


بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف خلقه وأعزّ رسله محمّد وآله الطّيبين
الطّاهرين.
وبعد فهذا هو
الجزء الثامن من كتابنا بحوث في علم الأصول الّذي يتضمن بعض مباحث الأدلة العقلية
ـ القطع ، والتجري ، والعلم الإجمالي ، والّذي استفدناه من دروس سيّدنا وأستاذنا
الشهيد السعيد آية الله العظمى ، السيّد محمّد باقر الصدر «قدس سرّه» الّتي ألقاها
في دورته الأصولية الثانية ، وقد امتازت بالمنهجة والتهذيب والإبداع ، نقدّمها بين
يدي الباحثين والمحقّقين ، متوسلين إلى الله سبحانه ، أن يتغمد سيّدنا وأستاذنا
الشهيد برحمته الواسعة ، وأن يحشره مع آبائه وأجداده المعصومين ، إنّه سميع مجيب.
|
بيروت ـ حسن عبد الساتر
ذو القعدة ـ ١٤٢٢ ه
|
مقدمة
في تقسيم مباحث الحجج والأصول العملية
ذكر الشيخ «قده»
في مقام تقسيم وتصنيف الحج والأصول العملية :
إنّ المكلّف إذا
التفت إلى حكم شرعي ، فإمّا أن يحصل له القطع ، أو الظن ، أو الشكّ ، ثمّ فرّع على
كل واحد من هذه الأصناف أحكامها .
وكلامنا حول هذا
التقسيم لمباحث هذا القسم ، يقع في جهات.
١ ـ الجهة الأولى
: في المقسم ، وفيه بحثان :
١ ـ البحث الأول :
هو أنّ الشيخ «قده» جعل المقسم هو «المكلّف» ، إلّا أنّ صاحب الكفاية «قده» عدل عن
ذلك ، وعبّر بدلا عنه ، «بالبالغ العاقل الّذي وضع عليه القلم» . وكأنّ عدوله باعتبار مسألة لفظية ، حاصلها : إنّ المكلّف
ظاهر في فعليّة التلبس بالمبدإ ، وهو التكليف ، مع أنّ الواقعة الملتفت إليها قد
لا يكون فيها تكليف ، كما لو كان فيها ترخيص وإباحة ، ولأجل ذلك عبّر «بالبالغ
العاقل الّذي وضع
__________________
عليه القلم» ، ويراد بالقلم ، قلم التشريع والجعل ولو على نحو الترخيص
ليتلاءم المقسم مع سائر محتملات الواقع.
وهذا العدول في
محله ، لو كان المراد من المكلّف هو ، المكلّف في شخص هذه الواقعة ، أمّا لو ادّعي
أنّ المراد من المكلّف هو ، المكلّف في نفسه ، يعني من كان ملزما من قبل الشريعة
بما ألزم به النّاس من دون نظر إلى خصوص هذه الواقعة الملتفت إليها ، لما بقي
إشكال في جعل المكلّف مقسما.
وعلى أيّ حال :
فإنّ هذه المناقشة لفظية لا مضمون علمي لها ، وإنّما الّذي له مضمون علمي ، هو
التكلم في انّ هذه الوظائف المقرّرة في حالة القطع والظن والشك ، هل تختصّ
بالمكلّف ، أو أنّها قد تجري في حق من لم يكن مكلفا؟.
فعلى الأول : يكون
المقسم هو خصوص المكلّف ، وعلى الثاني : ينبغي أن يوسّع ، بحيث يشمل غير المكلّف.
والصحيح هو الثاني
، وانّ هذه الوظائف يمكن جريانها في شبهات حكميّة في حق غير المكلف ، وذلك بأحد
أنحاء.
١ ـ النحو الأول :
هو أنّه بعد الفراغ عن انّ رفع التكليف عن غير المكلّف ، ضرورة شرعية وعقلائية
بنحو القضية المهملة ، إلّا أنّه قد يفرض حصول الشك لغير المكلف في ارتفاع بعض
الأحكام عنه كما قد يقال بالنسبة للأحكام الشرعية الثابتة بقانون الملازمة بين حكم
العقل وحكم الشرع ، حيث يشكّ في انّ مثل هذه الأحكام ، هل هي مجعولة في حق كل
مميّز وإن لم يكن بالغا ومكلفا ، أو أنّها مجعولة في حق خصوص المكلف؟ فهذه شبهة
حكميّة قد تحصل لغير المكلّف ، ولا
__________________
توجد ضرورة على
خلافها ، وحينئذ ، فلا بدّ له من إعمال الوظيفة المقرّرة في مثل ذلك ، ويكون حاله
حال المكلف البالغ إذا حصلت له هذه الشبهة.
والوظيفة في
المقام بالنسبة لغير البالغ هو ، أن يرجع إلى إطلاق دليل «رفع القلم». فإنّه حاكم
على إطلاق أدلة الأحكام الواقعيّة ومخصّص لها فيما إذا لوحظ بالنسبة إلى مجموعها ،
هذا إذا لم يرد مقيّد لدليل «رفع القلم» في المقام ، وأمّا مع وروده ووجوده ،
فيثبت به وجود التكليف حتّى لو وجد ما يدلّ على نفي فعليّة العقاب بالنسبة لغير
البالغ ، حيث أنّه لا منافاة بين فعليّة التكليف ، واستحقاق العقاب ، وبين عدم
استحقاقه.
٢ ـ النحو الثاني
: وهو كما لو شكّ غير البالغ في وقت تحقّق البلوغ بنحو الشبهة الحكمية ، فلم يدر ،
هل انّ البلوغ يتحقّق بدخول الخامسة عشر أو بإكمالها؟ ، وحينئذ ، يحتاج إلى مؤمّن
، إمّا اجتهادا ، أو تقليدا ، أو احتياطا.
وحينئذ يقال :
إنّه إن كان لدليل الحكم الأولي إطلاق ، فيتمسك به ويثبت بذلك الحكم في حقّه لمجرد
الدخول في الخامسة عشر ، والمفروض أنّ أدلة إخراج البالغ مجملة ، فيكون المقام من
قبيل المخصّص المنفصل المردّد أمره بين الأقل والأكثر ، فبالنسبة للأكثر يتمسك
بإطلاق الدليل الأولي ، ومعه ، يثبت الحكم في حقّه.
وأمّا إذا لم يكن
للدليل الأولي إطلاق ، فيرجع إلى الأصول ، من الاستصحاب أو البراءة ومقتضى الأصول
، هو البراءة عن فعليّة التكليف.
٣ ـ النحو الثالث
: هو أن يشكّ غير البالغ في وقت تحقّق البلوغ
بنحو الشبهة
المفهومية ، كما لو شكّ في أنّ الشعر الّذي نبت له ، هل يتحقّق به البلوغ ، أو لا؟
وفي مثله : لا بدّ من حل هذه الشبهة اجتهادا ، أو تقليدا ، أو احتياطا ، والرّجوع
إلى الوظائف المقرّرة في مثل المقام.
ومرجع هذه الشبهة
في أكثر الحالات ، إلى وجود عام ، ومخصّص مجمل مفهوما ، يدور أمره بين الأقل والأكثر
، فالعام ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، والمخصّص المجمل مفهوما هو ما دلّ على أنّ من لم ينبت له
شعر لا تجب عليه الصّلاة.
وهنا يفرض إجمال
الشعر ، من حيث كون المراد به خصوص الخشن ، أو ما يشمل الناعم.
وحينئذ ، يدور
أمره بين الأقل والأكثر ، فإذا شكّ إنسان في أنّ ما نبت له من شعر ، هل يتحقّق به
البلوغ أو لا؟ فلا إشكال في أنّه يرجع إلى العموم ، وهو قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وبه يثبت وجوب الصّلاة على هذا الشاك ، هذا إذا لم نقل
بجريان الاستصحاب في الشّبهات المفهوميّة كما هو الصحيح.
وأمّا إذا بنينا
على جريان الاستصحاب فيها ، فإنّ مقتضاها عدم وجوب الصّلاة على هذا الشاك وذلك
باعتبار استصحاب عدم نبات الشعر الموجب للبلوغ ، وحينئذ ، فهذا الاستصحاب لو لا
عموم (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لجرى ونفى التكليف ، إلّا أنّه باعتبار وجود العموم هذا ،
لا بدّ له من ملاحظته بالنسبة إليه ليرى أيّهما المقدّم في المقام ، وهذا بحث كلّي
كان ينبغي ذكره في مباحث العام والخاص في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.
وحاصل الكلام في
ذلك : هو أنّه قد يقال أولا : إنّ الاستصحاب هو المقدّم في المقام على أصالة
العموم ، وذلك لأنّه يرفع موضوع
العموم ، فإنّ
موضوعه «من نبت له شعر موجب للبلوغ» ، والاستصحاب ينفي هذا الموضوع كما عرفت ،
ومعه لا يبقى مجال للتمسك بدليل العام ، فيكون الجاري في المقام هو الاستصحاب ،
وبذلك ينفى التكليف عن هذا الشاك.
وقد يقال ثانيا في
قبال ذلك : إنّ المقدّم هو أصالة العموم ، لأنّ مقتضاها بحسب مدلولها المطابقي هو
شمول الحكم لهذا الشاك ، وحينئذ ، فتدلّ بالالتزام على أنّ ما نبت له من الشعر
موجب للبلوغ ، ولوازم الإمارات حجّة ، ومعه يرتفع موضوع الاستصحاب ، إذ لا يبقى
شكّ في كون هذا الشعر موجبا للبلوغ وعدمه.
وقد يقال ثالثا :
بعدم تقديم أحدهما ، بل هما متعارضان.
وتقريب ذلك : هو
إنّ الاستصحاب في المقام ينقح موضوع عدم التكليف بالنسبة لهذا الشاك ، لأنّه يثبت
عدم نبات الشعر الموجب للبلوغ.
بينما أصالة
العموم ، فإنّها تثبت وجوب الصّلاة على هذا الشاك بمدلولها المطابقي ، إلّا أنّها
لا تدلّ بالالتزام على أنّ الشعر النابت موجب للبلوغ كما ادّعي ، وذلك لأنّها لو
دلّت بالالتزام على ذلك ، لكان منشأ هذا التلازم هو دليل الخاص القائل : «بأنّ من
لم ينبت له شعر فلا تجب عليه الصّلاة حتّى لو كان شاكّا» ، إذن ، فبضم هذا الخاص
إلى ذلك العام ، يثبت إنّ هذا الشاك لم ينبت له شعر موجب للبلوغ ، وإلّا لو قطعنا
النظر عن الخاص لما أمكن استفادة التلازم المذكور.
إلّا أنّ
الاستعانة بالدليل الخاص في مثل ذلك غير ممكن ، لأنّ الغاية من التمسك بهذا العموم
ليست إدخال الفرد المشكوك تحته ، بل إخراجه من تحته ، وإدخاله تحت العام الأولي ،
وهو (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ،
وهذا من قبيل
التمسك بالعام في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، وقد عرفت الكلام فيه
مفصّلا ، وأنّه غير ممكن.
وعليه : فلا يمكن
أن نثبت بالعام إنّ الشعر النابت لهذا الشاك موجب للبلوغ ، وعليه فلا ينتفي موضوع
الاستصحاب بل تبقى أركانه تامة ، كما أنّ أصالة العموم بمدلولها المطابقي تامة ،
فيقع التعارض بينهما.
والصحيح في المقام
هو ، انّ فرض جريان الاستصحاب في المقام ، مع فرض جريان أصالة العموم ، غير ممكن ،
لأنّ كلا منهما مبني على نقيض ما بني عليه الآخر ، وذلك لأنّه إذا فرض أنّ العام
بعد التخصيص قد تعنون بما عدا مدلول الخاص ، فحينئذ يتعيّن جريان الاستصحاب ، ولا
يمكن التمسك بالعام ، لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وإن فرض أنّ العام
يتعنون بما عدا القدر المتيقن من الخاص ، لا بما عدا مدلوله كما هو الصحيح في
موارد الشبهة المفهومية ، فحينئذ ، يتعيّن جريان أصالة العموم ، ولا يجري
الاستصحاب ، كاستصحاب عدم نبات الشعر الخشن ، لأنّه ينقح مدلول الخاص بما هو ،
وهذا المدلول ليس موضوعا لحكم شرعي كما عرفت. إذن فيرجع إلى عمومات التكليف.
٢ ـ البحث الثاني :
من الجهة الأولى : وهو لبيان أنّ المقسم ، وهو المكلّف ، هل يختصّ بخصوص المجتهد ،
أو أنّه يشمل مطلق المكلّف ولو كان عاميا؟.
وفي المقام ذهب
المحقق النائيني «قده» وغيره إلى اختصاصه بالمجتهد ، ولعلّ ذهابهم إلى ذلك باعتبار انّ هذه الوظائف المقرّرة
__________________
هي وظائف للمجتهد
، فلا بدّ أن يكون موضوع التقسيم هو المجتهد حينئذ.
وتحقيق الحال في
المقام ، يقع في مقامين.
١ ـ المقام الأول
: في أنّه ما هو مقتضى القاعدة والمنهجية في هذا التقسيم ، وهل أنّها تقتضي اختصاصه
بالمجتهد ، أو الأعم منه ومن المقلد؟
٢ ـ المقام الثاني
: هو في أنّ الوظائف المقرّرة في علم الأصول من قبيل جعل الحجيّة ، أو حجية الخبر
الواحد ، والطريقيّة ، أو الوظيفة العملية وما ينشأ من ذلك ويتفرع عليه من النتائج
، مع قطع النظر عن التقسيم وصحته هل تختصّ بالمجتهد ، أو أنّها تعمّ غيره؟
أمّا المقام الأول
: وهو البحث من زاوية هذا التقسيم ، فنقول : إنّه لا إشكال في أنّ المقسم ينبغي
شموله للعامي أيضا ، وذلك لأنّه يكون موردا لهذه الوظائف في موارد الشّبهات
الحكمية ، وذلك لأنّ غير المجتهد يعلم بأنّه مكلّف بأحكام ، فقد تحصل له القطع
بحكم من جهة كونه ضروريا كحرمة الخمر ، أو إجماعيا كحرمة العصير العنبي المغلي قبل
ذهاب ثلثاه ، وحينئذ ، يعمل على مقتضى قطعه.
وقد لا يحصل له
ذلك ، بل يحصل له الظن باعتبار فتوى مقلّده بعد أن حصل له القطع بحجيّة فتواه ،
ففي مثل ذلك ، يعمل بمقتضى ظنّه ويكون ظنّه حجّة.
وقد لا يحصل له
قطع ولا ظن ، فينتهي أمره إلى الشك ، وحينئذ ، لا بدّ وأن يستقل عقله ، إمّا
بالبراءة ، وإمّا بالاشتغال ، وإمّا بالتفصيل بين الموارد ، وإمّا بالتوقف ، ثمّ
يستقل عقله بحكم من الأحكام في طول التوقف.
وعليه : فمن ناحية
التقسيم لا ينبغي الاستشكال في عموم المقسم لغير المجتهد.
وعدم توفر بعض
مصاديق العلم أو العلمي في حقّ غير المجتهد ، لا يجعل غير المجتهد خارجا عن دائرة
المقسم ، ولا إلى تخصيص المقسم بخصوص المجتهد.
وأمّا المقام
الثاني : فتحقيق الحال فيه هو ، انّ دعوى اختصاص هذه الوظائف المقرّرة بالمجتهد ،
لم ينشأ من ناحية احتمال كون المجتهد قد أخذ موضوعا في لسان دليل تلك الخطابات ،
باعتبار أنّ عنوان المجتهد لم يؤخذ ، حيث لم يقل الشارع ، إنّ المجتهد لا ينقض
اليقين بالشكّ ، كما أنّه لم يقل : يا أيّها المجتهد «صدق العادل» ، وإنّما كانت
دعوى الاختصاص باعتبار أنّ بعض القيود المأخوذة في تلك الوظائف لا تحصل إلّا
للمجتهد ، فمثلا : «صدق العادل» ، وهو دليل حجية خبر الواحد ، أخذ في موضوعه الفحص
عن المعارض ، وهكذا حجية الظهور ، فإنّها مقيّدة بالفحص عن المخصّص والمقيّد
والحاكم ، وحجية الاستصحاب متقومة باليقين السابق ، وكل هذا من اختصاص المجتهد ،
ومن هنا قد ينشأ الإشكال في كيفيّة تحليل إفتاء المجتهد للعامي ، بعد الفراغ عن
أصل جواز رجوع المقلّد إلى المجتهد.
وتوضيح هذا البحث
هو ، إنّنا نقول : إنّ المركوز في الأذهان ، انّ إفتاء المجتهد للعامي يكون من باب
رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة ، كالرّجوع إلى الطبيب ، وهذا موقوف على وجود واقع
محفوظ مشترك بين الخبير وغيره حيث يدركه الخبير بنظره ولا يدركه الجاهل ، فيرجع
إليه حينئذ ، وهذا إنّما ينطبق في باب الرّجوع إلى المجتهد فيما إذا حصل القطع
الوجداني للمجتهد بالحكم الواقعي. فيفتي العامي به ولا إشكال ،
لأنّ المجتهد يكون
قد أدرك ما يكون مشتركا بينهما ثابتا في الواقع ، فيكون نظره مجرد خبرة وطريق
إليه.
وأمّا لو فرض عدم
حصول القطع الوجداني للمجتهد بالحكم الواقعي ، وإنّما أفتاه بما انتهى إليه نظره
استنباطا ، عن طريق وظيفة ظاهرية مقرّرة ، كرواية معتبرة سندا ، أو ظهور حجّة ، أو
أصل عملي انتهى إليه ، ونحو ذلك ، إذن ، فكيف يفتي غيره الجاهل الّذي لا يشترك معه
في مقومات تلك الوظيفة ، فإنّه حينئذ :
إن أفتاه بالحكم
الواقعي ، فهو إفتاء بغير علم ، لأنّ الحكم الواقعي غير معلوم لديه.
وإن أفتاه بالحكم
الظّاهري ، ففيه : إنّ الحكم الظّاهري مجعول بلسان «صدق العادل وأمثاله» ،
والمفروض انّ هذه الخطابات مختصّة بالمجتهد ، لأنّ موضوعه متقوّم به لا بغيره.
ويتحكم الإشكال
أكثر ، فيما لو فرض أنّ الحكم الّذي يريد الإفتاء به كان خارجا عن موضع ابتلاء
المجتهد ، كأحكام النّساء ، فإنّه لا يوجد في مثلها علم بحكم واقعي لكي يفتي به ،
والحكم الظّاهري غير ثابت في حقّه أيضا لكونه ليس محل ابتلائه ولا في حقّ العامي ،
لأنّ هذا الحكم مستنبط من وظائف مختصّة بالمجتهد.
ولهذا سمّيت هذه
المسألة ، بتحليل عمليّة الإفتاء ، فإنّه بعد الفراغ عن ثبوت حجيّة الفتوى فقهيا ،
نبحث عن كيفيّة تعقّلها وتخريجها صناعيا بنحو لا نحتاج فيه إلى إثبات عناية زائدة
علاوة على كبرى حجيّة الفتوى الراجعة إلى كبرى حجيّة رأي أهل الخبرة في حق غيرهم.
إذن فهذه شبهة لا
بدّ من حلّها ، وفي مقام حلّها يقع الكلام في ثلاث مقامات.
١ ـ المقام الأول
: وفيه يقرّب تخريج عملية الإفتاء في موارد الوظائف الظّاهرية على القاعدة حتّى لو
فرض اختصاصها بالمجتهد ، فيقال : بأنّه بناء على اختصاص الأحكام الظّاهرية
بالمجتهد لتحقّق موضوعه فيه دون المقلّد ، وهو بذلك يصبح عالما بالحكم الواقعي
المشترك بين المجتهد والمقلّد تعبّدا ، فيكون حاكما على دليل الإفتاء بالعلم
والخبرة بمقتضى دليل التعبّديّة ، فيفتي المجتهد مقلّديه بالحكم الواقعي المعلوم
لديه بهذا العلم ، وهذا أمر على القاعدة لا يحتاج فيه إلى عناية زائدة بعد فرض دلالة
دليل الحجيّة على الحجيّة والعلمية التعبّديّة ، وذلك كما لو ورد خبر واحد يدلّ
على وجوب السورة ، فيكون لدى المجتهد حكمان :
أحدهما : وجوب
السورة ، وهو حكم واقعي مشترك بين المجتهد وسائر المكلّفين.
وثانيهما : دليل
حجيّة خبر الواحد ، وهو حكم ظاهري مختصّ بالمجتهد ، ومعنى جعل الحجيّة هو جعل
الطريقيّة ، بمعنى اعتبار المجتهد عالما بالتعبّد بتمام مدلول الخبر ، وقد فرضنا
أنّ مدلول الخبر هو حكم واقعي مشترك بين المجتهد والعامي ، وحينئذ ، فيفتي المجتهد
العامي بهذا الحكم الواقعي ، ويكون إفتاؤه حينئذ عن علم وهذا أمر على القاعدة لا
يحتاج فيه إلى عناية زائدة ، غايته انّه علم تعبّدي حصل له بواسطة دليل حجيّة
الخبر ، وبهذا ينحلّ الإشكال.
إلّا انّ هذا
الجواب غير تام ، ويردّ عليه أولا : إنّ هذا الجواب لو سلّم ، فهو لا يتم بالنسبة
للأصول غير التنزيليّة ، لأنّ مؤدّاها حكما ظاهريا ، والحكم الظّاهري مختصّ
بالمجتهد حسب الفرض ، وحينئذ ، ففي مورد هذه الأصول ، إن أفتى بالحكم الواقعي ،
فيكون ذلك إفتاء بغير علم ، وإن أفتى بالحكم الظّاهري ، فالمفروض أنّه مختصّ
بالمجتهد.
وإن شئت قلت :
إنّه إنّما يتمّ هذا التخريج ، لو تمّت أصوله الموضوعية في خصوص باب الإمارات
المجعولة فيها الحجيّة والطريقية دون غيرها من موارد الأحكام الظّاهرية .
وثانيا : فإنّ هذا
الجواب إنّما يتمّ في الإمارات بناء على أنّ جعلها إنّما هو من باب الطريقية ،
ليكون مؤدّاها واقعيا ، وأمّا إذا كان بلسان جعل الحكم المماثل ، أو بلسان
المعذريّة والمنجزيّة ونحو ذلك ممّا هو مختار بعض العلماء ، أي أنّ الحجيّة تكون
بمعنى جعل ما ليس بعلم علما ، فلا يتمّ حينئذ هذا الجواب.
وثالثا : فإنّ هذا
الجواب لا يتمّ في الإمارات حتّى بناء على مسالك جعل الطريقيّة والعلميّة لها ،
وذلك لأنّ القطع «الموضوع» للحكم بجواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم ، لا يكفي
فيه مجرد كونه عالما كيفما اتفق ، بل لا بدّ وأن يكون عالما وقطعه عن خبرة وبصيرة
وكونه من أهل الفن ، لا مطلق القطع ، ومن هنا : لو قطع العالم بحكم عن طريق غير
معتبر كالرؤيا ، والرمل ، وحساب الأعداد وغيره ، فإنّ قطعه هذا حجّة على نفسه ،
لكن لا يجوز لغيره الرّجوع إليه في هذا الحكم ، لأنّه وإن كان عالما به ، إلّا أنّ
علمه ليس علم خبرة.
إذا عرفت ذلك نقول
: إنّ دليل حجيّة الخبر ، يجعل المجتهد عالما بوجوب السورة مثلا ، لكن لا يجعله
عالما عن خبرة ، أي أنّ دليل الحجيّة لا يعبد المفتي بكونه أهل خبرة وأهل الفن ،
وإن جعله عالما تعبّدا.
والحاصل : هو أنّ
الحكم الّذي هو عالم به عن خبرة هو مختصّ به ، والحكم الشامل له ولغيره ليس عالما
به علم خبرة.
__________________
نعم لو فرض أنّ
دليل حجيّة الخبر كان يدلّ أيضا على أنّ علمه علم خبرة ، بحيث يكون العلم قد أخذ
موضوعا فيه ، لكان كافيا في جواز الإفتاء ، لأنّ الإسناد ، موضوعه مطلق العلم ،
فيكفي فيه قيام الحجّة منزلة القطع الموضوعي.
وإلّا ، لو كان
الموضوع نفس الواقع ، فلا يتمّ هذا الجواب ، لأنّ هذا خروج عن فرض الكلام ، لأنّ
محل الكلام هو تصحيح الإفتاء على القاعدة بدون ضم مئونة زائدة ، والمفروض انّ
الفرض المذكور يرجع إلى فرض مئونة زائدة ، وعليه فهذا الجواب غير تام.
هذا ، مضافا إلى
ما ذكر من اعتراضات في المقام على أصل مبنى جعل الطريقية وقيام الحجج مقام القطع
الموضوعي ، من قبيل ، إنّ هذه الحكومة لا تتم في الأحكام الثابتة بدليل لبّي ،
كحجيّة الخبر أو الفتوى بناء على أنّ مدرك الحجيّة فيها هو السيرة العقلائية ، ومن
قبيل أنّ بعض الحجج ، «كالاستصحاب» لا يكون حجّة وقائما مقام القطع الموضوعي ـ فيما
لو قيل بقيامه مقامه ـ إلّا في طول قيامه مقام القطع الطريقي ، بحيث يكون للمستصحب
أثر عملي في حق المجتهد نفسه.
وهذا لا يكون في
موارد أحكام النّساء مثلا أو غيرها ممّا هو خارج عن محل ابتلاء المجتهد ، ولا يكون
ذا أثر عملي في حقّه كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
ويمكن أن يذكر
جواب ثان في المقام يخرّج بواسطته تصحيح إفتاء المجتهد للعامي ـ بناء على اختصاص
موضوع الحكم الظّاهري بالمجتهد ـ على القاعدة من دون افتراض عناية زائدة.
وحاصل هذا الجواب
يرجع إلى إمكان رجوع العامي إلى المجتهد في الحكم الظّاهري ، حتّى بناء على القول
باختصاص الحكم الظّاهري
بالمجتهد ، لكن
رجوعه إليه في ذلك في طول رجوعه إليه في حكم واقعي ، ويتضح ذلك من خلال بعض
الأمثلة.
١ ـ المثال الأول
: إنّ الماء إذا تغيّر بالنجاسة يتنجس ، ثمّ إذا زال تغيره يبقى على نجاسته ، وذلك
للاستصحاب ، وفي مثل ذلك يجوز للمجتهد أن يفتي العامي بالحكم الأول ، وهو تنجس
الماء بالتغيير ، لأنّ هذا حكم واقعي بنظر المجتهد قد علم به ، لكن تعبّدا ،
والحكم الواقعي مشترك بينهما كما تقدّم ، إذن فإفتاؤه به على القاعدة ، ويكون رجوع
العامي هنا رجوع إلى أهل الخبرة ، وبذلك يصبح العامي عالما بحدوث النجاسة ، وهذا
هو الرّكن الأول للاستصحاب ؛ فإذا زال التغيّر وشكّ العامي في بقاء النجاسة ،
فحينئذ يتحقّق لديه الرّكن الثاني للاستصحاب ، وحينئذ يمكن للمجتهد أن يفتيه
بالاستصحاب ، لأنّه خطاب مجعول في حقّ من كان على يقين فشكّ ، والمفروض أنّ العامي
كذلك ، وبهذا أمكن للمجتهد أن يفتي العامي بالحكم الظّاهري ، ويكون إفتاؤه على
القاعدة.
٢ ـ المثال الثاني
: موارد الإفتاء بوجوب الاحتياط للعلم الإجمالي ، كما لو رأت المرأة «دما» ولم تدر
ما هو ، فشكّت في جواز دخولها إلى المسجد ، وحينئذ ، فإذا رجعت إلى المجتهد فإنّها
لا تسأله عن هذا الحكم هنا ، بل تسأله عن ثبوت أحد حكمين في حقّها ، وهما : لزوم
تروك الحائض ، أو لزوم أفعال المستحاضة ، والمفروض أنّ المجتهد يعلم إجمالا بلزوم
أحد هذين الحكمين بعد علمه برؤيتها للدم المشكوك ، فيكون رجوعها إليه في ذلك ،
رجوعا إليه في نفس العلم الإجمالي الحاصل عنده وجدانا ، وفي هذا الحال ، هو يعلم
بوجوب الجامع بينهما ، فيفتيها به ، ويكون رجوعها إليه على القاعدة ، لأنّه رجوع
إلى أهل الخبرة ، وحينئذ ، يحصل لها بواسطة ذلك علم إجمالي تعبّدي بأحد الحكمين ،
ويكون ذلك منجزا.
٣ ـ المثال الثالث
: موارد الإفتاء بالأحكام المستنبطة من الإمارات ، كما لو قام خبر العادل عند
المجتهد على نجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يجد له مخصّصا ، وحينئذ ، فالعامي
يرجع إلى المجتهد في مسألة عدم وجود المخصّص ، وهذا رجوع إلى أهل الخبرة ، وبذلك
يشمله خطاب «صدق العادل» ، لتحقّق موضوعه ، فيتنجز في حقّه نجاسة العصير العنبي
إذا غلا.
٤ ـ المثال الرابع
: موارد الإفتاء بأصالة البراءة عند الشكّ في حرمة شيء وعدم وجود دليل على حرمته ،
فالعامي يرجع إلى المجتمع في مسألة الفحص عن دليل ، وهو رجوع على القاعدة كما
تقدّم ، وإذا ثبت لدى العامي عدم وجود دليل على الحرمة تعبّدا يشمله دليل البراءة
، وبذلك يصحّ للمجتهد أن يفتيه بمفادها ، وهو حليّة المشكوك في حرمته مع عدم وجود
دليل على حرمته.
غاية الأمر ، انّه
تبقى مسألة الاختصاص ، من ناحية عدم الفحص ، وفي هذه النقطة يقال : بأنّ دليل
الفحص يدلّ على لزوم فحص كلّ مكلّف بحسبه ، وفحص المقلّد ليس بالرّجوع إلى كتب
الفقه ، وإنّما هو بالرّجوع إلى المجتهد ، إذ برجوعه إليه وعدم وجدان ما يدلّ منه
على الخلاف ، يكون قد أكمل الفحص ، وبذلك يصير صغرى لكبرى الوظيفة الظّاهرية
المقرّرة ، بسبب قيام الإمارة أو الأصل الشرعي أو العقلي.
والخلاصة : هي
أنّه من غير ناحية الفحص ، يكون الاشتراك بين المجتهد والمقلّد في الوظيفة
الظّاهرية المقرّرة ثابتا لكون المجتهد عالما بموضوعه وجدانا.
وبذلك يكون
المقلّد برجوعه إلى العالم في ذلك هو عالم أيضا بالموضوع تعبّدا على القاعدة.
وأمّا من ناحية
الفحص ، فإنّه يقال بالاشتراك باعتبار أنّ فحص كل مكلّف بحسبه ، فبالنسبة إلى
المجتهد يكون فحصه بالرّجوع إلى كتب الأحاديث ، وأمّا بالنسبة إلى المقلّد ، فإنّ
فحصه يكون بالرّجوع إلى المجتهد.
وملاحظة أنّه لم
يجد معارضا أو حاكما ، فالمقلّد لا يجوز له الرّجوع إلى استصحاب بقاء نجاسة الماء
الّذي زال تغيّره بمجرد مراجعة مسألة نجاسة الماء المتغيّر ما دام متغيّرا ، بل لا
بدّ له أيضا من مراجعة المسألة الأولى في رسالة المجتهد ليرى هل هناك ما يكون
حاكما على هذا الاستصحاب في رأي المجتهد أم لا.
وهذا الجواب غير
تام :
أولا : لأنّ مجرد
مراجعة رسالة المجتهد في المسألة الثانية ، لا يكون فحصا عن الحاكم على الحكم
الظّاهري ليتنقح بذلك موضوعه في حق المقلّد.
وثانيا : لأنّ
لازمه عدم جواز إفتاء المجتهد للعامي إذا كان هناك من هو أعلم من هذا المجتهد ،
لأنّ هذا الوظيفة الظّاهرية إنّما تثبت في حق العامي إذا جاز له الرّجوع إلى
المجتهد في المسألة الأولى لكي يتنقح بذلك موضوع الحكم الظّاهري ، فإذا كان
المجتهد من لا يكون رأيه حجّة في حق العامي ، فلا يكون الحكم الظّاهري الثابت في
حق ذلك المجتهد ثابتا في حق العامي ، إذن فكيف يجوز للمجتهد الإفتاء به للعامي ،
مع أنّ هذا بحسب الارتكاز لا إشكال في عدم حرمة إفتائه ، وإن كان يوجد من هو أعلم
منه.
غايته : انّه لا
يجوز للعامي الرّجوع إليه وتقليده.
وتوضيحه : انّه في
المثال الأول ، وهو بقاء نجاسة الماء المتغيّر إذا
زال تغيّره ، فإنّ
إفتاء المجتهد بذلك فرع صيرورة العامي متيقنا بالحدوث ، وكونه كذلك ، فرع تقليده
له ، إذا فرض أنّ الأعلم لا يقول بذلك ، ومع عدم يقينه بالحدوث ، لا يمكن جريان
الاستصحاب في حقّه ، ومعه ، لا يمكن للمجتهد أن يفتيه بالاستصحاب ، مع أنّ المرتكز
جواز إفتائه ، غايته ، أنّه لا يجوز للعامي أن يقلّده به مع وجود الأعلم.
٢ ـ المقام الثاني
: في إمكان تصحيح إفتاء المجتهد للعامي بإضافة مئونة زائدة تستفاد من دليل جواز
التقليد إثباتا ، بعد عدم إمكان تصحيحه على القاعدة ثبوتا. والكلام في هذا المقام
مبني على اختصاص الأحكام الظّاهرية بالمجتهد أيضا.
وهنا قد يقال في
مقام تقريب ذلك : انّه يمكن استفادة مئونة زائدة من دليل جواز التقليد ، وهذه
المئونة الزائدة عبارة عن تنزيل فحص المجتهد منزلة فحص العامي ، بمعنى أنّه إذا
فحص المجتهد فيكون فحصه فحصا بالوجدان ، وفحصا للعامي بالتنزيل ، وكذا ينزل يقين
المجتهد بالحدوث منزلة يقين العامي به من حيث الأثر الشرعي ، وهو جريان الاستصحاب
، وبهذا يكون العامي مشمولا للوظائف المقرّرة الّتي ينتهي إليها المجتهد.
وهنا قد يقال :
إنّه في بعض الأحيان لا يوجد أثر شرعي للتنزيل ، مع أنّ التنزيل فرع وجود أثر شرعي
كما هو الحال بالنسبة إلى الوظائف العقلية ، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لو فرض
أنّه لم يصل البيان إلى المجتهد فيكون حكمه عقليا ، بواسطة هذه القاعدة ، فهنا لا
يمكن للشارع أن ينزّل العامي منزلة المجتهد في ذلك ، لأنّ الأثر عقلي ، ومثله
منجزيّة العلم الإجمالي.
وجواب ذلك : هو أنّ
مرجع التنزيل في مثل ذلك إلى أنّ الشارع يجعل حكما شرعيا مماثلا لحكم العقل ، بحيث
ينتج البراءة والاحتياط
الشرعيّين في حقّ
العامي ، ذلك لأنّ التنزيل بلحاظ الحكم العقلي غير معقول كما تقدّم.
وأمّا كيفية
استفادة هذا التنزيل إثباتا من دليل جواز التقليد ، فباعتبار أنّ المركوز في أذهان
المتشرعة من أدلة جواز التقليد هو ، أنّ العامي برجوعه إلى المجتهد يطبّق على نفسه
نفس ما يطبّقه المجتهد على نفسه إذا اتحدا في الشروط بحيث يثبت في حقّه نفس ما
يثبت في حقّ المجتهد من درجات إثبات الواقع أو التنجيز والتعذير عنه ، وهذا لا
يكون إلّا بعد افتراض انّ تمام الوظائف المذكورة الّتي يطبّقها المجتهد على نفسه
تنطبق على العامي ، وحيث أنّ هذه الوظائف بحسب أدلتها لا تنطبق على العامي ،
فنستكشف من دليل التقليد ثبوت هذا التنزيل والتوسعة في موضوع تلك الوظائف
الظّاهرية بالدلالة الالتزامية ، وانّ تطبيقها على العامي إنّما هو بعناية
التنزيل.
إلّا أنّ هذا
التقريب غير تام ، حيث يلزم منه لازمان لا يلتزم بهما.
١ ـ اللازم الأول
: هو ما تقدّم في المقام الأول من أنّ لازم هذا التخريج عدم جواز إفتاء المجتهد
غير الأعلم ، لأنّ جواز إفتائه للعامي فرع انطباق الوظائف المقرّرة الثابتة في حق
العامي ، وانطباقها عليه فرع تنزيل فحص هذا المجتهد أو يقينه منزلة فحص أو يقين
العامي أو علمه الإجمالي ، وهذا التنزيل استفيد من دليل جواز التقليد بحسب الفرض ،
ودليل جواز التقليد لا يشمل مثل هذا المجتهد ، لأنّه يوجد من هو أعلم منه أو أعدل
، والمفروض أنّه لا يجوز تقليد غير الأعلم ، ولازم ذلك ، عدم جواز إفتاء هذا
المجتهد أصلا ، لأنّ تلك الوظيفة لا تكون ثابتة في حق العامي كي يمكن أن يفتيه ،
وهذا خلاف المرتكز بين المتشرعة.
نعم لو كان مقتضى
الوظيفة الثابتة في حق المجتهد اعتباره عالما بالواقع ، جاز له حينئذ الإفتاء به.
٢ ـ اللازم الثاني
: هو أنّه بناء على هذا التخريج ، لا يمكن أن نستدل على وجوب التقليد بالسيرة
العقلائية ، مع أنّ هذه السيرة من أهم الأدلة على وجوبه ، وذلك لأنّ هذه السيرة
إنّما تدلّ على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة في مقام تشخيص الحكم
المشترك ، ولا تدلّ على التنزيل ، لأنّه حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي ، وحينئذ ،
ينحصر دليل التقليد بالدليل الشرعي الّذي يمكن استفادة التنزيل منه ، أو كما إذا
قيل بانضمام ما يشبه الإطلاق المقامي إلى ذلك حيث يقال : بأنّ هذه السيرة لو خلّيت
وطبعها لأوجبت رجوع العوام إلى المجتهدين كما يرجع إلى أهل الخبرة ولو غفلة عن
الفرق بينهما ، وحينئذ ، فسكوت الشارع عن ذلك ، مع احتمال كون الغفلة نوعية ، يكون
بنفسه دليل على الإمضاء لهذه السيرة ، وبذلك تكون دليلا على وجوب التقليد.
٣ ـ المقام الثالث
: في أصل منشأ هذا الإشكال ، وهو دعوى اختصاص الأحكام الظّاهرية بخصوص المجتهد.
فنقول : هناك عدّة
مواضع وأسباب تكون هذه الدعوة بلحاظها.
منها : دعوى إنّ
هذه الوظائف المقرّرة ، كالبراءة وغيرها من أدلة الأحكام الظّاهرية إمارة أو أصلا
قد أخذ في موضوعها وجوب الفحص ، والفحص مختصّ بالمجتهد.
ويمكن دفعه ، بأن
يقال : بأنّ الفحص بعنوانه لم يؤخذ في موضوع البراءة والاستصحاب ، وأصالة العموم ،
وغيرها من أدلة الأحكام الظّاهرية ، وإنّما المأخوذ في موضوع حجيّة أصالة العموم
هو خروج العام عن معرضيته للتخصيص بنظر الخبير بذلك ، فإذا فحص الخبير ولم يجد
مخصصا ، فإنّه حينئذ ، يتحقّق بذلك موضوع الحجيّة في حق الخبير وغيره ، وبهذا يثبت
أنّ الحكم الظّاهري غير مختص بالمجتهد ، وهكذا يقال في أصل البراءة وغيره ممّا أخذ
الفحص شرطا في موضوع حجيته.
إلّا أنّ هذا
الجواب غير تام : وذلك ، لأنّه إذا كان المقصود بالخبير هو مطلق المجتهد ، فمعنى
ذلك ، انّ أيّ مجتهد ولو كان واحدا فحص ولم يجد مخصصا ، فإنّه يتحقّق بذلك موضوع
الحجيّة والوظيفة الظّاهرية الثابتة بأصل أو إمارة حتّى بالنسبة لمن هو أعلم منه ،
بل حتّى لو فرض انّ هذا المجتهد الأعلم فحص ووجد مخصصا فإنّه لا يكون لذلك أيّ أثر
بالنسبة إليه ، لأنّ موضوع حجيّة العام قد تحقّق في حقّه بعدم وجدان ذلك المجتهد
غير الأعلم للمخصص ، فضلا عن العوام ، وهذا واضح البطلان.
وإن كان المقصود
بالخبير هو خصوص المجتهد الأعلم ، فلازم ذلك عدم جواز إفتاء المجتهد غير الأعلم ،
حتّى لو فحص ولم يجد ، لأنّ شرط الحجيّة هو فحص الخبير البصير ، بل لا يجوز له
أيضا العمل بتلك الوظيفة ، لأنّ الشرط بحسب الفرض فحص المجتهد الأعلم وعدم وجدانه
لا فحص من ليس بأعلم. وهذا الجواب بهذه الصياغة غير تام.
وما ينبغي أن يقال
في مقام الجواب : هو انّ حجيّة العام مشروطة بأمر واقعي ، وهو عدم وجود المخصص في
مظان وجوده ، سواء فحص أحد أو لم يفحص ، ونظر المجتهد وفحصه طريق لهذا الأمر
الواقعي لا موضوعا للحجيّة ومن هنا نرى اختلاف أنظار المجتهدين في وجود المخصص
وعدمه ، وعلى هذا تكون الوظيفة الظّاهرية حكما وموضوعا أمرا واقعيا مشتركا بين
المجتهد وغيره ، وإنّما نظر المجتهد يكون مجرد طريق إلى إحرازه موضوعا وحكما.
وحينئذ ، بناء على
ذلك ، إذا فحص المجتهد عن المخصص وجزم أو ظنّ ظنّا معتبرا بعدم وجوده ، يكون بذلك
قد أحرز موضوع حجيّة العام في حق الجميع ، وحينئذ يفتي العامي بالحجيّة ويكون ذلك
إفتاء بحكم ثابت في حق العامي بنظر المجتهد.
وإن شئت قلت : إنّ
الشرط أمر واقعي سواء فحص أحد أو لم يفحص ، ونظر المجتهد وفحصه طريق إلى هذا الأمر
الواقعي ، لا موضوعا للحجيّة ، وعلى هذا تكون الوظيفة الظّاهرية حكما وموضوعا أمرا
واقعيا مشتركا بين المجتهد والعامي ، ويكون نظر المجتهد مجرد طريق إلى إحرازه
موضوعا وحكما ، ويكون تقليد العامي له من باب الرّجوع إلى أهل الخبرة والعلم بهذا
الحكم المشترك لا الحكم الواقعي بالخصوص.
وهذا لا إشكال فيه
، وبهذا التقريب ، يمكن الجواب عن دعوى اختصاص الأحكام الظّاهرية بخصوص المجتهدين
، بسبب أنّ الفحص قد أخذ في موضوعها.
ومن جملة أسباب
دعوى اختصاص الأحكام الظّاهرية بخصوص المجتهدين هو ، انّ حجيّة هذه الأحكام مقيّدة
بالوصول والعلم ، ومن المعلوم انّ الحجيّة هذه إنّما تصل إلى خصوص المجتهد العالم
، فلا تعمّ العامي كما في الأحكام الواقعية.
والوجه في هذا
الاختصاص يقرّب بأحد تقريبين.
أ ـ التقريب الأول
: هو دعوى استفادة كون الحجّة مقيّدة بالوصول ، من لسان دليل الحجيّة ، باعتبار
انّ دليل الحجيّة يقول : «إذا جاءك خبر من الثقة فهو حجّة» مثلا ، وعنوان «جاءك»
إنّما يصدق على من وصله الخبر ، لا الخبر بوجوده الواقعي.
وجوابه : إنّ
عنوان «الوصول» أخذ طريقا إلى واقع تحقق الخبر في ألسنة الأدلة بحسب مناسبات الحكم
والموضوع العرفية ، ولهذا لم يؤخذ هذا العنوان في ألسنة بعض أدلة الأحكام
الظّاهرية ، وعليه فلا تكون الحجّة مختصّة بالمجتهد ، بل تشمل العامي لو أخبره
الخبير بالوصول.
ب ـ التقريب
الثاني : هو دعوى كون التقييد بالوصول مستفادا من حكم العقل
، باعتبار انّ
العقل يحكم بأنّ الأحكام الظّاهرية مجعولة للتنجيز والتعذير ، ولا تنجيز ولا تعذير
مع عدم الوصول ، وحينئذ فتختصّ الحجيّة بمن وصل إليه الخبر ، وهو المجتهد دون
غيره.
وجوابه : هو انّ
ما ذكر لا يقتضي أخذ الوصول الوجداني في موضوع الحجّة ، بل يقتضي أخذ مطلق الوصول
ولو التعبّدي الثابت في المقام بفتوى المجتهد ، وعليه فالوصول متحقق بالنسبة
للعامي ، فلا يكون جعلها بالنسبة إليه لغوا ، ومعه لا وجه لاختصاص الأحكام
المقيّدة بالوصول بخصوص المجتهد.
ومن جملة أسباب
دعوى اختصاص الأحكام الظّاهرية بخصوص المجتهد ، هو انّ الاستصحاب الّذي هو من
الأحكام الظّاهرية ، فتقوم بركنين.
أحدهما : أخذ
اليقين بالحدوث موضوعا في بعض الأحكام الظّاهرية.
والثاني : الشكّ
في البقاء ، ولا يقين بالحدوث إلّا بالنسبة للمجتهد فإنّ يقينه في ذلك محقق لموضوع
الوظيفة لا طريقا إلى إحرازه ، فيختصّ الاستصحاب به.
وجوابه : هو أنّه
سيأتي في محله إن شاء الله تعالى ، انّ اليقين بالحدوث ليس من أركان الاستصحاب ،
بل ركنه الأول هو نفس الحالة السابقة واقعا فيستصحبها ، ومعه يكون يقين المجتهد
بثبوت الحالة السابقة ـ وهو الحكم المشترك ـ طريقا إلى إحراز موضوع الوظيفة
الظّاهرية ، وبذلك تتم عنده حجيّة الاستصحاب لتوفّر موضوعه عنده ، فيفتي به
العامي.
ولو فرض أنّه
تنزلنا وقلنا بأخذ نفس اليقين موضوعا للاستصحاب ، فلا إشكال أيضا ، بناء على قيام
الإمارة مقام القطع الموضوعي واليقين السابق ، فإنّ يقين المجتهد بثبوت الحكم في
الحالة السابقة ، هو بنفسه يكون دليلا وعلما تعبّديا للعامي في إثبات الحالة
السابقة ، فيكون الرّجوع إليه في هذه المسألة محقّقا لموضوع الاستصحاب في المسألة
اللاحقة.
هذا غاية ما يمكن
أن يقال في مقام الجواب عن دعوى اختصاص الأحكام الظّاهرية بالمجتهد.
إلّا أنّه مع ذلك
، فهذه الأجوبة الثلاثة لا تكفي في تصحيح الإفتاء في بعض الموارد إلّا إذا ضمّ
إليها الجواب الثاني الّذي ذكرناه في المقام الأول.
وتوضيح ذلك هو ،
انّ المجتهد حين الإفتاء ، تارة يفتي بشيء يكون علمه طريقا إليه ، سواء أكان ما
أفتى به حكما واقعيا «كحرمة شرب الخمر» ، أو ظاهريا «كحرمة العصير العنبي إذا غلى»
، فإنّ إفتاءه بذلك إنّما هو لصحيحة زرارة ، فهي الحجّة في المقام ، وعلمه طريق
إلى هذه الحجّة ، وهذا الإشكال فيه.
وأخرى يفتي بحكم ،
ويكون هذا الحكم في طول علمه ، لا أنّ علمه كاشف عنه ، كما في موارد العلم
الإجمالي ، فإنّ الفقيه يفتي بأصالة الاشتغال باعتبار منجزيّة العلم الإجمالي ،
فحكمه بأصالة الاشتغال في طول علمه ، لا أنّ هذا الحكم منكشف بعلمه.
وحينئذ يقال : إنّ
الإفتاء بأصالة الاشتغال في طول حجيّة هذا العلم ، وهذا العلم هو حجّة في حق نفسه
فقط دون العامي ، إلّا إذا تعيّن على العامي تقليده ، ومن هنا لا ينحل الإشكال
إلّا بواسطة التقليدين الطوليّين كما عرفت في الجواب الثاني الّذي ذكر في المقام
الأول ، فإذا ضمّ ذلك الجواب الثاني إلى أحد هذه الأجوبة الثلاثة يندفع هذا
الإشكال.
وقد عرفت أنّ
الجواب الثاني وهذه الأجوبة الثلاثة كلّها على القاعدة لا تحتاج إلى مئونة زائدة.
ثمّ انّه يمكن أن
يصعّد هذا الإشكال أكثر ، بحيث يتخيّل عدم جواز عمل المجتهد المفضول برأيه ، فضلا
عن إفتاء غيره.
وتوضيح ذلك : هو
انّ المجتهد المفضول الّذي يوجد من هو أعلم منه ، تارة يعلم بأنّه مفضول ، وأخرى
يفرض أنّه جاهل مركب من هذه الناحية ، فيعتقد أنّه الأعلم ، فإن فرض الأول ، فهنا
أيضا ، تارة يفرض أنّه يوافق الأعلم في جميع آرائه ، وهذا لا كلام فيه ، وأخرى
يفرض أنّه يخالفه في بعض المسائل.
فإذا فرض أنّه
يخالفه ، فهنا يأتي الإشكال ، وذلك لأنّ هذا المجتهد المفضول لا يمكن له حصول
اليقين بالحكم مع التفاته إلى أمرين :
الأول : إنّه
مفضول.
والثاني : انّه
مخالف للأعلم ، في بعض المسائل.
والوجه في ذلك هو
، أنّه في صورة مباحثته مع الأعلم ، إن فرض أنّه كان يحتمل بأنّه يقنع الأعلم ، أو
أنّ أيّا منهما لا يقنع الآخر ، فهذا خلاف فرض كونه عالما بأنّه مفضول ، وإن فرض
أنّه كان يحتمل بأنّ الأعلم يقنعه ، فمعنى ذلك ، أنّه لا يحصل له يقين بما يراه في
نفسه ، ومعه لا يجوز له العمل برأيه ، لأنّ ما يحصل له ليس إلّا الظنّ ، وهو لا
يغني عن الحق شيئا ، وإذا لم يجز له العمل برأيه ، فلا يجوز له إفتاء غيره بطريق
أولى.
وهذا بنفسه يكون
برهانا على وجوب تقليد الأعلم ، وإن فرض الثاني ، وهو كون المفضول جاهلا بالجهل
المركب ، حيث يعتقد أنّه
أعلم ، فهنا : وإن
حصل له يقين ، ويكون يقينه هذا معذرا ومنجزا بالنسبة إليه ، إلّا أنّه لا يجوز
لغيره من العوام أن يرجعوا إليه بعد فرض اطلاعهم على كونه جاهلا مركبا.
وبهذا يتبرهن أنّه
لا يجوز تقليد المفضول بكلا قسميه.
وقد يقال في مقام
الجواب عن هذا الإشكال : بأنّ المفضول العالم بحقيقته ، إذا رجع إلى الأعلم ، فليس
معنى هذا أنّه يخطّئه في الحكم ، وإنّما يخرجه من موضوع إلى موضوع ، حيث ينقلب
حكمه الظّاهري ، لأنّه سوف يرتفع عدم وجدانه للحجّة على الخلاف بوجدانه لها ،
فمثلا : المفضول الّذي لا يجد دليلا على حرمة العصير العنبي إذا غلى ، تجري في
حقّه البراءة ، وهذا الأصل حينئذ جار في حقّه حقيقة ، لكنّه إذا رجع إلى الأعلم ،
فإنّه ينبّهه إلى وجود دليل على الحرمة لم يكن المفضول ملتفتا إليه ، فبهذا
التنبيه يخرج المفضول عن كونه موردا للبراءة ، لأنّه خرج عن كونه غير عالم بالحرمة
، إلى كونه عالما بها ، وهذا نقل له من موضوع إلى موضوع آخر وليس تخطئة له بالحكم
، لأنّ أصل البراءة كان جار في حقّه حقيقة قبل اطّلاعه على دليل الحرمة ، وعليه
فلا مانع من حصول اليقين بالحكم بالنسبة إلى المفضول.
إلّا أنّ هذا
الكلام غير صحيح :
أمّا أولا : فلأنّ
ما ينكشف بالمباحثة مع الأعلم قد لا يكون من باب رفع الموضوع ، بل قد يكون بتبديل
المحمول والحكم ، مع حفظ الموضوع ، كما لو كان هناك خطأ في تشخيص الحكم الواقعي أو
الظّاهري ، بأن كان قطعه به خاطئا ، كما لو كانت المسألة عقليّة ، كما لو فرض أنّه
كان يرى استحالة الترتب ، والأعلم يرى إمكانه ، فهو يحتمل لو تباحث معه لأقنعه
بإمكانه ، وهكذا لو كان جازما بظهور عرفي وهو غير صحيح ، وهكذا في كثير من موارد
الأحكام الواقعية والظّاهرية.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ ما مثّل به ، وهو حرمة العصير العنبي إذا غلى ، فهو أيضا غير صحيح ، لأنّ
هذا المفضول لم يكن من حقّه إجراء أصالة البراءة من أول الأمر ، وذلك لأنّ البراءة
مشروطة بالفحص ، ولمّا كان يعتقد بوجود من هو أعلم منه ، فلا بدّ وأن يرجع إلى
الأعلم قبل إجراء البراءة ، وعليه : فيرجع الإشكال.
ويمكن القول :
بأنّ مثل هذا المجتهد المفضول جاهل ، لأنّه لا يحصل له اليقين بالحكم ، وحينئذ ،
فيجب عليه التقليد فضلا عن عدم جواز إفتاء غيره والرّجوع إلى الأعلم من باب رجوع
الجاهل إلى العالم ، وبهذا تشكل العبارة الّتي تسطّر في إجازات الاجتهاد من «انّه
يحرم عليه التقليد» ، وإن كان في النّفس من العبارة شيء.
ويمكن الإجابة عنه
وتصوير إمكان حصول اليقين بالحكم بالنسبة للمفضول ، وذلك لأنّ كل ما تقدّم كان
مبنيا على كون المجتهد المفضول يعترف بكونه مفضولا ، وأمّا إذا كان لا يرى نفسه
مفضولا فلا إشكال بالنسبة إليه ، ولكن الإشكال حينئذ في تقليد العامي له ورجوعه
إليه حيث أنّه ليس من أهل الخبرة لكونه جاهلا بالنسبة إلى الأعلم ، إذ ما قد
يتيقّن منه من الحكم الأعمّ من الواقعي والظّاهري قد يكون نتيجة جهله المركب ،
ومثل هذا العلم المستند إلى الجهل المركب لا يكون مشمولا لدليل رجوع الجاهل إلى
العالم.
وتوضيح ذلك هو ،
أن يقال : بأنّ هذا الإشكال كان مبنيا على كون الأعلمية تقتضي وجود التفاتات
وانتباهات لدى الأعلم بها يمتاز الأعلم عن المفضول ، وكل هذه الالتفاتات واقعة في
موارد الاختلاف بين الأعلم والمفضول والّتي لأجلها قيل بعدم حصول اليقين للمفضول
ما دام يحتمل أنّ الأعلم يبينها له إذا رجع إليه.
وأمّا في موارد
الاتفاق ، فيكون بنفسه دليلا على التفاتهما
وتنبههما معا إلى
جميع هذه النكات ، إلّا أنّ فرض وجود هذه الانتباهات كلّها في موارد الاختلاف
بينهما أمر غير مبرهن ، لاحتمال أن تكون هذه الانتباهات كلا أو بعضا في موارد
الاتفاق ، إذ ربّما يتفقان في النتيجة مع خطأ غير الأعلم في طريقة الاستدلال
ومنهجيته ، وحينئذ ، فمن المعقول أن يحصل للمجتهد غير الأعلم يقين بالحكم الأعمّ
من الواقعي والظّاهري في مسألة ، بنحو يخالف رأي الأعلم رغم اعترافه بالمفضولية ،
وذلك لعدم احتمال أن يكون شيء من تلك الالتفاتات والانتباهات في تلك المسألة الّتي
خالف فيها الأعلم بالخصوص ، فإنّنا إذا أجرينا حساب الاحتمال يظهر أنّه لا مانع من
حصول اليقين للمفضول في الحكم في موارد الاختلاف مع الأعلم.
ولتوضيح ذلك ،
نذكر مثالا : لنفرض أنّ مجموع المسائل وعمليات الاستدلال المستنبطة في كل منها
كثيرة ، بحيث لا تشكّل موارد الاختلاف بينهما إلّا جزءا ضئيلا ، بحيث يكون احتمال
وقوع خطأ فيها ـ نتيجة عدم انتباهه ـ ضعيفا بدرجة يكون الاطمئنان على خلافه ،
فمثلا : لو فرض أنّ مجموع المسائل الشرعيّة تسعة ، ونفرض أنّ لكلّ مسألة خمسة أدلة
، ومعنى ذلك ، أنّه يوجد في كلّ مسألة خمس عمليّات استدلالية ، قد تكون خاطئة ،
وقد تكون صائبة ، وعليه : فيكون مجموع العمليات الاستدلالية في المسائل التسعة ،
خمسة وأربعون عمليّة ، وكل من الأفضل والمفضول مارس مجموع هذه العمليات ، وتبيّن
في النتيجة أنّهما اتفقا في ست مسائل ، واختلفا في ثلاثة منها ، وهذا المفضول يعلم
بوجود انتباهات لدى الأعلم قد غابت عنه ، ولنفرض أنّ تلك الانتباهات هي ثلث مجموع
العمليات الاستدلالية ، أي أنّه في كل ثلاث عمليات يعلم بوجود انتباه ، ونتيجة ذلك
، انّ ما يتميّز به الأعلم هو خمسة عشر انتباها ، وهذه الخمسة عشر يحتمل وجودها في
ضمن المسائل الاتفاقية ،
كما يحتمل وجودها
في ضمن المسائل الخلافية ، وبحساب الاحتمال ، نرى أنّ احتمال كون هذه الانتباهات
موجودة في المسائل الثلاث الخلافية ، هو احتمال ضعيف جدا ، بحيث أنّه يوجد اطمئنان
على خلافه ، لأنّه لو أخذنا المسألة السابعة وهي أول المسائل الخلافية بينهما ،
فإنّ هذه المسألة لها خمسة أدلة حسب الفرض ، وحينئذ ، كل واحد من هذه الأدلة يحتمل
أن يكون موردا لانتباه الأعلم ، وهذا الاحتمال يعادل واحدا على ثلاثة ٣ / ١ ، لأنّ
نسبة الانتباهات لعمليات الاستدلال بكاملها نسبة الثلث ، وهكذا بالنسبة لبقيّة
الأدلة الأربعة للمسألة السابعة ، وحينئذ ، فاحتمال كون مجموع الأدلة الخمسة
للمسألة السابعة موردا لتلك الانتباهات يعادل ٢٤٣ / ١ ، وهذا احتمال ضعيف ، يكون
على خلافه اطمئنان عادة ، وممّا يضعّف هذا الاحتمال أكثر هو ، أنّ المفضول في موارد
الخلاف يصرف جهدا أكبر ، وهذا بنفسه يبعد احتمال انطباق هذه الانتباهات على موارد
الخلاف ، وكذلك يضعّف هذا الاحتمال أحيانا ، أنّ المفضول الّذي خالف الأعلم ، قد
يكون في كثير من الأحيان موافقا لعلماء كثيرين ، هذا مضافا إلى أنّه ليس كلّ خلاف
بين شخصين ، يمكن حلّه بالمباحثة والمذاكرة ، كما لو كان الخلاف قائما على أساس
قطع وجداني نتيجة فهم خاص للأدلة يتعدّى مدلولها ، ففي مثله لا معنى لإقناع الأعلم
لغير الأعلم ، وكذا الحال في باب الاستظهارات العرفية ، فإنّها مبنيّة على نكات
ومناسبات لا يمكن كشفها في بعض الأحيان لكون الخلاف فيها يرجع إلى الخلاف في فهم
الذوق العقلائي وارتكازات العقلاء ، كما في باب العقود والمعاملات ، ومعه لا يمكن
الإقناع بها ، مضافا إلى ذلك ، إنّ كون الأعلم أقوى حجّة ، لا يلزمه إقناع الغير ،
لعدم الملازمة بين الأمرين.
إذن ، فمن مجموع
هذه الأمور يتبرهن أنّه في موارد الخلاف يمكن ولو بنحو الموجبة الجزئية ، حصول
الجزم واليقين للمفضول في مسائل
الخلاف ، رغم
اعترافه بأعلميّة الشخص الآخر ، ولكن كون ذلك كذلك مشروط بعدم كثرة المسائل
الخلافية بينه وبين الأعلم لأنّه كلّما كثر الخلاف بينهما ، كبر احتمال الخطأ في
رأي المفضول ، حيث يصير بنحو لا يمكن فيه حصول الجزم واليقين عنده ، وتتمة الكلام
في ذلك يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.
٢ ـ الجهة الثانية
: في تثليث الأقسام ، حيث جعلها الشيخ «قده» ثلاثة ، حيث ذكر «قده» انّ المكلّف ،
إمّا أن يحصل له القطع ، أو الظن ، أو الشك .
وقد اعترض على هذا
التقسيم باعتراضين.
١ ـ الاعتراض
الأول : هو أنّه إن أريد من الظن خصوص المعتبر منه ، فهو خلاف إطلاق كلمة «الظن»
في عبارة الشيخ «قده» ، وإن أريد منه طبيعي الظن ، أي الأعم منه ومن غير المعتبر ،
تداخل الظن مع الشك ، فإنّ الظن غير المعتبر كالشك من حيث الحكم ، لأنّ الأصول
العمليّة الثابتة في حال الشك ، هي أيضا تثبت في حال الظن غير المعتبر.
وقد يجاب عن ذلك ،
باختيار الشق الثاني ، وكون المراد من الظن هو طبيعي الظن ، ولا تداخل في المقام ،
لأنّ التقسيم وذكر الشك ليس بلحاظ ثبوت الأصول العمليّة للشاك ليردّ ما ذكر ، بل
ذكر هذه الأقسام إنّما هو بلحاظ الحجيّة ، وانّه تارة يكون ثبوتها واجبا كما في
صورة القطع ، وأخرى يكون ممكنا كما في صورة الظن ، وثالثة يكون ممتنعا كما في صورة
الشك ، لأنّ نسبة الشك إلى الطرفين على نحو واحد ، فيستحيل جعل الحجيّة في هذه
الصورة ، وعليه فلا تداخل في الأحكام.
__________________
إلّا أنّ هذا
الجواب غير تام ، فإنّ جعل الحجيّة في صورة الشك لا استحالة فيها ، حيث أنّه لا
يراد بها جعل لمجموع الاحتمالين ، لأنّ في ذلك تهافتا واضحا ، بل يراد جعلها
للاحتمال المساوي بنكتة طريقية نوعية أو بنكتة نفسية كما في جعلها لاحتمال بقاء
الحالة السابقة المساوي لاحتمال ارتفاعها.
والّذي ينبغي أن
يقال : إنّ المراد بالظن هو طبيعي الظن ، باعتبار أنّ الشيخ «قده» في مقام فهرسة
مواضيع كتابه حيث يشتمل على القطع أولا ، ثمّ الظن ، ثمّ الشك ، إذن فلا بدّ من
جعل موضوع القسم الثاني الظن ، لكي يبحث فيه عن اعتباره وعدمه ، وهذا معناه : إنّ
المراد بالظن في التقسيم ، هو طبيعي الظن ، لا خصوص المعتبر منه ، وعلى أيّ حال
فإنّ هذه مناقشة لفظية لا أثر عملي لها.
٢ ـ الاعتراض الثاني
: وهو لصاحب الكفاية «قده» .
وحاصله : إنّه لا
معنى لتثليث الأقسام ، لأنّ التثليث مبني على كون المراد من الحكم الملتفت إليه هو
خصوص الحكم الواقعي.
ولكن إرادة خصوص
الواقعي بلا موجب ، لأنّ المهم لدى المكلّف هو الأعمّ من الواقعي والظّاهري.
وبناء على ذلك ،
تكون القسمة ثنائية ، فيقال : إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإمّا أن يحصل
له القطع أم لا ، والظن المعتبر والشك الّذي تجري الأصول عند حصوله داخل تحت القطع
، لأنّه بالتالي قطع بالحكم الظّاهري ، وإذا لم يحصل للمكلّف مثل ذلك ، فيرجع
حينئذ إلى الوظيفة العقليّة ، حيث لا يبقى لديه حكم شرعي معلوم.
__________________
إلّا أنّ هذا
الاعتراض غير تام : لأنّه ليس الغرض من تثليثها عدم إمكان تثنيتها وتحصيل جامع
لتقليل الأقسام ، وإلّا لكان بالإمكان إرجاعها إلى قسم واحد هو تشخيص الوظيفة
الفعلية للمكلّف ، سواء كانت حكما شرعيا واقعيا أو ظاهريا شرعيا ، أو أصلا عقليا ،
بل الغرض من التثليث هو بيان الملاك والمناط في هذه الوظائف وإبراز موضوعاتها.
نعم ، يبقى هنا
الكلام في أنّ الحكم الملتفت إليه والّذي جعل متعلقا للقطع والظن والشك بعد الفراغ
عن تثليث الأقسام ، هل ينبغي أن يختصّ بالحكم الواقعي ، أو الأعم منه ومن الظّاهري؟.
والكلام في ذلك
يقع في جهتين :
١ ـ الجهة الأولى
: هي أنّه لو نظرنا إلى نفس منهجية التقسيم ، فهي تقتضي اختصاص الحكم بالواقعي ،
لأنّه لو عمّم الظّاهري ، للزم التداخل في الأقسام ، لأنّ من تقوم عنده إمارة على
وجوب السورة مثلا ، يكون قاطعا بالحكم الظّاهري ، وظانا بالحكم الواقعي ، فهو
بلحاظ الحكم الظّاهري ، يدخل في القسم الأول ، وبلحاظ الحكم الواقعي ، يدخل في
القسم الثاني ، وهذا تداخل ينافي منهجية التقسيم ، مع أنّ ما حصل لدى المكلّف
إنّما حصل له بلحاظ واقعة واحدة ، فيها تنجيز واحد وعصيان وإطاعة واحدة ، هذا
مضافا إلى أنّ ظاهر التقسيم هو ، التقابل بين الأقسام بلحاظ واقعة واحدة ، وعليه
فمن هذه الجهة لا يناسب التقسيم السالف ، بل ينبغي اختصاص الحكم بالواقعي.
٢ ـ الجهة الثانية
: هي أنّه لو قطعنا النظر عن نفس التقسيم ، ونظرنا نظرة ثبوتية إلى الوظائف من حيث
موضوع إجرائها ، فهل يختصّ بالأحكام الواقعية المشكوكة ، أو أنّه يمكن إجراؤها
بلحاظ الأحكام الظّاهريّة المشكوكة ، بحيث يكتفي بجريانها فيها عن إجرائها في
الحكم الواقعي؟
والّذي ينبغي أن
يقال في المقام هو ، التفصيل بين هذه الوظائف ، غير التنزيلية منها «كالبراءة
والاشتغال» ، وبين التنزيلية منها ، «كالاستصحاب وسائر الإمارات».
أمّا بالنسبة
للأصول غير التنزيلية ، كالبراءة ، والاشتغال ، فقد يتوهم إمكان ذلك في البراءة ،
بتقريب : انّه تارة يشك في وجوب السورة واقعا ، فتجري البراءة عن وجوبها الواقعي ،
وتارة أخرى يشكّ في وجوب الاحتياط في موارد الشك فتجري البراءة عن وجوب الاحتياط.
ومن المعلوم أنّ
وجوب الاحتياط حكم ظاهري ، ففي المقام جرت البراءة عن الحكم الظاهري كما جرت عن
الحكم الواقعي.
إلّا أنّ هذا
الكلام غير تام ، لأنّا نقول : إنّه في حالة إجراء البراءة عن الحكم الظّاهري ، هل
نجريها عن الحكم الواقعي المشكوك أم لا؟
فإن قيل بالأول ،
ففيه : إنّه إذا جرت في الحكم الواقعي ، فهذا وحده كاف ، لأنّه بإجرائها في الحكم
الواقعي يحصل التأمين ، ومعه لا يترقب تنجيز في مرحلة الظّاهر ، لأنّه ليس للظاهر
امتثال مستقل في قبال الواقع ، وعليه : فلا حاجة لإجرائها في الحكم الظّاهري.
وإن قيل بالثاني
ففيه : إنّ إجراءها عن الحكم الظّاهري وحده لا يكفي ، لأنّا نحتاج إلى مؤمّن
بالنسبة للحكم الواقعي ، ولا مؤمّن سوى البراءة ، وعليه : فالصحيح في المقام ، انّ
أصالة البراءة تجري في الحكم الواقعي ، والدليل الدال على جريانها فيه هو بنفسه
دليل اجتهادي على عدم وجوب الاحتياط بنحو الدلالة الالتزامية ، فدليل البراءة ينفي
الحكم الظّاهري التزاما ، باعتبار المنافاة بين الأحكام الظّاهرية العرضية كما هو
محقق في محله.
وبهذا يثبت أنّ
الحكم الظّاهري لا يكون موضوعا لأصالة البراءة على نحو الاستقلال.
وأمّا بالنسبة
لأصالة الاشتغال ، فقد يتوهم إمكان إجرائها في الحكم الظّاهري مستقلا ، بل قد يقال
بضرورة إجرائها في الأحكام الظّاهرية في بعض الأحيان حيث لا يمكن إجراؤها بلحاظ
الحكم الواقعي ، فحينئذ ، لا بدّ من إجرائها في الأحكام الظّاهريّة كما لو قامت
الحجّة ـ «البينة ـ مثلا ـ» الّتي هي حجّة ظاهريّة على حرمة أحد مائعين متردّدا
بينهما ، فهنا تجري أصالة الاشتغال باعتبار العلم الإجمالي ، ولا تجري بلحاظ الحكم
الواقعي المشكوك ، لأنّ الشبهة فيه بدوية ، فلا تكون مجرى لأصالة الاشتغال.
إلّا أنّ هذا
إنّما يتمّ إذا لاحظنا الحكم الظّاهري ، لأنّه لو لاحظنا الحكم الواقعي لما كان
عندنا علم إجمالي ، لاحتمال خطأ البينة في الواقع ، وإنّما العلم الإجمالي موجود
بلحاظ الحكم الظّاهري.
وعليه : فجريان
أصالة الاشتغال إنّما هو بلحاظ الحكم الظّاهري لا الواقعي.
إلّا أنّ هذا
الكلام توهم كما عرفت ، إذ بالإمكان إجراء أصالة الاشتغال بالنسبة إلى التكليف
الواقعي المشكوك بلا توسيط منجزية العلم الإجمالي بالحكم الظّاهري ، وذلك لأنّ نفس
قيام البينة على حرمة أحدهما يوجب سقوط الأصول المؤمّنة الجارية بلحاظ الواقع
المشكوك في الطرفين معا ، لاستحالة اجتماع مؤمّنين تعيينيين في الطرفين مع الحكم
الظّاهري التنجيزي المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين ، وبعد التساقط يثبت الاشتغال
، إمّا لإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا ، كما هو الصحيح عندنا ، أو لأنّ
العلم الإجمالي بالحجّة بنفسه يمنع عن جريانها حتّى لو قيل بجريانها في الشّبهات
البدوية ، لأنّ البيان المأخوذ في موضوع القاعدة أعمّ من العلم بالواقع أو العلم
بالحجّة ، وهذا وحده كاف فإنّ العلم بالحجة موجب لإجراء أصالة الاشتغال وتنجيز
الواقع
المحتمل وعدم
جريان الأصول المؤمنة بلحاظه بلا حاجة إلى ضم تنجيز العلم الإجمالي بالحكم
الظّاهري.
وبهذا يثبت أنّ
الحكم الظّاهري لا يكون موضوعا لأصالة الاشتغال على نحو الاستقلال بحيث يكتفي
بإجرائها فيه عن إجرائها في الحكم الواقعي ، هذا في الأصول غير التنزيلية.
وأمّا في الأصول
التنزيلية ، كالاستصحاب وسائر الإمارات ، فلا ينبغي الإشكال في إجرائها حيث يتعيّن
في بعض الأحيان أن يقع الحكم الظّاهري موضوعا لها على نحو الاستقلال ، كما لو
شكّكنا في بقاء حجيّة خبر الثقة ، فإنّه هنا يجري استصحابها مع انّ المفروض انّ
الحجيّة حكم ظاهري وهكذا ، وهنا لا يمكن إجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي المشكوك
بقطع النظر عن إجرائه في الحجيّة ، باعتبار أنّه إذا قطع النظر عن إجرائه في
الحجيّة فلا يقين بتكليف واقعي لا وجدانا كما هو واضح ، ولا تعبّدا ، إذ لا ثبوت
للحالة السابقة فيه كي تستصحب ، لا سيّما بعد فرض الشك في الحجيّة بقاء ، إذن ،
فلا بدّ من إثبات حجية ذلك الخبر بالاستصحاب ، كما أنّ العكس يصحّ أيضا ، حيث أنّه
يمكن أن نثبت الاستصحاب بخبر الثقة الّذي هو حكم ظاهري أيضا.
هذا مع العلم ،
بأنّ الأصول التنزيلية بما فيها الإمارات ، وإن كان جريانها بلحاظ الأحكام
الظّاهريّة ، إلّا أنّها تكون منجزة للواقع ومؤمّنة عنه ، إذ إجراؤها يكون تنجيزا
وتأمينا للواقع ولو بلحاظ شكّه في الحكم الظّاهري ، حيث أنّه لا تنجيز ولا تعذير
له ، ومن هنا ، لو فرض أنّ استصحاب الحجيّة كان مخالفا للواقع كما لو كانت الحجية
غير موسعة ، ولكن الحكم الواقعي كان ثابتا في هذا المورد ، كان المكلّف عاصيا لو
خالف هذا الاستصحاب حينئذ ، ولكنّه غير متجري.
وبهذا يتمّ الكلام
في التقسيم الّذي ذكره الشّيخ «قده» مع سائر ما
يتعلّق به. هذا
حاصل الكلام في الجهة الثانية وبها تمّ الكلام في التقسيم الّذي ذكره الشّيخ «قده»
مع سائر ما يتعلّق به ، ومن بعد هذا يقع الكلام في القسم الأول من الأقسام الثلاثة
وهو القطع.
ثم يقع الكلام على
القسم الثاني في الجزء التاسع من كتابنا هذا.
القسم الأول
مبحث القطع
وقد بحث فيه ،
أولا : عن أصوليّة هذه المسألة ، وهذا البحث موكول إلى ما تقدّم حيث ذكرنا في محله
الميزان في أصولية المسألة ، ومن الواضح أنّ ذلك الميزان لا ينطبق على القطع ،
وعليه : فيقع الكلام الآن في حجيّة القطع ، والكلام في ذلك يقع في جهات.
الجهة الأولى :
في أصل حجيّة القطع
وتوضيح الكلام
فيها هو ، أنّ الحجيّة لها معان ثلاثة.
١ ـ المعنى الأول
: الحجية المنطقية ، ويقصد بها البحث عن مدى إصابة القطع وحقّانيته ، وهنا يبحث
كليا عن مناشئ القطع ، حيث انّه قد ينشأ عن الإحساس والتجربة أو البرهان وغير ذلك
، فيبحث حينئذ عن أنّه من أيّ منشأ يكون مضمون الإصابة أكثر ، وهذا كما عرفت بحث
منطقي يسمي بنظرية المعرفة بحثناه في كتاب فلسفتنا وهو خارج عن غرض الأصولي وإن
كان سيقع الكلام فيه استطراقا عند مناقشة بعض علمائنا المحدّثين في علم الأصول ،
وكان هذا البحث يبحث قديما تحت عنوان صناعة البرهان في المنطق ، وأمّا حديثا فيبحث
تحت عنوان نظرية المعرفة.
