذلك اليوم
المشتمل على الأهوال العظام : هو اليوم الذي أوعدهم الله تعالى به ، وأنذرهم
بملاقاته ، وكانوا يكذّبون به ، وليتهم آمنوا به ، فنجوا من العذاب. وعبر عن مجيء
وقت العذاب بلفظ الماضي : (كانُوا يُوعَدُونَ) لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة.
تفسير سورة نوح
دعوة نوح عليهالسلام
لقد لقي نوح عليهالسلام من قومه على مدى قرابة ألف سنة ما لم يلقه أحد من الأنبياء
، حيث إنهم كذّبوه وآذوه ، وأعرضوا إلا قليلا جدّا عن دعوته إلى توحيد الله ، وهجر
عبادة الأصنام البدائية ، واشتطوا في فرارهم منه ، على الرغم من وعدهم بالرّخاء
وتوالي النّعم المادية المتنوعة في الأموال والأولاد ، ناسين مراحل خلقهم ، وتدرج
الخلق ، حتى صاروا قوما أشداء ، كما توضح الآيات الآتية في مطلع سورة نوح المكّية
بالإجماع :
(إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ
اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ
لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً
وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ
إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ
لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً
(١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ
وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ
لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤))
[نوح : ٧١ / ١ ـ ١٤].
__________________
إنا بعثنا بعثة
دعوة نوحا بن لامك عليهالسلام أول رسول أرسله الله إلى قومه ، وقلنا له : أنذر قومك بأس
الله وعذابه ، قبل أن يجيئهم عذاب شديد الألم ، وهو عذاب النار ، أو الإغراق
بالطوفان ، فإن تابوا ورجعوا ، رفع عنهم.
قال نوح : يا قومي
، إني لكم منذر من عذاب الله ومخوف إياكم ، واضح الإنذار والاعلام. ومضمون دعوتي :
أني آمركم بعبادة الله وحده لا شريك له ، وأن تؤدّوا حقوقه ، وتمتثلوا أوامره ،
وتجتنبوا نواهيه التي توقعكم في العذاب ، وتطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه.
والتقوى : امتثال الأوامر ، واجتناب المحرّمات.
وثمره التكاليف
أمران : أنه تعالى يستر لكم بعض ذنوبكم ، ويمدّ في أعماركم ، ويؤخر موتكم إلى أمد
محدد قدره الله لكم ، إن آمنتم وأطعتم. وقوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) من للتبعيض ، وهذا وعد كريم على الطاعة والعبادة بشيئين :
دفع مضارّ الآخرة وهو غفران الذنوب ، وتحقيق منافع الدنيا ، وهو تأخير الأجل إلى
وقت آخر. ولا يعني هذا خلافا للمعتزلة من وجود أجلين للإنسان ، وإنما المراد أنه
قد سبق في الأزل ، أنهم إما ممن قضي له بالإيمان والتأخير ، وإما ممن قضي له
بالكفر والمعاجلة ، بدليل قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ
إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) أي ما قدره لكم إذا جاء ، وأنتم كافرون ، لا يؤخر بل يقع
حتما.
قال نوح بعد أن
طال عمره ، وتحقّق اليأس من قومه : يا ربّ إني دعوت قومي إلى ما أمرتني به ، بأن
أدعوهم إلى الإيمان بوجودك ووحدانيتك ، دعاء متواصلا دائما في الليل والنهار ، من
غير تقصير ، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ، فلم يزدهم دعائي إلى الله الذات
الأقدس إلا فرارا مما دعوتهم إليه ، وبعدا عنه. وقوله : (لَيْلاً وَنَهاراً) : عبارة عن استمرار دعائه ، وأنه لم يتوان فيه قط.
وكلما دعوتهم إلى
سبب المغفرة ، وهو الإيمان بالله والطاعة له ، سدّوا آذانهم
برؤوس أصابعهم ،
لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه ، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني ، ولئلا يسمعوا
كلامي ، واستمروا على الكفر والشّرك ولازموه ، وتكبّروا عن قول الحق تكبّرا شديدا
، أي استنكفوا عن اتّباع الحق والانقياد له.
ثم إنني نوّعت لهم
أساليب الدعوة ، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس ، أي مجاهرا لهم بها
، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار ، أي إن نوحا عليهالسلام سلك في دعوته مراتب ثلاثا : بدأ بالمناصحة في السرّ ليلا
ونهارا ، ففرّوا منه ، ثم جهر بالدعوة ، لأن النصح العلني تقريع ، ثم جمع بين
الأمرين : الإسرار والإعلان. وتكرار صفة الدعوة بيان وتأكيد ، يدلّ على غاية
الجدّ.
وقلت لهؤلاء القوم
: اطلبوا المغفرة من ربّكم لذنوبكم السابقة ، بإخلاص النّية ، وتوبوا إلى الله من
الكفر والمعاصي ، إن ربّكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.
ثم وعدهم على
التوبة من الكفر والعصيان بخمسة أشياء : إرسال المطر المتتابع ، الكثير الغزارة
ليكثر الخير والخصب ، والإمداد بالأموال الكثيرة ، وإكثار الذرّية والأولاد بسبب
الأمن والرفاه ، ومنحهم بساتين نضرة عامرة بالأشجار والثمار ، وجعل الأنهار جارية
بالماء العذب ، ليكثر الزرع والثمر والغلة. والوقار : العظمة والسلطان. فكأن
الكلام وعيد وتخويف.
ما لكم لا تخافون
من عظمة الله وجلاله ، فتوحّدوه وتطيعوه ، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار أو
مراحل مختلفة ، وهو كما قال ابن عباس إشارة إلى التدرّج الذي للإنسان في بطن أمّه
من النطفة والعلقة والمضغة ، ثم العظام فاللحم ، ثم تمام الخلق ، وإنشاؤكم خلقا
آخر ، تمرّون في دور الطفولة ، ثم التمييز ، ثم البلوغ والمراهقة ، ثم الشباب ، ثم
الكهولة ، ثم الشيخوخة ، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟
تذكير نوح بأدلة وحدانية الله وموقف القوم منه
لم يدع نوح عليهالسلام دليلا إلا استدلّ به لقومه على وجود الله ووحدانيته وقدرته
، من خلق السماوات والأرض ، وخلق الناس ، وإنبات النبات ، ولكنهم قوم أغبياء وحمقى
، فأصرّوا على ملازمة عبادة الأصنام والضلال والإضلال ، فهدّدهم الله تعالى ،
وألهم نوحا الدعاء عليهم وعلى ذرّيتهم ، وطلب المغفرة له ولوالديه ولأهل الإيمان
وإهلاك الظالمين المشركين ، وذلك في الآيات الآتية :
(أَلَمْ تَرَوْا
كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ
نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ
ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))
[نوح : ٧١ / ١٥ ـ ٢٨].
الآيات الأولى
تبيّن أنواع الدلائل على وحدانية الله وقدرته : ألم تنظروا فوقكم كيف خلق الله
السماوات المتطابقة بعضها فوق بعض ، وجعل القمر في السماوات منوّرا لوجه الأرض ،
من غير حرارة ، وجعل الشمس مصدر الضوء كالسّراج : وهو المصباح المضيء الذي يزيل
ظلمة الليل ، وينشر الحرارة والدّفء.
__________________
ـ والله تعالى
أوجد أباكم آدم من التراب ، وجعله ينمو ويكبر كالنبات ، وجعل نموكم معتمدا على
الغذاء من نتاج الأرض ، وتحولها إلى نبات أو حيوان.
وهذه استعارة من
حيث أخذ آدم عليهالسلام من الأرض ، ثم صار الجميع نابتا منه. وقوله : (نَباتاً) مصدر جار على غير المصدر ، والتقدير : فنبتّم نباتا.
ثم يعيدكم في
الأرض بالدّفن فيها الذي هو عرف البشر ، بعد موتكم ، حتى تعودوا ترابا مندمجا في
الأرض ، ثم يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة ، إخراجا دفعة واحدة ، لموقف العرض
والجزاء ، لا إنباتا بالتدرّج كالمرة الأولى.
ـ ومن نعمه تعالى
على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة منبسطة كالبساط ، للتمكين من العيش عليها
والاستقرار فيها ، وثبّتها بالجبال ، وجعلكم تبحثون فيها عن الرزق ، وأوجد لكم
طرقا واسعة بين الجبال والوديان والسهول.
ـ قال نوح داعيا
ربّه : يا ربّ ، إن قومي عصوني ، ولم يجيبوا دعوتي ، واتّبع كبراؤهم وأثرياؤهم
الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة ،
فخسروا الدنيا والآخرة.
ومكروا بالتدبير
الخبيث مكرا عظيما ، وهو صدّ الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله ، وإغراء
السّفلة على إيذاء نوح عليهالسلام وقتله.
ـ وقال الرؤساء
للأتباع لمخالفة نوح وعصيان قوله : لا تتركوا عبادة آلهتكم ، وتعبدوا ربّ نوح ،
ولا تتركوا عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب ، وهي ودّ وسواع
ويغوث ويعوق ونسر. فكان ودّ لكلب ، وسواع لهذيل ، ويغوث لغطفان ، ويعوق لهمدان ،
ونسر لحمير آل ذي الكلاع ، وهي في الأصل أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح عليهالسلام.
وقد أضلّ كبراؤهم
كثيرا من الناس ، فدعا نوح عليهم قائلا : ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن
الصواب ، فلا يهتدوا إلى الحقّ والرشاد.
وسبب الجزاء : هو
من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على الكفر ، ثم أدخلوا نار الآخرة ، فلم
يجدوا لهم من غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب ، ويدفعونه عنهم.
وقال نوح لما أيس
من إيمانهم : يا ربّ لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا ، يسكن الديار. إنك إن أبقيت
منهم أحدا ، أضلّوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق ، ولا يلدوا إلا كل
كافر فاجر في الأعمال ، بترك طاعتك ، كثير الكفران في القلب لنعمتك ، لخبرته بهم.
ثم دعا نوح عليهالسلام لنفسه ولوالديه ولأهل الإيمان قائلا : ربّ استر علي ذنوبي
، واستر على والدي المؤمنين برسالتي ، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن ، ولكل
المصدّقين الواثقين بوجودك ووحدانيتك ، وكل المصدّقات بذلك من الأمم والأجيال
القادمة ، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ، إلا هلاكا وخسرانا ودمارا.
تفسير سورة الجنّ
اشتملت سورة الجنّ
المكّية بالإجماع على أشياء وأخبار عجيبة عن الجنّ يمكن تصنيفها بخمسة أنواع :
النوع الأول ـ الإخبار
عن ستة أشياء عن الجنّ منها إيمانهم بالقرآن العظيم وبمنزله وهو الله تعالى.
والنوع الثاني ـ حكاية
سبعة أشياء عن الجنّ تتعلّق بأسرار السماء وأحوالهم من الإيمان.
والنوع الثالث ـ عن
مكانة المساجد.
والنوع الرابع ـ عن
أصول دعوة النّبي صلىاللهعليهوسلم.
والنوع الخامس ـ عن
موعد الساعة أو القيامة.
النوع الأول
ستّة أخبار عن الجنّ
نزلت سورة الجنّ
حينما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببطن نخلة وهو يريد سوق عكاظ ، يصلّي بأصحابه صلاة الفجر ،
فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر
السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ،
إنا سمعنا قرآنا
عجبا ، فأنزل الله على نبيّه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) وإنما أوحي إليه قول الجنّ. وهذه ستة أخبار عن الجن في
مطلع سورة الجن :
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا
أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ
لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ
مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))
[الجنّ : ٧٢ / ١ ـ
٧].
هذه حكاية أخبار
ستة عن الجن :
ـ أولها إيمان
فريق منهم بالقرآن وبمنزله ، مضمون هذا الخبر : قل أيها النّبي مخبرا أمتك : بأن
الجنّ استمعوا القرآن ، فآمنوا به وصدّقوا به وانقادوا له ، فقالوا لقومهم حين
سماع سورة الجنّ : (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً) لما رجعوا إليهم : سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في
فصاحته وبلاغته ، ومواعظه وبركاته. والجنّ : عالم مستتر عنا ، لا نعرف عنه إلا ما
أخبر به الوحي ، وهم مخلوقون من النار.
وهذا القرآن يهدي
أو يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى ، فصدّقنا به أنه من عند الله ، ولن
نشرك مع الله إلها آخر من خلقه ، ولا نتخذ إلها آخر. وهذا يدلّ على أن أعظم ما في
دعوة النّبي صلىاللهعليهوسلم : هو توحيد الله تعالى ومحاربة الشّرك وأهله.
ـ وأنه تعاظم جلال
ربّنا وعظمته ، ولم يتخذ صاحبة وولدا ، لاستغنائه عن ذلك ، والمعنى : أنهم كما
نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله ، نزّهوا الرّب تعالى ـ حين أسلموا
__________________
وآمنوا بالقرآن ـ عن
اتّخاذ الصاحبة والولد ، فأثبتوا وحدانية الله ، وامتناع وجود شريك له ، ثم أثبتوا
له القوة والعظمة ، ونزّهوه عن الحاجة والضعف ، باتّخاذ الصاحبة والولد.
ـ وأن بعض سفهاء
الجنّ (الجهلة الطائشين) كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ ، بعيدا عن
الرشد والصواب ، وعن الحق والعدل.
ـ وأننا حسبنا أن
الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله ، حينما قالوا : بأن له شريكا وصاحبة وولدا
، فصدّقناهم في ذلك ، ثم لما سمعنا القرآن تبيّنّا كذبهم وبطلان قولهم.
ـ وكنا نرى أن بعض
الإنس كانوا يستعيذون في القفار ببعض الجنّ ، أو يطلبون النجاة والعون ، فزادوا
رجال الجنّ طغيانا وغيّا ، وكبرا وعتوّا. روى جمهور المفسّرين أن الرجل كان إذا
أراد المبيت والحلول في واد ، صاح بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي ، إني أعوذ بك
من السفهاء الذين في طاعتك. فيعتقد بذلك أن الجنّي الذي بالوادي يمنعه ويحميه.
وكانت الجن تقول عند ذلك : ما نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئا. قال مقاتل : أول
من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب. وأضاف
قتادة قائلا : كانت الجنّ لذلك تحتقر بني آدم وتزدريهم ، لما يرون من جهلهم ،
فكانوا يزيدونهم مخافة ، ويتعرضون للتخيل لهم بمنتهى طاقتهم ، ويغوونهم في إرادتهم
، لمّا رأوا رقّة أحلامهم ، فهذا هو الرّهق الذي زادته الجنّ بني آدم.
ـ وأن الإنس بني
آدم الكفار ظنّوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء ، أو أنه لن يبعث الله
بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر. (وأن)
في قوله تعالى : (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ) مخففة من الثقيلة ، وهي تسدّ مسدّ المفعولين لفعل (ظنّ).
إن هذه الطائفة من
الأخبار السّتة عن الجنّ تضمنت أصل العقيدة : وأولها الإيمان بالقرآن الكريم
وبمواعظه الهادية إلى أرشد الأمور ، والإيمان بوحدانية الله وتنزيهه عن الشّرك ،
وعن اتّخاذ الصاحبة والولد. ثم تضمّنت معلومات عن إبليس والجنّ قبل إسلامهم من
الكذب وتجاوز الحدّ في الظلم ، ومعلومات أخرى عن الإنس والجنّ ، حيث كان يستعيذ
بعض الإنس السّذج ببعض الجنّ في القفار والوديان ليحموهم من شرّ أشرار الجنّ ،
وحيث يصدر الكذب عن بعض الإنس والجنّ في اتّخاذ الله صاحبة وولدا ، ويظن بعض
الفريقين أن لا بعث ولا آخرة ، ولا جزاء ولا حساب ، وهذا ضلال وخطأ بيّن. فما على
كفار قريش إلا الاتّعاظ بصنيع الجنّ ، وأن يبادروا إلى الإيمان الحق كما آمن الجنّ
بالقرآن والله والرسول.
النوع الثاني من أخبار الجنّ
هذه هي الطائفة
الثانية من أخبار الجنّ ، وهي سبعة أخبار ، ذكرها القرآن الكريم ، تحكي أحوال
الجنّ في محاولاتهم استراق السمع لأخبار السماء ، قبل البعثة النبوية ، ثم منعوا
منها بعدها ، دون أن يدروا سبب المنع وإقامة الحراسة على السماء ، ومن أخبارهم :
أن الجن فريقان كالإنس ، فمنهم المؤمن والصالح ومنهم الكافر والفاسق ، وأنهم علموا
بقدرة الله الحاكمة عليهم ، دون التمكن من الإفلات منها ، وأنهم أدركوا عظمة
القرآن وهدايته ، فآمنوا به ، وكل ذلك يدل على أن طبيعة الجن كطبيعة الإنس ، وأنهم
مكلفون بدعوة الحق والنبي ، كما يتضح من هذه الآيات :
(وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها
__________________
مَقاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا
نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ
قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ
نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ
يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا
رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ
لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً
صَعَداً (١٧))
[الجنّ : ٧٢ / ٨ ـ
١٧].
هذه أخبار الجن
الثابتة بحكاية القرآن الكريم لها وهي هنا سبعة كما يلي :
ـ لما بعث النّبي صلىاللهعليهوسلم وأنزل عليه القرآن ، طلبنا خبر السماء ، كما جرت به عادتنا
، فوجدناها ملئت حراسا أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع ، ووجدنا أيضا
نيرانا منقضة من الكواكب تحرق وتمنع من أراد استراق السمع كما كنا نفعل.
ـ وأننا كنا نقعد
في السماء مقاعد لاستراق السمع ، وسماع أخبار السماء من الملائكة لإلقائها إلى
الكهنة (مدعي الغيب ومعرفة الأسرار في المستقبل) فحرسها الله تعالى عند بعثة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بالشهب المحرقة ، فمن حاول الإصغاء لأخبار السماء أو
استراق السمع ، يجد له الآن شهابا (شعلة نار) مرصدا له ، يحرقه ويهلكه.
ـ ولا نعلم بسبب
هذه الحراسة للسماء ، أشرّ أو عذاب أراد الله أن ينزله على أهل الأرض ، أم أراد
بهم ربّهم خيرا وصلاحا ، بإرسال نبي مصلح.
ـ وأخبر الله
تعالى عما قال الجن عن أنفسهم ، لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان
__________________
برسالة النّبي صلىاللهعليهوسلم : كنا قبل استماع القرآن ، منا المؤمنون الأبرار الصالحون
، ومنا دون ذلك ، أي غير صالحين أو كافرين ، كنا جماعات متفرقة ، وذوي سير أو
مذاهب مختلفة ، أي إنهم أقسام ، فمنهم المؤمن ، ومنهم الفاسق ، ومنهم الكافر ،
كحال الإنس تماما.
و (الطرائق) ،
السّير المختلفة ، و (القدد) كذلك هي الأشياء المختلفة ، كأنه قد قدّ بعضها من بعض
، وفصل. وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة : (طَرائِقَ قِدَداً) أهواء مختلفة.
وأننا علمنا أن
قدرة الله حاكمة علينا ، وأنا لا نفلت من قدرة الله ولا نفوته إن طلبنا وأراد بنا
أمرا ، سواء كنا كائنين في الأرض أو هاربين منه إلى السماء ، فإنه علينا قادر ، لا
يعجزه أحد منا. والظن في الآية : بمعنى العلم.
ـ وأننا لما سمعنا
الهدى وهو القرآن ، صدّقنا أنه من عند الله ، ولم نكذب به ، كما كذبت به كفرة
الإنس ، فمن يصدق بربّه وبما أنزله على رسله ، فلا يخاف نقصانا من حسناته ، ولا
عدوانا وظلما وطغيانا بالزيادة في سيئاته. والبخس : النقص نقص الحسنات. والرّهق :
الزيادة في السيئات.
وأن بعضنا مؤمنون
مطيعون لربّهم ، يعملون الصالحات ، وبعضنا جائرون ظالمون حادوا عن طريق الحق
والخير ومنهج الإيمان الواجب. فمن آمن بالله ، وأسلم وجهه لله بطاعة شريعته ،
فأولئك طلبوا باجتهادهم طريق الرشاد والسعادة ، وطلبوا لأنفسهم النجاة من العذاب ،
وهذا ثواب المؤمنين. وأما الجائرون الحائدون عن منهج الإسلام ، فكانوا وقودا للنار
، توقد أو تسعّر ، كما توقد بكفرة الإنس. ويلاحظ الفرق بين الكلمتين ، فالقاسط :
الجائر عن الحق ، الظالم ، أما المقسط : فهو القائم بالعدل ، من أقسط ، أي عدل.
ثم أوحى الله
لنبيّه أنه لو استقام الجنّ والإنس على طريقة الإسلام ، لأسقيناهم ماء كثيرا ،
ولآتيناهم خيرا كثيرا واسعا ، لنعاملهم معاملة المختبر ، فنعلم كيف شكرهم
على تلك النّعم ،
فإن هم أطاعوا ربّهم أثبناهم ، وإن عصوه عاقبناهم في الآخرة ، وسلبناهم النعمة ،
والاستقامة على الطريقة : على طريقة الإسلام والحق. وقوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم.
ومن يعرض عن
القرآن أو عن الموعظة الحسنة ، فلا يأتمر بالأوامر ، ولا ينتهي عن النواهي ، يدخله
ربّه عذابا شاقّا ، صعبا لا راحة فيه.
وكلمة (عَذاباً صَعَداً) معناه شاقّا ، تقول : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقّة. هذه
أحوال الجن مع رسالة النّبي صلىاللهعليهوسلم ، تتضمن كونهم أقساما وفرقا مختلفة وجماعات متفاوتة ،
كأحوال الإنس.
النوع الثالث والرابع والخامس من أخبار الجنّ
أخبر الله تعالى
في سورة الجنّ عن النوع الثالث والرابع والخامس من أخبار الجنّ ، الموحى به ،
وتتضمن الاعلام بأهمية المساجد لأداء الصلاة ، وبأن دعوة النّبي صلىاللهعليهوسلم دعوة خالصة إلى الله عزوجل ، وترك الإشراك به ، وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا ،
وأن لا ملجأ من الله إلا إليه ، وأن مهمته مقصورة على تبليغ الوحي المنزل عليه ،
وأنه لا يعلم وقت تعذيب المشركين ، وإنما ذلك مختص بالله تعالى ، فهذا غيب ، والله
تعالى هو عالم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا من ارتضى من رسول ، وأن مدّعي الغيب من
الجنّ والكهان وغيرهم هم كذبة ، لا يعرفون حقيقة أنفسهم ، وهذا يتضح في صريح
الآيات الآتية :
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ
اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ
__________________
عَلَيْهِ
لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ
إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي
مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً
مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا
يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَداً (٢٨))
[الجنّ : ٧٢ / ١٨
ـ ٢٨].
أخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال : قالت الجنّ : يا رسول الله ، ائذن لنا ، فنشهد معك الصلوات في
مسجدك ، فأنزل الله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨). وقوله تعالى
: (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ) معطوف على قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) وهو النوع الثالث من الموحى به ، على معنى : إن عبادتكم
أيها الجنّ حيث كنتم مقبولة.
المعنى : لقد أوحي
إلي أن المساجد مختصة بالله ، فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ، ولا تشركوا به فيها
شيئا. والمساجد كما قال الحسن البصري أراد بها : كل مكان أو موضع سجد فيه ، سواء
كان مخصوصا لذلك أو لم يكن ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة. قال النبي صلىاللهعليهوسلم ـ فيما رواه البخاري ومسلم والنّسائي ـ عن جابر : «جعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا» كأنه تعالى قال : الأرض كلها مخلوقة لله تعالى ، فلا تسجدوا
عليها لغير خالقها.
والنوع الرابع من
جملة الموحى به : أنه لما قام عبد الله النّبي صلىاللهعليهوسلم يدعو الله ويعبده ،
__________________
كاد الجنّ يكونون
عليه جماعات متراكمين عليه من الازدحام ، لسماع القرآن منه ، وتعجبا مما رأوا من
عبادته ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله.
قل أيها النّبي
لمن تجمعوا حولك لإبطال دينك : إنما أدعو ربّي ، وأعبده وحده لا شريك له ، وأستجير
به ، وأتوكل عليه ، ولا أشرك في العبادة معه أحدا.
وسبب نزول هذه
الآية ، كما ذكر الشوكاني ـ : أن كفار قريش ، قالوا للنّبي صلىاللهعليهوسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن
هذا ، فنحن نجيرك.
قل أيها النبي
أيضا لهؤلاء القوم : لا يدفع عني أحد من عذاب الله إن أنزله بي ، ولا نصير ولا
ملجأ لي من غير الله أحد ، ولا يجيرني من الله ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي
أوجب أداءها علي ، فأبلّغ عن الله ، وأعمل برسالاته ، أمرا ونهيا ، فإن فعلت ذلك
نجوت ، وإلا هلكت.
أخرج ابن جرير عن
حضرمي أنه ذكر أن جنيّا من الجنّ ، من أشرافهم ، ذا تبع قال : إنما يريد محمد أن
يجيره الله ، وأنا أجيره ، فأنزل الله : (قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) الآية.
وقوله تعالى : (إِلَّا بَلاغاً) قال الحسن البصري ما معناه : إنه استثناء منقطع ، والمعنى
: لن يجيرني من الله أحد إلا بلاغا ، فإني إن بلّغت رحمني بذلك ، والإجارة للبلاغ
مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقال بعض النّحاة : على هذا المعنى هو
استثناء متصل ، والمعنى : لن أجد ملتحدا إلا بلاغا ، أي شيئا أميل إليه وأعتصم به
، إلا أن أبلّغ وأطيع فيجيرني الله. والتقدير كما قال قتادة : لا أملك إلا بلاغا ،
فأما الإيمان والكفر فلا أملكه.
وجزاء العصاة
الذين لا يمتثلون موجب التبليغ عن الله تعالى : هو أنني أبلغكم
رسالة الله ، فمن
يعص بعد ذلك ، فله جزاء خطير ، وهو نار جهنم ، ماكثين فيها أبدا على الدوام ، لا
محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها. وقوله : (أَبَداً) دليل أن المراد بالعصيان هنا : هو الشّرك.
ثم هدّد الله
تعالى بالهزيمة والذّل المشركين الذين كانوا أقصر نظرا من الجنّ في عدم الإيمان ،
فإنهم إذا ظلّوا على كفرهم ورأوا ما يوعدون يوم القيامة ، فسيعلمون يومئذ من أضعف
ناصرا ، أي جندا ينتصر به ، وأقل عددا ، أهم أم المؤمنون الموحّدون لله تعالى؟ أي
بل المشركون لا ناصر لهم إطلاقا ، وهم أقلّ عددا من جنود الله تعالى. ثم ذكر الله
تعالى النوع الخامس من الموحى به ، وهو علم الغيب لإبطال ادّعاء الجنّ والإنس
العلم به : والمعنى : وقل أيها النّبي : لست أدري أقرب العذاب الذي يعدكم الله به
، فما أدري أقريب وقت العذاب أم بعيد ، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعلم موعد
يوم القيامة إلا الله وحده.
قال مقاتل : لما
سمع المشركون قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟
فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ) الآيات.
والله وحده هو
العالم بالغيبيات ، فلا يطلع على ما غاب عن العباد أحدا إلا من ارتضى من الرسل ،
فإنه تعالى يطلعهم على بعض المغيبات ، ليكون معجزة لهم ، ودلالة على صدق نبوّتهم.
فمن ارتضى من رسول ، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ، ثم يجعل بين يديه (أمامه)
ومن خلفه حرسا من الملائكة وهم الرّصد ، أي يبث الله تعالى حول ذلك الملك الرسول
حفظة ، رصدا لإبليس وحزبه من الجنّ والإنس. والرسول : هو الملك أو صاحب الشريعة
السماوية ، أي يشمل الرسول الملكي والبشري. والرّصد : الحفظة يحفظون كل رسول من
تعرّض الجنّ والشياطين.
وذلك ليعلم الله
علم ظهور وانكشاف واقعي أن هؤلاء الرّسل قد بلّغوا الرسالات الإلهية ، كما هي ،
دون زيادة أو نقص ، وأحاط الله تعالى علما بما عند الرصد ، من الملائكة ، أو بما
عند الرّسل المبلّغين لرسالاته ، وبما لديهم من الأحوال ، فهو سبحانه عالم بكل شيء
كان أو سيكون ، وعالم بكل الأحكام والشرائع ، وضبط كل شيء معدودا محصورا ، دون
مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.
تفسير سورة المزملّ
في بدء نزول الوحي
بعد نزول سورة العلق «اقرأ» نزلت سورة المزمّل التي تعالج آثار الوحي الثقيل على
قلب النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وتحمله على ملازمة عبادة الله تعالى في الليل والنهار ،
لتقوى روحانيته وصلته بربّه وتكتمل حالة الخشوع والإخلاص لله ، وتطالبه بترتيل
القرآن ليتمكن سامعوه من تدبّره وإدراك معانيه ، كما تطالبه بكثرة الذكر لله
لتستمر الصلة بالله تعالى الذي بيده مقاليد السماوات والأرض ، وبالصبر في الدعوة ،
وتفريغ النهار للدعوة والتبليغ وجهاد المعارضين ومشاغل الحياة واكتساب الرزق ، قال
ابن عباس : كان نزول المزمّل في ابتداء الوحي إلى النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فإنه لما سمع قول الملك ، ونظر إليه ، أخذته الرّعدة ،
فأتى أهله ، فقال : «زملوني زملوني» أي غطّوني. وهذا مطلع سورة المزمّل المكّية :
(يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً
(٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))
[المزمّل : ٧٣ / ١
ـ ١٠].
__________________
كان وقع الوحي
ونظرة النّبي إلى الملك شديدين على قلب النّبي صلىاللهعليهوسلم فأخذه الخوف ، وطلب التزمّل بثيابه أول ما جاءه جبريل عليهالسلام بالوحي خوفا منه ، ثم زال ما به ، وخوطب بالنّبوة والرسالة
وأنس بجبريل عليهالسلام.
فيا أيها النّبي
المتزمّل المتلفّف بثيابك ، صلّ صلاة الليل أو صلاة التهجد بمقدار نصف الليل ،
بزيادة قليلة أو نقصان قليل ، لا حرج عليك في ذلك ، وهذا تخيير بين الثلث والنصف
والثلثين. والليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. والأمر بقيام الليل في رأي
جمهور أهل العلم : هو أمر على جهة النّدب ، قد كان ، ولم يفرض قط. وقال بعضهم :
كان فرضا في وقت نزول هذه الآية ، إما على الجميع ، وإما على النّبي صلىاللهعليهوسلم وحده حتى توفّي ، وهذا هو الراجح.
ثم اقرأ القرآن
على تمهّل ، مع تبيين الحروف ، ليكون عونا على فهم القرآن وتدبّره ، وقوله : (تَرْتِيلاً) تأكيد في الإيجاب ، وأنه لا بد للقارئ منه ، ليستحضر
المعاني. والترتيل : أن يبين جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع ، كما كان يفعل
النّبي صلىاللهعليهوسلم. أخرج الحاكم وغيره عن البراء : «زيّنوا القرآن بأصواتكم».
إننا سنوحي إليك
القرآن ، وسننزله عليك ، وفيه التكاليف الشاقة على البشر ، والأوامر والنواهي
الصعبة على النفس ، من الفرائض والحدود ، والحلال والحرام ، وهو قول ثقيل يثقل
العمل بشرائعه.
إن ناشئة الليل ،
أي قيام الليل ، وهو الذي ينشأ بعد نوم ، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص
وتوافق القلب واللسان ، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر ، وهو أجمع
للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها ، وأشد ثبوتا ورسوخا ، وأقوم قولا وأثبت قراءة ،
لأنه بخلو البال من أشغال النهار يوافق قلب المرء لسانه ، وفكره عبارته ، فهذه
مواطأة صحيحة.
هذا في الليل وقت
العبادة ، وأما في النهار : فلك في وقته تقلّب وتصرّف في حوائجك ومصالح الحياة ،
فلا تتفرغ فيه للعبادة ، فصلّ بالليل.
ولا تنقطع عن ذكر
الله في أي وقت ليلا أو نهارا ، وأكثر من ذكر الله ، وداوم عليه إن استطعت ليلا
ونهارا ، وأخلص العبادة لربّك ، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته ،
والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية. (وَتَبَتَّلْ) معناه : انقطع من كل شيء إلا منه ، وافرغ إليه.
وسبب الأمر
بالعبادة وضرورة التّبتّل : أن ربّك ربّ المشرق والمغرب الذي لا إله إلا هو ، وكما
أفردته بالعبادة ، فأفرده بالتوكّل ، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور. والوكيل :
القائم بالأمور الذي توكل إليه الأشياء.
والقيام بتبليغ
الرسالة يتطلب جهدا متواصلا ، وصبرا دائما ، فاصبر أيها الرسول على أذى قومك ، وما
ينالك من السّب والاستهزاء ، ولا تجزع من ذلك ، ولا تتعرض لهم ، ولا تعاتبهم
ودارهم. وعلاج الأذى : هو الصبر. والهجر الجميل : وهو أن تجانبهم وتداريهم ، ولا
تعاتبهم وفوّض أمرهم إلى الله تعالى. فالهجر الجميل : هو الذي لا عتاب معه.
أرشدت الآيات إلى
فرضية التّهجد على النّبي صلىاللهعليهوسلم ، خاصة به ، وإلى وجوب ترتيل القرآن : وهو قراءته على مهل
، وتبيين حروفه ، وتحسين مخارجه ، وإظهار مقاطعه ، مع تدبّر المعاني. وناشئة الليل
، أي العبادة في الليل أشدّ انسجاما وتوافقا بين الفكر والقلب ، والعقل والنفس ،
وأسدّ مقالا وأثبت قراءة. والنهار لكسب العيش والحاجات الأصلية. ولا يترك ذكر الله
باللسان والقلب في جميع الأوقات ، والتّبتّل : الانقطاع إلى الله بالكلية ، بإخلاص
العبادة ، لا تعطيل أعمال الدنيا ، ويطالب المؤمن بإفراد الله بالعبادة ، وبالتوكل
عليه دون سواه ، ولا بدّ من الصبر على الأذى في سبيل نشر الدعوة إلى الله وتوحيده.
وعيد المكذّبين بالرسالة
هدّد الله تعالى
وأوعد المشركين على الإعراض عن قبول دعوة النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وخوّفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله ، وعذاب
الدنيا ومخاطره ، وأنذرهم بإرسال رسول شاهد على أعمالهم كإرسال موسى عليهالسلام إلى فرعون ، ثم وصف الله تعالى عذاب الآخرة ، وأنه لشدته
يشيب منه الولدان ، وتتشقق السماوات منه ، وأن هذه تذكرة مؤثرة وعظة بليغة ، لمن
شاء اتخاذ السبيل القويم إلى ربّه تعالى. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية :
(وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ
تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا
أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً
وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ
شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))
[المزمّل : ٧٣ /
١١ ـ ١٩].
قوله تعالى : (وَذَرْنِي) روي أنها نزلت في صناديد قريش ، ورؤساء مكة من المستهزئين
: وهذا وعيد لهم. ومعناه : دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال فلا يتمكن
أحد من منع العذاب عنهم ، فإني أكفيك أمرهم ، وأنتقم لك منهم ، فلا تأبه بكونهم
أرباب الغنى والسعة والتّرفّه في الدنيا ، وتمهّل عليهم رويدا وزمنا طويلا.
والمراد : لا تشغل أيها النّبي بالك بهم وكلهم إلي.
__________________
وأنواع عذابهم
أربعة : هي أن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا ، ونارا
مؤججة مضطرمة ، وطعاما لا يستساغ ، ويصعب بلعه ، ينشب في الحلق ، فلا يخرج ولا
يدخل كالزّقوم والضّريع ، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد ، لا يعلم به غير
الله تعالى.
والأنكال : جمع
نكل : وهو القيد من الحديد ، ويروى أنها قيود سود من نار. وروي أن النّبي صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية فصعق.
وزمان ذلك العذاب
الذي يعذب به الكافرون : هو في يوم تضطرب فيه الأرض والجبال ، وتتزلزل بمن عليها.
والرجفة : الزلزلة الشديدة. وتصير الجبال كالكثيب المهيل ، أي الرمل المتجمع
السائل ، الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان ، بعد ما كانت حجارة صماء ، وصخورا صلبة
، ثم تنسف نسفا ، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب. والمهيل : هو الذي إذا وطئته القدم
زلّ ما تحتها.
ثم هدّد الله
تعالى مشركي مكة بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة ، وهو :
إننا أرسلنا إليكم أيها المشركون في مكة وغيرها ، رسولا هو محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوسلم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم ، وبما يصدر عنكم من
إجابة وامتناع ، وطاعة وعصيان ، كما أرسلنا موسى عليهالسلام إلى الطاغية فرعون ، يدعوه إلى دين الحق والإيمان بالله
تعالى إلها واحدا لا شريك له ، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه ، وكذّبه ولم يؤمن
برسالته ، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا ، وعاقبناه عقابا مؤلما ، وأهلكناه ومن
معه بالغرق في البحر ، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون
، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأنتم أولى بالهلاك والدمار ، إن كذبتم رسولكم
الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليهالسلام. وإنما عرّف كلمة (الرسول) في المرة الثانية ، لأنه ينصرف
إلى المعهود السابق في الذكر.
ثم أكّد الله
تعالى تخويف المشركين بعذاب الآخرة من وجهين :
كيف تقون أنفسكم ،
وتنعمون بالأمان والاستقرار إن بقيتم على الكفر ، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا
بيض الشعور ، لشدة هوله ، وهذا كناية عن شدة الخوف ؛ وتصير السماء متشققة به
متصدعة ، لشدته وعظيم هوله ، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا ، لا
محالة ، ولا محيد عنه. وقوله تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) معناه : كيف تجعلون واقيا لأنفسكم ، وكلمة (يوما) مفعول به
لكلمة (تتقون) ويجوز أن يكون ظرفا ، والمعنى : تتقون عقاب الله يوما. و (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ) إما مسند إلى اسم الله تعالى ، أو مسند إلى اليوم. و (الولدان)
صغار الأطفال. و (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) أي ذات انفطار وتشقق ، كامرأة حائض وطالق. والانفطار :
التصدع والانشقاق ، على غير نظام يقصد. وضمير (به) إما عائد على اليوم ، وإما عائد
على الله تعالى.
وهذه الآية لها
نظائر ، منها : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥ /
٢٥]. أي بالغمام الذي هو ظلل ، يأتي الله تعالى فيها ، والمعنى : يأتي أمره
وقدرته. وكذلك (مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي بأمره وسلطانه. وضمير (كانَ وَعْدُهُ) ظاهر أنه لله تعالى. ويحتمل أن يكون لليوم ، لأنه يضاف
إليه من حيث هو فيه.
إن توالي
التهديدات لمشركي قريش ، مع وصف ألوان العذاب ، يدلّ على شدة غضب الله تعالى وسخطه
على كل من كفر بالله وأشرك ، وأن كل أعمال المشركين مرصودة مدونة عليهم مشهود بها
من رسولهم عليها ، حتى لا تكون مجالا للإنكار والجحود. وما تقدم في سورة المزمل من
الآيات المخوفة موعظة بليغة ، فمن أراد اتّعظ بها واتّخذ الطاعة طريقا توصله إلى
رضوان الله في الجنة.
تخفيف الله على عباده في قيام الليل
الإسلام كله دين
يسر ، وسهولة ، وتخفيف ، قد يفرض أو يطلب فيه شيء لظرف من الظروف في فاتحة الوحي
الإلهي ، ثم يرفع الفرض أو الندب مثل قيام الليل ، وذلك فضل من الله ورحمة ،
وإحسان ونعمة ، ليكون المطلوب على جهة الدوام والاستمرار موصوفا بصفة اليسر ودفع
الحرج والمشقة. وآيات التخفيف متنوعة ، منها ما ورد في قيام الليل الذي كان مطلوبا
إما على جهة الوجوب أو على الندب ، بحسب الخلاف المذكور بين العلماء :
(إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ
أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))
[المزمّل : ٧٣ /
٢٠].
إن ظروف طروء
المرض ، والتجارة ، والجهاد في سبيل الله اقتضت التخفيف عن النبي وأمته في شأن
عبادة الليل ، والله محيط علمه بكل شيء.
فإن الله تعالى
يعلم أيها الرسول أنك تقوم ممتثلا أمر ربك ، تاركا النوم والراحة لمدة هي أقل من
ثلثي الليل أحيانا ، وأحيانا تقوم نصفه أو ثلثه أو أدنى من الثلث ، بحسب قدراتهم
مع عذر النوم. إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الندب ، بحسب الخلاف المتقدم بين
العلماء ، في أوائل سورة المزمّل. وتقوم معك ذلك القدر في قيام الليل طائفة من
أصحابك ، والله يجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.
__________________
ويعلم الله تعالى
مقادير الليل والنهار حقيقة ، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل ، مرة يكثر ،
ومرة يقلّ ، وأما البشر فلا يحصون ذلك ، ويعلم الله أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق
الزمان والقيام بالليل ، ولن تتمكنوا من ضبط مقادير الليل والنهار ، ولا إحصاء
الساعات ، فتاب الله عليكم ، أي رجع بهم من الثّقل إلى الخفّة ، ومن العسر إلى
اليسر ، وأصل التوبة : الرجوع.
قال مقاتل : لما نزلت
(قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلاً) (٢) شقّ ذلك عليهم
، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ،
فانتفخت أقدامهم ، وامتقعت ألوانهم ، فرحمهمالله وخفف عنهم ، فقال الله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ
عَلَيْكُمْ). والمراد بقوله : (لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تطيقوه ، لصعوبة الأمر ، لا أنهم لا يقدرون عليه.
(فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) هذا في صلاة قيام الليل ، أي صلّوا ما تيسّر لكم من صلاة
الليل ، فالمراد بالقراءة : الصلاة ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وهذه الآية نسخت
المطالبة بقيام الليل.
وأسباب التخفيف :
هي أن الله تعالى علم بطروء أعذار ثلاثة على بني آدم تحول بينهم وبين قيام الليل :
هي المرض ، والسفر ، والجهاد ، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل ، وآخرون
يسافرون في الأرض للتجارة وكسب العيش والأرباح ، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون
إليه في معاشهم ، فلا يطيقون قيام الليل. وقوم آخرون : هم المجاهدون في سبيل الله
، لا يطيقون قيام الليل ، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية
التهجد عن جميع الأمة ، وكذا عن النّبي صلىاللهعليهوسلم. وقوله : (عَلِمَ أَنْ) أن مخففة من الثقيلة ، أي أنه يكون. والضرب في الأرض : هو
السفر للتجارة.
وفي هذه الآية
فضيلة الضرب في الأرض للتجارة ، وجعل السفر لها كالسفر للجهاد.
فصلّوا ما تيسّر ،
واقرؤوا في صلاتكم الليلة قبيل الفجر ما تيسّر من القرآن ، والمراد بالأمر هنا
الإباحة ، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها ، وأدّوا الصلاة المفروضة
قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها ، وملازمة الخشوع فيها ، دون غفلة عنها ، وأدّوا
الزكاة الواجبة في الأموال ، وأنفقوا في سبيل الله إنفاقا حسنا على الأهل وفي
الجهاد ، وعلى المحتاجين. وإقراض الله تعالى : هو استلاف العمل الصالح عنده مجازا
عن القبول.
ثم أكد الله تعالى
طلب الصدقة ورغّب فيها ، فجميع ما تقدّمونه من الخير المذكور وغير المذكور ، ثوابه
حاصل لكم ، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا ، ومما تؤخّرونه إلى وقت الموت
، أو توصون به ، لإخراجه من التركة بعد موتكم.
ثم أمر الله تعالى
بالاستغفار ، وأوجب لنفسه صفة الغفران ، لا إله غيره ، فأكثروا من الاستغفار
لذنوبكم وفي أموركم كلها ، فإنكم قد تقترفون بعض الذنوب ، والله كثير المغفرة لمن
استغفره ، كثير الرحمن لمن استرحمه. قال بعض العلماء : فالاستغفار بعد الصلاة
مستنبط من هذه الآية ، ومن قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨)) [الذّاريات : ٥١ /
١٧ ـ ١٨].
تفسير سورة المدّثر
إرشاد النّبي صلىاللهعليهوسلم في بدء الدعوة
كان تأهيل النّبي
عليه الصّلاة والسّلام لتبليغ الدعوة أمرا مرتبطا بالوحي الإلهي ، وكان يتأثر في
مبدأ الوحي إليه بثقل الوحي ، ويبادر إلى التّزمل (التغطي أو التلفف بثيابه)
والتدثّر (بالثياب أو بقطيفة) حتى يزول عنه آثار التعرّق ، مما أدى إلى أنه انقطع
عنه الوحي فترة ، ثم عاد إليه على شوق وحرص ومحبة إليه ، وذلك من أجل سكن نفسه ،
وهدأة روعه.