ب ـ المعنى الثاني
: الحجيّة التكوينية ، ويقصد بها محركيّة القطع للقاطع نحو المقطوع بالنحو المناسب
لغرضه ، فالعطشان مثلا إذا قطع بوجود ماء في مكان ، فإنّ قطعه هذا يحركه إلى ذلك
المكان ، وهذا المعنى أيضا خارج عن غرض الأصولي.
ج ـ المعنى الثالث
: هو الحجيّة الأصوليّة ، والّتي يهتمّ الأصولي
بإثباتها ، وهي
عبارة عن المعذريّة والمنجزيّة في علاقة العبد مع مولاه في مقام الامتثال ، وهذا
المعنى هو المبحوث عنه عند الأصولي.
وقد استدلّ بعض
العلماء على حجيّة القطع بهذا المعنى بقاعدة قبح الظلم وحسن العدل ، بتقريب : انّ
العبد إذا قطع بتكليف مولوي ، كانت مخالفته لما قطع به ظلم لمولاه ، وإذا فرض أنّه
قطع بترخيص ، كان جريه على طبق ما قطع به ، عدل.
وبما أنّ العدل
حسن ، والظلم قبيح ، فيجب الجري على طبق القطع ، وبهذا تثبت منجزيّته ومعذريته ،
وتكون بذلك حجيّة القطع من صغريات قاعدة حسن العدل ، وقبح الظلم ، وبهذا يكون فاعل
الحسن مستحقا للمدح والثواب ، وفاعل القبح مستحقا للذمّ والعقاب ، ومن هنا اختلفت
مبانيهم في حجيّة القطع بحسب اختلافهم في مباني هذه المسألة ، فمن جعل منهم قبح
الظلم وحسن العدل من الأمور الواقعيّة المدركة عند العقل من قبيل الإمكان ،
والامتناع ، كانت حجيّة القطع عنده كذلك أيضا ، ومن ذهب منهم مذهب الفلاسفة ، من
أنّ حسن العدل ، وقبح الظلم حكم عقلائي وإنّما حكم به العقلاء حفظا لنظامهم ، كانت
حجيّة القطع لديه من القضايا المشهورات كما في مصطلح المناطقة ، وهي القضايا
المجعولة من قبل العقلاء.
والتحقيق : هو انّ
هذا الاستدلال غير منهجي ، لأنّه إن أريد بهذا الكلام التنبيه للمرتكزات الموجودة
في الأذهان وإلفات الخصم إلى استحقاق الثواب والعقاب في الجري على طبق القطع أو
مخالفته فلا بأس بذلك.
وأمّا إذا أريد به
الاستدلال على المنجزيّة والمعذريّة ، فهذا غير صحيح منهجيا.
والوجه في ذلك هو
، انّ قاعدة قبح الظلم أخذ في موضوعها عنوان الظلم الّذي هو عبارة عن سلب ذي الحق حقّه
، وعليه : ففي المرتبة السابقة على تطبيق هذه القاعدة ، لا بدّ من إثبات حقّ للآمر
على المأمور ، وهو حق الطاعة والمولوية لكي نفترض مخالفته سلبا لحقّه وإلّا لم يكن
ظلما فيما إذا لم نثبت حقا للآمر على المأمور ، وحينئذ ، فإن أريد بنفس تطبيق
قاعدة قبح الظلم ، إثبات حق الطاعة والمولويّة ، فهو دور واضح ، لأنّ هذه القاعدة
فرع ثبوت حق الطاعة والمولوية كما عرفت.
وإن أريد بهذه
القاعدة ، الاستدلال على ما ذكر بعد الفراغ عن ثبوت حق الطاعة والمولويّة ، فهو
حشو من الكلام ، لأنّه بعد الفراغ عن حق الطاعة للمولى على العبد ، لا يبقى أيّ
داع للاستدلال على وجوب الطاعة ، إذ بعد افتراض وجدانية القطع لدى القاطع لا نحتاج
إلى شيء آخر حيث لا يراد بالمنجزية إلّا حقّ الطاعة ولزوم الامتثال ، والمفروض
انّنا قطعنا بذلك صغرى وكبرى.
وإن شئت قلت : إنّ
الصحيح بحسب منهجية البحث هو أن يقال : إنّه عندنا كبرى ، وهي مولوية هذا المولى
ووجوب إطاعته ، وهذه الكبرى قد فرغ عنها في علم الكلام ولا معنى لبحثها هنا ،
وعندنا صغرى لهذه الكبرى ، وهي القطع بالتكليف ، وهذا القطع موجود وجدانا ، لأنّ
المكلّف حسب الفرض قاطع بتكليف من قبل هذا المولى ، وبعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى
تثبت المنجزية أو المعذرية كما لو قطع بالترخيص ، ومعه لا يبقى ما يحتاج إلى ضمّه
في مقام انتزاع منجزية القطع ومعذريته.
والنتيجة هي إنّنا
لا نحتاج إلى توسيط عنوان قبح الظلم ، وجعله دليلا على حجيّة القطع ، بعد أن كان
جريان قبح الظلم فرع ثبوت مولوية
المولى وحق الطاعة
، اللهمّ إلّا أن يراد بذلك مجرد تنبيه المرتكزات الموجودة في الأذهان وإلفات
الخصم إلى استحقاق المثوبة على موافقة القطع ، والعقوبة على مخالفته كما تقدّم ،
فلا بأس بذلك حينئذ.
وتفصيل الكلام في
ذلك ، هو أنّ مرجع المولويّة إلى حقّ الطاعة ، فإذا كان لشخص على آخر حقّ الطاعة
بمرتبة من المراتب ، فيكون مولى له بمرتبة من المراتب ، وهذه المولويّة على ثلاثة
أقسام :
١ ـ القسم الأول :
المولويّة الذاتية الثابتة في لوح الواقع ، بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل ، ويكون
حالها حال الملازمة بين العلّة والمعلول ، فكما انّ هذه الملازمة أمر واقعي ثابت
في لوح الواقع وإن لم يوجد أيّ معتبر ، كذلك هذه المولويّة الذاتية ، ومثل هذه
المولوية مخصوصة بالله سبحانه وتعالى ، فبحكم مالكيّته للكون ومن وما فيه ، يكون
له مثل هذه المولويّة الحقيقيّة.
وهذه المولويّة
الحقيقيّة ، تفترض المولوية التشريعيّة على ضوء المولويّة التكوينيّة ، فكما أنّ
إرادته نافذة في الكون ، كذلك إرادته التشريعيّة نافذة تكوينا ، بمعنى أنّ له حق
الطاعة على كل من يريد منه تشريعا شيء من الأشياء.
وهذه المولويّة
ثابتة حتّى بقطع النظر عن وجوب شكر المنعم ، الّذي خرّج علماء الكلام على أساسه
وجوب معرفة الله تعالى ولزوم طاعته ، لأنّ مسألة شكره شيء ، ومسألة مولويّته
الحقيقيّة شيء آخر.
كما انّ هذه
المولويّة يستحيل أن تكون مجعولة من قبله سبحانه ، لأنّ معنى ذلك ، أنّه في
المرتبة السابقة على جعله لهذه المولويّة لم يكن مولى ، ومعه لا يمكن نفوذ حكمه
بمولوية نفسه ، فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
إذا عرفت ذلك ،
وانّ هذه المولوية غير مجعولة أصلا ، وإنّما إدراكها عند العقلاء على حدّ إدراكهم
للقضايا الواقعية الأخرى ، حينئذ نقول : إنّ القطع دائما يحقق صغرى هذه المولوية
الراجعة إلى حقّ الطاعة ، وذلك بسبب كاشفيّة القطع التكوينيّة ، ومن هنا يتضح ،
انّ حجيّة القطع ذاتية غير قابلة للجعل أصلا ، لأنّ حجيته كما عرفت مرجعها إلى
كبرى هي المولوية المذكورة ، وهي غير قابلة للجعل كما تقدّم ، وإلى صغرى هي
كاشفيّة القطع وهي تكوينيّة ، ولا معنى لجعل كاشفيته التكوينيّة.
وبهذا يتضح أنّ
حجيّة القطع في مثل المقام ذاتية.
٢ ـ القسم الثاني
: المولويّة المجعولة من قبل المولى الحقيقي ، كمولويّة النّبيّ أو الوليّ عليهمالسلام على كلّ النّاس ، المجعولة من قبل الله سبحانه ، وكذا
مولويّة الأب على الابن على القول بها ونحو ذلك.
ولمّا كانت هذه
المولويّة مجعولة ، فيمكن للجاعل أن يجعلها في صورة قطع المولّى عليه بالتكليف ،
وفي صورة ظنّه ، أو شكّه ، كما أنّه بالإمكان أن يجعلها في صورة الظن أو الشكّ دون
القطع ، ولا لتهافت ، لأنّ هذه المولويّة ليست من لوازم النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو الوليّ عليهالسلام أو الأب ، وإنّما هي مجعولة ، والجاعل يمكنه التحكم في ذلك
، فهي تتبع في السعة والضيق مقدار جعلها.
نعم القدر المتيقن
عقلائيا من وجوب الإطاعة هو ، صورة القطع ، وعليه فحجيّة القطع في مثل ذلك تكون
قابلة للجعل ، فإذا شملته دائرة الجعل يكون حجّة ، وإلّا فلا حجيّة له.
٣ ـ القسم الثالث
: المولويّة المجعولة من قبل نفس العبد على نفسه أو العقلاء على أنفسهم ، كما لو
جعل شخص لآخر حق الطاعة
على نفسه لشخص آخر
، باعتبار ما له من خبرة ومعرفة مثلا ، أو كما في الموالي والسلطات الاجتماعية
الوضعية ، فإنّ هذه المولوية أيضا تتبع مقدار الجعل والعقد والاتفاق العقلائي.
ثمّ انّ هذه
المولويّة الذاتية الثابتة لله سبحانه والراجعة في حقيقتها إلى حق الطاعة ، هي
ثابتة في صورة القطع بالتكليف ، أو الظن ، أو الشك ، أو الوهم إذا قطعنا النظر عن
الأصول المؤمّنة ، وعليه فمن شكّ في التكليف يتنجز عليه وجوب امتثاله ، باعتبار
انّ هذه المولوية تقتضي عدم جواز التصرف في أيّ شيء يرجع إلى المولى إذا لم يعلم
برضاه في ذلك ، وهذا يقتضي منجزيّة الوهم كما هو واضح.
وأمّا ما يذكر من
أنّه لا يجب امتثال غير ما قطع بالتكليف به ، لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان
تقتضي قبح العقاب في صورة الظن غير المعتبر والشك فضلا عن الوهم ، ففيه :
إنّ هذا تضييق
لمولويّة المولى ، لأنّ مرجعها إلى انّ هذا المولى ليس له حق الطاعة إلّا في تكليف
قطع به ، وهذا على خلاف ما هو الصحيح من معنى المولويّة الذاتية والحقيقيّة
الراجعة إلى حق الطاعة.
ومن هنا أنكرنا
قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما ستعرف تحقيقه إن شاء الله تعالى.
وإلى هنا اتضح أنّ
للمشهور طريقا في تصوير حجية القطع ، ولنا طريق آخر في تصويره ، حيث أنّ المشهور
اعتمدوا قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بينما نحن أنكرناها في الشّبهات البدوية.
وهذا الاختلاف سوف
يترتب عليه كثير من الثمرات في كثير من البحوث الآتية.
وتفصيل الكلام في
ذلك : هو أنّ المشهور فرّقوا بين أمرين ، حيث
ميّزوا بين
مولويّة المولى ، وبين منجزية أحكامه كما لو كان عندهم أمران متغايران ، أحدهما ،
مولويّة المولى الواقعية ، فهي عندهم أمر واقعي مفروغ عنه ولا نزاع فيه لكن لا ربط
له بحجيّة القطع ومنجزيته ، والأمر الآخر هو ، منجزية القطع وحجيته ، وهو أمر آخر
لا ربط له بمولوية المولى.
وفي مقام بيان
منجزية القطع وحجيته ذكروا أنّ التكليف إنّما يتنجز بالوصول والقطع ، ولهذا حكموا
بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، دون أن يروا انّ هذا تفصيل في مولويّة المولى وحق
طاعته.
وقد عرفت سابقا
انّ هذا المنهج غير صحيح إذ المنجزية الّتي جعلوها أمرا ثانيا إنّما هي من لوازم
أن يكون للمولى حق الطاعة على العبد في مورد التنجيز ، إذ أيّ تبعيض عقلي في
المنجزية ، هو تبعيض في المولويّة.
ومن هنا كان لا
بدّ من جعل منهج البحث ابتداء ، عن دائرة مولويّة المولى وحق طاعته ، وبيان حدودها
، وذلك ضمن فرضيات :
أ ـ الفرضية
الأولى : هي أن تكون مولوية المولى أمرا واقعيا ، موضوعها واقع التكليف ، بقطع
النظر عن درجة الانكشاف به.
وهذا فرض واضح
البطلان ، لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزا وتكون
مخالفته عصيانا ، وهو خلف معذريّة القطع ، وهو باطل.
ب ـ الفرضية
الثانية : هي أن تكون مولوية المولى وحق طاعته في خصوص ما يقطع به ويصل إلى
المكلّفين.
وهذا هو روح مذهب
المشهور ، وهو يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول ، وموارد الظن
والشك.
وهذه الفرضية نرى
بطلانها أيضا ، لأنّا نرى أنّ مولويّة المولى هي من أكمل مراتب صفاته الذاتية ،
ومن ثمّ يكون حقّه في الطاعة على العباد من أكبر الحقوق وأوسعها حيث تشمل كل
الموارد ، لأنّه ناشئ من المملوكيّة والعبوديّة الحقيقيّة.
ج ـ الفرضية
الثالثة : هي أن تكون مولوية المولى في حدود ما لم يقطع بعدمه.
وهذه المولويّة هي
الّتي ندّعيها لمولانا سبحانه ، وهي الّتي على أساسها أنكرنا قاعدة «قبح العقاب
بلا بيان» والّتي اعتمدها المشهور للتبعيض في المولوية.
ولعلّ المشهور قاس
مولويّة مولانا سبحانه وتعالى على بعض المولويات العرفية العقلائية الّتي لا تثبت
في غير موارد وصول التكليف.
نعم لو أنّ
المشهور قال : بأنّ الشارع أمضى السيرة والطريقة المتعارفة في المولويات الثابتة
عند العقلاء وما تقتضيه ، لما كان هناك بأس بذلك ، ويكون مرجع ذلك في الحقيقة عند
عدم وصول التكليف ، هو البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء مولانا سبحانه
للسيرة العقلائية.
ومن هنا وعلى هذا
الأساس يكون هناك فرقان بين القطع وبين غيره من الظن والشك والوهم.
أ ـ الفرق الأول :
هو أنّ القطع حجّة في جانب التنجيز والتعذير بخلاف المراتب الأخرى الّتي لا يكون
في مواردها إلّا التنجيز ، لأنّ القطع بالتكليف بشيء يدخله في دائرة حق الطاعة ولا
يشمل موارد القطع بالترخيص ، فإنّ القطع بعدمه يخرجه عن هذه الدائرة ، وهذا ليس
تبعيضا في مولوية المولى بل هو تخصّص كما سيأتي من استحالة محركيّة مولوية المولى
في مورد القطع بالترخيص ومن هنا كان معذرا.
أمّا غير القطع ،
فهو حجّة في جانب التنجيز دون التعذير ، أمّا الأول فلما عرفت ، وأمّا الثاني ،
فلأنّه ما لم يرد دليل شرعي على وجوب العمل على طبقه فلا يكون معذرا.
ب ـ الفرق الثاني
: هو أنّ منجزية غير القطع من الظن والاحتمال قابلة للردع عنها شرعا ، وذلك بجعل
ترخيص ظاهري على خلافه ، وهذا الحكم الترخيصي يسمّى بالحكم الظّاهري ، وهو مورد
شبهة ابن قبة في كيفية الجمع بين الحكم الظّاهري والحكم الواقعي ، فإن أمكن
الإجابة عن هذه الشبهة ، يتبرهن حينئذ قابلية غير القطع للردع عن منجزيته ، أمّا
منجزية القطع فلا يمكن الردع عن منجزيته.
وهذا هو الّذي وقع
موردا للخلاف بين الأصوليين والإخباريين في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب
والسنّة حيث ذهب الأصوليون إلى عدم إمكان الردع عنه ، وذهب الأخباريون إلى إمكان
ذلك ، بل ذهب بعضهم إلى وقوعه ، ورتّبوا على ذلك انّ القطع إذا حصل من غير طريق
الأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنّة فهو غير حجّة.
والحاصل هو ، أنّه
هل يمكن ردع الشارع عن العمل بالقطع ، كما كان يمكنه الردع عن العمل بالظن
والاحتمال ، بمعنى أنّه في موارد الإمارات الظنيّة والاحتماليّة بإمكان الشارع أن
يجعل حكما ظاهريا على خلافها ، ويسمّى بالحكم الظّاهري ، ويكون تعطيلا لحجيتها ،
فهل يمكن هذا في موارد القطع وذلك بأن يجعل الشارع حكما على خلاف التكليف المقطوع
به ، بحيث يوجب ردع القاطع عن العمل بقطعه وإسقاطه عن الحجيّة؟.
وقد ادّعى
الأصوليون استحالة ذلك ، وحاولوا إقامة ثلاثة براهين عليه.
١ ـ البرهان الأول
: هو أنّه لو جعل الشارع حكما على خلاف
المقطوع به ، للزم
في فرض إصابة القطع للواقع ، اجتماع الضدين واقعا ، فلو قطع المكلّف بالوجوب مثلا
، وفرض أنّ الشارع ردع عن العمل بذلك وأبطل منجزيته ، وذلك بجعل ترخيص على خلافه ،
فهذا القطع حينئذ ، إن كان مطابقا للواقع ، فيلزم اجتماع الضدين ، الوجوب المقطوع
به مع الترخيص المجعول ردعا للقاطع ، ويلزم هذا سواء في حالة الإصابة ، أو في نظر
القاطع في فرض الخطأ وكلاهما محال ، لأنّ القاطع هو قاطع بثبوت الوجوب ، فإذا جعل
في حقّه الترخيص ، إذن يلزم أن يكون قاطعا باجتماع الضدين ، وهما الوجوب والترخيص
، سواء كان قطعه مصيبا أو لا ، وهو محال كما تقدّم والقطع بوقوع المحال ، محال.
٢ ـ البرهان
الثاني : هو أنّ الردع من قبل الشارع عن التكليف المقطوع به ، مناف ومناقض مع حكم
العقل بحجيّته ومنجزيته ، فيكون مستحيلا ، لأنّ الشارع لا يعقل أن يحكم بحكم يكون
مناف لحكم العقل ، وقد فرضنا أنّ العقل يستقل في المقام بحجية القطع ، إذن ، فمع
استقلاله وكون الحجيّة من ذاتيات القطع غير القابلة للانفكاك عنه ، حينئذ يكون حكم
الشارع مستحيلا ، لأنّه إن أريد بذلك الحكم الشرعي إزالة الحجية الذاتية حقيقة فهو
تفكيك بين الذات والذاتي وهو غير معقول لأنّ الحجيّة ذاتية ، وإن أريد جعل هذا
الحكم الشرعي في قبال الحجيّة الذاتية عقلا فهو حكم شرعي معارض مع حكم العقل لأنّه
جمع بين النقيضين وهو مستحيل أيضا. ويستحيل صدوره من الشارع.
٣ ـ البرهان
الثالث : هو أن يقال : إنّ الردع عمّا قطع به يلزم منه نقض الغرض ، وذلك لأنّ
المولى بعد فرض إنّنا قطعنا بأنّه جعل الوجوب واقعا ، فإذا رخّص بمخالفته ، حينئذ
، يتوجه سؤال :
وهو أنّه لما ذا جعل
الوجوب إذن ، وما الغرض من جعل الحجيّة
للقطع؟ إذ ليس
الغرض إلّا التحرك على طبقها ، وبجعله الترخيص يبطل هذه المحركية ويسدّ كل أبوابها
لا محالة.
هذا حاصل الكلام
في البراهين الثلاثة ، ولا بدّ من التعليق على كلّ واحد منها.
أمّا البرهان
الأول : وهو اجتماع الضدين ، وهما التكليف المقطوع به ، والحكم بالترخيص الّذي هو
ردع عن العمل بالقطع ، فإنّ طرز هذا البرهان كالشبهة الّتي أوردت على جعل الأحكام
الظّاهريّة عموما في موارد جعل الإمارات والأصول العملية عند الظن والشك ، فهناك
قيل أيضا بأنّ حكم الشارع بالترخيص على طبق خبر الثقة فيما لو كان مخالفا للواقع
يلزم منه اجتماع الضدين ، لأنّه في الواقع إذا كان الفعل الفلاني محرم ، وقد حكم
الشارع بالترخيص فيه فيلزم اجتماع الضدين ، وهذا أحد شبهات ابن قبة في جعل الأحكام
الظّاهرية ، فصياغة الشبهة هنا متقاربة مع صياغتها هناك.
والجواب هو أن
يقال : بأنّ التضاد بين الحرمة المقطوعة ، وبين الترخيص المفروض على القاطع ، تارة
يدّعى بلحاظ المبادئ ، أي بلحاظ عالم الملاك ، فيقال : إنّ الحكم بالحرمة مضاد
للترخيص في عالم المصلحة والمفسدة ، لأنّ الحرمة ناشئة عن المفسدة والترخيص ناشئ
عن المفسدة ، إذن فهما متهافتان في عالم المبادئ ، وأخرى يدّعى التضاد بلحاظ عالم
المحركيّة والتنجيز خارجا في مقام الامتثال ، بأن يقال : بأنّ هذين الحكمين في
عالم التنجيز والتحريك متضادان ، لأنّ أحدهما يمسك بالمكلّف ، والآخر يطلق له
العنان ، إذن فهما متضادان في عالم الامتثال.
فإن ادّعي الأول ،
أي التضاد بحسب عالم المبادئ كما ادعي ذلك في الجمع بين الأحكام الظّاهرية
والواقعية في موارد الإمارات
الظنيّة
والاحتمالية ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة الأجوبة والمسالك الّتي عولج بها هذا
التضاد في الجمع بين الأحكام الظّاهرية والواقعية في ناحية المبادئ وكيف تمّ
التوفيق بينهما.
وحينئذ ، نرى انّ
نفس العلاج الجاري هناك على بعض المسالك يجري هنا ، وإن كان على المسلك الصحيح في
علاج التضاد هناك فإنّه لا يجري هنا نفس العلاج ، فهذا البرهان ، وهو برهان التضاد
غير قابل للتكميل في جملة من المسالك ، وعلى جملة من المسالك غير قابل للعلاج هناك
، وعلى سبيل المثال نذكر مسلكين من تلك المسالك الّتي لم يتم فيها هذا البرهان.
١ ـ المسلك الأول
: القائل باختلاف مرتبة الحكم الظّاهري عن الحكم الواقعي في دفع شبهة ابن قبة ،
حيث لا يكون تضاد بين الأحكام الواقعية والظّاهرية ، وذلك باعتبار تعدد المرتبة
بينهما ، لأنّ الحكم الظّاهري ليس في مرتبة الحكم الواقعي ، لأنّ الحكم الظّاهري
متأخر عن موضوعه مرتبة ، إذ موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم
الواقعي متأخر عن نفس الحكم الواقعي تأخر العرض عن معروضه ، إذن فالحكم الظّاهري
متأخر بمرتبتين عن الحكم الواقعي ، لأنّه متأخر عن موضوعه بمرتبة ، وموضوعه متأخر
عن الحكم الواقعي بمرتبة ، إذن فلم يجتمع الحكم الواقعي والحكم الظّاهري في مرتبة
واحدة ، وحينئذ ، فلا تضاد بينهما ، لأنّ التضاد فرع وحدة المرتبة.
وهذا المسلك ، كل
من يجري عليه هناك فهو ملزم أن يجري عليه هنا حيث يقال : بأنّ نفس التعدد الرتبي
موجود هنا أيضا ، فإنّ الترخيص هنا في طول موضوعه وهو القطع بالحرمة ، وهو متأخر
مرتبة عن ذلك ، والقطع بالحرمة متأخر عن الحرمة تأخر العرض عن معروضه ، إذن
فالترخيص مع هذه الحرمة ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين.
فمن يسلك هذا هناك
لا بدّ وأن يقول بالتضاد هنا ، إذن فلا يمكن التمسك بهذا المسلك.
٢ ـ المسلك الثاني
: وهو مسلك من يتخلص من التضاد في المبادئ بدعوى ، أنّ الحكم الظّاهري ليس مضادا
للحكم الواقعي ، لأنّه لا مبادئ للحكم الظّاهري في متعلقه أصلا ، باعتبار أنّ
الأحكام الظّاهرية تنشأ من مصلحة في نفس جعلها لا من مصلحة متعلقاتها.
وحينئذ بناء على
هذا يدفع التضاد بين الأحكام الظّاهرية والواقعية ، وسوف نذكر مزيد تحقيق لهذا
المطلب. وحينئذ من يلتزم بهذا المسلك ، أيضا لا بدّ وأن يلتزم به هنا ، فيقال :
بأنّ الحرمة الواقعيّة المقطوعة ناشئة من مبادئ في متعلقها ، لكن الترخيص المشرّع
للقاطع ، من حيث أنّه ناشئ من مصلحة في جعله ، فحينئذ لا تضاد بينهما ، بل جريان
نفس المسلك هنا هو أحد أدلة بطلانه ، حيث أنّ وجدانية عدم إمكان جعل حكم ظاهري على
خلاف الحكم الواقعي المقطوع به ، هو بنفسه دليل على الصور تلك المسالك وعجزها عن
حلّ وعلاج مشكلة الجمع بين الأحكام الظّاهرية والواقعية.
نعم على المسلك
الصحيح كما سيأتي بيانه ، سوف يظهر أنّه لا ينطبق على محل الكلام.
إذن يحتاج حساب
الموقف إلى حساب المسالك الّتي عولج بها شبهة التضاد بين الأحكام الظّاهرية
والواقعية لنرى ، أنّه هل يمكن إجراء روحه أو لا.
وإن ادّعي الثاني
أي التضاد بلحاظ عالم الامتثال ، أي عالم التنجيز والمحركيّة بين التكليف المقطوع
والترخيص المترتب.
وهنا الموقف أشدّ
غموضا منه في موارد الأحكام الظّاهرية المجعولة
في موارد الإمارات
والأصول ، لأنّه هناك عند ما عالجوا هذا قالوا : بأنّه لا تضاد بينهما بلحاظ عالم
الامتثال ، بدعوى انّ التكليف الواقعي باعتباره غير واصل لا يكون منجزا فلا امتثال
له ، بخلاف المقام ، فإنّ المفروض فيه وصول الحكم الواقعي إلى المكلّف ، بالقطع
وتنجّزه.
إذن فهذه الصيغة
مع ذلك ، لا تنطبق في المقام ، لأنّ التكليف الواقعي هنا واصل إلى المكلّف ، كما
أنّ الترخيص كذلك واصل إليه ، إذن فيبقى التضاد بينهما ، وحينئذ يقال : بأنّهما
متضادان في مقام التأثير العملي ، لأنّهما معا واصلان.
إلّا أنّه مع ذلك
التضاد الموجود في هذه المرتبة ، فإنّ حساب هذا المطلب يرجع إلى أنّنا يجب أن
نقدّر مقدار محركيّة التكليف الواقعي المقطوع به الّتي هي فرع منجزيته ، وحينئذ ،
إذا كان هذا الترخيص الشرعي بالخلاف صالحا لرفع منجزية القطع ، إذن ، لم يبق لهذا
القطع محركيّة ليلزم التضاد ، لأنّ محركيّته فرع منجزيّته ، وحينئذ ، يصبح المقطوع
كالمظنون ، ليس له مقام تنجيز وعمل.
نعم لو لم يقدر
هذا الترخيص الشرعي على رفع حجيّة القطع وبالتالي منجزيّته ، يبقى التضاد واقعا
بينهما لا محالة ، وهذا معناه : أنّ روح هذا يرجع إلى البرهان الثاني ، وهو ما
يقال : من أنّ حكم الشارع بالترخيص على خلاف التكليف المقطوع غير معقول ، لأنّه لا
يمكن أن يزيل حكم العقل بالحجيّة ، لأنّ هذا ذاتي للقطع ، والذاتي لا ينفكّ ولا
يتخلّف ، ومعه يكون معارضا له ، فيرجع هذا التضاد بلحاظ عالم الامتثال إلى البرهان
الثاني.
٢ ـ البرهان
الثاني ، وحاصله : انّ حجيّة القطع ذاتية ، لكن هل أنّ الحجيّة بالنسبة إلى القطع
، نسبتها إليه ، هل هي نسبة المقتضي إلى المقتضى ، أو نسبة المعلول إلى العلّة
التامة؟ ، فمثلا : الحرارة ذاتيّة
للنّار ، لأنّ
النّار حارة بالطبع ، والبرودة ذاتيّة للماء ، لأنّه جسم بارد بالطبع ، لكن
الحرارة ذاتية على نحو العلّة التامة ، ونسبة البرودة إلى الماء نسبة المقتضى إلى
المقتضي ، أي أنّه لو خلّي الماء وطبعه فهو بارد ، لكن يمكن أن يتخلّف ، إذن ،
فالذاتي على نحوين.
وحينئذ يحتاج إلى
استئناف بحث ، في أنّ الحجيّة ، هل هي ذاتية عليّا ، أو أنّها ذاتية اقتضائيا؟.
فإذا كانت ذاتية عليّا ، فهذا معناه : انّ حكم العقل بالحجيّة يكون تنجيزيا ،
وأمّا إذا كانت الحجيّة اقتضائية ، فهذا معناه : انّ العقل يحكم بالحجيّة
التعليقية ، بمعنى أنّه على تقدير عدم المانع يحكم العقل بحجية القطع ، بأن يفرض
انّ العقل يرى انّ القطع حجّة ما لم يجيء ترخيص على خلافه ، حيث أنّ مجيء الترخيص
على خلافه يرفع موضوع الحجيّة.
ومرجع هذا الكلام
، إلى أنّ حجيّة القطع لا بدّ من حسابها ، وهل أنّها تنجيزية أو تعليقيّة ، فعلى
الأول تكون نسبتها إلى القطع نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، وحينئذ ، يكون
الترخيص مناف ومضاد للحجيّة ، وإذا كانت حجيّة القطع اقتضائية تعليقيّة ، تكون
نسبتها إلى القطع نسبة المقتضى إلى المقتضي ، وحينئذ لا يكون الترخيص مناف ومضاد
لحكم العقل.
وبناء عليه : فهذا
المقدار لا يكفي للبرهنة إذن ، ما لم يتحقّق أنّ نسبة الحجيّة هي نسبة المعلول إلى
العلّة التامة ، وإلّا فلا تنافي ولا تضاد.
والحاصل هو ، أنّ
البرهان الثاني بهذا المقدار الّذي عرفت هو غير تام أيضا ، لأنّ ما ذكر فيه من انّ
إزالة الحجيّة عن القطع تفكيك بين الذات والذاتي ، والعلّة والمعلول هو ، غير كاف
في البرهنة ، وإنّما يصلح للبرهنة فيما لو كانت علّية القطع للتنجيز علّية تامة لا
علّية اقتضائية
معلّقة على عدم
ورود الترخيص الشرعي بالخلاف ، بعنى أن يكون حكم العقل بالحجية والتنجيز تنجيزيا
لا تعليقيا كما هو الحال في موارد الاحتمال المنجز في موارد الشك في الامتثال ، أو
الشك قبل الفحص ، بل مطلق الشك والشبهة بناء على إنكار البراءة العقلية لما عرفت
سابقا.
٣ ـ البرهان
الثالث : المستخلص من كلماتهم في مقام إثبات استحالة الحكم على خلاف القطع هو ،
برهان نقض الغرض.
وحاصله : انّ
المكلّف إذا قطع بصدور الحرمة ، وفرض أنّ الشارع رخّص بارتكاب هذه الحرمة بالنسبة
لمن يقطع بها ، إذن ، سوف يتساءل القاطع عن الغرض من تشريع هذا التحريم المتنجز في
حقّه ، لأنّه بالترخيص تنهدم حجيّة القطع وبالتالي منجزيته.
وهذا البرهان يجاب
عليه : بأنّ الغرض الّذي يقال بأنّه يلزم نقضه بالترخيص ، إن أريد به الملاك الواقعي
والمفسدة الواقعية الموجودة في الحرام والّتي تمثل ملاك التحريم الواقعي ، حيث أنّ
المولى لا يحرم شيئا إلّا لأجل اشتماله على مفسدة.
فجوابه : إنّ هذا
يرجع في الحقيقة إلى دعوى وبرهان التضاد بين الترخيص وبين مبادئ الحكم الواقعي ،
إذن فيرجع إلى البرهان الأول ، وقد عرفت الكلام فيه.
وإن أريد بالغرض
الّذي يلزم نقضه ، أنّه الداعي إلى الجعل ، أي الداعي إلى جعل التحريم ، بأن يقال
مثلا : بأنّ الداعي لكل مولى إلى الجعل هو التحريك ، فإذا جعل بعد ذلك ترخيصا بهذه
المحركيّة وإبطالها ، كان ذلك نقضا للغرض من جعل الخطاب الواقعي.
فالجواب هو ، انّ
الغرض من جعل كل خطاب وحكم ، وإن كان هو التحريك ، لكن التحريك بحسب ما يستقل به
العقل ويقتضيه في مقام التنجيز والتحريك ، فالمولى يجعل الخطاب بداعي المحركيّة ،
لكن
المحركية بمقدار
صلاحيته الفعلية للتحريك وقابليته للتنجيز ، فالداعي إلى جعل الخطاب هو ، جعله
محركا بالمقدار الّذي يستقل به العقل من التحريك ويراه قابلا للتنجيز والتحريك.
وحينئذ ، بناء
عليه ، إذا فرض أنّ العقل يستقل بحجية القطع بنحو تنجيزي علي ، إذن فسوف تكون
محركية هذا الخطاب المقطوع به محركية تنجيزية علّية ببركة حكم العقل ، وحينئذ ،
يكون الترخيص على خلاف ذلك ، نقضا للغرض ، لأنّ الداعي من جعل الخطاب هو أن يحرك
بمقدار ما يستقل به العقل ، والعقل يستقل بالمحركيّة التنجيزيّة العلّية ، إذن سوف
يكون الترخيص نقضا للغرض.
لكن إذا بني على
أنّ العقل يحكم بالحجية الاقتضائية التعليقية للقطع ، أي بالحجية مشروطة بعدم ورود
الترخيص من قبل الشارع على خلافها كما هو الحال في باب الظن والاحتمال المنجز ،
فإنّ العقل يحكم هناك بأنّ الاحتمال إمّا مطلقا منجز أو قبل الفحص ، ما لم يرد
ترخيص على خلافه.
فإذا فرضنا أنّ
حجية القطع كانت تعليقية اقتضائية ، إذن يكون الغرض من الخطاب الواقعي هو جعله
محركا بهذا المقدار ، وهو مقدار ما تقتضيه هذه الحجية التعليقية ، فلو اقترنت بما
يرفعها ويعطلها ، فلا يكون هذا نقضا للغرض.
وعليه فيرجع
البرهان الثالث إلى البرهان الثاني بعد هذه الغربلة ، وحينئذ لا يكون هذا برهانا
ثالثا.
وتحقيق الحال وما
ينبغي قوله في المقام هو : انّه يستحيل جعل الحكم على خلاف الحكم المقطوع به ،
وهذا بخلاف ما يجعل في موارد الظن والشك حيث لا يستحيل ذلك فيها.
ومن أجل توضيح هذا
، لا بدّ من نبذة إجمالية يأتي تفصيلها عن كيفية التوفيق بين الأحكام الواقعية
والظّاهريّة ، وكيفيّة رفع التضاد بينهما بلحاظ عالم المبادئ ، لنرى أنّ ذلك
العلاج والتوفيق لا يأتي في محل الكلام.
وهذا يستدعي رسم
مقدّمة ، حاصلها هو ، أنّ الأحكام على قسمين.
١ ـ القسم الأول :
الأحكام النفسية ، والمقصود بها ، الأحكام الناشئة من مصالح ومفاسد في متعلّقات
أشخاصها من قبيل وجوب الصّلاة الناشئ من مصلحة ملزمة في الصّلاة ، وهكذا بقية
الأحكام النفسية ، فإنّ هذه الأحكام هي بنفسها تتنجز وعليها ثواب ، ولها عقاب
باعتبارها أحكام نفسية.
٢ ـ القسم الثاني
: هو الأحكام الطريقية ، وهي اسم لأحكام تكون ناشئة من مصالح ومفاسد في متعلقات
تلك الأحكام النفسية لا متعلقاتها هي ، وهذا يكون في مورد اختلاط متعلقات الأحكام
النفسية وعدم تميّزها على المكلّف خارجا ، فإنّ المكلّف ، تارة يميّز موارد
الأحكام النفسية ، وهنا لا يكون موضوع للأحكام الطريقية أصلا ، وأخرى يفرض أنّ
المكلّف لا يصيبها بأعيانها ، فلا يدري أيّ الإناءين هو الخمر.
فهنا يوجد عندنا
أحكام نفسية ناشئة من ملاكات في أنفسها لحرمة الخمر الناشئة من مفسدة نفسية في نفس
الخمر ، وإباحة الخل الناشئة من مصلحة نفسية في إطلاق العنان نحو الخل.
فهذان حكمان
نفسيان ، فإذا ميّز بينهما المكلّف فلا أحكام طريقيّة ، وإذا لم يمكنه أن يميّز
بينهما واشتبه عليه الحلال بالحرام ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعية ، أو بنحو الشبهة
الحكمية ، حينئذ ، في هذه الحال ،
المولى باعتبار
أنّ عنده ملاكان ، أحدهما مفسدة الخمر ، والآخر مصلحة إطلاق العنان في الخل أو لحم
الطير مثلا ، وبما أنّه لم يصل ذلك إلى المكلّف ، حينئذ ، إمّا أن يحكم عليه حكما
طريقيا بوجوب الاحتياط فيهما معا ، تحفظا على مفسدة الخمر ، وبهذا تفوت المصلحة
الموجودة في الخل أو لحم الطير ، وإمّا أن يعكس المطلب ، وحينئذ ، يقع في مفسدة
الخمر أو لحم الأرنب مثلا ، وأيّهما جعل ، فهو حكم طريقي ، لأنّ هذا الحكم لم ينشأ
في صورة جعل الحرمة من مفسدة في الاثنين ، بل من مفسدة في الخمر ، لكن حفاظا على
عدم الوقوع فيها يجعل تلك الأحكام ، ومن هنا قلنا : إنّ هذه الأحكام تنشأ من
متعلقات ملاكات تلك الأحكام الواقعية النفسية ، وكذا الحال لو جعل الحلية للإثنين
معا ، فإنّ هذا حكم طريقي لم ينشأ من مصالح في الموردين ، بل حفاظا على مصلحة الخل
أو لحم الطير ، ومن هنا فالأحكام الطريقية ناشئة من ملاكات في متعلقات تلك الأحكام
النفسية ، ويترتب عليها أنّها إنّما تتميّز وتعذر عن الأحكام النفسية ، وأمّا
بنفسها فلا تميّز لها ولا تعذير ، فوجوب الاحتياط مثلا منجز للأحكام الواقعية
المشكوكة.
وبمثل هذا البيان
دفعنا التضاد بين الأحكام الواقعية والأحكام الظّاهرية في عالم المبادئ ، إذ يتضح
من هذا انّ مبادئ الحكم الظاهري هي عين مبادئ الحكم الواقعي النفسي ، لا ملاكات
ومبادئ أخرى يقع التضاد بينهما ، وبمثل هذا جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام
الظاهرية ، وبمثل هذا صوّرنا وجوب الاحتياط والبراءة وأمثالها.
وهذا البيان لا
يأتي في محل الكلام ، لأنّه في محل الكلام لو فرض أنّ المكلّف كان قاطعا بأحكام
ترخيصية ، والمولى يريد أن يجعل ما يشبه وجوب الاحتياط عليه أو بالعكس ، وكلاهما
غير ممكن ، لأنّ
هذا الحكم الّذي
يشبه وجوب الاحتياط ، إن كان نفسيا ، فيلزم حينئذ اجتماع الضدين ، لأنّ هذا حكم
مستقل وله مبادئ مستقلة ، والمقطوع له أيضا مبادئ مستقلة فيلزم التضاد ، وإن كان
هذا المجعول حكما طريقيا ، إذن فهو لا يتنجز بنفسه ، وإنّما يتنجز غيره ، وهي
الحرمة الواقعية الّتي يقطع المكلّف بعدمها ، حيث أنّه يقطع بالترخيص.
وهذا هو فرق
القاطع عن الظان والشك ، ففي موارد الظن والشك إذا حكم المولى بوجوب الاحتياط
طريقيا تنجز الواقع المشكوك أو المظنون ، والمكلّف يحتمل وجوده في الواقع ، إذن
فقد نجا من وجود شيء قد تنجز عليه ، فيكون وجوب الاحتياط مؤثرا في مقام العمل.
أمّا وجوب
الاحتياط في محل كلامنا ، فلا ينجز غيره ، إذ لا وجود لغيره ، هذا برهان استحالة
جعل ما يشبه وجوب الاحتياط.
أمّا إذا عكس المطلب
، وكان برهان استحالة جعل ما يشبه البراءة ، فيما إذا فرض أنّ المكلّف قطع بحكم
إلزامي ، وذلك لأنّ المولى يرى انّ هذا القاطع سلوكه في أكثر الموارد متحفظا على
الحاجات الّتي تخيّلها محرمات ، فيريد ترخيصه في تمام ما قطع به ، وهذا مستحيل ،
باعتبار انّ هذا الحكم الّذي يجعله على القاطع ، إن كان نفسيا ، إذن يلزم اجتماع
الضدين في تمام المبادئ كما تقدّم ، وإن كان حكما طريقيا من باب تقديم مصلحة
الحلال على مفسدة الحرام ، إذن لا يكون مؤثرا في حق هذا المكلّف ، لأنّ هذا الحكم
الطريقي إنّما يصدر من الشارع ، من باب عدم إمكان التحفظ على كلا الملاكين ،
والعبد يرى أنّ بإمكانه التحفظ ، لأنّه يرى انّ قطعه مصيب ، فمثل هذا الترخيص
الاضطراري لا يكون معذرا لمكلف يرى أنّه قادر على التحفظ على كل ملاكات الشارع ،
كما لو فرض أن تعرّض للغرق كل من صديق الشارع وعدوه ، فيقول الشارع للعبد لا تنقذهما
معا اضطرارا ، فلو فرض أنّ
العبد يميز بينهما
، فلا يكون هذا معذرا بالنسبة إليه ، إذن فالمولى إذا جعل ما يشبه البراءة على
القاطع ، فكل قاطع يمكنه أن يعتذر عن إنشاء الحكم من قبل المولى عند ضيق الخناق.
والخلاصة هي ،
أنّه لا يمكن جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به ، كما يجعل في موارد الشك والظن
من الأحكام الظّاهرية. أمّا إذا كان القطع بحكم ترخيصي وأراد المولى جعل حكم ظاهري
إلزامي نظير الاحتياط في الشّبهات ، فهذا الحكم ، إن فرض نفسيا ، لزم التضاد كما
تقدّم توضيحه في البرهان الأول ، وإن فرض طريقيا ـ والحكم الطريقي عندنا هو الحكم
الناشئ بملاك التزاحم بين الأحكام الترخيصية والإلزامية في مرحلة حفظ الملاك الأهم
، ولذا يجعل المولى حكما طريقيا يبرز به اهتمامه بما هو المهم من تلك الملاكات
المتزاحمة ، ومن هنا قلنا : إنّ تلك الأحكام الطريقية هي أحكام ناشئة من مبادئ ولكن
لا في نفسها ، بل في متعلقات ملاكات تلك الأحكام الواقعية النفسية ـ فلا يكون تضاد
بينهما بلحاظ المبادئ ، لأنّ مبادئ الحكم الظاهري هي عين مبادئ الحكم الواقعي
النفسي ، لا ملاكات ومبادئ أخرى ليقع التضاد بينها ، وبمثل هذا جمعنا بين الأحكام
الواقعية والظاهرية ، وبمثل هذا صوّرنا وجوب الاحتياط والبراءة وأمثالها.
إلّا انّ هذا
البيان لا يعقل جعله في محل الكلام ، لأنّ الحكم الطريقي هنا غير منجز في نفسه ،
وإنّما هو منجز لغيره ، أي أنّه ينجز الحكم الواقعي وملاكه النفسي كما تقدّم ،
والمفروض أنّ المكلّف يقطع بعدم الملاك الإلزامي الواقعي ، حيث أنّه يقطع بالترخيص
به ، ومعه لا يتنجز الحكم الإلزامي الواقعي بهذا الحكم الطريقي ، وهذا هو فرق
القاطع عن الظان والشاك كما عرفت.
وأمّا إذا عكس
المطلب ، وكان المكلّف قاطعا بحكم إلزامي وأراد المولى جعل حكم ظاهري ترخيصي ،
فهذا مستحيل أيضا ، لأنّه إن كان ما يجعله حكما نفسيا ، إذن فيلزم اجتماع الضدين
في تمام المبادئ كما تقدّم.
وإن كان طريقيا
ناشئا عن التزاحم بين الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية وتقديم مصلحة
الترخيص على الإلزام ، فمثل هذا الحكم لا يكون مؤثرا ومعذرا للمكلّف ، لأنّ هذا
الحكم إنّما يصدر من الشارع من باب عدم إمكان التحفظ على كلا الملاكين ، والقاطع
يرى أنّ قطعه مصيب للواقع دائما ، إذن فهو يرى أنّه بإمكانه أن يحفظ الملاك
الإلزامي للمولى من دون تزاحم ، إذن فمثل هذا الترخيص لا يكون معذرا لمكلّف يرى
أنّه قادر على التحفظ على كل ملاكات الشارع ، فهو يرى عدم شمول خطاب الشارع له
روحا وملاكا ، وإن كان يشمله خطابا.
فالنتيجة هي ،
أنّه لا يعقل جعل الخطاب الظّاهري في مورد القطع ، لا نفسيا ، لاستلزامه التضاد ،
ولا طريقيا ، لأنّ القاطع يرى نفسه مستثنى من الخطاب روحا وملاكا وإن كان مشمولا له
صورة ، وكلّ خطاب يكون شموله للمكلّف هكذا ، لا يكون منجزا ولا معذرا له. هذا هو
حاصل البرهان الصحيح في المقام.
الجهة الثانية :
مبحث التجري
وموضوع هذه
المسألة هو ، أنّ أيّ تكليف يتنجز على المكلّف سواء كان المنجز عقليا كما في موارد
القطع الوجداني أو الشك والاحتمال المنجز في موارد منجزيته ، كالاحتمال قبل الفحص
، أو الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي ، أو كان المنجز شرعيا ، كما في الإمارات
والأصول المنجزة كالاستصحاب ، فإذا تنجز تكليف على هذا النحو ، فإن فرض انّ هذا
التكليف المنجز كان مطابقا للواقع ، ومنجزا بالواقع ، بأن كان التكليف الواقعي
الإلزامي موجودا في البين ، وخالفه المكلّف ، فهذا عصيان قبيح يستحقّ العبد على
تركه العقاب في صورة مخالفته له بلا إشكال ، وأمّا إذا فرض أنّ التكليف المنجز
الواقعي هذا ، لم يكن ثابتا في الواقع ، بل كان الثابت هو الإباحة الترخيص ، ولكن
المكلّف خالف وتجرأ ، فهذا هو التجرّي موضوع الكلام.
وحينئذ يبحث في
أنّه هل يحكم بقبحه واستحقاق المتجري العقاب عليه بل وحرمته شرعا ـ على الرغم من
عدم مطابقته التكليف المقطوع للواقع وعدم ثبوته ـ أو لا؟
ومنه يظهر انّ هذا
البحث لا يختصّ بخصوص موارد القطع ، بل
يشمل بروحه كل ما
كان منجزا سواء كان قطعا ، أو منجزا بمنجز عقلي كالاحتمال قبل الفحص ، أو بمنجز
شرعي كما عرفت.
وهناك من توهم انّ
هذا البحث لا يشمل موارد المنجزات الشرعية ـ أي موارد الحكم الظّاهري ، كما لو
قامت الإمارة ثابت على حرمة مائع ـ بدعوى أنّه في هذه الموارد ، المعصية محققة ،
فيخرج المقام عن التجري ويدخل في المعصية ، لأنّ الحكم على طبق الإمارة ثابت على
أيّ حال ، سواء كانت الإمارة مطابقة للواقع ، أو لم تكن كذلك ، كما لو أخبر الثقة
بوجوب السورة ، وترك المكلّف السورة ، ولم تكن واجبة في الواقع ، ولكن خالف خبر
العادل.
وهذا التوهم باطل
على جميع المباني في باب جعل الحجية في باب الإمارات والأصول ، لأنّ الحكم
الظّاهري ليس له عقاب وامتثال مستقل في مقابل التكاليف الواقعية.
وقد شمّ سر ذلك في
البحث السابق ، حيث ذكرنا أنّ الأحكام الظّاهرية هي أحكام طريقيّة لا تنشأ من
مصلحة في متعلقاتها هي ، بل منشؤها من ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث بها يحفظ
الملاك النفسي في الحكم الواقعي ، فيكون جعلها للمحافظة على ملاكات الأحكام
الواقعية ، حيث يقال : بأنّ هذا الحكم الظّاهري الّذي روحه روح الطريقي قد جعل
بلسان جعل الحكم التكليفي ، كما كان في صدق العادل ، أو بلسان جعل الحكم المماثل ،
أو بلسان جعل الطريقية والكاشفية ، أو بلسان جعل الحجيّة والمنجزيّة ، فكل هذه
الألسنة هي مجرد صياغات فنية في مقام الجعل لا تغيّر من حقيقة الحكم الظّاهري ،
فإنّ روح الحكم الظّاهري تبقى بنفسها روح حكم لا حيثيّة لها في قبال الحكم الواقعي
والواقع ، بل هي روح طريق لا تختلف الحال فيه بين لسان وآخر من هذه الألسنة.
وعليه : فالمقام
داخل في باب التجرّي دون العصيان المستقل عن الحكم الواقعي ، ولا يتوقف ذلك على ما
ذكره الميرزا «قده» ، من أنّ الأحكام الظّاهريّة ليست تكليفية ، بل هي تتميم
للكشف والطريقيّة ، فليس لها عصيان مستقل عن الواقع ، فإنّ هذا غير صحيح ، فإنّ
الحكم الظّاهري كيفما كان لسانه ، سواء كان تتميم الكشف ، أو بلسان جعل الحكم
المماثل أو غيره ، فهذه كلها تفنّنات في التعبير.
وأمّا روح الحكم
الظّاهري فليس له عصيان وامتثال مستقل عن الحكم الواقعي ، لأنّه عار عن المبادئ ،
سوى مبادئ الحكم الواقعي ، وحيث أنّه لا واقع له ، فيدخل في باب التجرّي.
والبحث في هذه
المسألة يقع في عدّة مقامات.
١ ـ المقام الأول
: في تحقيق الكلام في قبح الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا.
٢ ـ المقام الثاني
: في استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به وعدمه ، سواء قيل بقبحه عقلا أو لا.
٣ ـ المقام الثالث
: في حرمة الفعل المتجرى به شرعا.
__________________
المقام الأول :
في تحقيق الكلام في قبح
الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا
أمّا المقام الأول
وهو في قبحه عقلا ، بمعنى أنّ حكم العقل بقبح التجري ، هل يختصّ بالمعصية ، أو
أنّه يشمل التجري أيضا؟.
والّذي ينبغي قوله
هو ، انّه بعد أن عرفنا في المقام أنّ حكم العقل بقبح التجري ، يرجع ـ في الحقيقة
وبحسب طريقة تحليلنا له ـ إلى حق الطاعة ، وحق مولوية المولى على العبد ، وحينئذ ،
لا بدّ من الفحص عن حق هذه المولوية ودائرتها وموضوعها ، لنرى أنّ هذه الدائرة هل
تنطبق على التجري ، وانّ موضوع حق الطاعة هل يشمل موارد التجرّي أو لا؟
فإن انطبق وكان
موضوع حق الطاعة يشمل موارد التجري ، إذن ، فللمولى حق ، والمتجرّي سلب منه هذا
الحق ، وهذا السلب ظلم ، والظلم قبيح ، فيكون الفعل المتجرّى به قبيحا.
وإن فرض أنّ موضوع
المولويّة لا ينطبق على موارد التجرّي ، إذن ، لا حقّ هنا للمولى ، فلا قبح إذن ،
لأنّ القبح فرع الظلم ، والظلم فرع سلب الحق.
إذن ، فالسؤال هنا
، هو أنّه ، ما هو موضوع حق الطاعة ، وما هي دائرة حق المولوية؟.
وهنا يوجد ثلاث
تصورات في البداية.
١ ـ التصور الأول
: هو أن يكون موضوع حق الطاعة والمولوية هو تكاليف المولى الموجودة بوجوداتها الواقعية
النّفس الأمرية ، سواء وصلت أو لم تصل ، علم بها أم لم يعلم ، وبناء على هذا ،
حينئذ ، يلزم أن يكون حق الطاعة للمولى غير ثابت في موارد التجرّي ، لأنّ تمام
موضوع حق الطاعة هو التكليف بوجوده الواقعي النّفس الأمري والمفروض عدم وجوده في
موارد التجري ، إذن فحق الطاعة بهذا التصور لا يشمل موارد التجري.
لكن قد عرفت سابقا
أنّ هذا التصور غير صحيح في نفسه ، لأنّ لازمه تحقّق المعصية في موارد مخالفة
التكليف الواقعي ولو لم يكن منجزا ، بل حتّى إذا كان قاطعا بعدمه ، لأنّه أيضا
يكون حق الطاعة ثابتا ، لأنّ تمام الموضوع محفوظ حتّى مع العلم بعدمه ، وهذا غير
معقول.
٢ ـ التصور الثاني
: وهو عكس الأول ، وذلك بأن يقال : بأنّ حق الطاعة والمولوية ، تمام موضوعها هو ،
إحراز التكليف بمنجز من المنجزات العقلية أو الشرعية ، سواء كان هناك تكليف في
الواقع أو لم يكن ، إذن ، فالإحراز هنا هو تمام الموضوع.
وبناء عليه : يكون
حق الطاعة ثابت وشامل لموارد التجرّي ، لأنّ تنجز التكليف ثابت ومحرز فيها بالقطع
المنجز عقلا وإن لم يكن موجودا في الواقع ، وعليه : فحق المولوية يكون مسلوبا هنا
وهو ظلم ، والظلم قبيح ، وهو مورد التجري.
٣ ـ التصور الثالث
: وهو تصور وسط بين التصورين السابقين ،
وحاصله : هو أنّ
موضوع حق الطاعة مركب من جزءين ، أحدهما التكليف بوجوده الواقعي ، وثانيهما ،
إحرازه بمنجز عقلي أو شرعي ، إذن ، فلا التكليف الواقعي وحده موضوع حق الطاعة
وتمام الموضوع ، ولا العلم والإحراز وحده هو الموضوع ، وبناء عليه فلا يلزم ثبوت
حق الطاعة من ترك الأول وحده ، ولا من الثاني وحده ، وحينئذ ، بناء على هذا التصور
يقال : بأنّ الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحا ، لأنّه لا حق للمولى مسلوب هنا من
قبل المتجرّي ليكون قبيحا.
وهنا لنا كلامان :
١ ـ الكلام الأول
: هو انّنا ندّعي أنّ الصحيح من هذه التصورات الثلاثة هو الثاني.
٢ ـ الكلام الثاني
: هو انّنا ندّعي فيه أنّه لو بني على التصور الثالث ، فمع هذا نقول بقبح التجري.
أمّا الكلام الأول
، وهو أنّ التصور الثاني هو الصحيح ، فذلك لأنّ حق المولى ، تارة يكون حقّا مجعولا
من قبل مولى آخر ، وأخرى يكون حقّا ذاتيا كما تقدّم.
ومحل كلامنا هو حق
المولويّة الذاتية ، أي الثاني ، وهذا الحق الذاتي للمولويّة ليس شأنه شأن الحقوق
الأخرى العرفية أو الاجتماعية أو الشرعية الّتي لها واقع يتصور فيه انكشاف الخلاف
، من قبيل حق المرتهن في العين المرهونة ، أو حق المغبون في الغبن ، فقد يفرض انّ
هذه حقوق ثابتة ، ولكن الإنسان لا يعلم بها ، حيث يفرض أنّه يتخيل ثبوتها وهي غير
ثابتة ، لأنّ هذه الحقوق تابعة لموضوعاتها الواقعية النّفس الأمرية.
أمّا حق المولى في
المولوية الذاتية ، فهو بحسب الحقيقة مرجعه إلى استحقاق هذا المولى المرتبة
اللائقة به من الاحترام والرعاية لجانب
مولويته وتجنب
الجرأة عليه ، والاستعداد لأداء الوظائف الّتي يأمره بها ، إذ لا معنى لحق المولى
وحق الطاعة إلّا هذا ، ونحن إنّما نقول إنّ الطاعة حق ذاتي فباعتبار جنبة
احتراميّتها.
وهذا الحق ، تمام
ميزانه ونكتته هو قطع المكلّف بتكليف المولى ، وحينئذ ، إذا أقدم المكلّف على
الفعل مع قطعه بالنهي عنه من قبل مولاه ، أو أقدم على تركه مع قطعه بالأمر به ،
حينئذ ، تمام الجنبات الإهانية تكون موجودة في فعله ، فيكون فعله هذا سلبا وظلما
للمولى.
نعم في فرض
التجرّي عند ما لا يكون الفعل المتجرّى به بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم إضرار به
كما في حقوق النّاس وأموالهم ، كما هو الحال في حق المالك في ملكه ، فقد يقال :
بأنّ من أتلف مالا يتخيل انّه لزيد من النّاس ثمّ تبين أنّه مال لنفسه ، قد يقال
حينئذ ، انّه ليس ظالما لزيد لأنّه لم يخسره شيئا ، حيث أنّه لم يعتد على ماله ولا
على مولويّة المولى.
أمّا هنا في فرض
المعصية ، فالاعتداء على المولى موجود ، لأنّه كان بلحاظ نفس حق الطاعة وحق
المولوية ، وقد عرفت ، انّ حق الطاعة لا يرجع إلى حيثية واقعية وواقع التكليف ،
وإنّما يكون بملاك التحفظ على احترام المولى ، لأنّ تمام موضوع حق المولى هو مطلق
التنجز بالقطع وغيره بتكاليف المولى ، فلو تنجز تكليف على العبد ، ومع ذلك تجرأ
وخالف مولاه ، كان ذلك خروجا عن أدب العبودية واحترام مولاه ولو لم يكن هناك تكليف
واقعا.
إذن ، فمن حيث
الجانب الاحترامي لا يوجد هناك دخل لمطابقة القطع للواقع وعدمه ، وإنّما تمام
موضوع حق الطاعة هو عبارة عمّا أحرز من التكاليف بمنجز ما ، سواء كان هذا الإحراز
مطابقا للواقع أم لا ، بل حتّى لو لم يكن في الواقع تكليف.
وأمّا الكلام
الثاني فهو ، انّنا لو سلّمنا بالتصور الثالث ، وهو كون
موضوع حق الطاعة
والمولى مركب من جزءين ، التكليف بوجوده الواقعي ، والإحراز ، إذن ، فهنا العبد لم
يسلب من المولى حقّه في باب التجري ، لأنّ أحد جزئي الموضوع غير موجود.
ولكن رغم ذلك نقول
، بقبح التجرّي ، وذلك بدعوى أخرى ندّعيها ، وهي أنّ هذا العبد حينما أقدم على
ارتكاب ما قطع بحرمته ، فإنّه كان يتخيل أنّه حق المولى ، وهو يقطع بالتالي بأنّه
يسلب المولى حقّه في صورة ارتكابه ، بمعنى ، أنّه أقدم على ظلم المولى وسلبه حقّه
باعتقاده ، وإن لم يظلمه واقعا ، وندّعي أنّه كما انّ الظلم قبيح ، فكذلك ارتكاب
ما يقطع بأنّه ظلم ولو اشتباها ، فإنّه قبيح أيضا بحكم العقل ، كمن كان يتخيّل
ويعتقد بفضل إنسان عليه وإنعامه ، ثمّ جحد نعمته ، فهذا قبيح ، إذ لا فرق بين من
يقع في خطأ في أصل مولوية المولى ، وبين من يقع في خطأ تطبيق مولويته ، حيث انّ
نفس الإقدام على فعل يقطع بأنّه ظلم للمولى قبيح وإن لم يكن في الواقع كذلك ، فمن
قبل واعتقد انّ الظلم قبيح ، ينبغي أن يعتقد انّ الإقدام على ما يعتقد انّه ظلم
قبيح أيضا.
وموارد التجري من
هذا القبيل ، فإنّه وإن لم يكن قد سلب حق المولى ـ هذا بعد التنازل عن الكلام
الأول ـ إلّا أنّ هذا المكلّف كان قد أقدم عليه ، فيكون إقدامه هذا بهذا الاعتبار
قبيحا ، وبهذا يكون استحقاقه للعقاب من مولاه الحقيقي ـ مع أنّه لم يظلمه في
الواقع ـ بملاك كون مقتضى مولوية المولى الحقيقي ان تعاقب المتجري الفاعل للقبيح
بحسب اعتقاده ، وإن لم يكن فعله القبيح هذا ظلما لمولاه في الواقع.
ومع اتضاح بطلان
التصور الأول في دائرة حق الطاعة ، واتضاح أنّه بناء على التصور الثاني لا إشكال
في قبح الفعل المتجرّى به كما هو الصحيح ، ننقل الكلام إلى التصور الثالث.
وأمّا التصور
الثالث : فقد عرفت سابقا أنّه حتّى لو سلّمنا وبنينا عليه ، فرغم هذا نقول بقبح التجرّي
لما عرفت وادّعيناه من كون الظلم قبيحا ، وكون الإقدام على ما يعتقد بكونه ظلما هو
قبيح أيضا.
وحينئذ أشكل على
هذا الكلام حيث قيل : إنّه إذا كان الظلم قبيحا ، وكان الإقدام على ما يعتقد بكونه
ظلما هو قبيح أيضا ، إذن يلزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع تعدد القبيح ،
لأنّ العاصي ظلم المولى ، باعتبار انّ موضوع حق الطاعة محقق حتّى بناء على التصور
الثالث ، وقد فرض أنّه أقدم على هذا الظلم ، فنفس الحالة الموجودة في المتجري ،
وهو إقدامه على الظلم ، هي موجودة في هذا العاصي ، لأنّه أقدم على الظلم ، وبهذا يكون
قد صدر عنه قبيحان.
أو قل : إذا كان
الظلم قبيح ، والإقدام عليه قبيح أيضا ، لزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع
، صدور قبيحين ، وهو خلاف الوجدان.
وحل هذا الإشكال ،
هو أنّه لا تعدّد للقبح في المقام ، لأنّ موضوع القبح عقلا دائما إنّما هو الإقدام
على الظلم ، لا نفس الظلم ، غاية الأمر انّ الظلم يستبطن الإقدام عليه لكونه
متقوما بالقصد والاختيار ، فالإقدام على الظلم يكاد أن تكون نسبته للظلم هي العموم
المطلق ، إذ متى ما كان ظلم ، فهناك إقدام عليه ، لأنّ الظلم متقوم بالقصد
والاختيار ، ومتى ما كان إقدام على الظلم ، فقد يكون ظلم ، كما في موارد المعصية ،
وقد لا يكون ، كما في التجرّي ، وما هو موضوع القبح عقلا إنّما هو الإقدام على
الظلم الّذي هو محور طرفي مورد العصيان والتجرّي ، إذن فلا ندّعي تعدّد مراكز
القبح ووجود عنوانين قبيحين أحدهما نفس الظلم ، والآخر الإقدام عليه ، كي يردّ
الإشكال في مورد العصيان.
نعم هناك فرق بين
مورد الإقدام على الظلم ، مع تحققه ، وبين الإقدام على الظلم من دون تحققه ، وهو
أنّه إذا أقدم على الظلم وكان الظلم متحقّقا ، بأن نفرض أنّه عصى تكليف المولى ،
فهو هنا ارتكب قبيحا يستحقّ عليه العقاب التأديبي من كل عاقل ، وإضافة لهذا يوجد
له مظلوم وهو مولاه ، والعقل يدرك هنا أيضا أنّ المظلوم له حق التعويض والقصاص
ممّن ظلمه ، ولهذا نجد انّ هذا الإنسان الّذي يظلم أباه مثلا ، كلّ النّاس يذمّونه
بملاك التأديب ، لكن أبوه يذمّه بملاك التأديب بما هو عاقل ، وبملاك القصاص بما
أنّه مظلوم.
وهذا بخلاف موارد
الإقدام على الظلم دون تحقق الظلم في الواقع ، كمن يجحد نعمة من يتخيّل أنّه منعم
عليه ، فهنا صدر منه قبيح ويستحقّ عليه العقاب التأديبي من العقلاء ، لكن العقاب
القصاصي من المظلوم لا يستحقّه ، إذ لا مظلوم في الواقع في المقام ، أمّا القبح
فلا يفرّق فيه بين الإقدام على الظلم وتحقّقه ، أو عدم تحقّقه ، بناء على التصور
الثالث.
وفي مقابل هذا
المسلك الّذي سلكناه يوجد مسلكان آخران :
١ ـ المسلك الأول
: وهو ظاهر كلمات الشّيخ الأعظم «قده» في الرّسائل ، حيث ذهب إلى إنكار هذا القبح رأسا في الفعل
المتجرّي به ، حيث انّه يرى أنّه في الفعل المتجرى به لم يصدر منه ظلم أصلا ،
وإنّما هناك سوء سريرة انكشفت بهذا الفعل المتجرّى به. إذن ، فقبح هذا الفعل ،
بسبب كشفه عن سوء السريرة ، لا أنّه هو قبيح ، فالفعل المتجرى به ليس قبيحا إلّا
بما هو كاشف عن شيء قبيح ، وهذا نظير الكلمات القبيحة الكاشفة عن معانيها القبيحة
، وقبح الكاشف بما هو كاشف ، أمر عرضي مجازي.
__________________
وقد عرفت بطلان
هذا المسلك ممّا ذكرناه ، وذلك لأنّه لا بدّ من الرّجوع إلى تشخيص موضوع حق الطاعة
، كي نعرف أنّ المتجري هل صدر منه القبيح أو لم يصدر ، فإن كان الشّيخ «قده» يتصور
حق الطاعة بالتصور الثاني ، إذن ، فمن الواضح أنّ المتجري قد سلب من المولى حقّه ،
ومعه فلا بدّ من القول بالقبح ، وإن كان الشّيخ «قده» يبني على التصور الثالث ،
فهو «أولا» غير صحيح كما عرفت ، و «ثانيا» لو سلّم ، أيضا للزم منه القبح كما
تقدّم ، فإنّ العقل يستقل بقبح الإقدام على القبح ، وقولكم بأنّ هذا القبح إنّما
هو للفعل بما هو كاشف ، على حدّ قبح الظلم ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّ هذا الفعل
يكشف كشفا تصديقيا عن عدم احترام العبد لمولاه واستخفافه به ، ومن الواضح ، أنّ
نفس كشف ذلك هو عبارة أخرى عن الخروج عن حريم مولوية المولى ، وهذا ظلم قبيح ، إذ
أنّ موضوع هذا الكشف هو نفسه موضوع حق المولى والطاعة.
٢ ـ المسلك الثاني
: وهو ما يظهر من كلمات المحقق النائيني «قده» حيث ذكر انّ التجري قبيح ، لكنّه ميّز بين القبح الفعلي ،
والقبح الفاعلي ، وقال بأنّ قبح التجري ليس فعليا بل فاعلي ، ورتب على ذلك
الانتهاء إلى نفس النتيجة الّتي توصل إليها الشّيخ «قده» ، وهي ، أنّه ما دام قبح
التجري قبحا فاعليا لا فعليا ، إذن لا يستحقّ العقاب عليه ، لأنّ استحقاق العقاب
من شئون القبح الفعلي كما في موارد المعصية.
وهذا الكلام لا
يخلو من غموض ، وعليه نطرح احتمالات متصورة حوله مع مناقشتها.
__________________
١ ـ الاحتمال الأول
: هو أن يكون مقصوده إنكار قبح الفعل المتجرّى به أصلا ، وإنّما قبحه عرضي مجازي
لكشفه عن سوء سريرة المتجري.
وهذا رجوع إلى
كلام الشّيخ «قده» ، وقد عرفت ما فيه ، كما أنّ هذا هو الّذي يظهر من كلمات أجود
التقريرات ، وفوائد الأصول من تقريرات الميرزا «قده».
٢ ـ الاحتمال
الثاني : هو أن يكون مقصوده تصور نحوين من القبح ثبوتا.
أحدهما ، قبح فعلي
، والآخر ، قبح فاعلي ، والقبح الفعلي مركزه ذات الفعل في نفسه بقطع النظر عن
إضافته إلى فاعل مخصوص ، ويقابله حسن فعلي ، أي حسن الفعل بما هو هو ، وهذا هو
الحسن والقبح الفعليّان.
والآخر ، وهو
القبح الفاعلي ، ومركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، ويقابله الحسن الفاعلي
ومركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، وهذا هو القبح والحسن الفاعليّان ،
وحينئذ يدّعى ، أنّه في باب المعصية يكون القبح فعليا حيث أنّ نفس الفعل قبيح بقطع
النظر عن صدوره من أي شخص ، وأمّا حينما يشرب خلا بتوهم أنّه خمر ، كما في التجري
، فهذا الفعل بقطع النظر عن إضافته إلى الفاعل لا مفسدة فيه لأنّه خل ، لكن بما هو
مضاف إلى هذا الفاعل المخصوص القاطع بحرمته ، يكون قبيحا ، فهذا قبح فاعلي.
فمرجع هذا الكلام
إلى أنّ القبح تارة يكون من الفعل في نفسه كما في المعصية ، فيستحقّ العقاب ،
وأخرى يكون في الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، فهذا قبح فاعلي ، ولا يستحقّ
العقاب.
__________________
وحينئذ نقول : إن
كان هذا هو مقصوده ، فيردّ عليه :
أولا : انّه لا
معنى لتقسيم الحسن والقبح إلى «فعلي وفاعلي» ، فإنّ هذا معناه ، أنّه يتصور انّ
الفعل في نفسه بقطع النظر عن إضافته إلى فاعل مخصوص يتصف بالحسن والقبح ، مع أنّه
من الواضح بطلان هذا التصور ، لأنّ الحسن والقبح إنّما يضافان إلى الفعل بلحاظ
صدورهما من الفاعل.
وكأنّ هذا التقسيم
ناشئ من الخلط بين الحسن والقبح ، وبين المصلحة والمفسدة ، إذ أنّ المصلحة
والمفسدة موضوعهما هو الفعل في نفسه فهو الّذي يتصف بالمصلحة والمفسدة ، وأمّا
الحسن والقبح فإنّ موضوعهما الفعل بما هو مضاف إلى فاعله ، ولا يتصور فيهما حسنا
وقبحا بقطع النظر عن الفاعل ، بل قد يكون الحسن ذا مفسدة ، والقبح ذا مصلحة ، كما
في التجرّي والانقياد على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
إذن فمتعلق الحسن
والقبح إنّما هو فعل الفاعل ، لا فعل مقطوع النظر فيه عن الفاعل ، فلو وقع فعل بلا
فاعل ولو محالا ، فلا معنى لحسنه وقبحه ، ولا معنى لاستحقاقه الثواب عليه والعقاب
، لأنّه لا وجود لشخص فاعل يثاب ويعاقب ، بينما لو وقع فعل بلا فاعل ، فهذا قد
يكون فيه مصلحة ، إذن ، فباب المصلحة غير متقوم بإضافة الفعل إلى الفعل ، إذن ،
فهناك مصلحة فعليّة ، ومصلحة فاعلية ، لكن الحسن والقبح باعتبار رجوعهما إلى
استحقاق الثواب والعقاب ، فهما متقومان بالفاعل ، إذن فلا معنى لتقسيمهما إلى فعلي
وفاعلي ، لأنّ القبح والحسن هما ما يذمّ ويمدح عليهما الفاعل ، وهذا لا يكون إلّا
بعد إضافتهما إلى فاعل ، وليس الفعل في نفسه.
وثانيا : لو
سلّمنا بهذا التقسيم ، أي بقبح فعلي متعلق بذات الفعل ، وقبح فاعلي متعلق به بما
هو مضاف إلى الفاعل ، فإنّه مع هذا يأتي الإشكال الثاني ، وهو أن يقال حينئذ :
لما ذا لا يستحقّ
الفاعل ، العقاب على القبح الفاعلي ، كما في التجرّي ، ما دام أنّ الفعل بما هو
مضاف إليه قبيح ، فإنّه لا فرق بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي من هذه الناحية ،
فكما أنّ القبح الفعلي يستوجب العقاب ، فكذلك القبح الفاعلي.
ومنه يعلم أنّه لا
وجه لتخصيص استحقاق العقاب بخصوص صدور القبيح في نفسه وبقطع النظر عن الفاعل.
٣ ـ الاحتمال
الثالث : هو أن يكون مقصوده من القبح الفعلي والفاعلي. بمعنى أنّ مركز القبح
الفاعلي هو نفس الإضافة والنسبة بين الفعل والفاعل. لا الفعل ذاتا ، ولا الفعل بما
هو مضاف.
وبتعبير آخر : أن
يكون مقصوده أنّه يتصور انّ الفاعل حينما يفعل شيئا يكون هناك ثلاثة أشياء ، فاعل
، وفعل ، ونسبة بينهما ، وحينئذ يقال : بأنّ القبح ، تارة يكون مصبّه هو الفعل بما
هو منسوب إلى فاعل ، وأخرى يكون مصبّه هو ذات النسبة مع خروج الفعل عن فعليّة
القبح.
وفرق هذا عن سابقه
هو ، أنّه هنا : القبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف إلى الفاعل بما هو مضاف ، لكن
بنحو يشمل ذات الفعل وينطبق على الفعل المضاف بما هو مضاف ، والقبح الفاعلي متعلق
بذات الإضافة ، إذن فعندنا شيئان ، إضافة ، وفعل مضاف ، فالقبح الفعلي متعلق
بالفعل المضاف بما هو مضاف ، والقبح الفاعلي متعلق بذات الإضافة.
وهذا الكلام لا
يردّ عليه الإشكال الأول ، لأنّ القبح الفعلي هنا ليس متعلقا بالفعل بما هو هو ،
بل بالفعل بما هو مضاف ، وفرقه عن القبح الفاعلي هو أنّ القبح الفاعلي متعلق بمحض
الإضافة والنسبة بلا سريان للفعل ثمّ يرى أنّ القبح في باب المعصية فعليا وفي باب
التجري فاعليا.
لكن رغم هذا ،
فهذا الاحتمال غير صحيح ، لأنّه يردّ عليه.
أولا : انّ التفكيك
بين الإضافة والفعل المضاف أمر تحليلي اعتباري لا واقعي ، وإلّا فليس في الخارج
شيئان ، أحدهما الفعل ، والآخر ، الإضافة ، بل الإضافة بما هي معنى حرفي مفهوم
منتزع عن الفعل بلحاظ انتسابه إلى الفاعل وصدوره عنه ، وإلّا لو كان هناك شيئان
خارجيان ، الإضافة ، والفعل ، لسألنا : إنّ هذه الإضافة من فعلها؟ ولا بدّ أن يكون
هو نفس هذا الفاعل ، وإلّا لفرضنا إضافة أخرى بين هذه الإضافة وبين الفاعل ، وهكذا
حتّى يتسلسل ، فالإضافة ليست موجودة في مقابل وجود الفعل ، بل هي أمر واقعي منتزع
بلحاظ صدور الفعل من الفاعل ، والموجود خارجا إنّما هو الفعل ، إذن فما تعلق به
القبح هو الفعل ، ولا معنى لافتراض تعلق القبح بالإضافة إذ الوجدان قاض بعدم وجود
أكثر من تبعية اتجاه الفعل.
وثانيا : هو أنّه
لو سلّم ثبوت التعدّد بين الإضافة والفعل المضاف بحسب الوجود الخارجي ، حيث يفرض
أنّ الإضافة لها وجود في الخارج ، وانّ الفعل له وجود مستقل كذلك ، وانّ القبح
تارة يتعلق بالإضافة فقط ، وأخرى يتعلّق بالمضاف بما هو مضاف ، لو سلّم كل ذلك ،
فلما ذا لا يترتب استحقاق العقاب على «المتجرّي» ، أي على القبح الفاعلي ، إذا
كانت الإضافة أمرا وجوديا منسوبا للفاعل. باعتبار أنّه قد صدر منه القبيح ، لأنّ
هذه النسبة والإضافة أمر اختياري للفاعل أيضا ، إذن فهي تستدعي المسئولية.
٤ ـ الاحتمال
الرابع : هو أن يكون مقصوده من القبح الفعلي والفاعلي ، قبح الفعل المضاف بما هو
مضاف لا قبح الإضافة ، لكن القبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف بعنوانه الأولي ،
والقبح الفاعلي متعلق بالفعل المضاف بعنوانه الثانوي ، فمثلا في مورد المعصية
حينما
يشرب العاصي «الخمر»
، فهنا ، هذا الفعل له عنوان أوّلي ، وهو «شرب الخمر» ، وله عنوان ثانوي ، وهو «الإقدام
على المعصية» ، وفي مورد التجرّي حينما يشرب الخل باعتقاد أنّه خمر ، له عنوان
أولي ، وهو «شرب الخل» ، وعنوان ثانوي ، وهو «الإقدام على المعصية» ، حينئذ ،
القبح في باب المعصية متعلق بالعنوان الأولي ، فيسمّى بالقبح الفعلي ، وفي باب
التجري القبح متعلق بالعنوان الثانوي فيسمّى بالقبح الفاعلي ، فهنا قبحان كلاهما
متعلق بالفعل ، ولكن بلحاظ العنوان الأولي يكون قبحا فعليا ، وبلحاظ العنوان
الثانوي يكون قبحا فاعليا.
ويردّ عليه أولا :
أنّه لو سلّم ذلك ، لكن هذا لا ينتج مقصودكم ، وهو نفي استحقاق العقاب للمتجري ،
كما ذهب إليه الميرزا «قده» . إذ كلامه يفترض الاعتراف بسراية القبح إلى نفس الفعل ،
غايته أنّه بعنوانه الثانوي.
ومن الواضح أنّ
الفعل إذا كان قبيحا بأيّ عنوان ، فقبحه مرجعه إلى استحقاق العقاب عليه ، إذن فلا
محالة يستتبع العقاب والمؤاخذة من دون فرق بين أن يكون بتوسط عنوان أولي ، أو
عنوان ثانوي.
وثانيا : انّه قد
عرفت من تصوير المطلب سابقا ، أنّ ملاك القبح في المعصية والتجرّي واحد ، وهو «سلب
حق المولى» الّذي هو متقوم بارتكاب ما يعلم بأنّه حرام ، سواء كان حراما في الواقع
أم لا.
ما «شرب الخمر» ،
فهب أنّه بعنوانه الأولي ليس قبيحا ، نعم فيه مفسدة ، لكن المفسدة شيء ، والقبح
شيء آخر ، بل القبح الّذي هو من تبعات معصية المولى يدور مدار الظلم وسلب المولى
حقّه ، وإلّا فهو ليس قبيحا بالمعنى الّذي يقصده من القبح.
__________________
والخلاصة : هي
أنّه لو سلّمنا تعلق القبح بالعنوان الثانوي في موارد التجري ، وبالعنوان الأولي
في موارد المعصية ، فلما ذا يستوجب ذلك عدم استحقاق العقاب على المتجرّي ما دام
أنّه فعل صادر منه اختيارا بعنوان قبيح.
وعليه : فهذا
المسلك غير تام ، بل الصحيح هو ما ذكرناه من كون قبح الفعل المتجرّى به واستحقاق
العقاب عليه بنفس مناط استحقاق العاصي للعقاب ، وهذا كلّه بناء على ما هو الصحيح
من ثبوت «الحسن والقبح» العقليين وكونهما قضيتين أوليتين في العقل.
نعم للقوم مسالك
تختلف النتيجة بحسبها.
وتوضيح ذلك على
وجه الإجمال هو ، أنّ «الحسن والقبح» وقع فيهما خلافان.
أحدهما : خلاق بين
الأشاعرة والعدلية ، حيث ذهب الأشاعرة إلى أنّ «الحسن والقبح» ليسا عقليين ، وأنّ
العقل لا يدرك حسن شيء ولا قبحه ، بل هما شرعيان ، فما حسّنه الشارع فهو حسن ، وما
قبّحه الشارع فهو قبيح ، وبقطع النظر عن تحسين الشارع وتقبيحه ، فإنّه ليس هناك
قيم للأفعال ، كما سيأتي توضيح ذلك في تنبيه مستقل.
الثاني : في مقابل
كلام الأشاعرة وهو كلام العدلية ، حيث ذهبوا إلى أنّه بقطع النظر عن تحسين الشارع
وتقبيحه ، فإنّ العقل يدرك فرقا بين «الأمانة والخيانة» ، وبين «العدل والظلم» ،
فالعقل يحسّن الأول ، ويقبح الثاني.
إذن : «فالحسن والقبح»
قضيتان عقليتان وهذا كله خارج عن محل الكلام.
وهناك خلاف ثاني
بين المحقّقين من علماء الشريعة العدلية ، وبين
عموم الفلاسفة ومن
جاراهم من علمائنا ، وهذا بعد الفراغ عن أنّ مسألة التحسين والتقبيح عقلية لا
شرعية في مقام بيان وتشخيص هوية هذه القضايا ونوعها في قائمة الصناعات الخمس في
المنطق الأرسطي ، وهذا الخلاف هو المقصود بالبحث في المقام.
إذن فهنا مسلكان
في تشخيص هويّة قضايا «الحسن والقبح» العقليين.
١ ـ المسلك الأول
: وهو للمحقّقين من علماء العدلية ، حيث ذهبوا إلى أنّ قضايا حسن العدل وقبح الظلم
مثلا هي قضايا واقعية عقلية أوليّة ، بمعنى أنّ شأن العقل في هذه القضايا هو شأن
ودور المدرك الكاشف ، كما هو شأنه في القضايا النظريّة الأخرى ، غاية الأمر ، انّ
هذه القضايا لها واقع موضوعي منفصل عن اعتبار العقل ثابت في نفس الأمر ، أي انّها
قضايا واقعية تحقّقها بنفسها لا بوجودها الخارجي ، وأنّ إدراك العقل لها إدراك
أوّلي من سنخ إدراك العقل بأنّ الكل أكبر من الجزء ، وأنّ المعلول لازم لعلّته ،
وهكذا ، إدراك الإمكان والاستحالة والامتناع ، من مدركات العقل النظري ، فكما أنّ
هذا الإدراك موضوعه هو محض الكشف ، كذلك العدل ، والظلم ، فالعقل وظيفته الإراءة ،
وكما أنّ تلك القضايا أوليّة ، بمعنى أنّها ليست مرتبطة بتلقين أو عاطفة ، فكذلك
حسن العدل ، وقبح الظلم.
٢ ـ المسلك الثاني
: وهو مسلك الفلاسفة وبعض من جاراهم من علمائنا الّذين جروا على طبق المنطق
الأرسطي في باب الصناعات الخمس ، حيث ذهبوا إلى أنّ حسن العدل وقبح الظلم قضايا
عقلية ولكنّها ليست أوليّة ، بل هي من القضايا المشهورة.
وهذا اصطلاح وضع
في المنطق الأرسطي في باب الصناعات الخمس ، حينما أرادوا سبر مواد الأقيسة
والمقدّمات الداخلة في الأدلة ، فقالوا : بأنّ هذه المواد والمقدّمات على نحوين.
أ ـ النحو الأول
منها : هو مقدّمات مقرونة بتصديق عقلي جازم.
ب ـ النحو الثاني
منها : هو مقدّمات غير مقرونة بتصديق عقلي جازم ، ثمّ ذهبوا إلى أنّ الثانية هي
المقدّمات الّتي تؤلف صناعات الشعر والخطابة ونحوهما.
وأمّا الأولى ،
فقد قسّموها إلى قسمين.
أ ـ القسم الأول :
هو ما سمّوه بالقضايا العقليّة الضرورية.
ب ـ القسم الثاني
: هو ما سمّوه بالقضايا العقلية المشهورة.
ثم قالوا : بأنّ
البرهان يتألف دائما من القسم الأول ، أي القضايا العقلية الضروريّة ، وقالوا :
بأنّ الجدل ، وهو الدليل غير البرهاني ، يتألف من القسم الثاني ، أي من القضايا
المشهورة.
والبرهان عندهم
عبارة عن الدليل الّذي ينتج تصديقا جازما ضروريا ، أي تصديقا مضمون الإصابة.
وأمّا الجدل : فهو
دليل ينتج تصديقا جازما غير مضمون الإصابة.
والقسم الأول من
هذه القضايا الّتي سمّوها بالضرورية ، قالوا : بأنّنا إنّما نسميها بالضرورية ،
لأنّها قضايا عقلية مضمونة الحقّانيّة مقرونة بتصديق جازم ، وهذه القضايا الضرورية
أرجعوها إلى ست قضايا سمّوها بالأوليّات ، وكل القضايا الضرورية مستبطن ومستنتج من
هذه القضايا الست.
وهذه القضايا الست
هي : الأوليّات ، والفطريات ، والحساب ، والمؤثرات ، والتجريبيّات والحدسيّات ،
وكل القضايا الأخرى الضرورية يجب أن تكون مستبطنة في هذه القضايا وإلّا فليست
بضرورية.
وأمّا القسم
الثاني ، وهو القضايا العقلية المشهورة فهي وإن كانت
مقرونة بتصديق
جازم لكنّها ليست مضمونة الحقّانيّة ، بل هي الّتي يكون شفيعها عموم اعتراف
العقلاء بها ، وأمّا بقطع النظر عن اعترافهم ، فهي ممّا لا يدركه العقل ، وقالوا :
بأنّ قضايا العقل العملي ، «كالحسن والقبح» كلها تدخل في هذا الباب ، فهي قضايا
عقلية مشهورة ، وتمام شرافتها وحسنها انّها يعترف بها عموم العقلاء ، وقد قال ابن
سينا ، انّ الفرق بين قضيّة انّ «الواحد نصف الاثنين» ، وبين قضيّة انّ «الظلم
قبيح» ، هو أنّ القضيّة الأولى يدركها حتّى الإنسان المنعزل عن مجتمعه بل عن كل
النّاس فضلا عن العقلاء ، «كحي بن يقظان» ، ولكن لا يدرك القضية الثانية ، أي قبح
الظلم لو بقي مع عقله المجرد وحسّه ووحشته ، وإنّما يدرك ذلك لو كان يعيش في مجتمع
قد عمّم الاعتراف فيه بهذه القضايا ، بل قيل : انّه لا واقع لهذه القضايا إلّا
عموم اعتراف العقلاء بها.
وكلمات هذا المسلك
غائمة مشوشة ، بل بعضها قاصر عن إفادة المطلوب ، بل انّ هذه الأفكار لم تكن واضحة
في أذهانهم وضوحا محددا لأنّهم نقلوها عن المنطق الأرسطي الإغريقي في أول ما نقلوا
من علومهم ، حيث لم يعطوا لهذه الكلمات المنقولة تفسيرا معقولا ، وإلّا كيف تكون
قضية عقلية مقرونة بالتصديق الجازم وليس لها أساس واقع إلّا اعتراف عموم العقلاء
بها؟
وسوف نذكر ما يمكن
أن تنطبق عليه عبائرهم بعد تحليلها إن شاء الله تعالى.
والآن نريد أن
نعمق كلا المسلكين.
__________________
أمّا المسلك الأول
: ونسميه بالمسلك العقلي الواقعي.
وحاصله : هو أنّ
العقل يدرك الحسن والقبح على نحو الكشف والمرآتية ، ويرى أنّ هناك للحسن والقبح
واقع موضوعي مستقل عن إدراكه لهما ، وإدراكه لهما ليس نسبته إليهما إلّا نسبة
الكاشف إلى المنكشف ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّهما أمران واقعيان موضوعيان ، بمعنى
أنّ لهما وجود في الخارج على حدّ وجود البياض والحركة ، بل هما واقعيان فقط ،
ولكنّهما ليسا من الأمور الموجودة في الخارج ، فإنّ الأمور الواقعية أوسع من لوح
الوجود ، فإنّ لوح الوجود مختص بخصوص الجواهر والأعراض المقولة ، وأمّا لوح الواقع
فهو أوسع منه.
فهناك أمور واقعة بالوجود
، وهي الجواهر والأعراض المقولية ، فالبياض مثلا ، إنّما يكون أمرا واقعيا إذا وجد
في الخارج ، وكذا الحرارة والحركة.
وهناك أمور خارجية
واقعية بنفسها لا بوجودها ، وبهذا كانت تنتسب إلى لوح أوسع من لوح الوجود نسميه
بلوح الواقع ، ومن هذا القبيل الملازمات الذاتية بين الأشياء ، فالملازمة بين
العلّة والمعلول ، واستحالة اجتماع النقيضين ، ونحوها ، فهذه أمور واقعية ،
ولكنّها ليس لها وجود في الخارج ، فإنّ استحالة اجتماع النقيضين ليس له وجود في
الخارج نشير إليه ، ويستحيل أن يكون له وجود في الخارج كما سنوضحه ، فهذه الأمور
واقعية وخارجية بنفسها ، ومن هنا كان لوح الواقع أوسع من لوح الوجود ، وحسن العدل
، وقبح الظلم من هذا القبيل ، فهما أمران واقعيان دون أن يكون لهما وجود في الخارج
على حدّ وجود الحركة.
وهذا ما نريده من
قولنا. «الحسن والقبح» أمران عقليان واقعيان ، لأنّ لوح الواقع أوسع من لوح
الوجود.
ثمّ إنّه يوجد
عندنا شيئان : أحدهما قبح الفعل وحسنه ، والآخر استحقاق العقاب ، وقد يتراءى الخلط
بينهما في كلماتهم ، فكأنّه يفهم من كلماتهم ، أنّ الحسن والقبح واستحقاق العقاب
أحدهما عين الآخر ، حيث أنّ القبح هو ما يستحقّ فاعله الذمّ والعقاب ، والحسن ما
يستحقّ عليه المدح والثواب ، وبهذا يرجعون هاتين القضيتين إلى معنى واحد وهو المدح
والعقاب.
ولكن الصحيح
أنّهما قضيتان متغايرتان ، فإنّ حسن الفعل وقبحه ، معناه : انّ هذا الفعل ، «هل
ينبغي أن يقع أو لا ينبغي وقوعه» ، بقطع النظر عن نظر الآخرين ، وأنّهم سوف يثيبون
ويمدحون ، أو أنّهم سوف يعاقبون ويذمّون ، فالحسن معناه : «إنّ هذا ينبغي أن يقع ،
والانبغاء هذا له مراتب ، والقبح معناه : «إنّ هذا لا ينبغي أن يقع» ، وعدم
الانبغاء هذا له مراتب أيضا ، وهذا الانبغاء وعدمه ليس أمرا مجعولا ، بل مصداق «ينبغي»
هنا ، هو بنفسه أمر واقعي تكويني خارجي لم يجعله جاعل ، وهذا معنى واقعيّة «الحسن
والقبح».
وأمّا مسألة
استحقاق العقاب والثواب ، فهذا بحث عن حسن وقبح فعل ، هو فعل المثيب أو المعاقب
بحيث أنّه لو صدر الفعل من هذا الشخص ، فحينئذ يقال : الآمر ، هل ينبغي أن يعاقبه
أو أنّه ينبغي أن يثيبه ، أو أنّه لا انبغاء ، وعليه فهنا قضيتان متغايرتان
طوليتان : إحداهما : إنّ الخيانة لا ينبغي وإنّ الأمانة ينبغي ، والأخرى ، ان من
صدرت منه الخيانة ينبغي أن يذم ، وإذا صدر منه حسن ينبغي أن يمدح ، إذن ، فهما
قضيتان عقليتان متغايرتان.
أمّا القضية
الأولى : إذا عمّقنا النظر فيها ، نرى أنّهم أرجعوها إلى قضية أساسية ، وهي «قبح
الظلم وحسن العدل» ، وقالوا : بأنّ «الحسن والقبح» مرجعهما إلى هاتين القضيتين
الأساسيتين وهما «قبح الظلم ، وحسن العدل».
ونحن إنّما نريد
أن نحلل هذا لنثبت من خلاله أنّ قضية قبح الظلم في تركيبها خطأ منطقي ، وهي ترجع
إلى تركيب منطقي آخر ، وإن كان مضمونها صحيحا ، فالظلم قبيح ، ومعنى قبيح يعني
أنّه لا ينبغي وقوعه ، إذن ، هذه القضية لها موضوع ومحمول ، فموضوعها الظلم ،
ومحمولها لا ينبغي ، أمّا الموضوع ، وهو الظلم ، فمعناه «سلب ذي الحق حقّه» إذن ،
الحق أمر مستبطن في معنى الظلم ومفروض فيه ، وهذا الحق ليس عبارة عن حق من الحقوق
المجعولة ، لأنّنا نتكلم عن عالم مدركات العقل العملي ، أي الحسن والقبح الثابتين
بقطع النظر عن جعل جاعل ، بل هي واقعية تكوينية ، كما لو فرض أنّ لزيد حق واقعي
تكويني على عمرو ، وهذا يسلبه حقّه ، ومعنى أنّ له حقّ عليه ، متمثل في أن يطيعه
ويتأدّب أمامه ، وهذا معناه : انّ عمرا ينبغي له أن يطيعه ، فهذا التعبير هو عين
ذاك ، فقولنا : يحقّ لزيد على عمرو أن يطيعه ، يعني أنّ عمروا عليه أن يتأدّب بين
يديه ، يعني لا ينبغي له أن يخالفه ، إذن ، بحسب التحليل ، مفهوم الظلم قد استبطن
بنفسه عدم الانبغاء ، فالظلم الّذي هو موضوع القضية ، يرجع بحسب التحليل إلى أنّ
عمروا لا ينبغي له أن يخالفه ، إذن ، فترجع قضية انّ الظلم قبيح ، إلى ان ترك فعل
عمرو إلى ما لا ينبغي اتجاه زيد ، أي إلى عدم الانبغاء ، فتكون القضية ضرورية بشرط
المحمول ، إذن ، فلا معنى لهذه القضية إلّا مجرد الإشارة إلى موارد الظلم خارجا ،
وإلّا ، فبحسب هذا التحليل ، صار المحمول مستبطنا في الموضوع ، وهذا لا معنى له ،
وعليه فتركيب هذه القضية المنطقي خطأ.
والتركيب الصحيح
هو أن يقال : الخيانة قبيحة ، والكذب قبيح ، وهتك المولى قبيح ونحوه ، فهنا لا
يكون المحمول مستبطنا في الموضوع. وبالجملة : إذا أردنا الإشارة إليها نقول :
الظلم قبيح ، فهذه القضية منتزعة من مجموع قضايا ، وأصل المطلب هو تلك القضايا ،
من قبيل مخالفة المنعم قبيحة ، وهي محل كلامنا.
وأمّا القضية
الثانية : وهي قضية مخالفة المولى المنعم قبيحة ، فقد جعلوها ذات القضية الأولى ،
وقد عرفت أنّها قضية أخرى موضوعها فعل العقلاء ومواقفهم من فاعل القبيح ، إذن فهذه
القضية غير تلك ، بل هما قضيتان طوليتان.
والآن نأتي إلى
القضية الأولى ، وهي قضية أنّ مخالفة المنعم قبيحة ، أي قضية الفعل القبيح ، فهنا
قد يقع الخطأ في تشخيصه ، وهذا الخطأ قد يكون بمعنى أنّ الشيء ثابت ، لكن هو لم
يدرك ثبوته ، وقد يكون العكس ، أي أنّ الشيء غير ثابت ولكن تخيّل ثبوته ، فالخطأ
تارة يكون بنحو التوسيع ، وأخرى يكون بنحو التضييق ، فالأول خطأ في التضييق ،
والثاني ، خطأ في التوسيع.
أمّا الخطأ في
التضييق ، فهو في قضية المولى المنعم يقبح مخالفته ، وهذه القضية فيها ، كبرى ،
وصغرى ، فالكبرى ، هي «قبح مخالفة المنعم» ، والصغرى هي ، «إنّ هذا مولى منعم» ،
وهذه مخالفة للمولى المنعم ، حينئذ ، الخطأ بنحو التضييق ، تارة يكون في الكبرى ،
وأخرى يكون في الصغرى ، إذن ، فعندنا نحوان من الخطأ ، فالخطأ في الكبرى بنحو
التضييق معناه : انّه بحسب لوح الواقع ، المولى المنعم يقبح مخالفته ، لكن هذا
الإنسان لقصور في عقله لم يدرك القبح في مخالفة المولى ، وهذا المطلب ، تارة يتصور
بنحو كلي ، بمعنى إنّ هذا الإنسان القاصر في عقله لا يتصور قبح المخالفة أصلا فضلا
عن إدراكها ، فهو لا يدرك قبح مخالفة المنعم سواء في القطع أو الظن أو غيره ،
وأخرى لا ينفي الكبرى رأسا ، وإنّما ينفي إطلاقها ، من قبيل القائلين بقاعدة قبح
العقاب بلا بيان ، فهؤلاء وإن نسجوا مصطلحات دون أن يشعروا بأنّهم يلغون بهذا قبح
مخالفة المولى وإنّ هذا على خلاف مولويته وانّ مرجع هذا وروحه إلى أنّه لا يقبح
مخالفة المولى المنعم في المجهولات ،
فيكونوا قد نفوا
إطلاق الكبرى ، لا الكبرى رأسا ، وسمّوه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فمثل هذا
يكون خطأ بنحو التضييق بلحاظ الكبرى ، فمن ارتكب الخطأ ، فهل يؤثر في رفع قبح
المخالفة في حقّه؟ أي انّ عدم علمه بالقبح الّذي هو أمر واقعي ، هل يمنع عن فعليّة
القبح؟ طبعا لا ، إذ يستحيل ذلك ، لأنّه لو كان يمنع عن فعليّة القبح لكان القبح
مشروطا بالعلم به ، وهو محال ودور ، لأنّ معناه : انّ الشيء موقوف وجوده على العلم
بوجوده ، وهو دور ، وعليه فالقاصر الّذي لم يدرك أصل كبرى قبح مخالفة المنعم ، أو
الّذي لم يدرك إطلاق هذه الكبرى ، يبقى القبح فعلي في حقّه ، فلو خالف المولى ،
إذن فقد ارتكب ما لا ينبغي ، وهو معنى القبح ، لأنّ عدم الانبغاء يستحيل كونه
مشروطا بالعلم ، لأنّ الشيء لا يكون مشروطا بالعلم بنفسه.
إذن فالخطأ بنحو
التضييق لا يوجب نفي القضية الأولى ، وهي قبح المخالفة.
لكن يمكن أن يقال
: بأنّ هذا الخطأ يوجب نفي القضية الثانية ، وهي استحقاق العقاب ، فيقال : بأنّ
استحقاق العقاب الّذي يرجع إلى قولنا : إنّ المولى الّذي ينبغي له أن يعاقب لا
يقبح منه أن يعاقب ، فهذه القضية مشروطة بالعلم بالأولى ، لأنّه لم يجعل العلم
بشيء شرط في نفس ذلك الشيء ، إذن فلا يلزم في هذه القضية دور ، لأنّ هذه القضية
غير تلك القضية ، إذن فيمكن أن نقول : إنّ حسن العقاب واستحقاقه مشروط بالعلم
بالقضية الأولى ولا دور ، وحينئذ ، القاصر لا يعاقب وإن ارتكب قبيحا ، لأنّه لم
يعلم بالأولى ، فمن تمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان يقول : بأنّ مثل هذا القاصر
لا يستحقّ العقاب لأنّه خالف المولى بلا بيان ، والمفروض أنّ القضية الثانية
مشروطة بالعلم بالقضية الأولى ، فهذا خطأ بنحو التضييق بلحاظ الكبرى.
وقد يكون الخطأ
بنحو التضييق بلحاظ الصغرى ، وذلك ، كمن يتخيّل انّ المولى غير منعم عليه ، ولا
يدري بأنّه منعم عليه ، وحينئذ يخالفه ، فهذا خطأ في تشخيص الصغرى.
وحينئذ يقال :
بأنّ هذا الإنسان المخطئ ، هل أنّ القضية الأولى فعلية في حقّه كما في الكبرى ، أو
أنّها غير فعلية في حقّه؟.
وهنا قد يقال :
بأنّ القضية الأولى غير فعليّة في حقّه أصلا ، وذلك لأنّ الأولى مشروطة بالعلم
بصغراها ولا دور.
وجوابه هو ، إنّ
العقل يحكم بقبح مخالفة المنعم ، لكن لا بوجوده الواقعي ، بل يحكم بقبح مخالفة
المنعم الّذي يعلم بكونه منعما ، ولا دور كما هو واضح ، لأنّ القبح أمر واقعي
تكويني يترتب على مخالفة من يعلم بكونه مولى منعما ، وهذا لا يشمل المنعم المجهول
، فلو خالف عمرو زيدا المنعم عليه واقعا ، لأنّه يعتقد بأنّه غير منعم عليه ، فهنا
لم يصدر من عمرو قبيح ، ولم يرتكب ظلما أصلا ، أي لم يصدر منه ما لا ينبغي ، ولهذا
لو فرض أنّ عمروا كان معصوما أخلاقيا ، فمع هذا يصدر منه هذا العمل ، وهذا برهان
على انّ هذا العمل ليس بقبيح ، وإلّا لما صدر منه هذا العمل ، إذن ، فيفرق الحال
بين الخطأ في تشخيص الكبرى ، والخطأ في تشخيص الصغرى.
فالخطأ في تشخيص
الكبرى لا يحول دون فعليّة القضية الأولى في حقّه.
وأمّا الخطأ في
تشخيص الصغرى ، فيحول دون فعليّة القضية الأولى فضلا عن الثانية في حقّه.
وأمّا الخطأ بنحو
التوسيع بحيث انّ ما لا يكون مصداقا ، يراه مصداقا ، وهذا الخطأ تارة يكون بنحو
التوسيع في الكبرى ، وأخرى يكون بنحو التوسيع في الصغرى.
فالخطأ بنحو
التوسيع في الكبرى ، كما لو فرض أنّ إنسانا كان يتخيّل انّ الجار يكون له من
المرتبة على حدّ ما للمنعم بحيث أنّه تقبح مخالفته ، فإذا اعتقد بهذا أو أدركه ،
فهل يقبح منه حقيقة مخالفته أو لا؟.
والصحيح أنّه يقبح
منه مخالفته ، فإنّ موضوع القبح هو ما يراه الفاعل انّه ممّا لا ينبغي ، ولهذا لو
أقدم هذا الإنسان على مخالفة هذا الجار لصحّ ذمّه وتوبيخه ، إذ ما دام أنّه يراه
قبيحا فكيف يقدم على مخالفته.
وهذا القبح ليس
توسعة في دائرة من دوائر القبح الأولي ، بل هو قبح طولي ثانوي ، لأنّه أخذ في
موضوعه إدراك قبح أولي ، لأنّ هذا القبح مرجعه إلى أنّ من يدرك إنّ شيئا «ما»
قبيحا ثمّ يقدم عليه فهو منه قبيح ، إذن ، فهو قبح طولي ثانوي أخذ في موضوعه إدراك
قبح أولي ، سواء كان إدراك القبح الأولي الّذي أخذ في موضوع هذا القبح الثانوي
إدراكا مطابقا للواقع ، أو مخالفا للواقع ، فهذا بنفسه قبح ثانوي ، ولازم ذلك هو
انّ هذا الإنسان الّذي أدرك وهما قبح مخالفة الجار ، لو ارتكب مخالفة الجار فيكون
قد صدر منه القبح الثانوي ، لأنّ القبح هو ، ارتكاب ما تخيّله قبيحا ، وإلّا فنفس
مخالفة الجار بما هي لا قبح فيها ، وإنّما كان ذلك قبحا لما تخيّله أنّه قبيح.
وأمّا إذا فرض انّ
إنسانا أدرك قبح مخالفة المنعم ، وكان هذا الإدراك مطابقا للواقع ، ومع هذا خالفه
، فهنا يوجد قبيحان ، لأنّه ارتكب القبح الأولي ، والقبح الثانوي ، لأنّه ارتكب
مخالفة المنعم بما هو منعم ، وهو قبيح أولي ، وارتكب ما يراه قبيحا ، وبه يكون قد
ارتكب قبيحا ثانيا ثانويا ، ففي الأول ، القبح الطولي موجود ، وفي الثاني ، الأولي
والطولي موجود ، إذن فهذان فرضان.
وفي قبالهما فرض
ثالث ، يكون فيه القبح الأولي فقط موجود.
وهذا هو الخطأ
بنحو التضييق ، وهو كمن يخالف المنعم عامدا مع عدم إدراكه قبح ذلك ، فهنا القبح
الأولي موجود دون الثانوي.
إذن فهنا قبيحان
قد يجتمعان وقد لا يجتمعان ، ففي مسألة الجار يجتمعان ، ولكن فيمن ينكر إنعام
المنعم وعدم إدراك قبح مخالفته لا يجتمعان.
وأمّا الخطأ
التوسعي بلحاظ الصغرى ، فمثاله ما أشير إليه سابقا من انّ هذا الإنسان يدرك أنّ
مخالفة المنعم قبيحة ، ويتخيّل أنّ زيدا هو المنعم ، بينما هو غير منعم عليه ، فهنا
الوجدان قاض بأنّ هذا القبح منه إنّما كان لمخالفته زيدا ، وهذا القبح ليس طوليا ،
بل هو أوّلي ، بمعنى أنّه هنا يمكن أن نفرض توسعة في دائرة القبح الأولي من أول
الأمر ونقول : بأنّ قبح مخالفة المنعم من أول الأمر ، موضوعه ، قبح ما يعتقد بكونه
مخالفة للمنعم ، وهذا يعتقد فيه ذلك ، فهنا هذا ليس في طول الاعتقاد بقبح المخالفة
، بل في طول الاعتقاد بمنعميّة زيد ، ولا يلزم من هذا أخذ المتقدّم رتبة في
المتأخّر رتبة ، فيكون القبح هنا أوليا راجعا إلى توسعة دائرة القبح الأولي بحيث
يكون موضوعه ما يعتقد كونه مخالفة المنعم ، وهذا هو أساس التصور الثاني من
التصورات الثلاثة الّتي بها بنينا على قبح التجري ، فهذا يدخل تحت مصاديقه عند ما
تخيّل انّ المنعم زيدا وهو ليس بمنعم.
ومنها الاشتباه في
تشخيص أمر المنعم ونهيه كما هو الحال في التجري ، وكل هذا يدخل تحت موضوع القبح
الأولي ، ومن هنا ، فالوجدان قاض بتساوي درجة القبح هنا ، فلا فرق بين من يرتكب ما
يعتقد كونه مخالفة ويكون مخالفة واقعا ، وبين ما يرتكبه وهو يعتقد بأنّه مخالفه مع
أنّه ليس مخالفه واقعا ، أي لا فرق بين العاصي والمتجري في
دائرة القبح ،
لأنّهما لم يرتكبا إلّا قبيحا واحدا ، لأنّ هذا القبح في حالة الاشتباه ليس طوليا
ليجتمع قبحان في المعصية ، بل كان ذلك للتوسعة كما عرفت.
وبهذه الفذلكات
ظهر أنّ صاحب التصور الثالث إذا قبل وجدان من يقول بأنّ المتجري والعاصي كلاهما
ارتكبا قبيحا بدرجة واحدة ، فحينئذ يتعين عليه أن يرفع يده عن التصور الثالث ،
وذلك لأنّ هذا الشخص كان يقول في التصور الثالث إنّ حق الطاعة موضوعه مركب من
جزءين ، هما ، وجود التكليف وإحرازه ، فالمتجري بناء على هذا لم يسلب المولى حقّه
، لأنّ أحد جزئي الموضوع غير موجود ، لكن هو يرى بأنّ هذا ظلما ، والوجدان قاض
بأنّ الإتيان بما يراه ظلما قبيح أيضا ، ومن هنا ألزمنا صاحب التصور الثالث بقبح
التجري ، لكن الآن نقول : إنّ صاحب التصور الثالث إذا سلّم بوجداننا ، فإنّه لا
بدّ له من رفع اليد عن هذا التصور الثالث ، وذلك لأنّ قبح الإقدام على ما يراه
الإنسان ظلما للمنعم ، تارة ، يفرض قبحا ثانيا غير قبح مخالفة المنعم ، وأخرى يفرض
غيره.
وبتعبير آخر :
تارة يفرض انّ قبح المخالفة هو ما يكون حقيقة مخالفة وقبحا ، وأخرى يفرض انّ قبح
المخالفة هو ما يعتقد هو أنّه قبيح وإن لم يكن واقعا قبيح.
فإن ادّعى أنّ
القبح هو ما يعتقد أنّه قبيح ، إذن يلزم أن يكون العاصي أشدّ من المتجري لأنّه
ارتكب قبيحين ، بينما المتجري ارتكب قبحا واحدا ، وهذا خلاف الوجدان المفترض.
وإن افترض توسعة
في دائرة القبح من أول الأمر ، بمعنى أنّ هناك قبحا واحدا يشمل العاصي والمتجري
فهذا لا يكون إلّا بالتصور الثاني.
وأمّا ما ذكرناه
من كيفيّة رفع الإشكال بناء على التصور الثالث ،
فهو انّ صاحب
التصور الثالث يرى أنّ حقّ المولوية مخصوص بمورد العصيان ، وعليه ، فظلمه لا يكون
إلّا في مورد العصيان.
لكنّا كنّا نقول :
بأنّ هذا يدّعي أنّ القبح ليس موضوعه الظلم ، بل الإتيان بما يعتقد كونه ظلما ،
وحينئذ ، فلا يوجد قبحان ، وقد كان هذا صيغة جدلية مؤقتة إلى الآن.
أمّا الآن فقد
اتضح بطلان هذه الصيغة ولا بدّ من الرّجوع إلى التصور الثاني ، إذ حقّ المولوية
عبارة عن قبح المخالفة ، والظلم عبارة عن فعل القبح ، فلو قيل بأنّ الإقدام على
هذا قبيح ، فلا بدّ أن يكون قبح آخر وراء هذا القبح ، ويلزم من هنا أسوئيّة العاصي
على المتجري.
والحاصل هو أنّه
لا بدّ من الرّجوع إلى التصور الثاني لأنّ قبح الإقدام على المعصية إن كان غير
القبح الأولي لزم صدور قبحين من العاصي ، وإن كان نفس قبح الظلم فلا بدّ من افتراض
أنّ موضوعه يشمل القاطع أي أنّ تمام موضوعه القطع ، وهو التصور الثاني ، هذا هو
مسلك متهور العدلية الصحيح.
٢ ـ المسلك الثاني
: من مسلكي الحسن والقبح ، وهو المسلك الّذي يعترف كالمسلك الأول «بالحسن والقبح»
العقليّين ، ولكنّه يعتبر أنّهما من القضايا المشهورة الّتي تدخل في صناعة الجدل
دون أن تدخل في صناعة البرهان ، وهذا المسلك هناك فرضيتان لتفسيره.
١ ـ الفرضية
الأولى : هي ما يتراءى من كلمات السيّد الخوئي «قده» حينما يتحدث عن هذا المسلك ، حيث يفهم منه أنّه يرجع قضية
الحسن والقبح إلى كونهما قضية إنشائية لدى العقلاء وحكمية وإيجادية ، لا قضية
خبرية ناظرة إلى واقع وموطن خارج أفقها.
__________________
وحاصل هذه الفرضية
، هو ، انّ الحسن والقبح عبارة عن حكمين مجعولين من قبل العقلاء ، وهذان الحكمان
يتميزان عن سائر الأحكام العقلائية في نكتة : وهي انّ الحسن والقبح حكمان تطابق
العقلاء على جعلهما ، لا أنّه حكم مجعول من قبل بعض العقلاء دون بعض ، وذلك
باعتبار تطابق العقلاء على إدراك المصالح والمفاسد الّتي من وراء ذلك ، فالحسن
والقبح إذن قضية إنشائية جعلية ، وملاك هذا القضية الإنشائية هو تطابقهم في إدراك
الملاك وهو المصلحة والمفسدة ، فإنّهم كلهم يدركون المصلحة فيما يحكمون بحسنه ،
والمفسدة فيما يحكمون بقبحه ، ومن هنا كان هذا الحكم عاما وقضية مشهورة.
ومثل هذه الفرضة
أيضا هي مدّعى أكثر من واحد ممّن فسّر الحسن والقبح بأنّهما موقفان عمليان للعقلاء
لا حكمان مجعولان ، إذ في جملة من كتب المنطق فسّر الحسن بمعنى مدح العقلاء ،
والقبح بعنى ذمّهم ، والمدح والذمّ فعلان من أفعال العقلاء فيهما جنبة إيجادية لا
إخبارية وكاشفيّة.
وهذا روحه روح
الأول ، فهو والأول يشتركان في كون الحسن والقبح قضية إنشائية.
نعم ، يبقى انّ الحسن
والقبح بالبيان الأول حكمان مجعولان ، وبالبيان الثاني يكونان موقفين عمليين
للعقلاء.
سواء كان الأول ،
أو الثاني ، فملاكهما واحد هو المصلحة والمفسدة ، بدعوى أنّنا لا ندرك شيئا آخر في
الخارج وراء المصلحة والمفسدة في الأفعال ، وإذا وجدنا ذمّ العقلاء ومدحهم فإنّما
هو تبعا للمفسدة والمصلحة.
وهذه الفرضية لا
تنطبق على كلمات أصحاب هذا المسلك من
الحكماء ، حيث
أنّهم يصرحون بأنّ القضايا المشهورة ـ والّتي جعل الحسن والقبح منها ـ هي قضايا
مقرونة بالتصديق الجازم ومحط له ، كما في القضايا الضرورية ، غاية الأمر انّ التصديق
الجازم في القضايا المشهورة أضعف جنبة من ناحية الحقّانيّة ومضمونيتها من التصديق
الجازم في باب القضايا الضرورية.
ومن الواضح انّه
مع الاعتراف بأنّ القضايا المشهورة تستبطن تصديقا جازما بمفادها ، فهذا يستلزم كون
القضية خبرية تصديقيّة لا إنشائية جعلية ، وإلّا لو كانت قضايا مجعولة فما معنى
تصديق العقلاء بالحسن والقبح وجعلهم بالنسبة للعاقل الأول قبل وجود العقلاء إذا
كان عبارة عن جعل الحكم واتخاذ الموقف ، حيث ينبغي أن يقال بعدم قبح الظلم وحسن
العدل في حق العاقل الأول ، مع أنّ هذا خلاف الوجدان.
إذن فلا بدّ وأن
تكون هذه القضايا واقعية إخبارية لا إنشائية ، حيث أنّهم اعترفوا بأنّ التصديق
الجازم تستبطنه القضية المشهورة كما اعترف بذلك المنطق الأرسطي ، وعليه : فلا بدّ
أن نفرض انّ القضية المشهورة فيها جنبة حكاية وإراءة ، وإنّها غير متمحضة في
الناحية الإنشائية.
إذن ، فتفسير
القضايا المشهورة بالمعنى الّذي يقدره المناطقة ، بأنّها عبارة عن أحكام من قبل
العقلاء ، لا ينطبق على مصادر البحث مع المنطق الأرسطي.
ثمّ انّ دعوى كون
الحسن والقبح أمرا جعليا إنشائيا إيجاديا لا واقعيا خارجيا ، إمّا أن ترجع إلى
دعوى ثبوتية أو دعوى إثباتية.
أمّا رجوعها إلى
دعوى ثبوتية فهي أن يقال : بأنّ حسن العدل وقبح الظلم يستحيل كونهما أمرين خارجيين
، فيتعين أن يكونا أمرين إنشائيين جعليّين بالبرهان ، فالمطلب حينئذ ثبوتي.
وبيان الشبهة
الثبوتية هي أن يقال : بأنّ حسن العدل وقبح الظلم لو كانا صفتين خارجيتين على حدّ
الصفات الخارجية الّتي لها واقع خارجي من قبيل البياض والحركة والحرارة ، إذن ،
لاحتاجت إلى محل تتقوم به موجود في الخارج ، لأنّ الصفة الخارجية بحاجة إلى محل في
الخارج ، ولهذا نجد أنّ البياض الّذي هو صفة خارجية يحتاج إلى جسم يعرض له ، وكذلك
الحرارة ، وهنا : «الحسن والقبح» معروضهما هو العدل والظلم ، حتّى قبل وجودهما
خارجا ، فإنّ العدل ليس معناه أنّه بعد أن يوجد يكون حسنا ، بل هو حسن على أيّ حال
، وجد في الخارج أو لم يوجد ، وكذلك قبح الظلم ، إذن ، فهما لو كانا صفتين
خارجيتين لكانت خارجيتهما فرع خارجية موصوفهما ، بينما نجد أنّ معروضهما متحقّق
قبل تحققهما خارجا ، أي قبل تحقق موصوفهما خارجا ، فيكون هذا برهان على أنّهما
ليسا من الصفات الخارجية ، وهذا برهان على أنّهما من الصفات الجعلية.
وجواب هذا التقريب
هو أن يقال : إنّه لو كان المقصود من كونهما صفتين خارجيتين ، يعني أنّهما صفتان
موجودتان في الخارج على حدّ وجود البياض ونحوه ، لكان البرهان المتقدّم برهانا على
عدم الخارجية الوجودية ، وإنّما خارجيتهما ـ كما ذكر المبرهن ـ خارجية ثابتة في
لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود ، إذن ، فهما واقعان بأنفسهما لا بوجودهما
، وحينئذ ، لا يحتاجان في عالم الوجود الخارجي إلى فعليّة الموصوف ، وإلّا فلو كان
لهما وجود خارجي محتاج إلى فعليّة الموصوف ، لكانت فعلية الموصوف هذا واجبة ،
ومعها يتعدد الواجب ، فإمكان الإنسان مثلا أمر واقعي ، ولكن ليس معنى هذا أنّه
موجود في الخارج ، وإلّا لكان لا بدّ للإمكان هذا من إمكان آخر وهكذا يتسلسل ، إذن
فالأمور الواقعية لا تحتاج إلى فعلية موصوفها في الخارج ، إذن ، فالشبهة الثبوتية
لا أساس لها.
وأمّا رجوعها إلى
دعوى إثباتية ، فبيانها أن يقال : بأنّنا لا ندرك شيئا واقعيا في الخارج وراء
المصالح والمفاسد في الأفعال وإنّما الشيء الّذي نلاحظه هو حكم العقلاء ، مدحهم
وذمّهم تبعا للمفسدة والمصلحة ، إذن ، فالعقلاء يصدرون أحكاما على أساس إدراك
المصالح والمفاسد ، وعليه فالحسن والقبح حكم من قبل العقلاء ثابت في المصالح
والمفاسد في الخارج.
وكأنّ السيّد
الخوئي «قده» أراد أن يشكل على هذا المطلب ، ويبرهن على واقعية الحسن والقبح ،
فقال : بأنّ «الحسن والقبح» ، لو كانا حكمين مجعولين من قبل العقلاء ، إذن فما هو
شأن العاقل الأول الّذي وجد قبل وجود العقلاء الكثيرين ، حيث أنّنا نسأل : هل انّ
هذا العاقل الأول كان له حسن وقبح أم لا؟ فإن قلتم بأنّه كان له ، سألناكم حينئذ ،
كيف تفسّرون هذا الحسن والقبح؟ فهل هو بمعنى إصدار الحكم من قبل العقلاء أم كيف؟
فإنّ هذا لا معنى له في شخص واحد ، لأنّه أين الحاكم والمحكوم عليه ، مع أنّه يوجد
حسن وقبح ، إذن فهذا يثبت أنّهما أمران واقعيان لا جعليين ، وإلّا فلا بدّ أن يقال
بعدم قبح الظلم وحسن العدل في حقّ هذا العاقل الأول ، مع انّ هذا خلاف الوجدان.
وهذا الكلام كأنّه
ينبغي إرجاعه إلى التكذيب الوجداني لهذه الدعوى الإثباتية ، وذلك بأن يقال :
بالعبارة المطمئنة ، إنّه بالوجدان ندرك أنّ من وراء ما نواجه من جعول وإنشاءات
ومواقف العقلاء ، انّ هناك شيء ثابت فوقنا وقضايا واقعية نشعر بها ويدركها العقل
العملي عن طريق مجرد الإدراك ، وهذا الشيء وهذه القضايا هي «الحسن والقبح» ، وهذه
دعوى وجدانية صحيحة ، وبذلك تكون تكذيبا وجدانيا للبرهان المذكور.
أمّا لو تجاوزنا
هذه الدعوى الوجدانية ، وأردنا إقامة البرهان على
خلافها ، فمن أين
يعرف حال ذلك العاقل الأول ، وانّه كان يدرك الحسن والقبح أم لا ، نعم نحن نجزم
بأنّه كان يدرك قياسا على أنفسنا ومن خلال وجداننا ، وهذا الوجدان هو الأساس في
اعتقادنا بأنّ ذاك العاقل كان يدرك الحسن والقبح ، وعليه ، فالأصل في هذه الدعوى
هو الوجدان ، وحينئذ فإن قبلنا هذا الوجدان ، إذن فلندّعه من أول الأمر ، وإن لم
نقبله ، فلا يتمّ هذا البرهان ، لعدم علمنا بأنّ العاقل الأول كان يدرك الحسن
والقبح أم لا.
ولكن الوجدان ـ كما
عرفت ـ قائم على وجود حسن وقبح ، وهذا الوجدان لم ينكره الأرسطيّون أنفسهم على ما
يصرح به أرسطو نفسه ، وابن سينا في منطق الشفاء ، حيث يقولون إنّ القضية المشهورة قضية
تستبطن تصديقا جازما ، وهذا لا معنى له إلّا إذا فرض واقع مرئي بهذه القضية ، هذا
من ناحية وجدانية.
وأمّا من ناحية برهانية
واستدلالية ، فيمكننا نقض هذه الفرضية بما حاصله : هو انّ هذه الفرضية تربط بين
الحسن والقبح وبين إدراك المصالح والمفاسد ، فتعتبر انّ حكم العقلاء بالحسن والقبح
تابع لإدراك المصلحة والمفسدة ، بينما هذا لا يفسّر وجداناتنا الأخلاقية في باب الحسن والقبح ، فإنّ وجداناتنا تبرهن على أنّ الحسن
والقبح مستقل بنفسه وأجنبي عن باب المصالح والمفاسد ، ومن جملة هذه الوجدانات
المنبهة على ذلك هو ما أبرزناه في بحث التجري حيث قلنا إنّ قبح التجري والعصيان
على نحو واحد ، إذ وحدة درجة القبح في شارب الخمر عصيانا وفي شارب الخل متوهما
أنّه خمر ، مع عدم وحدة درجة المفسدة يكشف عن أنّ القبح غير المفسدة ، فإنّه من
الواضح انّ مفسدة
__________________
العصيان ليست
كمفسدة التجري بينما قبحهما واحد. إذن فوحدة درجة القبح مع عدم وحدة درجة المفسدة
يكشف عن أنّ باب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة.
والخلاصة هي أنّه
بعد وجدانية عدم كون الحسن والقبح من المدركات على أساس أنّها تشريعات ومواقف عقلائية
نقول :
إنّ هذه الفرضية
تربط بين القبح والحسن والمفسدة والمصلحة ، وتعتبر أنّ حكم العقلاء وإدراكهم
للأخيرين سببا لإدراك الأولين ، بينما هذا لا يفسر وجدانياتنا الأخلاقية في باب
الحسن والقبح ، لأنّها لا تبرهن على أنّهما باب مستقل عن باب المصلحة والمفسدة ،
ولهذا كان التجرّي قبيحا رغم عدم المفسدة في نفس الفعل.
بينما وجداناتنا
تبرهن على كون الحسن والقبح باب مستقل بنفسه وأجنبي عن باب المصالح والمفاسد.
ومن المنبهات على
ذلك ما قلناه سابقا ، من كون قبح التجري والعصيان على نحو واحد ، وانّ وحدة درجة
القبح في العاصي مع درجة القبح في المتجري مع عدم درجة المفسدة ، يكشف عن أنّ
القبح غير المفسدة ، حيث كان التجري قبيحا رغم عدم المفسدة في نفس الفعل المتجرى
به.
ومن المنبهات أيضا
على ذلك هو ، أنّه لو كان الحسن والقبح راجعا إلى باب المصلحة والمفسدة ، للزم
إجراء باب التزاحم فيما إذا تزاحم القبح مع المصلحة ، مع أنّ العقلاء لا يبنون على
إجراء التزاحم بين القبح ومصلحة ، أو الحسن ومفسدة ، فمثلا لو توقف شفاء مريض على
قتل صحيح ، بأن يؤخذ عضو من الصحيح ويعطى للمريض ، ففي عالم المصلحة والمفسدة يقع
التزاحم بين مصلحة المريض ، ومفسدة قتل
الصحيح ، فلو كان
باب الحسن والقبح عبارة عن أحكام مجعولة على أساس المصلحة والمفسدة ، للزم أن يقال
بالتزاحم هنا ، بينما العقلاء لا يبنون على جريان التزاحم في المقام ، حيث لا
يبرّرون عملية قتل الصحيح بشفاء المريض أو كثير من المرضى ، وهذا معناه : انّ
أخلاقية الحسن والقبح مستقل عن باب المصالح والمفاسد ، وهذا برهان على عدم الربط
بين الحسن والقبح وبين المصالح والمفاسد ، وبالتالي فهذا منبه على واقعيّة الحسن
والقبح وأنّهما صفتان ذاتيّتان واقعيّتان ليستا داخلتان في باب الجعل والاعتبار ،
إذن فأساس هذه الفرضية غير تام ، لأنّه لم يقل أحد من المناطقة ، بأنّ الحسن
والقبح من الأحكام العقلائية المجعولة من قبل العقلاء ، وإنّما الّذي ينبغي أن
يكون تفسيرا لهذا المسلك وهذه الفرضية ، إنّما هو التفسير الثاني ، وهو أنّ الحسن
والقبح قضايا تصديقيّة جزمية يجزم بها الإنسان في مقابل القضايا الظنيّة ، ولكن
هذه القضايا ليست داخلة في باب القضايا الضرورية ، أي أنّها غير مضمونة الحقّانيّة
، ولهذا يقول «ابن سينا» ، بأنّه لو خلق إنسان منفردا عن مجتمعه ، منقطعا عن كل
أحد ، لما أدرك لا بعقله ولا بحسّه ولا بوهمه انّ العدل حسن ، والظلم قبيح ، لأنّ
هذه القضية ليست هي مدرك أوّلي للعقل أو الحسّ أو الوهم ، وإنّما الإنسان حينما
يعيش مع الآخرين يحصل له تصديق بهذه القضايا ، إذن فهي قضية مشهورة لا ضرورية.
٢ ـ الفرضية
الثانية : في تفسير مسلك المناطقة ، المتطابقة مع كلماتهم هي ، انّ قضية الحسن
والقبح قضية تصديقية جازمة ، بمعنى أنّ كل إنسان يصدق تصديقا جازما بواقع يسميه ، «الحسن
والقبح» ، ويرى بمنظار هذا التصديق الجزمي رؤية قطعية ، إنّ هناك أمرا واقعيا خارج
نطاق نفسه ، وهو قبح بعض الأفعال وحسن بعضها الآخر ، إلّا أنّ هذا التصديق ليس
منشؤه من كون هذه القضايا ضرورية مضمونة الحقّانيّة ، والّتي حصروها بأصناف ستة هي
، الأوليّات ، والفطريّات ، والحسيّات
والمتواترات ،
والتجريبيّات ، والحدسيّات ، وهي الّتي تشكّل مواد الأقيسة في صناعة البرهان حيث
تنتج تصديقا مضمون الحقّانيّة ، وإنّما قضية الحسن والقبح من غير هذا القبيل ، حيث
أنّ التصديق الجازم بها يحصل نتيجة التأديب والتربية الاجتماعية العقلائية.
وتقريب عدم كون
قضايا الحسن والقبح من القضايا الأولية المضمونة الحقّانيّة مبني على تشخيص
الميزان في كون القضية أولية مضمونة الحقّانيّة أم لا ، لكي نميّز على أساسه بين
القضية الضرورية ، والقضية المشهورة ، وهذا الميزان يمكن بيانه بإحدى صيغتين.
أ ـ الصيغة الأولى
: هي أن يقال : إنّ الميزان الكلّي في القضية الضرورية مرتبط بجانب المدرك في
القضية ، لا الإدراك نفسه ، فمتى كان ثبوت الحكم فيها للموضوع بالضرورة «كالأربعة
زوج» ، «أو تنقسم إلى متساوين» ، فهي قضية مضمونة الحقّانيّة ، ومن المستحيل عدم
انقسامها كذلك ، إذ المحمول ثابت فيها للموضوع بالضرورة.
نعم : إذا قلنا : «الإنسان
موجود» فهذه قضية ليست ضرورية ، لأنّ الوجود للإنسان بالإمكان ، وليس من المستحيل
أن لا يكون موجودا ، نعم لو حوّلنا هذه القضية إلى قضية «الإنسان ممكن الوجود» ،
لأصبحت ضرورية ، لأنّ الإمكان ثابت للإنسان بالضرورة.
والحاصل هو انّ
الميزان يرجع إلى جانب المدرك ، أي تكون جهة القضية ضرورية المدرك لا الإدراك نفسه
، فإنّه إذا كان ثبوت الحكم فيها للموضوع بالضرورة ، كما في الأربعة زوج ، تكون
قضية أوليّة ضرورية مضمونة الحقّانيّة.
وهذا الميزان ـ بقطع
النظر عن عدم انطباقه على أكثر ما اعتبروه قضايا ضرورية ، لو أردنا أن نحاسب
مسألتنا على أساسه ـ هو منطبق على قضايا العقل العملي ، إذ أنّنا ندّعي انّ ثبوت
الحسن للعدل ، والقبح
للظلم ، ثابت
بالضرورة لا بالإمكان ، بل يستحيل أن لا يكون بالضرورة ، فإنّ عقل الإنسان يدرك
هذا ، فهو جزء من مدركاتنا ، إذ أنّنا لا نرى نسبة القبح إلى الظلم كنسبة الماء
إلى المسجد ، بل نرى انّ الحسن والقبح صفتان ذاتيتان لموضوعهما على حدّ ذاتية
الزوجية للأربعة ، فإن كان هذا هو الميزان ، فهو ينطبق على مدركاتنا.
ب ـ الصيغة
الثانية : وهي أكثر انسجاما مع كلماتهم.
وحاصلها : هو انّ
الضرورة تكون بلحاظ الإدراك نفسه ، بمعنى انّ الإدراك ضروري ، ومعنى أنّه ضروري ،
يعني أنّ الإدراك ناشئ من حاق القوّة العاقلة ، لا من أسباب غير عقلائية ، فكل
قضيّة كانت ناشئة من حاق القوّة العاقلة الّتي أودعها الله تعالى في الإنسان ،
تكون قضية ضرورية مضمونة الحقّانيّة ، وكل قضية لم يكن إدراكها ناشئا من حاق
القوّة العاقلة ، بل كانت بسبب مؤثرات غير عقلائية ، «كالغضب والشهوة» وغيرهما ،
تكون قضية غير ضرورية قد يحصل الجزم بها ، ولكنّها غير مضمونة الحقّانيّة.
وحينئذ ، على ضوء
هذا قد يقال : إنّ قضية حسن العدل ، وقبح الظلم ليستا قضيتين ضروريتين ، لأنّهما
ليستا ناشئتين من حاق القوّة العاقلة ، وإنّما هما ناشئتان من أسباب أخرى ، وقد
حصرت القضايا الّتي يكون إدراكها من حاق القوّة العاقلة في القضايا الست ، وقضية
حسن العدل ، وقبح الظلم ليستا منها ، وهذا المطلب يمكن أن يبين ببيانين.
١ ـ البيان الأول
: هو أن يقال : بأنّ قضية حسن العدل وقبح الظلم لم ينشأ من حاق القوّة العاقلة ،
أو على الأقل ، لا يمكن التسليم القطعي بذلك ، لأنّه من المحتمل أن يكون التصديق
بذلك نتيجة التأديب الاجتماعي العقلائي ، حيث أنّهم أدركوا انّ المصالح العامّة
تتوقف على هذه القضايا ، فلقّنوا هذه القضايا جيلا بعد جيل ، فكأنّ الإنسان كان
يلقّن الجزم بذلك
بسبب التلقين والزمن ، وليس هذا ناشئا من حاق العقل ، ولهذا قال ابن سينا مقالته
المتقدّمة.
وهذا البيان حينما
يصدر من أولئك المناطقة ، فمن السهل الرد عليهم ، باعتبار أنّ هؤلاء أمثال ابن
سينا ، هم يسلمون بوجود إدراك تصديقي جازم لقضايا الحسن والقبح ، لكنّهم ينفون
ضمان الحقّانية.
وحينئذ نقول لهم :
بأنّه لو كان احتمال نشوء هذا الإدراك التصديقي الجازم بسبب مجرد التلقين والتأديب
جدّيا في نفوسكم ، إذن ، لزال هذا التصديق من نفوسكم ، إذ كيف يمكن أن تكونوا
بالفعل مصدّقين بقضايا الحسن والقبح تصديقا جازما ، ومع هذا تصنّفون الحسن والقبح
من صنف القضايا الجزميّة المستعملة في صناعة الجدل ، ومع هذا تحتملون أن يكون هذا
الإدراك مستندا للتلقين ، إذ أنّ احتمال هذا ، مع الاعتراف بفعليّة التصديق لا
يجتمعان ، وحينئذ ، فإمّا أن تعترفوا بأنّ الوجدان قاض بأنّ هذا التصديق لم يكن
متأثرا بالتلقين والتأديب ، وبهذا تتعاملوا مع هذه القضية بوصفها قضية مدركة بحاق
القوّة العاقلة ، وإمّا أن تكونوا كالمناطقة المحدّثين الّذين رفعوا يدهم عن
التصديق الجازم بهذه القضية وقالوا : بأنّ الحسن والقبح يتأثران بأوضاع النّاس
وعاداتهم ، كما سوف يأتي من أدلتهم ، إذن لا بدّ من أحد هذين الموقفين ، وعليه فهذا
البيان غير تام.
٢ ـ البيان الثاني
: هو أن يقال : إنّ قضيّة حسن العدل ، وقبح الظلم ليستا من القضايا التجريبيّة ،
والحدسيّة ، والحسيّة ، والمتواترات ، والفطريّات ، والأوليّات ، لأنّ الأوليات
عبارة عن القضايا الّتي يكون تصور الموضوع وتصور المحمول فيها كافيا لإدراك النسبة
بينهما من قبيل ، «الكل أكبر من الجزء» ، ولأنّ الفطريات عبارة عن قضايا قياساتها
معها ، أي أنّ برهان ثبوت المحمول للموضوع مستبطن في ذلك الموضوع كما
في قولنا : «الأربعة
زوج» ، لأنّها قابلة للانقسام إلى زوجين متساويين ، فهذا البرهان مستبطن في نفس «الأربعة»
، وهنا قضيّة «العدل حسن» ، و «الظلم قبيح» ليس من القضايا الفطرية ، إذ ليس هناك
برهان على الحسن والقبح مستبطن في «العدل والظلم» ، أي في «الموضوع».
فإن كانت هذه قضية
ضرورية ناشئة من حاق العقل ، فيقتضي البرهان أن تكون قضية أولية ، وحينئذ يجب أن
لا يختلف فيها النّاس ، مع أنّ النّاس يختلفون هنا ، فما يراه جماعة قبيحا ، يراه
آخرون حسنا ، وليس مجرد تصور الموضوع والمحمول فيها كافيا للتصديق بالنسبة كما هو
الحال في القضايا الأولية ، إذ لو كان الأمر كذلك فيها لما اختلف النّاس أصلا ، مع
أنّهم يختلفون كما عرفت ، فهذا يثبت انّ هذه القضية ليست أولية ، وحينئذ ، إذا لم
تكن من القضايا الضرورية ، إذن فهي ليست من القضايا المضمونة الحقّانيّة.
وهذا الكلام باطل
كبرى وصغرى.
أمّا بطلانه
كبرويا فهو أن يقال : إنّ القضية الأولية الّتي ينبع إدراكها من حاق القوّة
العاقلة لا يلزم فيها أن تكون القوّة العاقلة عند جميع النّاس قادرة على إدراكها ،
بل يمكن فرضها قضيّة أولية ، ولكن القوّة العاقلة ببعض مراتبها تكون صالحة
لإدراكها دون بعض المراتب ، ونشبّه القوّة العاقلة بالإحساس البصري ، فكل النّاس
عندهم إحساس بصري ، ووجود الهلال في الأفق قضية حسيّة أولية فيدركها الحس مباشرة ،
لكن ليس بالضرورة ، إذ يمكن أن يفرض انّ إحساس زيد البصري ضعيف ولا يمكنه أن يدرك
الهلال الّذي يدركه كل من كان له حسّ سوي ، لأنّ الإدراك الحسي له مراتب من حيث
القوّة والضعف ، والقوّة العاقلة بحسب قانون الحركة الجوهرية. لها قوّة وضعف ، إذن
فنفس هذا نقوله في القوّة العاقلة ، إذ أنّ هناك بعض القضايا لا حد
أوسط فيها بين
الموضوع والمحمول الّذي هو معنى كون القضية أولية ، لكن مع هذا فإنّ بعض النّاس
والنّفوس العاقلة في بعض مراتبها لا تدرك ثبوت هذا المحمول للموضوع ، هذا مضافا
إلى انّ إدراك هذه القضايا ، وهي قضايا الحسن والقبح حيث أنّه يمسّ في كثير من
الأحيان جوانب عاطفية وشخصية للإنسان المدرك من مصالح وعواطف ، ولهذا قد يفترض أنّ
قوّته العاقلة تدرك هذا ، لكن تغلبه العاطفة وجوانبه الأخرى فتغطي عليه كثيرا من
المدركات وتجعلها في معرض التشكيك فيها والتكذيب لها ، وهذا هو فرق قضايا العقل
العملي عن قضايا العقل النظري البحتة كالكل أكبر من الجزء ، حيث لا يكون الاختلاف
فيها اختلافا موضوعيا ، لأنّها غالبا لا تماس فيها بينها وبين المصالح والعواطف ،
فلا تتأثر بها ، بخلاف قضايا الحسن والقبح ، وعليه فالكبرى ، وهي أنّ مجرد وقوع
الخلاف في ثبوت محمول لموضوع ، لا يعني انّ القضية ليست أولية ، لأنّ هذا الاختلاف
قد ينشأ من قصور المقتضي وقد ينشأ من وجود المائع.
وأمّا بطلانه
صغرويا ، فهو أن يقال : بأنّنا ندّعي أنّه لا خلاف بين العقلاء في كبريات ومقتضيات
العقل العملي كالحسن والقبح ، وانّ «الكل أكبر من الجزء» ، وإنّما الخلاف الّذي
يتراءى خارجا ، إنّما هو خلاف في صغرياتها أو في حالات التزاحم بين مقتضيات العقل
العملي ، وإلّا فأصل مقتضياته بدون فرض التزاحم ليس فيها خلاف ، إذ كون الإحسان
للفقير شيئا حسنا لا يمكن أن ينكره إنسان عمليا ، وكون الإسراف شيء قبيح في نفسه
أمر لا يمكن إنكاره من قبل إنسان ، وإنّما الخلاف هو في موارد التزاحم بين الإحسان
والإسراف ، بين قيمتين أخلاقيتين وإعمال التزاحم بينهما.
وبهذا يثبت أنّ
قضية الحسن والقبح قضية ضرورية ، كما يثبت أيضا
على ضوء ما تقدّم
في مسلكنا ، قبح الفعل المتجرّى به بناء على أنّ الحسن والقبح أمرين واقعيّين
يدركهما العقل ، ولا يختلف الحال فيه بين المسلكين ، أي بين أن تكون قضايا العقل
العملي وإدراكاته مضمونة الحقّانيّة أم لا ، فإنّ ضمان الحقّانيّة وعدمه لا يؤثر
على واقع هذا الإدراك وعلى كون الحسن والقبح من القضايا الواقعية ما دام هي قضايا
مصدقة.
نعم لو قيل
بالفرضيّة الأولى في تفسير مسلك الفلاسفة ، من أنّ الحسن والقبح حكمين وقضيتين
مجعولتين من قبل العقلاء ، فالأمر حينئذ يحتاج إلى استئناف بحث جديد في مقدار ما
هو المجعول ، وفي أنّه مجعول مخصوص بموارد المعصية ، بحيث لا تعمّ التجري ، وفي
أنّ العقلاء هل يحكمون بقبح خصوص المعصية أو بالجامع بين المعصية والتجرى لأنّ
الجعل بيد الجاعل توسيعا وتضييقا؟.
هذا تمام الكلام
في طريقة إثبات قبح التجرّي عقلا ، وسوف يأتي بيان مقدار ما هو المجعول من قبل
العقلاء عند الكلام عن حرمة التجرّي شرعا ، ـ بناء على كون الحسن والقبح من
الأحكام المجعولة من قبل العقلاء ـ.
ثمّ إنّ الأصحاب
حاولوا إقامة براهين على عدم قبح الفعل المتجرّى به ، نستعرض أهمّها مع مناقشتها
ودفعها.
البرهان الأول :
هو ما أفاده المحقّق الخراساني «قده» في حاشيته على الرّسائل ، حيث ذكر ، انّ الفعل المتجرّى به
، قد يقال : باستحالة اتصافه بالقبح ، لأنّ الحسن والقبح إنّما يتصف بهما الفعل
بتوسط العناوين الاختيارية الّتي تكون مصبّا لإرادة الإنسان وشوقه المؤكد المستتبع
لتحريك العضلات ، أمّا العناوين غير الاختيارية الّتي تنطبق على
__________________
الفعل فلا يمكن أن
تكون معروضة لحسن أو قبح ، فمثلا : عنوان ضرب اليتيم إذا انطبق على فعل الضارب
بالاختيار ، يكون قبيحا ، وإلّا فلا ، وحينئذ ، على ضوء هذه الكبرى ، لو فرض أنّ
الإنسان اشتبه ، فتخيّل انّ الماء خمرا ، فشربه بداعي أنّه خمر ـ كما في مورد
التجرّي ـ ولكنّه كان ماء في الواقع ، فهنا إذا قيل : إنّ هذا الفعل يتصف بالقبح ،
حينئذ نسأل : انّه بأيّ عنوان يكون قبيحا؟ إذ أنّ هنا ثلاثة عناوين.
عنوان شرب الخمر ،
وعنوان شرب الماء ، وعنوان شرب مقطوع الخمرية ، ومن الواضح انّ هذا الفعل لا يكون
قبيحا بعنوان أنّه شرب للخمر ، لأنّه عنوان غير محقق في الواقع ، بل هو ماء ، كما
انّه ليس قبيحا بعنوان انّه شرب للماء ، لأنّه عنوان ليس قبيحا في نفسه ولو صدر عن
اختيار وكان صادقا عليه ، ولكن مع هذا فإن شرب الماء ليس قبيحا.
وإنّما الّذي يمكن
أن يتوهم قبحه من هذه العناوين هو ، عنوان مقطوع الخمريّة ، فإنّه ينطبق على هذا
الفعل والفرد الخارجي ، إلّا أنّ هذا العنوان ليس اختياريا ، وحيث أنّه غير
اختياري ، فلا يكون قبيحا ، إذ بتوسطه يكون الفعل قبيحا.
أمّا الكبرى : وهي
، انّ كلّ فعل لا يكون العنوان فيه اختياريا فلا يسري إليه القبح من ذاك العنوان ،
فلما عرفت ، من انّ الحسن والقبح يعرض للعناوين الاختيارية.
وأمّا الصغرى :
وهي انّ هذا العنوان ، وهو شرب مقطوع الخمرية ليس اختياريا ، فهذا مربوط بمبنى
صاحب الكفاية حيث يقول في أصوله ، انّ الفعل الاختياري هو عبارة عن
الفعل الصادر بالإرادة والاختيار ، فاختيارية أيّ عنوان فرع كونه صادرا بالإرادة.
__________________
والإرادة كما قال «قده»
هي ، الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ، فاختيارية كل عنوان إنّما تكون
بشوقية ذلك العنوان ، وحينئذ ، هذا الإنسان الّذي شرب الماء متوهما أنّه خمر قد
تعلقت إرادته ـ المتمثلة بشوقه المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ـ بشرب الخمر
المتوهم ، لا بشرب مقطوع الخمرية بما هو مقطوع الخمرية ، لأنّ مراده هو شرب الخمر
، فشوقه كذلك ، لا لمقطوع الخمرية ، إذن ، فهذا العنوان الثالث ليس محطّا ومصبّا
لإرادته ، إذن ، فهو ليس اختياريا ، لأنّ اختيارية الفعل تكون بتعلق إرادته به ،
وعليه : فالكبرى تنطبق على الصغرى وهي ، انّ ما لا يكون اختياريا لا يعرض له القبح
، وحينئذ ، فالعنوان الثالث لا يعرض له القبح.
وقد التفت المحقق
الأصفهاني «قده» إلى إمكان إيراد نقضين على هذا البرهان ، فذكرهما وأجاب عن كل منهما.
١ ـ النقض الأول :
هو انّ لازم هذا البيان انّ هذا الرجل لو شرب الخمر حقيقة بدون توهم ، لكن شربه لا
لشوق وإرادة لنفس الخمر ، وإنّما شوقه وإرادته كانت متعلقة بالتبريد وكان هذا
مقدمة للتبريد ، حينئذ ، لا يكون عنوان شرب الخمر اختياريا بالنسبة إليه على الرغم
من صدق هذا العنوان خارجا بأنّه شرب للخمر ، لكن غير اختياري ، لأنّ مصبّ الإرادة
والشوق عند هذا الشارب لم يكن عنوان شرب الخمر ، بل عنوان التبريد ، وهو متوقف على
شرب الخمر.
ثمّ انّه «قده»
أجاب على هذا النقض ، حيث قال : إنّ هذا الإنسان له إرادة نفسية للتبريد ، لكن
ينقدح منها إرادة غيرية للمقدّمة الّتي هي شرب الخمر ، بذلك تكون المقدمة ، وهي
شرب الخمر بنفسها محطا
__________________
ومصبّا للإرادة ،
فتكون اختيارية ، غايته أنّها إرادة غيرية ، وهذا يكفي في تحقق عنوان الاختيارية.
ولكن هذا الجواب
غير تام ، إذ لو انّ هذا الناقض قلب المطلب وبدّل نقضه وقال : بأنّا نفرض أنّ
الحرام ، وهو شرب الخمر ، كان معلولا للمحبوب لا علّة له ، أي أنّ المحبوب كان
مقدمة للحرام ، كما في المثال المتقدّم ، فإنّ شرب الخمر وهو الحرام مقدمة للمحبوب
وهو التبريد ، ومن باب المقدمة ترشح الشوق إليه ، لكن إذا افترض أنّ المحبوب كان
مقدمة للحرام كما إذا فرض أنّ إيصال السلك الكهربائي كان يؤدّي إلى قتل إنسان ،
وهذا الشخص كان له غرض وشوق تعلق بإيصاله للتجربة ، فأوصله وهو يعلم بأنّ وصوله
إلى جسم المؤمن يؤدّي إلى قتله ، فهنا نقول للمحقق الخراساني «قده» بأنّ قتل
المؤمن لم يصدر من هذا الفاعل بالاختيار ، لأنّ شوقه لم يكن متعلقا بقتله ، بل
تعلق بغرض آخر مباح هو التجربة ، فهنا المحقق الأصفهاني «قده» لا يمكنه أن يردّ
بالجواب السابق فيقول : إنّه يترشح من الشوق النفسي شوق غيري على الحرام ، وذلك
لأنّ الحرام هنا ليس مقدمة ، بل هو نتيجة ، والترشح لا يكون على النتائج.
إذن كيف يحكم بأنّ
هذا الفعل حرام مع عدم كونه مرادا ، وعليه : فالنقض الأول يبدو تاما.
٢ ـ النقض الثاني
: هو أنّه لو أراد هذا الشخص أن يعالج مرضا في معدته ، وهذا المرض يتوقف على «جامع
شرب المائع» ، إذن فسوف يترشح شوق غيري على «جامع شرب المائع» ، لكن هذا الإنسان
طبّق هذا الجامع مع الخمر ، فشربه ، مع أنّه ليس لهذا الخمر شوق لا نفسي ولا غيري
، وعليه فكيف يعاقب عليه؟.
وهذا النقض إنّما
أتى به لأنّ جوابه على النقض الأول لا يأتي
هنا ، ذلك لأنّ
مقدمة العلاج ليس هو الحرام بالخصوص ، بل هو الجامع ، حيث أنّ الشوق متعلق بجامع
المائع ، وأمّا خصوص الخمر فلا شوق نفسي له ولا غيري ، ومعه لا يكون صدور الحرام
منه اختياريا.
وأجاب الأصفهاني «قده»
على هذا النقض ، فقال : إنّ الإنسان إذا تعلقت إرادته بالجامع فلا يمكن ، حينئذ
تطبيق هذا الجامع على أحد الفردين إلّا إذا كان يوجد مرجح في البين لئلّا يلزم
استحالة الترجيح بلا مرجح ، وحينئذ قال : إنّ الشوق وإن تعلّق بالجامع ، لكن ما لم
يتعيّن هذا الشوق بالحصة الخاصّة لمرجح فيها على غيرها ، لا يطبق على الخمر ، لأنّ
نسبة الجامع إلى كلتا الحصتين على حدّ سواء ، إذن ، فلا بدّ من مرجح ، ومعنى
المرجح هنا هو حصول الشوق للحصة ، ومعه يكون اختياريا.
والخلاصة : هي
أنّه إذا تعلقت إرادته بجامع شرب المائع ، فتطبيقه على شرب الخمر دون غيره من
المائعات إنّما كان لمرجح فيه ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجح ، فتكون الخصوصية
المرجحة حينئذ مرادة اختياريا لا محالة.
وهذا الجواب غير
تام أيضا ، لأنّنا قد نفرض أولا أنّ الجامع كان منحصرا بالخمر صدفة ، إذن فهو في
المقام يختار هذه الحصة ، لا من باب أنّ لها مرجح على غيرها ، بل من باب أنّها
الفرد الّذي انحصر الجامع فيه.
وقد نفرض ثانيا ،
انّ المرجح موجود ، ولكن ليس في عنوان شرب الخمر ، بل في شيء ملازم له ، ككون
الإناء الّذي فيه الخمر نظيفا دون أن ينحصر المرجّح في نفس عنوان شرب الخمر ، بل
لخصوصية كون إناء الخمر نظيفا اختار شرب الخمر مع انّ إرادته لم تتعلق بشرب الخمر
، وهذا قبيح يقينا.
وعليه : فكلام
الأصفهاني «قده» ، هنا لا يغني شيئا.
وتحقيق كلام
الخراساني «قده» بلحاظ هذه النقوض هو ، أنّ الخراساني «قده» تارة يفترض انّه يدعي
ان تعلق الإرادة بأحد المتلازمين يوجب إرادة الملازم الآخر تشريعا حتّى لو لم يكن
بينهما مقدميّة ، بل بينهما عرضية حيث قال هناك : بأنّ أحد المتلازمين لا يتخلف عن
ملازمه في الحكم ، فكذلك هنا يدّعي بأنّ المتلازمين لا يختلفان في الإرادة تكوينا.
وأخرى يعترف بأنّ
المتلازمين إذا لم يكن بينهما مقدميّة ، بل مجرد التلازم ، فقد ينفكّ إرادة أحدهما
عن إرادة الآخر.