أخرج الشيخان عن
جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : جاورت بحرّاء شهرا ، فلما قضيت جواري ، نزلت ، فاستنبطت
الوادي ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحرّاء ، فرجعت ، فقلت : دثّروني ،
فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ) (١).
وهذه أوائل سورة
المدثّر المكّية بإجماع أهل التأويل ، وهي التي نزلت بعد سورة العلق : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) بنص حديث
البخاري المذكور ، وهو الأصح :
(يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ
فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))
[المدّثّر : ٧٤ /
١ ـ ١٠].
__________________
قال جمهور
المفسرين : نودي بالمدثّر ، لما ورد في البخاري من أنه صلىاللهعليهوسلم لما فرغ من رؤية جبريل عليهالسلام على كرسي بين السماء والأرض ، فرعب منه ، ورجع إلى خديجة. وهذه
توجيهات أولية ضرورية ونافعة للنبي صلىاللهعليهوسلم بعد بدء الوحي ، تشتمل على البدء بالإنذار ، وتكبير الله ،
وتطهير نفسه وقلبه ، والتّرفع عن محقّرات الأخلاق كإعطاء القليل لأخذ الكثير ،
والصبر في دعوته لربّه ، وتذكّر هول يوم القيامة الشديد على الكافرين.
ـ وأول هذه
التوجيهات : بدء التبليغ تبشيرا وإنذارا ، فيا أيها النّبي الذي قد تدثّر بثيابه ،
أي تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة : انهض بواجب الرسالة ،
وخوّف أهل مكة وجميع الخلق من عذاب الله ووقائعه بالأمم ، إن لم يسلموا ، وهو أمر
بترك العزلة ، والاستعداد للاختلاط ونشر الدعوة.
ـ وعظّم الله وصفه
بالكبرياء ، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك ، فإنه أكبر من أن يكون له شريك ،
فالشّرك كفر وضلال ، وسبب لغضب الرحمن ، وتوحيد الله تعالى أساس دعوتك.
ـ وطهّر قلبك
ونفسك من أدران المعصية ، وثيابك واحفظها من النجاسات ، لأن الإسلام دين الطّهر
والنظافة ، والصحة والنقاء ، وهو دين الطهارتين : المعنوية الروحانية ، والحسّية
الجسدية. والآية دليل على تعظيم الله تعالى ، وتنزيهه عما يقول عبدة الأوثان ،
وعلى نظافة الجسد والثياب ، وتحسين الأخلاق ، واجتناب المعاصي.
ـ واترك تركا
أبديا الرّجز ، أي الأصنام والأوثان ، فلا تعبدها ، فإنها سبب العذاب ، واهجر جميع
الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب الدنيوي والأخروي. والآية دليل على وجوب
الاحتراز من كبائر المعاصي كالشّرك أو الوثنية ، بل وعن جميع المعاصي.
والنّهي عن جميع
ذلك ، لأنه القدوة الحسنة العليا ، ولا يعني أنه يرتكب شيئا منها ، وإنما يراد به
تدوين مبدأ إسلامي عام هو هجر الوثنية ، والدوام على الهجران.
ولا تمنن على
أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي ، مستكثرا ذلك عليهم ، وإذا أعطيت أحدا شيئا من
الأعطيات ، فأعطها لوجه الله تعالى ، ولا تمنّ بعطيتك على الناس ، ولا تعط عطاء
لتعطى أكثر منه. وقال مجاهد : المعنى لا تضعف من الاستكثار من الخير ، أو مما
حمّلناك من أعباء الرسالة.
ـ واجعل صبرك على
أذاهم لوجه ربّك عزوجل وطلب رضاه ، فإنك حملت أمرا عظيما ، ستحاربك العرب والعجم
عليه ، فاصبر على هذا الأمر لوجه الله ، واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته.
ـ اصبر على أذى
قومك وغيرهم من الكفار ، وعلى العبادة ، وعن الشهوات ، وعلى تكاليف النّبوة ،
فعاقبة الصبر منك النصر والفرج ، وأمام الكفار يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم ،
فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور ، فوقت النقر يومئذ يوم شديد
جدّا على الكفار ، غير سهل عليهم. والناقور : الذي ينفخ فيه ، وهو الصّور. ويوم
عسير : فيه عسر في الأمور الجارية على الكفار ، فوصف الله تعالى اليوم بالعسر ،
لكونه ظرف زمان له ، وكذلك تجيء صفته باليسر.
أخرج ابن أبي حاتم
، وابن أبي شيبة وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨) قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كيف أنعم ، وصاحب القرن ، قد التقم القرن ، وحنى جبهته
ينتظر متى يؤمر ، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : قولوا : حسبنا الله ، ونعم
الوكيل ، على الله توكّلنا»
لقد جمعت هذه
الآيات على وجازتها أمهات الفضائل ، حيث جمعت بين أوامر العقيدة وتعظيم الله ،
وأوامر الدعوة وتبليغها ، وأوامر العبادة والطاعة لله تعالى
ومتطلباتها من
طهارة القلب والنفس والثياب ، ومثلها البدن والمكان من باب أولى ، واجتناب الأوثان
، وتحرير العقل من الشّرك ، والتّخلق بالأخلاق الاجتماعية والعادات الإنسانية كترك
إعطاء القليل وابتغاء الكثير ، وتقويم النفس بكريم الخلق ، وإصلاح البدن بهجر
المآثم والمحارم. وهذه الأوامر لا تعني أن النّبي يفعل شيئا منها ، وإنما هو من
قبيل الاستمرار والمداومة على ما هو عليه من عبادة الله الواحد الأحد ، والتّحلي
بالأخلاق الكريمة ، وهجر كل ما يغضب الله تعالى.
وعيد زعماء الشّرك
في بدء الدعوة
هدّد الله تعالى الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشّرك ، وآنس نبيّه بقوله في
سورة المدّثّر : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيداً) (١١) وقوله في
سورة المزمّل : (وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (١١) ، ثم عدّد
سبحانه وتعالى نعمه الوفيرة على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة ، وكفره
بها ، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر ، بل ومحاولة تحدّيه بمقاومة
الملائكة ، زبانية جهنم التسعة عشر. ويتبين ذلك في الآيات الآتية :
(ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً
(١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ
إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣)
فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ
__________________
الْبَشَرِ
(٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا
تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما
جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما
ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى
لِلْبَشَرِ (٣١))
[المدّثّر : ٧٤ /
١١ ـ ٣١].
أخرج الحاكم وصححه
وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس .. أن الوليد ابن المغيرة جاء إلى النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ،
فأتاه ، فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك ما لا ليعطوكه ، فإنك أتيت
محمدا ، لتتعرض لما قبله ، قال : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل
فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، وأنك كاره له ، فقال : وماذا أقول؟ فو الله ، ما
فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، والله ما يشبه الذي
يقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر
، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : لا
يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني أفكر فيه ، فقال : «هذا سحر يؤثر» يأثره
عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١)
والمعنى : دعني
أنا ، والذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمه ، لا مال له ولا ولد ، أو دعني وحدي
معه لا يشركني فيه أحد ، فإني أكفيك في الانتقام منه. عرفنا أن هذه الآية نزلت في
الوليد بن المغيرة المخزومي ، الذي كان يلقب بالوحيد ، لأنه لا نظير له في ماله
وشرفه في بيته. فذكر الوحيد في الآية في جملة النّعم التي أعطيها ،
__________________
ولكن لم يثبت هذا.
ومعنى قوله : (خَلَقْتُ وَحِيداً) معناه : منفردا ذليلا ، فجعلت له المال والبنين.
وجعلت له مالا
واسعا كثيرا ، وبنين حضورا معه بمكة ، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في
البلاد لطلب الرزق ، لكثرة مال أبيهم ، وبسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في
قريش ، ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك ، مما يدعو إلى التعجب.
وهذا إنكار عليه ، لشدة حرصه على الدنيا. فرد الله عليه : كلا : كلمة ردع وزجر ،
لا أزيده ، إنه كان لآيات القرآن معاندا لها ، كافرا بها ، بعد العلم بصدقها.
سأكلفه وأحمله مشقة من العذاب.
و (سَأُرْهِقُهُ) : أكلفه بمشقة وعسر ، و (صَعُوداً) عقبة في نار جهنم.
إنه فكّر في شأن
النّبي صلىاللهعليهوسلم وفي القرآن العظيم ، وهيّأ من الكلام في نفسه ما يقول ،
وتروى فيما يصف به القرآن حين سئل عنه ، فلعن وعذّب ، على أي حال قدر ما قدر من
الكلام. وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه ، واستحقاقه مضاعفة العذاب ، ثم أعاد
النظر والتّروي والتأمّل في الطعن بالقرآن ، ثم قطّب وجهه ، لما لم يجد مطعنا يطعن
به القرآن ، وتغيّر وجهه ، ثم أعرض عن الإيمان ، وتكبّر عن الانقياد للقرآن ، فقال
: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى ، هو قول (كلام) البشر ، أي ليس منزلا من عند الله
تعالى. وقوله : (فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ) (١٩) دعاء عليه
على معنى تقبيح حاله. و (قتل) بمعنى لعنه أو عاداه ، أو هو بمعنى التعجب من الشيء.
سأدخله النار ،
وسأغمره فيها من جميع جهاته ، وسقر : من أسماء النار ، ثم أي شيء أعلمك ما سقر؟ لا
تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا ، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا ، فلا تتركهم ، بل
تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبدا. وهي أي جهنم تلوح للناس حتى يرونها
عيانا ، وعليها زبانية أشداء ، من الملائكة عددهم
تسعة عشر شخصا ،
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء : أن رهطا من اليهود
سألوا رجلا من أصحاب النّبي صلىاللهعليهوسلم عن خزنة جهنم ، فجاء ، فأخبر النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزل عليه ساعتئذ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠).
ولم نجعل خزنة
النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا ، ولم نجعلهم رجالا
تمكن مغالبتهم ، ولم نجعل عددهم تسعة عشر إلا اختبارا منّا للناس ، وسبب محنة
وإضلال للكافرين ، حتى قالوا ما قالوا ، ليتضاعف عذابهم ، وقوله : (فِتْنَةً) أي سبب فتنة للكفار ، وفتنتهم : كونهم أظهروا مقاومتهم ،
والطمع في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذّبون بالبعث وبالنار
وبخزنتها. وجعل الله هذا العدد ليتيقن أهل الكتاب (وهم اليهود والنصارى) أن الرسول
حق ، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية السابقة ، فإن فيها أن عدّة خزنة
جهنم تسعة عشر ، ولكي يزداد إيمان المؤمنين ، ولا يشك أهل الكتاب من اليهود
والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله ، في صحة وحقيقة هذا العدد وفي دين الله ،
وليقول المنافقون الذين في قلوبهم شكّ وريب ، في صدق النّبي صلىاللهعليهوسلم ، ومعهم الكافرون من أهل مكة وغيرهم : أي شيء أراد بهذا
العدد المستغرب استغراب المثل ، وما الحكمة في ذكر هذا العدد هنا؟ مثل ذلك المذكور
من الإضلال والهداية ، يضلّ الله من يريد ، بخذلانه عن إصابة الحق ، لسوء استعداده
، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد ، بتوفيقه إلى الصواب ، وليس في ذلك إجبار على
الضلالة والهدى ، لمنافاته للعدل الإلهي. وما يعلم أنصار الله وأعوانه إلا الله
وحده ، وما سقر وصفتها إلا تذكرة وعظة للناس ، ليعلموا كمال قدرة الله.
روي أن الحارث بن
كلدة الجمحي قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فنزل قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا
مَلائِكَةً) أي لم نجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.
التّحذير من إنكار جهنم ووصف أهلها
ردّ الله تعالى
على الكافرين الذين لا يؤمنون بالبعث ، وعلى أنواع الطاعنين على الحقّ وأحوال أهل
النار ، فإن الجنة حق والنار حق ، وكل إنسان مسئول عن نفسه لا عن غيره ، ويتساءل
أصحاب اليمين في الجنة عن سبب دخول المجرمين النار ، فيذكر لهم السبب من الآن في
الدنيا : وهو إعراضهم عن الإيمان وعن أداء الفرائض وعن إطعام المساكين ، وإعراضهم
ناشئ من التكبّر والأنفة ، وتظل جهنم إنذارا كافيا لمن أراد التقدم إلى الخير
والطاعة ، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية :
(كَلاَّ وَالْقَمَرِ
(٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها
لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ
الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما
تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ
(٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ
شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))
[المدّثّر : ٧٤ /
٣٢ ـ ٥٦].
قوله : (كَلَّا) ردّ على الكافرين والطاعنين على الدين الحق ، ومفاد الرّد
: أني أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس ، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة ،
وأقسم بالقمر ، وبالليل إذا مضى وولّى ذاهبا ، وبالصّبح إذا ظهر وأضاء قبل طلوع
الشمس
__________________
بكثير ، إن سقر (وهي
جهنم) لإحدى الدّواهي العظام ، لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله تعالى على
العصيان.
ـ وإن جهنم إنذار
واضح لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة ، أو إلى الجنة بالإيمان ، أو يتأخّر عن
ذلك إلى الشّرّ والمعصية أو إلى النار ، لإنذار البشر من عقاب الله على العصيان.
قال ابن عباس : هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخّر عن الطاعة وكذّب محمدا صلىاللهعليهوسلم ، عوقب عقابا لا ينقطع. وقال الحسن البصري : لا نذير أدهى
من النار.
ليس لكل امرئ إلا
جزاء عمله ، فكل نفس مأخوذة بعملها ، مرتهنة به ، فإن كان العمل خيرا خلّصها
وأعتقها من العذاب ، وإن كان شرّا أوبقها في النار ، أي إن المقصّر مرتهن بسوء
عمله.
لكن أصحاب اليمين (والاستثناء
هنا منفصل أو منقطع) لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون. وهم في جنات يتنعمون ،
يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين في النار ، ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود
من السؤال : زيادة التوبيخ والتخجيل.
فأجابوا بأن هذا
العذاب لأمور أربعة : لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة ، ولم نحسن إلى أحد ،
فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه ، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم ، أي
كلما غوى غاو غووا معه ، وكنا نكذب بيوم الجزاء أي القيامة ، حتى أتانا الموت.
والتكذيب بيوم القيامة كفر صراح بالله تعالى. فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال
حياتنا الدنيوية : ترك الصلاة ، والزكاة ، والخوض في باطل الكلام أو الغواية ،
وإنكار البعث والحساب والجزاء. وكون الأمرين الأولين سبب النار دليل على أن الكفار
مخاطبون بفروع الشريعة.
فمن كان متّصفا
بمثل هذه الصفات ، فلا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه ، من ملائكة وأنبياء
وصالحين ، لأن مصيرهم إلى النار حتما.
ما الذي حصل لهم
حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو التذكرة والموعظة؟ كأنهم في نفورهم عن الحق
وإعراضهم عنه ، من حمر الوحش إذا فرّت من رماة يرمونها ، أو من أسد يريد افتراسها.
وجمهور اللغويين على أن القسورة : الأسد. وقيل : الرجال الأشداء.
أخرج البخاري
ومسلم وأحمد حديث الشفاعة ، وهو طويل ، وفيه : «تشفع الملائكة ، ثم النّبيون ، ثم
العلماء ، ثم الشهداء ، ثم الصالحون ، فيشفّعون ، ثم يقول الله تعالى : شفع عبادي
، وبقيت شفاعة أرحم الرّاحمين ، فلا يبقى في النار من له إيمان».
ومن صور عناد
الكافرين : ما وصف الله تعالى : بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه
كتاب ، كما أنزل على النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فهم قد بلغوا من العناد حدّا تجاوزوا به أقدارهم. كلا (كلمة
زجر وردع لهم) على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة ، فلا يؤتونها ،
وهم في الحقيقة منكرون للبعث والحساب ، لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.
وكفاهم القرآن
كتابا ، حقّا إن القرآن تذكرة كافية لهم ، فإنه خير تذكرة وموعظة ، فمن أراد أن
يذكره ويتّعظ به ، اتّعظ واعتبر.
ولا يقع شيء في
هذا الكون قهرا عن الله ، لأنه المالك وصاحب السلطان ، فما يذكرون القرآن ويتّعظون
به إلا بمشيئة الله تعالى ، الجدير بالتقوى ، أي بأن يتّقيه ويخاف منه المتّقون ،
بترك معاصيه ، والعمل بطاعاته. وهو أيضا الجدير بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من
الذنوب ، وبأن يقبل توبة التائبين من العصاة. أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه
والنّسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن النّبي صلىاللهعليهوسلم فسّر هذه الآية ، فقال : «يقول لكم ربّكم جلّت قدرته
وعظمته : أنا أهل أن أتّقى ، فلا يجعل معي إله غيري ، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها
غيري ، فأنا أغفر له».
تفسير سورة القيامة
إثبات القيامة وما يحدث فيها
أنكر المشركون
ثلاثة أمور : وحدانية الله ، والنّبوة ، والقيامة ، فكان القرآن الكريم معنيّا في
مناقشاته وردوده بهذه الأمور ، لإثباتها ، وبما أن القيامة أمر غيبي ، لا مجال
لإثباته إلا بالخبر الصادق ، ومن أصدق من الله حديثا؟ فإنه سبحانه أخبر عن وجوب
الإيمان بالغيب ، ومنه يوم القيامة ، وأقسم قسما شديد التأكيد على أنه يوم واقع ،
وفي مطلع سورة القيامة المكّية بالإجماع قسم من الله على وقوع القيامة وما فيها من
أهوال :
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ
يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
(١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ
الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))
[القيامة : ٧٥ / ١
ـ ١٥].
أقسم أنا الله
بيوم القيامة ، و (لا) إما استفتاح كلام ، أو صلة زائدة ، وأقسم
__________________
بالنفس اللوامة
صاحبها أو غيرها على تقصيره في ترك الطاعة ونحوه ، أنكم سوف تبعثون وتحاسبون يوم
القيامة.
وجواب القسم محذوف
، لدلالة ما بعده عليه. والقسم بالشيء إشارة لتعظيمه وتفخيمه. والنفس في الآية :
اسم جنس لنفوس البشر.
وكل نفس متوسطة
ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء ، فإنها لوّامة ، مرة تلوم على ترك الطاعة ،
ومرة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت.
أيظن الإنسان (الكافر)
ألا بعث وألا نجمع عظامه؟! وهذا تقرير وتوبيخ. وهذه الظنون أو الأقوال كانت لكفار
قريش. بلى : (وهي إيجاب ما نفي) أي بلى نجمعها قادرين على جمعه وإعادة تركيب عظامه
وأعضائه ، وتسوية بنانه ، أي أطراف أصابعه. أي إن العظام والأعضاء تجمع ويسوّى
أكثرها تفرقا ، وأدقها أجزاء ، وهي عظام الأنامل والمفاصل ، وهذا كله عند البعث
والنشور من القبور.
ويسأل الإنسان
الكافر وغيره سؤال استبعاد وإنكار واستهزاء وتعنّت متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن
بالبعث ارتكب أعظم الآثام ، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل. والإنسان
: اسم جنس ، وهو ابن آدم. بل (وهو إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر) يريد الإنسان في
الواقع تغليب شهواته ، ومداومة فجوره أي فسقه أو كفره ، بتكذيبه بالبعث وغير ذلك
بين يدي القيامة.
وعلامات القيامة
ثلاث هي : إذا دهش البصر وتحيّر من شدة أهوال القيامة ، وذهب ضوء القمر كله دون أن
يعود ، كما يعود بعد الخسوف في الدنيا ، وتبدد أو زال ضوء الشمس والقمر جميعا ،
فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار ، أي إن معالم الكون تتغير كلها.
كلا (كلمة ردع
وزجر) لا ملجأ ولا معتصم من الله يعصمكم يومئذ ، وإنما إلى الله ربكم المرجع
والمصير ، في الجنة أو في النار.
وفي ذلك اليوم يوم
القيامة ، يخبر الإنسان أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو
شرّ ، قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها.
والإنسان عالم بنفسه
، لذا قال الله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ ..) أي بل (وهو يفيد الإضراب بمعنى الترك ، لا بمعنى إبطال
القول الأول) إن الإنسان بعقله وفطرته حجة ، وشاهد مبصر على نفسه ، عالم بما فعله
، فهو حجة كافية بينة على أعماله ، ولو اعتذر وأنكر ، وحاول تقديم المعاذير أي
الأعذار ، أي ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. قال مجاهد : معاذيره : حجته ،
وقال ابن كثير : والصحيح قول مجاهد وأصحابه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا
أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) [الأنعام : ٦
/ ٢٣]. وكقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٨) [المجادلة :
٥٨ / ١٨].
إن هذه الآيات
التي يراد بها إثبات يوم القيامة تدلّ على عظمة الله وقدرته الخارقة ، فهو سبحانه
قادر على جمع عظام الإنسان المفتتة في أي مكان ، وأعضائه المشتتة في أي موضع ،
وهذا في حدود العقل البشري مستبعد ، لكن في مجال علم الله تعالى وقدرته أمر سهل
يسير ، غير مستبعد ، بل هو واقع حتما.
والمفاجأة
بالحقائق أمر صعب على النفوس ، فيفاجأ المرء بتاريخه الطويل الذي سجّله في الدنيا
، وتكون الكارثة أو النجاة ، فإما إلى نار دائمة الاشتعال والتعذيب للكافرين ،
وإما إلى جنة دائمة النعيم والفضل الإلهي.
ولا مجال للمكابرة
أو الاعتذار عن شيء فعله الإنسان ، فلا يقبل العذر مهما
كان ، ويصطدم
الشخص بواقعه الذي هو أعلم به ، وهو خير شاهد وحجة على نفسه ، حتى ولو أنكر أو
اعتذر.
وأي سبيل للإنكار؟
وأعمال الإنسان مدوّنة عليه بوساطة ملك اليمين وملك الشمال ، لأن الكتابة لا سبيل
لمحوها أو إنكارها ، والله أعلم بكل شيء صغير أو كبير ، من كل مكتوب أو مقروء أو
مقالة.
حفظ القرآن وحال الناس في الدنيا والآخرة
إنزال القرآن
الكريم بالوحي على قلب النّبي صلىاللهعليهوسلم شيء عظيم لا يعادله شيء في الدنيا ، لذا حرص النّبي على
تلقّي الوحي وعلى حفظه ومتابعته ، وكان يردّده في مبدأ الأمر أثناء التّلقي ،
فأرشده الله تعالى إلى ضرورة الإصغاء له أولا ، ثم يكون التثبيت والحفظ في القلب
من فعل الله تعالى. أما منكر القيامة والبعث فهو معرض عن آيات الله تعالى ومعجزاته
، وسبب إنكاره البعث : هو حبّ الدنيا ، وترك العمل للآخرة. والناس في الآخرة
فريقان : فريق المؤمنين وفريق المشركين الذين يترقبون نزول دواهي العذاب بهم ،
وهذا ما عبّرت عنه الآيات الآتية :
(لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا
قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ
بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))
[القيامة : ٧٥ /
١٦ ـ ٢٥].
أخرج البخاري
ومسلم وأحمد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا
__________________
أنزل الوحي ،
يحرّك به لسانه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (١٦) الآية.
كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حرصا منه على القرآن الموحى به إليه ، يبادر إلى حفظه
وترداده ، ويسابق الملك في قراءته ، ويحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن ، إذا أنزل عليه
، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي ، فنزلت هذه الآية.
ومعناها : لا تحرّك
بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي ، لتأخذه على عجل ، مخافة أن يتفلت منك ، كما جاء
في آية أخرى : (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ٢٠ / ١١٤].
إن علينا جمعه في
صدرك ، حتى لا يذهب عليك منه شيء ، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه
القويم. فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليهالسلام ، فاستمع له وأنصت ، ثم اقرأه كما أقرأك ، وكرره حتى يرسخ
في ذهنك. والقرآن : مصدر كالقراءة.
ثم إننا بعد حفظه
وتلاوته ، نفسّر لك ما فيه من الحلال والحرام ، ونبيّن أو نوضّح لك ما أشكل منه ،
ونلهمك معناه كما أردناه وشرعنا ، أي علينا تبيينه وتحفيظه لك.
إن هذه الآيات
الأربع اشتملت على أحوال ثلاث : هي جمعه في صدره وحفظه ، في الآيتين الأولى
والثانية ، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل ، في الآية الثالثة ، وتفسيره وبيانه في
الآية الرابعة. ثم أوضح القرآن الكريم حال منكر البعث ، فوبّخه وقرّعه على إنكار
البعث ، وبيّن له سبب الإنكار ، وهو :
كلا (كلمة ردع
وزجر) أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث ، فإن الذي يحملكم على
التكذيب بيوم القيامة ، ومخالفة ما أنزله الله تعالى على رسوله ، من الوحي الحق
والقرآن العظيم ، وسبب إنكاركم ، هو محبّتكم دار الدنيا العاجلة ، وتشاغلكم عن
الآخرة ، وترك العمل لها. وهذه الآية (كَلَّا بَلْ
تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ)
رجوع إلى مخاطبة
قريش ، في ردّهم الشريعة ، أي ليس ذلك كما تقولون ، وإنما أنتم قوم غلبتكم الدنيا
بشهواتها ، فأنتم تحبّونها حبّا تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها. ولما ذكر الله
تعالى الآخرة ، أخبر بشيء من حال أهلها.
وجوه المؤمنين في
الجنة حسنة بهية ، مشرقة مسرورة ، ترى ربّها عيانا ، ووجود الفجّار الكفّار في
النار عابسة كالحة كئيبة ، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة ، تكسر فقار الظهر.
وجمهور العلماء على جواز رؤية الله تعالى في الآخرة ، من غير تحديد بمكان معين. جاء
في الصحيحين عن جرير ، قال : نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنكم ترون ربّكم ، كما
ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ، ولا قبل
غروبها ، فافعلوا».
وللآية نظائر منها
: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها
غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
(٤٢)) [عبس : ٨٠ / ٣٨ ـ ٤٢].
لقد تكفّل الله
لنبيّه ثلاثة أمور لحفظ القرآن : وهي جمعه في صدره عليه الصّلاة والسّلام ،
وتلاوته ، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام ، والوعد والوعيد ،
والمشكلات.
وسبب إنكار
المشركين البعث والجزاء : هو إيثار الدنيا والتّمتع بنعيمها ، وترك العمل
والاستعداد للآخرة ، وهذا سوء اختيار ، لأن نعيم الدنيا زائل ، ونعيم الآخرة باق
دائم.
ورؤية أهل الإيمان
ربّهم في جنان الخلد ، وحرمان الفجّار (الكفّار والعصاة) منها أمر ثابت مقرر لا شك
فيه بدلالات الكتاب والسّنة ، جاء في حديث مسلم عن صهيب : أن رؤية الله عزوجل هي الزيادة في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ١٠ / ٢٦].
وتكون وجوه
الكفّار الفجّار في الآخرة كالحة كاسفة عابسة ، مستيقنة أنه سيحلّ بها عذاب شديد ،
وداهية عظيمة.
التّفريط وعاقبته
الناس فريقان :
إما عصاة أشرار ، وإما طائعون أبرار ، وقد أنذر الله تعالى جميع الناس قبل أن
يفجأهم الموت ، وتطوى صحائف الأعمال ، فيبادروا إلى الإيمان بالله والعمل الصالح ،
وبعد الموت الذي يستوي فيه الكل ، يأتي البعث حتما في وقت لا بد منه ، من أجل
أمرين : ألا وهما إقامة العدل المطلق بين الخلائق ، بالجزاء على الأعمال ، حتى لا
يتساوى المطيع والعاصي ، وبيان إنجاز وعد الله تعالى وممارسة قدرته ، فكما أن الله
تعالى قادر على بدء الخلق ، فهو قادر على الإعادة والبعث ، بل إن الإعادة أهون في
منطق البشر. قال الله تعالى زاجرا ومنذرا من ملاقاة أهوال القيامة :
(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
(٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ
مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))
[القيامة : ٧٥ /
٢٦ ـ ٤٠].
__________________
زجر الله تعالى
قريشا وأمثالها بأنهم متعرّضون لموطن من مواطن الهول ، وأمر من الله تعالى لا محيد
لبشر عنه ، وهو حالة الموت والمنازعة التي كتبها على كل حيوان.
ومضمون الزجر : لا
تستطيع أيها الإنسان التكذيب بما أخبرت به ، حين تجد الحقيقة عيانا أمامك ، وهي
مفارقة الحياة وتجرّع كأس الموت. فإذا بلغت روحك تراقيك الموازية للحلاقيم ، وهي
جمع ترقوة ، وهي العظام التي بين ثغرة النّحر والعاتق ، ولكل أحد ترقوتان ،
والأفراد في الكثيرين جمع ، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الروح. يسّره
الله تعالى علينا.
وقيل حينئذ : من
الطّبيب المعالج الذي يرقي المحتضر ويشفيه ، وأيقن هذا الشخص الذي بلغت روحه
التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا والأهل ، لنذكر جميعا هذه الحالة. والمعنى
العام : ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتنبّهوا إذا بلغت الحلقوم أو أعالي
الصدر ، كناية عن الاحتضار وأهواله ، والموت وشدائده.
وفي حالة الاحتضار
التفّت ساق الإنسان على ساقه عند نزول الموت به ، فلا يقدر على تحريكها ، أي ماتت
رجلاه ، ويبست ساقاه ولم تحملاه ، واجتمع عليه أمران :
الناس يجهّزون
جسده ، والملائكة يجهّزون روحه.
وتساق الأرواح بعد
قبضها من الأجساد إلى خالقها ، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربّك ، فإما إلى جنّة
عرضها السماوات والأرض ، وإما إلى نار حامية دائمة الإحراق.
وعمل هذا المحتضر
المعذب بموته : هو أنه في الدنيا لم يصدق بالرسالة النّبوية ولا بالقرآن ، ولا
صلّى لربّه الصلاة المطلوبة منه فرضا ، بل كذّب بالرسول وبما جاء به ، وتولّى عن
الطاعة والإيمان ، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله بطرا أشرا ، يتبختر ويختال في
مشيته ، افتخارا بتقصيره. لقد جمع بين إهمال العقيدة الصائبة ، وبين إهمال
الفرائض ، وبين
سوء الخلق بالتكبّر والتجبّر والتطاول. وهذا دليل واضح على أن الكافر يستحقّ
العقاب بترك الصلاة والزكاة ، كما يستحقه بترك الإيمان الذي هو أساس صحة الصلاة.
وهذا العقاب جدير
به هذا الجاحد ، كما قال تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٤) أي ويل لك ثم
ويل ، أولى لك الهلاك ، وهو وعيد ثان ، ثم كرر ذلك تأكيدا ، والمراد :
أولى لك الازدجار
والانتهاء ، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا. ومنه قوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ ، طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) [محمد : ٤٧ / ٢٠ ـ
٢١].
أخرج ابن جرير
الطبري عن قتادة : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
(٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) وعيد على
وعيد ، زعم أن هذا أنزل في عدو الله أبي جهل ، ذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم أخذ بمجامع ثيابه ، فقال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
(٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) فقال عدو
الله أبو جهل : أيوعدني محمد؟ والله ما تستطيع لي أنت ولا ربّك شيئا ، والله لأنا
أعزّ من مشى بين جبليها.
وأخرجه النّسائي
عن ابن عباس عن قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٤) أشيء قاله
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من قبل نفسه أم أمره الله به؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ،
ثم أنزله الله.
ثم استدلّ الله
تعالى على البعث بدليلين :
الأول ـ أيظنّ
الإنسان أن يترك في الدنيا مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يكلف ، ولا يحاسب ولا
يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة.
الثاني ـ أما كان
الإنسان نطفة ضعيفة من مني يراق في الرّحم ، ثم صار بعد ذلك علقة ، أي قطعة دم
عالقة ، ثم مضغة ، أي قطعة لحم ، ثم شكّل ونفخ فيه الروح ، فصار خلقا سويّا سليم
الأعضاء ، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر
عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث ،
كما كانت عليه في
الدنيا ، بلى ، فإن الإعادة أهون من الابتداء. وقوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ) توبيخ وإقامة حجة.
وقوله تعالى : (فَخَلَقَ فَسَوَّى) خلق : قدّر بقدر محكم بأن جعلها مضغة مخلّقة. و (فَسَوَّى) عدل أركانه وأحكم أمره ، وأكمل نشأته ، وجعل من المني بعد
تخليقه صنفي الإنسان : الرجل والمرأة. وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة ،
فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر ، والأمران سواء عليه.
تفسير سورة الدّهر
خلق الإنسان ومصيره
من أعاجيب الخلق
الإلهي : خلق الكون من السماء والأرض ، وخلق الإنسان بعد العدم ، ثم تكاثر النوع
الإنساني ، وتكليف الإنسان بالتكاليف الرّبانيّة المسماة بالأمانة ، ثم يمرّ في
أطوار الحياة بعد الولادة ، وتبدأ مرحلة البلوغ والخطاب الإلهي له ، ليكون موضع
اختبار في مدى الحياة أو العمر ، ويكون في أعقاب الامتحان إما كافرا جاحدا ، وإما
مؤمنا شاكرا. ولكلّ جزاؤه ، فللكافرين السعير والسلاسل والأغلال ، وللمؤمنين
الأبرار جنان الخلد والنعيم بسبب ما قدموا من صالح الأعمال ، وهذا صريح الآيات
الآتية في مطلع سورة الدّهر أو الإنسان المكّية في رأي بعضهم ، والأصح أنها مدنيّة
:
(هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ
الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها
__________________
تَفْجِيراً
(٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً
(٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ
اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ
بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))
[الإنسان : ٧٦ / ١
ـ ١٢]
هل : في كلام
العرب قد تجيء بمعنى قد ، مع التقرير ، وقال أكثر المتأوّلين : (هل) تقرير. أي لقد
أتى على جنس الإنسان فترة من الزمان ، كان فيه منسيا غير موجود ولا مخلوق ، ولا
مذكور لأحد من الخليقة المتقدمين عليه : وهم الملائكة والجنّ. وهذا إخبار عن فترة
ما قبل خلق الإنسان ، حيث كان معدوما لا يذكر. أي إذا تأمل كل إنسان نفسه ، علم
بأنه قد مرّ حين من الدّهر عظيم ، لم يكن هو فيه شيئا مذكورا ، أي لم يكن موجودا.
ثم أخبر الله
تعالى عن بدء تكاثر الخلق ، إننا نحن الخالق أوجدنا ابن آدم من ماء قليل من المني
، مختلط بين ماءي الرجل والمرأة ، من أجل اختباره ، بالخير والشّر ، وبالتكاليف
الشرعية ، بعد البلوغ ، وزودناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر ،
ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز مرحلة الاختبار.
ودللنا الإنسان
وأرشدناه ، وبيّنا له طريقي الخير والشّر ، والهدى والضّلال ، ويكون حاله إما
مؤمنا شاكرا لأنعم الله ، مهتديا بهديه ، وإما كافرا جاحدا للنعمة معرضا عن الطاعة
، متنكّرا للهدي الإلهي. وهذا مثل قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) (١٠) [البلد : ٩٠
/ ١٠]. أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشّر ، فهو باختياره بعدئذ إما شقي أو سعيد.
__________________
وجزاء الفريقين
بداهة مختلف في قانون العدل الدنيوي والإلهي. لقد هيّأنا وأعددنا لكل كافر بالله
وبنعمه ، سلاسل في أرجلهم يقادون بها إلى النار ، وقيودا تشدّ بها أيديهم إلى
أعناقهم ، ونارا تستعر وتتوقد ، لنعذبهم ونحرقهم بها.
وأما المؤمنون
الأبرار الذين جمعوا بين الصدق والطاعة (التقوى) والإخلاص فهم يشربون شرابا ذا
رائحة أو كأسا من خمر الجنة ، الممزوجة بالكافور (وهو طيب معروف له رائحة جميلة)
وهذا الشراب نابع من عين جارية عذبة يشرب منها عباد الله الصالحون ، تنبع بأمرهم ،
ويجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم. وقوله تعالى : (عَيْناً) بدل من قوله تعالى : (كافُوراً) أو مفعول به لفعل (يشربون) أي يشربون ماء هذه العين من كأس
عطرة كالكافور.
وأسباب ثواب
الأبرار ثلاثة أشياء أو خصال ثلاث : هي الوفاء بالواجب ، وخوفهم الحساب ، وتخلّقهم
بالخلق الفاضل كإطعام الطعام للمحتاجين.
١ ـ ٢ ـ أنهم
يوفون بالنّذور التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم ، تقرّبا إلى الله تعالى.
ويتركون المحرّمات التي نهى الله عنها ، خوفا من عذاب يوم القيامة ، الذي تكون
شدائده وأهواله منتشرة في كل جهة ، وعامة على الناس ، إلا من رحم الله. فقوله : (يَوْماً كانَ شَرُّهُ) أي يوم القيامة الذي كان ضرره متّصلا شائعا كاستطارة
الفجر.
٣ ـ ويطعمون
الطّعام في حال محبّتهم إياه لمحتاج فقير عاجز عن الكسب ، وليتيم حزين فقد أباه ،
ولأسير مأسور عند الأعداء. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة ، وإصلاحا
للإنسان. قال القرطبي : والصحيح أن الآية نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلا
حسنا ، فهي عامة.
وهم في حال إطعام
الطعام لهؤلاء يقولون وينوون : إنما نطعمكم هذا الطعام
لابتغاء رضوان
الله وحده ، ورجاء ثوابه ، دون منّ عليكم ، ولا ثناء من الناس ، ولا طلب جزاء أو
مقابل منكم أو من أحد ، بل هو خالص لوجه الله تعالى.
إننا مع طلب رضوان
الله سبحانه نخاف من أهوال يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدّته ، صعب شديد الهول
والخطر ، وشديد الظلمة.
فجازاهم الله
تعالى على إخلاصهم أنه دفع عنهم شرّ ذلك اليوم العبوس ، وآمنهم من مخاوفه ،
وأعطاهم نضرة في الوجوه ، وسرورا في القلوب ، لطلبهم رضوان الله تعالى.
وكافأهم بسبب
صبرهم على التكاليف الشرعية جنة يدخلونها ، وحريرا يلبسونه ، أي أعطاهم أو منحهم
منزلا رحبا ، وعيشا رغيدا ، ولباسا جميلا حسنا. وذلك كله بتكريم الله وفضله
وإحسانه ، جعلنا الله من أهل هذا الجزاء الحسن ، ومتّعنا بهذه النعم الجليلة.
نعم أهل الجنّة
إن أغلب الناس
تأثّرا بطبائعهم وشهواتهم المادّية يتأثّرون بالإغراءات المادّية ، والمطامع
المعيشية من كساء وغذاء وشراب وخدمات الخدم وحلي الدنيا ، فكانت إغراءات النعيم في
الجنان من هذا الطراز ، ليطمعوا في الحصول عليها ، ويعملوا العمل الصالح الموصل
لها ، وهو الجزاء المادّي ، وهناك جزاء معنوي أسمى وأرفع منه وهو الشعور بالرضوان
الإلهي ، والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي لا يعادله شيء من هذه النّعم ،
ولكن المسألة في الجنة درجات ومراتب بحسب تفاوت أعمال الناس. وهذه الآيات الآتية
تقرر نعيم الأشخاص العاديين :
(مُتَّكِئِينَ فِيها
عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ
فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها
زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ
ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ
رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُوراً (٢٢))
[الدّهر : ٧٦ / ١٣
ـ ٢٢].
هذه مظاهر النعيم
المادي في الجنة ، لقد جزى الله الأبرار جنة الخلود ، حيث يتكئون فيها على الأسرّة
والفرش والوسائد ، ولا يرون فيها الحرّ الشديد والبرد القارس ، لاعتدال هوائها ،
وذهاب ضرورتي الحرّ والبرد عنها. ومسّ الشمس : أشدّ الحر ، والزمهرير : أشد البرد.
وظلال الأشجار قريبة
منهم ، مظلّلة عليهم حيث لا شمس هناك ، وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا.
ويطوف عليهم الخدم
بأواني الطعام ، وهي من فضة ، وبأكواب الشراب : وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا
خراطيم ، وهي من فضة ، فاجتمع لها بياض الفضة ، وصفاء القوارير ، وهي الزجاج ، حتى
يرى داخلها من خارجها. وشكلها وحجمها حسب إرادة أهل الجنة ، بحسب تقديرهم ورغبتهم.
__________________
ويسقى الأبرار
أيضا في هذه الأكواب في الجنة شرابا ممزوجة بالزنجبيل الحارّ أو بالكافور البارد ،
ليعتدل الشراب ، وأما المقرّبون فيشربون من كلّ منهما صرفا.
ويسقون شرابهم هذا
من عين في الجنة تسمى السلسبيل ، سميت بذلك لسلاسة مائها ، وسهولة جريها وانحدارها
وإساغتها في الحلوق.
وصفة الخدم : أنه
يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان ، لهم صفة الخلود ، لا يتغيرون عن تلك الحال ، من
الشباب والطراوة والنضارة ، ولا يهرمون ولا يمرضون ولا يموتون ، إذا رأيتهم في
قضاء الحوائج رأيتهم في صباحة الوجوه ، وحسن الألوان وجمال الثياب والحلي كأنهم
اللؤلؤ المنثور ، قال ابن كثير : ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر
أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. شبّههم بالمنثور ، لأنهم سراع في الخدمة
، أما الحور العين فشبّهن باللؤلؤ المكنون ، لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
وفي الجملة ، يكون
نعيمهم أنك إذا نظرت نظرا بعيدا في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها ، وما فيها من
الجمال والسرور ، رأيت نعيما لا يوصف وسلطانا عظيما لا يقدر قدره.
أخرج ابن المنذر
عن عكرمة قال : دخل عمر بن الخطاب على النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو راقد على حصير من جريد ، وقد أثّر في جنبه ، فبكى عمر
، فقال : ما يبكيك؟ قال : ذكرت كسرى وملكه ، وهرمز ، وصاحب الحبشة وملكه ، وأنت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على حصير من جريد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ، ولنا الآخرة ، فأنزل الله
تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ
ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (٢٠)
وملابسهم وحليّهم
: هي أن الذي يعلوهم من اللباس : هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر ، والديباج
السميك ، وحلّوا (ألبسوا الحلية) بأساور من الفضة ، وسقاهم
ربّهم بشراب غير
ما سبق ، يطهّر بواطنهم من الحسد والحقد والبغضاء والأذى ، وسائر الأخلاق الرديئة
، كما روي عن علي رضي الله عنه.
وعلّة هذا الفضل
والنعيم : أنه يقال لهؤلاء الأبرار الممتّعين بالجنان ، تكريما لهم وإحسانا إليهم
: إن هذا المذكور من أنواع النعيم ، كان لكم جزاء لأعمالكم ، أي ثوابا لها ،
وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير ، ويقبل طاعتكم ، فشكر الله تعالى لعمل عبده
: هو قبول لطاعته. وهذا مثل قوله تعالى في آية أخرى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقّة : ٦٩ /
٢٤]. وقوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٧ / ٤٣].
إنها نعم الله
تعالى السابغة العظيمة ، الدائمة ، فليست نعم الله مقصورة على الدنيا ، وإنما
برحمة الله تشمل الآخرة ، ونعم الآخرة أعظم وأكثر وأشمل من نعم الدنيا.
تثبيت النّبي صلىاللهعليهوسلم في مواجهة أفعال قريش
كان كل رسول يواجه
معارضة شديدة لدعوته من قومه أو المرسل إليهم ، وكان هذا هو الظاهرة القائمة من
أفعال قريش وأحوالهم ، حيث نسبوا الرسول محمدا إلى الكهانة والسّحر ، فثبّت الله
تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وبيّن للقوم أن القرآن كلام الله ووحيه ، وأمره بالصبر
على أذى قومه ، وبالسّجود والصلاة ، وبذكر ربّه بكرة وأصيلا ، فهم قوم يؤثرون
الدنيا على الآخرة ، وشريعة الله ووحيه تذكرة وعظة لمن أراد النجاة بين يدي الله عزوجل ، بمشيئة الله ، وكل شيء من أفعال البشر لا يقع إلا بمشيئة
إلهية ، كما يتضح من الآيات الآتية :
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
(٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً
ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا
أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ
أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))
[الدّهر : ٧٦ / ٢٣
ـ ٣١].