فإن فرض أنّه يعترف
بعدم الملازمة ، وأنّ المتلازمين في الوجود يمكن انفكاكهما في الإرادة التكوينية
كما ذهب إليه في الإرادة التشريعية ، فهذه النقوض واردة عليه ، إلّا إذا رفع يده
عن تلك المباني الّتي التزم بها في باب الاختيار حيث يقول هناك : بأنّ الاختيار في
الفعل ليس بمعنى تعلّق الإرادة والشوق ، بل اختيارية الفعل هي أن يكون الفعل واقعا
تحت سلطنة الفاعل ، أي تحت مصداق قولنا : «له أن يفعل ، وله أن لا يفعل» ، وهذا
يكفي فيه مجرد الالتفات إلى العنوان وصدوره منه في حالة كان له أن «يفعل وله أن لا
يفعل» ، فهذا يكفي في كونه اختياريا كما عرفت ذلك في بحث «الإرادة والطلب» سابقا.
فإن قلتم : إنّ
كلمة الاختيار وضعت للفعل الإرادي.
فنقول : إنّ
الكلام ليس في الاصطلاح أو اللغة ، بل فيما هو المصحح للحسن والقبح ، وللتكليف
والعقاب فيهما ، والمصحّح لذلك هو هذا المقدار الّذي ذكرنا.
وحينئذ ، بناء على
هذا ، لا موضوع لهذا البرهان ، وحينئذ نقول :
بأنّ العنوان
الثالث ، وهو عنوان «شرب مقطوع الخمرية» اختياري ، لأنّه واقع تحت السلطنة وصدر
منه مع الالتفات ، إذن ، فيكون اختياريا ، فيقع قبيحا.
وأمّا إذ فرض أنّه
يدّعي ، انّ إرادة أحد المتلازمين ملازمة لإرادة الآخر تكوينا قياسا للإرادة
التكوينية على الإرادة التشريعية الّتي ادّعى فيها ذلك ، فحينئذ ، لا يرد عليه
النقضان المتقدّمان اللّذان ذكرهما المحقّق الأصفهاني «قده» وذلك :
أمّا الأول :
فلوضوح أنّ الإنسان الّذي يريد التبريد حال كون التبريد متوقفا على شرب الخمر ،
إذن ، فهو يريد شرب الخمر للملازمة بينهما ، فيكون الحرام متعلقا للإرادة
بالاستلزام ، ولو لأجل انحصار المراد به ، وفي عكسه كذلك ، إذا أراد إيصال السلك
الكهربائي ، فهو يريد قتل هذا المؤمن ، للتلازم بين إيصال السلك وقتله.
وأمّا عدم ورود
النقض الثاني ، فباعتبار أنّ هذا الإنسان إذا فرض أنّه يريد علاج معدته وقد توقف
هذا على شرب جامع المائع ، فإذا انحصر جامع المائع بالخمر ، إذن فقد تلازما ، لأنّ
إرادة أحدهما تلازم إرادة الآخر ، ولو فرض عدم الانحصار بالخمر ، ولكن رجح إناء
الخمر لخصوصية نظافته ، إذن إرادة النظافة هي كذلك ملازمة مع إرادة شرب الخمر
تكوينا ، لأنّ إرادة أحدهما توجب إرادة الآخر ، إذن ، فلا نقض في الموردين.
ولكن هذا غير جار
في مقام التجري ، فإنّه لا تلازم بين ما هو المراد تكوينا ، وبين شرب مقطوع
الخمرية ، لأنّه هو أراد شرب الخمر ، وشرب الخمر لا يلازم الماء المقطوع الخمرية ،
بدليل انّ ما تعلق به شوقه وإرادته لا يلازم ما وقع ، وما وقع لا يلازم ما تعلّق
به إرادته ، فإنّه شرب مقطوع الخمرية ، ولم يشرب الخمر ، بل يمكن أن يعلّل ويقال :
كل فعل كان يستلزم
المحبوب والمطلوب بحيث متى ما وجد يوجد المحبوب ـ ولو من باب الملازمة العرضية ـ فهذا
يكون مرادا ، وكل ما لا يكون كذلك لا يكون مرادا ، إذن فهناك فرق بين النقضين وبين
محل الكلام ، أعني التجرّي ، إذن كان ينبغي لصاحب الكفاية أن يفرق بينهما.
والخلاصة هي :
انّه إن فرض أنّ الخراساني «قده» لم يدّع استلزام إرادة أحد المتلازمين لإرادة
ملازمه تكوينا ، فالنقوض السابقة كلها واردة عليه.
وأمّا إذ فرض أنّه
يدّعي انّ إرادة أحد المتلازمين يستلزم إرادة ملازمه تكوينا ، فالنقوض غير واردة
عليه ، لكن بناء على هذا الاحتمال يردّ عليه حينئذ.
أولا : عدم تمامية
أصل المبنى الّذي كان المنشأ لقوله في اختيارية الفعل والّذي بنى عليه برهانه في
المقام كما تقدّم في الشق الأول ، فإنّ اختياريّة الفعل ليست متقومة بكونها مصبّا للشوق
والإرادة كما تقدّم تفصيل ذلك.
وثانيا : بأنّ ما
افترضناه قولا لصاحب الكفاية «قده» ، وهو دعوى الاستلزام بين إرادة الشيء وإرادة
ملازمه ، فهذه الدعوى الّتي يدّعيها ـ وقد دفعنا النقوض عنها ـ هي في نفسها باطلة
، إذ لا موجب لافتراض كون انقداح الشوق في النّفس الّذي هو معنى الإرادة عنده لأحد
المتلازمين هو موجب لانقداح الشوق للملازم الآخر كما أنكره صاحب الكفاية نفسه في
الإرادة التشريعية ، فإنّ الشوق ، والإرادة الشوقية ، تابعة للملاءمة النفسية
ولملاءمة الشيء مع الطبع ، وهذه الملاءمة ، قد تكون في أحد المتلازمين دون ملازمه
، فالشوق نحو كل شيء تابع لملاكه.
__________________
وثالثا : إنّ ما
ذكره من البرهان بالتقريب المتقدّم ، فهو لو تمّ ، فإنّما يتمّ في الشبهة
الموضوعية لا الحكمية ، وحينئذ يكون الحق معه في ذلك.
يعني لو فرض أنّ
هذا المكلّف قطع بخمرية الماء فشربه ، فهنا يقال : إنّه كان يريد شرب الخمر
الواقعي ، وشرب الخمر الواقعي لا يستلزم شرب مقطوع الخمرية ، إذن فشرب مقطوع
الخمرية ليس مقصودا ومرادا له حتّى بناء على التلازم.
وأمّا في الشبهة
الحكمية : لو سلم المبنيان ـ مبنى معنى اختيارية الفعل ، ومبنى استلزام إرادة شيء
لإرادة ملازمه ـ فأيضا يتجه النقض بالتجري في الشبهة الحكمية ، كما لو فرض أنّه
قطع بأن شرب التتن حرام فشربه ، ولم يكن حراما في الواقع ، فهنا تعلّقت إرادته
وشوقه بعنوان شرب التتن ، وهذا العنوان يستلزم عنوان معلوم الحرمة ، لأنّ شرب
التتن معلوم الحرمة عنده ، إذن فهو يريد شرب التتن ، وهو مستلزم لعنوان شرب معلوم
الحرمة ، إذن فهو يريد شرب معلوم الحرمة ، فيكون قبيحا.
فالبرهان الّذي
ذكره إنّما يتمّ في الشّبهات الموضوعية فقط ، بل حتّى التجري في الشّبهات
الموضوعية غير مطّرد هذا البرهان.
إذ قد يفرض انّ
إنسانا كان له شوق لشرب مقطوع الخمرية ولو لغرض شخصي فيه ، ففي مثله يكون هذا
العنوان اختياريا حتّى على مبنى الخراساني «قده» فيقبح.
والوجدان لا يساعد
على الفرق بين هذه الصورة وغيرها من صور التجري ، وهذا منبه على قبح كلّ فعل
متجرّى به.
بل يورد أيضا
فيقال : إنّ هذا الفعل الصادر من المتجري في الشبهة الموضوعية ، هل يدّعي صاحب
الكفاية انّ حيثية من حيثياته
صدرت عن الفاعل
بالاختيار ، أو انّه يدعي عدم صدور أيّ حيثيّة منه بالاختيار؟
فإن ادّعى انّ بعض
حيثيّاته صدرت بالاختيار ، إذن فتلك الحيثيّة الصادرة منه بالاختيار ، لا محالة
ملازمة لعنوان شرب مقطوع الخمرية ، وحينئذ بناء على قانون التلازم تسري الإرادة
إليه أيضا ، وحينئذ يحكم بقبحه.
وإن ادّعى إنّ هذا
الفعل بتمام حيثيّاته ليس تحت الاختيار ، فهذا مرجعه إلى البرهان الثالث الّذي سوف
يبرهن به على عدم قبح التجري.
٢ ـ البرهان
الثاني : لصاحب الكفاية «قده» أيضا معترفا بأنّه برهان غالبي لا دائمي ، وهو مركب
من مقدمتين.
١ ـ المقدمة
الأولى : هي انّ الالتفات إلى العنوان شرط في اختيارية ذلك العنوان ، ومع عدم
الالتفات إلى العنوان لا يكون الفعل بالاختيار.
وهذا صحيح حتّى
على مسلكنا ، دون الذهاب إلى مسلك الفلاسفة الّذين اشترطوا الإراديّة في الاختيار.
٢ ـ المقدمة
الثانية : هي : انّ عنوان مقطوع الخمرية لا يلتفت إليه غالبا في مقام العمل ، لأنّ
من يشرب مقطوع الخمرية ، ينظر إلى قطعه هذا نظرة كاشفيّة لا موضوعية ، أي نظرة
آليّة لا استقلاليّة ، إذن فالعنوان الّذي هو مصبّ التفاته هو عنوان شرب الخمر ،
وهذا العنوان لم يتحقّق خارجا ، وما تحقّق خارجا ـ وهو مقطوع الخمرية ـ ليس مصبّا
لالتفاته ، إذن فلم يصدر منه شرب مقطوع الخمرية بالاختيار والإرادة حتّى يكون
قبيحا.
وقد أورد عليه
المحقّق النائيني «قده» ، بأنّ القطع إذا كان لا يلتفت إليه ، فهذا لازمه ، انّ
القطع إذن لا يعقل أخذه موضوعا للحكم
__________________
الشرعي ، ومعه :
لا يكون الحكم حينئذ قابلا للوصول إلى المكلّف والتنجز عليه ، لأن تنجز الحكم فرع
الالتفات إلى موضوعه ، والمفروض انّ موضوعه هو القطع ، وهو لم يلتفت إليه.
وهذا الإيراد غير
وارد ، وإنّما يكون واردا لو كان صاحب الكفاية «قده» يدّعي أنّه يستحيل أن يلتفت
القاطع إلى قطعه ، ولكنّه ادّعى بأنّه خارجا لا يلتفت إلى قطعه في موارد القطع
الطريقي ، لأنّ غرضه في موارد القطع الطريقي يكون قائما بالمقطوع به لا في القطع
نفسه ، فلا محالة يكون نظره تابعا لغرضه ، وحينئذ ، يكون القطع مجرد طريق ، وأمّا
إذا كان غرضه متعلّقا بنفس القطع فهنا لا محالة من التفاته إلى نفس القطع ، كما في
موارد القطع الموضوعي ، حيث يكون غرض المكلّف إحراز نفس القطع الموضوع للحكم.
ومن الواضح أنّه
في موارد التجرّي يكون القطع كاشفا لغرضه ، إذن ، فلا يكون ملتفتا إليه.
وبعبارة أخرى :
إنّ الآخوند «قده» يدّعي الغفلة عن القطع في مقام القطع الطريقي ، كما هو الحال في
المتجرّي ، فإنّ غرض المتجري هو شرب الخمر ، إذن فمقطوع الخمرية يكون كاشفا عن
غرضه ، وعليه : فلا يردّ كلام الميرزا «قده» حينئذ.
والصحيح في
الإجابة على هذا البرهان هو أن يقال للآخوند «قده» :
أولا : سلّمنا أنّ
النظر إلى القطع بالخمرية نظر آلي ، مرآتي ، لكن النظر المرآتي معناه مرتبة من
الالتفات التبعي ، وهذا كاف في تحقّق الاختيار ، فإنّ المقصود من الالتفات الّذي
هو شرط في الاختيارية ، هو ما يقابل الغفلة المطلقة الّتي تنافي السلطنة والاختيار
لا خصوص الالتفات التفصيلي.
وثانيا : إنّ
الفاعل كما يحسب حساب العناوين الأولية الّتي هي متعلق غرضه ، كذلك يحسب عادة
ويلتفت إلى العناوين الّتي يترقب أن تنطبق على فعله وتكون مانعة له عن تحصيل غرضه.
فمثلا : لنفرض إنّ
هذا الإنسان عطشان ، وهو يقطع أنّ أمامه ماء ، وله غرض فيه ، إذن هو حينئذ يتوجه
إلى عنوان «شرب الماء» لا إلى قطعه بل إلى مقطوعه ، ولكن إذا فرضنا انّ هناك
عناوين أخرى يترقب أن تكون مانعة له عن تحصيل غرضه ، من قبيل أن يكون بينه وبين
الماء حاجز مثل برودة الماء الضارة ، أو طعمها المؤذي ، أو وجود طاغية يمنع من
شربها ، إلى غير ذلك من الحيثيّات ، إذن فهنا لا محالة يلتفت إلى هذه الحيثيّات ،
وحينئذ ، فهو تارة يصدّق بمانعيّة هذه الحيثيّات فيحتاط ، وأخرى لا يتحفظ ، بل
يقتحم هذه العناوين الّتي يحتمل أن تكون مانعة ويشرب حالة كونه ملتفتا إلى هذه
العناوين الّتي يترقب أن تكون مانعة له عن شرب الماء ، ومن جملة هذه العناوين
المانعة عن الشرب بالنسبة للمكلّف المتدين القاطع بخمرية هذا المائع ، هو كون فعله
تجرؤا ، وكون حرمة مقطوع الخمرية منجز عليه ، وانّ شربه حرام ، فيحسب حسابه أيضا ،
وحينئذ قد يقدم وقد لا يقدم ، إذن فعنوان معلوم الحرمة لا بدّ من الالتفات إليه
تفصيلا ، لا سيّما وانّه مؤمن ، ففرضه متعلّق بعدم عصيان المولى ، إذن فلا محالة
من التفاته إلى كل هذه العناوين ومنها عنوان معلوم الحرمة ، وهذا الالتفات كاف في
أن يكون صدور الفعل منه اختياريا في مقام التجري.
٣ ـ البرهان
الثالث : للآخوند «قده» يقول فيه : إنّ التجري لم يصدر من فعل اختياري على الإطلاق
، ليتصف بالحسن أو القبح ،
__________________
فيكون حال من شرب
الماء بتخيّل أنّه خمر ، كحال النائم يشرب خمرا والوجه فيه هو ، انّ ما قصد لم يقع
، وما وقع لم يقصد ، فما قصده المتجري ، وهو شرب الخمر ، لم يقع في الخارج ، وما
وقع منه في الخارج ، وهو شرب الماء ، لم يقصده ولم يرده ، إذن فلا يكون فعلا اختياريا
له.
ثمّ انّ الآخوند «قده»
استشكل على نفسه فقال : إنّه يمكن أن يقال : بأخذ جامع بين ما قصد ، وما وقع
، وهذا الجامع هو «المائع» وبذلك يكون ما وقع قد قصد ووقع منه بالاختيار ، فإنّ
الّذي قصد هو شرب مقطوع الخمرية ، وهو مائع ، وأمّا الّذي وقع وتحقّق هو شرب الماء
، والماء مائع أيضا ، إذن فهناك جامع بين ما قصد وما وقع ، وهو شرب المائع ، إذن
يمكن القول بأنّه وقع منه شرب المائع بالاختيار.
ثمّ أجاب على
استشكاله ، بأنّ الإرادة المتعلقة بالجامع إرادة ضمنيّة لا استقلاليّة ، لأنّه
أراد الجامع في فردّه الّذي هو شرب الخمر ، بينما المراد استقلالا إنّما هو الخمر
، ولهذا لو منع من شرب الخمر لما شرب مائعا آخر ، إذن فالجامع بالمقدار الّذي قصده
في ضمن حصة الخمر لم يقع ، وبالمقدار الّذي وقع في ضمن حصة الماء لم يقصد ، إذن
على ما ذا يحاسب المتجرّي؟.
ولنا هنا كلامان :
١ ـ الكلام الأول
: هو نقضي ، نقول فيه : إنّه بناء على هذا التحليل ، يلزم جواز ارتكاب المعصية في
كل مورد تعلق قصد المكلّف ببعض أفراد الحرام من الجامع ، ويكون الواقع فردا آخر من
الحرام ، كما لو كان يريد شرب الخمر العنبي ، فشرب بتخيّل أنّه خمر عنبي ، لكن
__________________
تبيّن أنّه خمر من
التمر ، فمثل هذا يلزم أن لا يكون قد صدر منه قبح ، لأنّه لم يصدر منه فعل اختياري
أصلا ليكون محرما ، إذ ما قصده لم يقع ، وما وقع لم يقصده ، لأنّ قصده للجامع ضمني
لا استقلالي ، حيث أنّه قصد الجامع في الحصة العنبيّة والجامع في ضمن الحصة
العنبيّة المقصودة لم يقع ، وإنّما وقع في ضمن الحصة غير المقصودة.
ومثل هذا التحليل
واضح الفساد.
٢ ـ الكلام الثاني
: وهو حلّي وحاصله هو ، انّ هذا البيان يؤدّي إلى أن يكون حال المتجري حال النائم
الّذي يشرب الخمر في منامه ، مع أنّ بداهة الوجدان تحكم بوجود فرق ما بين فعل
المتجرّي وفعل النائم ، ووجدانية هذا الفرق ينبغي أن تكون منبها للآخوند «قده» على
أحد أمرين طوليّين.
١ ـ الأمر الأول :
هو أن يرفع يده عن مبناه الفلسفي في باب الاختياريّة ويتراجع عن قوله ، بأنّ ميزان
الاختياريّة هو أن يكون الفعل إراديا ، بل ينبغي أن يذهب إلى ما ذهبنا إليه ، من
كون الفعل اختياريا عند ما يكون الفعل تحت السلطنة وصادرا مع الالتفات.
ومن الواضح ، ان
ما ذهبنا إليه منطبق على محل الكلام ، فإنّ شرب مقطوع الخمرية أمر يلتفت إليه
وواقع تحت السلطنة.
وبناء على ميزاننا
هذا في الاختياريّة تصبح هذه الشبهة غير ذات موضوع ، لأنّ الاختيارية متحقّقة في
المقام ، فلو فرض انّ هذا ليس منبها لذلك ، إذن فليكن منبها إلى صيغة جديدة لهذا
المطلب تكون أحسن من صيغته المخالفة للوجدان ، لئلّا يلزم مخالفة هذا الوجدان.
٢ ـ الأمر الثاني
: هو أنّه تارة نقول : بأنّ ميزان اختيارية الفعل هو أن يكون بعنوان من عناوينه
المنطبقة عليه مصبّا للإرادة ، وهذه هي صيغة
الآخوند «قده» ،
وقد قلنا ويقال : إنّه بناء على هذه الصيغة ، تأتي الشبهة فيقال : بأنّ ما هو
متعلق للشوق لم ينطبق على هذا الفعل ، وما هو منطبق على هذا الفعل ، وهو عنوان ـ «شرب
مقطوع الخمرية» ـ لم يكن هو موضوع الشوق ومتعلّقه ، إذن ، فالفعل غير اختياري في
المقام.
حينئذ يأتي الأمر
الثاني بالصيغة الثانية ، وهي أن يقال : بأنّ اختيارية الفعل مربوطة بالإرادة ،
لكن ليس اختيارية الفعل بذلك ، بمعنى أن يكون عنوان الفعل متعلقا للإرادة في عالم
النّفس ، بل بمعنى انّ الفعل يكون معلولا للإرادة وناشئا في طولها ، فإن افترضنا
انّ هذا هو الميزان ، فانّه حينئذ يقال : بأنّ كل إرادة في عالم النّفس تعرض على
عنوان لا محالة ، وهذا العنوان يكون بتشخيص المريد ، فهو الّذي يشخص انّ هذا
العنوان منطبق على هذا الفرد ، وبعد تشخيص انطباق ذاك العنوان على ذاك الفرد يتحرك
نحو هذا الفرد ، والمحرك نحوه هو الإرادة بعد تمامية التشخيص ، فالإرادة هي
المحركة ، سواء كان تشخيصه مطابقا للواقع أو غير مطابق ، فمثلا : هو يريد أن يشرب
ماء مطلقا ، فهذا هو معروض الإرادة ، ثمّ يشخص انّ هذا ماء مطلق ، وفي طول هذا
التشخيص يتحرك نحو هذا الفرد الخارجي ، والمحرك له هو الإرادة ، لأنّه يرى انّ هذا
مصداق الإرادة ، والإرادة هي المحركة ، سواء كان تشخيصه مطابقا للواقع أو لا ، إذن
فهذا الفعل الصادر منه ، المحرك له هو الإرادة لا محالة ، وعلى هذا يكون الفعل
اختياريا في كلتا الحالتين.
وبناء على هذه
الصيغة الثانية ، وهي كون المحرك له الإرادة وإن كان في مورد خطأ التشخيص فالصيغة
الأولى غير منطبقة ، لأنّ ما هو محبوب له هو عنوان «الماء المطلق» ، وهو غير منطبق
على هذا ، وما هو منطبق عليه. وهو عنوان «ماء الورد» مثلا ليس متعلقا للإرادة ،
إذن ، فالصيغة الأولى غير منطبقة.
لكن الصيغة
الثانية منطبقة ، لأنّ هذا الفعل منشؤه هو الإرادة ، وهو يكفي في الاختياريّة.
وهنا في مورد
التجري ، تعلقت إرادة هذا الإنسان بشرب الخمر ، فتشخّص انّ هذا الخل خمر فشربه ،
فهنا ، لو لاحظنا الصيغة الأولى ، فهو لم يصدر منه فعل ذو عنوان اختياري لما مرّ
معنا ، لكن لو لاحظنا الصيغة الثانية ، فهذا الفعل منه اختياري ، لأنّه بعد تشخيص
انّه خمر ولو خطأ ، فالّذي حرّكه نحوه هو الإرادة ، إذن فهذا الفعل نشأ عن الإرادة
، وهذا يكفي في اختياريته.
والحاصل هو ، انّ
هذا الفرد الخارجي قد صدر منه باختياره بعد أن طبّق مراده عليه وشخّصه فيه ، إذن ،
فتحركه نحو إيجاد ذلك الفرد المشخّص بإرادته واختياره اختياري ، سواء أخطأ في
تشخيصه ، أو كان تشخيصه مطابقا للواقع.
وبهذا ، نكون في
الصيغة الثانية قد وفّقنا بين وجداننا وبينها.
٤ ـ البرهان
الرابع : لصاحب الكفاية «قده» نذكره مع شيء من التنقيح ، وحاصله هو ، انّ هذا المتجري لو
فرض أنّه رأى شخصا يغرق ، فتخيّله عدوا للمولى ، لكن تجرّى وأنقذه ، فتبيّن أنّه
ابن المولى ، ففي مثل ذلك ، هل يقال : بانّ هذا الإنقاذ أمر محبوب أم لا؟ فإن قيل
انّه ليس بمحبوب للمولى ، فهذا خلاف الوجدان ، وإن قيل انّه محبوب للمولى ، فحينئذ
لو التزم بقبح الفعل المتجرّى به مع كونه محبوبا للمولى لزم اجتماع الضدين ، وهو
مستحيل.
وهذا الوجه يتضح
جوابه ممّا ذكرناه سابقا ، فانّ هذا خلط بين باب الحسن والقبح وبين باب المصالح
والمفاسد ، وعلى كلّ ، فنحن
__________________
نختار انّه فعل
محبوب وفيه مصلحة للمولى ، ولكن مع هذا هو فعل قبيح ، لأنّ الحسن والقبح ليسا
حكمين مجعولين بلحاظ عالم المصالح والمفاسد حتّى يلزم من كونه قبيحا كونه ذا مفسدة
، ومن كونه محبوبا كونه ذا مصلحة.
وعليه فالصحيح انّ
الفعل المتجرّي به قبيح بحكم العقل ، وقبحه بدرجة قبح المعصية.
__________________
المقام الثاني :
استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به
وقد اتضح ممّا
ذكرناه ، انّ مسألة قبح الفعل غير مسألة استحقاق العقاب عليه ، بل هما مسألتان
طوليتان إحداهما مترتبة على الأخرى ، الأولى هي قبح الفعل ، وهو ما لا ينبغي فعله
، والثانية هي مسألة استحقاق العقاب عليه.
والصحيح على ما
ذكرناه ، انّه يستحقّ العقاب على الفعل المتجرّى به ، عقابا تأديبيّا من قبل
العقلاء ، وعقابا قصاصيّا من قبل المولى ، لأنّه كالعاصي استلب من حق المولوية
الّذي تقدّم انّ موضوعه الجامع بين العصيان والتجري ، وهذا يستنبط ممّا ذكرناه في
المقام الأول ، وإنّما عقدنا له مقاما مستقلا باعتبار أنّ العلماء تعرّضوا لوجوه
مستقلة لإثبات استحقاق العقاب.
وعلى طريقتنا
يستنبط استحقاق العقاب من المقام الأول ، وعلى طريقتهم لا بدّ من التعرّض لما
ذكروه.
وقد ذكر الميرزا «قده»
انّ الشيرازي الكبير «قده» ذكر برهانا مركبا من أربع مقدّمات على استحقاق العقاب ، وكانت المقدّمة الأولى
__________________
والثانية لا ربط
لها بمسألة استحقاق العقاب ، نعم المقدّمة الثالثة والرابعة يصلح كل منهما أن يكون
وجها لإثبات استحقاقه.
إذن ، هذا البرهان
ليس مركبا من أربع مقدّمات ، بل هو مركب من الثالثة والرابعة كما عرفت.
ونحن هنا نضيف
إليهما الوجه الّذي ذكره الشّيخ الأنصاري «قده».
ومعه يتحصل لدينا
ثلاثة براهين على استحقاق المتجري للعقاب.
١ ـ البرهان الأول
: وهو المقدّمة الثالثة من برهان الشيرازي «قده» ، وحاصله هو.
إنّ المناط في حكم
العقل باستحقاق العقاب إنّما هو ارتكاب ما يعلم مخالفته لتكليف المولى ، لا ما
يكون مخالفا للواقع ، إذ المهم هو العلم بالتكليف لا إصابة هذا العلم للواقع ،
وذلك لأنّه لو كانت الإصابة قيدا في الملاك ودخيلة فيه ، إذن لتعطّل باب المعصية
ولما أمكن إحراز الإصابة في أيّ مورد ، لأنّ الإصابة ليست مضمونة إلّا للمعصومين ،
وهذا بخلاف ما إذا قلنا انّ حكم العقل بالاستحقاق ، تمام ملاكه هو العلم بلا دخل
الإصابة ، إذ بناء على ذلك يكون الأمر أوضح ، حيث أنّ المتجري والعاصي يكونان على
حد واحد لأنّ مناط استحقاق العقاب الّذي هو العلم متوفر فيهما معا.
وقد أجاب الميرزا «قده»
عن ذلك بما حاصله : إنّا لو سلّمنا انّ تمام المناط في حكم العقل إنّما هو العلم ،
لكن نقول : إنّ المتجري ليس بعالم حقيقة ، بل هو جاهل ، وجهله مركب في الواقع ،
إذن غاية ما تثبتون هو ، انّ تمام الملاك هو العلم وهذا غير موجود في المتجري.
__________________
وبرهان الشيرازي «قده»
وجواب الميرزا «قده» لا محصل لهما.
أمّا برهان
الشيرازي «قده» فلا محصل له ، لأنّنا نختار الشق الأول ، وهو أن تكون المصادفة
دخيلة في ملاك حكم العقل باستحقاق العقاب ، وحينئذ يلزم تعطيل باب المعصية كما ذكر
صاحب هذا البرهان.
ولكن هذا غير صحيح
، لأنّ المصادفة للقاطع محرزة ، لأنّه لا يحتمل هو في قطعه انّه غير مصادف ما دام
قاطعا.
فإن قيل : بأنّ
المصادفة غير محرزة لغير القاطع.
قلنا : لا بأس
بذلك ، ولكن لا يلزم منه تعطيل باب المعصية ، لأنّ المهم إحراز نفس القاطع.
وإن شئت قلت :
ننكر أن يكون العلم بالتكليف هو المناط ، وإنّما نختار أن تكون إصابة الواقع هي
المناط ، والمفروض أنّها محرزة عند القاطع والمتجري ، لأنّ القاطع يرى أنّ قطعه
مطابق للواقع ، فهو دائما يحرز التكليف ، كما انّه يرى نفسه مستحقا للعقاب على
تقدير المخالفة ، إذن فلا يلزم تعطيل الأحكام.
وأمّا جواب
الميرزا «قده» ، فكأنّ الميرزا «قده» أراد أن يختار الشق الثاني ، وهو أنّ تمام
الملاك هو العلم ، لكنّه قال : إنّ العلم في المتجري غير موجود لأنّ علمه جهل مركب
، فكأنّ إيراده وجوابه نقاش لفظي ، يرجع إلى أنّ كلمة العلم لأيّ شيء موضوعة ، هل
للقطع المصادف للواقع ، أو لما يشمل القطع في صورة الجهل ، وهو كما ترى ، إذ ليس
الكلام استظهاريا ليردّ جواب الميرزا «قده» ، بل صاحب البرهان الشيرازي «قده» يريد
البرهنة على أنّ إصابة القطع للواقع غير دخيلة في ملاك حكم العقل باستحقاق العقاب
، فعبّر الشيرازي «قده» بالعلم وهو يريد بالعلم ذات القطع ، والميرزا «قده» هنا
طعّم القطع
بالإصابة وانّ
القاطع غير المصيب ليس بعالم ، فأخذ المصادفة قيدا في العلم ، وهذا خلاف مقصود
صاحب هذا البرهان ، وإلّا فيمكن التعبير بالقطع بدلا عن العلم.
وغرابة هذه
المطالب من هؤلاء الأعاظم ، تدعو لاحتمال أن لا تكون صادرة عنهم ، أو لاحتمال شيء
آخر كانوا يقصدونه.
٢ ـ البرهان
الثاني : وهو المقدّمة الرابعة في برهان الشيرازي «قده» ، والّتي قلنا إنّها يمكن
جعلها برهانا.
وحاصلها : انّ
الميزان في استحقاق العقاب ، إمّا القبح الفعلي وإمّا القبح الفاعلي ، والأول باطل
، إذ يلزم منه أنّ المكلّف لو ارتكب حراما بتخيّل أنّه حلال ، يلزم منه أن يكون
مستحقا للعقاب ، لأنّ القبح الفعلي محفوظ ، مع أنّ هذا لا يستحق العقاب ، وحينئذ
يتعيّن الشق الثاني ، وهو أن يكون ملاك حكم العقل باستحقاق العقاب هو القبح
الفاعلي ، وهذا محفوظ في العاصي والمتجري معا ، وإنّما يختلفان في القبح الفعلي
فقط.
وقد ناقش الميرزا «قده»
فيه ، بأنّه يوجد شق ثالث وهو ، إنّا لا نقول بأنّ مناط استحقاق العقاب هو القبح
الفعلي ليردّ النقض ، ولا القبح الفاعلي على إطلاقه ليلزم إشراك المتجرّي مع
العاصي ، بل نقول : بأنّ الملاك هو القبح الفاعلي الناشئ من القبح الفعلي ، أي من
مجموع القبحين ، لأنّ القبح الفاعلي ، تارة ينشأ من سوء السريرة ، وأخرى ينشأ من
قبح الفعل ، وبهذا يفرّق بين العاصي والمتجري ، وحينئذ لا يردّ النقض ، لأنّ
المتجري وإن كان له قبح فاعلي ، لكن لأنّه غير ناشئ من الفعلي فلا عقاب له ، بل
يختصّ العقاب بالعاصي.
__________________
وكلا الكلامين ،
البرهان مع ردّه ، تلفيق من الكلام ، مبني على تخيّل أنّ القبح على نحوين ، فاعلي
وفعلي ، والفعلي معناه : حصة قائمة بالفعل بذاته وبقطع النظر عن إضافة إلى فاعله ،
وهذا مبني على خلط بين الحسن والقبح ، وباب المصالح والمفاسد.
وقد بيّنا سابقا ،
انّ باب الحسن والقبح إذا نحن أرجعناهما إلى المصالح أمكننا أن نتعقل قبحان ، قبحا
في الفعل بذاته ، وقبحا من حيث انتسابه إلى الفاعل ، فنسمي الأول فعليا ، والثاني
فاعليا.
لكن بعد أن بيّنا
انّ الحسن والقبح بابهما باب مستقل ، فحينئذ ، دائما يكون معروض الحسن والقبح هو
الفعل بما هو مضاف إلى صاحبه وفاعله ، وحينئذ ، فلا قبح فعلي مستقل عن فاعله
الفاعلي ليتأتّى مثل هذا الكلام.
٣ ـ البرهان
الثالث : وهو ما ذكره في الرّسائل الشيخ الأعظم «قده» حيث يقال : انّه لو اختصّ استحقاق العقاب بالعاصي ، للزم
إناطة الاستحقاق بأمر غير اختياري ، وهذا مستحيل.
وإن شئت قلت : لو
كان عدم استحقاق المتجرّى للعقاب عدم إصابته للواقع ، كان معنى استحقاق العقاب
للعاصي هو ، إصابة قطعه للواقع ، وحينئذ لا يكون فرق بين العاصي والمتجري ، وتكون
الإصابة وعدمها أمرا غير اختياري ، وحينئذ ، فكيف يمكن أن تناط به العقوبة.
وقد أجيب عن هذا
البرهان في الرّسائل بما يرجع حاصله : إلى التفكيك بين المقتضي لاستحقاق العقاب
، وبين المانع عن تأثير هذا
__________________
المقتضي ، حيث أنّ
الاستحقاق علّة مركّبة من مقتضي وعدم مانع ، فالمقتضي يجب أن يكون أمرا اختياريا
دائما ، وأمّا المانع عن الاستحقاق فلا يلزم كونه اختياري ، وهذا أمر لا بدّ من
الالتزام به ، إذ هناك أمور غير اختيارية تكون مانعة عن الاستحقاق جزما كالعجز
مثلا ، كما لو فرض أنّه حدّث نفسه بشرب الخمر لكنّه كان عاجزا عنه ، فهنا لا عقاب
، لوجود المانع الّذي هو غير اختياري ، وهذه كبرى.
وحينئذ نقول :
انّه لو فرض أنّنا نقول : بأنّ نفس المصادفة هي المقتضي لتمّ ما ذكر ، وأمّا إذا
فرض أنّ المقتضي للاستحقاق كان عبارة عن نفس تصدّيه لعصيان المولى ـ وهذا قد وقع
منه بمحض اختياره ـ إذن ، فهذا المعنى أمر اختياري محفوظ في المتجري والعاصي معا ،
غايته أنّه في العاصي ، المقتضي أثّر أثره ، لعدم اقترانه بالمانع ، وأمّا في
المتجري ، فقد اقترن هذا المقتضي بالمانع ، وهو خطؤه في التشخيص ، وهذا المانع وإن
كان غير اختياري لكن لا يضرّ في كونه مستحقّا للعقاب.
وهذا الجواب على
مستوى هذا البيان صحيح : إلّا أنّ هذا الّذي ذكره الشّيخ الأعظم «قده» لو صيغ بالعبارة الّتي صغناه بها لانطبق على مسلكنا ، فإنّ
المتجري والعاصي كلاهما هتك المولى وستر المولويّة وتحدّاه ، ولا فرق بينهما من
هذه الناحية ، ومجرد إصابة هذا ، وعدم إصابة ذاك ، لا دخل لها في مقدار التحدّي ،
بل نسبة التحدّي واحدة ، وحيث أنّ حقّ المولويّة مرجعه إلى حقّ احترامي ، فنسبة
هتك هذا الحق إليهما على حدّ سواء ، فلا بدّ أن يشتركا في العقاب ، وحينئذ ، بهذا
البيان يكون هذا البرهان صحيحا.
__________________
المقام الثالث :
في حرمة الفعل المتجرى به شرعا
والاستدلال عليها
تارة يكون بلحاظ نفس إطلاقات أدلّة الأحكام الواقعية ، بمعنى أنّنا نثبت حرمة
مقطوع الخمرية بنفس خطاب «لا تشرب الخمر» ، وأخرى يكون بلحاظ قاعدة الملازمة بين
حكم العقل وحكم الشرع ، فإنّ كل ما حكم العقل بقبحه ، حكم الشرع كذلك بحرمته ،
وثالثة يكون بلحاظ الإجماع ، ورابعة بلحاظ الرّوايات ، إذن فهناك أربعة مسالك يدخل
منها لإثبات حرمة الفعل المتجرّى به.
١ ـ المسلك الأول
: هو التمسك بإطلاقات الأدلّة الأولية الدالة على حرمة شرب الخمر قبلا.
ولا شكّ انّ هذه
الاستفادة تحتاج إلى عناية ، لأنّ الدليل لو خلّي وطبعه ، لاقتضى تعلّق الحرمة
بالموضوع بوجوده الواقعي وهو الخمرية ، لأنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بوجوداتها
الواقعية من دون دخل للعلم والشك فيها ، فالخمر اسم للمسكر المخصوص ، لا لما قطع
بأنّه كذلك ، إذن ، فالتصرف في مدلول العبارة وإخراجه من ذاك إلى هذا يحتاج إلى
عناية.
وهذه العناية يمكن
بيانها بأحد بيانين.
١ ـ البيان الأول
: وهو الّذي سلكناه في التعبير عن مثل هذه العناية الموهومة في المقام ، وذلك بأن
يقال : انّ الخطاب إذا فرض أنّ موضوعه كان هو الخمر الواقعي ، فهذا معناه ،
استبطان متعلّق التكليف للمصادفة ، إذ من الواضح انّ هذا لا يكون شرب خمر واقعي
إلّا في فرض المصادفة ، بحيث لو صادف الواقع يكون حينئذ متعلقا للتكليف ، وإلّا
فلا ، والمصادفة باعتبارها أمرا غير اختياري كما تقدّم ، إذن فلا يعقل أخذها في
متعلق التكليف ، إذن ، فلا يعقل القول بأنّ شرب الخمر الّذي يكون مصادفا للواقع
حرام لعدم اختيارية المصادفة ، وحينئذ ، لا بدّ وأن يكون متعلق التكليف معرّى عن
قيد المصادفة ، ومعنى ذلك : أنّ التكليف متعلق بالجامع بين المصادفة وغيرها ، وهذا
الغير يشمل مقطوع الخمرية عند المتجري.
وهذا البيان هو
صورة مغالطة.
وحلّها هو أن يقال
: انّ المصادفة لا تؤخذ متعلقا للتكليف ، بحيث يكلّف الإنسان بأن يكون خمره خمرا
حقّا ، ولكن المصادفة تؤخذ موضوعا للتكليف وشرطا ، ويصاغ هذا بشكل القضية الشرطية
فيقال : إذا كان ما تراه خمرا ، مصادفا للواقع ، فهو حرام ، فالمصادفة الراجعة إلى
مفاد كان الناقصة لا يتعلّق بها التكليف ، بل يتعلّق بمفاد كان التامة ، فالمصادفة
الّتي تؤخذ في مفاد كان الناقصة تؤخذ شرطا في التكليف بنحو مفاد كان التامة كما
عرفت ، وحينئذ ، لا يلزم أن يكون التكليف تكليفا بالمصادفة ، وبالتالي بأمر غير
اختياري.
٢ ـ البيان الثاني
: وقد نقله الميرزا «قده» ، وبيانه يتوقف على شرح بعض مصطلحات الميرزا «قده» ، وعنده
هنا ثلاثة أمور :
__________________
الأول هو الإرادة
، وهو واضح ، والثاني هو الفعل ، وهو واضح أيضا ، وهناك شيء ثالث بين الإرادة
والفعل ، وهو ما يسميه بالاختيار ، وهو فعل نفساني يأتي بعد الإرادة وقبل الفعل ،
ولهذا يقال : «أراد ، فاختار ، ففعل» ، وهذا الفعل النفساني حقيقته بتحرك النّفس
على طبق الإرادة الّذي ينتج قيامها بالفعل خارجا ، وهو «قده» يرى أنّ الإرادة مهما
كانت قوية لا تكون علّة حتميّة لوقوع الفعل في الخارج كما يتصور الفلاسفة ، بل بعد
تماميتها فالإنسان يبقى له الاختيار وعدمه ، ومعنى الاختيار هو أن يحرك نفسه نحو
المراد ، وعليه : فعندنا إرادة ، واختيار ، وفعل خارجي ، والإرادة تكون متعلقة بما
يلائم قوّة من قوى الإنسان ، فهو يشتهي الماء لأنّه عطشان ، فالإرادة تتعلق
بالعناوين الواقعية الّتي هي تتطابق ، ـ حينما يتصورها الإنسان ـ مع شهوة من
شهواته ، فالإرادة تتعلق بشرب المسكر ، وأمّا الاختيار فهو تحرك نفسي نحو المراد
خارجا ، وهذا الاختيار يكون محركا نحو ما يراه الإنسان مصداقا لشرب الخمر ، إذ من
الواضح أنّ الإنسان بعد اشتياقه للمسكر الواقعي ، يصير في مقام التحرك ، فالنّفس
تحمله إلى ما يراه هو خمرا ، ولهذا قد يفرض أنّ الخمر أمامه لكن لا يتوجه نحوه ،
لأنّه لا يراه خمرا ، فلو أراد شرب الخمر وتخيّل انّ هذا الماء خمرا فسوف تحمله
نفسه عليه ، لأنّه يعتقده مصداقا لمراده ، سواء كان مصداقا للمراد في الواقع أم
لا.
وبعد هذه المقدّمة
، حينئذ نأتي إلى بيان الميرزا «قده» ، وهو مركب من أمرين :
١ ـ الأمر الأول :
هو أنّ التكليف حيث أنّه من أجل تحريك اختيار المكلّف ، لهذا فهو لا يتعلق إلّا
بالأمور الاختيارية ، إذن فمتعلقه نفس الاختيار ، أو لا أقل ، انّ متعلقه هو بما
يتعلق به الاختيار ، لأنّ التكليف ميزانه وملاكه هو ، تحريك اختيار المكلّف سلبا
أو إيجابا ، فلا
بدّ وأن يتعلق
التكليف إمّا بنفس الاختيار ، أو أنّه يتعلق بما يتعلق به الاختيار.
٢ ـ الأمر الثاني
: هو أنّ الاختيار يتعلق بما يعتقد كونه خمرا ، لا بالخمر الواقعي ، سواء كان خمرا
مصداقا لمراده أو لم يكن.
وهذا قد فهم من
المقدّمة ، لأنّ الاختيار يتعلق بما يراه الإنسان مصداقا لمراده كما عرفت.
وحينئذ ، إذا
جمعنا بين الأمرين وقلنا : انّ التكليف يتعلق بالاختيار ، أو بما يتعلق الاختيار
به ، وقلنا : بأنّ ما تعلق به الاختيار ـ وهو عبارة عمّا يراه الإنسان خمرا ـ فحينئذ
ينتج أن التكليف متعلق بما يراه الإنسان خمرا ، سواء كان خمرا في الواقع أو لم
يكن.
وقد اعترض الميرزا
«قده» على هذا البيان بتقريب يرجع حاصله : إلى أنّ الاختيار وإن كان يتعلق بما يعمل
الإنسان انّه خمر ، لكن هذا العلم الّذي يؤخذ في موضوع الاختيار ، ليس مأخوذا على
وجه الصفتية ، بل على وجه الطريقيّة ـ أي قطع موضوع ـ فهذا القطع لو كان مأخوذا في
موضوع الاختيار على وجه الصفتية بلا نظر لمقطوعه أصلا ، لتمّ هذا الكلام ، لكن ليس
الأمر كذلك ، لأنّ القطع بكون هذا خمرا ، إنّما يحرك الإنسان باعتباره كاشفا عن
متعلقه ، إذن ، فمتعلقه دخيل في موضوع الاختيار ، فيصير موضوع الاختيار هو القطع
مع المقطوع ، أي القطع الموضوعي الطريقي ، وهذا يلزم منه عدم شمول الخطاب للمتجري
، لأنّ القطع بالنسبة إليه موجود ، لكن المقطوع غير موجود.
وهذا الكلام من
الميرزا «قده» مبني على مطلب سوف يأتي في القطع الموضوعي ، فإنّ القطع الموضوعي
ينقسم إلى قطع موضوعي
__________________
طريقي ، وقطع
موضوعي صفتي ، فهناك كلام للميرزا «قده» في القطع إذا أخذ في الموضوع على وجه
الطريقية ، ولا يعقل أخذه في تمام الموضوع من دون أن يكون للمقطوع دخل ، لأنّه لو
كان مأخوذا على نحو الطريقية ، فلا بدّ من فرض كون نظره إلى ذي الطريق ، وحينئذ ،
فرض عدم دخله ، يعني فرض عدم النظر وهو تهافت.
ولهذا قال : إنّ
القطع الّذي يؤخذ في الموضوع على وجه الطريقية يجب أن يكون مأخوذا جزءا ، والجزء
الآخر هو ذو الطّريق ، ولا يصحّ أن يكون تمام الموضوع ، لأنّه تهافت ، لأنّ معناه
: أنّه لا نظر لذي الطّريق ، ومعنى أخذه على وجه الطريقية ، يعني : انّ النظر لذي
الطّريق وهو تهافت.
إذن ، فكلامه هنا
مبني على كلام هناك ، حيث يقول هنا انّ القطع المأخوذ في موضوع الاختيار ، لو كان
مأخوذا على وجه الصفتية لكان الكلام تاما ، لأنّه يكون هو تمام الموضوع ، لكن
القطع إنّما يحرك للاختيار بما هو طريق ، إذن فهو مأخوذ على وجه الطريقية
والموضوعي الطريقي ، بحيث أنّه يؤخذ جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو المقطوع ، أي
الخمرية.
وبناء عليه ، لا
يكون الخطاب شاملا لمقطوع الخمرية وهو ليس بخمر.
وهذا الكلام غير
صحيح ، لأنّ مبناه غير صحيح كما سوف يأتي ، فإنّ القطع الموضوعي سواء الصفتي منه
أو الطريقي ، يعقل أخذه تمام الموضوع كما يعقل أخذه جزء الموضوع.
إلّا أنّ الجواب الحاسم
، هو حلّ المغالطة ، وذلك بأن يقال : انّ التكليف لا يلزم أن يكون متعلقا لا بنفس
هذا الاختيار ولا بنفس
موضوع هذا
الاختيار ، وإنّما يلزم بقانون استحالة تكليف العاجز ، أن يكون متعلقا بما يكون
قابلا لأنّ يتعلق به الاختيار ويحركه نحوه.
والعناوين
الواقعية لها هذه القابلية ، باعتبار قابلية وصولها إلى المكلّف وتحريكه نحوها ،
فكون التكليف مشروطا بالقدرة والاختيار شيء ، وكونه متعلقا للاختيار شيء آخر ،
فالمهم أنّ التكليف لا يتعلق بأمر لا يقبل بأن لا يتعلق به الاختيار ، إذ لا بدّ
من كون موضوعيهما متطابقين تماما.
٢ ـ المسلك الثاني
: لإثبات حرمة الفعل المتجرى به ، هو التمسك بقاعدة الملازمة بين حكم العقل ، وحكم
الشرع.
وهذا المسلك له
صغرى وكبرى.
أمّا الصغرى : فهي
أنّ العقل يحكم بقبح التجري. وبالتالي يحكم بقبح الفعل المتجرّى به.
وأمّا الكبرى :
فهي انّ كل ما حكم العقل بقبحه ، حكم الشرع بحرمته ، للملازمة.
أمّا الصغرى ، فقد
تقدّم الكلام عنها في المقام الأول.
وأمّا الكبرى ،
وهي قاعدة الملازمة ، فسوف يأتي الكلام عنها عند الكلام عن الدليل العقلي.
والآن لو افترضنا
تمامية الكبرى ، بعد أن افترضنا تمامية الصغرى ، حينئذ ، يبقى في المقام انّ هذه
الكبرى ـ وبغض النظر عمّا يرد عليها من إشكالات ـ إنّما تجري في مورد قابل لجعل
الحكم من قبل الشارع ، وأمّا في مورد لا يعقل فيه جعل الحكم من قبل الشارع ،
فالقاعدة هذه لا تجري.
إذن ، فالبحث
ينحصر في انّ هذا المورد قابل لجعل الحكم الشرعي ، أم أنّه يوجد مانع عقلي ومحذور
ثبوتي في جعل الحكم الشرعي؟.
فإن كان هناك مانع
ومحذور ، فقاعدة الملازمة لا تجري ، وحينئذ لا يتمّ هذا المسلك ، وإن تبيّن أنّه
لا محذور ، فحينئذ تجري هذه القاعدة ويتم هذا المسلك.
وهنا يمكن أن يقرب
وجود المحذور الثبوتي بعدّة وجوه.
١ ـ الوجه الأول :
وهو ما سجله السيّد الخوئي «قده» في دراساته.
وحاصله : هو انّ
هذه الحرمة المفروض ثبوتها تبعا لحكم العقل بقبح التجري ، هل هي مخصوصة بخصوص
الفعل المتجرّى به ، أي الفعل غير المصادف للواقع ، المقطوع الحرمة ، أو أنّها
تشمل مطلق مقطوع الحرمة ، سواء صادف الواقع أم لا؟ ، وكلا الشقين باطل.
أمّا الشق الأول :
فلأنّ هذه الحرمة إنّما ثبتت باعتبار قبح التجري ، والعقل يحكم بقبح التجري
والعصيان معا ، ولا يفرق بينهما ، لأنّهما بملاك واحد ، إذن فلا موجب لاختصاص
الحرمة الناشئة من هذا القبح بخصوص موارد التجري ، في حين أنّ القبح والحرمة على
حدّ واحد.
وأمّا الشق الثاني
: وهو أن تكون هذه الحرمة متعلقة بجامع مقطوع الحرمة ، فإنّ هذا مستحيل عقلا
لاستلزامه التسلسل ، وذلك لأنّ هذا التحريم بنفسه هو خطاب سوف نقطع به ، وحينئذ
يتولد منه خطاب آخر ، وهو حرمة مقطوع هذا الخطاب ، لأنّ الحرمة على طبيعي مقطوع
الحرمة ، وهكذا تأتي منه حرمة أخرى تحرّم مقطوعها وهكذا يتسلسل.
__________________
وهذا البرهان غير
تام : لأنّا يمكن أن نختار الشق الأول والثاني بلا أيّ محذور.
فأولا : نسلم انّ
هذا الخطاب الّذي نريد إثباته للمتجري ، موضوعه ، هو طبيعي مقطوع الحرمة ، أي
أنّنا نختار الشق الثاني ولا يلزم التسلسل في التحريمات ، وذلك لأنّ كل تحريم
فعليته تابعة لفعلية موضوعه ، وموضوع الحرمة في هذا الخطاب هو القطع بحرمة سابقة ،
لأنّ موضوعه هو مقطوع الحرمة ، فإذا التفت إلى الحرمة الجديدة وإلى كبراها وصغراها
، إذن سوف يحصل القطع بها ، وبعد حصول القطع ، يصبح الموضوع فعليا.
وأمّا حصول حرمة
ثانية إذا التفت لها وإلى كبراها وصغراها ، يحصل له قطع بها ، ثمّ تأتي حرمة أخرى
، وهكذا كلّما حصل له التفات إلى الحرمة الجديدة مع صغراها وكبراها يتولد عنده قطع
جديد واستتبع هذا القطع الجديد حرمة جديدة. فهذا أمر غير معقول إذ لا يعقل أن يصدر
من المكلّف التفاتات وقطوع غير متناهية ، بل انّ هذه عملية جولان عقلي ، إذ لا
يمكن أن يصدر من المتناهي قطوع غير متناهية ، إذن ، فهذه عملية تنتهي ، لأنّ نشوء
كل حرمة عن سابقتها يكون عن التفات من المكلّف إلى الصغرى والكبرى ، فترتب الحرمة
الثانية على الأولى ، لالتفات المكلّف دخل فيه.
وكأنّ صاحب هذا
الكلام يتوهم انّ كل حرمة تولد حرمة بلا التفات من المكلّف ، وهذا غير صحيح.
وثانيا : لو
سلّمنا انّ هذا الشق الثاني يلزم منه محذور التسلسل ، حينئذ نقول باختيار الشق
الأول ، أو على الأقل نختار أن يكون موضوع الحرمة كل ما هو مقطوع الحرمة من غير
ناحية هذا الخطاب ، ففي هذا الخطاب الجديد المستكشف بقانون الملازمة يقول : أحرّم
عليك كل
مقطوع الحرمة من
غير ناحية هذا الخطاب ، وإنّما كان استثناء هذا الخطاب ، لئلا يقع محذور التسلسل ،
مضافا إلى إشكالات أخرى.
٢ ـ الوجه الثاني
: للبرهنة على استحالة ذلك ، هو للميرزا «قده» ، وهو أحسن من سابقه .
وحاصله هو : انّ
هذا التحريم الّذي يثبت للتجري بقانون الملازمة المزبورة لا يخلو من أحد شقوق
ثلاثة ، فإنّه إمّا أن يكون مجعولا بنفس خطاب «لا تشرب الخمر» ، وإمّا أن يكون
مجعولا بخطاب آخر ، وحينئذ ـ أي على الثاني ـ يحتاج إلى موضوع ، وموضوعه حينئذ ،
إمّا أن يكون هو خصوص مقطوع الحرمة غير المصادف ، وإمّا أن يكون جامع مقطوع الحرمة
، فهنا شقوق ثلاثة.
والشق الأول منها
باطل ، لأنّ حرمة التجري في طول التجري ، والتجري في طول وصول حرمة شرب الخمر إلى
المكلّف ، إذ لو لم يصل هذا الحكم إلى المكلّف لا يكون متجريا ، إذن فحرمة التجري
متأخرة رتبة عن وصول حرمة شرب الخمر ولا يعقل أن يؤخذ المتأخر مع المتقدم في خطاب
واحد ، فكيف يعقل أن تحصل في عرضها وبجعل واحد.
وأمّا الشق الثاني
، وهو أن يكون حرمة التجري مجعولة بخطاب مستقل وموضوعه مقطوع الحرمة غير المصادف ،
فهذا غير معقول ، لأنّ مثل هذا الخطاب لا يعقل وصوله إلى المكلّف وتنجيزه في وقت
واحد ، لأنّه إن لم يكن قاطعا بخمرية شيء ، إذن فلا موضوع ، وإن قطع ، فهو يرى أنّ
قطعه مصيب للواقع ، فحينما يقول له مولاه : حرّمت عليك المقطوع الخطئي ، فسوف يقول
: إنّ مقطوعي صحيح ، وحينئذ فلا يعقل
__________________
فعليته وتنجيزه
على المكلّف في آن واحد ، وكل خطاب يستحيل تنجزه يستحيل جعله.
وأمّا الشق الثالث
: وهو أن يقال للمكلّف : إنّ مقطوع الخمرية حرام سواء كان مصيبا أم لا ، حينئذ ،
هذا الخطاب يمكن وصوله إلى المكلّف ، لكن هذا الخطاب غير معقول أيضا ، وذلك ببيان
أمرين.
١ ـ الأمر الأول :
هو انّ هذا الخطاب ، النسبة بينه وبين خطاب «لا تشرب الخمر» من حيث الموضوع ، هي
العموم من وجه ، لأنّ الخمر قد يكون مقطوعا وقد لا يكون ، ومقطوع الخمرية ، قد
يكون خمرا وقد لا يكون ، لكن في نظر القاطع تكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق
، لأنّه هو يرى انّ مقطوعاته دائما مصيبة ، فمقطوع الحرمة أخصّ مطلقا في نظره من
الخمر الواقعي وحينئذ يلزم اجتماع المثلين بحسب نظره وهو محال ، وإن كانت النسبة
العموم من وجه أو التباين ، فيعقل تعددهما بلحاظ موردي الافتراق.
٢ ـ الأمر الثاني
: هو انّ جعل خطابين وجوبيين ، أو حرمتين وبينهما مادة اجتماع ، إن كان أحدهما مع
الآخر بينهما عموم من وجه ، فيعقل جعل خطابين متماثلين في مادة الافتراق ، لأنّه
في مادة الاجتماع يستحيل تعدد الخطاب ، لاستحالة وجود المثلين في مورد واحد ، فلا
بدّ من الالتزام فيه بوحدة الخطاب حينئذ ، ويبقى لكل من الخطابين مجاله في مادة
الافتراق ، فيكون تعدد الخطاب هنا معقول ، لكن إذا كانت النسبة هي العموم والخصوص
المطلق ، فتعدد الخطاب غير معقول لما عرفت من اجتماع المثلين حينئذ ، إذن فلا بدّ
من التأكد ، ومعه فأيّ شيء يبقى للأخص مطلقا ، إذ أنّه سوف يستهلك في الخطاب الأعم
، إذن يستحيل تعدد الخطاب ، وعلى هذا الأساس ، إذا ضممنا الأمرين إلى بعضهما ،
فيلزم من خطاب «لا تشرب الخمر» ، مع خطاب «لا تشرب
مقطوع الخمرية» ـ حيث
انّ النسبة بينهما هي العموم المطلق في نظر القاطع ـ يلزم اجتماع المثلين وهو محال
كما يراه المكلّف ، إذن فجعل مثل هذا الخطاب يكون مستحيلا وبهذا يبطل الميرزا «قده»
هذه الشقوق الثلاثة.
ولكن هذه المحاولة
من الميرزا «قده» غير تامة ، لأنّ ما ذكره فيها في الفروض الثلاثة ، ممّا لا يمكن
المساعدة عليه.
أمّا ما أفاده «قده»
بالنسبة للفرض الأول ، من كون الحرمتين طوليتين فلا تجعلان بجعل واحد ، لأنّه يلزم
من جعلهما بجعل واحد ، أخذ التحريم المتأخر مع المتقدم.
وقد قلنا في محله
: إنّ الملحوظ في هذا المحذور ، تارة هو دعوى انّ هذين الأمرين حيث أنّهما طوليان
، فلا يعقل تصور مفهوم جامع بينهما لينصبّ جعل الحكم على الجامع فيما بينهما ، لاستحالة
تصور مفهوم جامع بين الطوليّين ، ليحكم عليه بحكم من الأحكام.
فإن كان هذا هو
الملحوظ :
فجوابه : انّ مجرد
الطولية بين الفردين لا يمنع عن تصور جامع مفهومي بينهما ، إذ قد تقرّر في بحث
حجيّة الخبر مع الواسطة ، انّه بلحاظ عالم المجعولات والأحكام الفعلية ، لا مانع
من تأخر بعضها عن بعض وأخذ بعضها في موضوع البعض الآخر ، مع كونها جميعها مجعولة
بخطاب واحد وجعل واحد ، فمثلا : أخبار المفيد «قده» خبر ، وأخبار الطوسي «قده» عن
خبر المفيد «قده» خبر آخر ، والثاني في طول الأول مع أنّه يوجد جامع بينهما ، وهو
مفهوم الخبر.
إذن ، ففي المقام
، يكون وصول الحرمة الفعلية للخمر الواقعي الّذي يريد شربه ، مأخوذا في موضوع
الحرمة الفعلية للتجري ، ولا محذور من جعلهما بخطاب واحد.
وأمّا إن كان
الملحوظ ـ بعد التسليم بإمكان وجود الجامع المفهومي التصوري ـ هو عدم معقولية
إيجاد هذين الحكمين بجعل واحد ، لأنّ ذلك خلف الطولية ، باعتبار انّ إيجادهما بجعل
واحد معناه : العرضية بينهما ، إن كان هذا هو الملحوظ :
فجوابه : انّه لا
محذور في جعل يكون منشئا لمجعوله على نهج القضية الحقيقيّة ، على الموضوع المقدّر
الوجود ، ففي باب الجعل الّذي يكون جعلا على نهج القضية الحقيقيّة المجعول لا يكون
فيها فعليا بنفس الجعل ، بل يكون فعليا بفعلية موضوعه خارجا كما عرفت في محله ،
وحينئذ ، فلا محذور بأن ينشأ بجعل واحد كلتا الحرمتين الطوليتين ، إذ ليس معنى ذلك
عرضيّتهما في عالم الفعلية ، لأنّ جعلهما لا يساوق فعليتهما ، وإنّما فعلية كل
منهما تكون منوطة بتحقّق موضوعه ، وحينئذ ، إذا تحقق موضوع الحرمة الأولى ،
فيتحقّق الأول ، وهي بنفسها تحقّق موضوع الحرمة الثانية.
والخلاصة هي : انّ
العرضية جعلا ، لا تتنافى مع الطولية مجعولا وفعلية.
وعليه : فهذا
الإشكال على كلا التقديرين غير تام.
وأمّا الشق الثاني
: وهو فرض كون الخطاب مجعولا بجعل مستقل لخصوص الفعل المتجرّى به ـ أي انّ موضوع
الخطاب هو المائع الّذي قطع بخمريته ولم يكن قطعه مصيبا ـ.
وقد كان إشكاله
عليه ، بأنّ هذا الخطاب يستحيل وصوله إلى المكلّف لأنّ المكلّف في حال إقدامه متجرئا
على المولى لا يلتفت إلى خطئه ، ومعه لا يرى نفسه متجرئا ومشمولا لهذا الخطاب ،
ولو فرض أنّه التفت إلى خطئه إذن فقد خرج عن عنوان التجري ، إذن جعل حكم لا يقبل
الوصول أمر غير معقول.
وجوابه هو : أنّه
إن فرض اختصاص التجري بخصوص القاطع الّذي يكون قطعه على خلاف الواقع ، فهذا
الإشكال وارد ، لأنّ مثل هذا القاطع لا يلتفت إلى واقع حاله إلّا بعد زوال قطعه ،
لكن قد قلنا سابقا ، انّ التجري لا يختصّ بالقاطع ، بل يشمل كل من قامت عنده
الحجّة على التكليف وكان هذا التكليف غير ثابت في الواقع سواء كانت هذه الحجّة
القطع أو الإمارة كما اعترف بذلك الميرزا «قده» نفسه أو الاحتمال في موارد تنجز الاحتمال.
فبناء على هذا ،
حينئذ ، يمكن القول : بأنّ هذه الحرمة المجعولة على المتجري قابلة للوصول إليه في
غير موارد القطع ، وهذا الإيصال يمكن بيانه بأحد بيانين :
١ ـ البيان الأول
: هو أن يقال : بأنّ حرمة التجري تكون واصلة بالعلم الإجمالي ، بمعنى أنّها تكون
طرفا للعلم الإجمالي ، وهذا إيصال منجز.
وبيانه هو : انّه
لو فرض انّ هذا المكلّف قامت عنده بيّنة على خمرية هذا المائع ، حينئذ ، إذا جعل
المولى حرمة التجري بها فصار المكلّف يعلم إجمالا انّ هذا المائع حرام ، لأنّه إن
كان خمرا ، فهو حرام بخطاب لا تشرب الخمر أي انّه حرام بعنوانه الأولى ، وإن لم
يكن خمرا ، فهو تجر وهو حرام بدليل حرمة التجري ، وهذا العلم الإجمالي منجز ، إذن
فحرمة التجري قد وصلت بوصول منجز وكاف لرفع الإشكال.
وهذا البيان يشكل
عليه ، باعتبار انّ هذا العلم الإجمالي منحل دائما ، لأنّ أحد طرفيه ـ وهو حرمة
شرب الخمر الواقعية ـ منجز ، فإنّ
__________________
هذه الحرمة إن لم
يكن عليها منجز فلا تجري ، وإن كان عليها منجز ، إذن فهذا معناه : انّ أحد طرفي
العلم الإجمالي عليه منجز ، وقد قلنا في محله ، انّه إذا كان أحد طرفي العلم
الإجمالي مبتلى بمنجز خاص به ، حينئذ ، ينحل ولا يكون منجزا للطرف الآخر.
٢ ـ البيان الثاني
: هو أن يقال : انّ حرمة التجري تقلب هذا اليقين إلى اليقين التفصيلي لجامع الحرمة
، فإنّ هذا المكلّف الّذي قامت عنده البينة على انّ هذا المائع خمر ، كان يحتمل
خطأ البينة ، فالحرمة الواقعية محتملة عنده. لكن كان مسئولا عنها لقيام الحجّة ،
ولكن إذا فرض انّ التجري كان حراما ، إذن فهو سوف يعلم تفصيلا بحرمة هذا الفعل ،
إمّا لأنّه خمر ، وإمّا لأنّه تجر ، ومن المعلوم انّ ارتكاب ما يقطع بحرمته أشدّ
محذورا من ارتكاب ما يحتمل حرمته ولو كان منجزا ، إذن فتأثير حرمة التجري هو
بتصعيد المنجز في مرتبة الاحتمال ، إلى مرتبة اليقين ، وهذا نحو من المحركيّة
الكافية لتصحيح جعل مثل هذا الحكم.
والخلاصة هي : انّ
حرمة هذا الفعل ، المنجز لها ، كان العلم الإجمالي ، والآن ، صعّد إلى اليقين ،
ونفس تصعيد المنجز ، له أثر في مقام المحركيّة فلا يكون لغوا.
وأمّا الشق الثالث
: وهو أن يكون الخطاب بحرمة التجري مستقلا ، ويكون موضوعه جامع الخمرية ، وهذا
خطاب قابل للوصول.
لكن الميرزا «قده»
، أشكل عليه ، بأنّه يستحيل جعله في نظر القاطع ، لأنّ نسبته إلى الخطاب
الواقعي في نظره هو ، العموم والخصوص المطلق ، ومعه يلزم اجتماع المثلين في نظر
القاطع.
وجوابه هو ، انّ
النسبة بين الخطابين في نظر القاطع ليس العموم
__________________
المطلق ، بل العموم
من وجه ، وذلك لأنّ هذا الخطاب لا يختصّ بخصوص مقطوعات هذا القاطع ، بل كل قاطع
بالخمرية لو لاحظ مقطوع نفسه لحكم بأنّه خمر ، لكن هو يعترف بأنّ بعض مقطوعات
النّاس قد يكون غير مطابق للواقع ، إذن فخطاب لا تشرب مقطوع الخمرية لا يختصّ بهذا
المكلّف ، والنسبة تلحظ بلحاظ تمام المكلّفين ، وحينئذ تكون النسبة هي العموم من
وجه ، وحينئذ يكون جعل حكمين معقولا في نظر القاطع أيضا ، وهذا هو الجواب الصحيح.
وأمّا السيّد
الخوئي «قده» فقد أجاب على إشكال الميرزا «قده» هذا عبر وجهين.
١ ـ الوجه الأول :
هو أنّه يعقل أن يجعل المولى خطابين ـ خطاب ، «لا تشرب الخمر» ، وخطاب ، «لا تشرب
مقطوع الخمرية» ـ وهنا : يوجد مادة افتراق بينهما ، وهو فيما لو فرض انّ إنسانا لم
يصله خطاب لا تشرب الخمر ، لكن وصله خطاب ، لا تشرب مقطوع الخمرية ، وحينئذ ، يكفي
هذا في تعدد الحكم والخطاب ، ويفيده في فرض عدم وصول الخطاب الأول ، ولا محذور في
جعل الخطاب الثاني في فرض عدم وصول الأول فيكون الخطاب الثاني هو المؤثر ، وهذا
الوجه غير تام.
ويردّ عليه : انّه
في المقام ، في فرض عدم وصول الخطاب الأول ، لا موضوع للخطاب الثاني ، لأنّ موضوع
الثاني ، إنّما هو بملاك قبح التجري كما هو محل كلامنا ، فالخطاب الثاني نريد
إثباته بملاك قبح التجري أي بملاك الخطاب الأول ، ومع عدم وصول الخطاب الأول ، لا
تجري.
هذا مضافا إلى أنّ
الميرزا «قده» يريد إثبات انّ النسبة بين الخطابين أنفسهما هو العموم من وجه ، لا
بين الوصولين ، وإلّا لوقع
المحذور بين من
وصل إليه الخطابان معا ، ففي مثله يقال انّ النسبة هي العموم المطلق ، وهذا مستحيل
، إذن فالإشكال وارد في حق من وصل إليه الخطابان ، إذن فلا بدّ في مقام دفعه ، أن
يبيّن انّ النسبة بين الخطابين ـ حتّى في حق من وصل إليه كلا الخطابين ـ هي العموم
من وجه ، لا العموم المطلق.
والحاصل هو أنّه
كان برهان الميرزا «قده» في الشق الثالث ، هو انّ خطاب حرمة التجري يكون خطابا
مستقلا ، وموضوعه هو مطلق مقطوع الخمرية ، وكان إشكاله «قده» عليه هو لزوم
الاستحالة في نظر القاطع ، للزوم اجتماع المثلين في مثله.
وقد أجبنا عليه ،
بأنّ النسبة بين الخطابين حتّى في نظر القاطع هي ، العموم من وجه ، وعليه فلا
محذور.
وهذا الجواب كنّا
قد بنيناه على مبنى ومشرب الميرزا «قده» والمشهور والأصول الموضوعية عندهم
القائلون : بأنّ الخطابين المتماثلين بنحو العموم المطلق غير معقول.
لكن نحن نقول :
بأنّ فرض خطابين استقلاليين بينهما عموم مطلق أمر معقول ، لأنّه في مورد الاجتماع
لا نلتزم بالتأكد ليلزم انصهار الأخص في الأعم رأسا ، بل نقول : بأنّ كلا منهما
محفوظ بنفسه ولا تأكد ولا يلزم محذور اجتماع المثلين ، لأنّ هذا المحذور لا يردّ
في الخطاب الّذي هو من الأمور الاعتبارية ، وإنّما نلتزم بالتأكد في ملاكات الحكم
، «في المصالح والمفاسد» ، لأنّها أعراض حقيقية ، فيستحيل وجود فردين متماثلين من
الحب أو البغض على موضوع واحد ، بل حينما يكون هناك حبّان أو بغضان ، يكون أحدهما
مؤكدا للآخر ، إذن ، فنلتزم بالتأكد في مبادئ الحكم.
وكان السيّد
الخوئي «قده» قد تصدّى للجواب على كلام الميرزا «قده» عبر وجهين.
وكان حاصل الوجه
الأول ، هو انّ خطاب «لا تشرب الخمر» ، وخطاب ، «لا تشرب مقطوع الخمريّة» ، يمكن
فرض انفكاك كل منهما عن الآخر ، كما لو فرضنا انّ الخطاب الأول لم يصل إلى المكلّف
، فيكون الخطاب الثاني هو المؤثر ، ويكفي ذلك في تعدد الحكم.
وقد قلنا سابقا :
انّ هذا الإشكال غير تام لأمرين.
الأول : هو لأنّه
يستحيل فرض فعلية الخطاب الثاني في فرض عدم وصول الخطاب الأول ، لأنّ الثاني يتكفل
بحكم قبح التجري مع وصول الأول ، ومع عدم وصول الأول لا قبح ولا تجري ، إذن فلا
موضوع للحرمة بالعنوان الثانوي.
الثاني : هو انّ
هذا البيان يوجب الانفكاك بين الخطابين في مقام الوصول ، وهذا غير منظور للميرزا «قده»
، بل منظوره هو الانفكاك بين الخطابين في عالم الوجود لا في عالم الوصول.
٢ ـ الوجه الثاني
: الّذي ذكره السيّد الخوئي «قده» هو ، أنّه لو سلمنا انّ النسبة بينهما العموم
المطلق ، لكن لا بأس بجعل خطابين متماثلين بينهما عموم مطلق ، ببرهان انّ هذا واقع
خارجا ، كما لو نذر الإنسان أن يصلّي صلاة الظهر ، فإنّ نذره ينعقد ، وعليه وجوبان
، وجوب الظهر ، ووجوب الوفاء بنذره ، وهذان الوجوبان بينهما عموم مطلق ، لأنّ وجوب
الظهر يشمل كل ظهر ، ووجوب الوفاء بالنذر أخصّ ، لكونه في يوم معين ، وعليه فلا
محذور.
وهذا الكلام تام
كما أشرنا إليه ، لكن لا بدّ من كشف الغطاء عن الشبهة ، وانّ هذا الّذي لا بأس به
إنّما هو من باب أنّه لا يلزم فيه محذور اجتماع المثلين في عالم الجعل كما عرفت.
وأمّا ما ذكره
السيّد الخوئي «قده» من البرهنة على ذلك بالنقض فهو غير تام ، ذلك لوضوح انّ
النسبة بين الخطابين في مورد النقض هي العموم من وجه لا المطلق ، لأنّ خطاب الوفاء
بالنذر لم يجعل في حق خصوص هذا الناذر ، ومعه تكون النسبة هي العموم من وجه ، حيث
تكون مادة الاجتماع حينئذ ، هي من نذر صلاة الظهر من يوم الجمعة ، ومادة الافتراق
هي ظهر غير يوم الجمعة ، ومادة افتراق الآخر ، هي نذر زيارة مسلم بن عقيل ، فهنا
خطاب وجوب الوفاء بالنذر جعل كخطاب كلّي يشمل هذا الناذر وغيره ، ومعه تكون النسبة
هي العموم من وجه ، إذن ليس الملاك في إبطال كلام الميرزا «قده» هي النقوص ، بل
رفع الغطاء عن هذه الشبهة يقتضي أن يكون التمثيل بموارد الأمر بالجامع والأمر
بالفرد والحصة ، فإنّه لا محذور حيث لا يلزم تأكد ولا اجتماع المثلين.
هذا مضافا إلى انّ
النسبة في المقام بين الخمر الواقعي ، ومعلوم الخمريّة أيضا هي العموم من وجه بحسب
نظر القاطع ، إذ قد يعلم أنّه ربّما يكون شيء معلوم الخمرية عند غيره ، أو في مرّة
أخرى ، مع عدم كونه في الواقع خمرا ، ومعه يكون جعل حكمين معقولا من وجهة نظر
القاطع نفسه.
٣ ـ الوجه الثالث
: الّذي قد يستدل به على استحالة جعل الحكم بحرمة التجرّي هو ، ما ذكره السيّد
الخوئي «قده» .
وحاصله : انّ
الحكم بحرمة التجري غير قابل للمحركيّة ، وذلك ، لأنّ الحكم بذلك أخذ في موضوعه
وجود حرمة واقعية منجزة على هذا المكلّف.
__________________
وحينئذ : ننقل
الكلام إلى ذاك المتنجز السابق رتبة ، فنسأل : هل انّ هذا المتنجز السابق كاف
لمحركيّة هذا المكلّف أم لا؟ فإن كان كافيا ، إذن فلا حاجة لجعل خطاب ثاني ، لأنّه
سوف لن يشرب مقطوع الخمرية بنفس محركيّة خطاب لا تشرب الخمر ، لأنّه خمر في نظره ،
وإذا فرض أنّه شقي لا يخاف المولى سبحانه والخطاب الأول لا يحركه ، إذن ، الخطاب
الثاني سوف لن يحركه ، إذن ، على أيّ حال ، الخطاب الثاني لا أثر له ، لأنّه غير
قابل للمحركيّة ، فيلغو حينئذ.
وجوابه : هو أنّ
التجري تارة ، يكون في موارد الاحتمال ، وأخرى يكون في موارد القطع.
أمّا في موارد
الاحتمال ، كما لو تنجزت عليه خمرية هو المائع بالاستصحاب مثلا ، فهنا لا إشكال في
أنّ جعل الخطاب الثاني يكون له محركيّة وأثر كما عرفت ، لأنّ الخطاب الثاني يصعّد
احتمال الحرمة المنجزة بالاستصحاب إلى درجة القطع بجامع الحرمة ، ومن الواضح انّ
محركيّة مرتبة التنجز الاحتمالي ، أقل من محركيّة التنجز القطعي ، إذن ، فالخطاب
الثاني يكون له محركيّة ومصعديّة.
وأمّا إذا فرضنا
انّ المتجري كان قاطعا بالحرمة خارجا ، فالمتنجز هو قطعي من أول الأمر ، فهنا أيضا
جعل الخطاب الثاني يكون له أثر عملي ، لأنّه ما دام أنّ الخطاب الثاني له ملاك
مستقل غير الخطاب الأول كما هو المفروض ، وانّ الخطاب الأول ملاكه المفسدة
الموجودة في الخمر ، وخطاب لا تشرب مقطوع الخمرية ملاكه هو القبح ، ففي هذا الفرض
، يتأكد لا محالة درجة التنجز ، وتشتد درجة استحقاق العقاب حينئذ ، كما هو الحال
في الخاطبين العرضيّين حين اجتماعهما ، كحرمة إيذاء الجار ، وحرمة إيذاء الرحم ،
وكان الجار رحما فأذاه ، فهنا لا شكّ أنّ إيذائه أشدّ ، وليس ذلك إلّا لأنّ درجة
استحقاق العقاب
متأكدة تبعا
لاشتداد درجة مخالفة المولى في خطابيه له ، وعليه : فالمحركيّة محفوظة في المقام
بعد فرض إمكان التأكد في حيثيّة على الجرأة على المولى ، فبضم الثاني للأول لا بدّ
من تأكد حيثيّة الجرأة ، وقد يتفق أنّ إنسانا لا يحجم عن عصيان خطاب واحد ، ولكن
يحجم عن عصيان خطابين يكون أحدهما مؤكدا للآخر.
وقد عرفت سابقا ،
انّ المعنى الصحيح للتأكد عندنا في مقام اجتماع حكمين ، هو ما ذكرناه من التأكد في
مقام المحركيّة ، لا اتحادهما في نفس الجعل والاعتبار ، بل هما باقيان على ما هما
عليه من التعدّد جعلا وإنشاء.
وبما ذكرنا من
الوجوه الثلاثة مع أجوبتها ، اتضح أنّه لم يتمّ برهان على عدم قابلية المورد لجعل
الحرمة الشرعية على طبق حكم العقل بقبح التجري.
وعليه : فصيغة
البرهان الّتي طرحت أولا لا تزال قائمة ، ـ وهي انّ كلّما حكم العقل بقبحه ، حكم
الشرع بحرمته أيضا ـ إذا كان الموضع قابلا.
وقد عرفت انّ
الموضع قابل لتطبيق القاعدة في المقام ، وإثبات حرمة الفعل المتجرّى به ، لأنّه لم
يتمّ شيء من الوجوه الّتي استدل بها على عدم القابلية.
لكن مع هذا ،
فبرهان الملازمة بين حكم العقل بالقبح ، وحكم الشرع بالحرمة غير تام ، وذلك
للمناقشة في كبراه ، فإنّ قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بالمعنى
المذكور غير تام.
وسوف يأتي تحقيقها
عند الكلام على النزاع الدائر بين الأصوليّين والأخباريّين في حجيّة الدليل
العقلي.
وعلى أيّ حال ،
ستبقى قابلية المورد محفوظة ، وإن كنّا لا نسلّم بكبرى هذه القاعدة.
ثمّ انّه بمناسبة
المقام لا بأس بالكلام عن قاعدة موروثة ذكرها الشيرازي الكبير «قده» في باب الملازمة بين حكم العقل بالقبح ، وحكم الشارع
بالحرمة.
وحاصلها : هو أنّ
حكم العقل بالحسن والقبح على قسمين.
١ ـ القسم الأول :
هو ما يستلزم الحكم الشرعي.
٢ ـ القسم الثاني
: هو ما لا يستلزم الحكم الشرعي.
وميزان الفرق بين
القسمين هو ، انّ الحسن والقبح ، إن كانا واقعين في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية
، كقبح المعصية ، وقبح التجري الواقعين في طول الحكم الشرعي ، فمثل هذا لا يستتبع
حكما شرعيا ، وأمّا ما لا يكون واقعا كذلك ، بل كان واقعا في سلسلة علل الأحكام
الشرعية ، كقبح الغصب ، والخيانة ، فمثل هذا يستلزم حكما شرعيا.
وحينئذ ، عند
تطبيق هذه القاعدة على التجري ، نرى أنّ قبح التجري من القسم الّذي لا يستلزم حكما
شرعيا ، لأنّ قبحه واقع في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، لأنّ قبح التجري على
شرب الخمر هو فرع حرمة شرب الخمر ، إذن فلا ملازمة ، إذ لو لم يكن شرب الخمر حراما
ومنجزا لما قبح شرب مقطوع الخمريّة.
وقد اتضح بطلان
هذه القاعدة بهذا التفصيل ممّا ذكرناه سابقا ، حيث أنّ المحل لا يكون قابلا لجعل
الحكم الشرعي فيما إذا كان القبح واقعا في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية.
__________________
بخلاف القبح غير
الواقع في سلسلة المعلولات ، فإنّه قابل لجعل الحكم الشرعي.
إذن فهذه القاعدة
، ترجع إلى ذلك التفصيل ، وهذا ما ثبت بطلانه ، حيث أنّ عدم قابلية المحل لجعل
الحكم في موارد القبح الطولي ، لا بدّ وأن يكون بسبب أحد الوجوه المتقدّمة ، من
التسلسل ، أو برهان الميرزا «قده» في لزوم عدم المحركيّة ، وقد عرفت بطلان كلا
الإشكالين سابقا.
وإن كان الإشكال
في عدم قابلية المحل في موارد القبح الطولي هو لزوم الدور ، حيث يدّعى أنّ الحسن
والقبح ، لو كانا معلولين للحكم ، ثمّ نشأ منهما الحكم ، لزم أن يصبح المعلول علّة
لعلّته.
فإن كان هذا هو
مدرك هذه القاعدة ، فهو ، واضح البطلان ، إذ من الواضح انّ الحكم الّذي يفترض
معلولا للحسن والقبح حكم جديد ، غير الحكم الّذي يفترض انّ الحسن والقبح وقعا في
سلسلة معلولاته ومعه ، لا دور حينئذ ، وبهذا ، فلا يبقى مدرك لهذه القاعدة إلّا
إشكال لزوم التسلسل ، أو إشكال لزوم عدم المحركيّة ، وقد عرفت بطلانهما.
وعليه : فهذا
التفصيل غير تام ، خصوصا بعد ما اتضح بطلان تلك الوجوه ، خصوصا الوجه الأخير ، إذ
قد بيّنا أنّه قابل للمحركيّة بنحو التأكيد ، بل انّ شبهة عدم قابلية المحل لو كان
القبح طوليا ، لو تمّت لجرت في موارد القبح العرضي.
إذ حتّى لو سلّمنا
عدم الاختلاف في مراتب الظلم كي يتمّ محذور عدم المحركيّة إذن ، فاللازم حينئذ ،
أن لا يكون ملاك المحذور في قاعدة الملازمة ، مختصّا بسلسلة المعلولات من حيث هي
كما وصفها.
إذ لا فرق من هذه
الناحية بين سلسلة العلل ، وسلسلة المعلولات بناء على مبناهم في استحقاق العقاب.
وتوضيحه هو ، انّ
غاية ما يقال لإثبات محذور عدم المحركيّة ، هو أنّنا لا نتصور اختلافا في مراتب
الظلم.
فلو سلّم ذلك أمكن
تصوير عدم المحركيّة للحكم الجديد حينما يكون القبح معلولا للحكم أيضا ، وذلك ،
لأنّ الحكم الأول المفترض كاف في أن تكون مخالفته ظلما ، ولا يتأكد ذلك بحكم جديد
، لأنّنا لا نتصور اختلافا في مراتب الظلم ، إذن ، فلا محركيّة للحكم الجديد.
وهذا بخلاف ما لو
كان القبح واقعا في سلسلة العلل ، كقبح الغصب مثلا ، حيث أنّ الظلم هنا ليس ظلما
للمولى ، بل هو ظلم لشخص آخر ، فأثر الحكم هو أن تكون المخالفة ظلما للمولى ،
والظلم الأول إذ كان كافيا لاستحقاق العقاب ، ـ لما يقال مثلا : من أنّ ارتكاب
القبيح موجب للذمّ ، وذمّ كل شخص بحسبه ، وذمّ المولى عقابه ـ فهذا لا يمنع عن
تأثير حكم المولى في المحركيّة ، وذلك لأنّ الظلم الأول هو ظلم لغير المولى ،
بينما الظلم الثاني هو ظلم للمولى ، فهما ظلمان لشخصين.
ومعه فقد يدّعى
انّ ما افترضناه من عدم قبول الظلم للاشتداد إنّما هو بشأن شخص واحد ، أمّا لو كان
العمل الواحد ظلما لشخصين ، فلا شكّ أنّ ظلم شخصين أشدّ من ظلم شخص واحد.
وهذا البيان لو
تمّ فإنّما يتمّ بلحاظ التفصيل بين القبح الّذي يكون معلولا للحكم ، والقبح الّذي
يكون راجعا إلى ظلم العباد ، ولكن لا يتمّ بلحاظ القبح الّذي يقع في سلسلة العلل ،
ولكنّه يعتبر ظلما بشأن المولى ، كما في السجود بعنوان الاستهزاء بالله تعالى ، أو
كما في التشريع ، وذلك لأنّه ـ في هذا الفرض ـ سيكون كلا الظلمين أيضا راجعين إلى
جهة واحدة وهي المولى ، ومعه لا يتصور فيه الاشتداد ، فإن كان القبح الأول موجبا
لارتداع العبد فهو ، وإلّا فتحريم المولى له أيضا
لا يؤثر في
ارتداعه ويكون لغوا ، ومحل كلامنا في حرمة التجري من هذا القبيل .
هذا بناء على
مبناهم ، من أنّ قبح جميع القبائح ، يرجع إلى قبح الظلم ، ويتفرع عنه.
وأمّا بناء على ان
قولنا : الظلم قبيح قضية بشرط المحمول ، وهي انّ قبح كل قبيح يكون ثابتا برأسه ،
بملاكه الخاص ، لا أنّ قبح كلّ قبيح يرجع إلى ملاك واحد ، هو كون الظلم قبيحا ،
فقد يتوهم تمامية الفرق بين سلسلة العلل وسلسلة المعلولات ، وذلك ، لأنّ القبح
الثابت في سلسلة العلل يكون ثابتا بملاكه الخاص ، غير ملاك القبح الّذي يكون ثابتا
بحكم المولى ، وحينئذ يتأكد القبح ، لكون ملاكه متعددا.
وهذا بخلاف القبح
الواقع في سلسلة المعلولات ، فإنّ هذا القبح مع القبح الّذي ثبت بحكم جديد كلاهما
قبح واحد لكونهما بملاك واحد هو معصية المولى ، وحينئذ يدّعى عدم إمكان التأكد ،
وعدم اختلاف المراتب في القبح وملاكه ، إذن ، فالتأكد يكون معقولا فيما إذا كان
القبح واقعا في سلسلة العلل ، ولو كان بلحاظ حق المولى دون العباد ، ولا يكون
معقولا إذا كان واقعا في سلسلة المعلولات.
ولكن يردّ عليه :
انّ البناء على دعوى تسليم الفرق بين فرض وحدة الملاك وتعدّده ، وتخصيص إنكار
المراتب بالفرض الأول ، يشكل مبررا للتفصيل بين سلسلة العلل وسلسلة المعلولات من
حيث هما كذلك ، لأنّ قبح ما يرجع إلى مخالفة حق المولى ، يكون دائما بملاك واحد ،
بلا فرق بين ما يكون في سلسلة المعلولات كالمعصية
__________________
مثلا ، وما يكون
في سلسلة العلل ، كالسجود بعنوان الاستهزاء بالله سبحانه ، أو التشريع ، فإنّ ذلك
كلّه بملاك واحد ، هو مخالفة احترام المولى وقداسته.
إذن فهذا التفصيل
لو تمّ ، فهو يتمّ فقط بين القبح الّذي يرجو إلى مخالفة حق العباد ابتداء ، كالغصب
مثلا وبين ما لا يرجع إلى غير المولى كالمعصية والتجري ، فإنّه يمكن أن يقال حينئذ
، إنّ قاعدة الملازمة تطبّق هنا باعتبار إمكان تأكّد القبح باجتماع ملاكين ،
أحدهما بالنسبة للمولى ، والآخر بالنسبة لغير المولى ، هذا كلّه بناء على تسليم
القبح العقلي في سلسلة العلل.
أمّا إذا قلنا :
انّ تمام ما يدرك النّاس قبحه في سلسلة العلل ، كما في الغصب ونحوه ، ليس قبحه
إلّا من الأمور العقلائية الّتي تختلف باختلاف المجتمعات وليس أمرا واقعيا يدركه
العقل ، فإنّه حينئذ لا يبقى موضوع لقاعدة الملازمة في سلسلة العلل.
٣ ـ المسلك الثالث
: لإثبات حرمة التجري ، هو الإجماع. فانّه وإن لم تذكر حرمة التجري بعنوانها في
كلمات الفقهاء ، لكن يستكشف إجماعهم عليها من خلال اتفاقهم على الحكم في فرعين حيث
أنّه لا موجب لحكمهم هذا إلّا حرمة التجري.
١ ـ الفرع الأول :
كما ذكر في رسائل الشّيخ الأنصاري «قده» هو ، لو أنّ إنسانا ظنّ ضيق الوقت وجب عليه البدار حينئذ ،
فلو أنّه مع هذا ، تجرأ وأهمل الصّلاة ، فإنّه وإن انكشف سعة الوقت ، وتبين خطؤه
فيما ظنّ ، لكنّهم قالوا بأنّه يستحقّ العقاب ، ويعتبر آثما.
وهذا الحكم لا
موجب له إلّا حرمة التجري ، حيث انّ هذا
__________________
المهمل لم يصدر
منه إلّا التجري ، إذن فلو لم نقل بحرمة التجري ، لم يكن هناك وجه لتسجيل هذا
الإثم على هذا المكلّف.
٢ ـ الفرع الثاني
: هو أنّهم اتفقوا على أنّ من ظنّ الخطر في طريق ، أو سفر ، لو سلك ذلك الطّريق ، فقالوا : إنّ سفره سفر معصية ،
ويجب عليه إتمام صلاته ، حتّى لو كان في علم الله لا خطر في طريقه وسفره ، مع أنّه
بحسب الحقيقة لم يصدر منه عصيان بعد انكشاف عدم الخطر ، ومن الواضح أنّه لا وجه
لهذا الحكم إلّا حرمة التجري ، لأنّ الحكم قد تنجز عليه بالظن الّذي هو أدنى فردي
الرجحان ، فيشمل القطع بالخطر.
فاتفاقهم في هذين
الفرعين لا يتمّ إلّا بناء على حرمة التجري.
ولكن هذا غير تام
لوجوه.
١ ـ الوجه الأول :
هو انّ هذه الفتوى في كلا الفرعين لا ينحصر تخريجها بالقول بحرمة التجري ، بل يمكن
افتراض أنّهم طبّقوا مباني أخرى لاستخراج هذه الفتوى.
فمثلا : بالنسبة
للفتوى الأولى ـ وهو من ظنّ ضيق الوقت ـ فلعلّ إثمه إنّما كان باعتبار عصيانه
لخطاب من الخطابات الواقعية ، وهو خطاب ـ حافظوا على الصلوات ـ وهذا غير خطاب «صلّ»
كما استفاد هذا بعضهم وذهب إليه ، وخطاب المحافظة هذا ، يدلّ على انّ المحافظة على
الشيء ، معناه : التحرز عليه ، والاحتياط له بحسب شأنه ، وحينئذ قد يستفاد وجود
حكم واقعي ، وهو وجوب صلاة الظهر ، وحكم آخر هو وجوب المحافظة عليها.
__________________
وهذا المكلّف وإن
لم يعص الخطاب الأول ، لكنّه عصى الخطاب الثاني ـ وجوب المحافظة ـ سواء كان الوقت
واسعا أو لم يكن ، وبهذا يكون عمله هذا عصيانا للخطاب الثاني.
وهناك احتمالات
أخرى حيث قيل على سبيل المثال : بأنّه لم يرد التصريح في كلماتهم جميعا بكون هذا
التأخير معصية ، إذ بعضهم وإن صرّح بالمعصية ، ولكن البعض الآخر اكتفى بذكر
استحقاق العقاب دون أن يذكر المعصية ، وحينئذ يقال : بأنّه لو تمّ إجماع فإنّما
يتمّ على استحقاق العقاب ، وهو لا يستلزم حرمة التجري ، لأنّ التجري وإن كان قبيحا
وموجبا لاستحقاق العقاب ، لكن لا نقول بحرمته.
وأمّا الفتوى
الثانية : فأيضا ، يمكن القول ، بأنّ مدركها لعلّه البناء على أنّ العنوان الّذي
يوجب التقصير والإتمام ، ليس هو عنوان سفر المعصية وغير المعصية ليقال : إنّ هذا
المكلّف لم يصدر منه معصية أو صدر منه ، وإنّما قد يكون مدركها ما ورد في بعض
الرّوايات الصحيحة الّتي أخذ في عنوانها «مسير حق».
ومن الواضح أنّ
مسير المتجري ليس مسير حق ، وسواء كان معصية أو لم يكن ، فإنّه ظلم للمولى ، وظلم
المولى غير حق.
وعليه : فلا يمكن
استكشاف حرمة التجري من هذين الفرعين ، إذ لعلّهم اعتمدوا على هذه الرّوايات.
إذن : فوجه الفتوى
غير منحصر في حرمة التجري.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو انّ هذا الإجماع غير ثابت ، لأنّ القدر المتيقن من هذا الإجماع ، هو إجماعهم
على استحقاق العقاب لا أكثر وهو أعم من الحرمة ، أمّا الإجماع على أنّه يعتبر
عاصيا ، فهذا غير ثابت ، نعم نقل الإجماع على مثله ، وأنت خبير بأنّ الإجماع
المنقول غير حجّة.
٣ ـ الوجه الثالث
: هو أنّه لو سلّم هذا الإجماع ، لكن المسألة عقلية ، ولا حجّة للإجماع فيها ، ولا
نقصد من كون المسألة عقلية ، انّ عنوانها كذلك ليرد إشكال الميرزا «قده» من أنّ
العنوان المطروح إنّما هو حرمة التجري وعدمها فإنّ العنوان وإن كان هو الحرمة
الشرعية للتجري ، لكن أحد مدارك هذه الحرمة هو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
وهي أمر عقلي ، لعلّ هؤلاء المجمعين استندوا إليه ، والإجماع على حكم شرعي بسبب
مدرك عقلي يرجع إلى تشخيص ذلك المدرك ، لأنّ عقلنا كعقلهم ، فلا بدّ من أن نرى هذا
المدرك في عقولنا لنرى ، هل تحكم بذلك أو لا.
نعم ، لو كان
المدرك شرعيا لأمكن القول بحجيّة الإجماع حينئذ ، إذ يمكن أن نقول : لعلّهم
استندوا إلى مدرك شرعي لم نطلع نحن عليه لقربهم منه ، وبعدنا عنه.
٤ ـ المسلك الرابع
: هو الاستدلال بالرّوايات على حرمة التجري ، حيث يستدل بالرّوايات الدالة على
عقاب المتجري ، إمّا بلحاظ ما دلّ من الأخبار على ترتب العقاب على قصد المعصية ، بدعوى أنّ المتجري قاصد للمعصية وإن لم يتحقّق قصده
خارجا.
وأمّا بلحاظ
الأخبار الدالة على ترتب العقاب على قصدها مع السعي في سبيلها ، بدعوى أنّ المتجري
قاصد وساع نحوها ، غايته أنّه لم يتمكن من الوصول إليها.
__________________
وهذا الاستدلال
غير تام ، حتّى لو فرض أنّ هذه الرّوايات تامة سندا ودلالة على استحقاق العقاب ولم
يكن لها معارض من الرّوايات الدالة على نفي العقاب على النية والقصد ما لم ترتكب
المعصية ، فلو سلّم كل ذلك ، فمع هذا الرّوايات المذكورة لا يمكن أن تكون دليلا
على حرمة التجري شرعا ، إذ بعد الفراغ عن صحة سندها ودلالتها على استحقاق العقاب
فغاية ما تدلّ عليه هو ، أنّ المتجري يستحقّ العقاب ، واستحقاق العقاب لا يلازم
الحرمة باعتبار ما ذكرنا سابقا من أنّ استحقاق العقاب ثابت بحكم العقل بقطع النظر
عن جعل الحرمة للتجري ، وهذا الثبوت باعتبار أنّ التجري هتك وظلم للمولى ، وانّ
كشف في غير هذا المقام ، كما لو ورد أنّ «شرب الخمر» يدخل النّار ، فهذا يكشف عن
الحرمة ، لأنّه لولاها لا منشأ لدخول النّار ، وهذا غير المقام ، وعليه فهذا
المسلك غير تام.
نعم هناك بحث في
الرّوايات الواردة في ترتب العقاب على النية إثباتا أو نفيا أو تفصيلا ، إلّا أنّه
بحث ، الدخول فيه يخرجنا عن الأصول.
وإن شئت قلت :
إنّه قد يستدل على حرمة التجري بالرّوايات الدالة على عقاب المتجري بقصد المعصية
أو الساعي إليها ، وإن لم يتحقّق قصده خارجا ، ولكن من المحتمل قويا أن يكون ظاهر
ذلك التجري في الشبهة الموضوعية ، بأن تكون أصل كبرى حرمة الفعل ثابتة ، ولكن
المكلّف يقصد تحقيق صغراها خارجا فلم يتحقّق قصده ، وذلك كالنبوي ـ إذا التقى
المسلمان بسيفهما على غير سنّة ، فالقاتل والمقتول كلاهما في النّار ، قيل هذا
القاتل ، فما بال المقتول؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه أراد قتل صاحبه ـ حيث يدلّ على استحقاق العقاب لأنّه قصد المعصية.
__________________
وقد ناقش السيّد
الخوئي «قده» الاستدلال بها ، بأنّها على تقدير تماميتها سندا ودلالة ،
فهي لا تدلّ على أكثر من حرمة قصد المعصية الواقعية ، ومعه ، لا ربط لها بحرمة ما
يعتقده العبد حراما رغم كونه ليس حراما في الواقع.
وهذه المناقشة غير
تامة ، لأنّه لو سلمنا دلالتها على حرمة قصد المعصية ، حينئذ لا يكون هناك فرق بين
قصد المعصية في مورد مصادفة فعل المتجري للواقع وعدمه ، إذ من حيث قصد المعصية ،
لا فرق بينهما ، وكذلك فإنّه إذا ثبتت حرمة التجري فيما إذا قصد المعصية فقط ،
فإنّها تثبت في التجري حين الإقدام على الفعل بطريق أولى وبشكل أشدّ أيضا.
والصحيح في مناقشة
هذه الرّوايات أن يقال : إنّ هذه الرّوايات ، إن تمّ شيء منها سندا ، فهي دلالة
تتراوح بين ما لا يدلّ منها على أكثر من استحقاق العقاب على القصد ، وهو أعم من
الحرمة ، وبين ما يدلّ على حرمة نفس الرّضا والنيّة السيئة ، أو نفس الالتقاء
بالسيف ، وذلك لملاك قائم فيها وبقطع النظر عن الفعل الخارجي.
ثمّ إنّ هناك
طائفة أخرى من الرّوايات تدلّ بظاهرها على نفي العقاب على مجرد نيّة فعل الحرام دون التلبس به.
وقد جمع السيّد
الخوئي «قده» بين هاتين الطائفتين ، بحمل
__________________
الطائفة الأولى
على قصد المعصية مع عدم الارتداع عن قصده حتّى حيل بينه وبين العمل بقصده ، وبحمل
الطائفة الثانية على ما إذا ارتدع عن قصده بنفسه ، وذلك بتطبيق كبرى انقلاب النسبة
، لأنّ النبوي المتقدّم يدلّ ذيله على العقاب ، فتخصص الطائفة الأولى بفرض عدم
الارتداع.
وهذا الجمع مضافا
إلى عدم قبول مبناه ، وهو كبرى انقلاب النسبة ، غير صحيح ، لأنّ النبوي إمّا أن
يستظهر منه حرمة نفس الالتقاء بالسيف كحرام مستقل كما يفهم ذلك من إرادة القتل في
ذيل الرواية ، إذن لا يكون هذا عقابا على التجري ، بل على نفس تجريد السيف فإنّه
معصية حرام كحرمة سبّ المؤمن بغض النظر عن القتل ، وإمّا أن تحمل إرادة القتل فيها
على مجرد قصد القتل ، وحينئذ ، لا وجه لدعوى اختصاصها بما إذا لم يرتدع ، إذ أنّ
قصد القتل وإرادته أعم من ذلك ، اللهمّ إلّا أن يقال : انّ القدر المتيقن من هذه
الطائفة وموردها هو ذلك.
ولكنّه قد حقّق في
محله أنّ مجرد وجود قدر متيقن بين الطائفتين المتعارضتين لا يكون وجها للجمع
العرفي بينهما عن طريق تخصيص كل منهما بمضمون هذا المتيقن.
والصحيح هو حمل
الطائفة الثانية على نفي فعليّة العقاب تفضلا ومنّة من الله تعالى على عباده ،
لأنّها ليست ظاهرة في أكثر من ذلك ، بل في ألسنة بعضها القرينة على ذلك ، من قبيل
ما دلّ على ـ انّ الله تفضّل على آدم على أن لا يكتب على ولده وذريته ما نووا ما
لم يفعلوا ـ وكذلك ما دلّ على أنّ الملائكة الموكلين بتسجيل الذّنوب
يمهلون العباد ولا يكتبونها بمجرد النيّة وقصد المعصية ، فإنّ هذه الألسنة
__________________
بنفسها تدلّ على
ثبوت استحقاق العقاب الّذي تدلّ عليه الطائفة الأولى ، وإنّما لا فعليّة ولا تسجيل
منّة وتفضلا من الله سبحانه على عباده ، إذن فلا تنافي بين الطائفتين.
وبعبارة أخرى يقال
: انّ الصحيح بعد فرض ورودهما في مورد التجري وتعارضهما هو حمل أدلة النفي على نفي
فعليّة العقاب ، وحمل أدلة الإثبات على إثبات استحقاق العقاب ، وذلك لأنّ أدلة
النفي نصّ في نفي الفعليّة ، وظاهرة في نفي الاستحقاق ـ هذا إذا لم نقل إنّها
كلّها أو جلّها تدلّ على نفي الفعليّة فقط ـ وأدلة الإثبات نصّ في إثبات استحقاق
العقاب ، وظاهرة في إثبات الفعليّة ـ هذا إذا لم نقل إنّها كلّها أو جلّها تثبت
الاستحقاق فقط ، وحينئذ ، نرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنصّ الآخر.
وبهذا يثبت عدم
الدليل على حرمة التجري شرعا.
تنبيهات
١ ـ التنبيه الأول
:
هو أنّه قد اتضح
عدم اختصاص التجري بفرض القطع بالحرمة ، بل التجري يجري في كل مورد يتنجز فيه
التكليف ، لعدم وجود مؤمّن عن التكليف الواقعي المحتمل ولو جاء به برجاء عدم
مصادفة الحرام الواقعي عليه ، بجميع حصصه وصوره ، حتّى صورة رجائه لعدم المصادفة
مع الحرام الواقعي ، لكون إقدامه تجريا وخروجا عن حقّ العبوديّة والطاعة لمولاه ،
ومجرد رغبته ورجائه أن لا يصادف الحرام الواقعي لا يفيد في رفع موضوع حق المولى.
نعم وقع الكلام
فيمن حصل على مؤمّن على الارتكاب ، ولكنّه أقدم على المشتبه برجاء مصادفة الحرام ،
كمن شرب مستصحب الحلية برجاء أن يكون هو الحرام الواقعي ، فهنا ذكر المحقّق
النائيني «قده» إنّ هذا تجر أيضا ويترتّب عليه أحكامه.
والحاصل هو انّ
فرض التجري ، هو فرض انّ هذا الحكم الّذي كان يتخيّله المتجري على خلاف الواقع ،
وأحيانا يتفق أن ما تخيّله حراما يكون واجبا ، ففي الموارد الّتي يحصل فيها التجري
ويكون الحكم الواقعي فيها هو الوجوب أو الاستحباب ، هنا ذهب بعضهم إلى أنّه يقع
التزاحم بين الجهة الواقعية وبين حرمة التجري ، باعتبار انّ هذا الفعل بلحاظ
عنوانه الواقعي مطلوب ، وبلحاظ عنوان التجري يكون له حكم التجري ، وحينئذ يقع
التزاحم بينهما.
وهذا منهم انسياقا
مع الخلط بين باب الحسن والقبح ، وبين باب المصالح والمفاسد.
وصفوة القول في
المقام هو ، أن يقال : بأنّه في فرض تنجز الحرمة الواقعية على المكلّف ، بقطع ، أو
بأصل ، ولم يكن الفعل حراما ، بل كان في الواقع واجبا ، حينئذ ، يتكلم في انّ هذا
الوجوب الواقعي هل يتنافى مع الحيثيّات الظاهريّة ، أو أنّه لا يتنافى؟ وهذا
الكلام ينحل إلى أربع نقاط.
١ ـ النقطة الأولى
: هي أنّ الوجوب الواقعي ، هل يتنافى مع الحكم الظاهري الّذي جعله الشارع ،
وببركته تنجزت الحرمة؟
وهذا هو عين البحث
في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وسوف يأتي الكلام عنه في محله إن شاء
الله تعالى ، وبتجاوز هذه النقطة نواجه النقطة الثانية.
٢ ـ النقطة
الثانية : هي أنّه كيف يمكن الجمع والتوفيق بين الوجوب الواقعي ، وبين تنجز الحرمة
ـ لا الحكم الظاهري ـ سواء كان منشأ التنجز هو حكم الشارع ، أو حكم العقل؟
والشبهة هنا ليست
شبهة اجتماع الحكمين المتضادين كما في النقطة الأولى ، إذ ليس في هذه النقطة حكمان
شرعيان ، بل وجوب واقعي ، وتنجز من قبل العقل.
إذن فالشبهة هنا
هي ، ان تنجز الحرمة بحكم العقل يوجب عجز المكلّف تشريعا عن الإقدام على هذا الفعل
، وحينئذ ، فالمكلّف لا يكون قادرا على الفعل شرعا ، مع أنّ الوجوب الواقعي مشروط
بالقدرة.
ومن هنا تقع شبهة
المنافاة المذكورة بين الوجوب الواقعي ، وتنجز الحرمة بحكم العقل ، إذ معناه أنّ
العقل يمنع المكلّف عن الإقدام ، فإنّ
الممنوع عقلا ،
كالممتنع تكوينا ، ولازم ذلك ، هو عدم ثبوت الوجوب الواقعي ، وهذه غير شبهة ابن
قبّة.
ولو تمّت هذه
الشبهة ، لاقتضت أن يكون الوجوب الواقعي مختصّا بغير من تنجزت عليه الحرمة ظاهرا.
وسوف نوكل بحث هذه
الشبهة إلى مكان شبهة ابن قبّة.
٣ ـ النقطة
الثالثة : وهي في المنافاة بين الوجوب الواقعي وقبح التجري ، إذ كنّا قد ذكرنا
سابقا ، أنّ المعصية والتجري كلاهما قبيح بملاك واحد ، وحينئذ ، يقال : بأنّه كيف
نوفق بين حيثيّة القبح في التجري ، وبين حيثيّة الواقع الّتي هي الوجوب.
وهذه النقطة هي
الّتي طرحت في كلمات الأصوليّين .
وهنا ، أراد
المحقق العراقي «قده» أن يوفق بين حيثيّة التجري ، وحيثيّة الواقع ، وذلك ، ببيان
الطولية بينهما فقال :
بأنّ التجري عنوان
منتزع عن مرتبة العصيان والامتثال ، فهو في طول الّذي يمتثل ويعصى ، إذن فالتجري
في طول الجهات الواقعية ، وإذا كان في طولها ، فلا تنافي.
وسنخ هذا الكلام
جمع به بين الأحكام الظاهرية والواقعية بدعوى أنّ الحكم الظاهري في طول الحكم
الواقعي.
والآن نفترض
تمامية الطولية ، وهذه الصغرى ، كما أنّه نفترض أنّ الطولية تنفع في رفع التنافي ،
وهذه هي الكبرى ، ونترك ذلك إلى بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، ولكن
حتّى مع تسليم هذه
__________________
التمامية ، فإنّ
ذلك البيان لا يتم ، وذلك لأنّ التجري في طول الامتثال والعصيان للحكم المتجرى
بلحاظه ، وهو الحرمة الوهمية الّتي يعتقدها ، لا في طول امتثاله الوجوب الواقعي
الّذي لم يصل إلى المكلّف.
ونحن نتكلم عن
التوفيق بين حيثيّة التجري ، والوجوب الواقعي ، لا بين حيثيّة التجري ، والحرمة ،
كما لو فرضنا أنّ صلاة الجمعة واجبة ، لكن هذا المكلّف تخيّل حرمتها ، وتجرّى
فصلّاها ، فهنا ، انتزاع عنوان التجري عن حرمة الجمعة المتخيّلة ، هو في طول
حرمتها الخيالية ، فإنّه لو لا ذلك لما انتزع عنوان التجري ، لا أنّه لو لا وجوبها
الواقعي لما انتزع عنوان التجري ، إذن فانتزاع عنوان التجري في طول الحرمة
الخيالية ، فيكون تعدّد المرتبة الطولية إنّما هو بين التجري ، وبين الحرمة
الخيالية ، لا بين التجري والوجوب الواقعي.
بينما نحن نتكلم
عن التوفيق بين التجري والوجوب الواقعي ، وهذان الأمران لا طولية بينهما ، إذن
فحديث الطولية لا ينفع ولا ينطبق على المقام.
وإنّما الصحيح أن
يقال : بأنّه لا تنافي أصلا بين قبح التجري ، والوجوب الواقعي ، وذلك ، لأنّ
التنافي بينهما إنّما يكون لو أرجعنا باب الحسن والقبح إلى باب المصالح والمفاسد ،
فإنّه حينئذ يقال : بأنّ هذا الفعل مقتضى وجوبه الواقعي ، أنّه فيه مصلحة ملزمة ،
وبمقتضى قبح التجري ذاك ، أنّه فيه مفسدة ملزمة ، فالتنافي مبني على ذلك.
وقد عرفت أنّهما
بابان ، لا باب واحد ، ولا تنافي بين كون شيء فيه مصلحة ملزمة ، وبين قبح بحكم
العقل ، ولا يجتمعان.
٤ ـ النقطة
الرابعة : هي أنّه لو قلنا بحرمة التجري ، مضافا إلى قبحه ، فإنّه حينئذ يقال :
كيف نوفق بين الوجوب الواقعي ، وبين الحرمة الشرعية؟.
وحينئذ يقال : إنّ
هذه الحرمة الشرعية ، تارة يفرض ثبوتها بملاك قبح التجري ، بقانون الملازمة بين
حكم العقل ، وحكم الشرع.
وأخرى يفرض ثبوتها
بملاك من نوع ملاكات حرمة الخمر.
فإن فرض ثبوتها
بالأول ، إذن فهذه الحرمة لا تنافي الوجوب الواقعي ، لا بلحاظ عالم الملاكات ، ولا
بلحاظ عالم الامتثال.
أمّا الأول ،
فلتغاير الملاك سنخا ، لأنّ الوجوب الواقعي ملاكه عالم الحب والمصلحة ، والحرمة
ملاكها ، القبح ، ولا تنافي بين كون الشيء قبيحا ، وبين كونه ذا مصلحة.
وأمّا الثاني ،
فمن الواضح عدم التنافي ، لأنّ الوجوب محجوب عن المكلّف ، فلا محركيّة له.
نعم لو كانت هذه
الحرمة الشرعيّة لها ملاك يدخل في عالم الحب والبغض ، والمصلحة والمفسدة ، حينئذ ،
يقع التنافي ما بين الوجوب الواقعي وبين هذه الحرمة ، لكنّه مجرّد فرض.
٢ ـ التنبيه
الثاني :
وفيه نتعرّض لثمرة
ذكرها المحقّق العراقي «قده» للقول بقبح التجري ، حيث ذكر أنّ هنا ثمرة عملية فقهية
تترتب على افتراض القبح إثباتا ونفيا ، وقد صوّرها في موارد التجري الاحتمالي.
وذلك كما لو فرض
أنّه قامت عند المكلّف إمارة على حرمة الجمعة ، فصارت الحرمة منجزة عليه بالاحتمال
المعتبر ، لكن مع هذا ، يحتمل أنّه غير حرام في الواقع ، ويحتمل وجوبها العيني.
فلو فرض انّ هذا
المكلّف أتى بالجمعة برجاء أن تكون واجبة
__________________
بالوجوب العيني ،
ثمّ أنّه بعد الإتيان بها انكشف له انّ هذه الجمعة واجبة عينا ، فهل يجتزئ بما أتى
به ، أو أنّه لا بدّ له من الإعادة؟.
وهنا قال «قده» :
إنّ المسألة مبنية على قبح الفعل المتجرّى به ، وعدمه ، فإن بنينا على قبح التجري
، فيكون ما أتى به ليس صحيحا ، ولا بدّ من إعادته ، وذلك لأنّ ما وقع كان تجريا
قبيحا عقلا ، ومع كونه قبيحا لا يصلح للمقربيّة إلى المولى ، إذن فلا يقع على وجه
عبادي.
وأمّا إذا بنينا
على أنّ الفعل المتجرّى به ليس قبيحا ، فحينئذ يمكن أن يقع الفعل على وجه عبادي ،
ويكون صحيحا ، وحينئذ ، لا يحتاج إلى إعادته.
وتفصيل الكلام في
المقام هو ، أنّ فكرة هذه الثمرة ، تارة تفترض في الواجبات التوصلية ، وأخرى ، في
الواجبات العبادية.
والمحقّق العراقي «قده»
، افترضها في الواجب العبادي دون التوصلي ، من قبيل ما لو فرض أنّ أمرا من الأمور
كان بحسب الواقع واجبا بالوجوب التوصلي ، وقامت الإمارة على حرمته ، ثمّ أتى به
المكلّف رغم كونه منجز الحرمة ، وكان إتيانه به تمردا وليس برجاء وجوبه ، ثمّ
انكشف له أنّه واجب.
فهنا يأتي نفس
السؤال ، وهو ، هل انّ ما أتى به مجز أم لا؟.
والميزان في
الأجزاء هنا ، في الواجبات التوصلية هو ، استيفاء الملاك ، فإن دلّ دليل على أنّ
الملاك قد استوفي بهذا الفعل وأنّه موجود حتّى في الفرد المحرم ، فيكون مجزيا ،
سواء قلنا بقبحه أم لا إن كان واجبا توصليا في الواقع وإن كان قبيحا ومحرما في
الظاهر ، وإن كان هذا الفعل غير مستوف للملاك ، فلا يكون ما أتى به مجزيا ، سواء
قلنا بالقبح أم لا.
ولعلّ المحقّق
العراقي «قده» لأجل هذا ، لم يصوّر الثمرة في الواجبات التوصلية ، بدعوى ، أنّ
وجوب الإعادة وعدمها ليس مربوطا بقبح الفعل المتجرّى به وعدمه ، بل هو مربوط
باستيفاء الملاك وعدمه.
وأمّا في حالة
الشكّ ، وعدم قيام دليل ، فلا بدّ من الرّجوع حينئذ إلى الأصول العمليّة ، من دون
فرق بين القول بالقبح وعدمه.
نعم يمكن أن يكون
للقول بالقبح وعدمه دخل في التوصليات ، باعتبار تأثير ذلك في إحراز الملاك وعدمه.
فإنّه لو قلنا
بقبح الفعل المتجرّى به ، وقلنا إنّ القبح ينافي مع الوجوب الواقعي ، إذن فسوف
نسقط إطلاق الخطاب الواقعي لهذه الحالة ، وإذا سقط فلا يبقى دليل على وفائه
بالملاك.
وهذا بخلاف ما لو
قلنا بعدم قبح الفعل المتجرّى به ، فإنّه لا موجب حينئذ لسقوط إطلاق الخطاب
الواقعي لهذا الفرد ، فيثبت بهذا الإطلاق وفاؤه بهذا الملاك ، إذن ، فالقول بالقبح
وعدمه ، يكون له تأثير ، لتوسطه في إمكان إثبات الملاك وعدمه.
وأمّا في
التعبّديات ، كما في فرضية «الجمعة» ، فلا إشكال أنّ «الجمعة» محل الكلام ، على
القول بالقبح تقع باطلة ، إذ أنّه بناء على القبح وأنّه ظلم للمولى ، فلا يعقل أن
يكون ظلم المولى مقربا نحو المولى ، وبهذا يقع الفعل باطلا وتجب الإعادة.
وأمّا بناء على
القول بعدم القبح ، فالعراقي «قده» كأنّه يرى صحة صلاة الجمعة.
لكن هذا محل إشكال
، بل يمكن القول ببطلانها في المقام.
وذلك لأنّه من
المعلوم عندهم ، أنّ عبادية العبادة متقومة بأمرين.
أحدهما : صلاحية
العبادة للتقرّب نحو المولى ، بحيث يكون العمل منسوبا إلى المولى بنحو من أنحاء
النسبة.
وثانيهما : هو أن
يؤتى بالفعل بداعي المولى ومن أجله ، فمثلا : إكرام عدو المولى لا يمكن أن يكون
عبادة وتقربا نحو المولى ، لأنّ هذا الفعل ليس مضافا إلى المولى بوجه ، إذن فالشرط
الأول مختل ، بينما إكرام ابن المولى لكن دون قصد التقرب نحو المولى ، فأيضا الشرط
الثاني مختل فيه ، لأنّه لم يؤتى به من أجله وبداعيه ، لأنّ حال المولى في فرض
الفعل ليس أحسن منه على تقدير ترك الفعل ، إذن ، فلا تقع الجمعة عبادة وصحيحة.
بينما العراقي «قده» لأنّه كان يبني على عدم قبح الفعل المتجرّى به وعدم كونه ظلما
للمولى ، إذن فالشرط الأول متحقّق عنده ، ولذا ذهب إلى صحة العبادة وأنّها صالحة
للتقرّب إلى المولى.
ولكن لم يلتفت
العراقي «قده» إلى أنّه لا بدّ وأن يكون الداعي حقيقة للإتيان بالفعل هو المولى
وقصد التقرّب منه ، وهذا أمر يستحيل تحقّقه من هذا المكلّف قبل انكشاف الخلاف ،
لأنّه حين العمل كانت الحرمة منجزة عليه ، وهذا يعني ـ أنّه حتّى بناء على عدم
القبح ـ أنّه يحتمل انّ هذا الفعل فيه هتك للمولى وظلم له ، لأنّه يحتمل مطابقة
الإمارة للواقع ، ولا يحتمل أن يكون تركه ظلما ، إذن ، كيف يعقل أن يكون ترجيحه للفعل
على الترك من أجل المولى.
وبعبارة أخرى : لا
يمكن أن يكون الداعي لترجيح الفعل على الترك هو المولى نفسه ، كما لو أمر عبده
بإكرام فلان ، لكن العبد يرى أنّه خلاف مصلحة مولاه ، فيتجرأ على عصيانه حفظا
لمصلحة المولى.
إلّا أنّ هذا لا
يكون في المولى الحقيقي الّذي لا يتصور بحقّه أن يكون له مصلحة في الواجبات.
إذن ، فالظاهر أنّ
الصّلاة تقع باطلة على كلا القولين ، إذ على فرض كون صلاة الجمعة واجبة ، فليس لله
تعالى مصلحة فيها ، بل المصلحة فيها للعبادة ، وحينئذ لا تظهر ثمرة من هذه الناحية
إذن فهذه الثمرة غير تامة.
والخلاصة هي أنّ
العراقي «قده» ذكر ثمرة للقول بقبح التجري تظهر في العبادات مفادها : أنّه إذا
تنجز على المكلّف حرمة عبادة من العبادات ، كصلاة الجمعة بالحرمة الذاتية ، ومع
ذلك صلّاها المكلّف برجاء صحتها وعدم حرمتها ، ثمّ انكشف له عدم حرمتها ، فهنا ذهب
العراقي «قده» إلى بطلان هذه الصّلاة ، بناء على قبح التجري ، وذلك لعدم إمكان
التقرب بما هو قبيح وإن لم يكن محرما شرعا ، وأمّا بناء على عدم القبح ، فتقع
صلاته هذه صحيحة عنده.
وهذه الثمرة غير
تامة ، إذ الفعل العبادي يقع باطلا هنا على كلا التقديرين ، لأنّ المقصود من التقرّب
والإتيان بالفعل هو من أجل المولى وبداعي المولى ، بحيث يكون حال المولى بحسب نظره
ـ على تقدير إتيانه بالفعل ـ أحسن منه على تقدير ترك الإتيان به ، ولكن مع فرض
تنجز الحرمة عليه ، لا يتأتّى للمكلّف أن يأتي بالفعل بداعي المولى ، إذن فهذه
الثمرة غير تامة.
٣ ـ التنبيه
الثالث :
هو أنّه قد بيّنا
أنّ ضابط التجري هو ، وجود المنجز ، لا خصوص القطع ، فمتى ما كان منجز ، فالتجري
موجود ، ومتى ما كان مؤمن فالتجري غير موجود.
وهذان المطلبان قد
يتخيّل استثناء صورة من كل منهما.
فيستثنى ممّا كان
منجزا ، صورة ما إذا كان هناك منجز احتمالي ، كما لو قامت إمارة على كون هذا
المائع خمرا ، لكن هو لا يعلم بخمريته ، فيشربه برجاء أن لا يكون كذلك.
فهنا : مثل هذا
الرجاء لا يفيده ، إذ بمجرد تنجز حرمته عليه ، يكون إقدامه على شربه ظلما للمولى ،
إذن ، فمثل هذا الاستثناء واضح البطلان حيث لا فائدة بذلك الرجاء.
ويستثنى من صورة
وجود مؤمّن ، كما لو قام دليل شرعي على انّ هذا المائع حلال ، لكن المكلّف شربه
برجاء أن يكون حراما ، فحينئذ ، قد يقال : إنّ هذا تجر.
لكن الظاهر أيضا ،
انّ هذا المكلّف لا يستحقّ العقاب ، وهذا له صورتان.
١ ـ الصورة الأولى
: هي أن يكون شربه لهذا المائع ، مستندا إلى المؤمّن بحيث لولاه لما شربه ، وإنّما
شربه بعد وجود المؤمّن لاحتمال حرمته ، وهذا واضح في عدم كونه تجريا لا في نفسه ،
ولا في فعله.
٢ ـ الصورة
الثانية : هي أن يفرض أنّه ملتفت إلى وجود المؤمن ، لكن هو مصرّ وبان على شربه على
كلّ حال ، سواء وجد مؤمّن أم لا ، لشدّة حبّه للمسكر ، لكن مع هذا ، هو ملتفت إلى
الترخيص من قبل الشارع بشربه.
فهنا يوجد تجري ،
لكن تجري نفسي ، باعتبار أنّ قصده لم يكن مربوطا بالمولى ، بل مستقلا عنه.
وهذا خلاف ناموس
العبودية ، باعتبار أنّه يجب عليه أن يبني مواقفه على أساس مواقف المولى ، وإن كان
في الخارج لم يتحقّق منه تجر أصلا ، لأنّه شرب ما أذن به المولى ملتفتا لإذنه ،
فحاله ، حال من يشرب المباحات الواقعية ، وهو يبني على شربها حتّى لو حرّمها
المولى ، فهذه جرأة نفسية فيه لا خارجية. وبهذا تمّ الكلام في التجري.
الجهة الثالثة :
أقسام القطع وأحكامه
قسّم القطع في
كلمات الشيخ الأنصاري «قده» إلى قسمين.
١ ـ القسم الأول :
القطع الطريقي.
٢ ـ القسم الثاني
: القطع الموضوعي.
فأمّا القطع
الطريقي ، فهو عبارة عن القطع الّذي لا يكون له دخل ثبوتا في تحقّق الحكم ، بل
يكون الحكم ثابتا في مورده مع قطع النظر عنه سواء كان قطعا بصغرى الحكم فيكون
القطع طريقا محضا إمّا إلى الصغرى ـ موضوع الحكم ـ من قبيل قطعنا بخمرية هذا
المائع ، فإنّ الحرمة مترتبة واقعا على واقع الخمر فيكون القطع بالخمرية كاشفا
محضا.
وإمّا أن يكون
قطعا وطريقا إلى كبرى الحكم ، من قبيل قطعنا بتحريم شرب كل خمر ، وأمّا القطع
الموضوعي ، فهو ما كان للقطع دخل في تحقّق الحكم ثبوتا كما لو أوجب المولى إكرام
مقطوع العدالة بحيث يكون القطع بالعدالة دخيلا في وجوب الإكرام ثبوتا ، ومن هنا
يظهر أنّه يمكن أن يمكن أن يكون قطع واحد طريقا إلى حكم وموضوعا لحكم آخر غيره ،
وهذا لا إشكال فيه.
وإنّما صار البحث
في عدّة مقامات.
١ ـ المقام الأول
: في أقسام القطع الموضوعي :
وقد قسّم الشيخ
الأنصاري «قده» القطع الموضوعي إلى قسمين.
١ ـ الأول : قطع
مأخوذ موضوعا بما هو طريق إلى الواقع ـ على نحو الطريقيّة ـ.
٢ ـ الثاني : قطع
مأخوذ موضوعا بما هو صفة في النّفس ـ على نحو الصفتيّة ـ وذلك أنّ القطع الّذي
يؤخذ في موضوع الحكم ويجعل الحكم منوطا به ، فهو تارة يكون الحكم منوطا به باعتبار
كشفه عن الواقع ، بما هو كشف عن الواقع.
وأخرى يكون الحكم
منوطا به بما هو صفة خاصة في عالم النّفس ، حيث أنّ القطع فيه حيثيّتان ، إحداهما
، كشفه عن الواقع ، والأخرى ، انّه صفة نفسانية معينة ، فحينما يؤخذ في موضوع
الحكم ، تارة يؤخذ باللحاظ الأول ، أي بما هو كاشف ، وأخرى ، يؤخذ باللحاظ الثاني
، أي بما هو صفة نفسانية خاصة. فالأول ، نسميه بالقطع الموضوعي المأخوذ على وجه
الطريقيّة ، والثاني ، نسميه بالقطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية.
وكل من القسمين
المذكورين له قسمان ، لأنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، تارة ، يكون تمام الموضوع
للحكم ، بحيث سواء كان المقطوع ثابتا في الواقع ، أو لم يكن فإنّه يترتب الحكم
عليه ، وأخرى يكون القطع المأخوذ جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو وجود الواقع
المقطوع به ، كما لو قال : إن كان زيد عادلا وكنت قاطعا بعدالته فأكرمه فيكون
الموضوع مركبا من جزءين ، نفس القطع ، والواقع المقطوع ، إذن فهذه أربعة أقسام
للقطع الموضوعي كما ذهب صاحب الكفاية .
__________________
ثمّ إنّهم قالوا :
بأنّ ظاهر الدليل حين أخذ القطع في الموضوع ، هو أنّه مأخوذ على وجه الطريقية ،
كما أنّ مقتضى إطلاق الدليل هو أنّ القطع هو تمام الموضوع ، لا جزؤه ، سواء أصاب
الواقع أو أخطأه.
فالمستظهر من هذه
الأقسام هو ، القطع الموضوعي الطريقي ، وأنّه تمام الموضوع ، فرفع اليد عن ذلك ،
يحتاج إلى قرينة.
وقد وقع الكلام
حول ذلك في جهات :
١ ـ الجهة الأولى
: في أصل تصوير انقسام القطع الموضوعي إلى صفتي وطريقي :
حيث أشكل على هذا
التقسيم فقيل : بأنّ كاشفية القطع لو كانت صفة زائدة في القطع وليست داخلة في أصل
قوامه ، من قبيل صفة الثقل في الجسم ، فحينئذ هذا أمر معقول ، فيقال : إنّ القطع
تارة يؤخذ في الموضوع بلحاظ هذه الصفة الزائدة القائمة به ، وهي صفة الكاشفية ،
وأخرى يؤخذ في الموضوع بقطع النظر عن هذه الصفة الزائدة من قبيل الجسم فقط ، فتارة
يؤخذ بلحاظ حيثيّة الثقل ، وأخرى بما هو جسم فقط ، «فهنا تقاس الكاشفية بالثقل».
والخلاصة ، هي انّ
القطع الموضوعي لا يؤخذ إلّا بما هو كاشف ، ولا يمكن أخذه بما هو صفة وبقطع النظر
عن حيثيّة الكشف ، لأنّ الكاشفية ذاتية للقطع بل هي عين حقيقة القطع ، إذ ليس
القطع شيئا زائدا على الكشف كي يمكن أخذه بما هو صفة وبقطع النظر عن كاشفيته لأنّ
معنى عدم لحاظها هو أنّه لا يلحظ نفس القطع ، وهذا تهافت.
نعم غايته أنّه
تارة يؤخذ بنحو تمام الموضوع للحكم ، وأخرى يؤخذ بنحو جزء الموضوع ، ويكون الواقع
جزؤه الآخر.
وهذا الإشكال هو ،
الّذي دعا صاحب الكفاية «قده» ، كي يقرب إمكانية انقسام القطع الموضوعي إلى ، قطع موضوعي
صفتي ، وإلى قطع موضوعي طريقي ، فاستعمل عبارتين في مقام تصوير الصفتي ، في مقابل
الطريقي. كلتاهما غير تامة.
١ ـ العبارة
الأولى : هي أنّ القطع والعلم نور في نفسه نور لغيره.
وحينئذ يكون فيه
حيثيّتان.
أ ـ الحيثيّة
الأولى : أنّه نور في نفسه.
ب ـ الحيثيّة
الثانية : أنّه نور لغيره.
وحينئذ : فتارة
يؤخذ القطع في موضوع الحكم بلحاظ الحيثيّة الأولى ، وهذا هو القطع الموضوعي
الصفتي.
وتارة أخرى ، يؤخذ
القطع في موضوع الحكم ، بلحاظ الحيثية الثانية ، وهي كونه نورا لغيره ، وهذا هو
القطع الموضوعي الطريقي.
إلّا أنّ هذا
الكلام يحتاج إلى تمحيص ، إذ صحيح أنّ العلم نور في نفسه ، ونور لغيره ، إلّا أنّ
مقصودهم من هذه العبارة ، وهي كونه نور في نفسه ، يعني أنّه ظاهر بذاته للنفس ،
ومقصودهم من كونه نورا لغيره ، يعني أنّه مظهر لغيره.
وتوضيحه : هو أنّ
الأشياء تظهر للنفس وتحضر لديها ، «بالعلم» ، فمظهرها ومنوّرها هو العلم ، وأمّا
نفس العلم فيحضر بنفسه للنفس ، لا بمحضر له ، ولهذا يعبر عنه بأنّه معلوم بالعلم
الحضوري ، كالحب والبغض وغيره من الصفات النفسية التجريدية ، لكن هو مظهر لغيره
دون الحب وأمثاله.
__________________
وحينئذ نأتي إلى
محل الكلام فنقول : إنّ القطع الموضوعي الصفتي ، المقابل للقطع الموضوعي الطريقي ،
ما هو؟ فإن قيل : هو القطع الملحوظ بما هو نور في نفسه بقطع النظر عن كونه نورا
وإنارة لغيره ، حينئذ ، إن أردتم بهذا أنّ القطع مأخوذ في موضوع الحكم باعتباره
حاضرا لدى النّفس ، إذن ، فيلزم منه أن تكون كل صفة حاضرة لدى النّفس ، محقّقة
لموضوع الحكم ، كالحب ، والبغض لأنّه صفة حاضرة لدى النّفس إذن فيكون الموضوع مطلق
ما يحضر في النّفس من المجردات ، وهذا خلاف الفرض ، وإن أردتم أنّ القطع المأخوذ
في الموضوع ، بما هو صفة حاضرة لدى النّفس ، أنّه لوحظ خصوصية هذه الصفة ، إذن ما
هي هذه الخصوصية غير كونه كشفا وإراءة حيث لا خصوصية له تميّزه إلّا ذلك إذ خصوصية
النّورية هي عين الكاشفية ، إذن ، فهذه العبارة لا تفي بتصوير شقين متغايرين.
٢ ـ العبارة
الثانية : هي أنّ القطع صفة حقيقيّة متأصلة ، وليست صفة اعتبارية ذات إضافة ، فهي
ليست كالأعراض تحتاج إلى موضوع فقط ، بل تحتاج إلى ما تضاف إليه وتتعلق به أيضا ،
فإن أخذ القطع في موضوع الحكم بما هو صفة حقيقية بقطع النظر عن إضافته إلى متعلقه
، كان قطعا موضوعيا صفتيا ، وإن أخذ بما هو مضاف إلى متعلقه ، كان قطعا موضوعيا
كاشفيا طريقيا.
وتوضيحه : هو أنّ
الصفات على قسمين.
١ ـ القسم الأول :
هو الصفات المقولية الحقيقية ، أي الّتي لها وجود في نفسها.
٢ ـ القسم الثاني
: هو الصفات الإضافية الاعتبارية ، أي الّتي حقيقتها عين الإضافة.
فالأولى : هي
عبارة عن المقولات العرضية الثمانية ، باستثناء مقولة
الإضافة ، في قبال
مقولة الجوهر ، فهذه الثمانية هي مقولات حقيقيّة ذات وجود مستقل ، كمقولة ، الكيف
، والأين ، الخ ...
والثانية : هي
الصفات الاعتبارية الإضافية الّتي تدخل تحت مقولة الإضافة ، وهذه ، حقيقتها عين
الإضافة ، وروحها عين النسبة الموجودة في الأبوة ، والبنوة ، والفوقية ، والتحتية.
ثمّ إنّ القسم
الأول ، ينقسم إلى قسمين.
أ ـ القسم الأول :
هو صفة حقيقية ذو إضافة.
ب ـ القسم الثاني
: هو صفة حقيقية ليس ذو إضافة.
فالحقيقية غير ذي
الإضافة ، من قبيل البياض ، والحرارة ، فإنّه ليس لها إضافة غير موضوعها.
والصفة الحقيقية
ذات الإضافة ، هي عبارة عمّا كان من قبيل العلم ، والحب ، والبغض ، فهذه الأمور
صفات حقيقية وليست عبارة عن مجرد نسب ، بل لها إضافة إلى غير موضوعها ، فإنّ الحب
يحتاج إلى محبوب ، لا إلى محب فقط ، وهكذا البغض ، والعلم ، فهذه صفات حقيقية ذات
إضافة ، وهذه الإضافة ، أمر طارئ عليه ، ولهذا يختلف عن القسم الثاني ، الّذي هو
صفات حقيقية بحتة ، كالأبوة ، والبنوة ، فإنّ الإضافة عين حقيقتها.
فالقطع ، صفة ذات
الإضافة ، إن أخذ في موضوع الحكم بما هو صفة حقيقية بقطع النظر عن إضافته إلى
متعلقه فيكون صفتيا ، وإن أخذ بما هو مضاف إلى متعلقه ، كان موضوعيا طريقيا
كاشفيا.
وبهذا البيان
الثاني ، يدفع الإشكال ، لأنّ أخذ القطع في الموضوع على وجه الكاشفية ، معناه :
أخذه مضافا ، أي بلحاظ إضافته إلى معلومه ، وهذه الإضافة ليست داخلة في حقيقة
العلم ، لأنّ العلم ليس
من مقولة الإضافة
، بل هو صفة حقيقية ثابتة ، والإضافة تتعلق به ، وهذه الإضافة أمر قد يؤخذ ، وقد
لا يؤخذ ، فالأول طريقي ، والثاني صفتي.
إلّا أنّ هذا
البيان الثاني غير تام ، لأنّه لا يحلّ الإشكال.
وتوضيح ذلك يكون
ببيان نكتتين.
١ ـ النكتة الأولى
: هي أنّ الإضافة على قسمين.
أ ـ القسم الأول :
هو الإضافة المقولية الّتي هي عين مقولة الإضافة ، والّتي هي أمر طارئ على الصفات
الحقيقيّة ذات الإضافة.
والإضافة المقولية
، عبارة عن نسبة قائمة بين شيئين ، لكل منهما وجود مستقل عن الآخر في نفسه ، غايته
أنّه أخيف أحدهما إلى الآخر وارتبط به ، فتسمى بالإضافة المقولية ، من قبيل ، الأبوة
، والبنوة ، فالأب له وجود مستقل في نفسه ، والبنوة لها وجود مستقل في نفسها ، ثمّ
وقعت إضافة بينهما.
ب ـ القسم الثاني
: ويسمّى بالإضافة التحليلية ، وقد يسمّى بالإضافة الإشراقية لبعض الاعتبارات ،
ونريد بالتحليلية ، أنّ المضاف والمضاف إليه ليس لكل منهما وجود مستقل غير الآخر ،
بل المضاف إليه قد يكون وجوده بنفس المضاف ، من قبيل إضافة الوجود إلى الماهية ،
فيقال : الإنسان موجود ، فهذا الوجود ، وجود للإنسان ، فيضاف الوجود للإنسان ، إذ
ليس للإنسان وجود مستقل في مقابل هذا الوجود ، بل هذا الوجود هو عين تحقق الإنسان
خارجا ، أي أنّه بحسب الواقع ليس هناك إلّا شيء واحد نحلّله إلى ماهية ، ووجود ،
ثمّ نوقع الإضافة بينهما ، فهذه إضافة تحليلية اعتبارية وليست مقولية.
٢ ـ النكتة
الثانية : هي أنّ العلم له إضافتان ، إضافة إلى المعلوم بالذات ، وإضافة إلى
المعلوم بالعرض ، والعلم قد يكون مطابقا للواقع ، وقد لا يكون مطابقا.
وعلى الأول ، يكون
له في الخارج مطابق ، وهذا المطابق يسمّى معلوما بالعرض.
وعلى الثاني ، لا
يكون له مطابق في الخارج ، لكن على كلا التقديرين ، سواء كان مطابقا وله معلوم ،
أو كان خطأ وليس له معلوم في الخارج ، فعلى كلا التقديرين ، العلم لا بدّ له من
معلوم ، ووراء هذا المعلوم في الخارج ، معلوم نسمّيه بالمعلوم بالذات ، وهو نفس
الصورة الذهنية القائمة في أفق النّفس.
ومن هنا صحّ القول
: إنّ العلم له إضافتان : إضافة إلى المعلوم بالذات ، أي إلى الماهية الحاضرة في
عالم النّفس بهذا العلم ، وإضافة إلى المعلوم بالعرض ، أي للموجود الخارجي في حالة
كون العلم مطابقا للواقع وثابتا في نفس الأمر ، وهذا يسمّى بالمعلوم بالعرض.
وحينئذ نأتي إلى
كلام الآخوند «قده» ، حيث أنّه يقول : بأنّ ، القطع ، تارة يؤخذ في الموضوع مع
إضافته للمعلوم ، وأخرى يؤخذ في الموضوع بقطع النظر عن المعلوم.
فهنا نسأل : ما ذا
يريد بإضافته إلى المعلوم؟ هل يريد إضافته إلى المعلوم بالذات الّذي هو عبارة عن
الماهية القائمة في أفق النّفس والحاضرة بهذا العلم ، أم أنّه يريد إضافته إلى
المعلوم بالعرض ، أي إلى الواقع الخارجي في حال كون العلم له معروض بالعرض في
الخارج؟.
فإن أراد الأول ،
أي إضافته إلى المعلوم بالذات ، فهذه الإضافة ليست إضافة مقولية عرضية طارئة على
العلم ، بل هي مقومة لحقيقة العلم في مرتبة ذات العلم ، ولا يمكن سلخها وأخذ العلم
بدونها في موضوع الحكم ، لكي نتصور الصفتية ، لأنّ العلم بالنسبة إلى المعلوم
بالذات ، كالوجود بالنسبة إلى الماهية ، فهي إضافة تحليلية لا مقولية ، إذ لا يمكن
أن يكون للعلم
ثبوت حتّى في مرتبة ذاته منسلخا عن إضافته إلى المعلوم بالذات ، إذن ، فهذه
الإضافة ليست مقولية عرضية ، بل هي ذاتية تحليلية ثابتة في مرتبة ذات العلم ،
بمعنى أنّ الماهية توجد في عالم النّفس بوجود علمي ، فيسمّى علما ، وبوجود حبّي
فيسمّى حبا ، وهكذا ، فالعلم مع المعلوم بالذات ، من قبيل الوجود مع الماهية.
وأمّا إذا أراد
بالإضافة ، الإضافة إلى المعلوم بالعرض ، فهذه إضافة عرضية مقولية ، لأنّ المعلوم
بالعرض له وجود مستقل في الخارج ، والعلم له وجود مستقل في النّفس ، وحصل بينهما
علاقة ، وهي ، انّ هذا انكشاف لذاك ، وذاك منكشف لهذه ، فهذه الإضافة بين العلم
والمعلوم بالعرض تكون إضافة عرضية يمكن أخذها ، ويمكن سلخها ، فحينما يؤخذ القطع
في الموضوع ، فقد يؤخذ معها ، وقد يؤخذ بدونها ، لكن لا يمكن تنزيل القطع المأخوذ
في الموضوع على وجه الطريقية ، إذ لا يمكن تنزيله على القطع الّذي لوحظ مع إضافته
للمعلوم بالعرض ، فإنّ تنزيله على ذلك لا يمكن مبنيا على ما تقدّم من الخصوصيات
الّتي ذكروها لكل من القسمين ، الصفتي والطريقي.
فإنّه أولا : إذا
فسّرنا القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، بالقطع الّذي أخذ فيه إضافة
للمعلوم بالعرض ، فحينئذ يختصّ القطع الطريقي بما كان مطابقا للواقع ، إذ من
الواضح أنّه إذا لم يكن مطابقا فليس له معلوم بالعرض ، إذ الإضافة إلى الموجود
بالعرض فرع أن يكون هناك معلوم بالعرض ، إذن ليس له إضافة إلى المعلوم بالعرض ،
والعلم الّذي لا يكون مصيبا ، لا يكون له معلوم بالعرض في الخارج ، إذن لا يكون له
إضافة في الخارج ، لعدم وجود أحد طرفي النسبة في الخارج ، فلو كان القطع الموضوعي
الطريقي ، عبارة عن القطع الّذي يكون فيه ، بإضافته ، إضافة للمعلوم بالعرض ، يلزم
اختصاصه
بخصوص القطع الّذي
يكون مصيبا للواقع ، فيكون الواقع دخيلا في موضوع الحكم.
وهذا يتنافى مع ما
ذكروه من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، سواء الصفتي أو الطريقي ، من أنّه تارة
يكون تمام الموضوع ، وأخرى يكون جزء الموضوع ، ويكون الجزء الآخر هو الواقع.
وهذا غير معقول ،
بل يتعيّن أن يكون القطع المأخوذ على وجه الطريقية ، هو جزء الموضوع ، لأنّه لا
يعقل إضافته إلى الخارج ، بلا خارج في البين.
وثانيا : فإنّ ما
ذكروه من أنّ الظاهر من الدليل دائما هو ، أخذ القطع في الموضوع على نحو الطريقية
، وإنّ أخذه على نحو الصفتية بحاجة إلى قرينة ، فهذا سوف يصبح معكوسا ، بناء على
هذا التفسير ، لأنّه إذا كان القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية. عبارة عن
أخذ القطع بما هو بلا تقييده بالخارج ، وأخذه على نحو الطريقية معناه : تقييده
بالخارج ، يكون هذا خلاف ما يريدون ويدعون ، إذ انّ هذا أشدّ عناية من ذاك ، لأنّ
هذا تقييده بالخارج ، خلاف الأصل والإطلاق ، مع أنّهم صرّحوا بأنّ الصفتية على
خلاف ظاهر الدليل ، فيجب أن نفسّر القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية بنحو
يكون على خلاف ظاهر الدليل هذا ، مضافا إلى أنّه سيأتي أنّهم سيقولون بأنّ دليل
حجيّة الإمارة الّذي ينزل الإمارة منزلة العلم ، يجعل الإمارة بمنزلة القطع
الموضوعي ، ولا يجعلها بمنزلة القطع الموضوعي الصفتي ، لأنّ دليل الحجيّة ليس
ناظرا إلى حيثيّة الصفة ، بل إلى حيثيّة الكاشفية على ما سوف يأتي.
وهذا أيضا لا
يناسب هذا التفسير ، إذ أنّ فرض أخذ القطع صفتيا ، كان معناه : أخذ القطع بملاحظة
كاشفيته الذاتية من دون تقييده
بالخارج ، لأنّه
يقول : إنّ الإمارة كاشفة كالعلم ، فكل هذا لا ينسجم مع هذا التفسير.
والصحيح في تصوير
تقسيم القطع الموضوعي إلى صفتي وطريقي ، هو إبداء بيانين ، أحدهما عرفي ، والآخر
دقّي ، والمظنون أنّ الشيخ «قده» حينما طرح هذا التقسيم ، كان مقصوده البيان
العرفي الّذي ينسجم مع كل هذه الخصوصيات الّتي ذكرناها.
وتوضيح البيان
العرفي هو ، أنّ القطع له خصوصية ذاتية ، وهي الكاشفية عن الخارج ، وله خصوصية
عرفية طارئة ، من قبيل ، راحة النّفس ، وهدوء البال ، فإنّ اليقين يسبغ حالة من
الاستقرار ، بينما الشك يسبغ حالة من القلق.
وحينئذ : تارة
يكون موضوع الحكم هو ، القطع بلحاظ كاشفيته الّتي هي قوام حقيقته ، وهذا هو معنى
القطع الموضوعي الطريقي ، لأنّه لوحظت هنا كاشفيته الذاتية المحفوظة له في مرتبة
ذاته.
وتارة أخرى ، يفرض
أنّ القطع يؤخذ في موضوع الحكم بلحاظ الخصائص النفسية المترتبة عليه بما هو موجب
لسكون النّفس ، وهذا هو القطع المأخوذ على وجه الصفتية ، وحينئذ ينسجم مع جميع
الخصوصيات الّتي فرّعت.
وحينئذ : القطع
الموضوعي الطريقي ، أو الصفتي ، نقسّمه إلى جزء الموضوع ، وإلى تمام الموضوع ،
لأنّ القطع الموضوعي الطريقي لم نقيده بالإصابة للواقع الخارجي ، بل أخذناه بلحاظ
كاشفيته الذاتية ، وهي محفوظة سواء كان مصيبا ، أو مخطئا ، إذن ، فتارة تؤخذ هذه
الكاشفية الذاتية تمام الموضوع ، وأخرى ، جزؤه ، وكما أنّه يكون ظاهر الدليل هو ،
الطريقي لا الصفتي ، لأنّ أخذه على وجه الصفتية معناه : ملاحظة
خصائص عرضية زائدة
على ذاتها ، من قبيل سكون النّفس ، وهذه تحتاج ملاحظتها إلى قرينة ، ومع عدمها ،
فالأصل عدمها.
كما أنّه تظهر
نكتة ، إنّ دليل حجّية الإمارة ـ الّذي يقول إنّ الإمارة علم لا ينزل الإمارة
منزلة القطع الصفتي لأنّها علم ، ولا يقول بأنّها تقتضي سكون النّفس ونحو ذلك ، بل
غاية ما يقتضيه هذا التنزيل هو ، إقامة الإمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على
وجه الطريقية.
وتوضيح البيان
الدقّي ، هو أنّ القطع له نسبتان حرفيتان إلى القاطع ، فإنّ القطع حينما يلحظ يكون
التعبير
عنه بحرفين في لغة
العرب ، وكلّ من الحرفين يدلّ على نسبة ، وكل نسبة مغايرة للأخرى.
فتارة نقول : «القطع
في هذا القاطع» ، فنعبّر عن النسبة بالطرفية والمحلية ، باعتبار أنّ القاطع ، أي
النّفس هي محل القطع على حدّ محلية الجسم للبياض مثلا ، فكما نقول : «البياض في
الجسم» ، نقول : «العلم في الذهن» ، أو النّفس فهذه نسبة المحلية.
وهناك نسبة أخرى
نعبّر عنها «باللّام» ، فنقول : «العلم للإنسان» ، فنلحظ العلم لا بما هو حال في
الإنسان ، بل بما هو مرآة للإنسان ، إذ من الواضح أنّ التعبير الأول هو عن مجرد
وجود علم ، ومجرد وجود علم حال في شيء ، لا يعني انّ هذا الشيء «عالم» ، بل قد
يكون العالم غيره ، وإلّا بقطع النظر عن البرهان على ذلك ، فمجرد كون العلم في الشيء
، لا يساوق منطقيا أن يكون ذاك الشيء هو «العالم» بهذا العلم ، إذ قد يكون العالم
به شخص آخر ، فكونه ظرفه ومحلّه ، غير كونه عالم به ، فهذا لا بدّ في إبطاله من
برهان.
إذن : ففي عالم
التصوّر ، هناك نسبتان متغايرتان ، أحدهما نسبة «في» المعبرة عن المحليّة
والظرفيّة ، والأخرى ، نسبة «اللّام» المعبرة عن
انّ هذا المحل هو
الّذي له هذا العلم ، فإذا ثبت أنّهما نسبتان متغايرتان لحاظا ـ وإن كنّا نقيم
برهانا فلسفيا على استلزام إحداهما للأخرى ـ إلّا أنّ هذا لا ينافي مغايرتهما
مفهوما.
وحينئذ يقال :
بأنّ العلم تارة يؤخذ في موضوع الحكم مضافا إلى صاحبه بإضافة «في» بما هو علم في
هذا الإنسان ، وأخرى يؤخذ مضافا بإضافة «اللّام» بما هو علم لهذا الإنسان ، والأول
عبارة عن الصفتي ، والثاني يعبّر عنه بالطريقي.
وكل الخصائص الّتي
ذكروها سابقا تنطبق على هذا التفسير ، غايته ، انّ هذا التفسير ليس عرفيا ، بمعنى
أنّه حينما يكون العلم منسوبا بحرف «في» فقط لا يكون أمرا عرفيا ولا يقع في الأدلة
الشرعية أو العرفية.
وهذا بخلاف أخذ
العلم مع ضمّ آثاره النفسية كما في الأول ، فإنّ هذا أمر عرفي قد يؤخذ العلم فيه
مع آثاره بنفسه موضوعا للحكم.
ومن مجموع ما
ذكرنا يظهر حال إشكال آخر ذكره الميرزا «قده» ، حيث أورد على ما قيل ـ من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع
سواء كان صفتيا أو طريقيا ، وأنّه تارة يكون جزء الموضوع وأخرى تمام الموضوع ـ أورد
على ذلك ، بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، إن كان صفتيا ، فالأمر كما ذكر ، فإنّه
يعقل أن يكون جزء الموضوع ، كما يعقل أن يكون تمام الموضوع ، لكن إذا أخذ القطع
الموضوعي طريقيا ، فإنّه حينئذ لا يعقل أن يكون تمام الموضوع ، بل يجب أن يكون
جزئه ، ويكون الجزء الآخر هو المقطوع ، لأنّ معنى أخذه بما هو طريق وكاشف ، يعني
أنّ هناك نظر إلى المنكشف ، ومعنى أخذه تمام الموضوع ، يعني أنّه لا دخل للمنكشف ،
وهذا تهافت.
__________________
وهذا الإشكال قد
ظهر حاله بما ذكرنا في تصوير القطع الموضوعي الطريقي ، فإنّنا إذا تصورنا القطع
الموضوعي الطريقي بالبيان الثاني للآخوند «قده» وهو كون القطع ملحوظا مضافا إلى
معلومه بالعرض ، أي بتقييد القطع بالمعلوم بالعرض على أحد الاحتمالين في كلامه
حينما ناقشناه سابقا فيقال : إنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي ، هو أنّ القطع يلحظ
مضافا إلى معلومه بالعرض ومقيدا بهذه الإرادة ، إذا كان هذا معناه ، حينئذ ، يرد
إشكال الميرزا «قده» ، لأنّه إذا أخذ مقيدا بإضافته إلى المعلوم بالعرض فمن الواضح
انّ هذه الإضافة إلى المعلوم بالعرض ، لا تكون إلّا حيث يكون المعلوم بالعرض في
الخارج كما تقدّم ، وهذا معنى أنّ المعلوم قيد في الحكم ، حينئذ لا يعقل أن يكون
القطع تمام الموضوع ، وأمّا إذا قلنا بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، مأخوذ بلحاظ
كاشفيته الذاتية وإضافته إلى المعلوم بالذات ، لا إلى المعلوم بالعرض ، وأنّ القطع
الصفتي عبارة عمّا لوحظت فيه الآثار والمعلولات النفسيّة ، فحينئذ ، لا يرد إشكال
الميرزا «قده» ، لأنّ القطع الملحوظ باعتبار كاشفيته الذاتية هو أمر محفوظ على كلّ
حال ، سواء كان له مطابق في الخارج أم لا ، ومعه ، فلا محذور في أن يكون القطع
تمام الموضوع حينئذ ، أي حين كون حيثيّة الكاشفيّة الذاتية للقطع هي الملحوظة.