أخرج عبد الرزاق
وابن جرير وابن المنذر عن قتادة : أنه بلغه أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا يصلّي
، لأطأن عنقه ، فأنزل الله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً).
يقول الله فيما
معناه : لقد أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن تنزيلا متدرّجا مفرّقا ، في مدى ثلاث
وعشرين سنة ، ولم ننزله جملة واحدة ، ليسهل حفظه ووعيه والعمل به ، ولتثبيت
المؤمنين في مواجهة الحوادث.
فاصبر أيها النّبي
على قضاء الله وقدره في تأخير نصرك على المشركين ، إلى أجل اقتضته حكمته ، وفي
تبليغ رسالتك من ربّك ، وتحمّل المشقة ، والصبر على الأذى ، ليعذر الله تعالى
إليهم ، ولا تطع أحدا من المشركين أو العصاة ، المبالغين في الوقوع في الإثم
والعصيان ، والجحود والكفر. والآثم : مرتكب المعاصي ، والكفور : جاحد النعمة ،
وبما أن الآية في المشركين ، فكل واحد منهم آثم وهو كفور. ومن الآثمين : عتبة بن
ربيعة ، ومن الكفورين : الوليد بن المغيرة. والآية تقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم
من العصاة ، أو كفور من المشركين.
__________________
ثم أمر الله تعالى
نبيّه بالمداومة على ذكر ربّه في أول النهار وآخره ، وفي جميع الأوقات ، بالقلب
واللسان ، وبالسجود في الليل والتسبيح الذي هو الصلاة.
وصلاة الصبح : هي
في أول النهار أو البكرة ، وآخره أو الأصيل : صلاة العصر ومعها صلاة الظهر ، وصلاة
الليل تشمل صلاتي المغرب والعشاء ، والتّهجد في آخر الليل ، فتكون الآية جامعة
فرائض الصلوات الخمس ، والتهجد. وهذه أحوال الطائعين. ثم ذكر الله تعالى أحوال
الكفار والمتمرّدين :
إن هؤلاء مشركي
مكة وأمثالهم يحبّون الدار العاجلة ، وهي الدنيا ، ويقبلون على لذّاتها وشهواتها ،
ويتركون أمامهم يوم القيامة الشديد الأهوال ، فلا يستعدّون له ، ولا يعبؤون به ،
وسمي يوما ثقيلا ، لما فيه من الشدائد والأهوال. والآية فيها توبيخ المترّدين
واحتقارهم. وحبّهم للدنيا : أنهم لا يعتقدون غيرها.
وكيف يتغافل هؤلاء
الكفار عن ربّهم وآخرتهم ، ونحن الله الذي خلقناهم وأحكمنا خلقهم بتسوية أعضائهم ومفاصلهم
، وربطها بالعروق والأعصاب ، ولو شئنا لأهلكناهم ، وجئنا بأطوع لله منهم. والأسر :
الخلقة واتّساق الأعضاء والمفاصل. وهذا تعداد النعمة من الله على عباده ، في
إيجادهم وخلقهم ، وفي إتقان بنيتهم وشدّ خلقتهم. وفي آخر الآية توعّد بالتبديل ،
فجمعت الآية بين تعديد النعمة ، والوعيد ، والتبديل ، احتجاجا على منكري البعث ،
فمن هو قادر على هذه الأمور ، فكيف تتعذر عليه الإعادة؟
ثم أرشد الله
تعالى إلى فائدة القرآن والشريعة ، فهذه السورة أو الشريعة ، وما فيها من مواعظ ،
وترغيب وترهيب ، ووعد ووعيد ، عظة وعبرة للمتأمّلين ، وتبصرة للمتبصرين ، وتذكير
للعقلاء ، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة ، اتخذ طريقا للتّقرب إلى ربّه
بالإيمان والطاعة ، واجتناب المعصية ، ومن شاء اهتدى بالقرآن. وهذا
دليل على أن
الإيمان والكفر داخلان في اختيار الإنسان وحريته ، ولكن ضمن مشيئة الله ، حيث لا
يقع شيء في ملكوت الله إلا بمشيئته ، وإلا كان الملك المطلق الملك مقهورا في
سلطانه ، وهذا لا يقع بالنسبة لله تعالى.
إن مشيئة العبد
داخلة في إطار مشيئة الله ، فما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلى النجاة إلا
بمشيئة الله ، ولا يقدر أحد أن يهدي نفسه ، أو يؤمن أو يجلب نفعا لنفسه إلا بتوفيق
الله ، فالأمر إلى الله سبحانه ، إن الله تعالى عليم بمن يستحق الهداية ، فييسرها
له ، وعليم بمن يستحق الغواية ، فيبقى في دائرة الضلال ، وله الحكمة البالغة.
والله يدخل في
جنته من يشاء من عباده إدخالهم فيها ، فضلا من الله وإحسانا ، ويعذب الظالمين
الكافرين الذين ظلموا أنفسهم ، عذابا مؤلما وهو عذاب جهنم.
تفسير سورة المرسلات
القيامة وقدرة الله عليها وتهديد منكريها
تكرّر في القرآن
الكريم إيراد الأدلّة والبراهين القاطعة على وقوع القيامة حتما ، ومنها قسم الله
بذاته كما في سورة التّغابن : (زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) [الآية : ٧] ،
ومنها قسم الله بالقيامة نفسها كما في مطلع سورة القيامة : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) [القيامة : ٧٥
/ ١]. ومنها القسم الإلهي بالرّياح الهادرة المتتابعة ، أو بالرّسل إلى الناس من
الأنبياء عليهمالسلام ، أو بالملائكة المرسلة ، كما في مطلع سورة المرسلات
المكّية ، في قول جمهور المفسّرين :
(وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ
فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما
تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ
فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ
الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
__________________
(١٩)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١)
إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ
ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))
[المرسلات : ٧٧ /
١ ـ ٢٨].
يقول الله تعالى :
أقسم بالرّسل المرسلين إلى الأنبياء والرّسل جماعات ، إفضالا على العباد بالبعثة ،
أو بالرّياح المتتابعة التي هي نعم ، بها الأرزاق والنجاة في البحر ، وبالرياح
التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة أو نقمة ، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرّقه
في آفاق السماء ، كما يشاء الله تعالى.
وأقسم بالملائكة
الذين ينزلون بأمر الله على الرّسل بما يفرّق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ،
والحلال والحرام ، والذين يلقون الوحي إلى الأنبياء والرّسل ، إعذارا من الله
تعالى إلى خلقه ، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره.
إن ما وعدتم به من
مجيء الساعة ونفخ الصور ، وبعث الأجساد ، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ،
وجزاء كل إنسان بما عمل خيرا أو شرّا ، إن هذا كله لواقع حتما.
وعلامات وقوعه :
إذا ذهب ضوء النجوم ، وتشققت السماء وتصدعت ، وقلعت الجبال من أماكنها ، وصارت في
الأجواء هباء منبثا.
وإذا الرّسل جمعت
وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم ، ويقال لتعجيب العباد من الهول :
لأي يوم عظيم أخّرت الأمور المتعلّقة بهؤلاء الرّسل؟ وهي تعذيب من كذّبهم ، وتعظيم
من صدّقهم. والجواب من الله تعالى : بأنهم أجّلوا
__________________
ليوم الفصل بين
الخلائق ، يفصل فيه بين الناس بأعمالهم ، ويوزّعون إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ثم أعظم الله تعالى شأن ذلك اليوم مرة ثانية ، بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (١٤) أي وما أعلمك
بيوم الفصل ، وأي شيء شدته ومهابته!! وتهويل ثالث : ويل لهم من عذاب الله غدا ،
أولئك الذين كذبوا بالله ورسله وكتبه ، والويل تهديد بالهلاك ، وقد ذكر هذا
التهويل في سورة المرسلات تسع مرات ، لمزيد التأكيد والتقرير.
وتهديد آخر من
سيرة الماضين : ألم نهلك الكفار المكذّبين للرّسل المخالفين لما جاؤوا به من الأمم
الماضية ، من لدن آدم عليهالسلام ، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، إلى زمن محمد صلىاللهعليهوسلم ، بتعذيبهم في
الدنيا ، ثم نتبعهم بأمثالهم ونظرائهم ، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلىاللهعليهوسلم ، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المعارك. وهذا وعيد شديد
لكل من كفر بالله تعالى.
وتلك سنّة الله لا
تبديل لها ، فإن سنّتنا في جميع الكفار واحدة ، فمثل ذلك الإهلاك للمكذّبين بكتب
الله ورسله ، الذين أجرموا في حقّ أنفسهم ، نفعل بكل من أجرم وأشرك مع الله إلها
آخر. والهلاك الشديد يومئذ للمكذّبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وقوله : (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١٨) أي في
المستقبل ، قريش وسائر الكفار.
ثم ذكر الله تعالى
بعض مظاهر القدرة الإلهية على الناس ، ومنها : ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناكم
من ماء ضعيف حقير ، وهو المني ، وجعلناه مجموعا في مستقر مكين ، أي حرز حصين ، وهو
الرّحم ، ثم أبقيناه في الرّحم مدة معينة هي مدة الحمل من ستة إلى تسعة أشهر.
نحن الذين مارسنا
قدرتنا على الخلق وتقديرنا في تكوين الأعضاء والصفات ،
وجعلنا كل حال على
الصفة التي أردنا ، فنعم المقدّر وهو الله ، أو نعم المقدّرون له نحن. والهلاك
والعذاب في يوم القيامة لم كذّب بقدرتنا على ذلك ، وبهذه النّعم. وهذا تخويف
وتوبيخ من وجهين : هما أن النّعمة كلما كانت أعظم كان كفرها أفحش ، والقادر على
الخلق الأول قادر على الإعادة.
ثم عدّد الله
تعالى نعمه الثلاث في الآفاق بعد نعمة تكوين الأنفس وهي : ألم نجعل الأرض ضامّة
للأحياء على ظهرها في منازلهم ، والأموات في بطنها تضمّهم وتجمعهم؟ وجعلنا في
الأرض جبالا ثوابت عاليات ، لئلا تميد وتضطرب بكم ، وأسقيناكم من ينابيعها ، أو من
السّحاب ماء عذبا صافيا. وهذا كله أعجب من البعث.
ويل ، أي عذاب
وهلاك شديد في الآخرة ، لمن كذب أو كفر بهذه النّعم ، وويل لمن تأمل في هذه
المخلوقات الدالّة على عظمة الله تعالى خالقها ، وعلى قدرته الفائقة ، ثم استمرّ
على تكذيبه وكفره.
ألوان التهديد والعذاب ، وأصناف النعيم
وصف الله تعالى
ألوان عذاب الكفار وصفا تقشعر منه الأبدان ، وتشيب منه الغلمان ، فهو يشتمل على
عشرة أنواع من التهديد والتخويف ، أربعة منها في آيات سابقة من سورة المرسلات ،
وهي : القسم الإلهي على العذاب ، والتهديد بعذاب مماثل للأمم الغابرة ، واللوم على
كفران النعم في الأنفس ، وكفران النعم في الآفاق ، وستة منها في الآيات الآتية :
وهي أولا قول الملائكة للكفار : انطلقوا لعذاب الآخرة ، وله أوصاف أربعة : ألسنة
النار وأدخنتها ذات شعب ثلاث ، ولا ظل من الحر ، ولا يفيد شيئا في رد الحر ، وشرر
النار كالقصر ، وثانيا بطلان الحجة
وفقد العذر ،
وثالثا التعذيب بالتقريع والتخجيل والباقي مضاعفة الحسرة ، ووصفهم بالإجرام ،
وتوبيخهم ، قال الله تعالى :
(انْطَلِقُوا إِلى ما
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠)
لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ
(٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا
يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ
وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١)
وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا
يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))
[المرسلات : ٧٧ /
٢٩ ـ ٥٠].
هذه تهديدات
متوالية للكفار ، يقال لهم من خزنة جهنم : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب
الآخرة. ذلك العذاب سيروا فيه إلى ظل من دخان جهنم ، متشعب ثلاث شعب ، فإن لهب
النار إذا ارتفع وتصاعد دخانه ، تشعب إلى ثلاث شعب من شدته وقوته ، وليس للنار ظل
يمنع الحر ولا البرد ، ولا يرد الحر ولا يفيد شيئا في تخفيف العذاب. واللهب : ما
يعلو على النار بعد اشتعالها. وشرر هذه النار متفرق ، كل شرارة ترمي بها هي كالقصر
(البناء العظيم) في العظم والارتفاع ، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع
وسرعة الحركة. وهلاك وعذاب وخزي يومئذ في القيامة للمكذبين رسل الله وآياته. ولا
عذر ولا حجة لأولئك المعذّبين فيما ارتكبوا من قبائح ومنكرات ، فهم لا يتكلمون في
ذلك اليوم ، لهول ما يرون ، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم ، ولا يأذن الله لهم
بالكلام ، فيكون لهم اعتذار ، لقيام
__________________
الحجة عليهم ،
وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار ، لأن الله تعالى قدم لهم الإنذار في الدنيا.
وعذاب القيامة
للمكذبين بسب ما أنذرتهم الرسل من العذاب في الدنيا ، إن استمروا على الكفر ،
ومعاداة الرسل. وهذا لون من التعذيب الأدبي.
ويقال لهم من الله
أو من ملائكته : هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق ، ويتميز فيه الحق من
الباطل ، جمعناكم بقدرتنا معشر كفار قريش وأمثالكم على ممر الدهر. و (الأولون)
المشار إليهم : قوم نوح وغيرهم ، ممن جاء في صدر الدنيا ، وعلى وجه الدهر. فإن
قدرتم أيها الكفار على مكر أو حيلة أو مكيدة لتتخلصوا من العذاب وتنجيكم ،
فافعلوها ، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية التقريع والتوبيخ ، وهو تعذيب
روحي. وعذاب يوم القيامة متحقق لكل مكذب بالبعث ، لظهور العجز وفقد الأمل بالنجاة.
وأما المتقون في
الآخرة : فهم في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور ، وتحيط بهم الأنهار
والينابيع من كل مكان ، ولديهم أنواع من الفاكهة والثمار ، بحسب ما تطلبه نفوسهم ،
وتستدعيه شهواتهم.
ويقال لهم في
الآخرة على سبيل الإحسان إليهم والتكريم : كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة
وفاكهتها ، واشربوا شربا هنيئا ، بسبب ما عملتم في الدنيا ، من العمل الصالح. وهذا
أمر تكريم ، لا أمر تكليف.
هذا جزاؤنا لمن
أحسن العمل ، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين ، نجزي المحسنين في أعمالهم ،
فلا نضيع لهم أجرا ، وعذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله ، وبما أخبر
الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة ، حيث صاروا في شقاء عظيم ، وصار المؤمنون
في نعيم مقيم.
ثم خاطب الله
تعالى المكذبين بيوم الجزاء (يوم القيامة) على سبيل التهديد والوعيد والتوبيخ :
فيقال لهم : كلوا من مآكل الحياة ولذائذها ، وتمتعوا بخيراتها زمانا قليلا لمدة
العمر الباقي ، ثم تساقون إلى نار جهنم ، لشرككم بالله تعالى ، ولأنكم مجرمون. إنه
عذاب لأولئك المشركين المكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه ، وبما أخبرهم به ربهم
أنه فاعل بهم.
وإذا أمروا
بالصلاة لا يصلون ، فهم يستكبرون عن طاعة الله تعالى ، وهذا ذم على ترك الخشوع
والتواضع لله ، بقبول وحيه وأمره وتكليفه. وهلاك يوم القيامة ثابت للمكذبين بأوامر
الله تعالى ونواهيه.
ومما يدعو للتعجب
من صنيع الكفار : أنه إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن ، وما اشتمل عليه من أدلة وجود
الله وتوحيده وصدق نبيه صلىاللهعليهوسلم ، فبأي كلام بعده يصدقون؟ ففي القرآن كل ما يرشد إلى الخير
وسعادة الدارين ، وهو الكتاب الكامل الذي جميع فأوعى.
أخرج ابن أبي حاتم
عن أبي هريرة ، كان إذا قرأ : (وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً) فقرأ : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ قال : فليقل : آمنت بالله وبما أنزل.
ألا إن الضالين
الكافرين لا ينتفعون بمواعظ القرآن وحكمه البالغة ، ولا يهتدون بنوره ، وأما
المتقون فهم المتدبرون لكلام القرآن ، الملتزمون بهديه ونوره.
تفسير سورة النبأ
إثبات البعث وتعداد النعم الإلهية
لا تكاد تجد سورة
مكية (أي نزلت في مكة قبل الهجرة) إلا وفيها حديث عن البعث ، إما بالإثبات وغرس اليقين
حوله ، بالقسم أو بإيراد أدلة عقلية وحسية على إمكانه ، وإما بوصف أهواله ومخاوفه
وآثاره الخطيرة التي تنحصر في شيئين : دخول الجنان أو الزج بالنيران ، لأن التشريع
المكي عني غالبا بالعقائد ، وأهمها توحيد الله ونبذ الشرك ، وإثبات النبوة أو
الرسالة والوحي ، ووقوع القيامة ، ووصف القيامة رهيب كما في مطلع سورة النبأ
المكية اتفاقا :
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ
(١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ
سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ
مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ
مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً
وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ
بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))
[النبأ : ٧٨ / ١ ـ
١٦].
__________________
ينكر الله تعالى
على المشركين المكيين وجميع العالم تساؤلهم عن القيامة ، فعن أي شيء يسأل بعضهم
بعضا؟ عن الخبر المهم العظيم الشأن ، الذي اختلفوا في أمره ، بين مكذب ومصدق ،
وكافر ومؤمن به ، ومنكر ومقر ، وشاكّ ومثبت : وهو يوم البعث من القبور بعد الموت.
والمراد من الاستفهام : تفخيم الأمر وتعظيمه. وقوله تعالى : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) متعلق ب (يَتَساءَلُونَ) ، كأنه تعالى قال : لم يتساءلون عن هذا النبأ؟
كلا : كلمة ردع
لهم وزجر ، لا ينبغي لهم أن يختلفوا في شأن البعث ، فهو حق لا ريب فيه ، وليرتدعوا
عن التساؤل ، فإن جميع العالم سيعلمون عاقبة تكذيبهم أو إنكارهم. وكلمة (كلا)
الثانية تأكيد للجملة الأولى. وهذا تهديد ووعيد. والبعث قائم حتما بقدرة الله ،
ومن مظاهر قدرته تعالى :
ـ كيف تنكرون
البعث؟ وقد شاهدتم أدلة قدرة الله التامة ، من جعل الأرض ممهدة مذللة للخلائق ،
كالمهد للصبي : وهو ما يمهد له من الفراش ، للنوم والراحة ، وجعل الجبال الراسيات
كالأوتاد للأرض ، لتسكن ولا تتحرك ، وتهدأ ولا تضطرب بأهلها.
ـ وأوجدناكم في
هذا العالم أصنافا : ذكورا وإناثا ، لتحقيق التكاثر وإبقاء النوع الإنساني ، وليتم
التعاون والأنس بين الصنفين.
ـ وجعلنا نومكم
راحة لأبدانكم ، وقطعا لأعمالكم المتعبة في النهار ، فبالنوم تتجدد القوى ، وينشط
العقل والجسد. والسبات : الانقطاع عن الحركة. وجعلنا الليل المظلم الهادئ سكنا
تسكنون فيه ، وكاللباس الذي يغطي بظلامه الأشياء والأجسام ، فكما أن اللباس يغطي
الجسد ويقيه من الحر والبرد ، ويستر العورات ، كذلك الليل يستتر فيه من أراد
الاختفاء لقضاء مصالح لا تتوافر في النهار.
ـ وجعلنا وقت
النهار مشرقا مضيئا ، ليتمكن الناس من تحصيل أسباب المعيشة ، والتكسب ، والاتجار ،
والزراعة والصناعة ، وممارسة الخدمات الفنية والعملية وغيرها.
ـ وبنينا فوقكم
سبع سموات قوية الخلق ، محكمة البناء ، متقنة الصنع ، مزينة بالكواكب الثوابت
والسيارات المتنقلة ، وجعلنا الشمس سراجا مضيئا على جميع العالم ، ينشر الضوء
والحرارة ، ويستفيد منه كل الكائنات الحية.
ـ وأنزلنا من
السحب القاطرة ، والغيوم المتكاثفة التي تنعصر بالماء ، ولم تمطر بعد ، مطرا منصبا
بكثرة وغزارة ، كثير السيلان ، لنخرج بذلك الماء الكثير الطيب النافع ، حبا يقتات
به الناس ، مثل القمح والشعير والذرة ، والأرز ، ونباتا تأكله الدواب ، من التبن
والحشيش وسائر النباتات ، وبساتين وحدائق ذات بهجة وأشجار وأغصان ملتفة على بعضها
، وثمرات متنوعة ، وألوان مختلفة ، وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذلك في بقعة
أرضية واحدة ، يسقى من ماء واحد ، وتتفاضل ثمارها في المأكل والتفكه ، كما جاء في
آية أخرى : (وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد : ١٣ / ٤].
والثجّاج : السريع
الاندفاع ، كما يندفع الدم من عروق الذبيحة ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر ـ : «أفضل الحج : العجّ
والثجّ». أي رفع الصوت بالتلبية ، وصب دماء البدن وإراقتها ، والمراد : التضرع
بالدعاء الجهير ، وذبح الهدي. والحب : جنس الحبوب الذي ينتفع به الحيوان. والنبات
: الذي يستعمل رطبا لإنسان أو بهيمة ، لذا ذكر الله تعالى موضع المنفعتين.
صفات يوم القيامة
يوم القيامة يوم
عصيب رهيب حاسم ، سمي يوم الفصل ، وتحدد وقته بأجل معلوم بعلم الله تعالى وحده دون
سواه ، ولا يتقدم وقته ولا يتأخر ، وعلامات ذلك اليوم كثيرة ، منها نفخ الصور ،
وتصدع السماء ، وتسيير الجبال عن أماكنها وصيرورتها هباء منبثا كالهواء. وليس بعد
الموت والقيامة إلا أحد شيئين : إما الجنة للمتقين وإما النار للظالمين ، كما تقرر
الآيات الآتية :
(إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً
(١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ
فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً
(٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً
(٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا
يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))
[النبأ : ٧٨ / ١٧
ـ ٣٠]
إن يوم القيامة
الذي يسمى بيوم الفصل ، لأن الله تعالى يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين ، وبين
الحق والباطل ، كان مؤقتا بوقت محدد ، وميعاد معين ، للأولين والآخرين ، للحساب
والجزاء. والميقات : مفعال من الوقت ، كميعاد من الوعد.
وعلاماته ثلاث :
ـ إنه اليوم الذي
ينفخ فيه إسرافيل بالبوق أو القرن ، فتأتون معشر الخلائق من قبوركم إلى موضع العرض
زمرا زمرا ، وجماعات جماعات متميزة ، تأتي فيه كل أمة
__________________
مع رسولها ، كما
قال الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ١٧ /
٧١]. والصور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل لبعث الناس.
ـ وفيه تتصدع السماء
وتتشقق ، فصارت ذات أبواب كثيرة ، وطرقا ومسالك لنزول الملائكة. وقوله : (فَكانَتْ أَبْواباً) معناه تنفطر وتتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في
الجدران.
ـ وفيه تزول
الجبال عن مواضعها ، وتتبدد في الهواء ، فكانت هباء منبثا كالسراب : وهو ما يتخيله
الناظر ماء ، أي تدكّ أولا ، ثم تصير كالصوف المندوف ، ثم تتقطع وتتبدد وتصير
كالهباء ، ثم تنسف عن الأرض بالرياح.
والذي يلقاه
الكافرون الضالون يومئذ هو النار ، إن جهنم كانت في حكم الله وقضائه مرصدة معدة
للطغاة الجبارين ، ومرجعا ومأوى لهم ، حال كونهم لابثين فيها (ماكثين) مددا طويلة
من الزمان ، تتعاقب الأحقاب (المدد) إثر بعضها ، إلى الأبد. ومرصادا : موضع الرصد
، كما قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) [الفجر : ٨٩
/ ١٤].
وهذا دليل على أن
جهنم كالجنة معدة مخلوقة الآن ، لأن (مرصادا) معناه : معدّة. والأحقاب جمع حقب
وحقب وحقب ، وهو جمع حقبة : وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة.
ـ لا يذوق
المعذبون في جهنم بردا يقيهم من الحر ، أي لا يمسهم ما يستلذ ويكسر عذاب الحر ،
فالذوق مستعار ، ولا يجدون شرابا يزيل العطش إلا الحميم : وهو الماء الحار الشديد
الغليان ، وإلا الغسّاق : وهو ما يسيل من أجساد أهل النار من قيح وصديد دائم
السيلان.
وهذا الجزاء العدل
موافق الذنب العظيم الذي ارتكبوه نوعا ومقدارا ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب
أعظم من النار ، وقد كانت أعمالهم سيئة ، فجوزوا
بمثلها ، كما قال
الله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٢ / ٤٠].
وقوله : (جَزاءً وِفاقاً) (٢٦) معناه :
لأعمالهم وكفرهم ، أي هو جزاؤهم الجدير بهم ، الموافق مع التحذير لأعمالهم ، فهي
كفر ، والجزاء نار.
ـ إنهم اقترفوا
الأعمال السيئة ، والقبائح المنكرة ، لأنهم لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من
حساب ، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا لا
يَرْجُونَ حِساباً) (٢٧) معناه لا
يتوقعون ولا يخافون حسابا ، أي إنهم كانوا لا يصدقون بالحساب ، فهم لذلك لا يرجونه
ولا يخافونه ، وهو علة التأبيد في العذاب.
وإن الله تعالى
يعلم بجميع أعمال العباد ، فكتبها أو دوّنها عليهم سلفا الحفظة من الملائكة كتابة
تامة شاملة ، ومحصاة إحصاء منضبطا ، ويكون المكتوب المسجل سابقا ، مطابقا لما
تكتبه الملائكة من الأعمال ، وسيجزيهم الله تعالى على ذلك جزاء مناسبا ، إن خيرا
فخير ، وإن شرا فشر. وقوله : (كِتاباً) مصدر وضع في موضع إحصاء. وقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) يراد به : كل شيء شأنه أن يحصى ، وفي هذا الخبر ربط لأجزاء
القصة بأولها ، أي هم مكذّبون كافرون ، والله أحصى ذلك بالقول لهم في الآخرة ،
وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ كِتاباً) (٢٩) قال أبو حيان
في البحر المحيط : عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة
اعتراضية.
ويقال لهم أثناء
التعذيب تقريعا وتوبيخا : (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) أي يقال لأهل
النار ، بسبب الكفر والتكذيب بالآيات ، وقبح الأفعال : ذوقوا ما أنتم فيه من
العذاب الأليم ، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه ، قال عبد الله بن عمرو (وفي البحر
المحيط : ابن عمر) : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا
عَذاباً) (٣٠) أي فهم في
مزيد من العذاب أبدا.
إن أوصاف يوم
القيامة المرعبة ، الفاصلة في مصائر الناس ، وما يعقبها من
حساب وجزاء ، تنبئ
نبأ يقينيا بما يقع في المستقبل في عالم الآخرة ، وتكاد تنخلع القلوب من مواضعها
من شدة الأهوال ، وألوان العذاب في نيران جهنم ، علما بأنه حق عدل مطابق للأفعال
والأقوال التي صدرت من الكافرين ، وأردت بهم إلى جهنم.
أحوال السعداء يوم القيامة
لما ذكر الله
تعالى حال أهل النار ، عقّب بذكر حال أهل الجنة ، ليتبين الفرق. فهم فائزون ناجون
، حيث تخلصوا من النار ، وأدخلوا الجنة ، فضلا من الله وإحسانا. والمتأمل في حال
الفريقين يجد الفرق واسعا ، فيرغب المؤمنون العقلاء بالجنة ، ويرهبون المخالفة
والعصيان ، والتورط في أعمال أهل النار. وبيان حال الفريقين يشتمل على وعيد الكفار
، ووعد المؤمنين الأخيار ، كما يتضح من هذه الآيات :
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً
دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ
رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا
الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ
صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))
[النبأ : ٧٨ / ٣١
ـ ٤٠].
هذا مصير المؤمنين
الطائعين ، وهو أن للذين اتقوا ربهم بالعمل بأوامره ،
__________________
واجتناب نواهيه ،
مفازا أي موضع الفوز ، لأنهم زحزحوا عن النار ، وأدخلوا الجنة يتمتعون بالبساتين
المسوّرة ذات الأشجار والثمار والأعناب اللذيذة الطعم ، وبحوريات الجنة الكواعب
النواهد ، وذوات الأثداء التي لم تتكسر ولم تتدلّ ، المتساويات في السن ،
ويتناولون الشراب اللذيذ بالكؤوس المترعة المملوءة بخمر الجنة غير المسكرة ، وعطف
الأعناب على الحدائق : عطف خاص على عام. لا يسمعون في الجنة الباطل من الكلام ،
ولا يكذّب بعضهم بعضا ، مما يدل على نظافة البيئة وسموها الأدبي ، لترتاح النفوس ،
ولا تخدش بالكلام الشاذ. جازاهم الله تعالى على إيمانهم وصالح أعمالهم ، وأعطاهم
ذلك عطاء ، تفضلا منه وإحسانا ، وهو كاف واف على قدر أعمالهم ، إنجازا لوعد الله
تعالى إياهم.
وهذا الرب المتفضل
المجازي جزاء حسنا هو المتصف بالعظمة والجلال ، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما
بينهما ، وهو الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء ، ولا يقدر أحد على ابتداء خطابه إلا
بإذنه ، لجلاله وهيبته.
لا يملك الناس
خطاب الله تعالى يوم يقوم جبريل عليهالسلام وجميع الملائكة مصطفين صفوفا منتظمة ، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم ، لا يتكلمون
أيضا في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين :
الأول ـ الإذن من
الله بالشفاعة ، كما جاء في آية أخرى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢ / ٢٥٥].
والثاني ـ أن يقول
قولا صائبا : أي موافقا للحق والصدق إذا كان الإذن للشافع ، وأن يكون ذلك المشفوع
به ممن قال في الدنيا صوابا ، أي شهد بالتوحيد بأن قال : لا إله إلا الله ، إذا
كان الإذن للمشفوع له.
__________________
والروح : هو جبريل
عليهالسلام في رأي الأكثرين ، لقول الله عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ٢٦ /
١٩٣ ـ ١٩٤]. والآية دليل على أن الملائكة وجبريل عليهمالسلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة ، وعلى عظمة يوم القيامة
ورهبته. وعطف الملائكة على جبريل : عطف عام لا خاص.
وذلك اليوم يوم
القيامة هو اليوم الحق ، أي الثابت الوقوع ، المتحقق الذي لا ريب فيه ، فمن أراد
النجاة ، اتخذ إلى ثواب ربه مرجعا وطريقا يهتدي إليه ، ويقرّبه منه ، ويدنيه من
كرامته ، ويباعده من عقابه ، بالإيمان الحق والعمل الصالح.
ثم هدّد الله
تعالى الكافرين ، وحذّرهم وخوّفهم من ذلك اليوم يوم القيامة مرة أخرى. إننا يا أهل
مكة وأمثالكم من الكفار ، حذرناكم وخوفناكم عذابا قريب الوقوع ، وهو في يوم
القيامة ، فإنه لتأكد وقوعه ، صار قريبا ، ولأن كل ما هو آت قريب ، وفي هذا اليوم
القريب الوقوع ، ينظر كل امرئ ما قدم من خير أو شر في حياته الأولى في الدنيا ،
ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب ، كأبي بن خلف ، وعقبة بن
أبي معيط ، وأبي جهل ، وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : ليتني كنت ترابا
كالحيوانات ، لم أخلق ، فهو يتمنى أن لم يكن إنسانا موجودا أولا ، ولا مبعوثا
ثانيا أو مرة أخرى. وإنما تصير الحيوانات ترابا بعد الاقتصاص من بعضها لبعض.
وهاتان الآيتان
الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين : فريق المؤمنين المقربين
من ثواب الله وكرامته ورضاه ، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة الله ،
الواقعين في صنوف العذاب.
فأي الفريقين أهدى
سبيلا ، وأرشد طريقا ، وأسلم عاقبة ، وأحسن قدوة؟! لو سئل صبي عاقل دون البلوغ عن
الفرق لأجاب ، ولما وسعه إلا اتباع أهل الإيمان والنجاة.
تفسير سورة النازعات
إثبات القيامة وأهوالها وتهديد المكذبين بها
أقسم الله تعالى
لإثبات البعث ببعض الظواهر الكونية ، كالقسم بالرياح المتتابعة ، والملائكة في
مطلع سورة المرسلات ، والحلف بالملائكة التي تنزع الأرواح أو تسبح من السماء ، أو
تنزل بتدبير بعض الأمور ، كما في مطلع سورة النازعات ، واشتمل القسم على إيراد بعض
الأخبار عن أهوال القيامة ، وأعقب ذلك تهديد المكذبين بهذا اليوم في الدنيا
والآخرة ، كما يبدو واضحا في مطلع سورة النازعات المكية بالاتفاق :
(وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣)
فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨)
أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠)
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ
أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦)
__________________
اذْهَبْ
إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨)
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠)
فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى
(٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))
[النازعات : ٧٩ /
١ ـ ٢٦].
أقسم الله تعالى
بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة وعنف ، وأرواح المؤمنين بسرعة ولطف ،
وبالملائكة الذين ينزلون من السماء مسرعين ، وتسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ،
وتدبر الأمر بأن تنزل بالحلال والحرام وتفصيلهما ، وقال الحسن البصري : المراد
بالكلمات الخمس : النجوم والكواكب في جريها وتنقلها بين الأبراج وسيرها في أفلاكها
هادئة ، أو مسرعة ، أو مدبّرة أمرا بأمر الله تعالى.
وقوله : (أَمْراً) يراد به الجنس ، فيقوم مقام الجمع ، وتدبير الأمر في
الحقيقة لله تعالى ، وإنما أضيف إلى الملائكة لإتيانها به ، ولأنها من أسبابه ،
وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن بعد الموت.
حين تتحرك الأرض
وتضطرب الجبال ، وتتلوها السماء ، فتنشق بما فيها من الكواكب وتنتثر.
هناك قلوب تكون
يوم القيامة خائفة مضطربة قلقة ، لما عاينت من أهوال يوم القيامة ، وهي قلوب
الكفار ، وأبصار أصحابها ذليلة حقيرة ، مما عاينت من الأهوال ، لموتهم كافرين
وإنكارهم البعث ، وأقوالهم هي :
يقول المشركون
المكيون وأمثالهم : هل نرد إلى حياتنا الأولى ، وابتداء أمرنا قبل الموت ، فنصير
أحياء بعد موتنا. والحافرة : لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع
__________________
إليه من آخره. وهم
يقولون ذلك على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب. والمعنى : أإنا لمردودون إلى
الحياة بعد مفارقتها بالموت؟!
وكيف يتصور ردنا
إلى الحياة ، بعد أن صرنا عظاما بالية متفتتة منخورة؟ إنا إذا رددنا بعد الموت ،
وصح أن بعثنا يوم القيامة لنخسرن خسارة محققة ، لتكذيبنا بمحمد ، وهذا قول على
سبيل الاستهزاء والتهكم ، هذا ما قالوه ، فنزلت هذه الآية.
فرد الله عليهم :
لا تستبعدوا ذلك ، فإنما الأمر يسير ، ولا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله ، وما
هي إلا صيحة واحدة ، وهي النفخة الثانية للبعث من القبور ، فإذا هم على وجه الأرض
أحياء ، والساهرة : أرض الآخرة ، وهي أرض بيضاء مستوية ، ووصفت بذلك لأنهم لا
ينامون عليها حينئذ. وقال جماعة : هي أرض أو جبل بالشام ، قريبة من بيت المقدس.
ثم واسى الله نبيه
وآنسه عن تكذيب قومه ، بقصة موسى عليهالسلام مع فرعون الجبار : فقال له : ألم يبلغك قصة موسى عليهالسلام مع فرعون ، حيث ابتعثه الله إليه ، وأيده بالمعجزات ، حين
ناداه ربه ليلا ، مكلما إياه ، مكلفا له بالنبوة والرسالة في الوادي المبارك
المطهر : وهو طوى : وهو الوادي في جبل سيناء. وقال الله تعالى له مبينا مهمّته :
اذهب إلى فرعون طاغية مصر ، فإنه جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر بالله ، حيث
ادعى الربوبية ، واستعبد قومه.
وأسلوب دعوتك ،
بأن تقول له : هل لك رغبة في التطهر من الشرك والعيوب؟ وأرشدك إلى معرفة الله
وتوحيده وعبادته ، وإنما أمره الله بلين القول ، ليكون أنجع أو أنجح في دعوته ،
وهذا دليل على أن هدف البعثة : هداية الناس إلى معرفة الله.
ودليل صدق موسى
أمام فرعون : معجزته ، وهي أنه أظهر له العلامة الكبرى الدالة على صدق نبوته : وهي
انقلاب العصا حية ، وتحول اليد بيضاء ، ومع ذلك كذّب وخالف ، كما في قوله تعالى : (فَكَذَّبَ وَعَصى) (٢١)
أي فكذب فرعون
بموسى ، وبما جاء به وبالحق ، وعصى الله عزوجل فلم يطعه وتولى وأعرض عن الإيمان ، وأخذ يسعى بالفساد في
الأرض ، لإبطال دعوة موسى. وقوله : (فَكَذَّبَ وَعَصى) (٢١) دليل على أنه
كذب بالقلب واللسان ، وعصى بإظهار التمرد.
فجمع جنوده وأهل
مملكته للتشاور ، وجمع السحرة للمعارضة ، ثم نادى في الجميع : أنا الرب الأعلى ،
وصاحب السلطان المطلق ، فأغرقه الله مع جنوده.
وأخذه الله أخذ
عزيز مقتدر ، وانتقم منه انتقاما جعله عبرة ونكالا لأمثاله المتمردين في الدنيا ،
وجع له عقوبتي الدنيا والآخرة ، بالإغراق والإذلال في الدنيا ، وبالإحراق في
الآخرة. وكلمة (نكال) منصوب على المصدر.
إن فيما ذكر من
قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويخاف منه ، وينزجر ،
فينظر في أحداث الماضي ، ويتعظ للحاضر والمستقبل.
وعيد الكفار المخاطبين برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم
خاطب الله تعالى
مباشرة منكري البعث ، محتجا عليهم ببدء الخلق على إعادته ، فإن الله تعالى خلق
السماوات والأرض والجبال : فهو قادر على إعادة الخلق ، بل إن ذلك واقع فعلا ،
وسيكون الناس فريقين : فريق في الجنة وفريق في السعير ، ثم أجاب الله تعالى عن
سؤال المشركين : متى الساعة؟ بأن علمها مفوض إلى الله سبحانه ، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم مبعوث للإنذار فقط ، وأن ما أنكروه سيرونه عيانا ، وكأنهم
لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ، وهذا موضح في الآيات الآتية :
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ
لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ
مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)
فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ
مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))
[النازعات : ٧٩ /
٢٧ ـ ٤٦].
هل أنتم يا مشركي
مكة وأمثالكم أصعب وأمتن خلقا ، أو خلق السماء أشد متانة؟ لا شك بأن السماء أشد
خلقا ، فإن الله تعالى جعل مقدار سمكها (أي ارتفاعها) ما بين سطحها الأسفل الذي
يلينا ، وبين سطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها ، وفي هذه الآية دليل على أن بعث
الأجساد من القبور لا يتعذر على قدرة الله تعالى.
وجعل ليل السماء
مظلما ، وأبرز ضحى النهار بإضاءة الشمس ، وبسط الأرض ومهدها وجعلها مفلطحة كالبيضة
، بعد خلق السماء ، فإنها كانت مخلوقة غير مدحوة قبل خلق السماء ، ثم دحيت بعد خلق
السماء. فدل هذا على أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ، ثم استوى إلى السماء ،
وهي دخان فخلقها وبناها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ودحو الأرض : بسطها.
__________________
وأعد الله تعالى
أثناء دحو الأرض وسائل الحياة والعيش بأن فجّر من الأرض الماء بالأنهار والعيون
والينابيع ، وأنبت فيها المراعي والأعشاب والحشائش للدواب ، وجعل فيها النبات لبني
آدم كالحبوب والثمار ، وجعل الجبال كالأوتاد للأرض ، لئلا تتحرك بأهلها ، ومعنى (أرساها)
: أثبتها. وجميع هذه النعم إذا تدبّرت فهي متاع للناس والأنعام ، يتمتعون فيها
وبها ، وجعل الله كل ذلك منفعة وفائدة لكم أيها الناس ولأنعامكم التي تركبونها
وتأكلون لحمها ، وهي الإبل والبقر والغنم.
فإذا جاء وقت مجيء
الداهية العظمى وهي القيامة ، التي تطم على سائر الطامات ، وهي يوم القيامة ، أو
النفخة الثانية للبعث من القبور ، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في جنبها ، ويتذكر
أعماله التي سعى بها في الدنيا ، وتبرز ، أي تظهر واضحة للعيان الجحيم ، لمن
يشاهدها ويبصر ويحصّل.
ويأتي الحكم
الفاصل في الخلائق بعدئذ ، فأما من طغى (أي تجاوز الحدود التي ينبغي للإنسان أن
يقف عندها ، فكفر وعصى ، وتمرد وتكبر) وقدم الحياة الدنيوية على الآخرة ، ولم
يستعد لها ، ولا عمل عملها ، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره ، لأن حب
الدنيا رأس كل خطيئة.
وأما من خاف
القيام بين يدي الله عزوجل ، وخاف حكم الله فيه يوم القيامة ، وأدرك عظمة الله وجلاله
، ونهى نفسه عن هواها ، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها ، وردها إلى طاعة
مولاها ، فالجنة مكانه الذي يأوي إليه ، ومستقره ومقامه ، لا غيرها.
ثم أورد الله
تعالى تساؤل المشركين استهزاء عن ميعاد القيامة ، يسألك أيها النبي المشركون
المكذبون بالبعث عن وقت رسو أو استقرار القيامة ، وميعاد وقوعها ، متى يأتي بها
الله؟ نزلت بسبب أن قريشا كانت تلح في البحث عن وقت الساعة التي كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخبرهم بها ، ويتوعدهم بأمرها ، ويكثر من ذلك. أخرج الحاكم
وابن جرير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأل عن الساعة ، حتى أنزل عليه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) (٤٤).
أوقف الله تعالى
نبيه عليهالسلام بقوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها) (٤٣) أي في أي شيء
أنت من ذكر تحديدها ووقتها؟ أي لست من ذلك في شيء ، ولا مصلحة لك في بيانها وهذا
تعجب من كثرة ذكره لها ، ليس علمها إليك ، ولا إلى أحد من الخلق ، بل مردها إلى
الله تعالى ، فهو وحده الذي يعلم وقتها على التعيين ، إنما بعثتك لتنذر الناس
وتحذرهم من بأس الله وعذابه ، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة ، فمن خشي
الله وخاف عقابه ، اتبعك ونجا ، ومن كذب بالساعة وخالفك ، خسر وخاب ، فدع علم ما
لم تكلّف به ، واعمل بما أمرت به من إنذار.
إن هذا اليوم الذي
يسألون عنه واقع حتما ، وكأنهم فيه ، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر ،
ورأوا القيامة ، استقصروا مدة الدنيا ، ورأوا كأنها ساعة من نهار ، أو عشية من ضحى
يوم. قرّب الله تعالى بهذا أمر الساعة بإخباره أن الإنسان عند رؤيته إياها يظن أنه
لم يلبث إلا عشية يوم أو بكرته ، فأضاف (الضحى) إلى (العشية) من حيث هما طرفان
للنهار. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا أهوال القيامة.
تفسير سورة عبس
المساواة في الإسلام
وعظة القرآن
نزلت سورة عبس
المكية بسبب عبد الله بن أم مكتوم ، أثناء تشاغل النبي صلىاللهعليهوسلم عنه مع جماعة من قريش ، فيهم الوليد بن المغيرة ، وعتبة بن
ربيعة ، والعباس ، وأبو جهل ، لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم ، وكان يتحفّى
بدعائهم إلى الله تعالى. أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت
: نزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (١) في ابن أم
مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فجعل يقول : يا رسول الله ، أرشدني ، وعند رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله يعرض عنه ، ويقبل
على الآخر ، فيقول له : أترى بما أقول بأسا؟ فيقول : لا ، فنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى) (٢) وهذا مطلعها :
(عَبَسَ وَتَوَلَّى
(١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨)
وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ
__________________
(١٢)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
(١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))
[عبس : ٨٠ / ١ ـ ٢٣].