وأمّا دعوى
التهافت من الميرزا «قده» حيث قال : بأنّ أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية
معناه : لحاظ الواقع المقطوع وأخذه ، وكونه تمام الموضوع معناه : عدم لحاظ تمام
الواقع المقطوع ، وهذا تهافت.
وحلّه هو أن يقال
: بأنّ أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقيّة ، إن أردتم بذلك ، يعني أخذه في
الموضوع عناية واستطراقا ومجرد معرّف إلى ما هو المأخوذ ـ وهو الواقع ـ من دون
أخذه حقيقة ،
فهذا نسميه
بالمعرفيّة ، وهذا معناه : أنّ المأخوذ هو الواقع ، أولا لا القطع ، وهذا خلف
الطريقيّة الّتي نقصدها.
وإن أردتم من أخذه
في الموضوع على وجه الطريقيّة ، يعني : كون كاشفيته دخيلة في موضوع الحكم ، فهذا
صحيح ، ولكن يمكن أن يكون للكاشفية تمام الدخل أو بعضه ، ولا يلزم من دخالتها أن
يكون المنكشف أيضا دخيلا ، فإنّ الكاشفية شيء ، والمنكشفة شيء آخر ، والمقصود هو
الأول لا الثاني ، ومعه لا تهافت كما عرفت.
والخلاصة : هي
أنّه اتضح بما تقدّم ، صحة تقسيم القطع الموضوعي إلى أقسام أربعة ، كما أفاده
المحقّق الخراساني «قده» .
نعم القسم الآخر
الّذي أضافه المحقّق الخراساني «قده» إلى القطع المأخوذ على نحو الصفتية ، وهو
القطع المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به ، حيث قسّمه إلى ما يكون على نحو جزء الموضوع
، أو تمامه ، هذا القسم غير تام.
لأنّه إن أراد من
المقطوع به ، المعلوم بالذات ، فليس هذا قسما آخر للقطع الصفتي في قبال ما سبق ،
إذ أنّ القطع المأخوذ بنحو الصفتية للقاطع ، تكون خصوصية المعلوم أيضا مأخوذة فيه
، وإلّا لزم ثبوت الحكم عند القطع بأيّ شيء من الأشياء ، إذ إضافة العلم إلى معلوم
معيّن كإضافته إلى العالم ، مأخوذ في موضوع الحكم عليه ، وإلّا لزم أن يكون كل قطع
ومن أيّ قاطع ، محقّقا لموضوع الحكم في حقّ غير القاطع أيضا.
وإن أراد من
المقطوع به ، المعلوم بالعرض ، فقد عرفت أنّه هو
__________________
الكاشفية بالمعنى
المجازي ، وقد ذكر سابقا أنّ مفهوم القطع ليس مساوقا معه ، هذا فضلا عن أنّه حينئذ
لا يصحّ تقسيمه إلى ما يكون تمام الموضوع ، وإلى ما يكون جزء الموضوع ، ذلك لأنّ
هذه الإضافة المجازية مساوقة مع الإصابة ولزوم وجود الواقع ، وحينئذ ، فلا يكون
الحكم ثابتا من دونه.
وعلى ضوء ما تقدّم
، تعرف أنّه يعقل أخذ القطع في موضوع حكم شرعي ، بأحد وجوه خمسة.
الوجه الأول : هو
أخذه بما هو تمام الموضوع.
الوجه الثاني : هو
أخذه بما هو صفة ، جزء الموضوع.
الوجه الثالث : هو
أخذه بما هو انكشاف بالذات تمام الموضوع.
الوجه الرابع : هو
أخذه بما هو انكشاف بالذات ، جزء الموضوع.
الوجه الخامس : هو
أخذه بما هو انكشاف للواقع بالعرض والمجاز.
وهو يساوق كونه
جزء الموضوع. وقد تبيّن أيضا ، إنّ ظاهر أخذه بنحو الكاشفية ، هو أخذه بما هو
انكشاف بالذات لا بالعرض والمجاز ، هذا تمام الكلام في الجهة الأولى في التصوير
الرباعي للقطع الموضوعي.
٢ ـ الجهة الثانية
: في قيام الإمارات والأصول مقام القطع الطريقي :
ومعنى تنزيلها
وقيامها مقام القطع الطريقي إثباتا ، يعني أنّه بلحاظ دليل حجيّتها يترتب عليها
آثار القطع الطريقي من المنجزيّة والمعذريّة ، كما ذهب إليه الشّيخ «قده» في
رسائله ، والآخوند «قده» في
__________________
كفايته ، وكأنّهم فرغوا من قيام الإمارة مقامه ، لأنّ هذا هو
المتيقن من دليل حجيّتها ، إذ لو لم تقم مقامه لما كان هناك معنى لجعل الحجيّة لها
، فالقدر المتيقن من دليل جعل الحجيّة هي كونها تقوم مقام القطع الطريقي ، وإلّا
فلا معنى لجعل الحجيّة لها.
لكن أثير بعد شيخ
الرّسائل والكفاية «قده» إشكال ثبوتي حول قيام الإمارة مقام القطع الطريقي ، وهذا
الإشكال مبني على تصورات المشهور القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث يقال
:
انّه يحسن العقاب
مع العلم بالبيان بمقتضى قاعدة حجيّة القطع ، ويقبح العقاب بلا بيان بمقتضى قاعدة
قبح العقاب بلا بيان.
حينئذ : مبنيا على
هذا التصور قالوا : إذا كان العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان وعلم ، وحينئذ ، إن
فرض أنّه حصل علم وجداني ، فهذا يرفع القبح موضوعا ، وأمّا إذا فرض قيام إمارة
معتبرة على الحرمة ، وكانت الإمارة ظنّية أو احتمالية لا قطعيّة ، فموضوع قاعدة
قبح العقاب بلا علم موجودة ، وهو ، «اللّاعلم» ، ودليل الحجيّة لا يمكن أن يخصّص
قاعدة قبح العقاب ، لأنّها عقلية ، إذن فكيف يعقل ، بجعل الحجيّة للإمارة ، أن
تكون هذه الإمارة مصححة للعقاب ، ومنجزة له على الواقع المشكوك غير المعلوم ، مع
أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب تام في المقام؟.
فإن قيل : بأنّ
دليل الحجيّة ينجز بالإمارة الواقع المشكوك ، بمعنى : أنّه يصحح العقاب على الواقع
المشكوك.
فجوابه : هو أنّ
هذا على خلاف قانون قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
__________________
وإذا فرض وادّعي
أنّ دليل الحجيّة لا يصحح العقاب على التكليف الواقعي المشكوك ، بل هو ينشئ تكليفا
ظاهريا ويصحح العقاب عليه ، وهذا التكليف الظاهري معلوم لا مشكوك.
أو فقل : إن فرض
أنّ دليل الحجيّة أنشأ تكليفا ظاهريا ونجّزه ، بحيث يصحّ العقاب عليه ، لأنّه يصبح
معلوما ، فإنّه يرد عليه.
أولا : إنّ هذا
التكليف الظاهري لا عقاب له ، ولا تنجيز مستقل له عن التكليف الواقعي المشكوك ،
لأنّه إن كان خطابا طريقيا ، إذن فهو ليس تكليفا وحكما حقيقيا واحدا لمبادئ
وملاكات الحكم الحقيقي في نفسه ، وما هو موضوع التنجيز واستحقاق العقاب ، إنّما هو
الحكم الحقيقي لا الطريقي.
وإن كان حكما
حقيقيا ، فهذا التزام بالسببية وتحول الحكم من الواقعي إلى الظاهري ، ببعض مراتب
التحوّل ، والمفروض بطلان السببية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وثانيا : إنّ هذا
على فرض تسليمه ، ليس معناه تنزيل الإمارة منزلة القطع الطريقي المنجز للحكم
الواقعي ، بل الإمارة أحدثت حكما آخر ، وهذا الحكم الآخر قطعنا به بقطع طريقي وهذا
خلف التنزيل.
وإن شئت قلت : إنّ
هذا ليس معناه التنزيل ، وإنّما هو تنجيز بملاك حكم آخر ، هو الحكم الظاهري الواصل
إلى المكلّف بالعلم الوجداني ، وهذا خلف التنزيل.
والخلاصة : أنّه
لا إشكال في قيام الإمارات مقام القطع الطريقي إثباتا لكن هناك إشكال ثبوتي فيه ،
حيث يقال : بأنّ هذا التنزيل للإمارة مستحيل ، لأنّ الإمارة إذا قامت مقام القطع
الطريقي ، فإن نجّزت الواقع مع أنّه لا يزال مشكوكا ، فيكون هذا على خلاف قانون
قاعدة قبح
العقاب بلا بيان ،
وإن أنشأت بنفسها حكما ظاهريا ونجّزته ، فهو خلاف ما سيأتي من عدم منجّزية الأحكام
الظاهرية مستقلا ، بل هو خلف التنزيل.
وهذه الشبهة مع
شبهة ابن قبّة صارتا محورا وأساسا لأكثر المطالب الّتي ذكرت فيما بعد ، كما أنّها
حرّكت علماء الأصول والفكر الأصولي ، ففرّعوا عليها كل ما هو جديد في مسألة حجيّة
الإمارة والقطع والأحكام الظاهرية ، يلتمسون بذلك تخريجات وتفسيرات لحقيقة الحكم
الظاهري وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي.
والصحيح : هو انّ
هذه الشبهة ، لا أساس لها على مبنانا ، وإنّما هي شبهة تامة بناء على مسلك
القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وذلك لأنّه بعد إنكارنا لهذه القاعدة ،
والبناء على مسلك حق الطاعة للمولى في موارد الشك والجهل بالواقع ، تصبح الإمارة
منجزة ، وتصبح هذه الشبهة بلا موضوع ، لأنّ مقتضى الأصل أن يصبح التكليف المولوي
منجزا إذا وصل إلى المكلّف بأيّ درجة من درجات الوصول ، سواء كان مقطوعا ، أو
موهوما ، فتكون الإمارة منجزة لكونها مؤكدة وموجبة لإلزام المكلّف اتجاه مولاه بما
دلّت عليه.
إذن : كل تكليف
غير مقطوع العدم هو منجز ، ونحتاج لرفع اليد عن تنجزه إلى القطع بإذن الشارع.
وبناء على هذا ،
فلا موضوع لتلك الشبهة ، لأنّ الإمارة ، إمّا أن يفرض أنّها تنجّز التكليف المشكوك
، وذلك بأن تثبت وجوبا أو حرمة ، وإمّا أن يفرض أنّها معذرة ، بمعنى أنّها تثبت
الرخصة.
والقسم الأول ، هو
مورد الشبهة ، حيث يقال : كيف تنجز الواقع المشكوك مع أنّه يقبح العقاب بلا بيان؟.
فنقول : إن تنجز
الواقع على القاعدة ، والإمارة ليست إلّا مؤكدة
لهذا التنجيز كما
سيأتي إن شاء الله تعالى ، فتنجز الواقع المشكوك في مورد الإمارة المثبتة للتكليف
، ليس على خلاف قانون عقلي ، بل على طبقه ، هذا بالنسبة للأمارات المثبتة للتكليف.
وأمّا الإمارات
المرخصة والمؤمّنة ، فهي أيضا ليست على خلاف قانون عقلي ، لأنّ القانون العقلي هو
قانون المولوية وحق الطاعة ، وهو يقتضي أن يكون للمولى حق الطاعة في كل ما نحتمله
من التكاليف ما لم يقطع بإذنه ، بالإقدام ، أو الإحجام ، ومع القطع بإذنه نكون قد
جرينا على طبق قانون المولوية والعبودية.
ومن الواضح أنّ
الإمارة المرخّصة تكون إذنا قطعيا في الإقدام ، غايته ، أنّه إذن ظاهري قطعي ،
لأنّ المفروض أنّ الشارع أمرنا باتباع الإمارة ، فإذا قامت الإمارة على الرخصة وقد
قطعنا بأنّها مرخّصة ، فيكون جرينا حينئذ على طبقها ، جريا على طبق قانون العبودية
، ويكون المكلّف قاطعا بالإذن الظاهري كما مرّ ، فيكون معذورا في جريه على طبقها.
وعليه فلا شبهة من
حيث المنافاة مع القانون العقلي ، حيث انّ هذا التنجيز والتعذير للإمارة كان
إثباته بحكم العقل.
نعم يبقى الإشكال
في كيفيّة تعقل صحة الإذن المذكور المعبّر عنه بالحكم الظاهري ، واجتماعه مع الحكم
الواقعي ، بنحو لا يلزم منه التضاد أو محذور آخر.
وهذه هي الشبهة
الأخرى الّتي أثارها «ابن قبّة» كما سيأتي بيانها وحلّها.
نعم ينفتح باب هذه
الشبهة على مسلك المشهور القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث يقال هناك : كيف
يصحح العقاب على الواقع المشكوك لمجرد قيام الإمارة عليه ، مع أنّه يقبح العقاب
بلا بيان؟
وقد يجاب على هذه
الشبهة بجواب من خلال تقريبين مبنيّين على تصورات مدرسة المحقّق النائيني «قده».
١ ـ التقريب الأول
: هو أن يقال : انّ البيان الّذي أخذ عدمه موضوعا في قاعدة ، «قبح
العقاب بلا بيان» ، صار موجودا بقيام الإمارة ، وذلك بتقريب أنّ دليل الحجيّة قد
جعل الإمارة علما وبيانا بناء على مسلك الطريقية في باب جعل الحجيّة ، فكأنّ
المولى قال : «خبر الثقة علم» ، وحينئذ يكون بيانا ، وحينئذ يرتفع موضوع قاعدة قبح
العقاب بلا بيان.
وهذا المدّعى تارة
يبين بلسان الحكومة ، بمعنى أنّ دليل الحجيّة ينزل الظن الخبري منزلة العلم ،
فيكون حاكما على دليل «قبح العقاب بلا بيان» ، من قبيل حاكميّة قولهم عليهمالسلام «الطواف بالبيت
صلاة» على دليل ، «لا صلاة إلّا بطهور».
وهذا التقريب غير
معقول : لأنّ هذا التنزيل والحكومة إنّما يصحّ من الشارع فيما إذا كان الأثر
المنزّل عليه شرعيا وتحت يد الشارع التصرف فيه توسعة وتضييقا ، كما هو الحال في
قولهم عليهمالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ، فإنّ هذه الشرطية شرعية وبيد
الشارع ، فإنّه بيده الوضع ، فبيده الرفع ، وهذا لا يعقل في المقام.
وذلك لأنّ قبح
العقاب بلا بيان ، وصحة العقاب مع البيان إنّما هو من أحكام العقل العملي ، وليست
آثارا شرعية كي يصحّ الحكم عليها من قبل الشارع ، فإنّ الشارع إذا نزّل شيئا منزلة
حكم العقل ، فإنّ هذا لا يوجب توسعة في حكم العقل ، لأنّ حكم العقل تابع لموضوعه
الواقعي ، إذن ، فدليل الحجيّة بلسان الحكومة والتنزيل من قبل الشارع على
__________________
الأحكام العقليّة
غير معقول ، وإنّما تعقل الحاكمية التنزيليّة على الأحكام الشرعية الأخرى باعتبار
أنّ توسعتها وتضييقها بيد الشارع دون الأحكام العقليّة.
إذن : فهذا
التقريب لا يعالج مشكلة مناقضة جعل الإمارة مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
٢ ـ التقريب
الثاني : هو أن يبيّن مدّعى مدرسة المحقّق النائيني «قده» بلسان الورود ، بدعوى أنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا
بيان ، وصحته مع البيان ، إنّما هو البيان بالمعنى الأعم ، من العلم الوجداني
والتعبّدي ، الظاهري ، أو الواقعي ، فالمولى باعتباره للإمارة علما ، يوجد فردا
حقيقيّا في موضوع القاعدة ، فيكون هذا ورودا حينئذ.
وهذا التقريب ،
وإن كان أحسن من سابقه ، ولكن على كلّ حال ، سواء قرّب هذا المطلب ، بالتقريب
الأول ، أو الثاني ، فلا إشكال في أنّه لا يمسّ روح الإشكال ، بمعنى أنّه ليس هذا
هو نكتة الجواب عن الشبهة ، إذ ليس النكتة في أنّ المجعول هو الطريقيّة والعلمية ،
لأنّنا بحاجة لدفع هذه الشبهة في غير ما يكون المجعول فيه هو العلميّة والطريقيّة
، كما في الأصول العمليّة الشرعيّة غير التنزيليّة مثلا ، إذ لا إشكال في أنّ
أصالة الاحتياط تنجز الواقع المشكوك ، ولم يقع خلاف بين علمائنا الأصوليّين ،
والاخباريّين في أنّ وجوب الاحتياط لو ثبت في مورد من الشارع ، لكان منجزا ومقدّما
على البراءة العقليّة أيضا ، وإنّما الخلاف في أنّه ما هي تلك النكتة الثبوتيّة في
نفس جعل الحكم الظاهري المجعول لرفع التناقض ، حتّى لو لم يكن الجعل بلسان جعل
الطريقية
__________________
والعلميّة هذا ،
مع العلم أنّ دليل وجوب الاحتياط ليس مفاده جعل العلمية والطريقيّة ، وإنّما هو
حكم ظاهري لوجوب التحفظ ، ومع هذا ينجز الواقع المشكوك ، ويقدم على البراءة
العقليّة ، فإنّ الواقع ليس معلوما لا وجدانا ولا تنزيلا ولا اعتبارا ، ومع ذلك
يتنجز فيه الاحتياط.
وهذا يكشف عن أنّ
روح ملاك دفع الشبهة ليس هو جعل الطريقية والعلمية.
وإذا عرفت ملاك
دفع الشبهة في مورد أصالة الاحتياط ، يتبيّن لك حينئذ ، أنّ نكتة دفع الشبهة غير
مربوطة بكون الجعل على نحو الطريقيّة والعلمية والحكومة أو الورود ، بل هي مربوطة
بشيء آخر ، وبوجود ذلك الشيء الآخر ، سوف تندفع الشبهة المذكورة ، سواء كان لسان
دليل الحجيّة جعل الطريقية أو الأمر بالاحتياط ، وإن كان ذاك الشيء الآخر غير
موجود ، فلا ينفع في دفع الشبهة مسألة جعل الطريقيّة.
فالصحيح في العلاج
هو أن يقال : انّه لو تنزلنا عن إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسلّمنا بها ،
فلا بدّ وأن لا نسلّم بها على إطلاقها ، بل نلتزم بأنّها مخصوصة ببعض الموارد ـ كما
في مورد الحكم المشكوك ـ دون بعض.
وتوضيحه : هو أنّ
التكاليف الواقعيّة المشكوكة على قسمين.
١ ـ القسم الأول :
تكليف مشكوك لا يعلم بثبوته ، ولكن يعلم أنّه لو كان ثابتا فهو في غاية الأهمية
ولا يرضى المولى بتفويته ، من قبيل أن يفرض انّ هذا المكلّف لا يعلم أنّ المولى في
حالة غرق ، فأصل التكليف بالإنقاذ موجود ، وهو تكليف شديد الأهمية جدا ، بحيث أنّ
المولى لا يرضى بتفويته.
ففي هذا القسم
يوجد شكّ ، وعلم ، فالشكّ في القضية الفعلية ،
وأنّه هل هناك
خطاب أنقذ المولى أم لا؟ وعلم بقضية شرطية ، وهي ، أنّه لو كان يوجد خطاب أنقذ ،
وكان المولى يغرق ، إذن ، فهذا الخطاب في غاية الأهمية حتّى عن الشاكّ.
٢ ـ القسم الثاني
: من التكاليف المشكوكة ، ما كان فيه شكّان ، شكّ في الخطاب الفعلي ، وشكّ حتّى في
القضية الشرطية ، من قبيل أن يشكّ في أنّه هل هناك نفس محترمة تغرق أم لا؟ وعلى
فرض وجودها ، هو يشكّ في أنّ اهتمام المولى بذلك ، هل هو بنحو لا يرضى المولى
بتفويته حتّى في الشاكّ أم لا؟
فالشكّ في القسم
الأول ، موجود في الثاني ، والمعلوم في الأول ، مشكوك في الثاني.
وحينئذ ، لو بنينا
على أنّ قاعدة القبح ثابتة ، فعلى الأقل تكون ثابتة في القسم الثاني دون الأول.
ودعوى جريانها في
الأول خلاف البداهة ، فإنّها لا تجري في أحكام الموالي العرفية ، كما في مثالنا ،
فضلا عن أحكام المولى الحقيقي ، والإمارة الّتي تدلّ على التكليف ببركة دليل
حجيّتها ، تخرج هذا التكليف المشكوك من القسم الثاني ، وتدخله في الأول ، فتوجب
علما بأنّ هذا التكليف المشكوك على تقدير ثبوته فهو ممّا لا يرضى المولى بتفويته
حتّى في الشاكّ ، فتوجب العلم بالقضية الشرطيّة ، لا القضية الفعلية ، فهذا يخرج
عن موضوع قاعدة القبح.
وأمّا إخراج دليل
الحجيّة ، التكليف المشكوك ، عن الثاني ، وإدخاله في الأول ، بمعنى ، أنّه كيف
يوجد علما بالقضية الشرطيّة؟ ، فهذا له بيانان.
١ ـ البيان الأول
: هو أن يقال : انّه ذكرنا انّه بناء على التمسك
بقاعدة القبح ،
حينئذ ، يتوقف رفع الشبهة على أن ندعي تخصيصا في هذه القاعدة ، وأنّها لا تشمل
موارد العلم بالقضية الشرطية.
وحينئذ الإمارة
وأيّ خطاب ظاهري في باب الإمارات والأصول ، وإن كان لا يوجب زوال الشكّ في التكليف
الواقعي ، ولكن يوجب زوال الشكّ في القضية الشرطية ، ويبدله إلى العلم بها.
وبهذا يكون واردا
على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وأمّا كيفيّة كون
الحكم الظاهري موجبا للعلم بالقضية الشرطية ، فقد يقرّب ببرهان الإن ، بأن يقال :
انّ الخطاب الظاهري الإلزامي يكشف عن اهتمام الشارع بالحكم الواقعي المشكوك ، بحيث
لا يرضى بتفويته ، على فرض وجوده حتّى من الشاكّ ، فيكشف عن هذه المرتبة من
الاهتمام ، من باب كشف المعلول عن العلّة ، لأنّه هو معلول لهذا الاهتمام فيكشف
عنه لا محالة.
إلّا أنّ هذا
البيان غير تام : وذلك لأنّ هذا الكشف الإنّي دوري ، لأنّ كشف الخطاب الظاهري عن
تلك المرتبة من الاهتمام بالكشف الإنّي هو فرع أن يكون معلولا لتلك المرتبة ، لأنّ
الكشف الإنّي ينشأ من المعلول لا غيره ، وكونه معلولا لتلك المرتبة من الاهتمام
فرع أن يكون كاشفا ، إذ لو لم يكن كاشفا لم ينشأ من الاهتمام حينئذ ، فإنّ تلك
المرتبة من الاهتمام إنّما تكون علّة للخطاب الظاهري الّذي ينجز الواقع ، وهذا
الخطاب لا ينجز الواقع إلّا إذا كان كاشفا عن هذه المرتبة ، إذن ، فمعلوليته فرع
كاشفيته ، وكاشفيته تكون فرع معلوليته إذن ، والصحيح في تقريب هذه الكاشفية أن
يقال : انّ هذه الكاشفية من باب الأدلة اللفظية للحجيّة ، فهذه الكاشفية كاشفية
عرفية ، فإنّ قوله عليهالسلام «صدّق العادل» ،
أو قوله : «أخوك دينك فاحتط لدينك» ، له مدلول تصديقي عرفي واضح ، وهذا المدلول
التصديقي الواضح هو ، «إنّي» يهتم بالواقعيات المشكوكة ،
وحينئذ ، فكاشفية
الخطاب الظاهري المتكفل للحجيّة ـ بألسنتها المختلفة ـ عن تلك المرتبة من الاهتمام
، إذن فهذه ليست كاشفية «إنّيّة» ، من باب كشف المعلول عن العلّة ، بل كشف عرفي
تصديقي.
٢ ـ البيان الثاني
: هو أن يقال : انّه في الأدلة اللبية للحجيّة ، من قبيل الحجيّة الثابتة بالسيرة
العقلائية فالأمر فيها أوضح ، فإنّ روح السيرة العقلائية هذه عبارة أخرى ، عن أنّ
المولى العقلائي لا يرضى بتفويت أغراضه الواقعية المشكوكة والّتي على طبقها خبر
الثقة ، فإذا قطعنا بالإمضاء ، كان معناه القطع بأنّ الشارع كالمولى العقلائي من
حيث الاهتمام بأغراضه الواقعية ، وعدم رضاه بتفويتها من قبل الشاكّ مع وجود خبر
ثقة عليها.
وبما بيّناه ،
اتضح أنّ جوهر الموقف من دفع الشبهة ، إنّما هو بمقدار ما يبرزه ذلك الخطاب
الظاهري من تلك المرتبة من الاهتمام ، بحيث أنّه أوجد علما بالقضية الشرطية ، إذن
، فهو ينجز الواقع المشكوك ، لأنّه يخرج المورد عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا
بيان مهما كان لسانه الإنشائي ، سواء كان لسان الأمر ، «كصدق العادل» ، أو لسان
تنزيل شيء آخر بمنزلة الواقع كما في قوله عليهالسلام ، «ما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان» ، أو كان لسانه لسان
إلغاء الشكّ ، وجعل الطريقية ، كما لو قال المعصوم : «لا ينبغي التشكيك فيما يروي
عنا ثقاتنا» ، أو لسان جعل التنجيز ، أو أيّ لسان آخر ، فهذه كلّها تغني في مقام
التعبير وليس لأحدها دخل في روح المطلب ، بل روحه الّذي به يتنجز الواقع إنّما هو
؛ بمقدار ما أبرزه هذا الخطاب من تلك المرتبة ، وما أوجده من علم وجداني
بالاهتمام.
أمّا سنخ المجعول
فلا دخل له ، فإن كشفت تلك المرتبة من الاهتمام بالإمارة ، فهذا المكشوف منجز ،
وإلّا ، فالإشكال وارد على كلّ
حال ، حتّى لو كان
لسانه لسان جعل الطريقيّة ، فإنّ مجرد كون لسان علما ، لا يغير من واقع قاعدة قبح
العقاب بلا بيان شيئا ، ولهذا قلنا أنّه لا بدّ من اكتشاف نكتة ثبوتية في باب
الإمارات.
والخلاصة هي أنّه
لا إشكال في كون الخطاب الظاهري المنجز دالا على أنّ التكليف المشكوك الّذي يعلم
أنّه على تقدير ثبوته ، يعلم أنّ المولى لا يرضى بتفويته ، فهنا ، العقل لا يحكم
بقبح العقاب ، بل يحكم بالعقاب على تقدير التفويت ، لأنّ موضوع قاعدة القبح ارتفع
هنا لا محالة.
وإنّما الكلام في
وجه دلالة الخطاب الظاهري المنجز على عدم جواز تفويت الحكم الشرعي المشكوك على
تقدير ثبوته.
وقد قربت هذه
الدلالة تارة بطريق الإن ، وذلك بأن يدّعى ، بأنّ دليل الحكم الظاهري الإلزامي
يكشف عن اهتمام الشارع بالحكم الواقعي المشكوك ، فيكون الحكم الظاهر معلولا لهذه
المرتبة من الاهتمام.
إلّا أنّ هذا غير
تام ، بحسب الفرض حيث لا يعقل دفع محذور التضاد به إلّا بعد افتراض كون الحكم
الظاهري ناشئا عن ملاك التحفظ على الواقع والاهتمام به ، فيعلم حينئذ ، من ذلك ،
الحكم الواقعي المشكوك ، على تقدير وجوده في مورد الحكم الظاهر ، وحينئذ يرتفع
بالعلم بهذه القضية الشرطية موضوع قاعدة القبح.
ولكن هذا الكشف
الإنّي دوري ، لأنّ كون الخطاب الظاهري معلول لتلك المرتبة من الاهتمام ، فرع أن
يكون كاشفا ، لأنّ تلك المرتبة من الاهتمام ، إنّما تكون علّة للخطاب الّذي ينجز
الواقع ، وهذا الخطاب لا ينجز الواقع إلّا إذا كان كاشفا عن هذه المرتبة ،
فمعلوليته فرع كاشفيته ، وكاشفيته تكون فرع معلوليته ، إذن فمجرد كون لسان ، لسان
جعل الطريقيّة ،
وكونه علما لا يغير من واقع قاعدة قبح العقاب بلا بيان شيئا ، ولهذا قلنا : إنّه
لا بدّ من اكتشاف نكتة ثبوتية في باب الإمارات والأصول تدفع على أساسها المشكلة.
وقد عرفت انّ هذه
الكاشفية من باب الأدلة اللفظية للحجيّة ، فهي كاشفية إنّيّة عرفيّة تصديقيّة ،
وليست كاشفية إنّية عقليّة ، من باب كشف المعلول عن علّته ، بل كشف عرفي تصديقي.
وكذلك يقال في
الأدلة اللبيّة للحجيّة ، فإنّ روحها عبارة أخرى عن عدم رضى المولى بتفويت أغراضه
المشكوكة الّتي على طبقها خبر الثقة ، حيث أنّنا إذا قطعنا بالإمضاء كان معناه
القطع بأنّ الشارع كالمولى العقلائي يهتم بأغراضه الواقعية ولا يرضى بتفويتها من
الشاكّ مع وجود خبر ثقة عليها.
والحاصل هو أنّه :
على ضوء ذلك ، يتضح جوهر الموقف من دفع الشبهة ، إذ بمقدار ما يبرزه الخطاب
الظاهري من تلك المرتبة من الاهتمام ، يوجد علما بالقضية الشرطية ، وحينئذ ، هو
ينجز الواقع المشكوك لأنّه يخرج المورد عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان مهما
كان لسانه الإنشائي ، سواء كان لسان الأمر ، أو لسان تنزيل شيء آخر بمنزلة الواقع
، أو كان لسانه ، لسان إلغاء الشكّ وجعل الطريقيّة ، كما لو قال : «لا ينبغي
التشكيك فيما يروي عنا ثقاتنا» ، أو لسان جعل التنجيز ، أو أيّ لسان آخر ، فهذه
كلّها تفنّنات في مقام التعبير لا دخل لها في روح المطلب ، وإنّما روحه الّذي به
يتنجز الواقع إنّما هو بمقدار ما أبرزه هذا الخطاب من مراتب الاهتمام وما أوجده من
علم وجداني بالاهتمام.
والحاصل : هو أنّ
الخطاب الظاهري ، إنّما يكون موجبا للعلم بالقضية الشرطية عن طريق دلالة عرفية
تصديقية ، لا إنّيّة عقليّة ، وذلك بدعوى أنّ المستظهر من أدلة الأحكام الظاهرية
اللفظية ، إنّما هو بمقدار
ما تبرزه هذه
الخطابات من مراتب اهتمام الشارع بأغراضه وملاكاته الواقعية ، وما توجده من علم
وجداني بهذه الأغراض والملاكات وإن اختلفت ألسنتها ، من جعل الطريقية أو المنجزية
أو التنزيل أو غير ذلك ، فإنّ ذلك كله ينجز الواقع المشكوك ويخرجه عن موضوع قاعدة
قبح العقاب بلا بيان.
وهذا هو نفسه ،
النكتة العقلائية من وراء جعل الحجيّة العقلائية للأدلة اللبية الّتي ليس فيها
خطاب ، عند ما تكون ممضاة من قبل الشارع بخبر على طبقها ، كما في السيرة العقلائية
وغيرها ، وإنّما اختلاف ألسنة هذه الخطابات في جميع موارد الحكم المشكوك والسيرة
مثلا ، إن هي إلّا تفنّنات في التعبير لا دخل لها في حلّ المشكلة.
ويظهر من بعض
كلمات المحقّق العراقي «قده» في بعض الموارد ، محاولة الجواب على هذه الشبهة ، مع
الإصرار على التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأحسن ما يقرّب به كلامه هو أن
يقال :
إنّ الخطاب
الظاهري في موارد الإمارة أو الأصل المعلوم وجدانا ، أمره مردّد ، بين أن يكون
مطابقا للواقع ، أو لا يكون مطابقا ، فإن كان مطابقا للواقع ، فهذا الخطاب الظاهري
هو نفسه حكم واقعي منجز ، لأنّنا لا نريد بالخطاب الواقعي المنجز عقلا إلّا الخطاب
الّذي وراءه مبادئ حقيقية وملاكات.
وإن كانت الإمارة
غير مطابقة للواقع بل كانت خطابا ظاهريا فارغا ، إذن هذا الخطاب ليس وراءه شيء من
الملاكات والمبادئ ، وحينئذ ، يكون هذا حكما صوريا لا واقعيا ، وبما انّ أصل هذا
الخطاب الظاهري معلوم لنا وجدانا ، حينئذ ، إذا ضممنا هذين الأمرين ، وهو إنّا
__________________
نعلم وجدانا
بالخطاب الظاهري ـ ولعلّه هو الخطاب الواقعي ـ إذن ، فمعناه أنّه على أحد
التقديرين ـ وهو تقدير مطابقة الخطاب للواقع ـ نكون عالمين بالحكم الواقعي ،
وحينئذ يكون المقام شبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعه لا يصحّ
التمسك بها لكوننا نحتمل البيان والعلم بالحكم الواقعي.
ولكن هذا غير تام
، وجوابه الصحيح هو أن يقال : بأنّه لو سلّمنا أنّ الخطاب الظاهري على أحد
التقديرين واقعيا ، لكن ليس معناه ، أنّه على أحد التقديرين عالمون بالحكم الواقعي
، بل نحن عالمون بجامع الخطاب المردّد بين كونه واقعيا ، وكونه صوريا ، فعلى تقدير
كونه واقعيا ، فنحن عالمون بذاته وجامعيته لا بواقعيته ، وهذا الجامع لا يتنجز
بالعلم ، لأنّ الخطاب الواقعي هو الّذي يقبل التنجيز ، بينما الصوري لا يقبله ،
فالعلم بالجامع بينهما لا يقبل التنجيز إذن ، لأنّ العلم بالجامع بين ما يتنجز وما
لا يتنجز ليس بمنجز.
والخلاصة هي : إنّ
ما هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو كونه واقعيا ، ومن دون العلم بذلك
يقبح العقاب بلا بيان.
إذن لا بدّ في
مقام دفع هذه الشبهة من أن ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا ، وإمّا أن نقول
بالتفصيل كما عرفت.
هذا تمام الكلام
في قيام الإمارات والأصول مقام القطع الطريقي.
وقد اتضح من مجموع
ما ذكرناه عدّة أمور.
١ ـ الأمر الأول :
هو أنّ صاحب الكفاية «قده» . في بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، اختار
مسلكا في تصوير جعل الحجيّة في باب الإمارات والأصول ، حيث ذكر أنّ أدلة الحجيّة
مفادها
__________________
المجعول هو
المنجزية والمعذرية ، وليس مفادها إنشاء أحكام تكليفيّة ، فمثلا ، مرجع جعل
الحجيّة للخبر الواحد هو جعله منجزا.
وقد اعترض عليه
الميرزا النائيني «قده» بأنّه لا يعقل أن يكون مفاد دليل الحجيّة هو جعل المنجزية
للخبر الواحد ، لأنّه ، إن أريد بالمنجزيّة واقع المنجزيّة الّذي هو عبارة عن حكم
العقل باستحقاق العقاب ، فهذا حكم عقلي لا يعقل جعله من قبل الشارع ، وإن أريد
عنوان المنجزيّة ومفهومها ، بمعنى أنّ المولى ينشئ هذا المفهوم وهذا العنوان ،
فهذا الإنشاء أمر تحت القدرة لكل منشئ ، لكن هذا لا يعقل أن يكون مستتبعا للمنجزية
حقيقة ، لأنّ ذلك على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ مجرد إنشاء المنجزيّة
عنوانا لخبر الثقة ، لا يبدّل اللّابيان بالبيان ، واللّاعلم بالعلم.
إذن ، فموضوع
قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثابت ، فلا يكون لجعل المنجزية أثره وقدرته على تنجيز
الواقع المشكوك حقيقة ، لأنّ هذا على خلاف قاعدة القبح.
وممّا ذكرناه ،
يتضح لك ، انّ اعتراض الميرزا «قده» غير تام ، بل هو جري على التعامل مع قاعدة قبح
العقاب بلا بيان ، كدليل من قبيل الأدلة اللفظية ، بحيث لا يمكن رفع اليد عنها
إلّا بتبديل موضوعها من اللّابيان إلى البيان ، وعنوان البيان مساوق للعلم ، ولا
علم بمجرد إنشاء المنجزية.
وقد عرفت انّ هذا
التصور يقام على أساس غير تام ، وذلك انّنا أوضحنا فيما تقدّم ، أنّ تنجيز الإمارة
للواقع المشكوك بلحاظ جعل الحجيّة لها ، إنّما هو عبارة عن قيام الإمارة مقام
القطع الطريقي ، وروح
__________________
هذا وملاكه هو أنّ
الخطاب الظاهري يكشف عن درجة اهتمام المولى بالواقع المشكوك ـ خطابه الواقعي ـ على
فرض وجوده ، بحيث يوجب العلم بالقضية الشرطية ، «وهي أنّه لو كان هناك وجوب ،
فالمولى مهتم به جزما» وهذا العلم بالقضية الشرطية ، هو الّذي يخرج مورد الإمارة
الحجّة عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ موردها هو عدم البيان والعلم
بهذه القضية الشرطية ، وحينئذ ، لا فرق في مقام إبراز هذه القضية الشرطية ، بين أن
يبرزها بلسان : إنّي جعلت خبر الثقة منجزا ، أو بلسان : إنّي آمركم بالعمل بخبر
الثقة ، أو بلسان : إنّ خبر الثقة علم ، أو بأيّ لسان آخر ، فهذه التعابير كلّها
وافية بحسب لسانها العرفي في الكشف عن الشرطية ، والّتي يكون الكشف عنها هو الملاك
المنجز للواقع المشكوك.
وعليه : ففي مقام
جواب إشكال الميرزا «قده» على صاحب الكفاية «قده» ، نختار الشق الثاني ونقول :
إنّ مراد الآخوند «قده»
من جعل المنجزية للإمارة ، هو جعل عنوان المنجزية ، بمعنى إنشاء هذا العنوان
واعتباره على الإمارة.
فإن قيل : إنّ هذا
يخالف قاعدة القبح.
قلنا : إنّه غير
مخالف ، لأنّ هذا الإنشاء يكشف بظهوره العرفي ويبرز اهتمام المولى بالواقع المشكوك
، لو كان موجودا ، فإنّ هذا لسان عرفي في مقام كشف ذلك ، وحينئذ ، يوجد علمنا
بالقضية الشرطية بلحاظ كشفه العرفي ، فإذا أوجب علمنا بالقضية الشرطية ، تنجز
الواقع وخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ موضوعها مقيّد بعدم العلم
بالقضية الشرطية ، وقد صار بعد هذا الكشف بيانا وعلما.
ثمّ إنّا نختار
ثانيا : الشق الأول ، وهو أن يكون المقصود إيجاد
واقع المنجزية ،
وغاية ما تقولون : إنّ واقع المنجزية غير قابل للجعل الشرعي ، بل هو أمر واقعي
عقلي.
وهذا صحيح ، لكن
هذا الأمر الواقعي قابل للجعل بالواسطة من قبل الشارع.
وذلك : بإيجاد
ملاكه المشار إليه سابقا ، وهو اهتمام المولى وعدم ترخيصه في المخالفة الاحتمالية
لغرضه ، وهذا هو منشأ المنجزية ، ومعه ، فهو قابل للجعل بالتبع ، كما وقع في أدلة
الأحكام الواقعية ، إذ ، فما أكثر ما أفهمت الحرمة الواقعية بلسان بيان العقاب ،
كما في قولهم عليهمالسلام ، «من شرب الخمر فعليه كذا وكذا» ، فالمنجزية قابلة
للإيصال ، وذلك بإيصال منشئها إلى المكلف ، فإذا صحّ هذا في الأحكام الواقعية ،
صحّ في الأحكام الظاهرية.
وبهذا يتضح ، انّ
مسلك جعل الإمارة منجزة من قبل الشارع ، مسلك معقول ، واف بقيام الإمارة مقام
القطع الطريقي.
٢ ـ الأمر الثاني
: هو أنّه ، بعد أن فرغوا عن استحالة جعل المنجزية للإمارة وأنّه أمر غير معقول ،
فرّعوا على ذلك ، بأنّه إذا أريد في دليل الحجيّة إقامة الإمارة وتنزيلها منزلة
القطع الطريقي ، فلا يمكن أن يكون ذلك بتنزيل الظن منزلة القطع ، لأنّ تنزيل الظن
منزلة القطع ، معناه : إسراء حكم المنزّل عليه إلى المنزّل. وإذا كان حكم المنزّل
عليه في القطع الطريقي هو المنجزية ، إذن فتنزيل الظن منزلة معناه : جعل المنجزية
، والمفروض أنّهم قد فرغوا في الأمر الأول عن استحالة جعل المنجزية ابتداء ، إذن
فيحكم هنا بأنّ تنزيل الظن منزلة القطع الطريقي مستحيل أيضا لما عرفت ، ومن هنا
راحوا يفتشون على أساس آخر يخرّجون عليه قيام الظن والإمارة منزلة القطع الطريقي.
والتحقيق هو أنّ
لسان تنزيل الإمارة منزلة القطع الطريقي ، هو أيضا لسان معقول من ألسنة أدلة
الحجيّة وجعل الحكم الظاهري ، بمعنى أنّه لو ورد في دليل من أدلة الحجيّة ، تنزيل
الإمارة منزلة القطع الطريقي لكان أمرا معقولا.
وذلك : إمّا بأن
يفرض أنّ تنزيل الإمارة منزلة القطع إنّما هو بلحاظ حيثيّة شدة اهتمام المولى ،
فيكون التنزيل بمثابة جملة خبرية ، مرجعها إلى إخبار المولى عن أنّه ، كما أنّه
شديد الاهتمام في موارد التكاليف المعلومة ، ولا يرضى بتفويتها ، فكذلك هو شديد
الاهتمام في موارد التكاليف المظنونة بالظن الخبري ولا يرضى بتفويتها أيضا.
وإمّا أن يكون
تنزيلا للإمارة ، منزلة العلم في المنجزية ، بناء على ما قلناه من إمكان جعل
المنجزية تبعا ، وتسبيبا ، باعتبار أنّ المنجزية الواقعية تحت سلطان المولى بتبع
منشئها ، فيكون التنزيل بلحاظ واقع المنجزية.
ويمكن أن يكون
التنزيل بمعنى إسراء المنجزية عنوانا من المنزّل عليه إلى المنزّل ، بمعنى إنشاء
نفس التنزيل ، أي إنشاء كون هذا بمنزلة ذاك ، فإنّ هذا أيضا لسان من ألسنة إبداء
ذلك الاهتمام الّذي هو ملاك تنجيز الواقع بالإمارة ، فكل هذه الأنحاء والصياغات
معقولة في نفسها ، وتؤدّي غرضا ثبوتيا واحدا.
٣ ـ الأمر الثالث
: هو أنّهم بعد أن فرغوا ، عن أنّ جعل المنجزية للإمارة ابتداء غير معقول ،
وفرّعوا عليه ، أنّ تنزيل الظن منزلة العلم ليس من ألسنة أدلة الحجيّة ، أي أنّه
لا يفي بتنجّز الواقع ، وبإقامة الإمارة مقام القطع الطريقي ، حينئذ انقسموا إلى
فريقين اعتمد كل فريق أساسا لتخريج قيام الإمارة مقام العلم.
فذهب الفريق الأول
إلى اعتماد أساس الطريقية ، كما هو عليه
مدرسة الميرزا «قده»
، من أنّ المجعول في الإمارات إنّما هو الطريقية واعتبار الإمارة علما ، من
دون جعل المنجزية والتنزيل والإسراء.
والفرق عندهم بين
جعل المنجزية ، وجعل الطريقية ، هو أنّ جعل المنجزية كما يتخيّلون يصادم قاعدة
القبح ، حيث معها لا يوجد بيان ، بينما على مسلك جعل الطريقيّة كما يتخيّلون لا
يردّ الإشكال ، لأنّ المنزل فيها يصبح علما ، فيكون بيانا ، فيرتفع بذلك موضوع
قاعدة القبح ، فالإمارة تكون منجزة للواقع بجعل الطريقية والكاشفية ، لا بالمنجزية
لها ابتداء ، بل بجعل الطريقية يترتب عليه المنجزية ، ولهذا حوّلوا تنزيل الظن
منزلة القطع إلى اعتبار الظن قطعا ، وأنّ العملية ليست عملية تنزيل ، وإلّا لكان
مرجعه إلى إسراء حكمه له ، وحكم العلم هو المنجزية ، فيلزم جعل المنجزية ، وهو غير
معقول.
وإنّما العملية هي
عملية اعتبار الظن علما ، إذ بمجرد اعتباره علما يرتفع موضوع قاعدة القبح ، وحينئذ
، كأنّهم بهذا تخلّصوا من الإشكال.
وقد اتضح بما
ذكرناه سابقا انّ هذا المسلك غير تام ، لأنّ لسان «جعلت الظن علما» لا ينفع شيئا
حتّى يتميز عن بقية الألسنة ، لأنّ هذا اللّسان إن كان يكشف كشفا عرفيا عن درجة
اهتمام المولى بالواقع المشكوك ، إذن فهذا هو وحده ملاك رفع موضوع قاعدة القبح ،
سواء أنشئ بعنوان العلم ، أو عنوان التنجيز أو أيّ شيء آخر ، وإن فرض انّ هذا
اللّسان لم يكشف عن ذلك ، بل علمنا أنّ المولى حينما قال «جعلت الظن علما» من دون
أن يكون هذا الجعل ناشئا من شدّة اهتمامه ، بل مجرد اعتبار فقط لرؤيا قد رآها في
منامه ، فمثل هذا الاعتبار ، وجوده وعدمه سواء.
إذن فمسلك جعل
الطريقية لا يتميّز عن بقيّة المسالك بأية ميزة
__________________
بحسب الحقيقة كما
يتخيّل ، لأنّه ليس محقّقا لنكتة التنجيز ، نعم هو من أحسن ألسنة التنجيز.
وأمّا الفريق
الثاني : فهو بعد أن بنى على استحالة جعل المنجزية ، واستحالة تنزيل الظن منزلة
القطع الطريقي ، ذهب إلى أنّ التنزيل إنّما هو للمظنون منزلة المقطوع ، أي لمؤدى
الإمارة منزلة المقطوع كما ذهبت إليه مدرسة الشيخ الأنصاري «قده» ، لأنّ القطع الطريقي ليس له حكم شرعي لكي يسري بالتنزيل
إلى الظن ، وهذا غير المقطوع والمظنون ، فإنّ المقطوع إمّا حكم شرعي ، أو موضوع له
أثر شرعي ، فينزل منزلته حينئذ ويكون قابلا للإسراء الشرعي ، وإذا نزل فيتخير
التكليف الواقعي.
إلّا أنّ هذا
التخريج لم يوضح وجها في انه كيف يكون هذا التنزيل رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب
بلا بيان.
وعلى كلّ حال ،
فقد ظهر ممّا تقدّم ، انّ جعل الحجيّة للإمارة ، وجعل المنجزية ، لا ينحصر أمره
بلسان تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، بل يمكن أن يكون بتنزيل الظن منزلة القطع
أيضا.
وبكلّ ما تقدّم ،
يتهيأ ذهننا لتقبّل المطالب القادمة.
٣ ـ الجهة الثالثة
: في قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية
الكاشفية :
وهنا : وقع البحث
في إمكانه ثبوتا كما وقع ثبوتيا في الجهة الثانية ، لكن هذا البحث الثبوتي الواقع
هنا ليس في أصل إمكان قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي من جهة إمكان التنزيل هنا
شرعا كما كان هناك ، فإنّه هنا لا يقال : كيف يكون غير العلم قائما مقام العلم
__________________
الموضوعي ، فإنّ
أثر العلم الموضوعي هنا ، موضوع لحكم شرعي بحسب الفرض ، فلا محذور أن يقيم الشارع
شيئا آخر مقام موضوع حكمه ، ومن هنا لم يقع إشكال في أصل قيام الإمارات مقام القطع
الموضوعي الطريقي ، كما أنّه لا إشكال في أنّه يمكن إيصال ذلك بدليل مستقل غير
دليل الحجيّة الّذي هو دليل قيام الإمارات مقام القطع الطريقي ، بمعنى أنّ الشارع
لو استعمل دليلين ، أحدهما لإثبات قيام الإمارات مقام القطع الطريقي ، ـ وهي
المسألة المتقدّمة ـ وثانيهما استعمل دليلا لإقامة الإمارات مقام القطع الموضوعي ،
فلو فعل ذلك ، أيضا لا إشكال في إمكان ذلك ، وإنّما الإشكال الثبوتي وقع في أنّه
هل يمكن أن يكون دليل واحد وافيا بكلا المطلبين ، حيث يمكن بدليل واحد ، ـ وهو
دليل الحجيّة ـ أن يكون وافيا بقيام الإمارة مقام القطع الطريقي والقطع الموضوعي
معا أيضا؟ هذا ، وكأنّهم اقتصروا على بحث المرحلة الثبوتية دون مرحلة الإثبات
لمعرفة أنّ أدلة الحجيّة هل تفي بإثبات ذلك التنزيل أم لا؟.
وكأنّ الشّيخ
الأنصاري «قده» ، والميرزا «قده» يبنون على إمكان ذلك.
وأمّا صاحب
الكفاية «قده» فقد استشكل في إمكانه ، وهذا هو البحث الثبوتي.
وحاصل برهان
الآخوند «قده» على الاستحالة هو ، أنّ قيام الإمارة مقام القطع الطريقي
أو الموضوعي مرجعه إلى عملية تنزيل ، وهذه العملية لها إحدى صيغتين.
__________________
١ ـ الصيغة الأولى
: هي تنزيل المظنون ، منزلة الواقع المقطوع.
٢ ـ الصيغة
الثانية : هي تنزيل نفس الظن منزلة القطع.
أمّا الصيغة
الأولى : فهي إذا صدرت ووقعت في دليل ، فهي تنتج قيام الإمارة مقام القطع الطريقي
، لأنّ تنزيل المظنون منزلة المقطوع. معناه : جعل الحكم على طبق مؤدّي الإمارة ،
وهذا مرجعه إلى قيامها مقام القطع الطريقي ، ولا يوجب ذلك قيام الإمارة مقام القطع
الموضوعي ، لأنّ المنزّل عليه هنا ليس هو القطع ، وإنّما هو المقطوع ، ولا يترتب
عليه إلّا أحكام المقطوع ، إذن ، فما يكون للقطع الموضوع من آثار وأحكام لا يترتب
على الإمارة بتنزيل المظنون منزلة المقطوع.
وأمّا الصيغة
الثانية : وهي تنزيل نفس الظن منزلة القطع ، فهنا ، المنزّل هو الظن ، والمنزّل
عليه هو القطع ، والظن والقطع باعتبارهما حالتين مرآتيتين ، فهما تارة تلحظان
باللحاظ الاستقلالي ، بما هما صفتان ، وأخرى ، تلحظان باللحاظ الآلي المرآتي ، أي
، يلحظ الظن بما هو مرآة للمظنون ، والقطع بما هو مرآة للمقطوع ، فإذا فرض إن كان
القطع والظن في عملية التنزيل هذه ملحوظين باللحاظ الاستقلالي ، فهذا معناه قيام
الإمارة مقام القطع الموضوعي فيما للقطع من أحكام ، لكن ذلك لا يوجب قيام الإمارة
مقام القطع الطريقي لما بيّنوه في أبحاثهم السابقة ، من أنّ قيام الإمارة مقام
القطع الطريقي لا يكون بتنزيل نفس الظن منزلة القطع ، لأنّ القطع الطريقي حكمه
المنجزية ، والمنجزية حكم عقلي ، ولا يمكن إسراؤه بالتنزيل ، فإذا كان التنزيل
تنزيلا للظن الأمارتي منزلة القطع بما هو قطع انحصر أثر هذا التنزيل في إسراء ما
للقطع من آثار شرعية وأحكام مترتبة عليه من المنجزية ، فلا تسري بالتنزيل كما
عرفت.
وأمّا إذا كان
القطع والظن ملحوظين باللحاظ الآلي ، رجع حقيقة
تنزيل الظن منزلة
القطع إلى تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، لأنّ الظن لوحظ آلة للمظنون ، والقطع آلة
للمقطوع ، إذن رجع هذا اللحاظ إلى الصيغة الأولى الّتي تنتج قيام الإمارة مقام
القطع الطريقي لا الموضوعي ، وعليه : فلا توجد صيغة وافية بكلا الأمرين.
وهنا قد يتخيّل
إنّا نختار الصيغة الثانية ، وهي تنزيل نفس الظن منزلة القطع ونقول : إنّه جمع بين
اللحاظين الآلي والاستقلالي لكي ننجز كلا المطلبين.
ولكنّ هذا مستحيل
، وذلك لاستحالة اجتماع لحاظين متباينين على شيء واحد.
ثمّ إنّ صاحب
الكفاية استدرك بعد ذلك فقال : نعم إنّه لو كان هناك ما بمفهومه يكون جامعا بينهما لأمكن ذلك ، ولكن ليس.
وقد يتخيّل أن
يكون مقصوده من «مفهوم جامع» ، أي مفهوم جامع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي.
لكن ليس هذا
مقصوده ، إذ من الواضح أنّ الجامع بين هذين اللحاظين إنّما هو الجامع المفهومي
بينهما ، وهو موجود ، وهو نفس مفهوم اللحاظ ، لكن هذا الجامع المفهومي ليس لحاظا
بالحمل الشائع ، وإنّما هو مفهوم من المفاهيم الّتي يتعلق بها اللحاظ ، فلا يفي
حينئذ بتنقيح دليل الحجيّة ، لأنّ دليل الحجيّة والتنزيل يحتاج إلى لحاظ بالحمل
الشائع ، بل الظاهر هو أنّ مقصوده من قوله «مفهوم جامع» ، يعني ما بمفهومه يعم
الظن والمظنون والقطع والمقطوع ، أو قل : يعني مفهوم له مصداقان ، أحدهما الظن ،
والآخر ، المظنون ، وكذلك للقطع والمقطوع ،
__________________
حيث يقال حينئذ
بعبارة واحدة ، «نزّلت هذا بمنزلة ذلك» ، فيكون تنزيل كلّي ينحل إلى تنزيلين ،
تنزيل الظن منزلة القطع ، والمظنون منزلة المقطوع ، لأنّ المفهوم المنزل له فردان
، والمنزل عليه له فردان ، فينحل هذا التنزيل إلى تنزيلين.
ثمّ قال «قده» : إنّ هذا غير موجود ، إذ لا جامع من هذا القبيل.
إذن : فهذا
التصوير غير تام ، وبهذا يتبرهن استحالة وفاء لسان واحد ومفاد فارد على إقامة الامارة
مقام القطع الطريقي والموضوعي معا.
وبعد أن عرفت
برهان استحالة قيام الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا ، ينبغي أن يعلم ،
إنّ هذا الإشكال الثبوتي في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي بهذا النحو ، إنّما
هو فيما إذا لم نستظهر ـ من الدليل الّذي يرتب الحكم على القطع ـ انّ القطع قد أخذ
في الموضوع بما هو حجّة ، بلا دخل الكاشفية التامة في ذلك.
فإذا استظهرنا من
دليل ترتب الحكم على القطع ، انّ القطع لم يؤخذ باعتبار كاشفيته التامة وطريقيّته
الّتي لا يبقى معها احتمال الخلاف ، بل أخذ في الموضوع بما هو حجّة ومنجز ومعذّر ،
فإذا استظهرنا ذلك من دليل الحكم المترتب على القطع ، فلا إشكال حينئذ في قيام
الامارة مقام القطع الموضوعي ـ بنفس دليل تنزيلها ـ منزلة القطع الطريقي ، بلا
حاجة إلى جعل تنزيل آخر ، لتصل النوبة إلى البحث عن انّ هذين التنزيلين هل يمكن
إفادتهما بصيغة واحدة أو لا ، بل من الواضح حينئذ أنّ تنزيل الامارة منزلة القطع
الطريقي وحده يحقّق فردا
__________________
حقيقيا من موضوع
دليل ذلك الحكم الّذي رتب على القطع ، وحينئذ يكون دليل حجيّة الامارة واردا عليه.
وعليه : فموضوع
إشكال الآخوند «قده» في الإمكان هو الفرض الأول ، أي أنّ مورد إشكاله هو ما إذا
كان دليل الحكم الموضوعي قد أخذ القطع بما هو قطع ، موضوعا للحكم ، لا القطع بما
هو حجّة ، لكي نحتاج إلى حكومة وتنزيل.
ثمّ انّ برهان
الآخوند «قده» قد اعترض عليه الميرزا «قده» ، كما أنّ الآخوند «قده» نفسه سجّل موقفا خاصا من هذا البرهان.
وقبل ذكر كلا
الموقفين للميرزا «قده» ، والآخوند «قده» ، نذكر موقفنا الإجمالي من هذا البرهان.
وموقفنا هذا
يتكوّن من عدّة نقاط ، وسوف يتضح موقفنا أكثر من خلال تعرّضنا لكل من موقف الميرزا
«قده» ، والآخوند «قده».
١ ـ النقطة الأولى
: هي انّ هذا الاستشكال والاتجاه في البحث ليس صحيحا من الأساس ، لأنّ هذا
الاستشكال يفترض بأنّا نتعامل مع دليل لفظي من أدلة الحجيّة ، ونريد أن نمتحن قدرة
هذا الدليل ذو المضمون والمفاد الواحد حيث يقال : بأنّ هذا الدليل هل يمكنه أن يفي
بالتنزيلين معا أو لا؟ وحينئذ ، يستشكل الآخوند «قده» ويجيب : بأنّه إن كان بصيغة
تنزيل المظنون منزلة المقطوع فلا يفي لما عرفت ، وإن كان بصيغة تنزيل الظن مقام
القطع ، فإنّه يفي بالأول دون الثاني.
إلّا انّ هذا
الكلام غير تام : وذلك لأنّ أهم الامارات هو خبر
__________________
الثقة والظهور ،
وأهمّ دليل على حجيتهما هو السيرة العقلائية ، وحينئذ ، ينبغي التكلم في انّ هذه
السيرة الّتي هي دليل لبّي ، هل يستفاد منها إقامة الامارة مقام القطع الطريقي فقط
، أو هو مع القطع الموضوعي؟ ، وهذا ما سوف تعرفه عند مناقشة الميرزا «قده» للآخوند
«قده».
٢ ـ النقطة
الثانية : وهي أنّه لو تنزلنا وفرضنا أنّا أمام دليل لفظي ، فمع هذا ، يمكن أن
يكون لسان دليل واحد وافيا بكلا التنزيلين ، وهو لسان تنزيل الظن منزلة القطع إذا
كانا ملحوظين باللحاظ الاستقلالي بناء على مبنى الآخوند «قده» ، من أنّ إقامة
الامارة مقام القطع الطريقي يمكن أن يكون بجعل المنجزية ابتداء للامارة ، فإنّه
بناء على ذلك لا مانع من وفاء هذا اللّسان بكلا التنزيلين ، فيقال : إنّ الظن مثل
القطع في أمرين ، أحدهما المنجزية ، وبذلك يكون الظن قائما مقام القطع الطريقي ،
والثاني ، يكون مثله في ترتب الحكم الشرعي بوجوب التصدق مثلا ، وهذا معناه : قيام
الامارة مقام القطع الموضوعي من دون أن يلزم منه اجتماع لحاظين ، ومن المعلوم انّ
هذا مبنيا على أصولهم الموضوعية.
ويحتمل أن يكون
استشكال الآخوند «قده» في الإمكان مبنيا على الأصول الموضوعية لرسائل الشيخ
الأنصاري «قده» ، حيث افترض فيها أنّ قيام الامارة مقام القطع الطريقي لا يكون
إلّا بتنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وانّ قيامها مقام القطع الموضوعي لا يكون
إلّا بإقامة الظن مقام القطع ، وحينئذ ، فلا يرد إشكال النقطة الثانية على الآخوند
«قده».
٣ ـ النقطة
الثالثة : هي أنّه لو سلّمنا انّ عبارة «تنزيل الظن منزلة القطع» لا تفي بكلا
المطلبين ، لاستحالة جعل المنجزية ، وانّ إقامة الامارة مقام القطع الطريقي إنّما
تكون بجعل الحكم لا بجعل المنجزية ابتداء ، لكن مع هذا نقول : بأنّه إذا كان البحث
ثبوتيا كما هو المفروض ، فإنّه يمكن الحصول على عبارة تفي بكلا التنزيلين ، وذلك
بأن يقال : بأنّ
مفاد دليل الحجيّة
هو الأمر ، بأن أمر من قامت عنده الامارة أن يعمل كما يعمل القاطع ، ومن المعلوم
أنّ القاطع بخمرية مائع له عملان :
أحدهما : عمل من
شئون القطع الطريقي ، وهو وجوب الاجتناب.
والثاني : عمل من
شئون القطع الموضوعي ، وهو وجوب التصدق مثلا ، إذا فرض انّ هذا القطع كان موضوعا
لذلك ، وحينئذ ، فإذا أمر من قامت عنده الامارة بأن يعمل عمل القاطع ، فبذلك ستقوم
الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بعبارة واحدة وبلا محذور ، فهذه العبارة
تنحل إلى أمرين ، أحدهما : يتمم الحجيّة والآخر يتمم الموضوعية ، هذا كله إذ
أغمضنا النظر عن برهان الآخوند «قده» وعن إشكالاتنا أيضا.
٤ ـ النقطة
الرابعة : هي أنّ ما ذكره الآخوند «قده» في برهان الاستحالة من أنّ القطع والظن
تارة يلحظان باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى ، يلحظان باللحاظ الآلي ، لا معنى له ،
لأنّ ما ذكره «قده» إنّما يتصور بالنسبة إلى قطع القاطع ، وظنّ الظان ، وهذا ليس
محلا للكلام ، فإنّ محل الكلام هو مفهوم القطع ، ومفهوم الظن اللذان يأخذهما
الشارع في موضوع حكمه ، وهذان المفهومان لا معنى لأن يلحظهما الشارع فانيين في
الموضوع ، فإنّ مفهوم القطع ليس كاشفا ، بل هو كسائر المفاهيم الّتي إن لوحظت
فانية فإنّما تلحظ فانية في مصاديقها كأيّ مفهوم آخر ، وكذلك مفهوم الظن.
وبعبارة أخرى :
الظن والقطع الّذي له حالة المرآتية بحيث يكون تارة ، النظر إليه ، وأخرى النظر به
، إنّما هو قطع القاطع وظنّ الظان ، لا قطع المولى وظنّه الّذي يأخذه في مفهوم
الحجيّة ، أي أنّ ما هو ظنّ وقطع بالحمل الشائع هذا هو الّذي يلحظ تارة آلي ،
وأخرى استقلالي ، وأمّا مفهوم القطع الّذي هو قطع بالحمل الأوّلي الّذي يتصوره
المولى فهذا لا معنى لأن يفنى في المقطوع ، فإنّه إن لوحظ مرآة وفانيا فهو فانيا
في مصاديقه ،
فحينما نقول : النّار محرقة ، والخمر حرام ، فالخمر هنا يلحظ فانيا في مصاديقه.
وهنا الأمر كذلك ،
فإذا قال : القطع يستوجب القطع ، فمعناه : هذا القطع وهذا القطع ، هذا خلّط بين
القطع بالحمل الأوّلي والقطع بالحمل الشائع الصناعي ، وهكذا مفهوم الظن.
اللهمّ ، إلّا أن
يقال : انّه ليس مقصود الآخوند «قده» من اللحاظ ، اللحاظ في مرحلة المدلول التصوري
للكلام ليرد ما ذكرنا ، بل المقصود من اللحاظ الاستقلالي والآلي هو القصد الجدّى ،
والقصد الكنائي ، فتارة يطلق الظن والقطع ويراد منهما المظنون والمقطوع كناية ،
وأخرى يطلقان ويراد بهما نفس الظن والقطع ، فيكونان مقصودين جدا ، وحينئذ ، فإذا
نزّل الظن منزلة القطع ، وكان المقصود تنزيله منزلته بكلا اللحاظين ، فيلزم الجمع
بين الكناية والجدية ، في كلام واحد واستعمال واحد ، وهو غير جائز ، وحينئذ يكون
التعبير بالآلية والاستقلالية مسامحة في المقام ، ومعه لا يرد إشكالنا في النقطة
الرابعة.
هذا إذا حملنا
كلام صاحب الكفاية على مرحلة المدلول التصوري لدليل الحجيّة ، لأنّ لحاظي الآلية
والاستقلالية من شئون المدلول التصوري للدليل.
ولكن حينما ننقل
الإشكال من مرحلة المدلول التصوري ، إلى مرحلة المدلول التصديقي ، حينئذ يمكن أن
يقال : بأنّ الإشكال تام بحسب مقام الإثبات بلا حاجة إلى إدخال عناية مسألة
الصراحة والكناية في المقام.
وإن شئت قلت : إنّ
روح هذا الإشكال يمكن تقريبه بما حاصله :
إنّ الدليل الواحد
الّذي يكون مفاده ـ بحسب المدلول التصوري ـ تنزيل الظن منزلة القطع ، إن فرض أنّه
كان بصدد إقامة الامارة مقام
القطع الطريقي
التصديقي حقيقة وهو عبارة عن إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك ،
لما قلناه سابقا ، من أنّ كل دليل حجيّة لا يكون منجزا أو منشأ للحجيّة إلّا بتوسط
كونه ذا مدلول تصديقي ، أي أنّه مبرزا لشدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك
، فالمدلول التصديقي لدليل الحجيّة هو إبراز ذلك وهو الأول وإن فرض كون مفاده
الجعل النفسي والحكم الواقعي النابع من ملاكات في متعلق الحكم فيكون المدلول
التصديقي لدليل إقامة الامارة مقام القطع الموضوعي هو الثاني وهو جعل الحكم
الواقعي على طبق الامارة كما كان مجعولا على طبق القطع ، ومن الواضح أنّ هذين
مدلولان تصديقيان متغايران لا يصح عرفا أن يكونا لخطاب ودليل واحد ، حيث يكون
تنزيل واحد كاشفا عنهما معا كشف تصديقيا جديا ، فإنّ هذا أمر غير عرفي ، إذ أنّ
دليل الجعل الواحد يكشف عرفا عن سنخ مدلول تصديقي واحد أيضا لا عن سنخين.
إذن فالإشكال ليس
بلحاظ مرحلة المدلول التصوري ، وليس بلحاظ الجمع بين اللحاظين ، الآلي والاستقلالي
، كما أنّه ليس باعتبار الجمع بين الكناية والصراحة ، بل لو فرض أنّهما معا
كنائيان أو صريحان ، إلّا أنّهما مدلولان تصديقيان متباينان عرفا ، ولا معنى لأن
نفرض أنّ كلاما واحدا له ذلك ، فمثلا : قوله عليهالسلام «يعيد» ، تارة
يكون إخبارا عن الإعادة ، وأخرى يكون أمرا بالإعادة ، فهذا لا محذور فيه في مرحلة
المدلول التصوري ، بل المحذور فيه إنّما هو في مرحلة المدلول التصديقي.
والحاصل : هو أنّ
المدلول التصديقي في موارد قيام الامارة مقام القطع الطريقي هو مدلول إخباري ،
بينما هو في موارد قيامها مقام القطع الموضوعي هو مدلول إنشائي ، فالجمع بينهما في
خطاب واحد على
طريقة استعمال
اللفظ في الإنشاء والإخبار بحسب المدلول التصديقي لا التصوري إنّما هو أمر غير
عرفي ، نظير قوله «يعيد» وهو يريد بذلك ، إنشاء الأمر ، والإخبار عن الإعادة.
هذا حتّى ولو كان
المدلول التصوري للجمل المشتركة في الإنشاء والإخبار واحدا كما عرفت ذلك في بحث
الوضع.
وكأنّ صاحب
الكفاية «قده» كان يشعر بذلك ، ومن هنا حاول التعبير عن شعوره هذا ، لكن
بيانه جاء قاصرا لم يتطابق مع واقع شعوره بذلك ، فتمسك بما ذكرنا ، مع أنّ واقع
الإشكال عرفي لا عقلي كما عرفت ، فيبقى الدليل قاصرا عن إفادة كلا المطلبين ، وهو
إشكال إثباتي لا ثبوتي مرجعه إلى مرحلة المدلول التصديقي لا التصوري.
ثمّ إنّ الميرزا «قده»
أراد أن يتخلص من برهان صاحب الكفاية على الاستحالة فأفاد ، بأنّ دليل
الحجيّة إذا كان لسانه أنّ الامارة قطع وعلم ، فهذا اللّسان واف بكلا المطلبين
وذلك بتنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي ، من دون لزوم اجتماع اللحاظين ، بل
اللحاظ استقلالي فقط ، حيث يلحظ كلا من القطع والظن استقلالا ويقال : إنّ هذا هو
ذاك ، ولكن لا بنحو التنزيل ليلزم الإشكال من ناحية جعل المنجزية ، فإنّه لو كان
لسانه لسان تنزيل الظن منزلة القطع ، لكان مرجعه إلى جعل أحكام القطع للظن ، ومن
جملة أحكام القطع ، المنجزية ، فيرجع حينئذ إلى جعل المنجزية ، وهو محال عند
الميرزا «قده» ، لأنّه خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما مرّ معنا ، ولهذا أدخل
تعديلا على هذه العبارة وقال : إنّها بنحو الاعتبار لا التنزيل ، أي جعل الظن
واعتباره علما ، وهذا هو مبنى جعل الطريقية الّذي تقدّمت الإشارة إليه.
__________________
وهذا المبنى الّذي
ذهب إليه الميرزا استفاد منه سابقا في دفع الإشكال الثبوتي على إقامة الامارة مقام
القطع الطريقي ، بحيث كان يتنافى هناك مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث أجاب
هناك : بأنّ الامارة أصبحت علما ، فترفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأصبح
اللّابيان بيانا.
وهنا أراد الميرزا
«قده» أن يستفيد من هذا المبنى ، وهو إمكان الجمع بين التنزيلين بعبارة واحدة ،
وذلك لأنّ المولى حينما يعتبر غير العلم علما ، حينئذ يترتب عليه أمران : أحدهما ،
رفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وبارتفاع موضوعها ، يكون هذا هو معنى إقامة
غير العلم مقام القطع الطريقي ، والثاني : هو أنّ الدليل الّذي دلّ على أنّ «معلوم
الخمرية يحرم» ، يطبقه في محل الكلام ، لأنّ هذا معلوم الخمرية بالاعتبار ، فيشمله
حكمه ، من الاجتناب عنه وغير ذلك ، وهذا هو معنى قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي.
ولكن تحقيق الحال
في كلام الميرزا «قده» ، هو أنّ هذا الاعتبار ، وهو اعتبار الظن علما ، لو كان
يحقّق ورودا ـ بالمعنى المعروف من الورود في موارد الجمع العرفي ـ على قاعدة قبح
العقاب بلا بيان. وعلى دليل الحكم المترتب على القطع ـ بمعنى أنّه يرفع موضوع هذا
القاعدة حقيقة وينقح موضوعها ـ لو كان كذلك ، لتم ما أفاده.
وتوضيحه : إنّه
ذكر في بحث التعادل والتراجيح ، انّ الدليل الوارد ، هو عبارة عن الدليل الّذي
يحقّق موضوع الدليل المورود وجدانا ، أو يرفعه بواسطة التعبّد ، وفي مقابله الدليل
الحاكم ، وهو الّذي لا يرفع الموضوع للدليل المحكوم ولا يحقّقه كذلك وجدانا ، بل
بالتعبّد والعناية من قبيل ، «الطواف في البيت صلاة» ، وحينئذ نقول :
لو كان موضوع
قاعدة القبح هو عدم البيان بالمعنى الأعم من
العلم الحقيقي
والاعتباري ، إذن دليل جعل الظن علما يكون واردا على قاعدة القبح ، لأنّه بهذا
الجعل يصبح الظن علما اعتباريا حقيقة ، والمفروض انّ قاعدة القبح أخذ في موضوعها
عدم البيان والعلم بكلا قسميه ، والعلم والبيان هنا ، موجود بالوجود الاعتباري ،
وهذا معناه : ورود دليل الحجيّة على قاعدة القبح ، إذن هذا ورود من جانب ، وإذا
فرضنا أنّ دليل القطع الموضوعي القائل «إذا قطعت بخمريّة شيء وجبت إراقته» ،
فالإراقة هنا مترتبة على القطع بالخمرية ، فإذا كان موضوع الدليل هو القطع بالمعنى
الأعم من الوجود الحقيقي والاعتباري ، فحينئذ دليل الحجيّة الّذي مفاده جعل الظن
علما يكون واردا على دليل القطع الموضوعي ، لأنّه يحقّق فردا من موضوعه بالوجدان ،
وحينئذ ، في حالة صحة هذه الافتراضات ، سوف يكون دليل الحجيّة ـ والّذي مفاده جعل
الظن علما ـ سوف يكون واردا على دليل قاعدة القبح ، ووجوب إراقة مقطوع الخمرية ،
وقد ذكرنا في باب الورود ، انّه لا يشترط نظر الدليل الوارد إلى الدليل المورود ،
لأنّ الوارد يحقّق أو ينفي موضوع الدليل المورود حقيقة ، وعليه : فبدون أن ينظر ،
هو يحقّق موضوع الدليل المورود ، وبناء على هذا يتم كلام الميرزا «قده».
إلّا أنّ هذه
الافتراضات غير صحيحة ، وحينئذ لا يتم كلام الميرزا ولنا في المقام كلامان :
١ ـ الكلام الأول
: هو انّ هذه الافتراضات غير صحيحة.
٢ ـ الكلام الثاني
: هو أنّه بناء على عدم صحة هذه الافتراضات ، لا يكون كلامه تاما.
أمّا الكلام الأول
: وهو كون افتراضات الورود غير صحيحة لا في جانب قاعدة القبح ، ولا في جانب دليل
القطع الموضوعي.
أمّا من ناحية
قاعدة القبح ، فلمّا بيّناه سابقا من أنّ قاعدة القبح لم
ترد في آية ولا في
رواية بلفظ قاعدة القبح ، أو قبح العقاب بلا بيان ، وإنّما يدّعى أنّها قاعدة
عقلية ، فلو سلّمنا بذلك ، إلّا أنّنا نقول :
إنّ هذه القاعدة
إنّما يرتفع موضوعها فيما إذا صدر من المولى إنشاء ناظر إلى التكاليف الواقعية
المشكوكة ومبرز لشدّة اهتمام المولى بها ، لا مجرد الإنشاء ، وحينئذ ، بذلك يحصل
العلم بالقضية الشرطية ، وهي أنّه «لو كان التكليف الواقعي ثابت ، فهو مهم عند
المولى» ، وهذا العلم هو الّذي يوجب رفع موضوع القاعدة ، فدليل الحجيّة الّذي
مفاده إنشاء الطريقية ، وجعل الظن علما ، ليس مجرّد إنشائه يكون كافيا لرفع موضوع
القاعدة ، لأنّ ميزان القبح وعدمه ليس مجرد الإنشاء والألفاظ ، بل الميزان هو ،
إبراز شدّة الاهتمام بالنحو الّذي عرفت.
إذن فدليل الحجيّة
بالنسبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وارد ، لكن وروده هنا لا يكفي بمجرد
إنشاء الطريقية ، بل يحتاج لرفع موضوعها إلى عناية نظر إضافي وراء مجرد إنشاء
الطريقية ، وهو إبراز شدّة اهتمام المولى ، وإلّا فبدونه لا يكون رافعا لموضوع قاعدة
القبح.
وأمّا بلحاظ دليل
القطع الموضوعي ، أي دليل وجوب إراقة مقطوع الخمرية ، فمن الواضح انّ موضوع هذا
الدليل هو القطع ، والقطع لا يشمل إلّا أفراده الحقيقية دون العنائية منها ، وعليه
فمجرد إنشاء كون الظن علما في دليل الحجيّة لا يولّد تكوينا ووجدانا إطلاقا في
دليل وجوب الإراقة ، لأنّ هذا الدليل موضوعه العلم الوجداني كما هو ظاهره ، فإسراء
الحكم من القطع الوجداني إلى الفرد الادّعائي لا يتم بمجرد هذا الإنشاء ، بل يتم
بالنظر ، بمعنى انّ هذا الدليل يجب أن يكون حاكما ، ويكون تقدمه بالحكومة لا
بالورود ، والحاكم ، ملاك تقدمه هو ، النظر إلى الدليل المحكوم ، فهذا الدليل ،
وهو دليل الحجيّة ، هو يسرّى حكم ذاك إلى هنا ، لا أنّ ذاك الدليل هو الّذي سوف
يسري.
إذن : فعملية
الإسراء يتكفلها نفس دليل الحجيّة ، لا دليل القطع الموضوعي.
وهذا هو مورد
الفرق بين الورود والحكومة ، والإسراء يكون بنظر الدليل إلى وجوب الإراقة ، فيحتاج
دليل الحجيّة إلى نظر زائد إلى تلك الأحكام المترتبة على القطع الموضوعي.
٢ ـ الكلام الثاني
: هو أنّه بناء على ما اتضح في الكلام الأول ، حينئذ نفس الإشكال العرفي الّذي كان
يواجه عملية تنزيل الظن منزلة القطع ، والّذي هو روح كلام الآخوند «قده» ، يتم هنا
، لأنّ دليل الحجيّة الّذي مفاده اعتبار الظن علما ، يحتاج أن يكون له نظران في
مرحلة المدلول التصديقي ، أحدهما : نظره إلى الأدلة الواقعية ، وإبراز شدّة
الاهتمام.
والآخر : نظره إلى
أحكام القطع الموضوعي ، فكل منهما لا بدّ وأن يكون ملحوظا لدليل ، لأنّهما نظران
متغايران ، والعرف لا يتقبل جمعهما.
فإن تمّ هذا
الكلام في عملية التنزيل ، يصح هنا ، بل حتّى لو قطعنا النظر عن هذا ، وفرضنا
إمكان تكفل عملية التنزيل بكلا المطلبين تمسكا بإطلاق دليل التنزيل وقلنا : إنّ
المنجزية قابلة للجعل ، فنتمسك حينئذ بإطلاق دليل التنزيل ونقول : انّ الظن منزل
منزلة القطع بكل آثاره بما فيه المنجزية والمعذرية وإبراز شدّة الاهتمام بناء على
جعل الطريقية.
إلّا أنّ هذا لا
يفيد هنا ، بناء على جعل الطريقية ، لأنّ اعتبار الكاشفية ليس تنزيلا حتّى نتمسك
بإطلاقه بلحاظ الآثار ، إذن فنحتاج إلى قرينة عرفية على أنّ هذا الدليل ناظر إلى
أحكام القطع الموضوعي ، وما هو الدليل على نظره في سائر موارد الأدلة الحاكمة ،
فيما لو قيل مثلا : «الفقاع خمر» بنحو الحكومة ، فالنظر نثبته هنا بدلالة الاقتضاء
ونقول :
إنّه لو لم يكن
ناظرا إلى أحكام الخمر لكان هذا الكلام لغوا ، وأمّا هنا فدلالة الاقتضاء لا تتأتى
لأنّ هذا الكلام لا لغو فيه حتّى لو لم ينظر إلى أحكام القطع الموضوعي ، إذ يكفي
في إخراجه عن اللغوية أن يكون ناظرا إلى الحكم الواقعي ومنجزا للواقع ، فالقضية
هنا أشكل لو فرض أنّ العملية كانت تنزيلا ، إذ لو كان مفاد دليل الحجيّة هو
التنزيل ، إذن التنزيل معناه ، النظر إلى الآثار ، فإذا شكّكنا أنّه ناظر إلى
بعضها أو كلّها ، نتمسك بالإطلاق.
وأمّا على صياغة
الميرزا «قده» حينما يكون مفاد دليل الحجيّة اعتبار الظن علما ، فنفس المفاد الأولي
لم يؤخذ فيه نظر إلى الآثار ، فالنظر لها يحتاج إلى قرينة ، والقرينة العرفية في
سائر الموارد هي دلالة الاقتضاء ، ودلالة الاقتضاء لا تتأتى في المقام ، إذ يكفي
في رفع اللغوية إقامته مقام القطع الطريقي كما عرفت.
والخلاصة : هي
أنّه ـ كما عرفت ـ في موارد الدليل الوارد مع الدليل المورود ، لا يحتاج الوارد
إلى نظر إلى المورود ، لأنّ الدليل الوارد يتصرف في موضوعه تصرفا حقيقيا تكوينيا ،
وسريان حكم المورود إلى الفرد الّذي حقّقه الوارد يكون بنفس الدليل المورود ، لا
بالدليل الوارد ، لأنّ هذا الفرد مصداقا لموضوعه حقيقة ، فإطلاق دليل المورد يكون
شاملا له.
وأمّا في موارد
الدليل الحاكم ، فسريان حكم الدليل الحاكم إلى المورد الّذي تمّت فيه الحاكمية ،
لا يكون بإطلاق الدليل المحكوم ، لأنّ هذا مجرد فرد عنائي له ، فلا يشمله إطلاق
الدليل المحكوم ، وإنّما يكون إسراء الحكم إلى مورد الدليل الحاكم ببركة الدليل
الحاكم ، ومن هنا احتاج الدليل الحاكم إلى أن يكون ناظرا إلى الدليل المحكوم ، كي
يكون بهذا النظر متكفلا بإسراء حكمه إلى مورده.
وحينئذ بناء عليه
قلنا : إنّ لنا كلامان مع الميرزا «قده» ، وذلك أنّ كلامه في جعل الطريقية يتمّ ،
لو فرض أنّ دليل جعل الطريقية يكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وكان
واردا على دليل القطع الموضوعي ، وموجدا فردا حقيقيا في موضوع ذاك الدليل ، حينئذ
يتمّ كلام الميرزا «قده» ، إذ بعملية جعل الطريقية ، وبلا حاجة إلى نظر ، لا إلى
ذاك الدليل ، ولا هذا ، يترتب كلا المطلبين.
لكن قلنا إنّ هذه
الفرضية غير صحيحة ، فإنّ دليل الحجيّة الّذي لسانه جعل الطريقية بالنسبة إلى
قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ليس واردا بمجرد إنشاء الطريقية ، وإنّما يكون واردا
إذا رفع ملاك قبح العقاب بلا بيان ، وذلك بأن يبرز شدّة اهتمام المولى بالأحكام
الواقعية المشكوكة ، فورود دليل الحجيّة على قاعدة القبح فرع أن يكون ناظرا إلى
الأحكام الواقعية ومبرزا شدّة اهتمامه بها ، إذن فهذا الورود بحاجة إلى هذا النظر.
وأمّا حكومة دليل
الحجيّة على دليل القطع الموضوعي ، فمن الواضح انّ هذا بحاجة لأن يكون دليل
الحجيّة ناظرا إلى دليل القطع الموضوعي ، لأنّ دليل الطريقية لا يحقّق ورودا
بالنسبة إلى دليل القطع الموضوعي ، أي أنّه لا يوجد فردا حقيقيا من موضوعه ، بل
يوجد فردا عنائيا ، والفرد العنائي لا يشمله إطلاق الدليل المحكوم ، بل يحتاج
إسراء الحكم إليه ، إلى نظر بالنحو الّذي عرفت ، إذن ، فدليل الحجيّة يحتاج إلى
نظرين حال إقامته مقام القطعين ، الموضوعي والطريقي ، نظر إلى الأحكام الواقعية
ونظر إلى أحكام القطع الموضوعي.
إذن فكلامنا
الثاني هو ، أنّه ما دام دليل الحجيّة بحاجة إلى نظرين ليتمّ كلا المطلبين ، إذن
لا يتمّ ما أراده الميرزا «قده» في مقام جعل الطريقية.
ثمّ إنّه هنا لنا
إشكالان على الميرزا «قده».
١ ـ الإشكال الأول
: وهو ـ كما عرفته سابقا ـ انّ دليل الحجيّة
الّذي مفاده
الطريقية سوف يتوجه عليه نفس الإشكال العرفي المتقدّم والّذي طرحه الآخوند «قده» ،
بل المطلب هنا أشدّ إشكالا ممّا سبق.
٢ ـ الإشكال
الثاني : هو أنّه لا يوجد عندنا عبارة واردة في دليل لفظي تقول : «إنّ الظن علم»
لنبحث في انّ هذا التعبير هل هو تنزيل أو واعتبار ، وعلى تقدير كونه اعتبارا ، فهل
يفي بقيام الامارة مقام القطعين الطريقي والموضوعي أو لا يفي.
إذن فيجب أن نرجع
إلى دليل الحجيّة ، ومن الواضح أنّه في الأدلة اللفظية على الحجيّة ، لا يوجد مثل
هذا التعبير ، وإنّما المهم من دليل الحجيّة في الشّبهات الحكمية هو السيرة
العقلائية الّتي هي دليل لبّي ، فينظر إلى مقدار ما انعقدت عليه ، وهذا لا ربط له
بالجعل الواحد ، والعبارة الواحدة ، فقد تكون هناك عبارة واحدة وافية بالمطلبين
معا ، ولكن السيرة غير وافية بذلك ، وقد يكون العكس.
واللطيف في المقام
انّ الميرزا «قده» في بحث كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ـ بعد أن
حاول الجمع بينهما على أساس جعل الطريقية والكاشفية ـ استدلّ على إثبات كون
المجعول في الامارات هو الطريقية ، لا بدعوى استظهاره من الأدلة اللفظية ، بل
بدعوى انّ الأدلة اللفظة كلها مسوقة لبيان الإمضاء للمرتكزات العرفية ، وإتمامهم
الدليل على حجيّة جعل الطريقية إنّما هو السيرة العقلائية ، فإنّها قائمة على جعل
الطريقية للامارة ، وجعلها علما ، لا على جعل أحكام تكليفية ظاهرية.
ثمّ إنّه بعد
دعواه هذه قال : نحن بالإمضاء الشرعي نثبت هذه السيرة ، وما دامت السيرة مبنيّة
على جعل الطريقية ، إذن فبالإمضاء الشرعي نستكشف جعل الطريقية.
وهذا الطريق
لإثبات الطريقية سوف تأتي مناقشته.
لكن لو فرض تمامية
هذا الطريق ، وفرض أنّ جعل الطريقية تثبت بالسيرة العقلائية ، حينئذ نحن يجب أن
نرجع إلى هذه السيرة لنرى أنّها هل هي ناظرة إلى أحكام القطع الموضوعي أيضا ، أو
أنّها ناظرة إلى الأحكام الواقعية وتنجيزها بالامارة فقط.
ودعوى كونها ناظرة
إلى أحكام القطع الموضوعي ، تارة ، يراد بها أنّها ناظرة إلى أحكام القطع الموضوعي
الثابتة عند العقلاء فيما بينهم ، أي أنّهم فيما بينهم بانون على أنّ الامارة
مجعولة علما بلحاظ تنجيز ما بينهم من الأحكام الواقعية ، وبلحاظ إسراء أحكام القطع
الموضوعي المجعولة عند العقلاء حيث أنّ شأن العقلاء أن يجعلوا الامارة بلحاظ
أحكامهم وشرعتهم ، بلحاظ تنجيز الواقع ، وبلحاظ أحكام القطع الموضوعي ، وانّ
الشارع أمضى هذا فيهم.
وهذه الدعوى غير
تامة ، باعتبار أنّه متى كان للعقلاء أحكام للقطع الموضوعي لنستكشف ما ذكره الميرزا
«قده» ، إذ أنّ مثل هذه الأحكام غير معهودة عندهم.
وتارة ، أخرى
يدّعى أنّ العقلاء ، حينما نظروا إلى القطع الموضوعي وأحكامه ، لم ينظروا إلى
أحكامه عندهم ، بل نظروا إلى أحكامه عند الشارع.
وحينئذ فإن ادعي
هكذا ، فهذا أوضح بطلانا ، لأنّ هذا تشريع ليس من صلاحياتهم ، إذ كل تشريع ينظر
تشريعات نفسه ، لا إلى تشريعات غيره ، وعليه : فلا يمكن الاستدلال بدليل الحجيّة
حتّى لو كان مفاده جعل الطريقية على إقامة الامارة مقام القطع الموضوعي ، لأنّ
دليل الحجيّة ليس لفظيا ليتوهم الإطلاق فيه ، وإنّما هو السيرة العقلائية ، والسيرة
إنّما انعقدت على جعل الظن علما بلحاظ تنجيز التكاليف الواقعية كما عرفت ،
أمّا إقامة
الامارة مقام القطع الموضوعي ، فهذا غير محرز منهم ، ولا أقل من الشك بالنسبة إلى
إقامة الامارة مقام القطع الموضوعي ، فيكون دليل الحجيّة قاصرا عن إثبات ما زاد
على القدر المتيقن ، والقدر المتيقن إنّما هو إقامة الامارة مقام القطع الطريقي
دون الموضوعي.
وإلى هنا ينتهي
الكلام مع الميرزا «قده» ، ومن خلال ذلك اتضح حساب النقطة الأولى ، حيث كان الكلام
في نقطتين ، وقد قلنا في الأولى : إنّ هناك خطأ في منهجية البحث ، حيث فرض أنّ التعامل
وكأنّه مع دليل لفظي ، مع أنّه لا يوجد شيء من هذا القبيل ، بل الموجود هو السيرة
فقط ، وهي دليل لبّي يؤخذ منه بما انعقد عليه يقينا ، ولا يتوهم فيه الإطلاق ، وقد
عرفت أنّه عاجز عن إثبات ما زاد على إقامة الامارة مقام القطع الطريقي دون
الموضوعي ، ثمّ يقع الكلام مع المعلق الثاني على النقطة الأولى.
٢ ـ النقطة
الثانية : وفيها نبحث فيما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على الرّسائل تعليقا على نفسه ، حيث حاول تصوير وفاء دليل
الحجيّة لكلا التنزيلين ، بحيث تقوم الامارة مقام القطعين الطريقي والموضوعي من
دون أن يلزم محذور اجتماع اللحاظين ، وذلك بأن يقال : إنّ دليل الحجيّة بمدلوله
المطابقي ناظر إلى تنزيل الظن منزلة القطع الطريقي الّذي هو معنى الحجيّة ، وتنزيل
الظن منزلة القطع الطريقي معناه ـ بحسب إشكال الكفاية ـ تنزيل المظنون منزلة
المقطوع ، فالمدلول المطابقي لدليل الحجيّة هو ، تنزيل الظن باللحاظ الآلي منزلة
القطع بهذا اللحاظ أيضا ، وبهذا ينتج دليل الحجيّة ـ ببركة هذا الدليل ـ واقعا
جعليا ، فإنّه بعد تنزيل مظنون الخمرية منزلة مقطوع الخمرية ، يصير
__________________
عندنا خمر جعلي
تنزيلي ، وحينئذ يدّعى انّ دليل الحجيّة يدلّ بالدلالة الالتزامية على تنزيل آخر ،
وهو تنزيل القطع بهذا الواقع الجعلي ، منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وهذان
التنزيلان لم يجتمعا في مفاد واحد ونظر واحد ليلزم محذور اجتماع اللحاظين ، بل
أحدهما مفاد مطابقي للدليل ، والآخر مفاد التزامي له ، ومن مجموع التنزيلين يحصل
المطلوب ، وهو قيام الامارة مقام القطعين الطريقي والموضوعي.
لكن لم يوضح لنا
صاحب الكفاية «قده» أنّه ما هو ملاك هذه الدلالة الالتزامية ، ولما ذا يفترض أنّ
دليل الحجيّة ـ الدال بالدلالة المطابقية على تنزيل المظنون منزلة الواقع ـ يكون
له دلالة التزامية بالنحو المتقدّم ، فإنّه لا تلازم عقلي ولا منطقي بين هذين
التنزيلين.
وهذا التلازم له
وجهان.
١ ـ الوجه الأول :
هو أن يدّعى بأنّ هناك دلالة التزامية عرفية ، فهو وإن كان لا يوجد ملازمة منطقية
كي يصبح المظنون خمرا جعليا ، وبين أن يصبح القطع بالخمر الجعلي قطعا بالخمر
الواقعي ، لكن هناك تلازم عرفي بينهما ، باعتبار أنّ العرف لعدم تمييزه بين النكات
وعدم دقة نظره ، يرى أنّه ما دام أصبح مظنون الخمرية خمرا جعليا تنزيليا ، إذن
يلزم أن يكون القطع به كالقطع بذاك ، وحينئذ تنشأ دلالة التزامية عرفية ، لا
منطقية ولا عقلية.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو أن يقال : بأنّ هذه الملازمة تثبت بدلالة الاقتضاء ، وصونا للمفاد عن اللغوية
، وذلك بأن نفرض موردا يكون الحكم فيه مترتبا على جزءين ، أحدهما الخمرية الواقعية
، والآخر ، القطع بالخمرية ، كما لو قال المولى : «إذا كان هذا خمر في الواقع ،
وقطعت بخمريته ، فيجب إراقته» ، بحيث كان موضوع الحكم مركبا من جزءين ، ونفرض أنّ
الامارة قامت على الخمرية ، فهنا نفرض أنّ الخمرية
في نفسها ليست
موضوعة لحكم شرعي ، وإنّما الأثر هو للخمرية مع القطع بها ، فلو فرض أنّ الامارة
قامت على خمرية هذا المائع ، فدليل الحجيّة يقول : بمدلوله المطابقي ، نزلت
المظنون منزلة الواقع المقطوع ، وهذا التنزيل أحرز جزء الموضوع للحكم ، وأمّا
الجزء الآخر وهو القطع بالخمرية ، لم يحرز بهذا التنزيل ، وحينئذ إذا لم نستفد من
تنزيل آخر إحراز الجزء الآخر ، فيكون هذا التنزيل لغوا لأنّه يحرز جزء الموضوع فقط
، وهذا لا يفيد إذا كان الجزء الآخر غير محقّق ، فيكون لغوا لو لم نستكشف في طوله
تنزيلا آخر.
إذن فبدلالة
الاقتضاء ، نستكشف تنزيلا آخر يصون دليل الحجيّة عن اللغوية وانّ شيئا «ما» قد
نزّل منزلة القطع بالخمرية ، وإن كانت دلالة الاقتضاء لا تعيّن هذا المنزّل حينئذ
، فبمناسبة الحكم والموضوع والأسباب العرفية نقول : إذا كان الشارع قد نزّل شيئا
منزلة القطع بالخمرية ، فالمناسب أن يكون ذلك الشيء هو القطع الجعلي ، إذن ،
فالمناسبة تضمّ إلى دلالة الاقتضاء ، فتنتج مدلولا التزاميا.
والوجه الأول هو
مفاد كلام الآخوند «قده» في حاشيته على رسائل الشيخ «قده» ، والوجه الثاني هو للمحقّق الأصفهاني «قده» تفسيرا للكلام الآخوند «قده».
وهذا الكلام قد
اعترض عليه الآخوند نفسه في الكفاية حيث أفاد ، بأنّ ما ذكره غير معقول.
وبيان اعتراضه
بوجه فني ، يكون بتوضيح مقدمتين ، يتضح من خلالهما عدم معقولية كلامه.
__________________
١ ـ المقدّمة
الأولى : هي أنّ هذين التنزيلين الّذين أحدهما مدلول مطابقي ، والآخر مدلول
التزامي ، هما تنزيلان طوليان لا عرضيان ، حيث أنّ المستفاد بالالتزام في طول
المستفاد بالمطابقة ، وليس المقصود بالطولية أنّها طولية في مقام الامارة والدلالة
، باعتبار أنّ الدلالة الالتزامية في طول الدلالة المطابقية ، بل المقصود الطولية
ثبوتا ، وذلك لأنّ هذا التنزيل الثاني ، تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع
بالخمر الواقعي ، إذن هذا التنزيل بعد فرض وجود ذات المنزّل والمنزّل عليه ، فهو
في طول ذلك ، إذن فالتنزيل هنا فرع أن يكون قطع بالواقع الجعلي ، وأن يكون قطع
بالواقع الحقيقي ، حينئذ يفرض تنزيل هذا منزلة ذاك ، والقطع بالواقع الجعلي في طول
الواقع الجعلي ، والواقع الجعلي كان ببركة التنزيل الأول ، إذن التنزيل الثاني في
طول الأول.
٢ ـ المقدّمة
الثانية : هي أن يقال : بأنّ الحكم له متعلق ، وله موضوع ، فإذا فرض أنّ الحكم كان
له موضوع ، وكان الموضوع مركبا من جزءين ، وأريد تنزيل شيء منزلة هذا الجزء ،
وتنزيل شيء منزلة ذاك الجزء ، كما إذا فرض أنّ حجيّة قول المفتي موضوعها مركب من
جزءين ، هما ، الاجتهاد والعدالة ، وأريد تنزيل شيء منزلة الاجتهاد ، وتنزيل شيء آخر
منزلة العدالة ، فيجب أن يكون التنزيلان عرضيين ، ويستحيل غير ذلك ، وذلك ، انّ
الحكم بالنسبة لمتعلقه يتحصّص ، كما في الوجوب بالنسبة إلى الصّلاة حيث يتحصّص
بالفاتحة وغيرها من أركان الصّلاة ، فإذا أردنا أن ننزل شيئا منزلة جزء الواجب ،
فننزله منزلته بلحاظ حصة من الوجوب وليس لنا شغل بالنسبة للباقي من الحصص ، هذا
بلحاظ المتعلق ، وأمّا بلحاظ الموضوع إذا كان مركبا من جزءين ، فالحكم لا يتحصّص
بحصتين ، فحجيّة قول المفتي مثلا ليس نصفها على الاجتهاد ، ونصفها الآخر على
العدالة ، بل هو حكم واحد ، فهنا يجب أن يكون هذا التنزيل ضمنه تنزيل شيء آخر
منزلة الشيء الآخر ، فالتنزيل
بلحاظ كلا الجزءين
يجب أن يكون بلحاظ هذا الحكم الواحد ، وهذا معناه : انّه تنزيل واحد لا تنزيلين.
وهذا يبرهن ، على
أنّ تنزيل شيء منزلة أحد الجزءين لا يعقل أن يكون متأخرا لا رتبة ولا زمانا عن
تنزيل ذاك الشيء منزلة الجزء الآخر ، وحينئذ إذا تمّت هاتان المقدّمتان تتبرهن
الاستحالة ، فيقال : إنّ التنزيلين المفترضين في الحاشية طوليان ، ويستحيل أن يكون
التنزيلان لجزئي الموضوع طوليين ، كما برهن في المقدّمة الثانية.
هذا هو إشكال صاحب
الكفاية في الكفاية على نفسه في حاشيته على رسائل الشيخ «قده» ، وبه لا يتم إذن
كلامه في الحاشية.
والخلاصة : هي أنّ
إشكال صاحب الكفاية على حاشية نفسه على الرّسائل ، يرجع إلى مقدمتين.
وكانت الأولى تقول
: إنّ التنزيلين طوليان.
وكانت الثانية
تقول : إنّه يستحيل أن يكون التنزيلان لجزئي الموضوع لحكم واحد طوليين.
وحينئذ بحسب
المفروض من كلامه ، على أساسه ، لا يكون وافيا كما عرفت.
والّذي يتراءى من
عبارته في الكفاية ، أنّه يريد أن يستشكل على التنزيلين الطوليين بإشكال الدور ،
وإنّ كلا منهما يتوقف على الآخر.
ولعلّ تفسير كلام
صاحب الكفاية أتمّ ممّا يتراءى من ظاهر كلامه في الاعتراض بإشكال الدور.
وأمّا بناء على ما
ذكرناه ، فالمسألة لا تحتاج إلى صياغة إشكال الدور ، بل مرجعها إلى أنّ الحكم
الواحد لا يتصور له إلّا تنزيل واحد ، إذ أنّ جزأي موضوع حكم واحد يجب أن يكون
تنزيلهما ضمن تنزيل
واحد بلا حاجة إلى
ضمّ صيغة الدور ، هذا ، على أنّ في عبارته تشويش ، منشؤه ، أنّه لم يعلم منه «قده»
، انّ هذا الدور ، هل يريد أن يجريه بين الدلالتين بحسب مقام الإثبات ، أي بين
الدلالة على تنزيل المظنون منزلة الواقع ، الّتي هي دلالة مطابقية ، وبين الدلالة
الالتزامية ، على تنزيل القطع بالواقع الجعلي ، منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، فهل
الدور بين الدلالتين ، أو هو بين المدلولين؟
أمّا تقريب الدور
بين الدلالتين فهو أنّ يقال : إنّ الدلالة المطابقية لدليل الحجيّة على تنزيل
المؤدى والمظنون منزلة الواقع ، تتوقف على ضم تلك الدلالة الأخرى ، أي على تنزيل
شيء منزلة الجزء الآخر من الموضوع ، إذ لو لم نضم الدلالة الثانية لكانت الأولى
لغوا ، إذن الدلالة المطابقية على حفظ الجزء الأول من الموضوع بالتنزيل ، تتوقف
على الدلالة الثانية الالتزامية ، والدلالة الالتزامية هذه ، تتوقف على الدلالة
المطابقية ، لأنّ الدلالة الالتزامية في طول الدلالة المطابقية ومعلولة لها ، وهذا
دور.
وهذا التقريب غير
تام ، وشبيه بالمغالطة ، وذلك لأنّ هذا التقريب بنفسه يجري في التنزيلين العرضيّين
أيضا ، كما لو فرض أنّنا حوّلنا الدلالة الالتزامية إلى دلالة مطابقية ، وفرضنا
أنّ دليل الحجيّة له دلالتان مطابقيتان ، إحداهما على تنزيل المظنون منزلة الواقع
، والأخرى على تنزيل الظن منزلة القطع ، وأغمضنا النظر عن إشكال اللحاظ الآلي
والاستقلالي ، فإنّه رغم هذا ، يأتي إشكال الدور ، لأنّ كلا من الدلالتين متوقفة
على الأخرى ، لأنّ كلا منهما بدون الأخرى لغو ، لأنّ حفظ أحد الجزءين بدون الآخر
لغو ، وينتج ذلك استحالة تنزيل شيئين منزلة جزأي الموضوع ولو في عرض واحد ، إذن
فهذه مغالطة.
وحلّها هو ، إنّ
كلا من الدلالتين لا تتوقف على فعليّة الدلالة
الأخرى وسد تمام
أبواب عدمها ، بل تتوقف على عدم المائع في الدلالة الأخرى من سائر الجهات غير
جهتها نفسها.
وبعبارة أخرى ،
سدّ سائر أبواب العدم للدلالة الأولى من غير ناحيتها هي ، فكل من الدلالتين يتوقف
على أن يكون باب العدم للأخرى مفتوحا من غير ناحيتها ، وأن يكون من غير ناحيتها
الدلالة الثانية تامة ، إذن فالمناط هو في صدق الشرطية ، وهي «أنّه لو كانت هذه
لكانت تلك» ، فكل منهما يتوقف على صدق شرطية من هذا القبيل ، وحينئذ يرتفع الدور
في المقام ، فإنّ الدلالة الالتزامية هنا وإن كانت معلولة للدلالة المطابقية ،
إلّا أنّ الدلالة المطابقية ليست معلولة للدلالة الالتزامية ، بل هي معلولة للقضية
الشرطية ، وهي «أنّه لو كانت الدلالة المطابقية ، لكانت الدلالة الالتزامية» وصدّق
الشرطية فعلي لا يتوقف على صدق الطرفين ، إذن لا دور.
وقد يقرب الدور
بلحاظ المدلول ، أي بلحاظ نفس التنزيلين ، بأن يقال :
إنّ تنزيل المظنون
منزلة الواقع يتوقف على التنزيل الثاني ، إذ بدون التنزيل الثاني ، يكون الأول
لغوا ، والتنزيل الثاني هو تنزيل القطع بالواقع الجعلي ، منزلة القطع بالواقع
الحقيقي ، وتنزيل القطع بالواقع الجعلي فرع القطع بالواقع الجعلي ، فلكي يكون هناك
قطع بالواقع الجعلي ، لا بدّ أن يكون هناك واقع جعلي ، والمفروض أنّ الواقع الجعلي
نشأ من التنزيل الأول ، إذن يتوقف أن يكون الثاني متوقف على الأول.
وهذه الصياغة
مغالطة أيضا ، لأنّ صياغة بهذا النحو يمكن إجراؤها حتّى لو لم يكن المنزل في
التنزيل الثاني هو القطع بالواقع الجعلي ، بل حتّى لو نزّل نزول المطر منزلة القطع
بالخمرية ، فإنّ نزول المطر ليس في طول التنزيل الأول ، فحينئذ تكون صورة المغالطة
بأن يقال :
إنّ الأول متوقف
على الثاني ، والثاني متوقف على الأول ، إذ الثاني بدون الأول لغو ، فكل منهما
متوقف على الآخر لأنّه بدونه لغو ، وهذه مغالطة.
وحلّ ذلك هو أن
يقال : إنّ التنزيل الأول ليس موقوفا على فعلية الثاني ، بل الأول والثاني
بمجموعهما يصدران معا ، باعتبار ان أحدهما بدون الآخر يكون لغوا ، إذن فكلاهما
يصدران معا ، إذن فالتنزيل الأول يتوقف على رفع اللغوية ، ورفعها يكفي فيه صدق
الشرطية ، وهي «أنّه لو كان التنزيل الأول لكان التنزيل الثاني» إذ يكفي في رفع
اللغوية ذلك ، إذن فلا دور ، إذن فصياغة الدور غير واردة لا إثباتا ولا ثبوتا ،
وكل من التنزيلين بحسب عالم الجعل ليس في طول الجعل الآخر ، بل الجعلان عرضيان ،
والأحسن في مقام تقريب إشكال الكفاية هو ما ذكرنا سابقا.
٣ ـ الكلام الثالث
: هو للمحقّق العراقي «قده» إشكالا على الكفاية وانتصارا لما جاء في الحاشية ودفعا
لمحذور استحالة طولية التنزيلين في المقام ، حيث أفاد بأنّه لا مانع من أن يكون
تنزيل بلحاظ كل جزء ، تنزيلا مستقلا مفصولا عن التنزيل الآخر ، سواء كان متقدما أم
متأخرا عنه رتبة ، لأنّ المولى حينما يجعل حكما كوجوب الحج ، على الموضوع المركب
من البلوغ والاستطاعة ، فكل من الجزءين يكون له حكم تعليقي ، فالاستطاعة حكمها هو
وجوب الحج لو انضم إليها البلوغ ، والبلوغ حكمه وجوب الحج لو انضم إليه الاستطاعة
، فالمولى حينما يجعل وجوب الحج على البالغ المستطيع ، يكون موضوعه كل من الجزءين
لأثر تعليقي ، وإذا كان كل من الجزءين موضوع لحكم تعليقي ، إذن فالتنزيل يكون لكل
من الجزءين مستقلا بلحاظ أثره التعليقي ، فليس
__________________
هناك عملية تنزيل
واحدة ، لأنّه ليس هناك أثر واحد ، بل أثران ، كل منهما مترتب على أحد الجزءين
بشرط انضمام الآخر إليه ، إذن فالمولى في مقام التنزيل لا يطلب أكثر من إسراء هذا
الحكم التعليقي على المنزل ، وبما أنّ هذا الحكم التعليقي تمام موضوعه نفس الجزء ،
إذن يمكن أخذه في موضوع التنزيل الآخر للجزء الآخر من دون محذور استحالة طولية
التنزيلين في المقام.
والتحقيق انّ كل
هذه الكلمات غير صحيحة.
أمّا ما ذكره
العراقي «قده» فيرد عليه اعتراضان.
١ ـ الاعتراض
الأول : هو انّ افتراض وجود أثرين وحكمين تعليقيين لجزأي الموضوع ، مرجعه بحسب
الحقيقة إلى انّ المولى بعد ان يجعل حكمه الواحد ، وهو «وجوب الحج» على موضوعه
المقدر الوجود على نهج القضية الحقيقية ، حينئذ العقل ينتزع من هذا الجعل الواحد
جعلين انتزاعيين ، جعلا ، لسانه ، «إنّ البالغ إذا استطاع يجب عليه الحج» ، وجعلا
آخر ، لسانه ، «إنّ المستطيع إذا بلغ يجب عليه الحج» ، وهذان جعلان منتزعان من ذلك
الجعل الواحد ، وليسا جعلين صادرين من الشارع حقيقة ، وإلّا للزم تعدّد الوجوب
بتعدّد الجعل ، وحينئذ فدليل التنزيل بلحاظ كل جزء إذا كان المقصود به عملا
إنشائيا ، أي انّه ينشئ الجعل بهذا الدليل ، فيجب أن يكون إنشاء هذا الأثر
التعليقي بإنشاء منشأ انتزاعه ، وهو ذاك الحكم الواحد المترتب على المجموع المركب
، إذن فإنّ هذين الأثرين التعليقيين ليسا مجعولين استقلالا ، وإنّما هما منتزعان
عن ذاك المجعول الواحد ، فإذا أريد بتنزيل شيء منزلة جزأي الأثر التعليقي على نحو
يكون جملة إنشائية ، فحينئذ لا بدّ وأن يكون إنشاؤه بإنشاء منشأ انتزاعه ، وحيث
انّ منشأ انتزاعه حكم واحد ، إذن فلا بدّ حينئذ وأن يرجع كلا التنزيلين إلى تنزيل
واحد.
نعم لو كان هذا
التنزيل بنحو الإخبار ، فلا بأس بأن يخبر بكل منهما ، فيقول : انّ هذا منزّل منزلة
ذاك في الأثر التعليقي ، وكذا يقول في الطرف الثاني ، لأنّ مرجع الإخبارين إلى
الإخبار عن وجود تنزيل واحد للمجموع منزلة المجموع المركب.
والتحقيق فيه هو ،
انّه تارة نبني على انّ التنزيل عملية ثبوتية ، ومرجعها إلى جعل الحكم على المنزل
تبعا لثبوته في المنزل عليه بحيث يكون التنزيل عملية ثبوتية ويكون مضمونها هو جعل
الحكم وإسراؤه من المنزل عليه إلى المنزل ، وهذا هو مبنى صاحب الكفاية «قده».
وأخرى ، نبني على
انّ التنزيل شيء يرجع إلى اللّسان الإثباتي ويكون من شئون وخصوصيات البيان في
الدليل الشرعي ، وذلك بأن يقال : إنّ المولى حينما يحكم بوجوب الحج على المستطيع
ويبيّن ذلك بدليل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، فهنا تارة يقول ذلك ولا يجعل عدلا للاستطاعة ، وأخرى
يأخذ البدل عدلا للاستطاعة كقوله : «يجب الحج على المستطيع أو من يجد الزاد
والراحلة» ، فإن فرض الثاني كما إذا قال : «من كان مستطيعا ، أو من بذل له الزاد
يجب عليه الحج» ، ففي مثله يقال : إنّ الحكم متعلق بالجامع بين الأمرين ، بين من
كان مستطيعا ، وبين من بذل له الزاد.
وأخرى ، نفرض انّ
الدليل يكون بلسان «من كان مستطيعا يجب عليه الحج» ، فهذا اللّسان لا يفي بإيجاب
الحج على من بذل له الزاد ، فحينئذ ، يكون قوله : «أو من بذل له الزاد» مبين ببيان
منفصل ، والبيان المناسب له هو أن يقال : مثلا «نزّلت من بذل له الزاد والراحلة
منزلة المستطيع» ، فهذا التنزيل مرجعه إلى التعويض عن القرينة المتصلة ، فوظيفته
وظيفة بحسب مقام الإثبات وليس التنزيل بابه باب الجعل وإسراء الحكم من المنزل عليه
إلى المنزل.
إذن فعملية
التنزيل لها فهمان :
الأول : أن يكون
التنزيل عملية ثبوتية ، عالمها نفس المولى قبل أن يتكلم بشيء ، ومضمون هذه العملية
هو جعل الحكم.
الثاني : هو أن
تكون عملية التنزيل عملية بيانية بحسب مقام الإثبات ، وحينئذ إذا بنينا على الثاني
، إذن لا موضوع لكلام المحقّق العراقي ولا لكلام الآخوند «قده» ، لأنّ عملية
التنزيل إذا كانت مجرد عملية بيانية ، فلا يتمّ كلا الكلامين ، لأنّ التنزيل ليس
عبارة عن جعل الحكم ليقال : إنّه إذا كان حكم واحد فلا بدّ أن يكون هناك تنزيل
واحد كما يقول الآخوند «قده» ، ذلك انّ التنزيل ليس جعل الحكم ، بل هو طرز بيان
لسعة دائرة الحكم ، كما انّ كلام العراقي «قده» لا يتمّ ، لأنّ تعدّد التنزيل أمر
إثباتي لا ربط له بتعدّد الحكم كي نفتش عن حكمين تنزيليين ، بل حتّى لو لم يوجد
إلّا حكم واحد ، فمع هذا يعقل تعدّده ، ففي الدليل الأول نقول : «المستطيع البالغ
يجب عليه الحج» ، وبعد هذا يريد التعويض عن «أو» فيقول : «البذل بمنزلة الاستطاعة»
، ثمّ يعوض عن «أو» مرّة أخرى فيقول : «الرشد بمنزلة البلوغ».
فبعد ضم هذين إلى
الدليل الأول ، تكون النتيجة انّه إذا تحقّقت الاستطاعة والبذل والبلوغ أو الرشد ،
يجب الحج ، فتعدد القرائن المنفصلة لا ينافي مع وحدة الحكم.
إذن ، فبناء على
الفهم الثاني لعملية التنزيل لا يتمّ كلا الكلامين.
وأمّا لو بني على
الفهم الأول ، وهو كون عملية التنزيل عملية ثبوتية ومضمونها ثبوتي في نفس المولى ،
وهو جعل الحكم ، حينئذ ، يكون معنى التنزيل جعل الحكم وإسراؤه من موضوع لآخر ،
وحينئذ يكون لكلام الآخوند «قده» صورة ، وهو انّ التنزيل إذا كان كذلك ، حينئذ ،
إذا كان عندنا حكم واحد فلا يكون عندنا إلّا تنزيل واحد ،
وحينئذ ، العراقي «قده»
يفتش عن حكمين كي يتعدّد التنزيل فيقول : إنّ كل واحد من جزأي الموضوع له حكم
تعليقي كما تقدّم تفصيله.
لكن هذا غير تام
في مقام الجواب على إشكال الكفاية ، ويردّ عليه.
أولا : إنّ هذا
الحكم التعليقي الّذي فرضه للاستطاعة ، والحكم التعليقي الّذي فرضه للبلوغ ، هما
ليسا حكمين مجعولين حقيقة ، وإلّا للزم تعدّد الحكم ، ويكون الحج واجب مرتين على
من بلغ واستطاع ، وهو خلف ، بل هذان الحكمان منتزعان من نفس جعل ذاك الحكم الواحد
لوجوب الحج على الموضوع المركب.
نعم العقل ينتزع
من هذا الجعل الواحد عنوانين انتزاعيين كما عرفت ، فهما مجعولان بتبع منشأ
انتزاعهما.
ثانيا : لو فرض
انّ عملية التنزيل كانت عملية ثبوتية مرجعها إلى الجعل وإسراء الحكم من مورد لآخر
، إذن ، فهذا الحكم التعليقي لا يعقل إسراؤه إلّا بإسراء منشأ انتزاعه ، وحيث انّ
كليهما منشأ انتزاعهما واحد ، إذن فيعود الإشكال.
الاعتراض الثاني :
هو انّنا لو تعاملنا مع هذين الحكمين التعليقيين كحكمين قابلين للجعل مباشرة ،
حينئذ نقول : إنّ عندنا تنزيلان ، تنزيل للبذل ، منزلة الاستطاعة ، وتنزيل للرشد
منزلة البلوغ ، وكل منهما يكون بلحاظ الأثر التعليقي ، ففي الأول ، وهو تنزيل
البذل منزلة الاستطاعة ، فالأثر التعليقي هو وجوب الحج ، فهنا نسأل : إنّ الأثر
التعليقي الّذي لوحظ عند التنزيل ، وأسري بتنزيل البذل منزلة الاستطاعة ، فهذا
الوجوب ، هل هو وجوب الحج المعلق على البلوغ؟ فإذا كان هو ، إذن ينتج أنّه لو انّ
هذا الإنسان بذل له الزاد وكان بالغا فيجب عليه الحج ،
لكنّه لا ينتج ـ أنّه
إذا بذل له وكان راشدا ـ أنّه يجب عليه الحج ، هذا بمقتضى التنزيل منزلة الجزءين
لا أحدهما ، فلو كان المقصود التعويض عن أحد الجزءين لما اتجه الإشكال أصلا كما
صرّح هو به ، لأنّه يأخذ ذاك الجزء الوجداني في الجزء الّذي يريد أن ينزله منزلة
شيء آخر ، وينزل الجزء التنزيلي مع الجزء الوجداني منزلة الجزءين الوجدانيين.
والحاصل هو أنّه
حينما ينزل البذل منزلة الاستطاعة في الحكم المعلق ، فهذا الحكم ما هو؟ فإن كان هو
وجوب الحج على المستطيع المعلق على البلوغ ، فينتج أنّه لو بذل له الزاد وكان
بالغا أنّه يجب عليه ، ولا ينتج وجوبه على من اجتمع عليه كلا الجزءين التنزيليين ،
ونفس الشيء يقال في ذاك الطرف ، وهذا غير المقصود.
وإن قلتم انّه في
هذا التنزيل حينما ينزل البذل منزلة الاستطاعة فهو ينزله من حكمها المعلق الّذي هو
وجوب الحج على تقدير الرشد ، لا على تقدير البلوغ ، فحينئذ ، الحكم المعلق جعل في
التنزيل الآخر لا في الجعل الأول ، لأنّه في الأول جعل على المستطيع إذا بلغ ،
وعلى البالغ إذا استطاع ، لا على المستطيع إذا كان راشدا ، إذن فهذا الحكم مجعول
في التنزيل الآخر ، فيلزم أن يكون هذا التنزيل ناظرا لذاك وفي طوله ، وكذلك يقال
في التنزيل الآخر ، وعليه فيلزم الدور حينئذ ويكون كل من التنزيلين في طول الآخر.
وحاصل الدور في
الإشكال الثاني على العراقي «قده» ، هو أنّه إذا أريد إيجاد تنزيلين بنحو بحيث
يعوض عن مجموع الجزءين الأصليين بمجموع الجزءين التنزيلين من دون أن يعوض عن أحد
الجزءين فقط بالبدل التنزيلي وبضمه إلى الجزء الآخر ، فإنّ هذا خارج عن المقصود ،
إذ المقصود من تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وتنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة
القطع بالواقع الحقيقي ، هو إقامة مجموع البدلين التنزيليين مقام
مجموع الجزءين
الأصليين ، لا بنحو يقام هذا البدل التنزيلي مقام أصله في الانضمام إلى الجزء
الأصلي الآخر ، بل بالنحو الّذي عرفت ، وهو دوري.
وإن كان هناك
تنزيل واحد فهو أمر معقول ، وذلك كما لو قال : نزلت مجموع هذين الأمرين منزلة
مجموع هذين الجزءين بلحاظ الحكم الواقعي المترتب على مجموع الجزءين الأصليين.
ولكن عرفت أنّه
إذا فرضنا تعدد التنزيل فإنّه لا يعقل ذلك إلّا على وجه دوري ، لأنّه في كل من
التنزيلين يكون التنزيل بلحاظ الحكم المجعول المعلق ، وحينئذ هذا الحكم المعلق ليس
هو الحكم المعلق المجعول بوجوب الحج على المستطيع البالغ ، لأنّ ذاك الحكم المعلق
تعلق على الجزء الأصلي الآخر ، لا التنزيلي الآخر ، فلو نزلنا البذل منزلة الاستطاعة
في حكمها المعلق ، إذن حكمها المعلق هو الحكم المعلق على تحقّق الجزء الأصلي الآخر
، وهو البلوغ ، وليس هذا هو المطلوب ، إذن فلا بدّ وأن يكون التنزيل لا بلحاظ
الحكم المعلق المجعول في المؤدى الواقعي الأول ، بل بلحاظ الحكم المجعول في
التنزيل الآخر ، ليكون كل من التنزيلين ناظرا إلى الحكم المجعول في التنزيل الآخر.
وهذا يمكن بيانه
بتقريب آخر في مقام إثبات الاستحالة وحاصله : هو أن يقال :
إنّ التنزيل الّذي
ينزل المؤدى منزلة الخمر الواقعي ، هذا التنزيل لا بدّ وأن ينظر فيه إلى حكم ثابت
للخمر ، إمّا فعلي ، أو معلق ، ليسري بالتنزيل إلى المؤدى ، وحينئذ هنا نسأل :
إنّه ما هو حكم المنزل عليه المنظور بالتنزيل؟ فإن فرض انّ هذا الحكم هو الحكم
المعلق المستفاد من الجعل الأولي ، وهو جعل الحكم على الخمر الواقعي المقطوع
الخمرية حيث أنّ
ذاك الحكم كان ينحل إلى حكمين معلقين كما قال العراقي «قده» ، أحدهما ثبوت الحكم
على الخمر معلقا على انضمام القطع إليه ، فإن أريد بالتنزيل إسراء هذا الحكم
المعلق إلى المنزل ، وهو مؤدى الامارة منزلة الخمر الواقعي من هذا الحكم المعلق
على الجزء الأصلي الآخر ، إذن ، لأنتج انّ هذا الجزء المنزل بضمه إلى الجزء الآخر
الأصلي ينتج الحكم ، وهو خلاف المقصود.
فإذا قلنا ليس
المقصود بتنزيل كل من الجزءين بنحو يضم إلى الجزء الأصلي الآخر ، فهو في نفسه غير
معقول ، إذ لا يعقل أن يجعل هذا الحكم المعلق على مؤدى الامارة ، إذ من الواضح
أنّه مع القطع بالخمرية الواقعية لا حكم ظاهري ولا إمارة ، إذ الامارة بما هي حجّة
ظاهرية لا يعقل اجتماعها مع القطع بالخمرية الواقعية ليعلق حكمها على انضمام القطع
بالخمرية الواقعية إليها.
وأمّا إذا قيل :
بأنّ الخمر صار له حكم معلق آخر ، وهو الحكم المعلق على انضمام الجزء التنزيلي
الآخر ببركة التنزيل ، فإنّ التنزيل الثاني ينزل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع
بالواقع الحقيقي من حكم المعلق ، إذن ، فالخمر صار طرفا في حكم معلق جعل في
التنزيل الثاني ، وهذا التنزيل الأول يسري هذا الحكم المعلق ، وهذا أيضا خلف ،
لأنّ معناه : إنّ التنزيل الثاني ضمّ ببركة التنزيل إلى الجزء الأصلي الأول ، لكي
ينتج حكما فعليا على الخمر ، وهو خلف. لأنّنا فرضنا أنّ كلا من التنزيلين لا يقصد
بإيجاد البدل التنزيلي لجزئه. أن يضم هذا البدل إلى الجزء الأصلي الآخر ، بل أن
يضم إلى البدل الآخر ، فإذا افترضنا انّ الخمر صار طرفا للحكم المعلق في التنزيل
الثاني ، فمعناه : انّ الثاني ضم بدله التنزيلي إلى الأصلي الآخر ، إذن كلا
الفرضين خلف ، والثالث محال ، فيتم المطلوب.
والخلاصة : هي انّ
تنزيل المؤدى منزلة الخمر الواقعي لا بدّ وأن ينظر فيه إلى حكم ثابت للخمر ، إمّا
فعلي ، أو تعليقي ليسري بالتنزيل إلى المؤدّى ، إذن ، فلا بدّ أن يكون نظر دليل
التنزيل إلى حكم ثابت للخمر الواقعي يكون المقصود إسراؤه إلى المنزل عليه ، وإلّا
فالتنزيل غير معقول لما عرفت ، والحكم الثابت في المنزل عليه هنا ، إن كان هو
الحكم المعلق المستفاد من الجعل الأولي للحكم على الخمر المقطوع الخمرية ، فهذا
خلف أيضا ، لأنّه معلق على انضمام الجزء الأصلي الآخر ، فلو أريد إسراؤه لما أنتج
المقصود كما عرفت ، بل هو في نفسه غير معقول في خصوص المقام ، لأنّ الجزء المعلق
عليه في المقام هو القطع بالخمرية ومع حصوله لا يبقى موضوع التنزيل الظاهري في
المؤدّى.
وإن كان هو الحكم
المعلق على القطع التنزيلي الثابت ببركة التنزيل الثاني ، فهذا أيضا خلف ، فإنّ
هذا معناه : إنّ التنزيل الثاني قد ضم فيه الجزء التنزيلي الثاني ـ وهو القطع
بالواقع التنزيلي ـ لا الجزء الأصلي من الآخر ـ وهو الخمر الواقعي ـ بل يلغو
التنزيل الأول حينئذ ، لأنّ الجزء التنزيلي الثاني دائما ـ في خصوص المقام ـ يكون
مع التنزيل الأول لكونه في طوله ، فلا يبقى إلّا أن يكون التنزيل بلحاظ حكم غير
ثابت للمنزل عليه ، بل يثبت بنفس دليل التنزيلين ، وهذا محال ، لأنّه لو أريد فيه
النظر إلى إسراء الحكم الثابت في نفس هذا الدليل ، فهو محال في نفسه ، لأنّ معناه
: افتراض ثبوته قبل ثبوته ، وإن أريد فيه عدم النظر إلى حكم موضوع أصلا ، فهو خلف
فرض التنزيل.
٣ ـ الاعتراض
الثالث : على العراقي «قده» هو أنّه حينما نريد تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة
القطع بالواقع الحقيقي ، يعني نأخذ
القطع بالواقع
الجعلي في موضوع الحكم المذكور الّذي هو حكم شرعي واحد والقطع بالواقع الجعلي
والتنزيلي معناه : حكم الشارع على طبقة بما يماثل حكمه الأولي ، وهذا هو معنى
التنزيل.
والمفروض أنّه
عندنا حكم واحد ، إذن ، فقد أخذنا القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم وهو محال
عندهم.
أو قل : إنّ تنزيل
القطع بالواقع التنزيلي الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي معناه : أخذ القطع
بالواقع الجعلي في موضوع الحكم المذكور الّذي هو حكم شرعي واحد ، وهذا معناه أخذ
القطع بالحكم في موضوع شخصه ، وهو محال عندهم.
نعم الإشكال غير
وارد على مبنانا ، لأنّا وجّهنا إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه وذلك بأن
يؤخذ القطع بالجعل في موضوع المجعول وذلك كما لو كان الحكم متعدد ، والتنزيل متعدد
، فالمأخوذ في أحد الحكمين هو العلم بالحكم الآخر ، ولا مانع من ذلك ، وإن كان
مانعا على مبنى العراقي والكفاية.
وأمّا كلام صاحب
الكفاية ، فيردّ عليه أربع إشكالات.
١ ـ الإشكال الأول
: هو بطلان المقدّمة الثانية ، أي انّنا لو سلّمنا المقدّمة الأولى ، وهي تعدّد
التنزيل ، فإنّا لا نسلّم عدم معقولية تعدد التنزيل بلحاظ حكم واحد ، وذلك لما
بيّناه في أول مناقشة المحقّق العراقي ، من أنّ التنزيل ليس أمرا ثبوتيا راجعا إلى
جعل الحكم في عالم الثبوت ونفس المولى ، بل مرجعه إلى لسان من ألسنة الأدلة
الإثباتية ، فتنزيل مؤدّى الامارة منزلة الخمر الواقعي ، وتنزيل القطع الجعلي
منزلة القطع الحقيقي ، هما لسانان إثباتيان من ألسنة الأدلة ، لا ثبوتيين ليردّ
كلامه ، إذ الحكم الواحد ، تارة ، يراد توسعته بقرينة متصلة فيعبر ، «بأو» ، وأخرى
، بقرينة منفصلة ، وذلك لسان من ألسنة التنزيل ، وليس هذا
التنزيل جعلا ، إذ
من الواضح أنّه ليس المقصود جعل حكم آخر وراء الأول ، وإلّا للزم تعدّد الأحكام ،
بل المقصود توسعة دائرة موضوع الحكم الأول ، وهذه التوسعة لم تبيّن بالدليل الأول
، إذن فتبيّن بدليل ثاني ، إذن ، فالتنزيلان ألسنة إثباتية ، لا جعول ثبوتية ،
فتعدّدها من باب تعدّد القرائن المنفصلة الكاشفة عن جعل الحكم على موضوع مركب واحد
، وهذا لا مانع منه ، وليس بابه باب الجعول المتعدّدة لحكم واحد.
والحاصل : هو انّ
المقدّمة الثانية ـ القائلة باستحالة الطولية بين التنزيلين لجزأي الموضوع الواحد
ـ باطلة ، إذ التنزيل كما عرفت هو مجرد لسان إثباتي ، ولا يعني إسراء حقيقيّا
للحكم ، إلّا بلحاظ المدلول التصديقي الجدي ، إذن ، فتعدد التنزيل ليس إلّا من باب
تعدد القرينة المنفصلة الكاشفة عن جعل الحكم على الموضوع المركب.
٢ ـ الإشكال
الثاني : هو بطلان دعوى الطولية بين التنزيلين في كلامه ، فإنّ تنزيل الأول ، وهو
تنزيل المؤدّى منزلة الخمر ، وتنزيل الثاني ، وهو تنزيل القطع بالخمر منزلة القطع
بالواقع الحقيقي ، ليس في طول تنزيل المؤدّى ، فهما ليسا طوليين ، بل بالإمكان
جعلهما في إنشاء واحد ، ذلك بأن ينزل المجموع المركب من المؤدّى والقطع بالخمرية
الجعلية منزلة المجموع المركب من الخمر الواقعي والقطع بالخمرية الواقعية ، وذلك
بعد أن يكون المراد من القطع بالواقع الجعلي هو القطع بهذا الجعل الّذي يراد به
إنشاء التنزيلين ، حينئذ يكون مرجعه إلى وجود جعل واحد أخذ في موضوعه جزءان ،
أحدهما ، قيام الامارة ، والآخر القطع بنفس هذا الجعل ، وسوف يأتي أن أخذ القطع
بالجعل في موضوع فعلية المجعول أمر معقول ، إذن ، فالجمع بين هذين التنزيلين أمر
معقول ولا يلزم أن يكونا طوليين ومتعددين.
وبعبارة أخرى :
إنّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ليس في طول تنزيل
المؤدّى ، لأنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر لا يتوقف على وجود المنزل خارجا ، بل
يتوقف على مجرد افتراضه ، فيصحّ تنزيل النبيذ أو الفقاع منزلة الخمر حتّى لو لم
يوجد فقاع أو نبيذ خارجا ، إذ تنزيل القطع بالمؤدّى التنزيلي لا يتوقف على أكثر من
فرض وجود النبيذ مثلا ، فمرجعه حينئذ إلى وجود جعل واحد أخذ في موضوعه جزءان ،
قيام الامارة ، والقطع بنفس هذا الجعل.
أو قل : إنّ مرجعه
إلى أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه حيث أنّ التنزيلين بلحاظ حكم واحد وإسراء
واحد.
وقد عرفت وسوف
يأتي ، انّه يعقل أخذ القطع بالجعل في موضوع فعليّة المجعول ، إذ الجمع بين هذين
التنزيلين أمر معقول ، ولا يلزم أن يكونا طوليين ومتعددين.
٣ ـ الإشكال
الثالث : هو أنّه لو سلّمنا كلتا المقدّمتين ، فمع هذا يمكن تتميم كلام حاشية
الآخوند على رسائل الشيخ «قده» ، وذلك لأنّنا قلنا سابقا بأنّ الدلالة الالتزامية
الّتي ادعاها في الحاشية لها أحد وجهين : فهي إمّا أن تكون دلالة التزامية عرفية ،
وإمّا أن تكون عقلية بدلالة الاقتضاء.
فإن كان مدرك هذه
الدلالة هو الملازمة العرفية ، من باب أنّ العرف ـ لعدم دقته ـ يرى انّ تنزيل
المؤدّى منزلة الواقع يساوق تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع
الحقيقي ، وحينئذ ، نحن لا نتكلم في مورد تكون الخمرية فيه جزء الموضوع ، ويكون
القطع بالخمرية هو الجزء الآخر ليلزم الإشكال ، بل نتكلم في مورد يكون الخمر فيه
تمام الموضوع لحكم واقعي وهو حرمة الشرب ، ويكون القطع بالخمرية تمام الموضوع لحكم
واقعي آخر «كوجوب الإراقة» مثلا ، إذن يوجد حكمان واقعيان.
أو قل : تنزيلان
مستقلان لا ربط لأحدهما بالآخر ، ويكون القطع بالواقع التنزيلي الأول بلحاظ الحكم
الأول وبلا توقف على الثاني ، والقطع بالواقع التنزيلي الثاني بلحاظ الحكم الثاني
، وملاك الدلالة الالتزامية العرفية ـ وهو المسامحة وعدم الفرق بين القطع بالواقع
الحقيقي ، والقطع بالواقع التنزيلي ـ إذا بني عليها ، فهي جارية في محل الكلام
لأنّها نكتة خفاء المطلب ، ولأنّه لا يفرق بين أن يكون الخمر موضوعا مستقلا أو لا.
وعلى ضوء هذا لا
بأس إذن بوجود تنزيلين ، ولا يلزم حينئذ وحدة التنزيل لوحدة الحكم ، وبهذا يتمّ
المطلوب.
وإن كان الوجه في
الدلالة الالتزامية هو دلالة الاقتضاء ، حينئذ نقول : بأنّ تنزيل المؤدّى منزلة
الواقع يوجب بدلالة الاقتضاء ـ وصونا لكلامه عن اللغوية ـ أن يكون المولى قد نزّل
شيئا آخر منزلة الجزء الآخر ـ وهو القطع بالخمرية الواقعية ـ لئلّا يلزم لغوية
التنزيل الأول.
لكن دلالة
الاقتضاء لا تعين ما هو المنزل منزلة الجزء الآخر ، وإنّما عيّنه الآخوند «قده»
بالمناسبات العرفية والفهم العرفي حيث قال : «المناسب أن يكون المنزل منزلة
الخمرية هو القطع بالواقع الجعلي ، وإلّا فيمكن أن يكون أمرا آخر ، وهو الظن
بالواقع الحقيقي ، وبذلك يتم رفع اللغوية.
إذن هذا الإشكال
الّذي يشكله منشأ من طولية التنزيلين ، وهذه الطولية نشأت من افتراض انّ المنزل هو
القطع بالواقع الجعلي الّذي هو في طول التنزيل ، أمّا لو كان المنزل هو الظن
بالواقع الحقيقي ، إذن لا طولية بين التنزيلين.
وحينئذ نقول : إنّ
إشكال الآخوند «قده» تمام ما يبطل هو ، المناسبات العرفية ، ولا يبطل أصل دلالة
الاقتضاء ، إذ عندنا دالان : دلالة الاقتضاء ، وهي تنزيل شيء ، والمناسبة العرفية
تعيّنه في القطع
بالواقع الجعلي ،
وبرهان الكفاية يبرهن على استحالة ذلك ، إذن تسقط المناسبة العرفية ، لا دلالة
الاقتضاء ، فإنّ دلالة الاقتضاء لم تكن تعيّن ابتداء ما هو المنزل منزلة الجزء
الثاني ، وإنّما عيّنّا ذلك بالمناسبة العرفية ، إذن ، بضم دلالة الاقتضاء إلى
دليل الكفاية وهو الظن بالخمرية الواقعية لا القطع بها ، ومعه لا طولية.
وإن شئت قلت : لو
فرضنا انّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي مستحيل ،
فيستكشف انّ أمرا آخر هو الّذي نزل منزلة القطع بالواقع ، فإنّ دلالة الاقتضاء لم
تكن تعيّن ابتداء ما هو المنزل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، ـ أي الجزء الثاني ـ
وإنّما عيّنّا ذلك بالمناسبات العرفية ، فإذا كان ذلك محالا ، فليكن المنزل الظن
بالواقع أو أمر آخر ملازم.
والخلاصة : هي انّ
كلام الكفاية يرد عليه :
أولا : بطلان
المقدّمة الثانية ، لأنّ التنزيل ليس من جنس الجعل ثبوتا ليقال : أنّه بناء على
وحدة حكم المنزل عليه لا يتصور إلّا تنزيل واحد ، بل التنزيل مرجعه إلى عالم
الإثبات ، إذن ، لا محذور في تعدّد القرائن الإثباتية بالنسبة إلى دليل واحد كما
عرفت.
ويرد ثانيا :
بطلان المقدّمة الأولى ، لأنّه يشترط في معقولية التنزيل فعليّة المنزل ، فتنزيل
القطع بالواقع التنزيلي ليس في طول أن يوجد واقع تنزيلي خارجي ، بل في طول افتراض
ذلك في عالم الجعل كما تقدّم ، ولا مانع من أن يفترض الأمران معا في جعل واحد ،
فيقول مثلا : «نزلت المؤدّى بالقطع بالواقع الجعلي منزلة الجزءين الواقعيين» ، وقد
عرفت ما يرد ثالثا فيما مرّ.
٤ ـ الإشكال
الرابع : هو أنّ المحقّق الخراساني «قده» ، كان يريد
أن يقول : بأنّ
هذين التنزيلين طوليان كما ذكر في المقدّمة الأولى ، والطولية كان يدعيها من هذا
الطرف ، بمعنى أنّ التنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي في
طول تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، بينما إذا دقّقنا النظر ، نجد أنّ الطولية في
المقام ـ لو تعقلنا هذين التنزيلين ـ ثابتة ، لكن بعكس ما كان يترقبه صاحب الكفاية
، فإنّ التنزيل الأول في طول التنزيل الثاني لا العكس ، وطولية التنزيل الأول ،
وهو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، طوليته ليس باعتبار خصوصية المنزل هنا والمنزل
هناك ، بل أيّ شيء كان المنزل هنا وهناك ، فالطولية محتومة في المقام ، بمعنى أنّ
التنزيل الأول في طول التنزيل الثاني ، وذلك لنكتة ترجع إلى طبيعة التنزيل نفسه لا
إلى خصوصية أنّ المنزل ما هو ، كما كان يلحظ ذلك في الكفاية ، وذلك أنّ التنزيل
الأول بحسب حقيقته هو تنزيل ظاهري ، والتنزيل الثاني بحسب هويته هو تنزيل واقعي ،
وكل التنزيلات الظاهرية في طول التنزيلات الواقعية المنصبّة على حكم واحد ، يعني
حكم واحد إذا تحقّق له تنزيلان ، أحدهما واقعي والآخر ظاهري ، فيكون الظاهري في
طول الواقعي.
وتوضيح ذلك يكون
ببيان أمرين.
أ ـ الأمر الأول :
هو أنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ظاهري ، وذلك لأنّ مرادنا من التنزيل الظاهري ،
يعني التنزيل الّذي يكون مضمونه حكما ظاهريا وإسراء ظاهريا لحكم المنزل عليه إلى
المنزل مع حفظ الواقع على واقعه ، بحيث أنّه قد ينكشف الخلاف ، إذن فالتنزيل الظاهري
مرجعه إلى حكم ظاهري أخذ في موضوعه الشك في حكم المنزل عليه.
والمقصود بهذا
التنزيل هو إسراء حكم المنزل عليه إلى المنزل ، لكن إسراء ظاهريا ، لأنّه حكم في
الشك ، كما لو قال المولى : «المائع
المظنون الخمرية
والّذي أخبر الثقة عن خمريته ، منزل منزلة الخمر الواقعي» ، فهذا التنزيل ظاهري
لأخذ الشك في موضوع المنزل عليه ، والمقصود منه إسراء حكم المنزل عليه إلى المنزل
، ولأنّ مفاد هذا التنزيل جعل الحجيّة.
إذن يتضح انّ ما
هو المجعول في هذا التنزيل بحسب الحقيقة ليس هو إسراء الحكم الواقعي حقيقة ، لأنّ
هذا خلف أخذ الشك في موضوعه ، وخلف كوننا نتكلم عن دليل الحجيّة وهو الحكم الظاهري
، وإنّما مفاد هذا التنزيل هو إنشاء حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي ، فإن كان
الخبر مصيبا للواقع فالحكم الظاهري مماثلا للحكم الواقعي ، وإن كان الخبر مخطئا ،
فالحكم الظاهري غير مماثل للحكم الواقعي ، ولكن نكون قد أنشأنا حكما ظاهريا به.
ب ـ الأمر الثاني
: هو أنّ تنزيل القطع أو أيّ شيء آخر منزلة القطع الموضوعي هو تنزيل واقعي ،
ومفاده جعل حكم واقعي ، وذلك لأنّ هذا التنزيل لم يؤخذ في موضوعه الشك ، فمثلا
حينما يقول : «نزلت الظن منزلة القطع بالخمرية» فيما لو فرض أنّ القطع بالخمرية
كان موضوعا لوجوب الإراقة ، فهنا : حينئذ لا يوجد شك في وجوب الإراقة ، بقطع النظر
عن هذا التنزيل ، بل هو معلوم العدم ، لأنّ موضوعه القطع إذن ، فالشك منتف وجدانا
، إذن ، هذا التنزيل هو إنشاء حكم واقعي وتوسعة واقعية للحكم بوجوب الإراقة.
وهذا معنى انّ هذا
التنزيل يكون تنزيلا واقعيا ، وسوف يأتي أنّ تنزيل الامارات منزلة القطع الموضوعي
نسميه بالحكومة الظاهرية ، إذن فهذان التنزيلان مختلفان جوهرا وحقيقة ، لأنّ الأول
ظاهري ، والثاني واقعي ، وحينئذ : يترتب على ذلك.
أولا : الطولية
بين التنزيلين بعكس ما كان يترقبه صاحب الكفاية ، فإنّ
الطولية ستكون
بمعنى أنّ التنزيل الظاهري الّذي هو التنزيل الأول في طول التنزيل الثاني الّذي هو
الواقعي ، لأنّ الظاهري هو جعل الحكم المماثل للواقعي ، إذن لا بدّ وان يفترض في
مرتبة سابقة حكم وتنزيل واقعي.
ويترتب على ذلك
ثانيا : انّه هنا ، تعدد التنزيل الّذي استشكل فيه ، لا موجب للاستشكال فيه ،
باعتبار وجود حكمين هنا حقيقة ، أحدهما واقعي ، والآخر ظاهري ، إذن ، فالقول انّه
لا يعقل تعدّد التنزيل لطولية التنزيلين مع وحدة الحكم ، هذا القول إنّما يعقل
ويتصور لو كان التنزيلان واقعيين معا ، وأمّا إذا كان أحدهما مفاده الحكم الظاهري
، والآخر مفاده الحكم الواقعي ، فحينئذ لا استحالة بتعدد التنزيل ، بل يكون شيئا
معقولا على كلّ حال لما عرفت ، ويكون كلام الكفاية بلا موضوع.
ويترتب ثالثا :
انّه يتبين انّ التنزيل الأول هنا في نفسه غير معقول ، وذلك لأنّا فرضناه تنزيلا
ظاهريا ، وانّ المجعول فيه هو الحكم الظاهري ، وهذا الحكم الظاهري ، المجعول فيه
لا بدّ وأن يفرض أنّه معلق على جزء آخر أولا ، فإن فرض أنّه غير معلق على جزء آخر
، إذن فلا يمكن مطابقته للواقع ، إذ الظاهري إن لم يكن معلقا ، إذن فهو خلف كونه
حكما ظاهريا ، لأنّ الظاهري يجب أن يكون مماثلا للحكم الواقعي ، والمفروض أنّ
الحكم الواقعي منوطا بالجزء الآخر ، فإذا لم يكن الحكم الظاهري معلقا على جزء آخر
، إذن ، فهو غير مماثل للحكم الواقعي حينئذ.
وإن فرض أنّه
منوطا بالجزء الآخر ، حينئذ ، فإن كان هذا الجزء الآخر الأصلي هو القطع بالخمرية
الواقعية ، فهذا مستحيل ، لأنّه لا يعقل إناطة الحكم الظاهري بالقطع بالخمرية
الواقعية ، لأنّ هذا يوجب رفع موضوعيته ، وإن كان هذا الجزء الآخر هو البدل
التنزيلي للقطع بالحرمة
الواقعية ، وأيّ
شيء فرضنا هذا البدل ـ فهذا خلف كونه ظاهريا ، لأنّ الحكم الواقعي في المقام غير
معلق على الجزء الآخر بحسب الفرض ، إذن لا يمكن أن نفرض أنّ الحكم الظاهري معلقا
على الجزء الآخر ، إذ الظاهري لا يمكن تعليقه على طرف لا يكون الواقعي معلقا عليه
، والمفروض انّ هذا البدل التنزيلي لا يفي بالحكم الواقعي لو ضم إلى الجزء الأصلي
الآخر ، لأنّ الحكم الظاهري لا بدّ وأن يجعل بنحو يحتمل مطابقته للواقع ، هذا حاصل
الإشكالات الأربعة على الكفاية.
ثمّ ننتقل إلى ما
ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على رسائل الشيخ الأعظم «قده» ، فقد ذكر فيها ، أنّه
بدليل الحجيّة نثبت بالمطابقة تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وبدلالة الالتزام نثبت
تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وهنا لنا تعليقان.
١ ـ التعليق الأول
: هو انّ هذه الدلالة الالتزامية غير مقبولة ، لأنّ مدركها كما عرفت هو أحد وجهين
: إمّا مسامحة العرف ، وإمّا دلالة الاقتضاء ، وكلاهما غير صحيح.
أمّا الأول : فمن
الواضح انّ الدلالة الالتزامية العرفية إنّما تكون حجّة فيما إذا فرض أنّ المدلول
الالتزامي ـ إمّا في مرحلة المدلول التصوري أو في مرحلة المدلول التصديقي ، كان
قريبا من الذهن العرفي جدا بحيث انّ العرف حينما يلتفت إلى مدلول هذا الكلام ينتقل
منه بسرعة عرفية إلى ذلك المدلول الالتزامي ، حينئذ في مثله ، يكون حجّة ، لأنّه
يرجع إلى باب ظهور اللفظ ، وأمّا إذا كان مدلولا التزاميا بحاجة إلى تفكير عميق كي
يلتفت إلى تصور هذا المدلول الالتزامي ، وبعد ذلك يفترض الملازمة ، فالذهن العرفي
حينئذ لا ينتقل بسرعة من المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي ، وحينئذ مثل هذه
الدلالة الالتزامية لا تشكل ظهورا في اللفظ ليكون حجّة ، وبالتالي هي غير عرفية.
وأمّا الثاني :
وهو دلالة الاقتضاء ، فالجواب عليه أوضح ، وذلك لأنّه تارة يكون أصل كلام الحكيم
لغوا لو لا الالتزام بهذا اللازم كما لو ورد دليل الحجيّة في خصوص هذا المورد وقال
: «نزلت مظنون الخمرية منزلة الواقع» مع أنّه لا أثر للواقع ، فهنا لا بأس بالقول
انّ هذا الكلام لو لا اللازم لكان لغوا ، فيستكشف اللازم حينئذ ، وأمّا إذا فرض
انّ هذا الاستكشاف كان بلحاظ إطلاق الكلام لا أصله ، لأنّ دليل الحجيّة لم يرد في
خصوص هذا المورد ، بل في سائر الموارد ، وحيث لا أثر لهذا الكلام ، فيكون لغوا ،
فيستكشف هذا الإطلاق ، لأنّ دليل الحجيّة قد أخذ في موضوعه الأثر العملي ، وحيث لا
أثر عملي فلا إطلاق لدليل الحجيّة في نفسه ، إذن ، فأين الإطلاق لنحافظ عليه
ونصونه عن اللغوية بإثبات اللازم ، لأنّ دليل الحجيّة ككل دليل أخذ في موضوعه ،
وجود الأثر العملي ، ومع عدمه فلا إطلاق ، إذن فلا معنى للتمسك بدلالة الاقتضاء.
٢ ـ التعليق
الثاني : على كلام الحاشية هو أن يقال : إنّ كلام الحاشية لا يتم لإفادة قيام
الامارة مقام القطع الموضوعي فيما إذا كان القطع تمام الموضوع للحكم الشرعي ولم
يكن المؤدى موضوعا لحكم شرعي ، فإنّه في مثل ذلك لا يكون المؤدّى منزلا منزلة
الواقع لتكون الامارة منزلة منزلة القطع ، فلو فرض أنّه قال : «إذا قطعت بخمرية
المائع حرم شربه ، ووجبت إراقته» بنحو يكون تمام الموضوع لحرمة الشرب ووجوب
الإراقة هو ، القطع بالخمرية ، أمّا واقع الخمرية فلا يكون موضوعا لحكم ولا دخيلا
في جزء الموضوع أيضا ففي مثل ذلك لا يتم كلام الحاشية ، لأنّه فيها أريد استكشاف
التنزيل الثاني من التنزيل الأول ، إذ لا بدّ أولا من إثبات تنزيل المؤدّى منزلة
الواقع ، ثمّ بالملازمة نستكشف بالدلالة الالتزامية أو بدلالة الاقتضاء انّ القطع
بالواقع التنزيلي ، منزل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، إذن فلا بدّ قبل كل شيء
من أن يتم تنزيل
المؤدى منزلة الواقع ليترتب عليه الدلالة الالتزامية ، وفي محل الكلام ، فإنّ
تنزيل المؤدى منزلة الواقع غير معقول ، لأنّ الواقع ليس له أثر ولو ضمنا ، إذن فلا
يعقل تنزيل المؤدى منزلته ولو بلحاظ الأثر الضمني والتعليقي ، وإذا لم يكن
بالإمكان تنزيله كذلك ، فلا يتم المدلول المطابقي ليتم المدلول الالتزامي ، وهو
تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، إذن ففي أمثال ذلك ، لا
يتم هذا البيان ، بل لو تمّ فإنّما يتم فيما فرضه صاحب الحاشية.
٣ ـ التعليق
الثالث : وهو نظري ، حيث يقال : إنّ صاحب الحاشية ما دام أنّه كان يبحث بحثا نظريا
ثبوتيا ، فلو قلب المطلب وافترض دليلا مفاده تنزيل الظن منزلة القطع ، أي إقامة
الامارة مقام القطع الموضوعي ، ويستفيد منه بالملازمة العرفية قيام الامارة مقام
القطع الطريقي ، ومقتضى هذا القيام حينئذ ، أنّها ترفع موضوع البراءة ، لأنّ أصالة
البراءة حكم شرعي جعل موضوعه عدم العلم ، والعلم هنا نسبته إلى البراءة نسبة القطع
الموضوعي ، وإن كان نسبته إلى التكليف الواقعي نسبة القطع الطريقي ، فإذا فرض انّ
الامارة القائمة على حرمة التتن نزلت منزلة القطع بحرمة شرب التتن في رفع موضوع
البراءة ، فيمكن القول : بأنّه نفهم من ذلك بالدلالة الالتزامية العرفية انّه حجّة
ومنجز لأنّ العرف يفهم من كونه رافعا لموضوع البراءة ، أنّه منجز وحجّة ، وإن كان
لا ملازمة عقلية ، إذ قد يرفع شيء موضوع البراءة ، ولكن لا ينجز ، بل تجري قاعدة
قبح العقاب بلا بيان على رأي المشهور.
ويرد حينئذ على
هذه الاستفادة بعض ما أوردنا سابقا على استفادة الحاشية نفسها ، وبذلك اتضح انّ
الامارات لا تقوم مقام القطع الموضوعي ، لعدم إيفاء دليل حجيّة الامارة بقيامها
مقام القطع الموضوعي.
وبهذا يكون قد تمّ
هيكل البحث الّذي بني من إشكال صاحب
الكفاية على تنزيل
الامارة منزلة القطع الموضوعي ، ومن تعليقنا على الكفاية والحاشية ، والمعلّق
عليها ، وقد تبيّن ما عرفت.
نعم أشرنا في أول
البحث إلى انّ هذا الكلام والإشكال في قيام الامارات مقام القطع الموضوعي ، إنّما
يرد فيما إذا كان القطع مأخوذا في موضوع الدليل بما هو قطع كما هو ظاهر صاحب
الكفاية «قده» ، بحيث يحتاج إقامة الامارة مقامه إلى حاكمية دليل حجيّتها
ونظره إليه.