قطّب النبي صلىاللهعليهوسلم وجهه ، وأعرض ، لمجيء الأعمى عبد الله بن أم مكتوم إليه
يسأله ، بقوله : «علمني مما علّمك الله» فكره النبي أن يقطع عليه كلامه مع زعماء
الشرك ، رجاء إيمانهم ، فأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية.
وما يعلمك يا محمد
أنه لعل هذا الأعمى يتطهر من الذنوب والآثام ، بالعمل الصالح ، بسبب ما يتعلمه منك
، أو يتذكر أو يتعظ بما تعلمه ، فتنفعه الموعظة.
ثم عاتب الله
تعالى نبيه بصراحة ، فقال له : أما من استغنى بماله وجاهه عن القرآن ورسالتك ، وعن
الإيمان والهداية ، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك ، وتتعرض له بالموعظة ، ولا شيء
عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي ، ولا يتطهر من الذنوب ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ.
وأما من أتى إليك
مسرعا بجد لطلب الهداية والإرشاد إلى الخير ، والاتعاظ بآيات الله ، وهو يخاف الله
تعالى ، فأنت عنه تتشاغل ، وتعرض. وهذا دليل على وجوب المساواة في الإنذار بين
الناس جميعا ، لا فرق بين شريف وضعيف ورجل وامرأة.
كلا (كلمة ردع
وزجر) زجرا للمخاطب عن الشيء المعاتب عليه ، أو عن معاودة مثله ، لا تفعل مثل ذلك
الفعل مع ابن أم مكتوم ، من الإعراض عن الفقير ، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن
يتزكى ، وهذه الآيات موعظة وعبرة ، جدير بك
__________________
العمل بموجبها.
وهذا يدل على تعظيم شأن القرآن ، سواء قبله الكفار أم لا. قال سفيان الثوري : فكان
أي النبي بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال : مرحبا بما عاتبني فيه ربي عزوجل ، وبسط له رداءه ، واستخلفه النبي على المدينة مرتين.
وتلك التذكرة ذات
صفتين : إنها تذكرة بينة ظاهرة ، مقدور على فهمها ، فمن رغب فيها اتعظ بها ،
وحفظها ، وعمل بمقتضاها.
وهي تذكرة مثبتة
كائنة في صحف مشرفة عند الله تعالى ، لما فيها من العلم والحكمة ، وإثباتها في
اللوح المحفوظ ، وكونها رفيعة القدر عند الله ، منزهة ، لا يمسها إلا المطهرون ،
محمولة بأيدي ملائكة وسائط ينقلون الوحي للرسل ، لتبليغها للناس ، وهم كرام على
ربهم ، ومترفعون عن المعاصي ، أتقياء مطيعون لله عزوجل ، صادقون في إيمانهم.
ثم ذم الله تعالى
منكر البعث بقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ) (١٧) أي حقّ قتل
الإنسان الكافر ، أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا ، أيّ شيء أكفره؟ أي جعله كافرا. والمراد
: إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر.
قيل : إن هذه
الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وذلك أنه غاضب أباه ، فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا ، وجهّزه إلى الشام ،
فبعث عتبة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : إني كافر برب النجم إذا هوى. فدعا عليه النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأخذه الأسد وأكله بطريق الشام ، أخرجه ابن المنذر عن
عكرمة.
من أي شيء مهين
خلق الله هذا الكافر بربه؟! فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة. وهو استفهام على معنى
التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الله الإنسان منه. خلق الله هذا الكافر بربّه ،
وقدره أطوارا وأحوالا ، وسواه وهيأه لمصالح نفسه. وأتم خلقه وأكمله بأعضائه
الملائمة لحاجاته مدة حياته ، وزوده بطاقات العقل والفهم وبالحواس المدركة ،
للاستفادة من نعم الله تعالى ، فلا يستعملها في إغضابه.
ثم يسر الله تعالى
خروج هذا الإنسان من بطن أمه ورحمها ، ومكنّه من تحصيل الخير أو الشر ، قال مجاهد
: أراد السبيل عامة ، اسم الجنس في (هدى وضلال) أي يسر قوما لهذا ، وقوما لهذا.
وقال الحسن البصري ما معناه : إن السبيل هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان
، وتيسيره له : هو هبة العقل.
ثم بعد خلقه له ،
قبض روحه ، وأمر بمواراته في قبر ، أي أن يجعل له قبر. وفي ذلك تكريم ، لئلا يطرح
كسائر الحيوان ، ثم إذا شاء الله أنشره ، أي أحياه بعد موته ، أو بعثه بعد موته.
وقوله : (ثُمَّ إِذا شاءَ) يريد : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه ، وهو يوم القيامة.
كلا ، أي هذا ردع
وزجر للإنسان عما هو عليه ، فلم يخل إنسان من تقصير قط ، إما بالكفر ، وإما
بالعصيان ، وإما بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته ، ولم يفعل بما
أمره الله إلا القليل ، وهذا تعجيب من حال الإنسان.
نعم الإله على الإنسان وأهوال القيامة
ذكر الله تعالى من
أجل بيان قدرته نعمه في الأنفس البشرية ، ثم ذكر دلائل الآفاق ، وعدّد النعم التي
يحتاج إليها الإنسان ، لقوام حياته ، لعله يقابل النعمة بالوفاء والشكر والإيمان ،
ثم حذره مما يلقاه في الآخرة من أهوال القيامة ، التي تملأ النفس خوفا ورهبة ،
ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل ، وفي المبادرة إلى الإيمان بالموجد الخالق
، والإعراض عن الكفر ، والتواضع لكل أحد ، كما يبدو في هذه الآيات :
(فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ
شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها
حَبًّا
(٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً
(٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا
جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها
قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))
[عبس : ٨٠ / ٢٤ ـ ٤٢].
ليتأمل الإنسان
كيف خلق الله طعامه الذي يتعيش به ، وكيف صنعه الله له؟ وهذا منّة بالنعمة
المتكررة ، واستدلال بإحياء النبات من التراب على إحياء الأجساد بعد البلى. وكيفية
إيجاد الطعام : أننا نحن الله أنزلنا الماء من السماء أو السحاب ، على الأرض
بغزارة وكثرة ، وصبّ الماء : هو المطر ، ثم أسكناه في الأرض ، ثم أروينا البذور في
باطن الأرض بالماء ، ثم شققناها بالنبات الخارج منها ، فارتفع وظهر على وجهها ،
فوجدت النباتات المختلفة.
فأنبتنا في الأرض
الحبوب المقتاتة التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والأرز ، والأعناب المتنوعة ،
وأنواع البرسيم لأكل الدواب وعلفها ، قال أبو عبيدة : القضب : الرّطبة ، وأهل مكة
يسمون القتّ القضب ، لأنه يقضب كل يوم. وقال ابن عطية : إن القضب هنا : هو كل ما
يقضب ليأكله ابن آدم ، غضا من النبات ، كالبقول والهليون ونحوه ، فإنه من المطعوم
جزء عظيم ، ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة.
وأوجدنا أيضا
بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة ، وفاكهة : وهي كل ما
__________________
يتفكه به الإنسان
من الثمار ، من الفاكهة المعروفة ، ومرعى من العشب أو الحشيش للدواب. أي إن (الأبّ)
هو المرعى ، وقيل : التبن.
وحكمة الإنبات :
أننا جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم أيها البشر ولأنعامكم. فإذا جاءت القيامة. ولفظة (الصاخة)
في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخّ الآذان ، أي تصمّها ، واستعملت في
القيامة ، والداهية والصيحة المفرطة من قبيل الاستعارة.
إذا جاءت الصاخة
ترى المرء يفرّ من أقرب الناس له ، من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وولده ، ويبتعد عنهم
، لشدة الهول والخطب ، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء ،
ويصرفه منهم ، ويفرّ عنهم ، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم ، ولئلا يروا ما هو
فيه من الشدة. روي أن الرسل تقول يومئذ : نفسي نفسي ، لا أسألك غيري. و (الشأن
الذي يغنيه) هو فكره في سيئاته ، وخوفه على نفسه من التخليد في النار. والمعنى :
يغنيه عن اللقاء عن غيره. قال النبي صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أخرجه ابن جرير عن أنس رضي الله عنه ـ لعائشة رضي
الله عنها : «لا يضرّك في القيامة كان عليك ثياب أم لا» ، وقرأ هذه الآية.
وأحوال الناس في
القيامة فريقان : سعداء وأشقياء ، عبر عنهم بما يأتي :
وجوه متهللة مشرقة
مضيئة ، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة ، لأنهم علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم
والكرامة.
ووجوه أخرى في
القيامة ، عليها غبار وكدورة ، والقترة : غبار الأرض ، لما تراه مما أعدّه الله
لها من العذاب ، يغشاها سواد ، وذلة وشدة ، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة : هم الذين
كفروا بالله ، فلم يؤمنوا به ، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله ، وهم الذين اقترفوا
المعاصي والسيئات ، فهم الفاسقون الكاذبون ، الذين جمعوا بين الكفر والفجور ، كما
جاء في آية أخرى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا
فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٧١ / ٢٧]
أي إن
الكفار هم الفجار
، وليسوا أصحاب المعاصي الكبائر. والكفرة وقت نزول الوحي القرآني : هم قريش
وأمثالهم قديما وحديثا.
إن هذا الوصف
المرعب ليوم القيامة يستدعي التأمل والنظر ، قبل التورط في هذه المآسي التي لا
علاج لها ، ولا تبديل ، والسبيل لتفادي تلك الأهوال : هو الإيمان بالله تعالى ،
وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقضاء والقدر ، ويضم العمل الصالح
لساحة الإيمان الأصيلة التي هي قاعدة قبول العمل عند الله تعالى ، فمن توافر لديه
هذان العنصران ، نجا وهان عليه الأمر ، وضمن السلامة لنفسه.
تفسير سورة التكوير
تبدلات السماء والأرض يوم القيامة
وصف الله تعالى
أحوال القيامة وأهوالها بما يثير الرعب والقلق والوحشة ، حيث تبدل السماوات والأرض
، ويفاجأ الإنسان بعالم جديد ، تنقضّ فيه السماء والنجوم والكواكب ، وتزول الجبال
من مواضعها وتتبدد ، وتحترق مياه البحار ، وتعود الأرواح إلى الأموات ، وتتطاير
الصحف ، وتوقد الجحيم وتلتهب ، وتقترب الجنة وتتدنى ، وتعلم كل نفس ما قدمت من خير
أو شر ، كما يبين في الآيات الآتية في مطلع سورة التكوير المكية بإجماع المتأولين
:
(إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ
(٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا
الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ
سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا
الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))
[التكوير : ٨١ / ١
ـ ١٤].
هذه كلها أوصاف
يوم القيامة ، إذا لفّت الشمس وطويت بأن تدار ويذهب بها إلى
__________________
حيث شاء الله
تعالى. وإذا تساقطت النجوم وتناثرت ، وإذا أزيلت أو قلعت الجبال عن أماكنها
الأرضية ، وسيرت في الهواء كالصوف المندوف. وانكدار النجوم : هو انقضاضها وهبوطها
من مواضعها.
ـ وإذا النوق
الحوامل ، وهي أنفس أموال العرب ، تركت مهملة بلا راع ولا حلب ، لما دهاهم من الأمر.
وإذا جمعت الوحوش ليقتص من بعضها لبعض ، يقتص للجمّاء من القرناء ، وإذا البحار
أوقدت بالبراكين والزلازل ، فصارت نارا تضطرم ، بعد أن فاض بعضها إلى بعض ، وصارت
شيئا واحدا.
ـ وإذا قرنت
الأرواح بأجسادها حين النشأة الأخرى ، وإذا الفتاة المدفونة في حال الحياة ، خوف
العار أو الحاجة ، سئلت عن أي ذنب قتلت ، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإنه إذا سئل
المظلوم ، فما ظن الظالم حينئذ؟ وهذا على وجه التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك ،
وسؤالها لمساءلة الفاعلين.
ـ وإذا صحف
الأعمال عرضت ونشرت للحساب ، في موقف الحساب ، فكل إنسان يعطى صحيفته بيمينه ،
فيكون ناجيا ، أو بشماله أو من وراء ظهره ، فيكون هالكا. وإذا أزيلت السماء ، كما
يكشط جلد الشاة حين تسلخ. وكشط السماء : هو طيّها كطي السّجل ، فلم يبق لها وجود.
وإذا أوقدت النار
لأعداء الله إيقادا شديدا وأضرمت نارها ، وقربت الجنة وأدنيت لأهلها المتقين
المؤمنين ليدخلوها.
وجواب (إذا) في
جميع ما ذكر في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) (١٤) أي تحققت نفس
ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم ، أو من خير فدخلت به الجنة. ونفس هنا : اسم جنس ،
أي علمت النفوس. ووقع الإفراد لكلمة (نفس) لينبّه
الذّهن على حقارة
المرء الواحد ، وقلة دفاعه عن نفسه ، والآيات من أول السورة إلى هنا شرط ، وجوابه
: (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) (١٤).
هذه أوائل مفاجات
البعث ، ذكرت بعد مقدماته. وجاء هذا التفصيل ، لتفصيل ما أجمل في سورة (ق) عند
بيان ما يسبق الحساب ، فقال الله تعالى في سورة (ق) : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ) (٢٠) [ق : ٥٠ / ٢٠].
وجاء هنا في سورة التكوير : (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) (١) إلى قوله
تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) (٧).
وعلى العكس من ذلك
أجمل في سورة التكوير ما يحصل في يوم الحساب ، حيث اكتفي بسؤال الموءودة ، وتسعير
جهنم ، وتقريب الجنة ، وفي سورة (ق) فصّل الله كثيرا مما يحدث في الحساب ، حيث قال
الله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢١) [٥٠ / ٢١].
وما جاء بعدها من الآيات الكريمة الدقيقة الوصف ، في تقديم القرين من الملائكة ما
أوكل به ، وما يحدث من جدل حاد بين المرء وقرينه ، من الكفرة الجاحدين ، ثم تضمهم
جميعا جهنم ، وتتطلب المزيد من هؤلاء.
وقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤) إجمال يثير
الرعب والقلق والخوف ، حيث ينسى الإنسان عادة ما قدم في الدنيا ، فيفاجأ بما يجده
في صحيفته من تفاصيل الأعمال ، ولا أمل في تجاوز المخاطر إلا بأن تطفو الحسنات على
السيئات ، وبأن تعم الرحمة والفضل الإلهي العباد المقصرين.
إن هذا المشهد من
تقلبات الدنيا ومألوفاتها يوم القيامة ، يعدّ وحده مثارا للمخاوف ، وهو بإيجازه
يحتاج إلى مئات الصفحات لرصد الدقائق وما يترتب على التبدلات من إنذارات بالعذاب.
صدق الوحي والنبوة
تصدى القرآن
الكريم للرد المفحم على قول قريش في تكذيبهم بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وزعمهم : إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك ، وتكذيبه يؤدي لتكذيب
الوحي الإلهي والقرآن المنزل ، على الرغم من إعجاز القرآن وعجز العرب عن محاولة
إبطاله أو تفنيده أو محاكاته ، مما يدل على أنه كلام الله عزوجل ، نزل به الروح الأمين جبريل عليهالسلام ، على قلب محمد صلىاللهعليهوسلم ، فصار هو قوله المنقول عن رب العزة ، ليكون من المنذرين ،
بلسان عربي مبين ، وهنا إبطال من جانب آخر لكلام العرب ومزاعمهم في شأن القرآن من
طريق قسم الله تعالى بالنجوم والكواكب السيارة ، وبالليل ، وبالصبح ، على أن
القرآن هو كلام الله الموحى به بوساطة جبريل عليهالسلام ، كما يتضح من الآيات الآتية :
(فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧)
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما
صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما
هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ
شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ
رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))
[التكوير : ٨١ /
١٥ ـ ٢٩].
لا أقسم ، أي أقسم
، على عادة العرب في كلامهم أنهم إذا أقسموا على إثبات أمر
__________________
واضح قالوا : لا
أقسم ، أي لا يحتاج إلى قسم ، وقيل : إن الإتيان ب (لا) في القسم لتعظيم المقسم
به.
والمعنى هنا أقسم
بالكواكب جميعها التي تخنس ، أي تختفي بالنهار تحت ضوء الشمس ، وتكنس بالليل ، أي
تظهر بالليل في أماكنها ، كما تظهر الظباء من كنسها ، أي بيوتها ، والمراد بها :
الكواكب السيّارة السبعة : وهي الشمس ، والقمر ، وزحل وعطارد ، والمرّيخ ،
والزّهرة ، والمشتري. وهو رأي الجمهور.
وأقسم بالليل إذا
أقبل بظلامه ، لما فيه من الرهبة ، والصبح إذا أقبل وامتد وظهر وأضاء بنوره الأفق.
وجواب القسم هو :
إن هذا القرآن هو
تبليغ ونقل رسول كريم عند الله ، وهو جبريل عليهالسلام ، في قول جمهور الناس ، ولجبريل صفات أربع : أنه شديد
القوى في الحفظ التام والتبليغ الكامل ، وذو رفعة عالية ، ومكانة سامية عند الله
سبحانه ، ومطاع بين الملائكة ، يرجعون إليه ويطيعونه ، مؤتمن على الوحي والرسالة
من ربه ، وعلى غير ذلك.
وقوله : (ثَمَ) أي عند الله تعالى. وقوله : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) متعلق بقوله : (ذِي قُوَّةٍ) أو متعلق بقوله (مَكِينٍ) ومعناه : له مكانة ورفعة. و (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٢١) معناه : مقبول
القول ، مصدّق فيما يقوله ، مؤتمن على ما يرسل به ويؤديه من وحي وامتثال أمر.
وليس محمد صلىاللهعليهوسلم صاحبكم يا أهل مكة بمجنون ، كما تزعمون. وقوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ) وصف بالصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره ، وبأنه أعقل
الناس وأكملهم.
وتالله ، لقد رأى
محمد صلىاللهعليهوسلم جبريل عليهالسلام على صورته الأصلية ، له ست مائة جناح ، في مطلع أو أفق
الشمس الأعلى من قبل المشرق ، بحيث حصل له علم بدهي بأنه ملك مقرّب ، يطمأن لنزوله
بالوحي عليه ، لا شيطان رجيم.
وليس محمد صلىاللهعليهوسلم على ما أنزله الله عليه ، من الوحي وخبر السماء ، ببخيل
مقصر
في التعليم
والتبليغ ، ثم نفى الله تعالى عن القرآن أن يكون كلام شيطان ، حيث ردّ الله على ما
قالت قريش : إن محمدا كاهن. أي وليس القرآن بقول شيطان يسترق السمع ، مبعد مرجوم
بالكواكب واللعنة وغير ذلك ، لأن القرآن ليس بشعر ولا كهانة ، كما قالت قريش.
فأيّ طريق تسلكون
أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم؟ وأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن ،
مع ظهوره ووضوحه ، وبيان كونه حقا من عند الله تعالى؟ فهذا تقرير وتوقيف ، على
معنى : أين المذهب (مقر الذهاب) لأحد عن هذه الحقائق؟!
ما القرآن إلا
موعظة للخلق أجمعين ، وتذكير لهم بما ينفعهم ، وتحذير لهم مما يضرهم ، لمن أراد من
البشر أن يستقيم على الحق والإيمان والطاعة ، فمن أراد الهداية ، فعليه بهذا
القرآن ، فإنه مناجاة له وهداية ، ولا هداية فيما سواه. والذكر هنا : مصدر بمعنى
التذكرة. وخصص الله تعالى من شاء الاستقامة بالذكر ، تشريفا وتنبيها وبيانا
لتكسبهم أفعال الاستقامة.
ثم بيّن الله
تعالى أن تكسّب المرء على العموم ، في استقامة وغيرها : إنما يكون مع خلق الله
تعالى ، واختراعه الإيمان في صدر المرء ، فقال : (وَما تَشاؤُنَ ..) أي وما تريدون الاستقامة ، ولا تقدرون على ذلك إلا بمشيئة
الله وتوفيقه ، فليست المشيئة موكولة إليكم ، فمن شاء الله اهتدى ، ومن شاء ضل ،
بل كل ذلك تابع لمشيئة الله تعالى رب الإنس والجن والعالم كله. آمنا بالله وبما
يشاء.
روي أنه لما نزل
قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) قال أبو جهل
: هذا أمر قد وكل إلينا ، فإن شئنا استقمنا ، وإن لم نشأ لم نستقم ، فنزلت : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) .
__________________
تفسير سورة الانفطار
أمارات القيامة ومصير الناس فيها
سورة الانفطار
المكية بالاتفاق كسورتي التكوير والانشقاق تتضمن الكلام على أمارات البعث والتذكير
بيوم القيامة ، وما فيه من أهوال وتبدلات ، وبيان مصير الإنسان : إما إلى الجنة
وإما إلى النار ، لكن كل سورة تتميز بوصف مظاهر معينة للقيامة ، وقد تلتقي السور
الثلاث في بيان بعض مصير الظواهر الكونية. وكل سورة من هذه السور تلوم مخالفة
الإنسان لربه ، مع إنعامه عليه ، وتحمله على الاستقامة ، لأن كل شيء مدوّن عليه من
الملكين الملازمين له ، وذلك قبل أن يتقرر مصيره النهائي في القيامة بتسلم كتابه
بيمينه أو شماله. وهذه آي الانفطار ، أي انشقاق السماء على غير نظام مقصود :
(إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
(٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
(٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠)
كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ
__________________
لَفِي
نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ
الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))
[الانفطار : ٨٢ /
١ ـ ١٩].
هذه أوصاف يوم
القيامة يذكرنا الله بها ، وبما يقدمه الإنسان فيها من خير أو شر ، ويجازى عليه.
إذا انشقت السماء وتصدعت ، وتساقطت الكواكب وتناثرت بعدها ، وشققت جوانب البحار
فصارت بحرا واحدا ، ثم أضرمت النار فيها ، وهذه أشراط (أمارات) الساعة ، وجواب
الشرط :
إذا حدثت هذه
الأمور المتقدمة ، علمت كل نفس عند انتشار صحائف الأعمال ما قدمت من خير أو شر ،
وما أخّرت من الأعمال بسبب التكاسل والإهمال.
يا أيها الإنسان
المدرك نهاية العالم ، ما الذي خدعك وجرّأك على عصيان ربك ، الذي خلقك كامل
الأعضاء ، حسن الهيئة ، وصيرك معتدلا متناسب الخلق ، لا تفاوت في أعضائك ، مزودا
بالحواس من السمع والبصر ، وفيك العقل والعلم والفهم.
أخرج ابن أبي حاتم
عن عكرمة في هذه الآية : (ما غَرَّكَ) قال نزلت في أبي بن خلف. وقيل : في أبي الأشد بن كلدة
الجمحي أو في الوليد بن المغيرة.
لقد ركّبك الله في
أي صورة شاءها ، من أبهى الصور وأجملها ، وأنت لم تختر صورة نفسك.
ثم رد الله تعالى
على سائر أقوالهم ، وردع عنها بقوله سبحانه : (كَلَّا) ثم أثبت لهم تكذيبهم بيوم الجزاء ، وهذا الخطاب عام ،
ومعناه الخصوص في الكفار.
__________________
ارتدعوا أيها
الكفار وانزجروا عن الاغترار بحلم الله وكرمه ، والواقع أنكم تكذبون بيوم المعاد
والحساب والجزاء ، حيث لا يحملكم الخوف من هذا اليوم على التزام طاعة الله واجتناب
معاصيه.
ثم زاد في التحذير
من العناد والتفريط : أن جميع الأعمال مرصودة على الناس بالملائكة ، إن عليكم
لملائكة حفظة كراما ، فلا تقابلوهم بالقبائح ، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم ،
ويعلمون جميع أفعالكم. و (لَحافِظِينَ) هم الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم ، ووصفهم الله
تعالى بالكرم الذي هو نفي المذامّ ، و (يَعْلَمُونَ ما
تَفْعَلُونَ) (١٢) لمشاهدتهم
حال بني آدم.
والناس يوم
القيامة فريقان نتيجة كتابة الحفظة أعمال العباد :
إن الأبرار وهم
الذين أطاعوا الله عزوجل ، ولم يقابلوه بالمعاصي يصيرون إلى دار النعيم وهي الجنة.
وإن الفجار : وهم الذين كفروا بالله وبرسله ، وقابلوا ربهم بالمعاصي ، يصيرون إلى
دار الجحيم ، وهي النار المحرقة ، يدخلونها ويقاسون حرّها ، يوم الجزاء والحساب
الذي كانوا يكذبون به.
(وَما هُمْ عَنْها
بِغائِبِينَ) (١٦) أي لا
يفارقون الجحيم ولا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ، ولا يخفف من عذابها ، بل هم
فيها إلى الأبد ، ملازمون لها ، كما في آية أخرى : (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ٢ / ١٦٧].
وهذا تأكيد في الإخبار عن أنهم يصلونها ، وأنهم لا يمكنهم المغيب عنها يومئذ.
ثم وصف الله تعالى
يوم القيامة بما فيه غاية التهويل ، مؤكدا ذلك مرتين ، في قوله : (وَما أَدْراكَ ..) أي وما أعلمك وما أعرفك ما يوم الجزاء والحساب وكرر الجملة
تعظيما لشأن يوم القيامة ، وتفخيما لأمره ، مما يستدعي التدبر والتأمل.
ثم أعلن الله
تعالى قراره الحاسم في شأن الإنسان يوم القيامة ، فقال : (يَوْمَ لا
تَمْلِكُ
نَفْسٌ ..) أي إنه اليوم الذي لا يقدر فيه أحد كائنا من كان ، على نفع
أحد ، ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا بأن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، ولا يملك أحد
صنع شيء إلا الله رب العالمين ، فهو المتفرد بالسلطان والحكم ، وبيده الأمر كله ،
وترجع الأمور كلها إليه. قال قتادة : والأمر ، والله اليوم ، لله ، ولكنه لا ينازعه
فيه يومئذ أحد ، ولا يمكّن أحدا من شيء كما مكّنه في الدنيا.
وهذا خبر من الله
تعالى بضعف الناس يومئذ ، وأنه لا يغني بعضهم عن بعض ، وأن الأمر له تبارك وتعالى.
وهو رد قاطع على
من يزعم : أن أحد الرسل يتولى الحساب وفصل القضاء ، فيدخل من يشاء الجنة ، ومن يشاء
النار ، وهو زعم أقرب إلى السخف والسذاجة والبلاهة منه إلى الجد والحق والعقل.
تفسير سورة المطففين
وعيد المطففين والمكذبين بيوم الحساب وديوان الشر
سورة المطففين
المكية في قول الأكثرين تبين قواعد النظام الاقتصادي والاجتماعي في الإسلام ،
وتحدد مصير بعض الفاسقين الظالمين ، بسبب التطفيف في الكيل والميزان ، والتكذيب
بيوم الجزاء والحساب ، ووصف القرآن بأنه أساطير الأولين ، وتهدد الفجار بسوء
الحساب وإصلاء الجحيم ، وتبرز منزلة الأبرار في جنان النعيم ، وتبين ألوان النعم
التي ينعمون بها ، وتذكّر بمواقف الفجار من المؤمنين واستهزائهم منهم في الدنيا ،
وسيلقى كل فريق جزاءه العادل ، كما تبين الآيات الآتية :
(وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢)
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما
أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما
يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا
قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا
__________________
يَكْسِبُونَ
(١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
(١٧))
[المطففين : ٨٣ /
١ ـ ١٧].
أخرج النسائي وابن
ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة ، كانوا من أبخس الناس كيلا ، فأنزل الله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) فأحسنوا الكيل
بعد ذلك.
المعنى : هلاك
وعذاب وشقاء وحزن دائم للمطففين إيجابا وسلبا ، الذين ينالون حقهم كاملا ، ويعطون
حق غيرهم ناقصا. إذا اكتالوا : أخذوا ما لهم من حق بالكيل ، يأخذونه وافيا كاملا ،
وإذا كالوهم : أعطوهم شيئا بالكيل ، ينقصون الكيل والميزان ، وهذا مناف للحق
والعدل ، فإن الله تعالى يأمر بالوفاء في الكيل والميزان ، لأن في ذلك إيفاء للحق
واستيفاء له ، من غير نقص ولا زيادة. والتصرف في مال الآخرين ظلما هو حرام بغير
شك. ولا بد فيه من التوبة العاجلة.
ثم توعد الله
المطففين بأنه : ألا يعلم أولئك المطففون أنهم مبعوثون ليوم رهيب شديد الهول
والفزع : وهو يوم القيامة ، فيسألون عما كانوا يفعلون. يوم يقوم الناس من قبورهم
أحياء واقفين بين يدي ربهم ، للحساب والجزاء. ويختلف الناس فيه بحسب منازلهم ، وقد
رويت في تقدير مدته آثار ، من أربعين سنة ، إلى مائة سنة إلى ثلاث مائة سنة ، إلى
خمسين ألف سنة وغير ذلك ، والمعنى : أن كل مدة لقوم ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم في
ذلك. أما المؤمن فروي أن القيام فيه : هو على ما بين الظهر إلى العصر ، أو على بعض
الناس على قدر صلاة مكتوبة ، والعرق أيضا مختلف في قدره بحسب أحوال الناس ، فمنهم
من يغمره كله أو إلى أنصاف ساقيه أو إلى فوق ، أو إلى أسفل.
__________________
كلا : كلمة ردع
وزجر لهم عما يرتكبونه من التطفيف والتكذيب. فارتدعوا أيها الفجار الظلمة عما أنتم
فيه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم
مكتوبة في ديوان الشر ، أو سجل أهل النار ، وهو السجين. والسجين : فعّيل من السّجن
، كسكّير وشرّيب ، أي في موقع ساجن وساكر وشارب ، فجاء (سجّين) بناء مبالغة.
وما أعلمك أنت ولا
قومك ما هو السجّين؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم ، فهو كتاب مسطور بيّن
الكتابة ، جامع لأعمال الشر ، الصادرة من الشياطين والكفرة والفسقة ، وهذا السجل
هو السجل الكبير أو العظيم ، الذي فيه لكل فاجر صحيفة.
وعذاب وهلاك شديد
يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء ، وبما جاء به الرسل ، فهؤلاء المكذبون هم
الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء ، ولا يعتقدون بوجوده ، ويستبعدون أمره.
وصفات المكذبين
يوم الجزء ثلاث وهي :
لا يكذب بيوم
الدين (الجزاء) إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث : وهي كونه معتديا ، أي فاجرا
متجاوزا منهج الحق ، وأنه أثيم ، كثير الإثم ، وهو المنهمك في الإثم في أفعاله ،
من تعاطي الحرام وتجاوز المباح ، وأنه إذا تلي عليه القرآن قال : أساطير الأولين ،
أي أخبار المتقدمين وأباطيلهم وأكاذيبهم التي افتروها ، تلقّاها محمد صلىاللهعليهوسلم من غيره ممن تقدموه.
وسبب افترائهم على
القرآن يستدعي الردع المفهوم من كلمة : كلا ، أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال
، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون ، ولا كما قلتم ، بل هو كلام الله
ووحيه وتنزيله على رسوله الكريم عليهالسلام. وإنما السبب في
افترائهم هو كثرة
الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبهم عن الإيمان بالقرآن ، والتي غطّاها الله ، ومنع
عنها نفاذ الحق والخير والنور إليها ، فأعماها عن رؤية الحقيقة. ثم إنهم في الواقع
محجوبون عن ربهم يوم القيامة ، لا ينظرون إليه كما ينظر المؤمنون. ويقال لهم على
جهة التقريع والتوبيخ من زبانية جهنم : هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به في
الدنيا ، فانظروه وذو قوه.
ديوان الخير وأهله
في سورة المطففين
إخبار عن سجل أو سجّين أو ديوان الشر للكفار والفجار ، وعن ديوان الخير للأبرار ،
وكل ديوان مليء بأعمال أهله ، أما ديوان الشر فدليل على عذاب صاحبه وهو في سجل ضخم
، فيه سوءات الفجار ، وأما ديوان الخير فيدل على نجاة أهله ، وهو في سجل ضخم ، فيه
عمل الأبرار والصالحين من الثقلين ، وأصحابه في نعيم ، مترع بألوان النعم المادية
والمعنوية ، ويقتص أهل البر المؤمنون في الآخرة باستهزائهم من الكفار الذين كانوا
يستهزئون منهم في عالم الدنيا ، وذلك صريح في الآيات الآتية :
(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ
مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ
(٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي
ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا
مِنَ
__________________
الَّذِينَ
آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا
انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا
إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى
الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
(٣٦))
[المطففين : ٨٣ /
١٨ ـ ٣٦].
ارتدعوا أيها
الكفار عن نظرتكم للأبرار ، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون
المطيعون في ديوان ضخم مخصص لهم ، وموجود في مكان عال ، وما أعلمك يا محمد أي شيء
هو علّيون؟ وهو تعظيم لشأنه ، إنه كتاب مسطور ، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم ، وهو
السجل الكبير ، الذي تحضره الملائكة وتحفظه ، كما يحفظ اللوح المحفوظ.
ـ إن أهل الطاعة
والإيمان لفي نعيم عظيم يوم القيامة ، وفي جنان الخلد على الأسرّة التي في الحجال (جمع
حجلة وهي الكلّة) ينظرون إلى ما أعده الله لهم من أنواع النعيم في الجنة ، وإلى ما
لهم من الكرامات المادية والمعنوية.
إذا رأيتهم عرفت
فيهم آثار النعمة والترف ، والسرور ، في وجوههم ، التي تتلألأ بالنور والحسن
والبياض.
يسقون من الخمر
التي لا غش فيها ، ولا يشوبها شيء من الفساد الذي يفسدها ، وقد ختم إناؤها بالمسك
، فلا يفكّه إلا الأبرار ، وآخر طعمه ريح المسك ، وفي ذلك فليرغب الراغبون ،
وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله ، باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه.
ويخلط ذلك الشراب بماء عين تسمى التسنيم ذات مكان عال ، وهي التي يشرب منها
الأبرار المقربون صرفا ، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا ،
__________________
والمقربون في هذا
الموضع : الملائكة المقرّبون عند الله تعالى ، أهل كل سماء ، كما قال ابن عباس.
وكلمة (عينا) إما منصوب على المدح ، أو حال من (تسنيم) أو (يسقون).
ثم وصف الله تعالى
أهل الشرك بصفات أربع ، وهم أكابر المشركين كأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ،
والعاص بن وائل السهمي ، كانوا يضحكون من عمار ، وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء
المسلمين ويستهزئون بهم.
هذه الصفات : هي
أنهم أي كفار قريش وأمثالهم كانوا في الدنيا يستهزئون من المؤمنين ، ويسخرون منهم.
وإذا مرّ الكفار بالمؤمنين تغامزوا عليهم ، محتقرين إياهم ، يعيرونهم بالإسلام ،
ويعيبونهم به ، ويتخذونهم هزوا. روي ـ كما تقدم ـ أن هذه القصة نزلت في صناديد
قريش ، وضعفة المؤمنين ، أو في علي وجماعة معه من المؤمنين مرّوا بجمع من الكفار
في مكة ، فضحكوا منهم ، واستخفّوا بهم عبثا ونقصان عقل ، فنزلت الآية في ذلك.
ـ ومن صفاتهم :
أنه إذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق رجعوا معجبين بما هم
فيه ، متلذذين به ، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين ، وبما قاموا به من طعن فيهم ،
واستهزاء بهم.
ـ وإذا رأى
المشركون المؤمنين ، وصفوهم بالضلال ، لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة ،
ولاتباعهم محمدا ، وتمسكهم بما جاء به ، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب ، لا
يدرى : لا يدرى : أله وجود أم لا؟ فرد الله تعالى على مواقفهم : بأنه لم يرسل
هؤلاء المجرمون من قبل الله ، رقباء على المؤمنين ، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم
وأقوالهم ، ولا كلفوا بهم ، وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم.
واقتصاصا منهم
ومعاملة لهم بالمثل ، في يوم القيامة يضحك أو يهزأ المؤمنون من
الكفار حين يرونهم
أذلاء مغلوبين ، قد نزل بهم ما نزل من العذاب ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ،
معاملة بالمثل ، وبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام ،
خسروا الدنيا والآخرة.
وينظر المؤمنون
إلى أعداء الله ، وهم يعذبون في النار ، والمؤمنون يتنعمون على الأرائك ، وهذا وضع
دائم خالد ، لا يعادله شيء من المؤقت الفاني.
هل جوزي الكفار
على ما كانوا يقابلون به المؤمنين ، من الاستهزاء والطعن والتعيير والتنقيص أو لا؟
حقا ، لقد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الهزء بالمؤمنين
والاستخفاف بهم. وهذا تقرير وتوقيف لمحمد صلىاللهعليهوسلم وأمته.
تفسير سورة الانشقاق
أهوال القيامة وأحوال الناس فيها
سورة الانشقاق
المكية اتفاقا كسورتي التكوير والانفطار قبلها تصف أهوال القيامة وأحوال الناس
فيها ، وانقسامهم فريقين : أهل اليمين ، وأهل الشمال. وتلك الأهوال الكبرى تثير
الرعب والهلع ، وتبين مدى ضعف الإنسان ، وعجزه ، وفقره ، في مواجهة المشكلات ، حيث
لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح ، فترى هؤلاء الأتقياء في أتم السرور ، وترى
الأشقياء في أشنع الأحوال وأتم الحزن والكآبة وانتظار الهلاك المتكرر. وذلك واضح في
مطلع سورة الانشقاق :
(إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)
وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا
أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً
يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً
(١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ
(١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))
[الانشقاق : ٨٤ /
١ ـ ١٥].
__________________
إذا تصدعت السماء
وتشققت ، مؤذنة بخراب العالم ، وأطاعت ربها وامتثلت له فيما أمر ونهى ، وحق لها أن
تطيع أمره وتنقاد وتسمع.
وإذا الأرض بسطت
وسويت واتسعت بزوال الجبال والآكام ، ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز ،
وطرحتهم على سطحها ، وتخلت على كل ما فيها ، ولم يبق في باطنها شيء.
واستمعت وأطاعت أوامر
بها ونواهيه ، وحق لها أن تستمع لما يريد الله منها ، لأنها في قبضة القدرة
الإلهية ، وكررت الجملة للتأكيد.
وجواب (إذا) محذوف
، لإرادة التهويل على الناس ، تقديره : إذا حدث ما حدث ، رأيتم أعمالكم من خير أو
شر.
يا أيها الإنسان ـ
والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر ـ إنك عامل في هذه الحياة ، ومجاهد
ومجدّ في عملك ، جهادا وجدا قويا ، لتلقى ربك ، وتلقى ما عملت من خير أو شر.
والكدح : جهد النفس في العمل حتى تأثرت.
وقوله : (فَمُلاقِيهِ) عائد في رأي الجمهور على الرب تبارك وتعالى ، فالفاء على
هذا عاطفة (ملاق) على (كادح).
ثم ذكر الله تعالى
أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة :
الفريق الأول ـ المؤمنون
الموصوفون بقوله : فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه ، وهم المؤمنون ، فإنه يحاسب
حسابا سهلا ، بأن تعرض عليه سيئاته ، ثم يغفرها الله ، ويتجاوز عنها ، من غير أن
يناقشه الحساب ، فذلك الحساب اليسير ، أخذا بمفهوم الحديث الذي أخرجه أحمد
والشيخان وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من نوقش الحساب عذّب ، قالت ، فقلت : أفليس الله تعالى
قال :
(فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً) (٨)؟ قال : ليس
ذاك بالحساب ، ولكن ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذّب».
وهذا الذي يحاسب
حسابا يسيرا بالعرض ، يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا ، فرحا مسرورا ، بما
أعطاه الله عزوجل ، وما أوتي من الخير والكرامة.
الفريق الثاني ـ الكافرون
الموصوفون بقوله : وأما من أعطي كتاب أو صحيفة أعماله بشماله ، أي من وراء ظهره ،
حيث تثنى يديه من خلفه ، ويعطى كتابه بها ، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه ، فإذا
قرأ كتابه ، نادى : يا ثبوراه ، أي بالهلاك والخسار ، ثم يدخل جهنم ، ويصلى حر
نارها وشدتها.
يتبين من هذا أن
الكافر يؤتى كتابه من ورائه ، لأن يديه مغلولتان ، وروي أن يده تدخل من صدره ، حتى
تخرج من وراء ظهره ، فيأخذ كتابه بها.
ويقال : إن هاتين
الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد ، وفي أخيه الأسود ، وكان أبو سلمة من
أفضل المسلمين ، وأخوه من عتاة الكافرين. وقوله : (يَدْعُوا ثُبُوراً) معناه : يصيح منتحبا : وا ثبوراه وا حزناه ، ونحو هذا مما
معناه : هذا وقتك وأوانك ، أي احضرني. والثبور : اسم جامع للمكاره ، كالويل.
ثم ذكر الله تعالى
سببين لعذاب الكافر وهما :
ـ إنه كان في
الدنيا فرحا بطرا ، لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، وإنما يتبع هواه ،
ويركب شهواته ، تكبرا ، لأنه لا يؤمن في الواقع بالآخرة ، كما بان في السبب
الثاني.
ـ إن سبب ذلك
السرور والبطر : ظنه بأنه لا يرجع إلى الله تعالى ، ولا يبعث للحساب والعقاب ، ولا
يعاد بعد الموت.
فرد الله تعالى
عليه ظنه قائلا : (بَلى) أي بلى ، إنه
سيرجع إلى الله تعالى ، وسيعيده إليه ربه كما بدأه ، ويجازيه على أعماله ، خيرها
وشرها ، فإن ربه كان به وبأعماله مطلعا خبيرا ، لا يخفى عليه منها شيء.
وفي هذا دلالة
واضحة على أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف ، لأن ذلك مقتضى العلم التام ،
والقدرة الشاملة ، والحكمة البالغة.
تأكيد وقوع القيامة
أكد الله تعالى
بمناسبات مختلفة غرس عقيدة الإيمان بالبعث على وقوع يوم القيامة ، وما يتبعها من
أهوال ، بقسم صادر من الله تعالى ، بآيات كونية ، منها في سورة الانشقاق : الشفق
الأحمر بعد الغروب ، والليل ، والقمر ، على أن هذا اليوم كائن لا محالة ، وأن
الناس يتعرضون فيه لشدائد الأهوال. ومع الأسف لا يؤمن بعض الناس بالقرآن وبالقيامة
، ولا يصغون لآي القرآن ، عنادا منهم وتكبرا ، فيجازون أشد العذاب ، إلا من تاب
وآمن وعمل عملا صالحا ، فله الثواب الدائم غير المنقطع ، وهذا ما نصت عليه الآيات
الآتية :
(فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ
أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))
[الانشقاق : ٨٤ /
١٦ ـ ٢٥].
__________________
المعنى : أقسم ،
ولا : زائدة ، أو لنفي كلام سابق قبل القسم ، أقسم بالشفق : وهو الحمرة بعد غروب
الشمس إلى وقت العشاء ، وبالليل الأسود وما جمع وضم ، وستر ما انتشر في النهار ،
وبالقمر إذا تم واكتمل بدرا ، في منتصف كل شهر قمري. والقسم بهذه الأشياء تنويه
بعظمتها وعظمة مبدعها. وجواب القسم هو : (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً) أي لتصادفن أحوالا بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة ، بعضها
أشد من بعض ، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ، ثم يكون المصير
الأخير : وهو الخلود في الجنة أو في النار.
ثم وبخ الله وأنكر
على المشركين استبعادهم البعث ، بقوله : (فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) (٢٠) أي فأي شيء
يمنعهم عن الإيمان بصحة البعث أو القيامة ، وبمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وبما جاء به القرآن؟! مع وجود موجبات الإيمان بذلك ، من
الأدلة الكونية القاطعة الدالة على قدرة الله على كل شيء ، والمعجزات الظاهرة
الدالة على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم ، وصدق الوحي القرآني المنزل عليه.
وأي مانع يمنعهم
من السجود والخضوع لله تعالى عند قراءة القرآن الذي دل إعجازه على كونه منزلا من
عند الله تعالى؟! ويكون سجودهم تعظيما للقرآن ومنزله ، بعد أن علموا كونه معجزا ،
وهم يتذوقون العربية ويدركون فصاحتها وبلاغتها.
والواقع أن الكفار
يكذبون بالكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب ، إما حسدا ،
وإما خوفا من ضياع المصالح والمراكز. والله أعلم من جميع المخلوقات بما يضمرونه في
أنفسهم من التكذيب ، وأعلم بأسباب الإصرار على الشرك أو الكفر ، وبجميع الأعمال
الصالحة والمنكرة ، من أمراض القلوب من حسد وحقد وتكبر وكراهية ، وقوله تعالى : (يُوعُونَ) معناه يجمعون من الأعمال والتكذيب والكفر ، كأنهم يحملونها
في أوعية.
فأخبرهم أيها
النبي بما أعد الله لهم من عذاب مؤلم ، واستعمل تعبير البشارة بدلا عن الخبر
بالعذاب تهكما بهم واستهزاء منهم.
ثم استثنى الله
تعالى من كفار قريش القوم الذين كانوا سبق لهم الإيمان في قضائه ، والمعنى : لكن
الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر ، وخضعوا للقرآن الكريم ، وعملوا بما جاء
به ، والتزموا صالح الأعمال ، لهم في الدار الآخرة أجر أو ثواب غير مقطوع ولا
منقوص ، ولا يمن به عليهم. كما جاء في آية أخرى : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١١ / ١٠٨].
والاستثناء منقطع في رأي الزمخشري ، وقال أكثر المتأولين : معناه إلا من تاب منهم
وعمل صالحا ، فله الثواب العظيم. وفي هذا ترغيب بالإيمان والطاعة وزجر عن الكفر
والمعصية.
دلت الآيات على أن
القادر على تغيير أفلاك السماء من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد
موته ، والشواهد والأدلة الكونية ناطقة كلها على قدرة الله على ذلك. إلا أن الكافرين
يكذبون بلا حجة ولا برهان ، فيكونون جديرين باستحقاق العذاب الأليم ، والعذاب حق
وعدل ، إذ لا يعقل التسوية بين المؤمن الطائع ، والكافر العاصي.
وما أجمل الأنس
بوعد الله تعالى والتذكير برحمته ، حين يجد الإنسان بعد إشاعة جو العذاب والتهديد
والوعيد غرس الأمل بالرحمة ، لذا كان الأسلوب القرآني في غاية الروعة والبيان ،
حين يقرن الكلام عن العذاب ، بالكلام عن النعيم والرحمة والإحسان ، إما قبل أخبار
العذاب ، أو بعد الإخبار به ، فترتاح النفوس وتطمئن القلوب ، وتتفتح أبواب الأمل
في فكر الإنسان وتذكيره بضرورة العودة إلى جادة الاستقامة والإيمان والتزام العمل
الصالح.
تفسير سورة البروج
قصة أصحاب الأخدود
إن الصراع بين
الحق والباطل وبين الإيمان والكفر قديم وعويص وخطير ، حتى إنك تجد أهل الباطل
يرتكبون أكبر الجرائم وأخطرها في سبيل نصرة باطلهم ، ولكنهم في النهاية تكون الخيبة
والخسارة والدمار عليهم ، وينتصر الحق وأهله ، ويندحر الباطل وجنده ، هذه حقيقة ،
والحقيقة الثانية : هي أن الناس لا يعتبرون من هذه الأمثلة البارزة والشواهد
التاريخية الساطعة ، وهذا مثل غريب وهو قصة أهل الأخدود كما تصورها الآيات الكريمة
في مطلع سورة البروج المكية بالإجماع :
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ
أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))
[البروج : ٨٥ / ١
ـ ١١].
__________________
يقول الله تعالى :
أقسم بالسماء وبروجها : وهي منازل الكواكب أو نجومها العظام ، وهي اثنا عشر برجا
لاثني عشر كوكبا ، وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما ،
وهذا القسم بها تنويه بها وتعظيم وتشريف لها.
وأقسم بيوم
القيامة الموعود به ، وبمن يشهد في ذلك اليوم ، وبالمشهود به على المشهود عليه من
الوقائع أو الجرائم التي فعلها ، كالشهادة على أصحاب الأخدود. والشاهد : الملائكة
الحفظة وغيرهم ، والمشهود عليهم : الناس ، كما ذكر الترمذي.
لعن أصحاب الأخدود
المشتمل على النار ذات الحطب الذي توقد به ، وهم قوم من الكفار في نجران اليمن ،
طلبوا من المؤمنين بالله عزوجل أن يرجعوا عن دينهم وهو توحيد الله ، فأبوا عليهم ، فحفروا
لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأوقدوا فيه نارا ، وأرادوهم أن يرجعوا عن
دينهم ، فلم يقبلوا منهم ، فقذفوهم فيها ، وقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (٤) هو جواب القسم
، أي لعنوا وطردوا من رحمة الله. وقوله : (النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ) (٥) النار : بدل
اشتمال ، من كلمة (الأخدود).
كان من قصة هؤلاء
: أن الكفار قعدوا على جانب الأخدود ، وجمع المؤمنون ، فعرض عليهم الدخول في الكفر
، فمن أبى رمي في أخدود النار فاحترق ، روي أنه احترق في النار عشرون ألفا.
لقد لعن هؤلاء
الكفار الذين عذّبوا المؤمنين في النيران ، حين أحرقوا بالنار ، قاعدين على
الكراسي عند الأخدود ، وهم الملك وأصحابه ، يشاهدون ما يفعل بالمؤمنين الذين هم
قعود على النار ، يحاولون إرجاعهم إلى دين الوثنية ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة
، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.
وهذا يدل على أن
قلوب الكفرة الذين أقدموا على إحراق أهل الإيمان قاسية ، بل
أشد من الحجارة
قسوة ، تجردوا من الإنسانية والرحمة ، وتمكن الكفر والباطل والضلال منهم.
وسبب هذا التعذيب
والإحراق بالنار : أن جبابرة أهل الكفر هؤلاء في نجران اليمن ، لم ينكروا ولم
يعيبوا شيئا على المؤمنين إلا إيمانهم ، وتصديقهم بالله تعالى الذي لا يغلب ،
المحمود على كل حال ، مالك السماوات والأرض ، وإليه الأمر كله ، فهو الحقيق
بالإيمان به وبتوحيده ، والله شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين ، لا تخفى عليه خافية
، وسيجازيهم بالجزاء الأوفى على أفعالهم ، وهذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود وأمثالهم
، ووعد طيب بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه ، فصبر ولم يتراجع في موقف
الشدة.
والجزاء يجمع
الفريقين ، فإن الذين أحرقوا بالنار المؤمنين والمؤمنات بالله ورسله ، ولم يتركوهم
أحرارا في دينهم ، وأجبروهم إما على الإحراق ، وإما على الرجوع عن دينهم ، ثم لم
يتوبوا من قبيح صنيعهم وفحش كفرهم ، فلهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم ، ولهم
عذاب الاحتراق بالنار ، لأن الجزاء من جنس العمل ، وعذاب الحريق تأكيد لعذاب جهنم
، أو أن جهنم والحريق : طبقتان من النار.
وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) دليل على إصرارهم على الكفر ، وأنهم لو تابوا عن سوء فعلهم
، وندموا ، لغفر الله لهم ، ولكنهم لم يفعلوا.
وأما الذين آمنوا
وصدقوا بالله ربا واحدا لا شريك له ، وبالرسل وباليوم الآخر والملائكة والكتب
الإلهية ، وعملوا صالح الأعمال باتباع أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، ومنهم الذين
صبروا على نار الأخدود ، وثبتوا على دينهم ، ولم يرتدوا ، لهم بهاتين الصفتين :
الإيمان والعمل الصالح ، جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها
الأنهار ، وذلك
الثواب والنعيم المذكور هو الفوز أو الظفر الكبير الذي لا مثيل له ، جزاء إيمانهم
وطاعة ربهم.
ليدرك الإنسان
الفرق الواضح بين مصير المصرين على الكفر ، والصادقين في الإيمان.
القدرة الإلهية
من كمال فضل الله
تعالى وتمام رحمته : أن يذكّرنا دائما في المناسبات المختلفة بقدرته التي لا حدود
ولا نهاية لها ، فهي قدرة تامة ، قدرة الخلق والإبداع ، والمتابعة ، والشمول ،
والدقة ، التي لا يقف أمامها شيء ، والتذكير بهذه القدرة فيه ترهيب الكافر ،
وترغيب المؤمن وتثبيته على الإيمان والشدائد ، والصبر على المحن والأزمات ،
والأمثلة على التنكيل بالكافرين كثيرة في تاريخ الأمم السابقة ، كفرعون وجنده وعاد
وثمود وقوم تبّع وأصحاب الأيكة ونحوهم ، وذلك يتضح في الآيات الآتية :
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ
(١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ
(٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))
[البروج : ٨٥ / ١٢
ـ ٢٢].
هذا تأكيد للوعد
والوعيد في الآيات السابقة بما يفيد معرفة تمام قدرة الله تعالى على إنقاذ وعيده ،
وتنفيذ وعده ، فإن بطش ربك ، أي أخذه بقوة وسرعة ، لشديد على المعذبين ، عظيم قوي
التأثير والنفاذ ، مضاعف لمن أراد الله مضاعفة العذاب عليه ،
__________________
فإنه سبحانه ذو
القدرة الفائقة ، الذي ما شاء كان ، ويكون لمح البصر أو هو أقرب ، وهذا ينشر جو
الرهبة أمام كفار قريش وأمثالهم.
ويؤكد تمام القدرة
: أن الله تعالى هو الذي بدأ الخلق أول مرة في الدنيا ، وهو القادر على أن يعيدهم
أحياء بعد الموت ، يبدأ الخلق بالإنشاء ويعيد الخلق إليه بالحشر. قال ابن عباس
فيما معناه : إن ذلك عام في جميع الأشياء ، فهي عبارة عن أنه تعالى يفعل كل شيء ،
أي يبدئ كل ما يبدأ ، ويعيد كل ما يعاد ، وهذان قسمان يستوفيان جميع الأشياء.
ثم أكد الله تعالى
الوعد الكريم بإيراد خمس صفات له سبحانه وهي :
أنه بالغ المغفرة
وواسع الفضل ، يغفر ، أي يستر ذنوب عباده المؤمنين ، إذا تابوا وأنابوا إليه ،
وأنه بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه وأصفيائه. والمراد به : إيصال الثواب لأهل
طاعته على الوجه الأتم.
قوله : (الْغَفُورُ الْوَدُودُ) صفتا فعل ، الأولى ستر على عباده ، والثاني لطف بهم وإحسان
إليهم.
وأنه تعالى صاحب
العرش العظيم ، العالي على جميع الخلائق ، وصاحب الملك والسلطان ، والعظيم الجليل
المتعالي ، صاحب النهاية في الكرم والفضل ، بالغ السمو والعلو.
وخصص الله العرش
بإضافة نفسه إليه تشريفا للعرش ، وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات. والمجيد بالكسر
في قراءة جماعة صفة للعرش ، وذلك يدل على أن المجد والتمجّد قد يوصف به كثير من
الموجودات. وبالرفع في قراءة الجمهور : صفة لله تعالى.
ثم أخبر الله
تعالى نبيه بقصة فرعون وثمود للإيناس والتثبيت ، فهل أتاك أيها النبي
خبر الجموع
الكافرة المكذبة لأنبيائهم ، والتي جندت جنودها لقتالهم؟ أو هل بلغك ما أحل الله
بهم من البأس ، لغلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال؟ ومنهم : فرعون وجنوده ،
وقبيلة ثمود من العرب البائدة ، قوم صالح عليهالسلام ، والمراد بحديثهم : ما وقع منهم من الكفر والعناد ، وما
حلّ بهم من العذاب.
ومعنى الآية :
فاجعل هؤلاء الكفرة الذين يخالفونك وراء ظهرك ولا تهتم بهم ، فقد انتقم الله تعالى
من أولئك الأقوياء الأشداء ، فكيف بهؤلاء؟! والجنود : الجموع المعدّة للقتال ،
والتوجه نحو غرض واحد. وذكر فرعون وحده هنا لأنه هو رأس قومه وآله.
ثم ترك القول بحال
فرعون وثمود ، وأضرب عنه إلى الإخبار بأن هؤلاء الكفار بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لا حجة لهم عليه ولا برهان ، بل هو تكذيب مجرد سببه الحسد
، أي إن الواقع القائم أن هؤلاء المشركين العرب في تكذيب شديد لك أيها النبي ،
ولما جئت به ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار.
ثم توعدهم الله
تعالى بقوله : (وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٢٠) أي إن الله
تعالى قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك ، قاهر الجبارين لا يفوتونه ولا
يعجزونه ، فهو مقتدر عليهم ، وهم في قبضته لا يجدون عنها مهربا.
ثم رد الله تعالى
على تكذيب قريش بالقرآن ، فقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ) (٢١) أي إن هذا
القرآن الذي كذّبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه ، حتى بلغ حدّ الإعجاز ، متناه
في الشرف والكرم والبركة ، وليس هو كما يزعمون بأنه شعر وكهانة وسحر ، وإنما هو
كلام الله تعالى المصون عن التغيير والتحريف ، المكتوب في اللوح المحفوظ ، وهو أم
الكتاب.
إن هذا الكلام
إضراب عن تكذيب القرشيين وإبطال له ورد عليه ، بالإخبار بأن
هذا الكتاب قرآن
مجيد ، أي لا مذمة فيه ، وهو كلام الله المنزل من اللوح المحفوظ الذي فيه جميع
الأشياء. واللوح المحفوظ : شيء أخبرنا الله به ، فيجب علينا الإيمان به ، كما أخبر
الله تعالى ، وإن لم نعرف حقيقته ، والغيبيات المجهولة عنا كثيرة ، الجهل بها ينشر
الهيبة ، ويشيع الخوف من مفاجآتها.
تفسير سورة الطارق
إثبات البعث وصدق القرآن
في سورة الطارق
المكية بالإجماع كسورتي الانشقاق والانفطار : قسم من الله تعالى على إمكان حدوث
البعث ، وإثباته ثبوتا قطعيا ، وردّ على المشركين المكذبين به ، وإخبار بأن الله
تعالى هو خالق الإنسان من العدم ، والقادر على البدء والإنشاء ، قادر على الإعادة
بعد الموت ، ويوم القيامة يوم مكشوف تنكشف فيه جميع الأشياء من غير أستار ولا
غيبيات ، ويكون الإنسان محل الحساب والجزاء ، دون أن يكون له نصير أو شفيع ، أو
قدرة على الهرب ، والقرآن الذي أخبر بقيام البعث في وقت معين عند الله تعالى هو
كلام الله المحكم ، الذي فصل بين الحق والباطل ، كما تقرر الآيات في مطلع سورة
الطارق :
(وَالسَّماءِ
وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ
كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ
(٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ
(٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ
مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ
الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))
[الطارق : ٨٦ / ١
ـ ١٧].
__________________
المعنى : أقسم
بالسماء البديعة ، والكوكب المنير البادي ليلا ، وما أعلمك ما حقيقته أيها النبي؟
إنه النجم المضيء ليلا لتبديد شدة الظلمة ، كأنه يخرق أو يثقب حجب الظلام ، والقسم
بالكواكب للدلالة على أن لها خالقا مدبرا منظما لها. والطارق : اسم جنس لكل ما
يظهر أو يأتي ليلا ، فسره ما بعده بأنه النجم الثاقب.
وجواب القسم : ما
كل نفس إلا عليها من الله حافظ ، يحرسها من الآفات ، وهم الحفظة من الملائكة الذين
يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها ، وما تكسبه من خير أو شر. وكلمة (لما) بمعنى
إلا ، و (إن) على ذلك : نافية ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ.
ثم نبّه الله
تعالى الإنسان إلى مبدأ خلقه ليتعظ ، ويستدل به على إمكان المعاد ، في قوله : (فَلْيَنْظُرِ) أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه ، ليعلم قدرة
الله على ما هو دون ذلك من البعث ، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم ، وهو ماء
الرجل وماء المرأة ، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما. يخرج من ظهر الرجل في النخاع
الشوكي الآتي من الدماغ ، ومن بين ترائب المرأة ، أي عظام صدرها ، أو موضع القلادة
من الصدر. والولد يتكون من اجتماع الماءين ، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم ،
فيتكون الجنين بإرادة الله تعالى.
إن الله تعالى
قادر على إرجاع الإنسان إليه ، أي إعادته بالبعث بعد الموت ، لأن من قدر على
البداءة والإنشاء ، قادر على الإعادة والإحياء مرة أخرى. وإرجاعه يوم القيامة يوم
تختبر وتعرف السرائر ، أي مكنونات النفوس والقلوب من العقائد والنيات والأسرار
وغيرها.
وليس للإنسان حين
بعثه من قوة في نفسه أو من غيره ، يمتنع بها من عذاب الله ،
ولا يجد ناصرا
ينصره ، فينقذه مما نزل به ، أي فليس له قوة ذاتية ولا قوة خارجية من غيره ،
لإنجاء نفسه من عذاب الله تعالى.
أخرج ابن أبي حاتم
عن عكرمة في قوله : (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) (٥) قال : نزلت في
أبي الأشد بن كلدة الجمحي ، كان يقوم على الأديم (الجلد) فيقول : «يا معشر قريش ،
من أزالني عنه ، فله كذا» ويقول : إن محمدا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر ، فأنا
أكفيكم وحدي عشرة ، واكفوني أنتم تسعة» فنزلت هذه الآية : (فَلْيَنْظُرِ ..).
ثم قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١١) أي إنني أقسم
قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يعود إلى الأرض من السماء ، أي السحاب ، فيحيي
الأرض بعد موتها ، وينبت النبات ، والأرض ذات الصدع : وهو الشق الذي يحدث من تصدع
الأرض وتشققها ، فيخرج من الأرض النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة
النفطية والمائية ، وجواب القسم : ان آي القرآن لقول فصل ، يفصل بين الحق والباطل
، ولم ينزل باللعب واللهو ، فهو جد لا هزل فيه ، وكلام من الله تعالى ليس هو
بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، تنزيل من حكيم حميد. ثم أوعد الله تعالى
المكذبين بالقرآن بقوله : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ).
أي إن صناديد قريش
في مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي صلىاللهعليهوسلم لإبطال ما جاء به من الدين الحق ، وللصد عن سبيل الله وعن
القرآن ، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين ، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر ،
ويتآمرون على قتله. ولكن الله تعالى يدبر لهم تدبيرا آخر ، يستدرجهم في عصيانهم ،
ثم يجازيهم جزاء كيدهم.
ثم وعد الله رسوله
بالنصر ، بقوله فيما معناه : أخر أيها النبي الكافرين وأنظرهم ، ولا تدع عليهم
بهلاكهم ، ولا تستعجل به ، وارض بما يدبره الله لك في أمورهم ، وأمهلهم إمهالا
يسيرا قليلا أو قريبا ، فسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال ، والعقوبة والهلاك ،
وهذا تكرار للمعنى بطريق المبالغة.
تفسير سورة الأعلى
التسبيح والتذكير وإيثار الدنيا
كل سورة من سور
القرآن الكريم مهما صغرت أو قل عدد آياتها ، فيها العقيدة ، وأصول العبادة ،
والأخلاق بتزكية النفس ، والتحذير من الاغترار بالدنيا ، والتوجيه نحو العمل
الصالح للآخرة الباقية. وهذا الاتجاه هو منهج القرآن الكريم والكتب السماوية
السابقة وصحف إبراهيم وشيث وموسى. وهذا أنموذج للحياة الإسلامية في سورة الأعلى
المكية في قول الجمهور :
(سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ
مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا
(١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))
[الأعلى : ٨٧ / ١
ـ ١٩].
__________________
نزه الله وقدسه
ومجده عن النقائص والأغيار المغايرة له جميعا وعما يقول المشركون ، والمراد باسم
ربك : المسمى وهو الرب ، ويقصد بهذا الأمر : تنزيه الله تعالى مطلقا ، والأعلى
الأجل والأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ، فهو العالي والأعلى كالكبير والأكبر.
وصفات الرب الأعلى
: أنه الذي خلق الكائنات جميعها ، ومنها الإنسان ، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات
، فعدل قامته ، وناسب بين أجزائه ، وجعلها متناسقة محكمة ، غير متفاوتة ولا مضطربة
، فقوله : (فَسَوَّى) عدّل وأتقن.
والذي قدر لكل
مخلوق ما يصلح له ، من المقادير المخصوصة ، فأرشده وعرفه وجوه الانتفاع بالأشياء.
فقوله : (قَدَّرَ) معناه : التقدير والموازنة بين الأشياء.
والذي أنبت العشب
الذي ترعاه الدواب ، والنبات والزرع الذي يأكله الإنسان ، ثم جعل ذلك المرعى بعد
اخضراره باليا هشيما جافا أسود يابسا.
ثم وعد الله نبيه
تثبيت القرآن في قلبه ، فإنا سنجعلك أيها النبي قارئا ، بأن نلهمك القراءة ، فلا
تنسى ما تقرؤه. قال مجاهد والكلبي : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي ، لم يفرغ جبريل من آخر الآية ،
حتى يتكلم النبي صلىاللهعليهوسلم بأولها ، مخافة أن ينساها ، فنزلت : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) بعد ذلك شيئا
، فقد كفيتكه. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس : فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى
مات.
إنك ستحفظ القرآن
المنزل إليك ، ولا تنساه ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، فإن أراد أن ينسيك شيئا ،
فعل. قال الحسن البصري وقتادة ومالك بن أنس : هذه الآية في معنى قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ (١٨)) [القيامة : ٧٥ /
١٦ ـ ١٨]. وعده الله تعالى أن يقرئه ، وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده
تذكّر فيذهب الآية ، وذلك أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحرك شفتيه ،
مبادرة ، خوفا منه
أن ينسى. وفي هذا التأويل آية للنبي صلىاللهعليهوسلم في أنه أمي ، وحفظ الله تعالى عليه الوحي ، وأمّنه من
نسيانه.
ثم أكد الله تعالى
الوعد بالإقراء وعدم النسيان ، بأن الله يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من
أقوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم بشر الله نبيه
ببشارة أخرى وهو توفيقه للأيسر في أحكام الشريعة ، إنا نسهل عليك أفعال الخير
وأقواله ، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا ، ونوفقك للطريقة اليسرى.
والمعنى بإيجاز :
نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك ، من النصر والظفر وعلو الرسالة
والمنزلة يوم القيامة ، والرفعة في الجنة.
ثم أمره الله
تعالى بالتذكير ، فعظ أيها النبي الناس بالقرآن ، وأرشدهم إلى سبل الخير ، واهدهم
إلى شرائع الدين ، وذلك إن نفع التذكير ، وهذا اعتراض على جهة التوبيخ لقريش ، أي
ان نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة ، سيتذكر ويتعظ من يخشى الله تعالى والدار
الآخرة ، وهم العلماء والمؤمنون ، كل بقدر ما وفّق ، ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت
له الشقاوة فكفر ، ووجب له صلي النار الكبرى ، والخلود في عذابها.
إن المخلّد الذي
يدخل النار يبقى فيها على الدوام ، فلا يموت فيها ، فيستريح من العذاب ، ولا يحيا
حياة طيبة هانئة ينتفع بها أو يسعد بها.
لقد فاز ونجا من
العذاب من تطهر من الشرك والمعصية ، فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه وتعهد نفسه
بالتزكية والتهذيب والتطهر من الرذائل والمفاسد.
ثم أخبر الله
تعالى الناس : أنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، فالكافر يؤثرها فلا يؤمن بالآخرة ،
والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله تعالى ، ولكن
الآخرة ونعيمها
أفضل وأدوم من الدنيا ، وثواب الله في الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، لأن الدنيا
فانية ، والآخرة باقية.
ثم أعلم الله
تعالى أن الشرائع واحدة في أصولها وآدابها العامة ، فإن كل ما ذكر من فلاح من تزكى
، وتذكّر الله تعالى ، وإيثار الناس الدنيا ، ثابت في صحف إبراهيم العشر ، وصحف
موسى العشر غير التوراة ، فقد تتابعت كتب الله تعالى أن الآخرة خير وأبقى من
الدنيا.
تفسير سورة الغاشية
القيامة وأحوال الناس فيها
لن يجد الإنسان
مهما تعرض له من محن وأزمات وكوارث وفتن أشد على نفسه من القيامة التي سميت
بالغاشية ، أي الداهية في سورة الغاشية المكية بالإجماع ، فهي تذهل بها النفوس ،
وترتعد القلوب ، وتنهار العزائم ، وترى الناس فيها أحد فريقين لا ثالث لهما : فريق
الجنة ، وفريق السعير ، والفرق بينهما كبير جدا ، والإخبار القرآني عن القيامة
وأهوالها إنذار وتحذير سابق قبل المفاجأة المذهلة ، كما يبدو في هذه الآيات في
مطلع سورة الغاشية :
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى
ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ
مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ
فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣)
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
(١٦))
[الغاشية : ٨٨ / ١
ـ ١٦].
__________________
(هَلْ أَتاكَ)؟ إخبار ، يفيد في تحريك نفس السامع إلى تلقّي الخبر ، فهل
أتاك أيها النبي حديث القيامة وعلمت خبره؟ وسميت القيامة غاشية ، لأنها تغشى
الخلائق بأهوالها وأفزاعها وتغييرها لبنية العالم.
وأحوال الناس في
القيامة فريقان : أشقياء النار ، وسعداء الجنة ، ففي القيامة أصحاب وجوه خاشعة
ذليلة متغيرة بالعذاب هي وجوه الكفار ، عاملة في الدنيا ، متعبة فيها ، لكن لا
ثمرة لعاملها إلا النصب ، أي التعب ، فتكون خاتمتها النار ، لأنها على غير هدى ،
أي إنهم كانوا يعملون في الدنيا عملا كثيرا ، ويتعبون أنفسهم في العبادة ، ولا أجر
لهم عليها ، لما هم عليه من الكفر والضلال ، ولأن الإيمان بالله تعالى ورسوله شرط
قبول الأعمال.
وجزاء هؤلاء يوم
القيامة في قوله تعالى : (تَصْلى ناراً
حامِيَةً) (٤) أي تدخل تلك
الوجوه نارا شديدة الحرارة ، وتقاسي حرها ، وتعذب فيها ، لخسارة أعمالها ، وتسقى
إذا عطشوا من ماء عين ، أي ينبوع ، آنية ، أي متناهية الحرارة ، فهي لا تطفئ لهم
عطشا. فالحامية : المسعّرة التوقد المتوهجة. والآنية : التي قد انتهى حرها. وليس
لهم طعام يتغذون به إلا الضريع : وهو شوك يابس شديد المرارة والضر ، يقال له في
لغة أهل الحجاز الشّبرق إذا كان رطبا. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة : الضريع
شبرق النار.
وهذا الطعام الذين
يتغذون به لا يحصل به مقصود ، ولا يندفع به محذور ، فلا يسمن آكله ، ولا يدفع عنه
الجوع.
وهناك طعام آخر
لأهل النار : وهو الغسلين والزقّوم ، قال الله تعالى : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦) [الحاقة : ٦٩
/ ٣٦]. وقال سبحانه : (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤) [الدخان : ٤٤
/ ٤٣ ـ ٤٤].
ولما ذكر الله
تعالى وجوه أهل النار ، عقّب ذلك بذكر وجوه أهل الجنة ، ليبين الفرق ، فقال تعالى
: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ) (٨).
أي ووجوه يوم
القيامة ذات نعمة وبهجة ، ونضرة وحسن ، يعرف النعيم فيها ، أو متنعمة ، كما قال
الله تعالى : (تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) [المطففين :
٨٣ / ٢٤]. وهي وجوه السعداء ، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وقبول عملهم ، فهي لعملها
الذي عملته في الدنيا ولطاعتها راضية ، أي رضيت عملها ، لأنها قد أعطيت من الأجر
ما أرضاها.
ثم وصف الله تعالى
دار الثواب وهي الجنة بسبعة أوصاف وهي :
ـ إن أصحاب الوجوه
الناعمة (المتنعمة) وهم المؤمنون السعداء في جنة رفيعة المكان ، بهية الوصف ، آمنة
الغرفات ، أي إن علو الجنة : من جهة المسافة والمكان ، ومن جهة المكانة والمنزلة
أيضا ، لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من
بعض.
ـ ولا تسمع في
كلام أهل الجنة كلمة لغو وهذيان ، لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى
على ما رزقهم الله من النعيم الدائم ، وحقّ لهم الحمد والشكر الذي لا يوصف ،
وجعلنا الله منهم.
وفي الجنة ينبوع
أو عين ماء تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة الصافية ، والمراد بها جنس
، أي عيون جاريات. وفيها أسرّة عالية مفروشة بما هو ناعم الملمس ، كثيرة الفرش ،
مرتفعة السّمك ، إذا جلس عليها المؤمن ، استمتع بها ، ورأى رياض الجنة ونعيمها ،
كما في آية أخرى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (٣٤) [الواقعة :
٥٦ / ٣٤].
ـ وفي الجنة :
أكواب ، أي أواني الشرب وأقداح الخمر غير المسكرة ، معدّة مرصودة بين أيديها ،
يشربون منها متى أرادوا ، وفيها وسائد مصفوفة ، بعضها إلى
بعض ، للجلوس
عليها أو الاستناد إليها ، وفيها بسط مبسوطة في المجالس ، وطنافس (سجاد) لها خمل
رقيق ناعم ، مفرّقة في المجالس ، كثيرة ، تغري بالجلوس عليها ، ويستمتع الناظر
إليها ، وفيها الأبهة والمتعة والجمال والفخامة. والأكواب : أوان كالأباريق لا عرى
لها ولا آذان ولا خراطيم ، وموضوعة : معناه ؛ بأشربتها معدة ، والنّمرقة : الوسادة
، والزرابي ، واحدتها : زربيّة ، وهي كالطنافس لها خمل ، وهي ملونات ، ومبثوثة :
كثيرة متفرقة.
مظاهر القدرة الإلهية
أقام الله تعالى
الحجة في آيات كثيرة على منكري قدرته على بعث الأجساد ، بأن حدد لهم مواضع العبرة
في مخلوقاته ، ولفت أنظارهم إلى التأمل في المشاهد الحسية المحيطة بهم ، من عظمة
السماء وعلوها ، وما فيها من كواكب عظيمة ، والأرض وما تشتمل عليه من سهول وبقاع
مسطحة ، يسهل الانتفاع بها والعيش عليها ، والجبال الثوابت الراسخات فوقها
لتثبيتها ، والحيوانات ذات الأحجام المتفاوتة من الإبل الكبيرة إلى الزلاحف
الصغيرة ، فمن خلق هذه الأشياء وغيرها ، فهو القادر على خلق الناس مرة أخرى
وإعادتهم أحياء للحساب والجزاء ، كما يتضح في هذه الآيات :
(أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨)
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ
(٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))
[الغاشية : ٨٨ /
١٧ ـ ٢٦].
__________________
أخرج ابن جرير
الطبري ، وابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، عن قتادة قال : لما نعت الله ما في الجنة
، عجب من ذلك أهل الضلالة ، فأنزل الله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧)
هذه طائفة من
الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته ، على الناس أن ينظروا فيها ، ويتأملوا
بعجيب خلقها ، ليهتدوا إلى الإيمان باليوم الآخر. كيف يصح للمشركين إنكار البعث
واستبعاد وقوعه؟ وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر مخلوقاتهم في
بيئتهم ، كيف خلقها الله على هذا النحو البديع ، من عظم الجثة ، وقوة الجسد ،
وجمال الوصف ، فهي خلق عجيب ، وتركيب غريب. ومع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد
للولد الصغير ، وتؤكل بعد الذبح ، وينتفع بأوبارها ، وألبانها ، وجلودها ، وتصبر
على الجوع والعطش.
ودليل آخر هو :
ألا يشاهدون السماء كيف رفعت فوق الأرض بلا عمد؟! وينظرون إلى الجبال الضخمة
العالية المنصوبة على الأرض ، فإنها ثابتة لئلا تميد الأرض بأهلها أثناء دورانها.
وينظرون إلى الأرض
كيف بسطت ومدت ومهّدت ، ليستقر عليها سكناها ، وينتفعوا بما فيها من خيرات ومعادن
دفينة ، وما تخرجه من نباتات وزروع وأشجار متنوعة ، بها قوام الحياة والمعيشة.
وتسطيح الأرض إنما
هو بالنسبة للناظر إليها من كثب (أي قرب) ، والمقيم عليها في بعض نواحيها ، ولا
يعني ذلك أنها ليست بكروية ، لأن الكرة ـ كما ذكر الفخر الرازي ـ إذا كانت في غاية
العظمة ، يكون كل قطعة منها كالسطح.
وإنما ذكرت هذه
المخلوقات دون غيرها ، لأنها أقرب الأشياء إلى الإنسان الناظر فيها.
ثم أمر الله نبيه
بالتذكير بهذه الأدلة والبراهين الحسية ، فقال (فَذَكِّرْ) أي فذكر أيها النبي الناس بما أرسلت به إليهم ، وعظهم
وخوفهم ، ووجّههم للتأمل بهذه الشواهد الدالة على قدرة الله على كل شيء ، ومنها
البعث والمعاد ، وليس عليك إلا التذكير فقط ، فإنما بعثت لهذا الغرض ، ولا سلطان
ولا سيطرة لك عليهم ، لحملهم على الإيمان بالله تعالى ربا واحدا لا شريك له ،
وتصديقهم بجميع رسالتك ، رسالة الخير والإنقاذ والسعادة والنظام ، فإن آمنوا فقد
اهتدوا ، وإن أعرضوا فقد ضلوا وكفروا وشقوا.
لكن من تولى عن
الوعظ والإرشاد والتذكير ، وكفر بقلبه ولسانه ، فيعذبه الله في الآخرة بعذاب جهنم
الدائم ، عدا عذاب الدنيا من قتل وأسر واغتنام مال ، لأنه إذا كان لا سلطان لك
عليهم ، فإن الله تعالى هو المسيطر عليهم ، لا يخرجون عن قبضته وقوته وسلطانه.
والعذاب الأكبر : عذاب الآخرة ، لأنهم قد عذّبوا في الدنيا بالجوع والقتل وغيرهما.
فقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) الصحيح أن الاستثناء منفصل أو منقطع.
ثم أكد الله تعالى
وقوع البعث والحساب والعذاب ، سواء اعتقد المشركون ذلك أم لم يعتقدوا ، فقرار الله
تعالى حاسم ، وهو : إن إلينا مرجعهم ومصيرهم ، ونحن نحاسبهم على أعمالهم بعد
رجوعهم إلى الله بالبعث ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فلا مفر للمعرضين ، ولا
خلاص للمكذبين من العقاب.
إن توكيد قرار
وقوع البعث والقيامة دليل على أنه لا مفر لأحد من تطبيق قانون العدالة المطلق ،
حتى لا يغبن أحد في عمله ، فليس من الحق والعدل والمعقول أن يتساوى المحسنون
والأشرار ، والمستقيمون والفجار ، والمؤمنون والكفار ، فمن آمن وأطاع ، حق له
الإنعام والتقدير والإحسان ، ومن كفر وعصى كان بدهيا أن يلقى جزاءه العادل على
عمله الذي اختاره في الدنيا.
تفسير الفجر
حتمية العذاب وطبع الإنسان
من قواطع الأحكام
الإلهية أن الثواب للمؤمنين حق وحتم ، والعقاب للكافرين حق وحتم ، إنصافا للخلائق
، واحتراما للمبادئ ، ومصداقية مع الشرائع ، وكان من فضل الله ورحمته أن أخبرنا عن
أمثلة لعذاب الكفار في الدنيا ، ليرتدع الفاجر ويؤمن الكافر ، ولكن الإنسان يهمل
العبر والمواعظ ، ويتعجل الأمور ، فإذا أنعم الله عليه نعمة دائمة رضي واطمأن ،
وإذا حجب الله عنه نعمة أو نزلت به فاقة أو مصيبة ، جزع ونقم ، وهذا واضح من طبع
الإنسان في الدنيا ، كما تخبر به الآيات الآتية في مطلع سورة الفجر المكية عند
جمهور المفسرين :
(وَالْفَجْرِ (١)
وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ
(٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ
(١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
(١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
__________________
وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦))
[الفجر : ٨٩ / ١ ـ
١٦].
المعنى : أقسم
بوقت الفجر أو الصبح الذي يظهر فيه النور ، لبدء النهار ، وبالليالي العشر من بدء
كل شهر قمري ، ومنها العشر الأوائل من ذي الحجة ، وبالزوج والفرد من تلك الليالي
ومن كل الأشياء ، وبالليل إذا جاء وأقبل ، ثم ذهب وأدبر ، وجواب القسم : محذوف
تقديره : لتبعثن.
أليس في هذا القسم
بهذه الأشياء العظيمة قسم كاف يقنع كل ذي عقل أو لبّ؟ و (الحجر) : العقل ، والمعنى
: فيزدجر ذو العقل ، وينظر في آيات الله تعالى. ثم ذكر الله تعالى مصارع الأمم
الخالية الكافرة ، وما فعل بها من التعذيب والإهلاك ، لتوعد قريش ، وبيان الأمثال
لها. ألم تعلم يا إنسان ، كيف أهلك الله قبيلة عاد الأولى ، التي كانت تسكن في
بلاد الأحقاف ، في جنوب شبه الجزيرة العربية ، والتي لها اسم آخر : هو إرم ، وكانت
ذات مباني عالية ، وهذا كناية عن الغنى وبسط العيش ، ولم يخلق مثل تلك القبيلة في
البلاد المختلفة ، أي في زمانهم. فكلمة (إرم) هي قبيلة عاد بعينها ، كان نبيها
هودا عليهالسلام.
ثم ألم تعلم أيضا
ما فعل الله بقبيلة ثمود قوم صالح عليهالسلام ، الذين قطعوا الصخر ونحتوه ، وبنوا بالأحجار بيوتا يسكنون
فيها ، وقصورا عظيمة ، في الحجر : ما بين الشام والحجاز ، أو وادي القرى. وما فعل
الله أيضا بالجبار فرعون حاكم مصر في عهد موسى عليهالسلام ، الذي كان صاحب المباني العظيمة ، الثوابت كالأوتاد
المغروزة في الأرض ، ومنها الأهرامات التي بناها الفراعنة لتكون قبورا لهم.
هؤلاء الذين
ذكرناهم وهم عاد وثمود وفرعون هم الذين تجاوزوا في بلادهم الحد
__________________
في الظلم والجور ،
وتمردوا وعتوا ، واغتروا بقوتهم ، وأكثروا الفساد فيها بالكفر والمعاصي والظلم.
فأنزل الله تعالى
على تلك الجماعات بنحو متتابع ، نوعا من العذاب الشديد ، يشبه السوط المؤلم الذي
يستعمل في تطبيق العقاب. وقوله : (فَصَبَ) الصب : مستعمل في السوط ، لأنه يقتضي سرعة في النزول ،
وسبب العذاب : جرمهم ، فإن الله يرصد ويراقب عمل كل إنسان ، فلا يفوته شيء ، حتى
يجازيه عليه بالخير خيرا ، وبالشر شرا ، ولا يهمل منه شيئا مهما قل. والمرصاد
والمرصد : موضع الرصد ، أي أنه عند لسان كل قائل ، ومرصد لكل فاعل.
وتكرار قصص هذه
الأمم المدمرة للتذكير بها ، والاتعاظ والاعتبار بها.
ثم ذكر الله تعالى
ما كانت قريش تقوله ، وتستدل به على إكرام الله تعالى ، وإهانته لعبده ، وذلك أنهم
كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم ، وبضده المهان ، وبما
أن هذا هو الغالب على كثير من الكفار ، جاء التوبيخ في هذه الآية : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ ..) لاسم الجنس ، إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا الطبع.
أي إن الإنسان
مخطئ في تفكيره أو اعتقاده : أنه إذا امتحنه الله ، واختبره بالنعم ، فأكرمه
بالمال ، ووسّع عليه الرزق ، فيقول : ربي أكرمني وفضلني ، وآثرني واصطفاني. والمقصود
من الآية : أن الله يلوم الإنسان فيما يظنه : أنه إن وسع الله عليه في الرزق
ليختبره فيه ، كان ذلك إكراما من الله له ، وليس كذلك ، بل هو امتحان واختبار ،
هذا بالنسبة للغني أو الثري.
وأما بالنسبة لما
يواجه ذلك وهو الفقر ، فإن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط الله على العبد ،
فإذا ما اختبر الله العبد بالفقر ، وضيق عليه الرزق ، ولم يوسعه له ،
فيقول : ربي
أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا ، فلا يصح للإنسان أن يعتقد أن حجب الرزق عنه إهانة
له ، وإذلال لنفسه.
وقوله : (ابْتَلاهُ) معناه : اختبره. و (وَنَعَّمَهُ) معناه : جعله ذا نعمة.
والخلاصة : إن
الإنعام على إنسان بشيء من المال والصحة والجاه والمركز مثلا ليس دليلا من الله
على الرضا عنه. وليس حجب الرزق أو الفقر والتقتير دليلا على سخط الله وعقابه ،
وإنما ذلك ابتلاء ، فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع ، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر
ويصبر. وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى ، وإهانته فبالمعصية.
النفس اللوامة وتقصيرها والنفس المطمئنة ورضاها
ردع الله تعالى
الإنسان الذي يخطئ الاعتقاد أو الظن في حالتي النعمة والإكرام ، والنقمة والإهانة
، وأوضح حقيقة تطلعات الإنسان وتصرفاته ، فتراه لا يكرم اليتيم أو المحتاج ، ولا
يحض على إطعام المساكين ، ويبادر إلى أكل الميراث بشدة ، ويحب جمع المال ، ثم يندم
على كل ذلك يوم القيامة ، ويلوم نفسه على تقصيرها ، ويصطدم بالحقيقة : وهي ألا
سلطان في الحساب والجزاء إلا لله تعالى. وهذا هو الغالب. وأما التقي الصالح
المطمئن إلى صحة عمله وطاعة ربه ، فيعود إلى ربه هادئ النفس ، مطمئن البال ، راضيا
بما عمل ، ومرضيا بما يجازى به ، فيدخل في جنان الخلد مع عباد الله الأبرار. وهذا
ما قررته الآيات الآتية :
(كَلاَّ بَلْ لا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨)
وَتَأْكُلُونَ
__________________
التُّراثَ
أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ
الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا
يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)
فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))
[الفجر : ٨٩ / ١٧
ـ ٣٠].
أخبر الله تعالى
في هذه الآيات عن أعمال الناس ، على جهة الردع والزجر ، بقوله : كلا ، أي زجرا
وردعا عن مزاعم المشركين ، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق
الرزق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار على طاعة الله تعالى في الحالين ،
فإذا كان غنيا شكر ، وإذا كان فقيرا صبر.
وهم في الواقع
مقصرون في سبل الخير ، فلا يكرمون الأيتام ولا يبرونهم ، ويدفعونهم عن حقوقهم
الثابتة لهم في الميراث ، ويأخذون أموالهم منهم ، ويأكلون المواريث أكلا شديدا ،
وجمعا من غير تمييز بين الحلال والحرام ، ويحبون المال حبا كثيرا فاحشا ، أي إنكم
أيها الناس تؤثرون الدنيا على الآخرة ، والله يحب السعي للآخرة.
كلا ، أي زجرا
وردعا لأقوالكم وأفعالكم هذه ، ولا يصح أن يكون عملكم مجرد الحرص على الدنيا ،
وترك مواساة الآخرين منها ، وجمع الأموال فيها بأية كيفية ، من غير تحر للحلال
وبعد عن الحرام.
واستعدوا ليوم
الحساب والفصل بين الخلائق ، حيث تدك ، أي تكسر الأرض وتتحرك تحركا شديدا ، ويجيء
الله تعالى للفصل بين عباده ، وإصدار أوامره وأحكامه
__________________
بالجزاء والحساب ،
وإظهار آيات قدرته وسلطانه وقهره ، ويقف الملائكة مصطفين صفوفا للحراسة والحفظ.
وتكشف للناظرين جهنم بعد غيبتها وحجبها عنهم ، كما في آية أخرى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (٣٦) [النازعات :
٧٩ / ٣٦].
في ذلك اليوم
الرهيب يتذكر الإنسان أنه أخطأ وقصر ، وكذب وعصى ، وفرط وطغى ، ويندم على ما قدم
في الدنيا من الكفر والمعاصي ، وعلى ما عمل من أعمال السوء ، ولكن هل تنفعه الذكرى؟
أي : وأنى له نفع الذكرى؟ لا تنفعه ، فقد فات الأوان ، وإنما كانت تنفعه الذكرى لو
تذكر الحق قبل حضور الموت ، ويقول الإنسان الذي عصى في الدنيا : يا ليتني قدمت
عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية ، وكأنها هي الحياة فقط ، يا ليتني قدمت الخير
والعمل الصالح لحياتي الأخروية الدائمة الباقية ، فهي الحياة الأخيرة الخالدة لأهل
النار ولأهل الجنة جميعا.
وقوله تعالى : (لِحَياتِي) معناه عند جمهور المتأولين : لحياتي الباقية ، أي الآخرة ،
وقال بعض المتأولين : المعنى : لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا ، واللام
بمعنى الوقت.
وجواب قوله : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ..) في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ
..) أي في يوم القيامة لا يتولى أحد تعذيب العصاة وحسابهم
وجزاءهم إلا الله ، ولا يتولى إحكام الوثاق أو الربط بالسلاسل والأغلال للكافر أحد
إلا الله ، ولا يعذّب أحد مثل عذاب الله. وفي هذا ترغيب بالعمل الصالح والإيمان ،
وترهيب من الكفر والعصيان.
فالضمير في (عذابه)
و (وثاقه) لله تعالى ، والمصدر مضاف إلى الفاعل. وقد جمعت الآية معنيين :
أحدهما ـ أن الله
تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد.
والآخر ـ أن عذابه
من الشدة في حيّز لم يعذّب قط أحد بمثله في الدنيا ، وهذا شأن الإنسان المادي.
وبعد بيان ما
يتعرض له هؤلاء المعذبون ، ذكر الله تعالى ما عليه نفوس المؤمنين وحالهم ، وهم
الذين صفت أرواحهم وسمت عن الماديات ، فقال : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٢٧) والمطمئنة :
الموقنة غاية اليقين. والمعنى : يقول الله تعالى للمؤمن مباشرة أو بوساطة ملك : يا
أيتها النفس الموقنة بالإيمان والحق وتوحيد الله ، التي لا يخالجها شك في صدق
عقيدتها ، وقد رضيت بقضاء الله وقدره ، ووقفت عند حدود الشرع ، فتجيء يوم القيامة
مطمئنة بذكر الله ، ثابتة لا تتزعزع ، آمنة مؤمنة غير خائفة ، ارجعي إلى ثواب ربك
الذي أعطاك ، وإلى محل كرامته الذي منحك إياه ، راضية بهذا الثواب عما عملت في
الدنيا ، وبما حكم الله ، ومرضية عند الله ، فادخلي في زمرة عبادي الصالحين ،
وادخلي معهم جنتي ، فتلك هي الكرامة التي لا كرامة سواها ، جعلنا الله من أهلها.
نزلت هذه الآية ،
كما أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة : في حمزة ، وقال ابن عباس : نزلت في عثمان حينما
اشترى بئر رومة ، وجعلها سقاية للناس.
تفسير سورة البلد
متاعب الإنسان وتزويده بمفاتيح الرشاد
الحياة مشحونة
بالتعب ، والإنسان خلق مغمورا بالتعب والهموم ومكابدة العيش ، واغتر بالحياة
ومباهجها ، وظن أنه السيد على الأرض الذي لا يقدر عليه أحد. ولكن الله تعالى زود
الإنسان بطاقات المعرفة ، ومفاتيح البحث عن المعلومات ، وطرق الوصول إلى الهداية
والرشاد ، والظفر بأسلوب النجاة ، ولكنه قصر وأهمل في اقتحام العقبة ، وهي تحرير
الرقاب ، وإطعام الطعام ، وأدى ذلك إلى انقسام الناس فئتين : أصحاب الميمنة ،
وأصحاب المشأمة ، كما يتضح من سورة البلد المكية في قول جمهور المفسرين :
(لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ
عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ
(٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما
أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
__________________
وَتَواصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ
(١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ
نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))
[البلد : ٩٠ / ١ ـ
٢٠]
المعنى : أقسم
بهذا البلد : مكة المكرمة ، تنبيها على حرمتها ، وأنت أيها النبي حلال بهذا البلد
، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة. فقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال
حرمته. والمراد : أن مكة عظيمة القدر في كل حال ، حتى في حال اعتقاد الكفار
القرشيين أنك أيها النبي حلال ، لا حرمة لك ، وهذا تقريع وتوبيخ لهم. وهذا على رأي
شرحبيل بن سعد فيما ذكره الثعلبي : أن معنى (وَأَنْتَ حِلٌّ
بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) أي قد جعلوك
حلالا مستحل الأذى والإخراج ، والقتل لك لو قدروا.
والمقسم عليه هو :
لقد خلقنا الإنسان في كبد أي لقد خلقنا الإنسان اسم الجنس كله مغمورا بالمشقة
والمكابدة ، أي يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ولكن الإنسان اغتر
بقوته ، فقيل له : أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه أحد ، ولا ينتقم منه أحد ، فالله
قادر على كل شيء.
نزلت هذه الآية في
أبي الأشد بن كلدة الجمحي ، الذي كان مغترا بقوته ، واسمه : أسيد بن كلدة الجمحي ،
كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه. وقيل : نزلت في غيره ، مثل عمر بن عبد ود الذي
قتله علي رضي الله عنه خلف الخندق ، أو في الحارث بن عامر بن نوفل ، فوبخهم القرآن
على ذلك.
ثم ذم الله
الإنسان على الإنفاق بقصد المراءاة ، فإنه يقول يوم القيامة : أنفقت مالا كثيرا ،
مجتمعا بعضه على بعض ، وهو الذي يسميه أهل الجاهلية مكارم أو معالي ومفاخر.
__________________
قال مقاتل : نزلت
في الحارث بن عامر بن نوفل ، أذنب ، فاستفتى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات
والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه إما استطالة بما أنفق ، فيكون
طغيانا منه ، وإما أسفا عليه ، فيكون ندما منه.
ثم عاب الله
الإنسان على جهله ، حيث قال الله عنه : أيظن الإنسان ومدعي النفقة في سبيل الله أن
الله تعالى لم يطلع عليه ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه ، وأين أنفقه؟
ولكن الله تعالى
لم يترك الإنسان سادرا في صنوف الجهالة ، بل زوده بما يمكنه من التمييز بين الخير
والشر ، بخلق مفاتيح المعرفة لديه ، من أعين ولسان وشفتين وعقل نيّر ، حيث قال
الله تعالى عنه : ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل ، المغرور بقوتك عينين تبصر بهما
، ولسانا تنطق به ، وشفتين تغطي بهما ثغرك ، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام؟
ألم نبين لك وندلك
على طريق الخير والشر ، وجعلنا لك من العقل والفطرة ما تستطيع به إدراك محاسن
الخير ، ومفاسد الشر ، وتختار لنفسك طريق النجاة؟!
وسبيل النجاة : هو
اختيار الأفضل ، فهلا نشط الإنسان واخترق الموانع المانعة من طاعة الله تعالى ، من
وساوس الشيطان واتباع الأهواء؟ وهلا جاهد لاجتياز الطريق الصعب ، وأي شيء أعلمك ما
اقتحام العقبة؟ إنه يكون بإعتاق الرقبة وتحريرها ، أو بإطعام في يوم مجاعة يتيما
فقد أباه ذا قرابة ، أو مسكينا محتاجا لا شيء له ، ولا قدرة على كسب المال لضعفه
وعجزه ، كأنه ألصق يده بالتراب ، لفقد المال.
والمسغبة : الجوع
العام ، وذا متربة معناه : مدقعا قد لصق بالتراب ، وبه يتبين أن المسكين أشد فاقة
من الفقير.
ثم كان من الذين
آمنوا وصدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، لأن القربات لا تقبل من دون شرط
الإيمان ، فكان من جملة المؤمنين العاملين عملا صالحا ، المتواصين بالصبر على
الأذى وعلى طاعة الله تعالى وبلائه وقضائه ، وعلى الشهوات والمعاصي. وعلى الرحمة
فيما بينهم وعلى خلق الله. والمرحمة : كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى.
أولئك المتصفون
بهذه الصفات : هم من أصحاب اليمين ، وهم أصحاب الجنة ، وأما أضداد هؤلاء فهم الذين
جحدوا بآياتنا التنزيلية والكونية الدالة على قدرتنا ، فهم أصحاب الشمال ، وعليهم
نار مغلقة محيطة بهم.
والميمنة : مفعلة
، عن يمين العرش ، وهو موضع الجنة ، ومكان المرحومين من الناس ، والمشأمة : الجانب
الأشأم ، وهو الأيسر ، وفيه جهنم ، وهو طريق المعذّبين ، يؤخذ بهم ذات الشمال.
تفسير سورة الشمس
تزكية النفس وعذاب المكذبين
النفس الغريزية
تحتاج إلى تعديل الغرائز والتزكية ، والتوجيه نحو الأفضل ، وجهاد الشيطان والهوى.
فإذا جاهد الإنسان هواه وكبح شهواته ، كان مؤمنا حق الإيمان ، وإذا أهمل نفسه ،
وتركها تسير على وفق المزاج والأهواء ، خاب وخسر ، وقد أقسم الله على ذلك. والخيبة
والخسران تقتضي التعرض للعذاب ، والعذاب واقع على المكذبين حتما ، كما وقع على
قبيلة ثمود بسبب طغيانها وكفرها ، واعتدائها على رسل الله ومعجزاتهم. أخبر الله
تعالى بذلك في سورة الشمس المكية بالاتفاق.
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها
(١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ
وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ
وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))
[الشمس : ٩١ / ١ ـ
١٥].
__________________
المعنى : أقسم
بالشمس المضيئة نفسها ، سواء غابت أم طلعت ، وبضوئها وضحاها الذي يعم الأفق ، لأنه
مبعث حياة الأحياء ، وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها ، أو
أقسم برب الشمس والضحى والقمر ، والضحى : ارتفاع الضوء وكماله ، أو هو النهار كله
، أو حر الشمس ، والقمر يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغرب ، تغرب هي ثم
يغرب هو ، ويتلوها في النصف الآخر بنحو آخر ، وهو أن تغرب هي فيطلع هو. والواقع أن
هذا اتباع لا يختص بنصف أول الشهر ولا بآخره.
وأقسم بالنهار إذا
جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها ، ففي اكتمال النهار اكتمال وضوح الشمس. وأقسم
بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته ، فيزيل الضوء وتغيب الشمس ، وتظلم
الدنيا في نصف الكرة الأرضية ، ثم تطلع في النصف الآخر ، وهذا رد على المشركين
الذين يؤلهون الكواكب ، والثنوية الذين يقولون بإلهين اثنين : النور والظلمة ، لأن
الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.
ثم ذكر الله تعالى
صفات الكون حيث قال : وأقسم بالسماء وبناء الله تعالى لها بالكواكب ، وأقسم بالأرض
والذي بسطها من كل جانب ، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى.
وقوله : (وَما بَناها) و (وَما طَحاها) ما فيهما : بمعنى الذي ، أي ومن بناها ، لأن (ما) تقع عامة
لمن يعقل ولمن لا يعقل ، فيجيء القسم بنفسه تعالى ، ويحتمل أن تكون (ما) في جميع
ذلك مصدرية ، كأنه تعالى قال : والسماء وبنيانها.
وأقسم بالنفس
الإنسانية ، والذي خلقها سوية مستقيمة ، على الفطرة القويمة ، وتسويتها : إكمال
عقلها ونظرها ، وإعطاؤها ما تحتاجه لتدبير البدن ، وهي الحواس الظاهرة والباطنة ،
ثم ألهمها وأفهمها ما هو شر وفجور ، وما هو خير وتقوى ، وما
فيهما من قبح وحسن
، لتمييز الخير من الشر. وقوله : (فَأَلْهَمَها) أي عرفها طرق ذلك.
وجواب القسم في
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ) أي لقد أفلح ، أي قد فاز بكل مطلوب ، وظفر بكل محبوب ، من
زكى نفسه ، فهذبها وطهرها ونماها بالخيرات ، وعوّدها على التقوى والعمل الصالح ،
وخسر وخاب من أغوى نفسه وأهملها ولم يهذبها ، وتركها تنغمس في المعاصي ، ولم
يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح.
أي إن العذاب واقع
على المكذبين بالحساب والجزاء الأخرى ، لا محالة ، فقد كذبت قبيلة ثمود بالحجر بين
الشام والحجاز نبيها صالحا عليهالسلام بسبب طغيانها وبغيها ، فإنه الذي حملها على التكذيب.
والطغيان : مجاوزة الحد في المعاصي. وذلك حين قام أشقى ثمود : وهو قدار بن سالف ،
بعقر ناقة صالح عليهالسلام ، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل ، فكان عقرها دليلا على
تكذيبهم جميعا لنبيهم ، وبرهانا على صدق رسالته ، حين حل بهم العذاب الذي أوعدهم
به.
فقال لهم ، أي
لجماعة الأشقياء نبي الله صالح عليهالسلام : ذروا ناقة الله ، واحذروا التعرض لها ، أو أن تمسوها
بسوء ، واتركوها وما تشربه من الماء المخصص لها ، بحسب القسمة المتفق عليها ، لها
شرب يوم ، ولكم شرب يوم معلوم.
فكذبوه في تحذيره
إياهم من العذاب ، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب ، فعقر الأشقى تلك الناقة ،
وقومه راضون بما فعل ، فنسب العقر إليهم جميعا ، فأطبق العذاب عليهم وأهلكهم الله
بذنوبهم ، وغضب عليهم ، فدمرهم وعمهم بالعقاب ، وسوى القبيلة في الهلاك ، لم ينج
منهم أحد ، واستوت العقوبة على صغيرهم وكبيرهم ، ولا يخاف هذا الأشقى من عاقبة
فعله ، فالفاعل يعود على أشقاها المنبعث ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الله تعالى ،
أي فلا تبعة على الله تعالى في فعله
بهم ، لا يسأل عما
يفعل ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو صالح عليهالسلام ، أي لا يخاف عقبى الله تعالى بهذه الفعلة بهم ، إذ قد كان
أنذرهم وحذّرهم.
وقوله : (فَدَمْدَمَ) معناه : أنزل العذاب مقلقا لهم ، مكرّرا ذلك ، وهي
الدّمدمة.
تفسير سورة الليل
تفاوت أعمال الناس وثوابهم
الناس في مركب
الحياة أو سفينة الحياة متفاوتون في هممهم وعزائمهم ، وأعمالهم وتصرفاتهم ، بسبب
اختلاف عقولهم وأفكارهم وأهوائهم ، وتفاوتهم في التزام الدين والأخلاق والآداب
والأنظمة ، أو تجاوز ذلك ، وكل واحد في مسيرة الحياة يرصد لنفسه ما يلقاه في
مستقبل عمره ، وفي آخرته ، فأما أهل الاستقامة : فهم موفقون للخصال الحسنة ،
ويكونون في جنان الخلد ، وأما أهل الانحراف والضلال : فهم أيضا موفقون للخصال
السيئة ، ويكونون بسبب جناياتهم وسيئاتهم في نيران الجحيم ، ولا يغنيهم عن سوء
عملهم أهل ولا مال ولا صديق حميم ، كما يتبين في سورة الليل المكية في قول الجمهور
:
(وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى
(٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي
عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا
لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها
إِلاَّ الْأَشْقَى
__________________
(١٥)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي
يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))
[الليل : ٩٢ / ١ ـ
٢١].
أقسم ـ أنا الله ـ
بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا ، وبالنهار متى ظهر ووضح ، لإزالة الظلمة
الليلية ، وبالذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس ، من الناس وغيرهم. ولم يذكر
مفعول (يغشى) للعلم به ضمنا ، أو يغشى النهار. وقوله (وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) ما : إما
بمعنى الذي ، أو مصدرية أي بخلق الجنسين.
وجواب القسم : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤) السعي : العمل
، أي إن جميع أعمال العباد مختلفة متباعدة ، ومفترقة جدا ، فالفاعل : إما خير أو
شر ، والعمل : إما هدى أو ضلال ، وإما مرضي لله يوجب الجنة أو سخط يوجب النار.
والساعون قسمان : فأما من أعطى في وجوه الخير وفي سبيل الله ، واتقى محارم الله
المنهي عنها ، وصدق بالجنة أو الأجر والثواب مجملا ، فسنأخذ بيده ونسهل عليه كل ما
كلف به من الأفعال والتروك ، والحسنى : الجنة ، واليسرى : الحال الحسنة المرضية في
الدنيا والآخرة.
نزلت هذه الآية في
أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن
الزبير ، قال : كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز
ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء ،
فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ، ويمنعونك ، ويدفعون عنك ، فقال : أي أبت ،
إنما أريد ما عند الله ، فنزلت هذه الآيات فيه : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى) (٥) السورة.
__________________
وأما من بخل بماله
، ولم يبذل منه شيئا في سبيل الله وطريق الخير ، واستغنى عن الله ورحمته بزعمه ،
واكتفى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وزهد في الأجر والثواب وفضل الله ، وكذّب
بالجزاء الأخروي ، فسنأخذ بيده ونسهله للحال الصعبة التي لا تنتج إلا شرا ، حتى
تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ، ويضعف عن فعلها ، حتى يصل إلى النار ، ولا يفيده
شيئا ماله الذي بخل به ، إذا وقع في جهنم ، وإذا جمع في الكلام بين الخير والشر ،
جاء التيسير فيهما معا. والإعطاء والبخل المذكوران : إنما هما في المال. وقوله : (إِذا تَرَدَّى) معناه سقط في جهنم ، أي من حافاتها.
قال ابن عباس :
آية (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى) (٨) نزلت في أمية
بن خلف.
ثم أخبر الله
تعالى عما قام به من الهداية والبيان ، فقال : (إِنَّ عَلَيْنا
لَلْهُدى) (١٣) أي إن علينا
أن نبين طريق الخير والشر ، وسبيل الهداية والضلال ، والحلال والحرام ، بوساطة
الأنبياء وإنزال الكتب المشتملة على تشريع الأحكام ، وتبيان العقائد والعبادات ،
والأخلاق ، وأنظمة العقود والمعاملات.
وإن لنا كل ما في
الآخرة ، وكل ما في الدنيا ، نتصرف به كيف نشاء ، فمن أراد شيئا من الدارين ،
فليطلبه منا ، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء ، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا ، ولا
يزيد في ملكنا اهتداؤهم ، بل نفع ذلك وضرره عائدان عليكم أيها الناس.
ثم حذر الله تعالى
من سلوك طريق النار بقوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى) (١٤) أي لقد
خوّفتكم نارا عظيمة ، تتوهج وتلتهب وتوقد ، لا يحترق بنارها إلا الشقي الكافر الذي
كذب بالحق الذي جاءت به الرسل ، ومنهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي أنزل الله عليه الفرقان ، والمراد بقوله : (لا يَصْلاها ..) أي لا يصلاها صلي خلود.
وسيباعد عن النار
كل تقي اتقى الكفر والعصيان اتقاء بالغا ، وهو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه
الخير ، طالبا أن يكون عند الله زكيا ، متطهرا نقيا من الذنوب ، من غير رياء ولا
سمعة. ولا خلاف في أن المراد بالأتقى : أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقوله تعالى
: (يَتَزَكَّى) معناه : يتطهر ويتنمّى. وظاهر هذا الإتيان : أنه في
المندوبات.
وتراه لا يتصدق
بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه ، يكافئه عليها. أو ليس إعطاؤه ليجزي نعما قد
أنزلت إليه ، بل هو صادر عنه ابتداء ، ابتغاء وجه الله تعالى ، العلي الأعلى ،
وتحقيق رضوان الله ومثوبته ، لا لمكافأة نعمة ، وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من
الكرامة والجزاء العظيم.
وسبب نزول هذه
الآية : أن قريشا قالوا ـ لما أعتق أبو بكر رضي الله عنه بلالا ـ كانت لبلال يد (معروف)
عنده.
وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ ..) مستثنى منقطع ، والابتغاء : الطلب. وقوله : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١) وعد من الله
تعالى لأبي بكر بالرضا عنه في الآخرة.
تفسير سورة والضحى
نعم الله على نبيه وإرشاده لبعض الخصال
عدّد الله تعالى
بعض النعم على النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، إظهارا لمكانته في أعين
قريش ، وردا عليهم فيما زعموا بأن الله تعالى بتأخيره إنزال الوحي على نبيه قد
قلاه (أبغضه) ربه وأبعده. وتميزت هذه النعم بأنها في الغالب أخلاقية أدبية ، لا
مادية أو سلطوية اغترارية ، ثم أمر الله نبيه بشكر هذه النعم ، وبالإحسان إلى
الأيتام والسائلين ، ليكون مثلا أعلى للإنسانية ، وتسلك أمته سلوكه ، وتنتهج نهجه
، وذلك في سورة الضحى المكية بالاتفاق :
(وَالضُّحى (١)
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً
فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا
تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))
[الضحى : ٩٣ / ١ ـ
١١].
أخرج الشيخان
وغيرهما عن جندب قال : اشتكى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتته امرأة ، فقالت : يا محمد
، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله : (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). وأخرج الحاكم عن زيد
__________________
ابن أرقم قال :
مكث رسول الله صلىاللهعليهوسلم أياما لا ينزل عليه جبريل ، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب :
ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك ، فأنزل الله : (وَالضُّحى ..)
الآيات.
أقسم بالضحى : وقت
ارتفاع الشمس أول النهار ، والمراد به النهار ، لمقابلته بالليل ، وبالليل إذا سكن
وغطى بظلمته النهار ، ما قطعك ربك قطع المودّع ، وما تركك ، ولم يقطع عنك الوحي ،
وما أبغضك وما كرهك.
ثم بشره الله بأن
المستقبل أفضل من الماضي ، فللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، إذا انقطع الوحي
وحصل الموت ، وكذلك أحوالك الآتية خير لك من الماضية ، وأن كل يوم تزداد عزة
ومهابة ورفعة وسموا ، ونصرا.
أخرج الطبراني في
الأوسط عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «عرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي ، فسرّني» فأنزل الله :
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الْأُولى)
(٤) وإسناده حسن.
ثم بشره الله أيضا
بعطاء جزيل ، بقوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
..) أي لسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ، ونعمة كبيرة في الدنيا
والآخرة ، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين ، وانتشار الإسلام ، وأما في الآخرة
فهو الثواب ، والحوض ، والشفاعة لأمتك ، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق السمو في
الدارين. أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم ، عن ابن عباس قال :
عرض على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما هو مفتوح على أمته كفرا كفرا ـ أي قرية قرية ـ فسرّ به
، فأنزل الله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥).
ثم عدّد الله
تعالى نعمه على رسوله قبل البعثة كالحال بعدها بقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ) أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك ، فجعل لك مأوى تأوي إليه
، وهو بيت كافلك
جدك عبد المطلب ،
ثم عمك أبو طالب. حيث مكث بعد وفاة أمه آمنة سنتين عند عبد المطلب ، وله من العمر
ثمان سنين ، ثم كفله عمه أبو طالب إلى أن أتم أربعين سنة حيث بعثه الله نبيا.
ووجدك ربك غافلا (ضالا)
عن أحكام الشرائع ، حائرا في معرفة أصح العقائد ، فهداك لذلك ، ووجدك فقيرا ذا
عيال لا مال لك ، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة ، وبما منحك الله من البركة
والقناعة. أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس».
ثم أمره ربه ببعض
الأخلاق الإنسانية المحضة ، وطالبه بشكر الله على نعمه ، حيث قال : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي كما كنت يتيما فآواك الله ، فلا تستذل اليتيم ولا تتسلط
عليه بالظلم لضعفه ، بل أدّه حقه ، وأحسن إليه ، وتلطف به ، واذكر يتمك. فكان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يحسن إلى اليتامى ويبرهم ويوصي بهم خيرا. ويتم النبي صلىاللهعليهوسلم لئلا يكون عليه حق لمخلوق ، كما قال الإمام جعفر الصادق.
وكما كنت مخطئا في
العقيدة ، فهداك الله ، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم والدين أو طلب المال ،
ولا تزجره ، بل أجبه ، أو ردّ عليه ردا جميلا ، والضلال هنا : بمعنى الخطأ
والمباينة عما آل إليه في حال النبوة والرسالة ، وليس بمعنى الكفر والضلال البعيد
، فإنه صلىاللهعليهوسلم لم يعبد صنما قط.
وتحدث بنعمة ربك
عليك ، واشكر هذه النعمة العظمى : وهي النبوة والقرآن ، ومضامين الآيات. والتحدث
بنعمة الله شكر ، فكما كنت عائلا فقيرا ، فأغناك الله ، فتحدث بنعمة الله عليك ،
والمعنى في النبي صلىاللهعليهوسلم : أنه أغنى الأغنياء بالصبر والقناعة ، وقد حبّبا إليه.
إن هذه الوصايا
الثلاث تتناسب مع النعم الثلاث المذكورة ، في كل نعمة وصية مناسبة لها ، كما تبين
، فيقابل صفة اليتم الوصية باليتيم ، ويقابل صفة الخطأ ترك قهر السائل عن العلم
والدين ، لا سائل المال ، ويقابل صفة الفقر شكر النعمة التي أسداها الله عليه.
تفسير سورة الشرح أو الانشراح
نعم أخرى على النبي صلىاللهعليهوسلم
أنعم الله تعالى
على نبيه قبل البعثة وبعدها بنعم كثيرة ، منها اجتماعية إنسانية ، كما في سورة
الضحى ، ومنها شخصية ودينية تتعلق برسالته ، كما في سورة الشرح المكية بالإجماع ،
والسورتان ذات موضوع واحد ، وترتبط كل منهما بالأخرى ، حتى قال بعضهم : إنهما سورة
واحدة. ومجملها شرح الصدر : وهو كناية عن السرور ، ووضع الأوزار المتقدمة على
النبوة ، ورفع الذّكر والسمعة والصيت ، وتحقيق اليسر في الدين والدنيا والآخرة ،
وكل ذلك يقتضي الشكر ، والحث على العبادة ، والطاعة ، والعمل الصالح ، كما يبدو في
سورة الشرح الآتية :
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ
(٨))
[الشرح : ٩٤ / ١ ـ
٨].
هذه طائفة من
النعم التي أنعم الله بها على نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ، أولها : أن شرح الله صدره للنبوة وهيأه لها ، وشرح الصدر
في رأي الجمهور : تنويره بالحكمة ، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه. وقال ابن عباس رضي
الله عنه وجماعة : هذه إشارة إلى شرح
__________________
صدره عليهالسلام ، بشق جبريل عليهالسلام عنه ، في وقت صغره ، وفي وقت الإسراء ، إذ التشريح : شق
اللحم.
وحديث شق الصدر أخرجه
الإمام أحمد عن أبي بن كعب : ومضمون الحديث : أن جبريل عليهالسلام أتى محمدا صلىاللهعليهوسلم في صغره ، وشق صدره ، وأخرج قلبه ، وغسله ، وأنقاه من
المعاصي ، ثم ملأه علما وإيمانا وحكمة ، ووضعه في صدره. وهذا من قبيل إرهاصات
النبوة ، أي مقدماتها وبشائرها.
وحططنا عنك ما كنت
تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك ، وأتعبت نفسك ، سواء قبل النبوة أو بعدها ،
مما هو خلاف الأولى ، وهو لا يتفق مع سمو قدرك ، ورفعة منزلتك ، وعلو شأنك ،
كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك ، وقبول الفداء من أسرى بدر ، والعبوس
في وجه الأعمى ابن أم مكتوم.
وجعلنا لك ذكرا
مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة ، بالنبوة وختم الرسالات بك ، وإنزال القرآن
العظيم عليك ، وتكليف المؤمنين بالشهادتين ، سواء في الأذان والإقامة أو في التشهد
، أو في الخطبة وغيرها. والهدف من تعداد هذه النعم : أنه قد جعلنا لك يا محمد جميع
هذا ، فلا تكترث بأذى قريش ، فإن الذي فعل بك هذه النعم ، سينصرك عليهم.
ثم أخبر الله
تعالى عن خصيصة مهمة جدا من خصائص رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهي وجود يسيرين مع كل عسر ، لتقوية رجائه وأمله في تغير
أحواله وانتصاره ، ردا على المشركين الذين عيّروا النبي بالفقر ، والضعف. والمعنى
: إن مع كل عسر يسرين بهذه الآية : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) لأن العسر
معرّف للعهد ، و (اليسر) منكر ، فالأول وهو اليسر غير الثاني ، وأما العسر فهو
واحد. والعسر المعرّف واحد ، لكن اليسر منكر ، فهو اثنان ، فيكون مع كل عسر يسران
، لما أخرجه
الحاكم ، وعبد
الرزاق ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن الحسن ، قال : خرج النبي صلىاللهعليهوسلم يوما فرحا مسرورا ، وهو يضحك ويقول : «لن يغلب عسر يسرين ،
إن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا». أي مع ما تراه من الأذى فرج يأتيك.
وهذه بشارة للرسول
صلىاللهعليهوسلم بأن الله سيبدل حاله من فقر إلى غنى ، ومن ضعف إلى عزة
وقوة ، ومن عداوة قومه إلى محبتهم.
ثم أمر الله تعالى
نبيه بمتابعة العبادة والعمل والطاعة ، فإذا فرغ من شغل من أشغال النبوة والعبادة
، فعليه أن ينصب (يتعب) في آخر ، والنصب : التعب ، فالمعنى : أن يدأب على ما أمر
به ولا يفتر.
إذا فرغت أيها
النبي من تبليغ الدعوة ، أو من الجهاد ، أو من عبادة ، أو من أحد مشاغل الدنيا
وعلاقاتها ، فأتعب نفسك في العبادة ، واجتهد في الدعاء ، واطلب من الله حاجتك ،
وأخلص لربك النية والرغبة ، وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير
والمثابرة على الطاعة ، لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا ، والانتفاع بالزمن ضروري
دائما.
وإذا فرغت من
أعمالك الدينية والدنيوية ، فأقبل على الله تعالى ، واجعل رغبتك إلى الله وحده ،
وتضرع إليه راهبا من النار ، راغبا في الجنة ، ولا تطلب ثواب عملك إلا من الله
تعالى ، فإنه الجدير بالتوجيه والتضرع إليه ، والتوكل عليه ، فهذا أمر بالتوكل على
الله عزوجل ، وصرف وجه
الرغبات إليه لا إلى سواه.
إن هذه الأوامر
بمتابعة العبادة والتضرع إلى الله ، والتوكل على الله وحده ، تصوغ فكر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتصبغ قلبه بالعبادة الخالصة لله سبحانه ، وتجعله إنسان
الدعوة الدائمة إلى الله ، بلسانه وقلبه وفكره وسلوكه وعمله ، فيتهيأ أن يكون
الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة للأجيال ، على سبيل الوفاء والكمال.
تفسير سورة التين
تقويم الإنسان ثم انحداره إلى النار
الجمال في الخلق
والتكوين الإنساني هو الظاهرة الإلهية الإبداعية التي تقتضي شكران المنعم ،
والوفاء لقدر النعمة بالطاعة والخضوع والامتثال لله ، ولكن الناس لا يقومون بحق
النعمة ، وينحدرون في أخلاقهم وأعمالهم حتى يكونوا من أهل النار الذين هم أسفل
السافلين بسبب كفرهم ، باستثناء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فلهم الثواب
الكبير ، وليس لأحد بعد إقامة الدلائل على البعث إنكار القيامة ، وإقامة صرح
العدالة والقضاء الحق في ذلك اليوم ، كما جاء في سورة التين المكية بلا خلاف بين
المفسرين :
(وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ
سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))
[التين : ٩٥ / ١ ـ
٨].
أقسم ـ أنا الحق ـ
بالتين الطيب الذي يأكله الناس ، وبالزيتون الذي يعتصر منه
__________________
الزيت ، وبموضعهما
، وبجبل الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليهالسلام ، في بلاد الشام ، وهو طور سيناء. وبهذا البلد الآمن
الأمين وهو مكة المكرمة ، لأنه آمن ومأمون فيه ، كما قال الله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٣ /
٩٧].
أقسم الله سبحانه
بهذه المواضع الثلاثة ، لأنها مهابط الوحي الإلهي على الرسل الكرام أولي العزم.
والقسم بها تنويه بشأنها. ذكر القرطبي في تفسيره عن أبي ذر : أنه أهدي للنبي صلىاللهعليهوسلم سل تين ، فأكل منه ، وقال : «لو قلت : إن فاكهة نزلت من
الجنة قلت : هذه ، لأن فاكهة الجنة بلا عجم (نوى) فكلوا ، فإنه يقطع البواسير ،
وينفع من النقرس».
وجواب القسم :
أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل ، وأبدع تكوين ، والمراد : جمال الخلقة
والتكوين والتركيب ، والتميز بالعقل والفكر ، والتدبير والحكمة ، وانتصاب القامة ،
فجميع هذه الأشياء هو حسن التقويم ، وليس المراد الجمال الظاهري.
ولم ير قوم الحنث
على من حلف بالطلاق أن زوجته أحسن من الشمس أو أجمل من القمر.
ثم جعلناه بعد حسن
التركيب إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع الله ويتبع الرسل ، أو أننا
رددناه أحيانا في آخر العمر إلى الهرم ، وذهول العقل ، وتغلب الكبر ، حتى يصير لا
يعلم شيئا.
وعلى التفسير
الأول : يكون قوله تعالى بعدئذ : (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا ..) استثناء متصلا ، وعلى التفسير الثاني : يكون ذلك استثناء
منقطعا.
إن مصير أكثر
الناس إلى النار ، على التفسير الأول ، إلا المؤمنين العاملين عملا صالحا ، بأن
جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة ، فلهم ثواب جزيل ،
ينجون به من النار
أسفل السافلين ، وهو الجنة دار المتقين. وعلى التفسير الثاني وهو قول حسن كما قال
ابن عطية : إن في جنس الإنسان من يعتريه الخرف والهرم ، لكن المؤمنين المتقين ،
يكافئهم الله بثواب دائم غير منقطع ، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة
والهرم ، والمواظبة على الطاعات بقدر استطاعتهم ، أي إنهم قد يردّون إلى أرذل
العمر كغيرهم ، لكن لهم أجر كبير دائم على أفعالهم ، وإن انقطعوا عن العبادة بسبب
الضعف والهرم.
ثم وبّخ الله
تعالى الكافر على التكذيب بيوم الجزاء والحساب بعد البعث بقوله : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (٧) قال جمهور من
المتأولين : المخاطب الإنسان الكافر ، أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين ، أي بالجزاء
في عالم الآخرة ، تجعل لله تعالى أندادا ، وتزعم ألا بعث بعد هذه الدلائل؟ لقد
عرفت أن الله تعالى خلقك في أحسن تقويم ، وأنه بسبب الكفر يردك إلى النار مع أسفل
السافلين ، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة ، وعرفت أن من
قدر على البدأة ، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب
بالمعاد ، وقد عرفت هذا؟
وقال قتادة ،
والفراء والأخفش : المخاطب في قوله تعالى : (فَما يُكَذِّبُكَ
بَعْدُ بِالدِّينِ) (٧)؟ هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، قال الله تعالى له : فما الذي يكذّبك فيما تخبر به من
الجزاء والبعث ، وهو الدّين ، بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت؟
أخرج ابن جرير عن
ابن عباس في قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ ..) قال : هم نفر ، ردوا إلى أرذل العمر ، على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم ، أن لهم
أجرهم الذي عملوا ، قبل أن تذهب عقولهم.
ثم أكد الله تعالى
إيقاع الجزاء والبعث بقوله : (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) أي أما هو
أحكم الحاكمين قضاء وعدلا ، الذي لا يجور ولا يظلم ، ومن عدله أن يقيم
القيامة ، فينتصف
للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه ، ويثيب المستقيم ، ويعذب المنحرف والكافر؟
هذا إخبار من الله
تعالى لجميع خلقه على أنه سبحانه أحكم الحاكمين ، على جهة التقرير والتثبيت. أخرج
الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا. «فإذا قرأ أحدكم : (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) فأتى على آخرها : (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين.
وأخرج أيضا عبد بن
حميد عن قتادة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال : «بلى وأنا على ذلكم من
الشاهدين».
تفسير سورة العلق أو القلم
الأمر بالقراءة والكتابة وموقف الكافر المعاند
سورة القلم أو
العلق المكية بالإجماع : هي أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدرها في غار
حراء ، حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، تضمنت الأمر بالقراءة مفتاح العلم ،
وبيان خالق الإنسان وبعض مظاهر قدرة الله على الإنسان ، وزجر الكافر الطاغية
المعاند ، الذي يكون غناه سببا في طغيانه ، وينهى عن الخير والصلاة ، مع أنه لو
أمر بالتقوى والخير ، لكان مستحقا المثوبة الكبرى في جنة المأوى ، ليته يعلم بأن
الله يرى كل شيء وكل تصرف منه ، ويعلم الغيب والشهادة ، وسيجازي كل إنسان على عمله
، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ولئن لم ينته هو وأمثاله من الكفار عن ضلالهم
ليعذبنه الله عذابا شديدا ، كما تبين هذه الآيات في سورة القلم :
(اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ
يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا
صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى
(١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى
(١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ
__________________
(١٥)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ
(١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))
[العلق : ٩٦ / ١ ـ
١٩].
اقرأ مبتدئا باسم
ربك ، أو مستعينا باسم ربك ، الذي خلق كل شيء ، خلق كل إنسان في مجال التناسل
والتكاثر من قطعة دم جامد ، وهي العلقة ، التي هي أحد أطوار خلق الإنسان ، حيث
يبدأ من نطفة ، ثم يتحول إلى علقة ، ثم يكون مضغة : قطعة لحم.
وإنما قال : باسم
ربك ، ولم يقل : باسم الله ، لما في لفظ الرب من معنى التربية وتعهد المصلحة ،
وذلك مناسب للأمر بالعبادة ، وأضاف الله ذاته إلى رسوله ، بقوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ) للدلالة على أن فائدة العبادة تصل للرسول ، وليس لله
تعالى.
افعل ما أمرت به
من القراءة ، وربك الذي أمرك بالقراءة : هو الأكرم من كل كريم ، ومن كرمه : تمكينك
من القراءة وأنت أمي. وكرر الله تعالى كلمة (اقْرَأْ) للتأكيد ، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة.
وقوله : (وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ) لإزالة المانع والعذر الذي اعتذر به النبي صلىاللهعليهوسلم لجبريل عليهالسلام ، حين طلب منه القراءة ، بقوله (اقْرَأْ) فقال : ما أنا بقارئ ، أي لست متعلما القراءة.
ثم قرن الله الأمر
بالكتابة مع الأمر بالقراءة بقوله تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ) (٤) أي علّم
الإنسان الكتابة بالقلم ، فهو نعمة عظيمة من الله تعالى ، وواسطة للتفاهم بين
الناس ، كالتعبير باللسان ، ولولا الكتابة لزالت العلوم ، ولم يبق أثر للدين
وأحكام الشرائع الإلهية وغيرها ، ولم يصلح عيش ، ولم يستقر نظام ، ولا تمكنت
الشعوب والأمم من الاستفادة من علوم ومعارف وثقافات الشعوب الأخرى ، ولا عرف تاريخ
الماضين ، ولا تحدد مستقبل البشرية والثقافة في مختلف البلاد.
__________________
ثم أوضح الله
تعالى عموم فضله وكثرة نعمه بقوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ
..) أي علّم الله تعالى الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور
والمعارف ، ما لم يعلم بها سابقا.
ثم ردع الله
الإنسان على طغيانه في حال الغنى ، فقال : (كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسانَ) أي ردعا وزجرا لك أيها الإنسان عن كفرك بنعمة الله عليك ،
وتجاوزك الحد في العصيان ، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
أخرج أحمد ومسلم
والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل :
هل يعفّر محمد
وجهه بين أظهركم؟ فقيل : نعم ، فقال : واللات والعزى ، لئن رأيته يفعل لأطأن على
رقبته ، ولأغفرن وجهه في التراب ، فأنزل الله : (كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى) (٦) الآيات.
وجاء بعد ذلك
الإنذار بالعقاب الأخروي في قوله تعالى : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) (٨) أي إن الرجوع
والمصير إلى الله وحده ، لا إلى غيره ، أي الحشر والبعث يوم القيامة ، فهو الذي
يحاسب كل إنسان على ماله ، من أين جمعه ، وأين أنفقه ، والرجعى : مصدر كالرجوع.
وقد جاء هذا بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، تهديدا للإنسان ، وتحذيرا له
من عاقبة الطغيان.
وأحوال الطغاة
قبيحة جدا هي : النهي عن الصلاة وغير ذلك ، ومعنى الآية : أخبرني عن حال هذا
الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله ، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد صلىاللهعليهوسلم من أداء الصلاة وعبادة الله ، وتحويله إلى عبادة الأوثان ،
وترك عبادة الخالق الرازق؟!
أخرج ابن جرير عن
ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي ، فجاءه أبو جهل ، فنهاه ، فأنزل الله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً
إِذا صَلَّى) (١٠) إلى قوله : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ)
(١٦)
وأخبرني أيضا عن
حال هذا الطاغية ، إن كان سائرا على درب الهدى وعبادة الله تعالى ، أو أمر غيره
بتقوى الله بدلا من الأمر بعبادة الأوثان ، كما يعتقد؟!
والخطاب في هذين
الأمرين للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وكذلك في قوله : أخبرني يا محمد عن حال هذا الطاغية أبي
جهل إن كذّب بدلائل التوحيد الظاهرة ، ومظاهر القدرة الباهرة ، وأعرض عن الإيمان
بدعوتك؟! ثم زجره الله وهدده وتوعده بأساليب مختلفة.
أما علم هذا
الطاغية أن الله يراه ويسمع كلامه ويعلم أحواله ، لينزجر ويرتدع عن أفعاله ، فو
الله لئن لم ينته عن مضايقاته ولم ينزجر عن عناده ، لنأخذن بناصيته ، والناصية :
مقدم شعر الرأس ، ولنجرنه إلى النار. فليدع أهل ناديه ، أي قومه وعشيرته ،
لمناصرته ، وسندعو الزبانية : ملائكة النار الغلاظ الشداد ، ليلقوه في جهنم.
أخرج أحمد
والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي ، فجاءه أبو جهل ، فقال : ألم أنهك عن هذا؟ فزجره
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني ، فأنزل
الله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (١٧).
كلا ، للزجر
والردع ، إياك أن تطيعه أيها النبي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة ، وتقرب إلى الله
بالطاعة والعبادة ، وتابع السجود والتعظيم له ، فذلك قوة لك وعزة ، وحصن ووقاية.
تفسير سورة القدر
بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر
لقد شرفت ليلة
القدر ، أي العظمة ، بما اشتملت عليه من أعظم حدث إلهي بشري في التاريخ ، ألا وهو
بدء نزول القرآن الكريم فيها ، فصارت ليلة مباركة ، كما تضمنت تنزل الملائكة
والروح جيريل فيها بكل أمر من أوامر الله تعالى ، وأنها سلام من كل سوء ، وأمان ،
واطمئنان ، وعافية ، ومستجاب الدعاء ، من بدايتها حتى طلوعها فجر اليوم التالي. أخرج
الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي : أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، ولكنه
حديث غريب ومنكر جدا.
وأخرج ابن جرير عن
مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدو بالنهار
حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) عملها ذلك
الرجل. وهذه هي السورة المكية على الصحيح :
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ (٥))
[القدر : ٩٧ / ١ ـ
٥].
__________________
إنا نحن الله الذي
بدأنا إنزال القرآن الكريم إليك أيها النبي في ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة ،
في شهر رمضان ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) [الدخان : ٤٤
/ ٣]. وآية : (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ٢ / ١٨٥].
وسميت بليلة القدر أي ليلة التقدير ، لشرفها ورفعتها وتقدير الأشياء فيها لسنة
قابلة ، لقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) [الدخان : ٤٤
/ ٤]. ثم أتممنا تنزيله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة والمناسبات
والوقائع ، تمكينا من استيعابه ، وتسهيلا لتطبيقه ، وتثبيتا لقلب النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين به.
وقد روي أن نزول
الملك في حراء ، كان في العشر الأواخر من رمضان ، وليلة القدر : هي ليلة خصّها
الله تعالى بفضل عظيم ، وجعلها أفضل من ألف شهر ، لا ليلة قدر فيها. وخصت هذه
الأمة بهذه الفضيلة ، لما رأى محمد صلىاللهعليهوسلم أعمار أمته ، فتقاصرها ، ليعوضوا بفضلها من الأعمال ما بلغ
به غيرهم من الأمم في أعمارهم الطويلة ، فالعمل فيها خير من العمل في ألف شهر.
وفضائل هذه الليلة
كثيرة وهي :
ـ وما أعلمك ما
ليلة القدر؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها ، وبيان مدى شرفها ، وهي خير وأفضل من
ألف شهر ، لأن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ، وألف شهر : هي ثمانون سنة ،
وثلاثة أعوام ، وثلث عام.
ثبت في الصحيحين
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما
تقدم من ذنبه».
ـ وفي ليلة القدر
تهبط الملائكة وجبريل من السماوات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك
الليلة إلى سنة قابلة. ذكر ابن عباس وقتادة وغيرهما : أنها سميت ليلة القدر ، لأن
الله تعالى يقدّر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العام كلها ،
ويدفع ذلك إلى
الملائكة لتمتثله. وروي هذا في ليلة النصف من شعبان. ويدل لليلة القدر قوله تعالى
: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) [الدخان : ٤٤
/ ٤].
والروح : هو جبريل
عليهالسلام ، خص بالذكر لزيادة شرفه ، فيكون من باب عطف الخاص على
العام. و (من) لابتداء الغاية ، أي نزولهم من أجل هذه الأمور المقدرة وبسببها.
وتكون هذه الليلة
في أوتار العشر الأواخر من رمضان ، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في
كل ليلة إلى آخر الشهر ، أي في الأيام الفردية ، وهي العشرون ، والحادي والعشرون ،
والثالث والعشرون ، والخامس والعشرون ، والسابع والعشرون ، والتاسع والعشرون. أخرج
أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ..».
ـ وهذه الليلة
المحاطة بالخير بنزول القرآن والملائكة : هي سلامة وأمن وخير وبركة كلها ، لا شر
فيها ، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، يستمر فيها نزول الخير والبركة ، ونزول
الملائكة بالرحمة ، فوجا بعد فوج ، إلى طلوع الفجر. و (سَلامٌ هِيَ) أي من كل أمر مخوف ، قال مجاهد : لا يصيب أحدا فيها داء.
وقال الشعبي ومنصور : (سَلامٌ) بمعنى التحية ، أي تسلّم الملائكة على المؤمنين ، فيكون
المراد بكلمة (سَلامٌ) إما السلامة فيها من كل أمر سوء ، أو بمعنى التحية.
والقائلون بانتهاء
الكلام في قوله تعالى : (سَلامٌ) يرون أن قوله تعالى : (هِيَ) إنما هو إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر ، إذ هذه
الكلمة : هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة.
أخرج أحمد
والبخاري وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : «خرج
نبي الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى (تنازع) رجلان
من المسلمين ، قال : «خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين ـ فلان
وفلان ـ فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
والمراد : إذا مضت
واحدة وعشرون : فالتي تليها التاسعة ، وإذا مضى الثلاث والعشرون فالتي تليها
السابعة ، وإذا مضى خمس وعشرون ، فالتي تليها الخامسة.
تفسير سورة البينة أو سورة البرية ، أو (لم يكن)
أسباب إنزال القرآن
سورة البينة فيها
القرار الحاسم والقول الفصل في أمور أربعة : وهي علة إنزال القرآن وهو التكليف ،
وبيان أن ما جاء به النبي هو الحق الثابت ، والفصل في شأن الكفار ، من المشركين
وأهل الكتاب ، وجزاء أهل الإيمان بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، وجزاء الباقين على الكفر وماتوا على ذلك. وليس هناك عذر
لمن كفر بعد بيان القرآن وإقامة الحجة القاطعة فيه بالأدلة الكونية والتنزيلية ،
وهذا ما تضمنته هذه السورة المكية في قول جمهور المفسرين :
(لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً
(٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها
أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))
[البينة : ٩٨ / ١
ـ ٨].
__________________
هذه صيحة الحق تقض
مضاجع السادرين وهم المتحيرون الذين لا يبالون ولا يهتمون بما يصنعون ، لتوقظ فيهم
مشاعر الإحساس ، وتنبه فيهم مفاتح الإدراك ، فليس بعد نزول القرآن عذر لمن بقي على
شرك أو كفر ، ولا سبب لتقصير أو إهمال.
وقد احترم القرآن
ما كانوا عليه في الماضي ، إذ لا بيان ولا حجة ظاهرة. لذا افتتحت سورة البينة بهذا
الإنذار. لم يكن الذين جحدوا رسالة القرآن والنبي العربي الهاشمي ، من اليهود
والنصارى ، وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم ، منفكين عن الكفر
والضلال ، مفارقين كفرهم الموروث ، منتهين عما هم عليه من الاعتقاد ، حتى تأتيهم
الحجة الواضحة ، وهي القرآن الكريم ، ورسالة الرسول صلىاللهعليهوسلم. ففي القرآن والرسالة النبوية : بيان الجهالة والضلالة ،
والدعوة إلى الإيمان.
والمراد من تلك
البينة أو الحجة : هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين ، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف
القرآن ، المطهرة من الخلط والكذب ، والشبهات والضلال ، والتحريف واللّبس. والتي
فيها الحق الصريح ، وفيها ، أي سورة البينة أحكام كتب قيمة ، أي قائمة معتدلة ،
آخذة للناس بالعدل ، أي فيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة
، والصلاح والرشاد ، والحكمة والهدى. والمراد من الآية : ما كان هؤلاء القوم ليتركوا
سدى. والبينة : القصة البينة والجليلة. و (فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ) (٣) فيه حذف مضاف
، تقديره : فيها أحكام كتب قيمة ، تقوم بالحق والعدل.
ثم ذم الله تعالى
المخالفين بقوله : (وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ..) أي لا داعي للأسف ، فإن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم
يتفرقوا في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل متفقين
على نبوته وصفته ، فلما جاء من
العرب حسدوه. أي
إن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم ، بل بعد وضوح الحق والصواب ،
ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الصحيح ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم الذي جاء بالقرآن ، موافقا لما عندهم من الكتاب بنعته
وصفته ، فلما بعثه الله ، تفرقوا في الدين ، فآمن به بعضهم ، وكفر به آخرون ، وكان
عليهم الاتفاق على طريقة واحدة ، كما كانوا يعتقدون ، من اتباع دين الله ، ومتابعة
رسول الله.
ثم وبخهم الله على
انحرافهم عن جوهر الدين : وهو إخلاص العبادة لله ، فقال : (وَما أُمِرُوا) أي انهم تفرقوا واختلفوا ، مع أنهم لم يؤمروا في جميع كتب
الله إلا بعبادة الله وحده ، عبادة خالصة ، لا يشركون به شيئا ، يخلصون العبادة
لله تعالى ، مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام ، ويؤدون الصلاة على الوجه الأتم
الذي أراده الله ، ويؤتون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس كل عام ، وذلك هو دين الملة
القويمة.
ثم وجه الله تعالى
الوعيد للكفار ، وأصدر الوعد للمؤمنين. إن جزاء الذين كفروا بالله ، وخالفوا كتب
الله من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين الوثنيين هو نار جهنم المستعرة ،
يصيرون إليها ، ماكثين فيها على الدوام ، وهم شر الخليقة مصيرا ، لتركهم الحق حسدا
وبغيا. ولم يقل : (أبدا) لأن رحمة الله أزيد من غضبه ، وقال : (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) لإفادة النفي والإثبات ، أي هم دون غيرهم.
وإن الذين آمنوا
بقلوبهم بربهم ، وصدقوا بكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا صالح الأعمال من أداء
الفرائض والطاعات ، هم خير الخليقة ، حالا ومآلا. وجزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم
على ما قدموا من حسن الاعتقاد وصلاح العمل : جنات إقامة دائمة (بساتين) تجري من
تحت أشجارها وغرفها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، رضي الله عنهم لإطاعتهم
أوامره وقبولهم شرائعه ، ورضوا عنه ، بما تفضل الله عليهم من حسن الثواب والجنان ،
وتحقيق المطالب والآمال والأحلام.
وذلك الجزاء الحسن
مخصص لكل من خاف الله واتقاه ، ورهب عقابه ، وأدى فرائضه. وهذا دليل على أن شرط
أداء العبادة كالصوم والصلاة : هو خشية الله والخشوع له.
وقوله تعالى : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ) فيه حذف مضاف تقديره : سكنى جنات أو دخول جنات.
تفسير سورة الزلزلة
علامات القيامة ونوع الجزاء
سور القرآن الكريم
وآياته إنذار بعد إنذار ، للتذكير والتحذير ، فهذه سورة الزلزال المكية في قول ابن
عباس وغيره ، والمدنية في قول مقاتل وقتادة ، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا
بالمدينة ، والظاهر أنها مدنية ، وهي تبين علامة يوم القيامة ، فقد كان الكفار
المشركون يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب ، فيقولون : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة : ٧٥ / ٦]
ونحو ذلك من الآيات ، فأبان الله لهم في هذه السورة علامات القيامة فقط ، ليعلموا
أن علم ذلك عند الله ، وليس لأحد معرفة ذلك اليوم ، ولا تعيينه للجزاء والحساب.
وآي السورة هي :
(إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ
الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ
(٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))
[الزلزلة : ٩٩ / ١
ـ ٨].
ـ إذا حركت الأرض
بعنف من أسفلها حركة شديدة ، واضطربت اضطرابا هائلا ، حتى يتكسر كل شيء عليها.
__________________
وقوله : (زِلْزالَها) أبلغ من قوله : (زلزالا) دون إضافة للأرض ، لأن المصدر غير
المضاف يقع على كل قدر من الزلزال ، وإن قل ، وإذا أضيف إليها ، وجب أن يكون على
قدر ما يستحقه ، فهو يفيد إيفاء الشيء حقه.
ـ وألقت ما في
جوفها من الأموات والدفائن ، وهي أثقالها ، وهذه إشارة إلى البعث ، كما جاء في آية
أخرى : (وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٤) [الانشقاق :
٨٤ / ٣ ـ ٤]. وذلك في النفخة الثانية. وقال ابن عطية : وليست القيامة بموطن لإخراج
الكنوز ، وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال.
ـ وقال كل إنسان
مؤمن أو كافر (جنس الإنسان) لمّا يبهره أمرها ، ويذهله خطبها ، ويستهول المرئي :
ما لهذه الأرض ، ولأي شيء زلزلت ، وأخرجت أثقالها؟ وقد قال عليه الصلاة والسّلام ـ
فيما أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما : «ليس
الخبر كالمعاينة ..».
ـ في ذلك الوقت
المضطرب ، وقت الزلزلة ، تخبر الأرض بأخبارها ، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر ،
ينطقها الله تعالى ، لتشهد على العباد ، فإخبار الأرض : هو شهادتها بما عمل عليها
من عمل صالح وفاسد ، كما قال ابن مسعود والثوري وغيرهما. فالتحديث من الأرض ـ على
هذا المعنى ـ حقيقة ، وكلام بإدراك وحياة يخلقها الله تعالى ، وأضاف تعالى الأخبار
إليها من حيث وعتها وحصّلتها. وقال الطبري وقوم : التحديث في الآية مجاز ، والمعنى
حينئذ : أن ما تفعله الأرض بأمر الله تعالى من إخراج أثقالها ، وتفتّت أجزائها ،
وسائر أحوالها ، هو بمنزلة التحديث بأنبائها وأخبارها. ويؤيد القول الأول : قول
النبي صلىاللهعليهوسلم الذي أخرجه البخاري والنسائي ومالك وأحمد : «فإنه لا يسمع
مدى صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».
ـ ومصدر التحديث :
بأن ربك ألهمها ، أي تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها ، بأن تتحدث وتشهد.
ـ في هذا اليوم
المضطرب والخراب المدمر ، يصدر (يخرج) الناس من قبورهم إلى موقف الحساب ، متفرقين
، مختلفي الأحوال ، فمنهم المؤمن الآمن ، ومنهم الخائف ، ومنهم كافرون ، ومنهم
عصاة ، ومنهم فريق الجنة ، ومنهم فريق النار ، الكل سائر إلى العرض ليريهم الله
أعمالهم معروضة عليهم.
ثم أخبر الله
تعالى أنه من عمل عملا رآه ، قليلا كان أو كثيرا ، فمن يعمل في الدنيا وزن نملة
صغيرة ، أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس ، يجده يوم القيامة في كتابه ، ويلقى
جزاءه ، فيفرح به ، أو يراه بعينه معروضا عليه ، وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء
من الشر ، ولو كان حقيرا أو قليلا ، يجد جزاءه يوم القيامة ، فيسوؤه.
يرى الخير كله من
كان مؤمنا ، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا ، لأن خيره قد عجّل له في دنياه. وكذلك
المؤمن أيضا له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها. ويحصل من
مجموع هذا : أن من عمل من المؤمنين مثقال ذرة من خير أو شر رآه ، وألّا يرى الكافر
خيرا في الآخرة. ويؤيد هذا حديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه الإمام أحمد ومسلم
وغيرهما : «قالت : قلت : يا رسول الله ، أرأيت ما كان يفعل عبد الله بن جدعان من
البرّ ، وصلة الرحم ، وإطعام الطعام ، أله في ذلك أجر؟ فقال : لا ، إنه لم يقل قط
: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسمي هذه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ..) الجامعة الفاذّة.
أخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (ويطعمون الطعام على حبّه) الآية ، كان المسلمون
يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل ، إذا أعطوه ،
وكان آخرون يرون
أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة ، والنظرة ، والغيبة ، وأشباه ذلك ،
ويقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر ، فأنزل الله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)
وأخرج ابن جرير
وغيره : أن هذه السورة نزلت ، وأبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فترك أبو بكر رضي الله عنه الأكل وبكى ، فقال له رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : يا أبا بكر ، ما يبكيك؟ قال : يا رسول الله ، أو أسأل عن
مثاقيل الذّرّ؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا أبا بكر ، ما رأيت في الدنيا مما تكره ، فمثاقيل ذرّ
الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير.
تفسير سورة العاديات
الجحود والبخل عند الإنسان
يغلب على طبع
الإنسان صفتان ذميمتان ، الكفر بالنعم أو جحود المعروف والفضل ، والبخل أو الشح ،
وينسى الإنسان أنه في عالم الدنيا في موضع الاختبار والابتلاء ، فإن أحسن العمل
فاز ونجا ، وإن أساء العمل ضل وخسر وهلك. والله خبير مطلع على جميع أعمال الناس ،
ويحصيها عليهم ، لتكون أداة أو وسيلة إثبات عليهم ، وهذا تهديد بالعقاب الشديد يوم
القيامة ، وذلك يتبين من سورة العاديات المكية في قول جماعة من أهل العلم ، وهو
الراجح :
(وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ
بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
(٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
(٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي
الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))
[العاديات : ١٠٠ /
١ ـ ١١].
أخرج البزار وابن
أبي حاتم والحاكم ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيلا ، ولبثت شهرا ، لا يأتيه منها خبر ، فنزلت : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (١)
__________________
المعنى : أقسم
بالخيل التي تجري بفرسانها المجاهدين في سبيل الله إلى العدو ، ويسمع لها حينئذ
صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة ، بسبب شدة الجري ، وتخرج شرر النار
بحوافرها أثناء الجري لتصادم الحصى بالحصى ، وبسبب اصطكاك نعالها بالحجر تتطاير
منه النار ، وتغير على العدو وقت الصباح. والضبح : تصويت جهير عند العدو الشديد ،
ليس بصهيل.
فهيّجن في وقت
الصبح أو في ساحة المعركة غبارا يملأ الجو ، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء ،
اجتمعوا في مكان ، ففرّقنه أشتاتا. والنقع : الغبار الساطع المثار ، وقوله : (جَمْعاً) المراد به جمع من الناس هم المحاربون.
ـ وجواب القسم هو
: (إِنَّ الْإِنْسانَ ..) أي إن جنس الإنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا بطبعه للنعمة ،
كثير الجحود لها ، أي ان الإنسان لنعمة ربه لكنود ، أي كفور أو عاص.
ـ وإن الإنسان على
كونه كنودا جحودا لشهيد ، يشهد على نفسه بالجحود والكفران ، أي بلسان حاله ، وظهور
أثر ذلك عليه ، في أقواله ، وأفعاله ، بعصيان ربه.
ـ وإن الإنسان
أيضا ، بسبب حبه للمال ، لبخيل به ، أو إن حبه للمال قوي ، فتراه مجدا في طلبه
وتحصيله ، متهالكا عليه ، ويكون هناك معنيان صحيحان للآية :
أحدهما ـ وإنه
لشديد المحبة للمال. والثاني ـ وإنه لحريص بخيل بسبب حبه المال ، أي من أجل حب
الخير لشديد ، أي بخيل بالمال ، ضابط له. والخير : المال في عرف القرآن.
ثم هدد الله
الإنسان وتوعده إذا استمر متلبسا بهذه الصفات ، فقال : (أَفَلا يَعْلَمُ) أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج ما في القبور من الأموات ،
وجمع محصّلا ما في النفوس أو الصدور من النوايا والعزائم ، والخير والشر ، إن رب
هؤلاء المبعوثين من
القبور لخبير بهم
، مطلع على جميع أحوالهم ، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره ، وهو
مجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء ، دون أن يظلموا مثقال ذرة.
وإذا علموا ذلك ووعوه ، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته
والاستعداد للآخرة بالعمل الصالح. وتخصيص أعمال القلوب بالذكر ، لأنها البواعث على
الأفعال العضوية الصادرة من الإنسان.
وهذا إخبار وتعريف
بالمآل والمصير ، أي أفلا يعلم الإنسان مآله ومصيره فيستعد له؟ وبعثرة ما في
القبور : نقضه مما يستره والبحث عنه ، وهي عبارة عن البعث. ثم استؤنف الخبر الصادق
بأن الله تعالى خبير بهم يومئذ. والله تعالى خبير دائما ، ولكن خصّص (يومئذ) لأنه
يوم المجازاة ، فإليه طمحت النفوس ، وفي هذا وعيد مصرّح بما سيحدث.
تدل هذه الآية على
أن الله تعالى عالم بالجزئيات الزمانية ، لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية
أحوالهم في ذلك اليوم ، ويعد منكر هذا العلم كافرا.
إن القسم الإلهي
بخيول الجهاد على توصيف طبع الإنسان ، بكونه جحودا للنعمة ، وشهادته بهذا الطبع
على نفسه ، وبكونه محبا للمال ، بخيلا به بخلا شديدا ، يوجب علينا الحذر من هذا
الطبع ، ومحاولة تعديله ، وجهاد النفس وترويضها للتخلص من هذه الصفات السيئة فينا.
أما الإصرار على
هذا الطبع والإبقاء عليه ، فهو مدعاة للتهديد والوعيد والإنكار الشديد ، لا سيما
إذا علم الإنسان أنه سيلقى ربه ، ويحاسبه على أعماله حسابا دقيقا ، ويجازيه عليها
جزاء وافرا.
وفي ملاحظة هذا
الوضع وخطورة المصير ، يدرك الإنسان في النهاية : أنه هو الجاني على نفسه إذا قصر
في واجباته ، وأهمل القيام بما عليه ، ولم يتحمس لفعل الخير ، ولم يرعو عن فعل
الشر.
وفي النهاية ، إن
الإنسان يترك بموته كل ما جناه ، ولا يستفيد من ماله إلا ما ادخر فيه الثواب عند
الله ، بإنفاقه في سبيل النفس والأهل وفي سبيل الله ، وذلك يشمل الجهاد وعون
المحتاجين.
تفسير سورة القارعة
أهوال القيامة
ما أصعب الإنسان
وأقساه ، وما أكثره غفلة وأبعده عن العظة والعبرة ، وما أشده تورطا في المخاطر!
يرى الخطر جاثما والضرر قائما ، وتراه يقتحم المخاطر ، ويتقحم الأهوال بعينه ولا
يبتعد عنها ، ألا وإن أخطر وأدهى شيء يجده الإنسان : هو أهوال القيامة ، لذا سميت
القيامة في القرآن العظيم بالقارعة : وهي القيامة نفسها ، لأنها تقرع القلوب
بهولها ، وزادها القرآن تهويلا في سورة القارعة المكية بلا خلاف.
(الْقارِعَةُ (١) مَا
الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ
كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا
مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ
(١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))
[القارعة : ١٠١ /
١ ـ ١١].
القارعة وهي
القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها ومخاوفها وأفزاعها ، وأي شيء هي ، وما أعلمك ما
شأن القارعة؟ وهذا تأكيد لشدة هولها ، وتعظيم أمرها ، وتهويل شأنها.
وأماراتها : يوم
يخرج الناس من القبور ، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه ، شأنهم في ذلك كالحشرة
الطائرة المنتشرة المتفرقة ، والناس في انتشارهم وتفرقهم ، كأنهم فراش مبثوث ، أي
متفرق منتشر.
__________________
و (يوم) ظرف ،
العامل فيه (القارعة) قال الزمخشري : شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف
والذلة ، والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار.
ـ وتصير الجبال
كالصوف ذي الألوان المختلفة ، المندوف الذي نفش بالندف ، لأنها تتفتت وتتطاير ،
كما في قوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ
سُيِّرَتْ) (٣) [التكوير : ٨١
/ ٣]. وقوله سبحانه : (يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (١٤) [المزّمّل :
٧٣ / ١٤].
وهاتان الأمارتان
فيهما تخويف شديد للناس وتحذير خطير ، ويلاحظ أن التشبيه للجبال بالصوف متلائم ،
فالصوف منه الأبيض والأحمر والأصفر والأسود ، وكذلك الجبال جدد (طرق) بيض وحمر
وصفر وسود. والنّفش : خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصّها.
ثم ذكر الله
الجزاء على الأعمال وتفرق الناس فرقتين.
فأما من ثقلت
موازينه وهي التي في القيامة ، بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته ،
فهو في عيشة مرضية ، يرضاها صاحبها في الجنة.
والعيشة : كلمة
تجمع النعم التي في الجنة. والعيشة الراضية : معناه ذات رضا ، على النّسب. قال
جمهور العلماء والفقهاء والمحدثين عن الموازين : ميزان القيامة بعمود وكفّتين ،
ليبين الله تعالى أمر العباد ، بما عهدوه وتيقّنوه. وجمعت الموازين للإنسان لما
كانت له موزونات كثيرة متغايرة ، وثقل هذا الميزان : هو بالإيمان والأعمال ،
وخفّته بعدمها وقلّتها ، ولن يخفّ ميزان مؤمن ، أي لا يخلّد في النار. وإني لمؤمن
بالميزان كما ورد في القرآن ، دون معرفة كيفية وزنه وتقديره.
وأما من رجحت
سيئاته على حسناته ، أو لم تكن له حسنات يعتد بها ، فمسكنه أو مأواه جهنم ، وسماها
أمه : لأنه يأوي إليها ، كما يأوي الطفل إلى أمه ، وسميت جهنم
هاوية : وهي الهالكة
، لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها ، ولأنها نار عتيقة. روى المبرد : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا أمّ لك» فقال : يا رسول الله ، تدعوني إلى الهدى
وتقول : لا أم لك؟ فقال : إنما أريد ، لا نار لك ، قال الله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)
وما أعلمك ما هذه
النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف ، لبيان أنها خارجة عن المعهود ، بحيث لا يدرى
كنهها ، إنها النار الملتهبة الشديدة الحرارة والاستعار ، القوية اللهب والارتفاع
، وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران. قال الزمخشري : (هِيَهْ) ضمير الداهية التي دل عليها قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أو ضمير هاوية ، والهاء للسكت ، وإذا وصل القارئ حذفها.
أخرج مالك
والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «نار بني آدم التي توقدون : جزء من سبعين جزءا من
نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية؟ فقال : إنها فضلت عليها بتسعة
وستين جزءا».
وأخرج أحمد عن أبي
هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم».
لقد ضمت سورة
القارعة صنوي التهويل العظيمين وهما القيامة وأهوالها ، والنار الشديدة الحرارة
ومخاوفها. والناس أمام هذا المصير فريقان : فريق المحسنين الأبرار ، الذين يتمتعون
بجنان الخلد ، والمعيشة ذات الرضا والاطمئنان ، وفريق المسيئين الأشرار الذين
يتلظون بنيران جهنم ، ويحترقون فيها.
ومن علامات
القيامة : تغير المألوف ، وزوال المعروف من تكوين السماء والأرض ، حيث تتصدع
السماوات وتتساقط النجوم ، وتتفتت الجبال ، وتحترق البحار ، وتدك الأرض دكا عنيفا
، وتتغير معالم الكون ، في هذا الجو الرهيب يقف الإنسان حائرا مضطربا في مواجهة
الله تعالى والحساب العسير.
تفسير سورة التكاثر
عاقبة التكاثر في المال والجاه
الناس في لغو ولهو
وطرب ، ينساقون وراء المال والجاه ، والصيت والسمعة ، ويحرصون على التنويه بذواتهم
في إطار التفوق المادي وجمع المال بأي طريق. ويظل هذا الحرص مهيمنا على مشاعرهم
طوال الحياة. فمنهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال. ولقد حذر القرآن الكريم في
مناسبات كثيرة من الاغترار بالدنيا وزينتها ومفاتنها ، ومن فتنة الأموال والأولاد
والأزواج ، ولا سيما في سورة التكاثر المكية بلا خلاف :
(أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣)
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ
(٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ
لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))
[التكاثر : ١٠٢ /
١ ـ ٨].
أخرج ابن أبي حاتم
عن ابن بريدة في قوله : (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) (١) قال : نزلت في
قبيلتين من قبائل الأنصار ، في بني حارثة وبني الحارث ، وتفاخروا وتكاثروا ، فقالت
إحداهما ، فيكم مثل فلان ابن فلان وفلان؟ وقال الآخرون : مثل ذلك ،
__________________
تفاخروا بالأحياء
، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان
يشيرون إلى القبور ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى
زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) لقد كان لكم
فيما رأيتم عبرة وشغل.
وأخرج ابن جرير عن
علي رضي الله عنه قال : كنا نشك في عذاب القبر ، حتى نزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) إلى قوله : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) في عذاب
القبر.
لقد شغلكم بلذاته
ومفاتنه التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان ، والاعتناء بكثرتها
وتحصيلها ، شغلكم عن طاعة الله والعمل للآخرة ، حتى أدرككم الموت ، وأنتم على تلك
الحال. وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسر. والتكاثر : التفاخر بالأموال والأولاد
والعدد جملة ، وهذا ولع أهل الدنيا ودأبهم وعادتهم ، سواء من العرب وغيرهم ، لا
يتخلص منه إلا العلماء المتقون.
أخرج البخاري
ومسلم وأحمد وغيرهم : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما
أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت».
ومعنى (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) مختلف فيه ،
قال بعضهم بما يناسب سبب النزول : حتى ذكرتم الموتى في تفاخركم بالآباء والسلف ،
وتكثّرتم بالعظام الرميم ، وقال آخرون : المعنى ، حتى متّم وزرتم بأجسادكم مقابركم
، أي قطعتم بالتكاثر أعماركم. وعلى هذا التأويل روي أن أعرابيا سمع هذه الآية ،
فقال : بعث القوم للقيامة ، وربّ الكعبة ، فإن الزائر منصرف لا يقيم.
(كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ) (٣) أي ارتدعوا
وانزجروا عن هذا التكاثر الذي يؤدي إلى
التقاطع والتدابر
والأحقاد والضغائن ، وإهمال العمل للآخرة ، ومراعاة مصالح الأمة وخيرها ، وتصحيح
السلوك والأخلاق ، وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة ، وهذا زجر ووعيد.
ثم أكد الله تعالى
ذلك الزجر والوعيد للاتعاظ ، أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا ، فإنكم لو تعلمون
الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينيا ، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر ،
ولبادرتم إلى صالح الأعمال ، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد
لها. وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا ، والانهماك بمظاهر الحياة
الزائلة.
وقوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ) جواب (لو) محذوف مقدر في القول ، أي لازدجرتم وبادرتم
إنقاذ أنفسكم من الهلكة. واليقين : أعلى مراتب العلم. ثم فسر الله تعالى الوعيد ،
وأخبر الناس أنهم يرون الجحيم بقوله : (لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ) (٦) أي لتشاهدن
النار في الآخرة ، أي تذوقوا عذابها ، وهذا جواب قسم محذوف ، وهو توعد بحال رؤية
النار ، التي إذا زفرت زفرة واحدة ، خرّ كل ملك مقرّب ، ونبي مرسل ، على ركبتيه من
المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال الجسام.
ثم أكد الله تعالى
ذلك الوعيد بقوله : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها
عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) أي ثم
لتشاهدنّ الجحيم مشاهدة عيانا هي نفس اليقين ، وهي المشاهدة أو الرؤية بأعينكم ،
فإياكم من الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات.
ثم أكد الله تعالى
المساءلة عن الأعمال ، للتحذير ، فقال : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨) أي إنكم سوف
تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة ، وتسألون عن أنواع نعيم
الدنيا ، من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن ، وغير ذلك من النعيم. قال
الزمخشري : (عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم
الذي شغلكم الالتذاذ
به عن الدين وتكاليفه. وقال الفخر الرازي : والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم
الكفار ، وفي قول آخر : إنه عام في حق المؤمن والكافر ، ويكون السؤال حينئذ في حق
المؤمن ليعلم أنه وجّه هذا النعيم لما فيه الخير ، وصرفه فيما يرضي الله تعالى.
تفسير سورة العصر
أصول النجاة
ليست النجاة بين
يدي الله عزوجل بالمال أو الجاه ، أو العلم ، أو الابتكار ، أو العمل
الدنيوي المحض ، أو غير ذلك من زخاف الحياة ، ومظاهر العيش التي يتنافس فيها الناس
، ويحرصون عليها ، وإنما النجاة بين يدي الله إما بموقف كريم يعتمد على قاعدة
الإيمان الصحيح بالله ورسوله ، وإما بأصول أربعة هي : جسر النجاة في الموازين
الإلهية ، ألا وهي الإيمان الثابت ، والعمل الصالح ، والتواصي بالتزام الحق والعدل
والخير ، والتواصي بالصبر على الطاعة وعلى مصائب الدنيا ، وهذا ما حكم به الله
سبحانه في سورة العصر المكية عند الأكثرين :
(وَالْعَصْرِ (١)
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))
[العصر : ١٠٣ / ١
ـ ٣].
هذه سورة جامعة
لأصول الخير والنجاة عند الله تعالى ، قال الإمام الشافعي رحمهالله : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم ، لو لم ينزل غير هذه
السورة لكفت الناس ، لأنها شملت جميع علوم القرآن.
وأخرج الطبراني في
الأوسط ، والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة ـ وكانت له
__________________
صحبة ـ قال : كان
الرجلان من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم إذا التقيا ، لم
يتفرقا ، حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة : والعصر ثم يسلّم أحدهما على الآخر.
وفيها إشارة إلى
حال من لم يلهه التكاثر ، ولذا وضعت بعد سورته.
ومعناها : أقسم
بالعصر : وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس ، لما فيه من العبر وتقلبات الليل
والنهار ، وتعاقب الظلام والضياء ، وتبدل الأحداث والدول ، والأحوال والمصالح ،
مما يدل على وجود الصانع عزوجل ، وعلى توحيده وكمال ذاته وقدرته وصفاته. أقسم بذلك على أن
الإنسان (أي اسم الجنس) لفي خسارة وهلاك وسوء حال ، في المتاجر والأعمال ،
والمساعي والأفعال ، إلا من استثناهم الله فيما يأتي.
وهذا القسم بالدهر
دليل على شرفه وأهميته ، لذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ : «لا
تسبّوا الدهر ، فإن الله هو الدهر» أي خالقه.
والآية ، كما ذكر
الرازي ، كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة ، وذلك
بيّن غاية البيان في الكافر ، إنه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ،
وأما المؤمن ـ وإن خسر في دنياه أحيانا ، كالتجارة ، والهرم ومقاساة شقاء الدنيا ـ
فذلك لا يعد شيئا في جانب فلاحه في الآخرة ، وربحه الذي لا يفنى.
ثم استثنى الله
تعالى من جنس الإنسان من اتصف بصفات أربع ، حيث يجمع له الخير كله ، وهذه الصفات :
ـ هي الإيمان
الصحيح بالله عزوجل وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر ،
خيره وشره ، حلوه ومره ، والشر في المقضي بحسب تقدير الإنسان عاجلا ، أما في
المستقبل ، أو في علم الله تعالى فلا شر في القدر.
ـ والمداومة على
العمل الصالح : وهو أداء الفرائض وبقية الطاعات ، وفعل الخيرات ، وترك المحرمات ،
وترداد الباقيات الصالحات وهي سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله
أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ـ والتواصي بالحق
وهو كل أمر ثابت صحيح خلاف الباطل : وهو الخير كله من الإيمان بالله عزوجل ، واتباع كتبه ورسله عليهمالسلام ، في كل عقد وعمل. قال الزمخشري : هو الخير كله. من توحيد
الله ، وطاعته ، واتباع كتبه ورسله والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة.
ـ والتواصي بالصبر
عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلّة البشرية ، والصبر على الطاعات
التي يشق على النفس أداؤها ، وعلى ما يبتلي الله تعالى به عباده من المصائب.
والصبر المذكور
داخل في الحق ، وذكره بعده مع إعادة الجار والفعل المتعلق هو به ، لإبراز كمال
العناية به. والصبر : ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك ، بل هو تلقي
ما ورد منه عزوجل بالجميل والرضا به ، باطنا وظاهرا.
واستدل بعض
المعتزلة بما في هذه السورة ، على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لأنه لم يستثن
فيها عن الخسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. إلخ ، وأجيب عنه بأنه لا دلالة
في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر ، وأما على كونه مخلدا في النار ،
فلا. كيف والخسر عام ، فهو إما بالخلود إن مات كافرا ، وإما بالدخول في النار إن
مات عاصيا ، ويبقى بعد ذلك الإحالة إلى مغفرة الله تعالى ، فهو سبحانه إن غفر
المعاصي لم يخلد ، وقد ورد في الحديث الثابت الذي أخرجه البزار عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال : لا إله إلا الله ، مخلصا ؛ دخل الجنة».
تفسير سورة الهمزة
جزاء الطعن والتعييب
ليس لأحد أن يدعي
الكمال ، فالكمال لله وحده ، وليس لأحد أن يزعم أنه خال من النقص والعيب ، فإن
الإنسان مبني على النقص في عقله وتجاربه ، وما دام النقص من سمات الإنسان ، فلا
يصح أن يغفل عن نقائصه ، ويوجه انتقاداته وطعونه إلى الآخرين ، وإنما عليه العناية
بنفسه ، فيصلحها ، ويحاول إكمال ما فيها من نقائص ، وليترك الناس وما هم عليه من
عيوب ، فإن لم يفعل استحق الويل والهلاك والعذاب ، الذي تنص عليه سورة الهمزة
المكية بلا خلاف :
(وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ
مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى
الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))
[الهمزة : ١٠٤ / ١
ـ ٩].
قال عطاء وغيره :
نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم ، وبخاصة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : في جميل بن عامر الجمحي ، وقال مقاتل : نزلت في
__________________
الوليد بن المغيرة
، كان يغتاب النبي صلىاللهعليهوسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه ، وروي أيضا أن أمية بن خلف
كان يفعل ذلك ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهذه قاعدة عامة ، فهي تتناول
كل من اتصف بهذه الصفات.
هلاك وعذاب وخزي
لكل همزة لمزة. والهمزة : الذي يهمز الناس بلسانه ، أي يعيبهم ويغتابهم ، وقال ابن
عباس : هو المشاء بالنميم. واللمزة : الذي يغتاب الناس ويطعن في الوجه.
ـ وسبب همزه ولمزه
: إعجابه بما جمع من المال وأحصاه وحافظ على عدده ألا ينقص ، وظن أن له به الفضل
على غيره ، فمنعه من الخيرات ونفقة البر.
ـ يظن أن ماله
يضمن له الخلود ، ويتركه حيا باقيا لا يموت ، لشدة إعجابه بما يجمعه من المال ،
فلا يفكر فيما بعد الموت. ويحسب أيضا أن ماله هو معنى حياته وقوامها ، وأنه حفظه
مدة عمره ويحفظه.
ثم رد الله تعالى
عليه هذه المزاعم والأوهام ، وأخبر إخبارا مؤكدا أنه ينبذ في الحطمة ، أي التي
تحطم ما فيها وتلتهمه ، لينزجر ويرتدع عما يقول ، فليس الأمر كما زعم ولا كما حسب
، بل ليلقين ويطرحن هذا الأفاك هو وماله في النار التي تحطم أو تهشم كل ما يلقى
فيها.
ثم عظّم الله
تعالى شأن النار ، وأخبر أنهار نار الله الموقدة التي يبلغ إحراقها القلوب ولا
تخمد ، و (الفؤاد) القلب. وما أعلمك ما هذه النار ، وأي شيء هي؟ فكأنها لا تدركها
العقول والأفكار ، هي النار المستعرة بأمر الله تعالى ، التي لا تخمد أبدا.
وفائدة وصف جهنم
بالحطمة : مناسبتها لحال المتكبر ، المتجبر بماله ، المترفع على غيره ، فهي تكسر
كسرا كل ما يلقى فيها ، لا تبقي ولا تذر. وإضافة (نارُ اللهِ) للتفخيم ، أي هي نار ، لا كسائر النيران.
ثم وصف الله تعالى
النار بأوصاف ثلاثة ، وأخبر بها خبرا دائما عاما ، وهي :
ـ التي تعلو وتصل
إلى القلوب وتغشاها بحرها الشديد ، وتحرقهم وهم أحياء ، وتتجدد الحياة ويدوم
العذاب ، والقلوب أشد أجزاء البدن تألما ، وخصت بالذكر ، لأنها محل العقائد
الزائغة ، والنيات الخبيثة ، وسوء الأخلاق من الكبر واحتقار الناس ، والأعمال
القبيحة.
ـ وهي عليهم مطبقة
، مغلقة عليهم أبوابها جميعا ، فلا منافذ ، ولا يستطيعون الخروج منها ، كما جاء في
آية أخرى : (عَلَيْهِمْ نارٌ
مُؤْصَدَةٌ) [البلد : ٩٠ / ٢٠].
وقال الله تعالى مبينا استمرار بقائهم فيها : (كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢ / ٢٢].
قال علي رضي الله عنه : أبواب النار بعضها فوق بعض.
ـ وهي أيضا كائنة
ثابتة في أعمدة ممددة طويلة موثّقة ، قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ، ثم شدّت
بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح ، قال ابن زيد : المعنى
: في عمد حديد مغلولين لها ، والكل من نار.
والآية تفيد
المبالغة في العذاب ، بقوله تعالى : (لَيُنْبَذَنَ) أي أنه موضع ، له قعر عميق جدا كالبئر ، وأن أبوابها لا
تفتح ليزيد في حسرتهم ، وتغلق إغلاقا محكما ، للتيئيس من الخروج منها ، وممددة في
أعمدة دائمة اللهب ، فلا أمل في إطفائها أو تخفيف شدة حرارتها.
إن من يشاهد أفران
النار للتوتر العالي ، أو مراكز الطاقة الذرية المتفجرة ، أو البراكين التي تظهر
فيها المعادن والحجارة منصهرة كالماء السيّال أو النيران المتآكلة ، يفزع كل الفزع
، ويهرب من غير وعي ولا عقل ، فكيف بنيران جهنم التي هي أشد من جميع نيران الدنيا؟!
ونار الدنيا جزء من سبعين أو مائة جزء من نار الآخرة ، عافانا الله منها.
تفسير سورة الفيل
قصة أصحاب الفيل
حرمات الله تعالى
عظيمة مقدسة ، ومنها بيت الله الحرام ـ الكعبة المشرفة ، فمن حاول المساس بتلك
الحرمات ، رده الله وصده عنها ، وحمى حرماته بما يشاء ، وسورة الفيل المكية إجماعا
من الرواة نزلت تذكيرا لقريش بنعمته العظيمة ، حين أراد أبرهة ملك الحبشة هدم
الكعبة ، ووجّه جيشه لهذه المهمة ، معهم الفيلة الكثيرة ، بقصد توجيه حج العرب إلى
بيت بناه أبرهة في اليمن ، ولكن قدرة الله القهار فوق كل تقدير واعتبار ، فحينما
وجه أبرهه جيشه لهدم الكعبة ، برك فيله بذي المغمّس (موضع قريب من مكة في طريق
الطائف) ولم يمش نحو مكة ، على الرغم من أنهم شقوا جلده بالحديد ، وكان إذا وجهوه
إلى غير مكة هرول. وبينما هم كذلك ، بعث الله تعالى عليهم طيرا جماعات سودا أو
خضرا من البحر ، عند كل طير ثلاثة أحجار ، في منقاره ورجليه ، كل حجر فوق العدسة ،
ودون الحمّصة ، فرمتهم بتلك الحجارة ، وكان الحجر منها يقتل المرميّ ، وتتهرأ
لحومهم جربا وأسقاما ، وانصرف أبرهة بمن بقي معه يريد اليمن ، فماتوا في طريقهم
متفرقين في كل مرحلة ، وتقطّع أبرهة أنملة أنملة حتى مات ، وحمى الله بيته ، فنزلت
هذه السورة منبّهة على الاعتبار بهذه القصة ، ليعلم الكل أن الأمر كله لله تعالى ،
ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته ، حين لم تغن الأصنام شيئا ، فأصحاب الفيل
: هم أبرهة الملك ورجاله. وها هي سورة الفيل :
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
(٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ (٤))
(فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))
[الفيل : ١٠٥ / ١
ـ ٥].
ألم تعلم علم
اليقين ، وكأنك شاهدت الواقعة ، بما صنع ربك العظيم القدير بأصحاب الفيل ، حيث
دمّرهم الله ، وحمى بيته الحرام ، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا بالله؟! وقد شاهد
بعضهم الواقعة بنفسه.
ألم تر أن ربك جعل
مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها ، في تضليل وانحراف عما
قصدوا إليه ، وفي تضييع وإبطال ، حتى إنهم لم يصلوا إلى البيت ، ولا إلى ما أرادوا
بكيدهم ، بل أهلكهم الله تعالى. والكيد : إرادة مضرة بالغير على الخفية. والتضليل
: الخسار والتلف.
وحيث إن قومك أيها
النبي يعلمون بهذا الأمر ، فليخافوا أن يعاقبهم الله بعقوبة مماثلة ، ما داموا
يصرون على الكفر بالله تعالى ، وبرسوله صلىاللهعليهوسلم ، وكتابه الكريم ، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان بالله
تعالى.
وأرسل الله تعالى
على أصحاب الفيل جماعات متفرقة من طيور سود أو خضر ، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا
، مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، لا يصيب شيئا إلا
دمره وهشمه ، وهي حجارة صغيرة من طين متحجر كالحمّصة وفوق العدسة ، فإذا أصاب
أحدهم حجر منها ، خرج به الجدري أو الحصبة ، حتى هلكوا.
__________________
فجعلهم فضلات
وبقايا ، مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب ، ثم راثته ، فأهلكهم جميعا.
وحجارة من سجيل : أي من ماء وطين ، كأنها الآجر ونحوه مما طبخ ، وهي المسوّمة عند
الله تعالى للكفار الظالمين. والعصف : ورق الحنطة وتبنه.
والمعنى : صاروا
طحينا ذاهبا كورق الحنطة ، أكلته الدواب وراثته ، فجمع ذلك المهانة والخسة والتلف.
هذه هي قصة أصحاب
الفيل الثابتة ثبوتا قطعيا ، أثبتها القرآن ، وعاش أحداثها عرب مكة من قريش سنة (٥٧١
م) ، في العام الذي ولد فيه النبي محمد صلىاللهعليهوسلم.
وهي قصة عجيبة
غريبة ، لإظهار مثال من أمثلة قدرة الله تعالى ، حيث يغفل الناس عن الأمثلة
الكثيرة الواقعية المشابهة ، يتبين منها أن الله تعالى بقدرته العظيمة قادر على أن
يدفع السوء عن البيت الحرام وعن كل ما يريد حمايته في كل وقت ، وهو القادر على أن
يعاقب الطغاة المتجبرين ، الذين يشركون مع الله إلها آخر ، ويصدّون الناس عن البيت
الحرام للعبادة فيه ، وعن الإيمان برسالة الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم.
وكفى بذلك إنذارا
وتحذيرا ، وحماية وصونا ، وفضلا ونعمة ، وإعلاما بأن الله جلت قدرته ينصر من يشاء
، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، وعقيدتنا : (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [ال عمران : ٣ /
١٢٦].
تفسير سورة قريش
نعم الله على قريش
لم يترك الحق
سبحانه وتعالى وسيلة إقناعية أو تربوية أو ترغيبية أو تهديدية إلا أقامها وأداها
لقبيلة قريش في صدر الإسلام ، من أجل حملهم على الانضمام لراية الإسلام ، وإعلان
عقيدة توحيد الله تعالى ، وترك الشرك والوثنية وعادات الجاهلية القبيحة ، ومن هذه
الوسائل تذكيرهم بما أنعم الله تعالى عليهم ، من تيسير الحصول على مكاسبهم
وأرزاقهم وتجاراتهم الرابحة ، لقطري الشام واليمن ، في قوافلهم الشتوية والصيفية ،
وذلك في سورة قريش المكية بلا خلاف :
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ
(١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا
الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))
[قريش : ١٠٦ / ١ ـ
٤]
أخرج الحاكم
والبيهقي وغيرهما عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضّل الله قريشا بسبع خصال أو خلال : أني منهم ، وأن
النبوة فيهم ، والحجابة والسقاية فيهم ، وأن الله نصرهم على الفيل ، وأنهم عبدوا
الله عزوجل عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وأن الله أنزل فيهم سورة من
القرآن ، ثم تلا رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوسلم : بسم الله الرّحمن الرّحيم : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ..) (السورة) وهو حديث
غريب ، كما قال ابن كثير.
هذه السورة نزلت
إذن في بيان خصال قريش ، وتذكيرهم بنعم الله عليهم. ومعناها : لتعبد قريش (وهم ولد
النضر بن كنانة) الله تعالى ، شكرا له وإعظاما ، لأجل إيلافهم (جعلهم يألفون)
رحلتين في العام ، واحدة في الشتاء إلى اليمن ، لجلب العطور والبهارات الآتية من
الهند والخليج ، وهي بلاد حارة ، وواحدة إلى الشام في الصيف ، لأنها بلاد باردة ،
لجلب الحبوب الزراعية. وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة. ولو لا هاتان الرحلتان لم
يتمكنوا من المقام بها ، ولو لا الأمن بجوار البيت الحرام ، لم يقدروا على التصرف
، وكانوا لا يغار عليهم ، لأن العرب يقولون : قريش أهل بيت الله عزوجل وجيرانه.
وكل هذا الاحترام
والإجلال لقريش أهل مكة إنما كان من الله عزوجل ، الذي هيّأه ويسّره لهم بفضل البيت الحرام ، فكان عليهم
الإقرار بهذه النعمة ، وإفراد الله بالعبادة والتعظيم.
كما أن النّعم
الأخرى المذكورة في الحديث المتقدّم ، ومن أهمها نعمة صدّ أصحاب الفيل عن هدم
الكعبة ، تستوجب الإقرار بها وعبادة الله تعالى المنعم. فعليهم عبادة ربّ البيت
الحرام الذي كان سببا في تحقيق مجدهم وزعامتهم وأمنهم واستقرارهم. والله وحده هو
المستحق للعبادة ، لكونه ربّ هذا البيت ، على الرغم من أوثانهم التي كانوا يعظّمونها
حول الكعبة ، فميّز الله تعالى نفسه عنها ، وبالبيت تشرّفوا على سائر العرب ، وهم
يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى (البيت الحرام) في السورة لإفادة
التعظيم.
ويلاحظ كما ذكر
الرازي أن الإنعام على قريش بصدّ أصحاب الفيل إنما هو لدفع الضرر عنهم ، ودفع
الضرر عن النفس واجب ، والإنعام عليهم بالبيت الحرام لجلب
النفع ، وهو غير
واجب ، فجمع الله تعالى بين النعمتين العظيمتين ، جمعا بين الواجب وغيره ، لتحقيق
الكمال والإتمام ، وأمرهم ربهم بعبادته والعبودية له ، وأداء الشكر على ذلك ،
بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ
هذَا الْبَيْتِ) (٣).
والعبادة : هي
التذلّل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون ، وهي تحقّق معنى العبودية. ثم ذكر الله
تعالى نعما أخرى على قريش ، صادرة من الله تعالى وهي : ـ أنه ربّ البيت هو الذي
أطعمهم من جوع ، ووسّع لهم في الرزق ، ويسّر لهم سبيله ، بسبب هاتين الرّحلتين ،
فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.
ـ وتفضّل عليهم
بالأمن والاستقرار ، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنما
ولا وثنا ، ولا شيئا آخر مما يعظّمونه.
قال ابن كثير :
ولهذا من استجاب لهذا الأمر ، جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه
سلبهما منه ، كما قال الله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ
كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [النّحل : ١٦ /
١١٢ ـ ١١٣].
وكانت العرب يغير
بعضها على بعض ، ويسبي بعضها بعضا (يسترقونهم) ، فأمنت قريش لمكان الحرم ، كما
آمنهم الله من خوف الحبشة مع الفيل ، قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا
حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٢٩ /
٦٧].
فمن تأمين الله
لقريش كما يبدو في الآية : أنه آمنهم من خوف التّخطف في بلدهم ومسايرهم ، والذي
كان ظاهرة شائعة في القبائل العربية الأخرى المجاورة. ومن التأمينات الإلهية لهم
أيضا : تأمينهم من خوف الجذام والطاعون ، فلا يصيبهم في بلدهم ، فضلا من الله
تعالى ونعمة.
تفسير سورة الماعون
جزاء المكذب بالدين وصفاته
إن من أهم أسباب
الشقاء والانحراف والضلال في الدنيا : هو إنكار يوم القيامة أو يوم الجزاء والحساب
، فلو صدّق الناس به تصديقا تاما ، لما تجرأ واحد منهم على العصيان والمخالفة ، أو
الكفر والجحود ، أو إهمال الفرائض الإلهية ، وتجاوز الآداب والأخلاق القويمة ، لأن
الخوف من العقاب والتهديد بالعذاب لا ينفع غير المؤمنين بوجود عالم الآخرة ،
وتذكير السامع بالتخلص من أمراض العصيان ، والقسوة على المحتاجين ، ومراءاة الناس
، ومنع مساعدة الجيران وحجب وسائل العون عنهم وعن غيرهم ، إنما يفيد المصدقين
بالقيامة ، كما جاء في سورة الماعون المكية :
(أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ
عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))
[الماعون : ١٠٧ /
١ ـ ٧].
قال ابن عباس :
نزلت هذه السورة في العاص بن وائل السهمي ، وقال السدي : نزلت في الوليد بن
المغيرة. وقيل : في أبي جهل ، وكان وصيا ليتيم ، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه ،
فدفعه. ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطّرين في
__________________
الإسلام بمكة ،
الذين لم يحققوا فيه ، وفتنوا فافتتنوا ، وكانوا على هذا الخلق من الغشم وغلظ
العشرة ، والفظاظة على المساكين ، وربما كان بعضهم يصلي أحيانا مع المسلمين مدافعة
وحيرة ، فقال الله تعالى فيهم : (فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (٥).
وقال ابن جريج :
كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزورا ، فجاءه يتيم ، فقرعه بعصا ، فنزلت السورة فيه.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ـ فيما أخرجه ابن المنذر وابن جرير وغيرهما ـ :
سألت النبي صلىاللهعليهوسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون ، قال : «هم الذين يؤخرونها
عن وقتها» يريد صلىاللهعليهوسلم ـ والله تعالى أعلم ـ تأخير ترك وإهمال. وإلى هذا نحا
مجاهد.
ويؤكد هذا ما أخرج
ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ) (٤) قال : نزلت في
المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ،
ويمنعونهم العاريّة ، أي الشيء المستعار.
والمعنى : أأبصرت
أيها النبي الذي يكذب بالحساب والجزاء؟! أو بالمعاد والجزاء والثواب؟ وقوله : (أَرَأَيْتَ) وإن كان في صورة استفهام ، لكن الغرض بمثله المبالغة في
التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.
هذا الذي يكذب
بالقيامة والجزاء ، هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا ، ويزجره زجرا عنيفا ،
ويظلمه حقه ، ولا يحسن إليه ، علما بأن عرب الجاهلية كانوا لا يورّثون النساء
والصبيان.
وهذا هو الذي لا
يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج ، بخلا بالمال ، كما جاء
في آية أخرى : (كَلَّا بَلْ لا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ٨٩ / ١٧
ـ ١٨].
فويل ، أي خزي
وعذاب وهلاك للمنافقين الذين يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا ، وللغافلين عن الصلاة ،
الذين لا يبالي أحدهم ، صلّى أم لم يصلّ ، لا يرجون ثوابا إن صلوا ، ولا يخافون
عقابا إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، إهمالا لها. وإذا كانوا مع
المؤمنين صلوا رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا. إن هؤلاء هم الساهون عن
صلاتهم ، أي التاركون لها ، أو الغافلون عنها. قال عطاء بن يسار : الحمد لله الذي
قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ) ولم يقل : (في صلاتهم).
أولئك الساهون عن
صلاتهم : هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا ، أو يراءون الناس بكل ما عملوا
من أعمال البر ، ليثنوا عليهم.
وهم الذين يمنعون
الماعون ، أي يمنعون الإعارة وفعل الخير. والماعون : كل ما يتعاوره الناس بينهم ،
من الدلو والفأس والقدوم والقدر ومتاع البيت ، وما لا يمنع عادة كالماء والملح ،
مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.
إن هؤلاء
المنافقين وأمثالهم من المشركين ، لم يحسنوا عبادة ربهم ، ولم يحسنوا إلى الناس ،
حتى بإعارة ما ينتفع به ويستعان به ، مع بقاء عينه ، ورجوعه إليهم ، وهؤلاء لمنع
الزكاة وأنواع القربات أشد منعا وبخلا. روى النسائي وغيره عن عبد الله بن مسعود
قال : كل معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم عارية الدّلو والقدر.
إن هذه السورة
الكريمة تصلح عنوانا بارزا لكل أنواع التكامل والتضامن الاجتماعي فيما بين الناس ،
حتى تسود المحبة والود ، ويتآلف البشر ، ويعم الرفاه والاستقرار أنحاء المجتمع ،
وتعيش كل جماعة في أمن وعافية وسلام.
تفسير سورة الكوثر
نعم الله على نبيه
سور الضحى
والانشراح والكوثر فيها تعداد النعم الإلهية على النبي صلىاللهعليهوسلم وهي نعم كثيرة ، في قمتها في الدنيا : النبوة والرسالة ،
وفي الآخرة : الكوثر وهو الخير الكثير ، ولقد تضمنت سورة الكوثر المكية الخبر بما
أعطى الله نبيه وهو الكوثر ، وبما طالبه به من الصلاة والصدقة شكرا لله على ما
أنعم ، وتبشيرا بالنصر ، وخذلانا لأعدائه ، وانقطاع أثرهم وذكرهم ، وهي أقصر سورة
في القرآن الكريم ، وهذا هو نصها في ثلاث آيات قصار فقط :
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
(٣))
[الكوثر : ١٠٨ / ١
ـ ٣].
سبب نزولها : ما
أخرجه البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم كعب بن الأشرف
مكة ، فقالت له قريش : أنت سيدهم ، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه ، يزعم
أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السقاية ، وأهل السدانة ، قال : أنتم خير
منه ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) (٣). وأخرج ابن
أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال : لما أوحي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، قالت قريش : بتر محمد منا ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣).
__________________
وهناك روايات أخرى
، ومجمل الروايات كلها : أن سبب نزول هذه السورة : هو استضعاف النبي صلىاللهعليهوسلم ، واستصغار أتباعه ، والشماتة بموت أولاده الذكور ، ابنه
القاسم بمكة ، وإبراهيم بالمدينة ، والفرح بوقوع شدة أو محنة بالمؤمنين ، فنزلت
هذه السورة إعلاما بأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قوي منتصر ، وأتباعه هم الغالبون ، وأن موت أبناء الرسول صلىاللهعليهوسلم لا يضعف من شأنه ، وأن مبغضيه هم المنقطعون الذين لن يبقى
لهم ذكر وسمعة ولا أثر ، البعيدون عن كل خير ، المحرومون من أي فضل.
والمعنى : لقد
منحناك الخير الكثير ، ومنه نهر في الجنة ، جعله الله كرامة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولأمته. أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك قال : «أغفى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إغفاءة ، فرفع رأسه متبسما ، فقال : إنه أنزل علي آنفا
سورة ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) (١) حتى ختمها. وفي
الحديث : «هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم ، قال : هو نهر
أعطانيه ربي في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب
، يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب ، إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث
بعدك».
وكما أعطيناك هذا
الكوثر ، فداوم على صلاتك المفروضة والنافلة ، وأدّها خالصة لوجه ربك وانحر ذبيحتك
وأضحيتك ، وما هو نسك لك ، وهو الهدي (شاة أو بعير مقدم للحرم) وغير ذلك من
الذبائح لله تعالى وعلى اسم الله وحده لا شريك له فإنه هو الذي تعهدك بالتربية ،
وأسبغ عليك نعمه دون سواه ، كما قال تعالى في آية أخرى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣) [الأنعام :
١٦٢ ـ ١٦٣].
وهذا على نقيض فعل
المشركين ، الذين كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم أن تكون صلاته ونحره لله ، وهو أيضا نقيض فعل المنافقين
المرائين. والمراد
: صلاة العيد ، ونحر الأضحية ، قال ابن كثير : الصحيح أن المراد بالنحر : ذبح
المناسك ، بدليل ما نص عليه حديث البراء بن عازب عند الشيخين : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي العيد ، ثم ينحر نسكه ، ويقول : من صلّى صلاتنا ،
ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له». فقام أبو بردة بن
نيار ، فقال : يا رسول الله ، إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم
يشتهي فيه اللحم ، قال : شاتك شاة لحم ، قال : فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين
، أفتجزى عني؟ قال : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك».
إن مبغضك أيها
النبي ، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع ، والنور المبين : هو
الأبتر أي الأقل الأذل ، المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة ، والذي لا يبقى ذكره بعد
موته ، وهذا رد على ما قال بعض المشركين كالعاص بن وائل أو الوليد بن المغيرة أو
أبي جهل لما مات ابنه عبد الله من خديجة : إنه أبتر. وقال الحسن البصري رحمهالله : عنى المشركون بكونه أبتر : أنه ينقطع عن المقصود قبل
حصوله ، والله بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك.
تفسير سورة «الكافرون» أو المقشقشة
البراءة من الشرك
حسم الإسلام بآيات
القرآن العظيم قضية الإيمان والشرك ، بعد أن أوضح الله تعالى الأدلة الدالة على
صحة الاعتقاد ، من توحيد الله تعالى ، والتصديق بأنبيائه ورسله ، وبكتبه وملائكته
واليوم الآخر ، فلم يبق بعدئذ مجال للوثنية أو الشرك ، وجاءت سورة «الكافرون»
المكية بالإجماع مبرئة من الشرك والنفاق ، ومن عمل المشركين ، وآمرة بإخلاص
العبادة لله تعالى ، فقال الله سبحانه :
(قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما
أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما
أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))
[الكافرون : ١٠٩ /
١ ـ ٦].
سبب نزولها : ما أخرج
الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن قريشا دعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أن يعطوه مالا ، فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما
أراد من النساء ، فقالوا : هذا لك يا محمد ، وتكفّ عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها
بسوء ، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ، قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فأنزل
الله : (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) (١) إلى آخر
السورة ، وأنزل : (قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤) [الزمر : ٣٩
/ ٦٤].
__________________
والجماعة الذين
دعوا النبي صلىاللهعليهوسلم إلى هذا ، من تمويله وتزويجه من شاء من كرائم نساء قريش :
هم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية ابن خلف ،
وأبّي بن خلف ، وأبو جهل ، وابنا الحجاج ، ونظراؤهم ممن لم يسلم بعد. فنزلت هذه
السورة للرد عليهم ، ومضمونه :
قل أيها الرسول
لقومك القرشيين : يا أيها الكافرون ، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام
والأوثان ، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض ،
والبدء بكلمة (قل) لرفع الحرج عن النبي ، وبيان أنه مأمور بهذا الكلام ، لا من عند
نفسه.
لن أفعل في
المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب
منكم من عبادة إلهي.
لا أعبد أنا عبادتكم
، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها ، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه ،
وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء
أنفسكم ، لأن عبادة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأتباعه المؤمنين برسالته خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن
الله الإله المعبود بحق. وهم يعبدون الله بما شرعه. والمشركون يعبدون غير الله
عبادة لم يأذن الله بها ، فكلها شرك وإشراك ، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
قيل : في الآيات
تكرار ، والغرض التأكيد ، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى ما سألوه من
عبادته آلهتهم.
والقرار الفصل
والقول الحسم الذي يجعل الاستقلال لكل فئة أو جماعة بدينها : هو أن لكم إشراككم أو
كفركم ، ولي ديني ومذهبي وهو التوحيد والإخلاص لله أو
الإسلام ، فدينكم
الذي هو الإشراك ، لكم لا يتجاوزكم إلي ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا
يتجاوزني ، فيحصل لكم.
وليست هذه السورة
على التحقيق منسوخة بآية القتال : (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة : ٩ / ٣٦]
فإن المحققين من العلماء قالوا : لا نسخ لهذه السورة ، بل المراد التهديد ، كقوله
تعالى : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) [فصلت : ٤١ / ٤٠].
ونظير هذه الآية
كثير في القرآن ، منها قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٠ / ١٤].
وهذا الفصل بين
أتباع الأديان يريح كل فريق ، ويجعل كل إنسان مسئولا عما يحب ويختار ، ويعتقد
ويعمل ، إذ لا إكراه في الدين ، والدين يقوم على أساس القناعة والحرية والاختيار ،
وهذا أساس توجيه المسؤولية لكل إنسان عما عمل ، وسيرى كل واحد عاقبة فعله واعتقاده
وقوله. وإذا لم يجد الإقناع وإعمال العقل الحر الطليق من غير تعصب ولا أحقاد ولا
موروثات ، فإن كل إنسان مطالب بترك غيره فيما اختاره أو اعتقده.
تفسير سورة النصر
التسبيح والتحميد والاستغفار عند الفتوحات
يتميز الإسلام
الحنيف ، بالربط بين الدنيا والآخرة ، وبين الله وعبده ، وبين النصر والعزة
والفتوح ، واللجوء إلى الله فبل وعقب ذلك ، حتى لا يترك الإنسان وأهواءه وشهواته ،
ويظل معتدل المزاج لا يبطر ولا يغتر ولا يفجر ، وهذا ما نجده واضحا من توجيه الله
تعالى نبيه وأمره له بعد الفتوح التي فتحت عليه ، مكة وغيرها ، بأن يسبّح ربه
ويحمده ويستغفره ، في سورة النصر المدنية إجماعا ، حيث سئل ابن عباس عن مدلولها ،
فقال : هو أجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أعلمه الله تعالى بقربه إذا رأى هذه الأشياء ، فقال عمر
رضي الله عنه : ما أعلم منها إلا ما ذكرت . وهذا الاتجاه الذي ذكر ابن عباس في تفسير هذه السورة هو
ما ذكره ابن مسعود وأصحابه ، وقتادة ، والضحاك. وروت معناه عائشة رضي الله عنها عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأنه صلىاللهعليهوسلم لما فتحت مكة ، وأسلم العرب ، جعل يكثر أن يقول : «سبحان
الله وبحمده ، اللهم إني أستغفرك» يتأول القرآن في هذه السورة . وقال لها مرة : «ما أراه إلا حضور أجلي». هذه السورة هي
سورة النصر :
__________________
(إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً
(٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))
[النصر : ١١٠ / ١
ـ ٣].
هذه السورة بشارة
بالنصر للنبي صلىاللهعليهوسلم على العرب قاطبة ، ونعي أجله والاستعداد للانتقال إلى
الرفيق الأعلى بمداومة التسبيح والتحميد والاستغفار.
إذا تحقق لك أيها
النبي نصر الله ، وعونه ، وتأييده على من عاداك ، وهم قريش وبقية العرب ، وفتحت لك
مكة ، وتحققت لك الغلبة ، وإظهار دينك وانتشاره ، فنزه الله تعالى ، حامدا له نعمه
وأفضاله عليك ، واسأل المغفرة لك ولمن اتبعك ، إن الله كثير القبول لتوبة عباده ،
حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.
و (النصر) الذي
رآه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هو غلبته لقريش وهوازن وغير ذلك. و (الفتح) هو فتح مكة
والطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن. قال ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب : لم
يمت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي العرب برجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام ، بعد
حنين والطائف ، منهم من قدم ، ومنهم من قدم وافده ، ثم كان بعده صلىاللهعليهوسلم من الردة ما كان ، ورجعوا كلهم إلى الدين . والمراد بذلك : العرب وعبدة الأوثان.
وفائدة قوله : (نصر
الله (مع أن النصر لا يكون إلا من عند الله : هو أنه نصر لا يليق إلا بالله ، ولا
يليق أن يفعله إلا الله ، أو لا يليق إلا بحكمته ، والمراد : تعظيم هذا النصر.
وقوله : (جاءَ نَصْرُ اللهِ) : مجاز ، أي وقع نصر الله.
أخرج الإمام أحمد
والبيهقي والنسائي عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) (١) قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «نعيت إليّ نفسي». فإنه مقبوض في تلك السنة.
__________________
قال ابن عمر :
نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ، ثم نزلت : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
..) فعاش بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها
خمسين يوما ، ثم نزلت : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللهِ) فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما.
وكان من علامة ذلك
: أنك أيها النبي تبصر الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به ،
جماعات ، فوجا بعد فوج ، بعد أن كانوا في بادئ الأمر ، يدخلون واحدا واحدا ،
واثنين ، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. وتحقق ذلك في العام التاسع
والعاشر عام الوفود حيث تتابعت الوفود العربية إلى المدينة معلنة إسلامها. قال ابن
إسحاق : لما افتتح رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه وفود
العرب من كل وجه ، وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش ، إذ
كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت والحرم ، وصريح ولد إسماعيل عليهالسلام ، وقادة العرب. فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوّخها
الإسلام ، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله أفواجا ، كما قال تعالى :
(إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ ...) السورة.
لقد جاء الأمر
الإلهي للنبي صلىاللهعليهوسلم بالتسبيح بعد تحقيق الانتصارات العسكرية وانتشار الإسلام.
والمعنى : إذا فتحت مكة وانتشر الإسلام ، فاشكر الله على نعمه ، بالصلاة له ،
وبتنزيهه عن كل ما لا يليق به ، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بالنصر. واقرن
الحمد بالتسبيح ، أي اجمع بينهما ، فإن ذلك النصر والظفر يقتضي الحمد لله على عظيم
منته وفضله.
واطلب أيضا من
الله المغفرة لك ، تواضعا لله ، واستقصارا لعملك ، وتعليما لأمتك ، وكذا اسأله
المغفرة لمن تبعك من المؤمنين على ما كان منهم من القلق والخوف لتأخر النصر ، فإن
الله سبحانه من شأنه التوبة على المستغفرين له ، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم
، وهو كثير القبول لتوبة عباده ، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.
تفسير سورة المسد
عقاب أبي لهب وامرأته
كان أبو لهب : عبد
العزى بن عبد المطلب ، وكنيته أبو عتيبة ، وامرأته : من أشد الناس عداوة وإيذاء
للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وكان أبو لهب في المجالس العامة هو الذي يجابه النبي
ويعانده ، ويقف في سبيل دعوته وقوف الأعداء الأشداء الألداء.
روي في الحديث عن
ابن عباس الذي أخرجه البخاري ومسلم : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢٦ /
٢١٤] أي ورهطك منهم المخلصين ، خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه! فقالوا : من هذا الذي
يهتف؟ قالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني
فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبد المطلب! فاجتمعوا إليه فقال : «أرأيتكم لو
أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال
: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟
ثم قام ، فنزلت هذه السورة المكية بالإجماع : (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَ) (١). كذا قرأ
الأعمش وعبد الله (ابن مسعود) وأبيّ ، إلى آخر السورة ، وقرأ حفص : (وَتَبَ) أي الأول دعاء عليه ، والثاني : خبر عنه. والسورة هي :
(تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ
مَسَدٍ (٥))
[المسد : ١١١ / ١
ـ ٥].
المعنى : هلكت يدا
أبي لهب (وكنّي بذلك لحمرة في وجهه) وخسرت وخابت ، وهو مجاز عن جملته ، أي هلك
وخسر ، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم أخبر الله تعالى عنه : (وَتَبَ) أي وقد وقع فعلا هلاكه ، فقد خسر الدنيا والآخرة ، وأبو
لهب : عم النبي صلىاللهعليهوسلم ، واسمه : عبد العزى بن عبد المطلب ، وقد كان كثير الأذى
والبغض والازدراء لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولدينه ، كما تقدم.
وقوله : (تَبَّتْ) معناه : خسرت ، والتباب : الخسران والدمار. وأسند ذلك إلى
اليدين من حيث كون اليد موضع الكسب والربح وضم ما يملك ، ثم أخبر الله عنه أنه قد
تب ، أي حتم عليه ذلك.
ثم أخبر الله
تعالى عن حال أبي لهب في الماضي ، فقال : (ما أَغْنى ..) أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال ، ولا ما كسب
من الأرباح والجاه والولد ، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك ، وما ينزل
به من العذاب ، لشدة معاداته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وصدّه الناس عن الإيمان به. والفرق بين المال والكسب :
أن الأول رأس المال ، والثاني هو الربح. وهذا إخبار عن أن جميع أحواله الدنيوية من
مال وولد لم تغن عنه شيئا ، حين حتم (أوجب) عذابه بعد موته ، وهو ما أخبر الله
تعالى عنه في المستقبل في الآخرة بقوله : (سَيَصْلى ..) أي إن أبا لهب سيذوق حر نار جهنم ذات
__________________
اللهب المشتعل
المتوقد ، قال أبو حيان : والسين للاستقبال ، وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن
إنجازه لا محالة ، وإن تراخى وقته.
وتصلى امرأة أبي
لهب معه أيضا النار ، وهي أم جميل أروى بنت حرب ، أخت أبي سفيان ، عمة معاوية بن
أبي سفيان. وامرأته : معطوفة على الضمير المرفوع فاعل (سيصلى) دون أن يؤكد الضمير
، بسبب الحائل الذي ناب مناب التأكيد.
وكانت أم جميل هذه
مؤذية رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها. قال ابن عباس : كانت تجيء
بالشوك ، فتطرحه في طريق النبي صلىاللهعليهوسلم وطريق أصحابه ليعقرهم ، فبذلك سميت حمالة الحطب. فهي حقيقة
كانت تحمل أنواع الحطب والأشواك للإيذاء. وقيل : إن قوله تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) استعارة لذنوبها التي تحطبها على نفسها لآخرتها. وقيل :
المراد أنها كانت تمشي بالنميمة ، فيقال للمشّاء بالنمائم ، المفسد بين الناس :
يحمل الحطب بينهم ، أي يوقد بينهم النائرة ، ويورّث الشر. وهذا رأي الكثيرين.
ولون العذاب أو
صفته ما عبر الله عنه بقوله : (فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ) (٥) أي في عنقها
حبل مفتول من الليف ، من مسد النار ، أي مما مسّد من حبالها ، أي فتل من سلاسل
النار ، وقد صورها الله تعالى ، في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا
عند النميمة ، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها ، ثم تلقيها في طريق
النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأن كل من أجرم في الدنيا يعذب بما يجانس حاله في جرمه.
قال ابن عباس وآخرون : الإشارة إلى الحبل حقيقة ، وهو الذي ربطت به الشوك وحطبه.
قال السدي : والمسد : الليف.
ولما سمعت أم جميل
هذه السورة ، أتت أبا بكر ، وهو مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المسجد ، وبيدها فهر (حجر) فقالت : بلغني أن صاحبك
هجاني ، ولأفعلن وأفعلنّ ،
وأعمى الله تعالى
بصرها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال لها : هل ترين
معي أحدا؟ فقالت : أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك.
قال سعيد بن
المسيب : كانت لأم جميل قلادة فاخرة ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها في عداوة
محمد ، فأعقبها الله حبلا في جيدها من مسد النار.
هذا اللون من
العنفوان والاستكبار ، وشدة العناد والإيذاء ، الصادر من أبي لهب وزوجته ، منشؤه
تراكمات الجهالة والوثنية والتقاليد الموروثة ، والحرص على الزعامة والسيادة. ولو
كان عند أبي لهب وامرأته وأمثالهما عقل واع ، وعلم كاف ، وحظ من التحضر والتمدن ،
لما كان لهما مثل هذا الموقف من داعية الهدى والرشاد ، والإنقاذ والنجاة.
وقد استنبط بعض
علماء أصول الفقه من آية (سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ) (٣) جواز التكليف
بما لا يطاق ، لأن أبا لهب مكلف أن يؤمن بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ومكلف أن يؤمن بهذه السورة وصحتها ، فكأنه قد كلف أن
يؤمن ، وأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، قال الأصوليون : ومتى ورد تكليف ما لا يطاق فهي
أمارة من الله تعالى أنه قد حتم عليه عذابه ، أي عذاب ذلك المكلف ، لقصة أبي لهب.
تفسير سورة الإخلاص
التوحيد والتنزيه
إن المبدأ الأساسي
في الاعتقاد : هو إعلان توحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به ، والإقرار باللسان ،
والتصديق بالقلب ، فهذا هو منطق الإيمان وجوهره ، فمن لم يؤمن بوحدانية الله ،
وأنه الإله والرب الذي لا شريك له ، ولا نظير ولا مثيل ، لم يكن من أهل الدين على
الإطلاق ، مهما حاول تعويض ذلك بشيء من الأوهام والطقوس والأقوال. لذا كانت سورة
الإخلاص المكية المسماة أيضا بالأساس معبرة عن ركن العقيدة ، وكانت تعدل ثلث
القرآن ، لأن أصول التشريع الإلهي ثلاثة : التوحيد ، وتقرير الحدود والأحكام ،
وبيان الأعمال ، أي العقيدة ، والشريعة ، والممارسة. أخرج البخاري وأبو داود
والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : «أن رجلا سمع رجلا يقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) يرددها ، فلما
أصبح ، جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فذكر ذلك له ، وكأن الرجل يتقالّها ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن».
ومضمونها يقتضي
الإخلاص في عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. قال ابن عباس رضي الله عنهما : «تفكروا
في كل شيء ، ولا تتفكروا في ذات الله عزوجل». وهذه السورة هي :
(قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))
[الإخلاص : ١١٢ /
١ ـ ٤].
أخرج أحمد
والبخاري والترمذي وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله عنه : أن المشركين سألوا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عن نسب ربه ـ تعالى عما يقول الجاهلون ـ فنزلت هذه السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس رضي الله
عنهما : أن اليهود دخلوا على النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا له : يا محمد ، صف لنا ربك وانسبه ، فإنه وصف
نفسه في التوراة ونسبها ، فارتعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى خرّ مغشيا عليه ، ونزل عليه جبريل عليهالسلام بهذه السورة : سورة الإخلاص.
وأخرج ابن جرير عن
أبي العالية ، وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : قالت الأحزاب
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : انسب لنا ربك ، فأتاه الوحي بهذه السورة.
والمعنى : قل أيها
الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته : هو الله أحد ، أي واحد فرد في ذاته وصفاته ،
لا شريك له ، ولا نظير ، ولا عديل ، ليس كمثله شيء ، وليس مركّبا ولا متعددا ، و (هُوَ) مبتدأ أول ، و (اللهُ) مبتدأ ثان ، و (أَحَدٌ) خبره ، والجملة : خبر المبتدأ الأول ، والتصدير بضمير
الشأن (هُوَ) للتنبيه على فخامة الكلام الآتي ، وبيان خطورته وروعته ، لأن
الضمير يدعوك إلى ترقب ما بعده. فإذا جاء تفسيره وتوضيحه ، تمكن في النفس تمكنا
تاما ، ولم يقل (الله الأحد) لأن المقصود إثبات أن الله جل جلاله واحد ، ليس
متعددا في ذاته ، فلو قيل : (الله الأحد) لأوهم التعدد ، والمقصود نفي التعدد الذي
كان المشركون يعتقدونه.
والله هو الصمد :
أي المقصود وحده في قضاء الحوائج ، لأنه القادر على تحقيقها.
__________________
فالصمد : هو الذي
يصمد إليه في الحوائج ، أي يقصد ، وصمد من باب نصر ، أي قصد.
والمعنى المراد :
هو الله الذي يقصد إليه كل مخلوق ، لا يستغني عنه أحد ، وهو الغني عنهم. وهذا
لإبطال اعتقاد المشركين العرب وأمثالهم ، بوجود الوسائط والشفعاء. قال ابن عباس في
تفسير الصمد : يعني الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم ، وهو السيد الذي
قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ،
والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل
في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه ، هذه صفته
، لا تنبغي إلا له ، ليس له كفء ، وليس كمثله شيء ، سبحان الله الواحد القهار.
وليس لله مصدر ولا
ذرية فهو (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ) (٣) أي إنه سبحانه
لم يصدر عنه ولد ، ولم يصدر هو عن شيء ، لأنه لا يجانسه شيء ، ولأنه قديم غير محدث
، لا أول لوجوده ، وليس بجسم. وهذا نفي للشبه والمجانسة ، ووصف بالقدم (الأزلية)
والأولية ، ونفي الحدوث. بل ونفي النهاية والفناء ، كما في آية أخرى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٥٧ / ٣].
ثم إن الجملة
الأولى (لَمْ يَلِدْ) ذات هدف مزدوج ، فهي نفي لوجود الولد لله ، ورد على
المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله ، وعلى اليهود القائلين : عزير : ابن
الله ، وعلى النصارى الذين قالوا بالتثليث ، وبأن المسيح ابن الله ، وعلى المانوية
القائلين بألوهية النور والظلمة ، وعلى الصابئة الذين يعبدون النجوم. وكذلك الجملة
الثانية مزدوجة الأثر : نفي لوجود الوالد ، وسبق العدم ، بمعنى أنه لم يكن غير
موجود ثم وجد.
ثم نفى الله تعالى
عن ذاته مشابهة الحوادث فقال : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) (٤) أي ليس لله
أحد يساويه ، ولا يماثله ، ولا يشاركه ، وهذا متعدد الهدف ، فهو نفي لوجود الصاحبة
، وإبطال لما يعتقد به المشركون العرب ، من أن لله ندّا في أفعاله (والند : النظير
والمثيل) حيث جعلوا الملائكة شركاء لله ، والأصنام والأوثان أندادا لله تعالى.
فهذه السورة تتضمن أن الله واجب الوجود ، ويحتاج إليه كل شيء موجود ، وهو منزه عن
كل ما لا يليق به ، وليس كمثله شيء.
ولهذه السورة
نظائر أخرى ، منها آية : (بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ٦ /
١٠١]. أي إنه مالك كل شيء وخالقه ، فكيف له من خلقه نظير؟!. جاء في صحيح البخاري :
«لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم».
تفسير سورة الفلق
التعوذ من شر الخلق
الله تعالى ملجأ
كل المخلوقات ، فهو الذي يمنع الشر والسوء ، ويحمي من كل أذى ، ويعافي كل مبتلى إن
شاء. وقد علّمنا كيفية اللجوء إليه في الأزمات المستعصية ، والتخلص من الأوهام
والتخيلات ، ومن تغوّل مردة الجن والشياطين ، وذلك في سورة الفلق المكية في قول ،
والصحيح أنها مدنية ، لأن اليهود سحروا النبي عليه الصلاة والسّلام في المدينة ،
وكذا سورة الناس مدنية على الصحيح ، فبعد أن شرح الله تعالى أمر الألوهية في
السورة التي سبقتها وهي سورة الإخلاص ، جاء بهذه السورة شرحا لما يستعاذ منه بالله
تعالى ، من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقات الله.
وسورة الفلق
والسورة التي بعدها وهي سورة الناس ، نزلتا معا ، كما في الدلائل للبيهقي ، فلذلك
قرنتا مع ما اشتركنا فيه من التسمية بالمعوذتين ، ومن الافتتاح بقل أعوذ. أخرج
مسلم والترمذي والنسائي وغيرهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط : قل أعوذ
برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس». وسورة الفلق هي :
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ
(٥))
[الفلق : ١١٣ / ١
ـ ٥].
نزلت هذه السورة ـ
كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ـ في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والنفاثات : بناته اللواتي كن ساحرات ، فسحرن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعقدن له إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله تعالى إحدى عشرة
آية بعدد العقد ، هي المعوذتان ، فشفي النبي صلىاللهعليهوسلم.
والنّفث : قيل :
هو شبه النفخ دون تفل ريق ، والأصح أنه مع الريق. وهذا النفث : هو على عقد تعقد في
خيوط ونحوها على اسم المسحور ، فيؤذى بذلك.
وقصة هذا السحر : أن
لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلىاللهعليهوسلم ـ ولكن لم يؤثر السحر فيه وعوفي منه ـ سحره في جفّ (قشر
الطلع) فيه مشاطة رأسه صلىاللهعليهوسلم ، وأسنان مشطه ، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز
بالإبر ، فأنزلت عليه المعوذتان ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد صلىاللهعليهوسلم في نفسه خفّة (نشاطا) حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فقام ،
فكأنما نشط من عقال. وجعل جبريل عليهالسلام يرقى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيقول : «باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر
حاسد وعين ، والله يشفيك».
وأنكر بعض
المعاصرين هذه القصة ، ورأى أنها من مفتريات اليهود ، ليشككوا الناس في النبي صلىاللهعليهوسلم ، وليلصقوا به السحر ، لأن الله تعالى يقول عن رسوله :
(وَاللهُ
__________________
يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٥ / ٦٧]
، ويقول : (إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ١٥ / ٩٥].
المعنى : قل أيها
النبي : ألجأ إلى الله ، وأستعيذ برب الصبح ، لأن الليل ينفلق عنه ، وبرب كل ما
انفلق عن جميع ما خلق الله أو انفلق عن غيره ، من الحيوان ، والنبات ، والحب ،
والنوى ، والمطر ، والولد ، وكل شيء يفلقه الله. وأعوذ بالله تعالى خالق الكائنات
من شر كل ما خلقه الله من جميع مخلوقاته. وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة
الظلمة عن وجه الأرض ، قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات والحسد والسحر والعين
ونحو ذلك عن الإنسان.
أخرج الترمذي
وحسنه ، والبيهقي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتعوذ من عين الجان ، ومن عين الإنس ، فلما نزلت سورتا
المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك».
وأخرج مالك في
الموطأ عن عائشة رضي الله عنها : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا اشتكى ، يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما
اشتد وجعه ، كنت أقرأ عليه ، وأمسح بيده ، رجاء بركتهما».
ثم بعد تعميم
الاستعاذة من جميع المخلوقات ، خص بالذكر ثلاثة أشياء ، لأنها أعظم الشرور وهي :
ـ وأعوذ بالله من
شر الليل إذا أقبل ، ودخل ظلامه في كل شيء ، وغشّى ما يحيط به ، لأن في الليل
مخاوف ومخاطر من سباع البهائم ، وهوام الأرض ، وأهل الفسق والفساد.
ـ وأعوذ بالله من
شر النفوس أو شر الساحرات ، لأنهن كن ينفثن (أي ينفخن) في عقد الخيوط ، حين يسحرن
بها. فالنفاثات : صفة للنفوس رجالا أو نساء.
والنفث : النفخ مع
ريق ، كما قال الزمخشري. وقيل هو شبه النفخ ، يكون في الرقية ، ولا ريق معه ، فإن
كان بريق فهو تفل ، والأول هو الأصح.
ـ وأعوذ بالله من
شر كل ذي شر ، ومن شر كل حاسد إذا حسد ، والحاسد : هو الذي يتمنى زوال النعمة التي
أنعم الله بها على المحسود.
قال قتادة : من شر
عينه ونفسه ، يريد السعي الخبيث والإذاية كيف قدر ، لأنه عدو مجدّ ممتحن.
هذه السورة رقية
ناجعة تفيد كل إنسان ، لوقايته من الشرور ، وحفظه من السوء ، وتخلصه من الحسد
والسحر والعين ، وغير ذلك ، والله على كل شيء قدير.
تفسير سورة الناس
الاستعاذة من شر الشياطين
على الرغم من تميز
الإنسان بالعقل والفكر ، والمحاكمة وموازنة الأمور ، فإنه لا سيما العامي ، يظل
ضعيفا ، تتغلب عليه الأهواء ، والشياطين من الإنس والجن ، فينقاد لها ، وتهيمن
عليه فيرتجف منها ، وتسيطر عليه ، فلا يستطيع الفكاك منها إذا لم يلجأ لربه ، أو
يعتمد على إيمانه وصلته بالله تعالى. وقد علّمنا الله تعالى طريق الاستعاذة ،
تفضلا منه ورحمة في سورة الناس التي هي على الصحيح كالفلق مدنية وليست مكية ، قال
ابن عباس وقتادة وجماعة عن سورة الفلق : إنها مدنية ، قال الألوسي : وهو الصحيح ،
لأن سبب نزولها سحر اليهود ، وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسّلام بالمدينة ، كما
جاء في الصحاح ، فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية ، وكذا الكلام في سورة الناس ، قال
قتادة : هي مكية ، والصحيح ما قال ابن عباس وغيره : هي مدنية ، وهذا نصها :
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ
الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ (٦))
[الناس : ١١٤ / ١
ـ ٦].
__________________
قل أيها الرسول :
ألجأ وأستعين بالله مربي الناس ومتعهدهم بعنايته ورعايته وخالقهم ، ومدبر أمرهم ،
ومصلح أحوالهم ، مالك الناس ملكا تاما ، وله السلطان القاهر ، وهو الإله المعبود
الذي يعبده الناس ، واسم الإله : خاص بالله ، لا يشاركه فيه أحد. وأما الملك : فقد
يكون إلها وقد لا يكون.
وهذه صفات ثلاث
لله عزوجل : الربوبية ، والملك ، والألوهية ، فهو رب كل شيء ، ومليكه
، وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له ، مملوكة عبيد له. وإنما قدم الربوبية
لمناسبتها للاستعاذة ، فهي تتضمن نعمة الصون والحماية والرعاية ، ثم ذكر الملكية ،
لأن المستعيذ لا يجد عونا له ولا غوثا إلا مالكه ، ثم ذكر الألوهية ، لبيان أنه
المستحق للشكر والعبادة دون سواه.
والسبب في تكرار
لفظ (النَّاسِ) هو مزيد البيان والإظهار ، والتنويه بشرف الناس ، فإنهم مخلوقات
الله تعالى. وإنما قال : (بِرَبِّ النَّاسِ) مع أنه رب جميع المخلوقات ، فخص الناس بالذكر للتشريف ،
ولأن الاستعاذة لأجلهم.
ـ ألجأ إلى الله
تعالى وأحتمي من شر الشيطان ذي الوسوسة ، الكثيرة الخنوس ، أي الاختفاء والتأخر ،
بذكر الله تعالى ، أو الراجع على عقبه المستتر أحيانا ، إذا ذكر العبد الله تعالى
وتعوذ ، وتذكّر فأبصر ، وإذا لم يذكر الله انبسط على القلب ، قال ابن عباس في هذه
الآية : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل ، وسوس ، فإذا ذكر الله
خنس.
وتذكر الله يفيد
التبصر ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ
مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٧ /
٢٠١].
وكذلك يخنس
الشيطان بلمّة الملك ، والحياء يردع ، والإيمان يزجر بقوة ، فتخنس العوارض
المتحركة ، والشهوات العارمة ، والغضب يسكن ، بذكر الله تعالى. وقد
سلط الله تعالى
الشيطان على الناس إلا من عصمه الله ، للمجاهدة والفتنة والاختبار ، ثبت في الحديث
الصحيح أنه : «ما منكم من أحد إلا وكّل به قرينه ، قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال
: نعم إلا أن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير».
وموضع وسوسة
الشيطان أوضحه الله تعالى بقوله (الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ) أي الذي يلقي خواطر السوء والشر في القلوب ، وإنما ذكر
الصدور لأنها تحتوي علي القلوب ، والخواطر محلها القلب ، كما هو المعهود في كلام
العرب.
والذي يوسوس نوعان
: جني وإنسي ، قال الله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) أي إن ذلك الموسوس إما شيطان الجن ، فيوسوس في صدور الناس
كما تفيد الآية المتقدمة ، وإما شيطان الإنس ، ووسوسته في صدور الناس أنه يري نفسه
كالناصح المشفق ، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ، فيجعله فريسة
وسوسة الشيطان الجني ، وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن ، وقد يكون من
الناس. وقوله : (مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) أي من الشياطين ، ونفس الإنسان ، ووسوسة الناس : إنما تكون
بأن يوسوس البشر بالخداع ، والدعوة إلى الباطل ، فهو في ذلك كالشيطان.
لكن ينبغي أن ندرك
أن وسوسة الشيطان ليست قهرية ، وإنما بسبب استجابة الإنسان واختياره لها ، فقد
يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين ، وقد يحذر عداوتهم ووسوستهم ، كما جاء في آية أخرى
: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء : ١٧ /
٦٥].
|