وأمّا إذا استفدنا
من أخذ القطع في الموضوع أنّه مأخوذ بما هو حجّة ، فحينئذ لا يأتي في المقام
إشكالنا السابق ، وهو أنّ دليل الحجيّة ليس له نظران ، لأنّ دليل الحجيّة حينئذ
يكون واردا على القطع الموضوعي لا حاكما ، وبذلك يتحقّق مصداق حقيقي لموضوع دليل
القطع الموضوعي بالتعبّد ، وقد أوضحنا أنّ الدليل الوارد لا يحتاج إلى نظر نحو
الدليل المورود ، لكن ذلك على تفصيل حاصله : أنّه يوجد هنا ثلاث صور :
الأولى : هو أن
يفرض انّ المؤدّى ، أي المقطوع ليس له أثر شرعي أصلا ، وإنّما تمام الأثر مترتب
على القطع.
الثانية : هي أن
يفرض انّ الأثر يكون مترتبا على المجموع المركب من القطع والمقطوع.
الثالثة : هي أن
يفرض انّ تمام الموضوع هو القطع.
فإن كان تمام الموضوع
هو القطع ، ففي مثله لا يعقل قيام الامارة مقام القطع ، إذ لا يعقل حجيتها في
نفسها ، لأنّ حجيتها فرع أن تكون قابلة للتنجيز والتعذير بلحاظ مؤدّاها ، والمفروض
أنّها غير قابلة لذلك
__________________
بلحاظ مؤدّاها ،
لأنّ مؤدّاها ليس موضوعا لحكم شرعي في نفسه لا ضمنا ولا استقلالا ، ومعه لا يتحقّق
فرد من موضوع الدليل.
وإن كان القطع مع
المقطوع كلاهما جزءين لموضوع حكم شرعي واحد ، فهنا أيضا لا يعقل جعل الحجّة كما
ذكرنا سابقا من أنّ تنزيل شيء منزلة الواقع ظاهرا مع كون الجزء الآخر هو القطع ،
أمر غير معقول ، وإنّما ينحصر هذا المطلب بما إذا كان للمؤدّى أثر شرعي في نفسه
قابل للتنجيز ، وكان هناك أثر آخر مترتب على القطع ، فحينئذ ، دليل الحجيّة يشمل
المؤدّى بلحاظ أثر المؤدّى في نفسه ، وبهذا يتحقّق أثر وجداني لموضوع دليل القطع
الموضوعي ، فيشمله دليل القطع الموضوعي.
هذا تمام الكلام
في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وبقي الكلام في قيام الامارة مقام
القطع الموضوعي الصفتي.
٤ ـ الجهة الرابعة
: في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي :
وليس في هذه الجهة
مزيد كلام بعد أن اتضحت حيثيّات البحث في الجهة السابقة ، إذ بناء على مسلكنا في
الجهة السابقة ، وهو عدم قيام الامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ، يكون عدم
قيام الامارات مقام القطع الموضوعي الصفتي بطريق أولى ، وبنفس النكات الّتي تقدّمت
في الطريقي ، لكن بنحو أوضح.
وأمّا بناء على
مسلك الميرزا «قده» الّذي يقول بقيام الامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي تبعا
للشيخ الأنصاري «قده» ، فحينئذ ينفتح الكلام في قيام الامارات مقام القطع الموضوعي
الصفتي وعدمه.
وهنا ينبغي القول
: بأنّ مجرد افتراض تلك العناية الّتي بذلها الميرزا «قده» في تتميم قيام الامارات
مقام القطع الموضوعي الطريقي هناك ، فإنّها لو بذلت لتنتج المطلوب هنا ، أو ما
أنتجته هناك ، لا تكفي
ما لم يضف إليها
عناية أخرى ، وذلك لأنّ تلك العناية كانت عبارة عن دعوى جعل الطريقية وأنّ مفاد
دليل الحجيّة جعل الامارة علما وكاشفا ، فيترتب عليه كل ما يترتب على العلم من
الآثار والّتي منها الأحكام المجعولة على القطع الموضوعي الطريقي ، فهذه العناية
لا تفيد بناء على ما ذكرنا في الجهة الأولى ، حيث ذكرنا ، انّ التفسير العرفي
للقطع الموضوعي الصفتي هو عبارة عن كون القطع مأخوذا في موضوع الحكم بلحاظ
معلولاته النفسانية من إزالة القلق وإيجاد الاستقرار ونحوه ، بينما القطع الموضوعي
الطريقي عبارة عن أخذ العلم بما هو ، بلا ضمّ لحاظ معلولاته النفسانية إليه ،
وحينئذ ، لو تمّ كون مفاد دليل الحجيّة هو جعل الامارة علما ، وتمّت شروط
الحاكميّة في دليل الحجيّة على دليل القطع الموضوعي ، فمن الواضح أنّ غاية ما
يصنعه دليل الحجيّة هو ، أنّه يجعل الامارة علما وكاشفا ، لكن لا يجعلها كذلك
بلحاظ معلولات العلم ، إذ انّ هذا هو القدر المتيقن ممّا يصنعه دليل الحجيّة.
إذن فإقامة
الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي بحاجة إلى عناية أزيد اعتبارية على اصطلاح
الميرزا «قده» ، أو أزيد تنزيليّة على اصطلاح آخر كي يكمل ذلك الاعتبار النفساني ،
وهو غير موجود في دليل الحجيّة ، سواء كان لفظيا أو كان السيرة.
هذا تمام الكلام
في الجهة الرابعة.
وقد اتضح بهذه
المسألة ، انّ الامارات والأصول تقوم مقام القطع الطريقي الصرف ، ولكن لا تقوم
مقام القطع الموضوعي الطريقي ، فضلا عن القطع الموضوعي الصفتي ، خلافا للمشهور.
تنبيه
ينبغي التنبيه ،
على أنّه بناء على ما عليه المشهور والميرزا «قده» من قيام الامارات مقام القطع
الطريقي والموضوعي معا ، ينبغي التنبيه على أنّ حاكمية دليل الحجيّة على أدلة
الأحكام الواقعية بلحاظ القطع الطريقي ، تكون حاكمية ظاهرية ، مرجعها إلى توسعة
دائرة التنجيز والتعذير فقط ، لا حاكمية واقعية ، فمثلا : الامارة القائمة على أنّ
زيدا عادل ، هذه الامارة تقوم مقام القطع الطريقي بعدالته بلحاظ جواز الائتمام به
، وقيامها مقام القطع الطريقي مرجعه إلى توسعة دائرة التنجيز والتعذير اتجاه
الأحكام الواقعية ، وهذا ما نسميه بالحكومة الظاهرية على الأحكام الواقعية ، ومن
شئون كونها ظاهرية ، إنّ لها انكشاف الخلاف ، لأنّه يوجد واقع محفوظ في نفس الأمر
مشترك بين العالم والجاهل ، فهذه التوسعة لها انكشاف الخلاف :
وأمّا قيامها مقام
القطع الموضوعي الّذي مرجعه إلى كونها حاكمة على أدلة القطع الموضوعي ، فهذه
الحاكمية حاكمية واقعية ، وإن كانت مدرسة الميرزا «قده» غير واضحة في هذا التمييز
بين كونها واقعية أو ظاهرية ، فهنا يثبت الحكم الواقعي حقيقة بالاعتبار أو التنزيل
على الاختلاف.
ونكتة كونها
واقعية هي ، أنّه لم يؤخذ في موضوع هذه الحاكمية الشك ، وإنّما أنشئ هذا الحكم
إنشاء بنفس الدليل الحاكم ، فبقطع النظر
عن هذه الحاكمية
لم يحتمل وجود الحكم ، لأنّ الحكم مترتب على القطع ، وهو منتف وجدانا ، فلم يكن
هناك شك في وجود هذا ، وإنّما أنشئ هذا الحكم بنفس الدليل الحاكم ، فحاكمية دليل
الحجيّة على دليل القطع الموضوعي من قبيل حاكمية دليل «الطواف بالبيت صلاة» على
دليل «لا صلاة إلّا بطهور» ، أي حاكمية واقعية ، ولهذا لا يتصور لها انكشاف الخلاف
، كما أنّه لا يتصور بعد أن يقول : «الطواف بالبيت صلاة» انكشاف الخلاف ، لأنّ هذا
التنزيل واقعي ، والواقعي لا يتبدل ، فلا معنى لانكشاف الخلاف فيه.
وهناك نكتة أخرى
لا بدّ من التنبيه عليها وهي : انّه لو قلنا بقيام الامارات مقام القطع الطريقي ،
ومقام القطع الموضوعي معا ، فالميرزا «قده» حينئذ ، هل يقول : بأنّ هذين التنزيلين
أو القيامين مترابطان بحيث أنّ أحدهما موقوف على الآخر؟ بمعنى أنّ قيام الامارة
مقام القطع الموضوعي فرع قيامها مقام القطع الطريقي ، أو أنّه لا تلازم بينهما؟
ويترتب على ذلك بعض الثمرات.
منها : مثلا لو فرض
أنّ الفقيه أراد أن يستنبط حكم الحائض الّذي هو خارج عن محل ابتلائه واستند إلى
الامارة في ذلك ، فهذه الامارة بالنسبة للفقيه لا تقوم مقام القطع الطريقي ، لأنّ
هذا الحكم لا يقبل التنجيز بالنسبة للفقيه حتّى لو قطع به فكيف بالامارة ، إذن ،
فلا معنى للقول : بأنّ هذه الامارة حجّة على الفقيه بلحاظ قيامها مقام القطع
الطريقي.
وإنّما هي حجّة
على الحائض باعتبار قيامها مقام القطع الطريقي للحائض ، وهذا شيء آخر.
نعم لو أريد تسجيل
حجيتها على الفقيه ابتداء ، فهذه لا تكون بقيامها مقام القطع الطريقي ، بل يكون
بقيامها مقام القطع الموضوعي ، لأنّ جواز
الإفتاء حكم مترتب
على القطع ، لأنّه لا يجوز الإفتاء إلّا بعلم ، فالعلم موضوع لجواز إفتاء الفقيه
لا طريق ، وحينئذ ، الامارة تقوم مقام قطع الفقيه بلحاظ جواز الإفتاء ، فكما أنّ
الفقيه لو قطع بحرمة دخول الحائض إلى المسجد يجوز له إفتاؤها بذلك ، فكذلك عند
قيام الامارة على ذلك. فيجوز له أن يفتيها ببركة قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي.
ولكن هنا نسأل :
بأنّ هذه العملية صحيحة أم لا؟.
وهذه العملية على
مبنانا من عدم قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، غير صحيحة ، أمّا كيف يستند
الفقيه إلى هذه الامارة فقد تقدّم الكلام فيه.
وخلاصته هي ، انّ
لهذه الامارة أثر بلحاظ نفس العلم بها الواقع موضوعا للحكم بجواز الإفتاء الّذي هو
الحكم الداخل في ابتلاء الفقيه ، ويفرض أنّه يطبق الامارة على إفتاء الحائض
فيفتيها بها.
وأمّا على مبنى
قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، فإن قيل بأنّ قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي في طول قيامها مقام القطع الطريقي ، فالامارة الّتي تقوم مقام القطع
الطريقي هي الّتي تقوم مقام القطع الموضوعي ، إذن لا تصح هذه العملية ، لأنّ هذه
الامارة بالنسبة للفقيه لا تقوم مقام القطع الطريقي كما عرفت ، وعليه ، فلا تقوم
مقام القطع الموضوعي أيضا ، وذلك للطولية بينهما.
وإن فرض أنّ كلا
منهما مستقل عن الآخر ، فحينئذ ، تصح هذه العملية ، فيطبق الفقيه دليل حجيّة
الامارة القائمة على حرمة دخول الحائض إلى المسجد على نفسه مباشرة ، لكن لا بلحاظ
قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، بل بلحاظ قيامها مقام القطع الموضوعي ، وحينئذ
، هذا الفقيه يفتي المرأة بحرمة دخولها إلى المسجد.
والّذي يبدو ، انّ
هذه المسألة ـ وهي أنّ قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي هل هو في
طول قيامها مقام القطع الطريقي أم لا ـ تختلف باختلاف المدارك.
فإن بنينا على
مبنى الميرزا «قده» من أنّ مفاد دليل الامارة هو جعل الامارة علما ويترتب عليه
حينئذ كل آثار العلم ، حينئذ ، قيام الامارة مقام القطع الموضوعي يكون في عرض
قيامها مقام القطع الطريقي ، وحينئذ ، لو فرض ان تعطل أحدهما فلا بأس بإعمال
الآخر.
وأمّا لو بنينا
على مشرب حاشية الآخوند «قده» وقلنا : بأنّ دليل الحجيّة يدلّ بالمطابقة على قيام
الامارة مقام القطع الطريقي ، وبالالتزام على قيامها مقام القطع الموضوعي ، حينئذ
، تكون هناك طولية بينهما ، فلا يجري التنزيل الثاني ليعقل التنزيل الأول كما
عرفت.
ومن هنا لا يمكن
قيام الامارة مقام القطع الموضوعي فيما إذا لم يكن للمقطوع أثر أصلا ، إذ في هذه
الحالة لا يعقل تنزيل المؤدّى منزلة المقطوع والواقع ، وما دام هذا التنزيل بحاجة
الأثر للواقع المقطوع ، فلا تصل النوبة إلى تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة
القطع بالواقع الحقيقي ، إذ مع عدم الأثر للمنزل عليه ، لا يعقل تنزيل المؤدّى
منزلة الواقع لتصل النوبة إلى تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع
الحقيقي ، ومن هنا : كلّما كان القطع بالخمرية مثلا ، تمام الموضوع للحكم ولم يكن
للخمرية حكم أصلا ، حينئذ ، لا يعقل قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، إذ لا
يعقل تنزيل المؤدّى منزلة الخمر الواقعي ، لأنّه لا أثر شرعي للخمر الواقعي.
وهناك توهم ، وهو
أنّ الأثر موجود ، وهو قيد للقطع ، باعتبار أنّ الحرمة مترتبة على القطع بالخمرية
لا على القطع بشيء آخر ، فالخمرية قيد للقطع ، وعليه فالخمرية تكون قيدا في موضوع
الحكم الشرعي ، وهذا يكفي لقيام الامارة مقامه.
ولكن هذا غير صحيح
، وذلك ، لأنّ القيد هنا عنوان الخمرية لا واقعها خارجا ، لأنّ المفروض أنّ القطع
بالخمرية هو تمام الموضوع ، أي سواء كان خمرا في الواقع أم لا ، إذن الخمرية
بوجودها الخارجي ليست قيدا ، بل هي قيد بوجودها اللحاظي التصوري في عالم جعل الحكم
، وهذا لا ربط له بتنزيل المؤدى منزلة الواقع الّذي هو ناظر إلى الخمر الخارجي.
وعليه : فبناء على
الطولية لا يمكن قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.
ومن مجموع هاتين
النكتتين يتوجه على الميرزا «قده» إشكال لا يمكن لمدرسة الميرزا الالتزام به ، وهو
منبه فقهي إلى بطلان الأصول الموضوعية الّتي أساسها قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي.
وحاصل هذا الإشكال
هو ، أنّ الفقيه إذا قامت عنده الحجّة على حكمين إلزاميّين ، كحرمة دخول الحائض
إلى المسجد وقامت عنده حجّة أخرى على حرمة مقاربتها ، فكل من الامارتين سوف تقوم
مقام القطع الموضوعي بلحاظ جواز الإفتاء كما عرفت ذلك ، فلو فرض انّ هذا الفقيه
كان يعلم إجمالا بكذب إحدى الامارتين ، وانّ أحد التحريمين غير ثابت في الواقع ،
فحينئذ ، نقول : بأنّه لا إشكال في أنّ هذا العلم الإجمالي يقتضي عدم جواز إفتائه
بكلتا الحرمتين ، وذلك لوقوع التعارض ما بين الامارتين ، ولكن إذا بنينا حسب
التصورات الأخرى ، وفرضنا أنّ الامارة حجّة على الفقيه بلحاظ قيامها مقام القطع
الموضوعي ، إذن ، فيكون دليل حجيّة هذه الامارة حاكما على دليل جواز الإفتاء
وموسعا لدائرته ، فإنّ موضوع دليل جواز الإفتاء هو القول بعلم ، فدليل الحجيّة
يوسع العلم ويقول : هذا قول بعلم ، وهذه الحاكمية ، حاكمية واقعية ، ومن نتائجها
أنّه معها لا انكشاف للخلاف ، فلو فرض أنّ الامارة كانت
في كل من الموردين
تقوم مقام القطع الموضوعي ، فلا يلزم منه طرح تكليف واقعي معلوم بالإجمال ، بخلافه
في موارد إعمال الامارة مقام القطع الطريقي ، فإنّه لو علم إجمالا بكذب إحدى
الامارتين ، فحينئذ ، يلزم منه طرح التكليف المعلوم بالإجمال ، وعليه : فلما ذا لا
يجوز للفقيه أن يفتي بحكمين للمرأة الحائض مع علمه أنّ إحدى الامارتين غير مطابقة
للواقع في صورة قيامها مقام القطع الموضوعي؟ وإنّما يضرّ لو كانت الحاكمية ظاهرية
، وأمّا إذا كانت الحاكمية واقعية فلا يضرّ؟.
والصيغة النهائية
لهذا النقص ، هي أنّه يلزم على مبنى الميرزا من قيام الامارة مقام القطع الموضوعي
ـ بعد الالتفات إلى كون الحاكمية حاكمية واقعية ـ يلزم أن لا يكون مبطلا لإقامة
الثانية مقام القطع الموضوعي في موارد كون الأثر مترتبا على القطع فقط ، لأنّه قد
وجد تمام الموضوع في كل من الواقعتين ، ومعه يكون دليل الحجيّة شاملا لكل منهما
على هذا المبنى.
وبهذا التنبيه تمّ
البحث في أقسام القطع وما يقوم من الامارات والأصول مقامه.
أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم
القطع الموضوعي
تارة يكون قطعا بشيء خارجي ، من قبيل أن يؤخذ القطع برجوع الحج موضوعا لحكم شرعي
كوجوب الصدقة ، وأخرى يؤخذ القطع بالحكم موضوعا للحكم ، وعلي الثاني ، فتارة يكون
هذان الحكمان إمّا متخالفين ، وإمّا متضادين ، وإمّا متماثلين ، ورابعة متحدين.
أمّا القسم الأول
: ـ وهو أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم يخالفه ـ فهو ممّا لا إشكال في إمكانه ،
كما لو قال : «إذا قطعت بوجوب الصدقة ، فصم» فأخذ القطع بوجوب الصدقة في وجوب
الصوم.
وأمّا القسم
الثاني : وهو أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم مضاد له ، كما لو قال : «إذا قطعت
بوجوب الصّلاة حرمت الصّلاة عليك» ، أو إذا قطعت بحرمة الخمر رخّصتك بشربه ، وهذا
بحسب الحقيقة عبارة أخرى عن جعل حكم رادع عن طريقية القطع وكاشفيته ، وهذا عين ما
ذكرناه سابقا ـ لكن بعنوان آخر ـ من أنّه لا يعقل الردع عن القطع من قبل الشارع ،
لأنّه إذا أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مضاد ، فمعناه : انّ الشارع أعمل مولويته
في الردع عن العمل بالقطع ، وهذا غير معقول لنفس البيان السابق والّذي كان حاصله :
إنّ هذا الحكم
المضاد الّذي أخذ في موضوعه القطع بالحكم
المضاد له ، إمّا
أن يكون حكما حقيقيا ، أو طريقيا ، فإن كان حكما حقيقيا ـ بمعنى كون الحكم ناشئا
من مبادئ وملاكات في متعلقه ـ إذن يلزم اجتماع الضدين واقعا في طرفي الإصابة ،
لأنّ كلا من الحكمين حقيقي ، بمعنى كونه واجدا لمبادئ حقيقية في متعلقه ، وقد ثبت
في محله ، انّ الأحكام الحقيقية متضادة بحسب عالم الملاكات.
وإن كان هذا الحكم
المترتب في المقام حكما طريقيا ـ أي الحكم الّذي لم ينشأ من مبادئ في متعلقه ـ بل
نشأ من أجل التحفظ على مبادئ موجودة في متعلقات أحكام أخرى ـ وبهذا سوف نجمع بين
الأحكام الواقعية والطريقية ونرفع شبهة ابن قبّة ـ إذن فهذا لا يضاد الحكم الحقيقي
، لكن الحكم الطريقي هنا غير معقول ، لأنّه لا يعقل إلّا مع الشك في تلك الملاكات
الّتي يراد حفظها بهذا الحكم الطريقي ، وأمّا مع القطع والعلم ، فلا يعقل جعله ،
كما تقدّم بيانه سابقا.
وأمّا القسم
الثالث : وهو أن يكون القطع بالحكم مأخوذا في موضوع حكم مماثل له ، كما لو قال : «إذا
قطعت بحرمة الخمر حرمته عليك» لكن بحرمة أخرى ، وهذا بحسب الحقيقة عين ما بحثناه
في التجري من جعل خطاب للحرمة على المتجري بعنوان مقطوع الحرمة بنحو يشمل المتجري
والعاصي ، إذ هناك ذكرنا أنّه هل يعقل أن يجعل الحرمة على المتجري؟ لكن بعنوان أعم
منه ومن العاصي ، غايته أنّ ذاك كان في خصوص الأحكام الإلزامية ، وهو هنا أعم.
وحينئذ ، نفس تلك
البراهين المدعاة هناك على استحالة جعل حرمة على المتجري بعنوان مقطوع الحرمة ،
تأتي هنا مع أجوبتها ولكن هنا نضيف مطلبا جديدا على ما تقدّم.
وحاصله : هو أنّه
قد يبرهن على استحالة أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مثله بما حاصله :
إنّه إذا أخذ
القطع بالحرمة في موضوع الحرمة ، فحينئذ ، إمّا أن نلتزم في مورد اجتماع الحرمتين
بتعدّد الحرمة حقيقة وإمّا أن نلتزم بالتوحد والتأكد ، وكلاهما محال ، إذن فالمقدم
مثله محال.
أمّا بطلان
التعدّد فلمحذور اجتماع المثلين ، لأنّ هاتين الحرمتين عرضان متماثلان على موضوع
واحد.
وأمّا بطلان
التأكد فهو مستحيل ببيانين.
أ ـ البيان الأول
: هو أنّ هاتين الحرمتين طوليتان ، حيث أخذ في موضوع إحداهما القطع بالأخرى ،
وباعتبار هذه الطولية بينهما يستحيل أن تتوحد الحرمتان والحكمان ، لأنّ الحرمة
المترتبة أخذ في موضوعها القطع بالحرمة الأولى ، إذن فهي في طول الأولى ، ففرق بين
حرمتين من هذا القبيل ، وبين حرمتين من قبيل : «لا تغصب ، ولا تشرب العصير العنبي»
، فهنا لا بأس باجتماعهما ، حيث أنّه يكون شيء عصير عنبي ، ومغصوب ، فتجتمع
الحرمتان بنحو التأكد ، لأنّ الحرمتين هنا ليستا طوليتين ، وأمّا في محل الكلام
فإنّه لا يعقل توحدهما ، لأنّ إحداهما في طول الأخرى ، وإلّا فلو وجدا بوجود واحد
لزم تقدم المتأخر ، وتأخر المتقدم.
وهذا البيان سنخ
ما تقدّم في بحث المقدّمات الداخلية ، حيث قيل فيها : بأنّ المقدّمات الداخلية
تتصف بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجية.
ونوقش ذلك ، لكن
تارة بعدم المقتضي ، وأخرى بوجود المانع ، وهو أنّ المقدّمات الداخلية معروضة
الوجوب النفسي ، فلو اتصفت بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين ، وحينئذ ، قيل :
بأنّه نلتزم بالتأكد.
وقد قلنا هناك :
بأنّ التأكد مستحيل باعتبار الطولية بينهما ، فإنّ
الغيري في طول
النفسي ، وحينئذ لا يعقل التأكد ، وحينئذ ، فسنخ ذلك الإشكال يأتي في المقام ،
فإنّ الحكمين هنا طوليان فلا يعقل التأكد.
ب ـ البيان الثاني
: لإبطال التأكد هو أن يقال : بأنّه لو قطعنا النظر عن الطولية ، والتزمنا بالتأكد
، فالتأكد بحسب عالم الجعل لا يعقل أن يكون بمعنى أنّ أحد الجعلين يتحرك ويندفع عن
الجعل الآخر ويتوحد معه ، بل لا بدّ وأن يكون بمعنى أنّ مادة الاجتماع للجعلين
يكون الحرمة فيها مجعولة بجعل ثالث ، لكن بنحو شديد بحيث أنّ المولى في عالم الجعل
يخرج مادة الاجتماع عن كل من الجعلين ، ويجعلها محرمة بجعل ثالث بنحو أكيد ، ومادة
الاجتماع هي الحرام المقطوع الحرمة ، وإخراجه من دليل «لا تشرب الخمر» ، بأن يقيّد
دليل «لا تشرب الخمر» بغير مقطوع الحرمة ، ومن خطاب «لا تشرب مقطوع الحرمة» يستثني
ما إذا كان مقطوع الحرمة حراما في الواقع ومصادفا له ، ويبقى تحته مقطوع الحرمة
الّذي يكون قطعه غير مصادف للواقع ، ويجعل بجعل ثالث على مادة الاجتماع ، وهو
الحرام المقطوع الحرمة ، وقد استشكل في كلا هذين الجعلين.
والحاصل : هو أنّه
اتضح استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع مثله.
وكان خلاصة برهان
الاستحالة هو ، أنّه في مورد الاجتماع ، إمّا أن يلتزم بتعدد الحكم ، أو بالتأكد ،
والتعدد معناه ، اجتماع المثلين ، والتأكد محال باعتبار الطولية بين الحكمين
المتماثلين.
والجواب على ذلك :
هو أنّ الكلام إن كان بلحاظ عالم الحكم والجعل ، فالمتعيّن هو الالتزام بالشق
الأول ، وهو القول بتعدد الحكم ، ولا يلزم منه محذور اجتماع المثلين ، لأنّ هذا
المحذور إنّما يكون في الصفات الحقيقية الخارجية الاعتبارية.
وإن كان الملحوظ
هو عالم ملاكات الحكم الّتي هي من الصفات الحقيقية ، فالمتعين هو الالتزام بالشق
الثاني ، وهو التأكد ، ولا محذور.
ودعوى أنّه لا
يعقل التأكد في المقام ، لأنّ أحد الحكمين متأخر رتبة عن الآخر ، فكيف يعقل
وجودهما بوجود واحد؟.
هذه الدعوى يكفي
في جوابها أن يقال : إنّ التأخر والتقدم بين الحكمين من سنخ التأخر والتقدم بالطبع
، حيث أنّ الحكم الثاني أخذ في موضوعه القطع بالحكم الأول ، فكأنّه لا تصل النوبة
إلى الثاني إلّا وقد فرغ عن الأول ، فهو تقدم بالطبع لا بالعليّة ، لوضوح أنّ
الأول لم يجعل علّة للثاني ، وإنّما القطع به أخذ موضوعا للثاني ، فتقدّم الأول
على الثاني إنّما هو بالطبع ، والمتقدم بالطبع مع المتأخر بالطبع قد يوجدان بوجود
واحد كما في الجزء والكل ، فإنّ الجزء موجود بنفس وجود الكل ، إلّا أنّ الجنس
متقدم على النوع بالطبع ، بمعنى أنّ كل ما فرض للنوع وجود فرض للجنس وجود دون
العكس ، وهذا هو ميزان التقدم بالطبع.
نعم التقدم
والتأخر بالعلية ينافي التوحد في الوجود ، لأنّ أحد الشيئين إذا كان علّة والآخر
معلولا لا يوجدان بوجود واحد ، بل هو محال ، لأنّه يلزم أن يكون وجودا واحدا علّة
لنفسه ، إذن ، أخذ القطع بالحكم في موضوع مثله معقول.
وأمّا القسم
الأخير وهو أخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم ، فالكلام فيه في مقامين :
المقام الأول : هو
في أخذ القطع بالحكم شرطا في موضوع شخص ذلك الحكم ، بحيث يناط ثبوت الحكم بالعلم
به.
المقام الثاني :
في أخذ العلم بالحكم مانعا في موضوع شخص ذلك الحكم ، بحيث يناط الحكم بعدم العلم
به.
أمّا المقام الأول
: وهو أخذ العلم بالحكم شرطا في موضوع شخص ذلك الحكم ، فالمعروف بينهم استحالة
ذلك.
ولعلّ الأصل في
دعوى الاستحالة هو العلّامة «قده» ، فإنّه في بحوثه الكلاميّة ، وفي مقام الردّ
على العامّة القائلين بالتصويب ، وبأنّ التصويب محال قال «قده» لأنّ معناه ، انّ
الأحكام مخصوصة بمن يعلم بها ، ومن لم يعلم بها لا يكون مخطئا ولا يكون جاهلا ،
لأنّ الجاهل هو أن يثبت له حكم وهو لا يدري ، فإذا فرض أنّ الأحكام مختصة بالعالم
، إذن فالجاهل نسميه جاهل ، وإلّا فهو بحسب الحقيقة لم يجهل ما هو ثابت في حق نفسه
، فأشكل عليه العلّامة «قده» ، بأنّ هذا يلزم منه المحال ، وهو أخذ العلم بالحكم في
موضوع نفسه وهو دور ، لأنّ الحكم إذا أخذ في موضوعه العلم به ، يكون الحكم متوقف
على العلم توقف الحكم على موضوعه ، والعلم بالحكم في طول الحكم ، فيتوقف العلم على
معلومه ، فيلزم التوقف من الجانبين ، وهذا دور ، إذن فالتصويب باطل.
ثمّ انّ المسألة
دخلت علم الأصول تحت صياغة ، انّه هل يعقل أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه أم لا؟
وترتب على هذا ثمرات كثيرة كما سوف يأتي.
وتحقيق الحال هو
أن يقال : ان أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه ، تارة يكون بنحو بحيث يكون المأخوذ
في الموضوع هو القطع والمقطوع معا ، أي أنّه يؤخذ في موضوع شخص الحكم ، القطع به ،
ومصادفة هذا القطع للواقع الّذي معناه أخذ المقطوع أيضا.
والتعبير الآخر عن
هذا الافتراض ، هو أن يقال : إنّ القطع بشخص
__________________
الحكم له معلوم
بالذات ، وهو الصورة القائمة في أفق نفس العلم ، وله معلوم بالعرض ، وهو المطابق
الخارجي ، فحينما نأخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم ، فتارة ، نأخذه بما
هو مضاف إلى معلومه بالعرض ، حيث أنّ كل علم له إضافة لمعلومه بالذات ، وإضافة إلى
معلومه بالعرض إن كان له ذلك ، أي كان مطابقا للواقع ، فأخذ القطع بالحكم بما هو
مضاف إلى معلومه بالعرض ، مساوق لأخذ نفس المعلوم بالعرض في الموضوع ، وحينئذ يكون
القطع والمقطوع معا مأخوذين في موضوع شخص نفس الحكم ، وهذا واضح الاستحالة ، فإنّه
دور ، بل أشدّ ، لأنّه لا يحتاج إلى دوران ، إذ يلزم منه بالعبارة الواحدة توقف
الشيء على نفسه ، لأنّ المفروض انّ القطع والمقطوع كلاهما أخذا في موضوع شخص الحكم
، والمقطوع هو شخص الحكم ، إذن قد أخذ شخص الحكم في موضوع شخص الحكم ، وهذا توقف
للشيء على نفسه مباشرة بلا دوران ، فيكون مستحيلا.
وتارة أخرى ، يفرض
أنّ العلم بالحكم يكون مأخوذا في موضوع شخصه ، لكن لا بما هو مضاف إلى معلومه
بالعرض ، بل نفس العلم يكون دخيلا في موضوع العلم بالحكم ، وفي مثله ، الصياغة
الفنية للدور بحسب عالم الحكم الّتي أشرنا إليها فيما سبق يكون موردا للمناقشة.
وذلك : لأنّ هذا
الحكم موقوف على العلم توقف الحكم على موضوعه ، لأنّ المفروض أنّ العلم أخذ موضوعا
للحكم ، فالحكم متوقف على الموضوع ، وهو العلم ، لكن العلم غير متوقف على الحكم ،
فإنّ كل علم بحسب وجوده التكويني إنّما يتقوم بمعلومه بالذات لا بمعلومه بالعرض
الّذي هو الحكم ، فالمعلوم في الحقيقة هو الصورة الذهنية القائمة في أفق نفس
العالم ، أمّا مطابقها الخارجي ، وهو الحكم الشرعي ، فهذا لا يتقوم العلم به ،
وإنّما يستحيل أن يكون العلم متقوما به ، لأنّ العلم لا يتقوم بما هو خارج أفق
عالم النفس ، ولهذا قد يفرض
أنّ العلم ليس له
معلوم بالعرض كما هو الحال في موارد عدم إصابة العلم للواقع ، فإنّ هناك علما
لكنّه متقوم بالمعلوم بالذات لا بالعرض ، فهنا العلم بالحكم لا يتوقف على وجود
الحكم الشرعي وثبوته الخارجي ، أي على المعلوم بالعرض ، بل يتوقف على صورة ذهنية
لهذا الحكم الشعري ثابتة في أفق نفس العالم ، أي أنّه يتوقف على المعلوم بالذات ،
إذن فلا دور ، لأنّ الحكم الشرعي بوجوده الخارجي يتوقف على العلم توقف الحكم على موضوعه
، بينما العلم ليس متوقفا على الوجود الخارجي للحكم الشرعي ، بل على صورته الذهنية
القائمة في أفق نفس العالم ، وهي الّتي تسمّى بالمعلوم بالذات.
ومن هنا استشكل في
محذور الدور ، ومن ثمّ صاروا بصدد التعويض عن الدور ببيان آخر يثبت الاستحالة.
وقد تمثل هذا البيان
بثلاثة وجوه أخرى لتوضيح استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.
١ ـ الوجه الأول :
هو أن يقال : إنّ هذا المطلب على خلاف الطبع التكويني للقطع.
وتوضيحه هو ، انّ
القطع ، من خصائصه التكوينيّة الكشف والإراءة ، ولا يعقل عزله عن هذه الخصوصية ،
ومن خصائص هذه الكاشفية تكوينا هي أنّ القطع يري القاطع شيئا مفروغا عنه ثابتا
بقطع النظر عن قطعه ، فالقطع دوره دور الكاشفية والمرآة ، فكما أنّ المرآة ترى
صورة الشخص أنّه موجود بقطع النظر عن القطع ، بل هذه خصيصة تكوينيّة للقطع ثابتة
بالوجدان ، وحينئذ ، إذا سلّمنا هذا الوجدان ، نقول : بأنّه إذا أخذ القطع بالحكم
في موضوع نفسه ، فحينئذ هنا ، إمّا أن يحصل القطع بحكم ثابت بلحاظ هذا القطع ،
وإمّا أن يحصل القطع بحكم ثابت بقطع النظر عن هذا القطع.
فإن قيل بالأول ،
فهذا خلف تلك الخصيصة التكوينيّة ، لأنّ هذا معناه : إنّنا بالقطع نرى شيئا يتولّد
من القطع.
وإن قيل بالثاني ،
فهذا معقول ، لكن هذا غير شخص الحكم ، لأنّ شخص الحكم قد قيّد بالقطع ، إذن فنحن
لم نقطع بشخص ذلك الحكم ، بل بغيره ، والقطع بغيره لا يترتب عليه شخص الحكم ، لأنّ
شخص ذلك الحكم إنّما يترتب على القطع بشخصه ، إذن ، فيلزم الخلف في المقام بهذا
البيان ، وهذا الوجه تام.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو لزوم اللغوية ، وذلك بتقريب أنّ شخص هذا الحكم سوف يثبت لمن يقطع به ، أي
أنّه في المرتبة السابقة على ثبوت هذا الحكم ، لا بدّ وأن يكون هناك قطع به ،
وحينئذ ننقل الكلام إلى تلك المرتبة السابقة ونقول :
هذا اقطع بالحكم
الثابت في المرتبة السابقة ، إن كان كاف لمحركيّة العبد ، إذن لا فائدة في الحكم
الّذي سوف ينشأ منه ، وإن لم يكن كافيا لذلك ، وكان المكلّف بانيا على العصيان
مثلا ، إذن فالحكم الناشئ منه سوف يكون حاله حال الأول ، فلا يعقل أن يكون للحكم
المترتب على القطع فائدة في مقام العمل ، لأنّه في طول الوصول ، فإن كان الوصول
والقطع السابق كافيا في التحريك ، إذن فلا أثر له ، وإلّا فلا يصلح للتحريك.
وسنخ هذا البرهان
ذكره السيّد الخوئي «قده» في بحث التجري لإثبات استحالة أخذ القطع بالحرام الواقعي
في موضوع حرمة التجري ، بدعوى : أنّ القطع بحرمة الخمر الواقعية ، إن كان كافيا في
التحريك ، فلما ذا تجعل حرمة التجري ، وإلّا فحال الحرمة الثانية حال الأولى.
__________________
وهذا البرهان كان
هناك غير صحيح ، ولكنّه هنا صحيح.
أمّا عدم صحته
هناك ، فلأنّ المفروض أنّ الحرمة المترتبة على القطع غير الحرمة المقطوعة ، إذن
فقد يقال : إنّه من اجتماعهما يلزم التأكد ، والمكلّف قد لا يتحرك عن تكليف واحد ،
ولكنّه يتحرك عن التكليف الأشد الأقوى ، وحينئذ فلا يلزم محذور اللغوية هناك.
ولكن هذا بخلافه
هنا في المقام ، فإنّ المفروض أنّه قد أخذ القطع بالتكليف في موضوع شخصه ، إذن ،
ثبوت هذا التكليف لا بضم تكليف إلى تكليف آخر ، أي يتعيّن نفس التكليف ، فتكون
صورة البرهان هنا أوضح ، لأنّ المكلّف لا يستطيع أن يحمل إلّا تكليفا واحدا ، سواء
جعل عليه هذا الحكم أم لا ، وجعل هذا الحكم لا يزيد في عدد التكاليف ، فيقال : إنّ
هذا القاطع إن كفاه هذا القطع للتحريك ، فلا فائدة لجعل شخص الحكم ، وإن لم يكفه
فالأمر كذلك.
ولكن يرد على
الوجه الثاني بأن يقال : إنّ فائدة جعل الحكم في المقام هو ، إيجاد هذا العلم.
وتوضيحه هو ، إنّ
هذا البيان الّذي بين في الوجه الثاني يمكن إيراده في جميع الموارد حتّى بالنسبة
إلى حكم لم يؤخذ القطع به في موضوع شخصه ، فمثلا : وجوب الصّلاة المترتب على طبيعي
المكلّف ، سواء كان قاطعا أو جاهلا ، وحينئذ نقول : بأنّ وجوب الصّلاة إنّما يترقب
أن يؤثر بالنسبة إلى من انكشف له الوجوب ووصل إليه بمرتبة من المراتب ، وأمّا من
لم يصل إليه ، فالوجوب ليس مؤثرا ، ومن وصل إليه الوجوب ، فهو على كلّ حال سوف
يتحرك ، سواء كان هناك وجوب أم لا ، إذن جعل وجوب الصّلاة لغو ، وأمّا من لم يصل
إليه الوجوب ، فحينئذ سواء كان وجوب أم لا ، سوف لا يتحرك ، إذن فهذا الجعل لغو
على كلا التقديرين.
وهذا يكشف عن انّ
هذا البيان مغالطة إذن.
وحلها : هو أنّه
في سائر الموارد ، جعل الوجوب بنفسه هو الّذي يحقّق العلم ، فالجعل أحد العوامل
المؤثرة في تكوين القطع ، ويكفي في ذلك فائدة ، فعلمنا بوجوب الفجر إنّما هو
لجعله.
ونفس هذا البيان
يأتي في محل الكلام ، فلو قطع النظر عن أيّ برهان وبقينا نحن وهذا البرهان حينئذ
نقول : بأنّ فائدة جعل هذا الحكم هي أنّه بدونه لا يحصل القطع ، فنحتاج لتكميل هذا
البرهان إلى برهان آخر.
وإن شئت قلت :
انّه يرد على هذا الوجه بأن يقال :
إنّ فائدة الجعل
هنا ـ كما هي فائدته في جميع الموارد ـ هي أن يصل إلى المكلّف فيحركه ، إذن ،
فالجعل بنفسه منشأ يتسبّب به لإيجاد العلم بالحكم ، كيف وهذا السنخ من الإيراد لو
تمّ لأمكن أن يورد به على كل جعل ولو لم يؤخذ في موضوعه العلم به ، فمثلا يقال :
إنّ وجوب الصّلاة إن أريد جعله في حق العالم به فهو لغو ، لأنّه يتحرك من علمه
سواء كان هناك وجوب أم لا ، وإن أريد جعله في حق الجاهل فهو لا يتحرك عنه على كلّ
حال.
والجواب واحد في
الجميع ، وهو أنّ المحركيّة المصححة للجعل ، هو أن يحرك في طول وصوله ، ويكون نفس
جعله من علل إيصاله.
٣ ـ الوجه الثالث
: هو أن يقال : انّ أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه يلزم منه الدور ، لا في عالم
الحكم فقط ، بل في عالم وصول الحكم ، بمعنى : انّ وصول الحكم دوري ، وكل جعل للحكم
يكون وصوله دوريا يكون هذا الجعل مستحيلا.
وتوضيحه يكون
ببيان مقدمتين.
١ ـ المقدّمة
الأولى : هي أنّ الأحكام الفعلية ، بمعنى المجعولات الّتي هي محل الكلام ، وصولها
إنّما يكون بعد إحراز الجعل الكلّي بوصول موضوعاتها المقدرة الوجود ، فالعلم
بالمجعول دائما تابع للعلم بموضوعه المقدّر الوجود ، كما في باب الأحكام المجعولة
، كوجوب الحج المجعول على المستطيع ، فإحراز وجوب الحج يكون بإحراز الاستطاعة ،
ولا معنى لأن تحرز الاستطاعة بإحراز وجوب الحج ، إذ ليس للحكم المجعول صلاحية أن
يدرك إدراكا مباشرا ، إذ هو ليس محسوسا بإحدى الحواس ، وإنّما إدراكه دائما يكون
بلحاظ موضوعه ، فالعلم بالحكم المجعول معلول لموضوعه المقدر الوجود.
٢ ـ المقدّمة
الثانية : هي أنّه إذا طبّقنا ما ذكر في المقدّمة الأولى على محل الكلام في الحكم
الّذي أخذ في موضوعه القطع بشخصه ، يتضح لنا أنّ القطع بهذا الحكم موقوف على القطع
بموضوعه كما عرفت في المقدّمة الأولى ، وموضوعه هو نفس القطع ، فينتج : انّ القطع
بالحكم متوقف على القطع بالقطع بالحكم.
وحينئذ نقول :
بأنّ القطع بالقطع بالحكم ، إمّا نفس القطع ، بدعوى أنّ هذا هو قانون كل الصفات
الوجدانية ، فإنّ هذه الصفات كالقطع والظن ونحوهما معلومة بنفس وجودها لا بصورة
زائدة عليها ، باعتبار أنّها بنفسها حاضرة لدى النّفس ، فعلمها الحصولي عين علمها
الحضوري وليس زائدا عليه ، وحينئذ ، فالعلم بالقطع هو نفس وجود القطع لا شيء آخر
وراءه كما هو الحال في العلم بزيد الّذي هو وراء وجود زيد.
فإمّا أن يقال
هكذا ، أو يفرض أنّ العلم بالخصوص بالوجدان هو غير الوجدان ، بل هو علم حصولي ،
بمعنى أخذ صورة عن هذا الوجدان ، كالعلم بالأمور الحسيّة ، فإنّ العلم بالأمور
المحسوسة غير الإحساس ، فلو فرض ذلك ، حينئذ نقول :
بأنّ هذا القطع
بالصفة الوجدانية معلول للصفة الوجدانية ، وليس حاله حال القطع بالأمور الخارجية
الّذي لا يتوقف على وجود معلوم بالعرض له في الخارج ، ولهذا لا يعقل الخطأ في
القطع بالصفة الوجدانية.
وحينئذ إن ادّعينا
أحد هذين الأمرين ، وهو أنّ القطع بالقطع هو نفس القطع ، إذن فهذا الدور واضح ،
لأنّ القطع بالحكم يتوقف على القطع بموضوعه بحكم المقدّمة الأولى ، والقطع
بالموضوع هو القطع بالقطع ، فإذا كان القطع بالقطع عين القطع ، نتج أنّ القطع
بالحكم يتوقف على القطع بالحكم ، وهو محال.
وإن فرض أنّ القطع
بالقطع شيء آخر وراء نفس القطع يكون ملازما له ، إذن فالقطع بالقطع معلول لنفس
القطع فيلزم الدور مع الدوران ، لأنّ القطع بالحكم متوقف على القطع بالموضوع ،
والموضوع هو القطع ، إذن القطع بالحكم يتوقف على القطع بالقطع ، والقطع بالقطع
يتوقف على القطع بالحكم ، وهو دور ، وهذا دور في عالم الوصول.
وعليه : فهذا حكم
يستحيل على المكلّف به خارجا ، لأنّ علمه به يتوقف على العلم به ، وإذا استحال
العلم به ، معناه : إنّ استحالته فعليّة.
وهذا الوجه صحيح ،
وعليه : فيتبرهن بهذا استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم بالوجه
الأول والثالث ثمّ إنّه بعد ذلك يقال : بأنّه ما هو الحل في مورد يريد المولى أن
يصير مصوبا ، وأراد أن يجعل حكمه بنحو يختص بالعالم دون الجاهل ، كوجوب القصر ، أو
وجوب الجهر والإخفات حيث لا إشكال عقلائيا ومتشرعيا في إمكان تخصيص الحكم بالعالم
به في نفسه لو أراد الشارع ذلك.
وهنا لا بدّ من
افتراض عملية وجدانية تمكّن المولى من ذلك إذا
أراد التصويب
لنكتة من النكات وبنحو لا يردّ عليه إشكال العلّامة «قده» ، والحل يكون بأحد
وجهين.
١ ـ الوجه الأول :
هو أن يؤخذ العلم بالجعل في موضوع فعليّة المجعول ولا محذور ، لأنّ الجعل غير
المجعول كما عرفت في بحث الواجب المشروط.
ومحل كلامنا سابقا
هو في أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول بحيث يكون متعلق العلم هو المجعول لا
الجعل ، والمترتب على العلم هو المجعول ، فمتعلق العلم عين ما هو مترتب على العلم.
أمّا هنا في محل
الكلام فإنّنا نقول : بأنّه نستفيد من الاثنينية بين الجعل والمجعول على ما عرفت
من أنّ الأحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، فالمولى حينما يجعل وجوب الحج
على المستطيع ، فإنّه بمجرد هذا التشريع يتحقّق الجعل دون المجعول ، لعدم استطاعة
المكلّف مثلا ، لكن إذ وجد المستطيع يصبح المجعول فعليا في حقّه ، إذن ، فالمجعول
تابع لفعليّة موضوعه المقدّر الوجود ، أمّا الجعل ، فهو فعلي بمجرد الإنشاء.
حينئذ : وبعد فرض
هذه الاثنينية يقال : بأنّ العلم بالجعل يؤخذ في الموضوع المقدّر الوجود ، والّذي
هو موضوع المجعول ، فيقول المولى مثلا : أوجبت الحج على من كان مستطيعا عالما
بجعلي هذا ، وبهذا الإعلام لا يبقى أيّ محذور ، لأنّ المترتب على العلم هو غير ما
يكون مكشوفا بالعلم ، فما يكون مترتبا على العلم هو فعليّة المجعول لا الجعل ،
لأنّ الجعل لا يتوقف على وجود الموضوع المقدّر الوجود كما هو واضح ، والّذي يتوقف
على العلم إنّما هو المجعول ، والّذي يتوقف عليه العلم هو الجعل.
وقد أورد ذلك على
السيّد الخوئي «قده» فأجاب : بأنّ هذا لا يؤثر في حل المشكلة ، وذلك لأنّه يؤخذ العلم بجعل الحكم في موضوع الحكم
المجعول ، فيؤخذ العلم بجعل على زيد في موضوع الوجوب على زيد ، فيعود الدور ، لأنّ
الجعل لا يكون جعلا للوجوب على زيد إلّا إذا كان قد تحقّق موضوعه في حقّ زيد ،
فجعل وجوب الحج على المستطيع لا يكون جعلا عليّ إلّا إذا كنت مستطيعا ، فالعلم
الّذي يؤخذ في موضوع المجعول إذا أضيف إلى الجعل بما هو شامل لهذا المكلّف ، إذن ،
شموله فرع تحقّق موضوعه ، فيلزم الدور ، بل ان أخذ بما هو جعل لآخر فهو خارج عن محل
الكلام ، ويكون من باب أخذ العلم بحكم مكلف في موضوع حكم مكلف آخر ، من قبيل : ما
إذا قطع بأنّ المرأة إذا وجب عليها الإخفات ، وجب عليه الجهر ، فهذا لا بأس به ،
لكنّه خارج عن محل الكلام.
وجوابه : هو أنّنا
نختار حلا وسطا ، فلا نقول بأنّ العلم بالجعل الشامل فعلا لهذا المكلّف ، مأخوذ في
موضوع حكم ، ليلزم الدور ، ولا نقول انّ العلم بجعل مضاف إلى مكلف مأخوذ في موضوع
مكلف آخر ، بل العلم بجعل يكون في نفسه شاملا لهذا الإنسان ، ولا تكون فعليّة
الشمول منوطة إلّا بنفس هذا العلم.
وهذا يحل المشكلة
، لأنّ العلم هنا علم بجعل مضاف لهذا المكلّف ، لكنّه مضاف إليه على تقدير حصول
العلم ، أي مضاف إليه لو حصل العلم ، فنقول : إنّ العلم بثبوت جعل لا يكون موقوفا
بشموله لهذا المكلّف إلّا على مجرد العلم به.
وهذا الافتراض
معقول ، ويحقّق كلا الأثرين الملحوظين
__________________
للأصولي ، فيحقّق
الأثر الأول المتمثل في إشكال العلّامة الحلّي «قده» على التصويب حيث تكون هذه
صيغة معقولة للتصويب إذا دلّ عليه دليل.
ويحقّق الأثر
الثاني المتمثل في إشكال التهافت القائل : بأنّه لو استحال التقييد في المقام ، أي
استحال أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه ، فحينئذ يستحيل التمسك بإطلاق الخطاب
لإثبات الإطلاق ، لأنّ إطلاق الخطاب لا يكشف عن سعة دائرة الملاك ، لأنّ عدم
التقييد قد يكون لاستحالة التقييد لا لعدم اختصاص الملاك بالمقيد ، فلو ثبتت هذه
الاستحالة ، حينئذ لا يمكن التمسك بإطلاق خطاب المولى لإثبات أنّ غرضه قائم
بالمطلق لا بالمقيد ، إذ لعلّ غرضه قائم بالمقيد ، لكن لم يذكر القيد لاستحالة
التقييد.
وهذا الغرض يتحقّق
بهذه الصيغة المعقولة ، لأنّنا نقول : لو كان الغرض معلقا بالمقيّد لكان بإمكانه
أن يقيّد ، بأن يأخذ العلم بالجعل في موضوع العلم بالمجعول ، فنستكشف من عدم أخذه
قيام الغرض بالمطلق.
وإن شئت قلت : إنّ
جواب السيّد الخوئي «قده» غير تام ، فإنّنا نريد بالجعل القضية الحقيقية الّتي
تكون نسبتها إلى زيد وغيره على حدّ سواء.
وتوضيحه هو أن
يقال : إنّ المقصود من الجعل هو الكبرى ، وهو جعل وجوب الحج على المستطيع العالم
به مثلا ، وحينئذ لا يكون هناك محذور لا في عالم الجعل ، ولا في عالم فعليّة
المجعول.
أمّا في عالم
الجعل ، فلوضوح أنّ المأخوذ فيه هو مجرد فرض العالم بالجعل ، ولا يتوقف ذلك على
فعليته.
وأمّا عدم المحذور
في عالم فعليّة المجعول ، فلأنّ المكلّف يتعلق
علمه بتلك القضية
المجعولة لا العلم بفعليتها في حقّه ، ولا العلم بانطباقها عليه ، وتلك القضية
قضية واحدة وليست أمرا إضافيا ، وإنّما العلم بالانطباق فرع العلم بالصغرى أيضا ،
وهو العلم بتحقّق تمام قيود موضوع تلك القضية خارجا في حقّ المكلّف ، وهو الّذي
يستحيل أخذه في فعليّة الحكم ، وهذا مطلب واضح الصحة والإمكان عقلا وعقلائيا.
وهذا التخريج لا
يفرق فيه بين القول بأنّ المجعول له وجود حقيقي وراء الجعل ، أو أنّه له وجود
توهمي وراء الجعل كما هو الصحيح وتقدّم في بحث المطلق والمشروط ، فحينما توجد الاستطاعة
يحدث شيء حقيقة اسمه المجعول ، أو انّ هذا مجرد توهم ، فعلى كلّ حال ، ما دام هناك
أمران تحليلا ، هما الجعل والمجعول ، فهذه الصيغة معقولة في المقام لرفع الإشكالات
المتقدّمة ، ويترتب على هذا أثران ، أحدهما : ما تقدّم من تصحيح التصويب في المورد
الّذي يقوم الدليل عليه ، والثاني : هو إمكان نفي احتمال دخالة العلم بالحكم في
الغرض والملاك من الحكم ، حيث أنّه يكون التقييد به ممكنا فيكون التمسك بالإطلاق
في الخطاب لنفي إطلاق الغرض والملاك ممكنا أيضا خلافا لما إذا قيل باستحالة
التقييد به فلا يمكن التمسك بالإطلاق للكشف عن إطلاق الغرض والملاك بلحاظ هذا
القيد الّذي هو من القيود الثانوية.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو أن يؤخذ العلم بالإبراز في موضوع الحكم ، فإنّه لا إشكال في أنّ إبراز الحكم
غير نفس الحكم ، إذ أنّ الإبراز عبارة عن خطاب المولى الّذي يدلّ على جعل الحكم في
نفس المولى ، فهو من مقولة الخطاب والكلام ، والحكم من مقولة مدلول الخطاب ،
وحينئذ ، لا مانع من أن يجعل أحد قيود الحكم ، وصول نفس الإبراز ونفس الخطاب ،
فمثلا يقول : «من يصل إليه كلامي هذا يجب عليه أن يحجّ» فيكون وجوب الحج مقيدا
بإبراز هذه القضية الشرطية ، فإنّ إبراز
هذا الإبراز قضية
شرطية وهي وجوب الحج إذا علم بالإبراز ، وهذه الشرطية هي مدلول هذا الإبراز
والخطاب ، إذن ، فقد أخذ العلم بالإبراز في موضوع الحكم المبرز ولا محذور.
وكل من هاتين
الصيغتين وافية بكلا الفرضين الأصوليين اللّذين عقدت هذه المسألة لهما ، فإنّ هاتين
الصيغتين وافيتين بتعقل التصويب حيث يدلّ دليل على إرادة المولى له.
والفرض الثاني هو
إمكان التمسك بإطلاق الخطاب لإثبات أنّ غرض المولى قائم بالمطلق لا بالمقيد ، إذ
لو كان غرضه قائما بالمقيد لأمكن أن يقيده بإحدى هاتين الصيغتين ، فإمّا أن يأخذ
العلم بالجعل ، وإمّا أن يأخذ العلم بالإبراز ، وحيث لم يأخذ أحدهما فيتعين أنّ
غرضه قائم بالمطلق.
إلّا أن الميرزا «قده»
بعد أن بنى على استحالة تقييد الحكم بالعالم به ، فإنّه لم يتبنّ مثل هذه
التخلّصات بل سلك مسلكا آخر في التخلّص فيه عناية زائدة.
وحاصل مسلكه «قده»
هو ، أنّ تخلّص بالطريقة المسمّاة بمتمم الجعل .
وتوضيح هذه
الطريقة هو أنّه يقول : بأنّ الحكم بوجوب الصّلاة يستحيل أن يكون مقيدا بالعلم
بوجوب الصّلاة بالبراهين السابقة ، وإذا استحال التقييد بالعلم استحال الإطلاق
أيضا ، لأنّه بنى على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ،
فالتقييد بعدم العلم مستحيل عنده ، أي تقييد الحكم بأن لا يصل ، فإذا استحال
التقييد من ذاك الطرف ، أيضا استحال الإطلاق المقابل لكل منهما ، وعليه : فيكون
__________________
الحكم مهملا من
جميع الجهات لاستحالة كل من التقييد والإطلاق ، مع انّ غرض المولى الواقعي هو إمّا
المطلق وإمّا المقيد ، إذن كيف يصل إلى إيصال غرضه الواقعي؟
وهنا يقول الميرزا
«قده» ، إنّه يصل إليه عن طريق جعل ثاني وراء الجعل الأول ، ففي البداية يجعل وجوب
الصّلاة بنحو مهمل دون أن يقيده بأي شيء ، لا بهذا الفرد الجاهل ، ولا بالعالم ولا
بالأعم ، ثمّ بعد هذا يجعل جعلا ثانيا ، وهو وجوب الصّلاة ، لكن إن كان غرضه مقيدا
فيجعله على العالم بالجعل الأول ولا دور ولا محذور فيه لتعدد الجعلين لأنّ العلم
بالجعل الأول أخذ في موضوع الجعل الثاني ، وإن كان غرضه في المطلق فإنّه سوف يكون
مطلقا ، لأنّ الثاني قابل للتقييد بالعلم بالجعل الأول ، فيكون قابلا للإطلاق.
وميزة الثاني على
الأول هو ، انّ الثاني باعتباره غير الأول ، فأخذ العلم بالجعل الأول في موضوعه لا
دور فيه ، فوظيفة الجعل الثاني إيصال المولى إلى غرضه ، ودفع الإهمال عن الأول.
وحيث انّ هذين
الجعلين ناشئين من غرض واحد وملاك واحد لم يمكن للمولى إيصاله بالجعل الأول فقط ،
فيتوسل بجعلين لأجل هذا الغرض ، إذن ، فالثاني مع الأول ليسا حكمين متغايرين من
قبيل أخذ القطع في وجوب الصّلاة في موضوع وجوب الصوم.
بل روحه أخذ القطع
بالحكم في موضوع نفسه ، لأنّ هذين الجعلين روحهما واحدة وملاكهما واحد ، لكن من
حيث الصياغة وباعتبار تعدد الجعلين يندفع المحذور ، ونكون قد وصلنا روحيا إلى حاق
الغرض ، وهو أخذ القطع بالحكم موضوع نفسه.
__________________
وهذا التخلص من
الميرزا غير صحيح.
ولتوضيح ذلك ، يقع
الحديث معه في كل من الجعلين ، إذن فالكلام في مقامين.
١ ـ المقام الأول
: في الجعل الأول الّذي تصوره الميرزا «قده» مهملا.
والصحيح أن يقال
فيه : إنّ استحالة التقييد لا توجب استحالة الإطلاق ، بل توجب ضرورية الإطلاق ،
وذلك لأنّا بيّنا في بحث المطلق والمقيد أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد
الثبوتيين في عالم الجعل هو تقابل السلب والإيجاب ، أي تقابل التناقض ، فإذا
استحال أحد النقيضين وجب ضرورية النقيض الآخر.
والسيّد الخوئي «قده»
يقول ذلك ، ولكنّه على مبناه لا يحقّ له ذلك ، لأنّه يبني «قده» على أنّ
التقابل بينهما هو تقابل التضاد ، فلا يمكنه أن يرى ضرورة الإطلاق باستحالة
التقييد :
بل هو يحتاج في
تعيين أحد الضدين عند انتفاء الآخر إلى إقامة برهان على أنّهما من الضدين الّذين
ليس لهما ثالث.
وأمّا بناء على
مسلكنا فلا نحتاج إلى عناية ما دام التقابل بينهما هو تقابل السلب والإيجاب ، فإذا
استحال أحدهما أصبح نقيضه ضروريا.
ولكن مع هذا ،
فإنّ ضرورية أحدهما لا يفيدنا شيئا ، فلا يوصلنا إلى غرضنا الأصولي وهو إثبات انّ
غرض المولى قد تعلّق بالمطلق ، لأنّ هذا الإطلاق الثبوتي مفروض على المولى فلا
يكشف عن إطلاق حقيقي في الحكم بلحاظ غرضه وملاكه ، إذن ، فحال هذا الإطلاق حال
__________________
الإهمال بحكم
الميرزا «قده» ، لاحتمال أن يكون من عدم قدرة المولى على التقييد ، إذن فهذا
الإطلاق كإهمال الميرزا «قده» لا يفيد الفقيه شيئا من حيث أنّ الفقيه لا يتمكن
بمثل هذا الجعل أن يثبت سعة دائرة الغرض ، سواء كان هذا الجعل مهملا كما يقول
الميرزا «قده» أو مطلقا بالمعنى المتقدّم.
ثمّ إنّ السيّد
الخوئي «قده» علّق على الجعل الأول للميرزا «قده» فاعترض عليه
باعتراضين.
١ ـ الاعتراض
الأول : هو أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان تقابل العدم والملكة كما كان
يقول به السيّد الخوئي في أول الأمر ثمّ عدل عنه واختار كون التقابل تقابل التضاد
، حيث يقول : وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، لكن
الملكة المأخوذة هنا ليس بمعنى القابلية الشخصية ، بل بمعنى القابلية النوعية ،
فميزان صدق العدم المطعّم بالملكة هي قابلية عدم هذا المحل لا شخصه ، واستدلّ على
ذلك ، بأنّ التقابل بين الجهل والعلم من باب تقابل العدم والملكة ، فلا يقال عن
الجدار بأنّه جاهل لأنّه غير قابل للعلم رأسا ، ولكن يقال عن الإنسان أنّه جاهل
بحقيقة كنه الله سبحانه ، مع أنّه ليس قابلا للعلم بحقيقته تعالى ، لكن حيث أنّ
الإنسان قابل لنوع هذا العلم وإن لم يكن قابلا لشخصه فصحّ أن يوصف بأنّه جاهل بكنه
الله تعالى.
وإن شئت قلت : إنّ
التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التضاد لا تقابل العدم والملكة ، فإنّ
التقييد عبارة عن لحاظ دخل القيد ، والإطلاق عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد ، وهما
أمران وجوديان
__________________
والتقابل بينهما
من تقابل التضاد لا العدم والملكة ، وحتّى لو فرضنا أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم
والملكة ، إلّا أنّه يكفي في تقابل العدم والملكة ، القابلية النوعية أو الصنفية
للملكة ، فلا يلزم القابلية الشخصية ، وفي المقام ، وإن لم يكن المورد قابلا
للتقييد بخصوص العالم وبشخص هذا القيد ، إلّا أنّه قابل للتقييد ببقية القيود
وبنوع القيد ، وهذا المقدار كاف في الإطلاق.
والوجه في ذلك ،
أنّ الإنسان لا يكون عالما بحقيقة كنه الله سبحانه ، وإلّا لا نقلب الواجب ممكنا
أو الممكن واجبا ، ومع ذلك يتصف بأنّه جاهل بحقيقة الله سبحانه ، بل يكون الجهل به
ضروريا بالنسبة إليه ، فلو كانت القابلية الشخصية معتبرة لما اتصف بالجهل ، لعدم
إمكان الاتصاف بالعلم في هذا المورد بل هو مستحيل ، مع أنّ الاتصاف بالجهل ضروري ،
إذن ، فالمعتبر هو القابلية النوعية ، إذن ، فليس إذا استحال التقييد يستحيل
الإطلاق بل قد يكون الإطلاق ضروريا ، والمصحح لهذا التعبير هو وجود القابلية لنوع
العلم ، وهنا كذلك ، حيث يصحّ أن يقال : إنّ هذا الخطاب مطلق من ناحية هذا التقييد
المستحيل والمصحح له قابلية المحل لنوع هذا التقييد.
وهذا الكلام غير
تام ، وذلك لأنّه يوجد في المقام مطلبان لا علاقة لأحدهما بالآخر.
أولهما : مطلب
لفظي اصطلاحي ، وحاصله : هو أنّ الحكماء في بحث التقابل في الفلسفة العالية ،
قالوا بأنّ التقابل على أربعة أقسام ، تقابل السلب والإيجاب ، وتقابل التضاد ،
وتقابل التضايف ، وتقابل العدم والملكة.
__________________
وهنا قد يقع بحث
في الاصطلاح حيث يسأل : هل أنّ الحكماء الّذين عبّروا بتقابل العدم والملكة ، هل
اشترطوا فيه القابلية الشخصية أو أنّهم جعلوها أعم؟ وهذا بحث لا محصل له إلّا
تحديد الاصطلاح ، وإلّا لا إشكال في أنّ كل وجود مع عدمه متقابلان سواء طعّم العدم
بالقابلية الشخصية ، أو النوعية ، أو الحيثيّة ، أو لم يطعم بشيء أصلا ، فحينئذ ،
لو ورد دليل شرعي يقول : بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم
والملكة ، حينئذ يقع البحث في هذا التقابل ما هو ، وحينئذ يرجع إلى الاصطلاح في
مقام شرح مدلول هذا الدليل الشرعي ، لكن من الواضح عدم وجود دليل شرعي من هذا
القبيل ، إذن فهذا مطلب اصطلاحي لا دخل له هنا ، ولو فرض أنّ الحكماء اختاروا أنّ
القابلية في باب العدم والملكة هي قابلية نوعية ، فهل هذا يكفي للقول بأنّ
القابلية هنا نوعية لا شخصية؟ من الواضح عدم كفاية ذلك ، لأنّ البحث ليس عن تحديد
مصطلح العدم والملكة عند الحكماء ، لا سيّما وأنّه لم تردّ آية أو رواية تفيد بأنّ
الإطلاق والتقييد بينهما تقابل العدم والملكة لكي نبحث عن تحديد مفاد هذا
الاصطلاح.
وثانيهما : مطلب
في منهج البحث ، وهو أن نلحظ انّ الإطلاق بمعنى ما يقتضي سريان الحكم إلى تمام
أفراد الطبيعة ، وهل أنّ حيثيّة السريان متقومة بالقابلية الشخصية أو النوعية أو
ليست متقومة أصلا بالقابلية ، سواء كان المصطلح الفلسفي أو حتّى الاستعمال العرفي
يساعد على صدق عدم الملكة في مورد فقدان القابلية الشخصية أم لا ، إذن ، فالمسألة
ثبوتية وليست لفظية أو اصطلاحية.
والخلاصة أنّ
تحقيق هذا المطلب إذن ، يكون بالالتفات إلى الحيثيّة الّتي تقتضي السريان ليرى أنّ
تلك الحيثيّة هل تقتضي السريان بلا أخذ قابلية أصلا ، أو مع أخذها ، وعلى الثاني ،
فهل القابلية المأخوذة شخصية أو نوعية؟.
والصحيح هو انّ
هذه الحيثيّة الّتي تقتضي السريان لم يؤخذ فيها قابلية أصلا في الإطلاق كما عرفت
ذلك في بحث المطلق والمقيد ، ولهذا قلنا هناك : بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد
هو تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة ، ومعه : فحيثيّة سريان الحكم إلى تمام
أفراد الطبيعة متقومة بمجرد عدم التقييد ، فتكون العلاقة بين الإطلاق والتقييد
علاقة التناقض ، لا العدم والملكة مهما كان مصطلح العدم والملكة فيما ذكره السيّد
الخوئي «قده».
٢ ـ الاعتراض
الثاني : للسيّد الخوئي «قده» على الجعل الأول في كلام الميرزا «قده» هو أنّ الإهمال في
الجعل الأول غير معقول ، وذلك لأنّ الإهمال إنّما يعقل في مقام إبراز شيء وإظهاره
، فقد يكون المبرز مهملا وغير متصدي لبيان تمام الخصوصيات ، لكن في مقام عالم
الثبوت لذلك الشيء لا يعقل الإهمال ، لأنّ مقام الثبوت لا بدّ وأن يفرض فيه
التعيّن ، لأنّ كل شيء في متن وجوده ووعاء ثبوته لا بدّ وأن يكون متعينا متحددا ،
فمثلا حينما نتحدث عن زيد قد نهمل بعض خصوصياته ، لكن زيدا في متن الواقع غير مهمل
، بل لا بدّ أن يكون متحددا من حيث الجهل والعلم وغيره ، إذن فالإهمال شأن مقام
الإثبات ، وأمّا مقام الثبوت لا بدّ فيه من فرض التعين والتحدد ، وعليه : فالحكم
والجعل الأول في مقام ثبوته ومتن وجوده لا بدّ أن يكون تمام أطرافه متعينة من
المكلّف والموضوع والمحمول ، ولا يمكن أن يكون الجعل الأول مهملا ، وكأنّه أثبت
أولا عدم إمكان الإهمال في مقام الثبوت ، ثمّ استنتج من ذلك عدم إمكان الإهمال في
الحكم والجعل الأول.
والصحيح انّ هذا
الاعتراض غير تام ، فإنّه عندنا في المقام مطلبان.
__________________
١ ـ المطلب الأول
: هو أنّه تارة نبني على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب.
٢ ـ المطلب الثاني
: هو أنّه تارة أخرى نبني على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل آخر كالتضاد
، كما اختاره السيّد الخوئي «قده».
فإذا بنينا على
المطلب الأول ، حينئذ لا نحتاج إلى إدخال هذه الخصوصيات في مقام تسجيل استحالة
الإهمال والاعتراض على الميرزا «قده» ، إذ من الواضح أنّ الإهمال بمعنى عدم
الإطلاق والتقييد معا معناه ارتفاع النقيضين وهو واضح الاستحالة ، لاستحالة ارتفاع
النقيضين ، إلّا أنّ هذا على خلاف مبنى الميرزا والسيّد الخوئي «قده» ، إذ بناء
على مبناهما ـ من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ـ لا
مانع من ارتفاع الإطلاق والتقييد معا ، وحينئذ لا يمكن أن يبرهن على استحالة
الإهمال بما ذكره السيّد الخوئي «قده» ، لأنّ ما ذكره يفترض أنّ الإهمال معناه
اللّاتعيين المساوق للوجود المردّد ، بحيث يكون معنى الإهمال ، أنّ الصورة الذهنية
الّتي هي ثابتة في متن وجود الحكم مردّدة غير متعينة ، ومن الواضح انّ هذا التردّد
واللّاتعيين بهذا المعنى مستحيل ، سواء في عالم الوجود الذهني أو الوجود الخارجي ،
فإنّ كل موجود في مرتبة وجوده متعيّن ، ومن هنا كنّا نقول : باستحالة الفرد
المردّد ذهنا وخارجا ، فالصورة الذهنية للطبيعة في عالم الذهن لا محالة تكون
متعينة ، فالفرد الّذي هو مردّد في واقع وجوده بين زيد وعمر مستحيل ، نعم قد
يتردّد شخص فيه وأنّه هل هو زيد أو عمرو ، لكن في واقع وجوده تردّده مستحيل.
لكن الإهمال بناء
على مبنى السيّد الخوئي الّذي هو التضاد لا يلزم منه التردّد الوجودي بهذا المعنى
، لأنّ الإهمال معناه أنّ المولى يلحظ الطبيعة حينما يريد جعل الحكم لها دون أن
يلحظ دخل القيد أو عدمه ،
وهذا لا يجعل لحاظ
الطبيعة بما هو وجود ذهني غير متعين في حده الوجودي ومرددا في متن وجوده ، بل هو
وجود متعين لطبيعة متعينة ، غايته لم يضم إليه لحاظ دخل القيد ولا لحاظ عدم دخله ،
إذن فأين الإهمال بهذا المعنى وانّ كل موجود في حاق ثبوته لا بدّ أن يكون متعينا
لاستحالة التردّد الثبوتي؟ فالتعين بهذا المعنى صحيح ، لكن هنا لا يلزم التردّد
الثبوتي كما يرى السيّد الخوئي ، نعم المولى يلحظ هذا الموجود لكن دون أن يلحظ فيه
عدم القيد أو وجوده ، وحينئذ يحتاج إثبات استحالة الإهمال إلى إبراز نكتة أخرى غير
ما ذكر ، وهذا سوف نشير إليه عند الكلام على الجعل الثاني.
والحاصل هو انّ
هذا الاعتراض من السيّد الخوئي «قده» غير تام ، فإنّه تارة يبنى على أنّ التقابل
بين الإطلاق والتقييد من تقابل السلب والإيجاب ، وأخرى يبنى على أنّه من تقابل
الضدين ، أي أنّ التقييد هو لحاظ القيد ، والإطلاق لحاظ عدمه.
فإنّ بنينا على
الأول ، فالمطلب لا يحتاج إلى إدخال هذه الخصوصيات في مقام تسجيل الاعتراض على
الميرزا «قده».
بل قد يقال بعبارة
أخرى ، إنّ الإهمال بمعنى عدم الإطلاق والتقييد معا ، معناه : ارتفاع النقيضين وهو
واضح الاستحالة ، وإن بنى على الثاني ، أي كون التقابل من تقابل الضدين كما هو
مبناه ، أو بنى على مبنى الميرزا ، من كون التقابل بنحو العدم والملكة ، فإنّه
حينئذ لا يمكن إثبات استحالة الإهمال بالبيان المذكور ، لأنّ الإهمال حينئذ لا
يعنى اللّاتعيين والوجود المردّد ، وإنّما يعني عدم لحاظ الإطلاق ، وعدم لحاظ
التقييد ، أو عدم القابلية لذلك بناء على مبنى الميرزا «قده» فإنّه بناء عليه يكون
لحاظ للطبيعة بلا لحاظ أي شيء زائد عليها ، لا لحاظها مردّدة بين الإطلاق والتقييد
، وعليه : فأين هذا الإهمال من الإهمال في الوجود؟ إذن فالتعين بهذا المعنى
صحيح ، لكن هنا لا
يلزم التردّد الثبوتي ، كما عرفت ، فإنّ المولى يلحظ هذا الموجود لكن دون أن يلحظ
فيه عدم القيد أو وجوده ، إذن فلا بدّ في إثبات استحالة الإهمال في المقام من
إبراز نكتة أخرى غير ما ذكر كما سنشير إلى ذلك عند الكلام على الجعل الثاني.
٢ ـ المقام الثاني
: في الجعل الثاني : والّذي عوّل عليه الميرزا «قده» لأجل إيجاد نتيجة التقييد أو
نتيجة الإطلاق ، ففي هذا الجعل يجعل الحكم على العالم بالجعل الأول فيكون منتجا
نتيجة التقييد ، أو يجعله على المكلّف مطلقا فينتج نتيجة الإطلاق ، وهنا يعترض على
ما أفاده «قده» باعتراضين.
١ ـ الاعتراض
الأول : هو انّ هذا الجعل الثاني الّذي أخذ في موضوعه العلم بالحكم الأول ، إذا
قصد منه التقييد ، حينئذ نسأل : انّه هل أخذ في موضوع الجعل الثاني ـ متمم الجعل ـ
العلم بالجعل الأول ، أو العلم بفعلية مجعول الجعل الأول؟
فإن قيل بالأول ،
فهذا تطويل للمسافة بلا موجب ، لأنّنا برهنّا فيما تقدّم على أنّ العلم بالجعل
الأول يمكن أن يؤخذ في موضوع نفس الجعل الأول بلا محذور ، وبلا حاجة إلى متمم
الجعل ، ومعه : لا موجب للتوسل بجعلين ، إذ يتحقّق المطلب بالجعل الأول.
وإن قيل بالثاني :
فهذا لا يمكن التوصل إليه بالجعل الواحد ، لكن لا يمكن التوصل إليه بجعلين أيضا ،
وذلك لأنّه إذا أخذ في موضوع الجعل والحكم الثاني ، العلم بفعلية المجعول الأول ،
حينئذ نسأل ـ بأنّ هذا الجعل الأول حيث أنّ مجعوله رتّب على موضوع مهمل من حيث
العلم والجهل ـ نسأل بأنّ الطبيعة المهملة هنا ، هل تنطبق على المقيّد من باب أنّ
المهملة في قوّة الجزئية ، أو أنّها تنطبق على كلا الفردين ، أو أنّها لا تنطبق
على شيء؟
فإن قيل بأنّها
تنطبق على المقيّد فقط ، إذن فلما ذا يحتاج إلى الجعل الثاني ـ «متمم الجعل» ـ لإيجاد
نتيجة التقييد إذ عليه ، لو أنّ المولى جعل الجعل الأول وسكت ، إذن فينطبق جعله
هذا على المقيد ، فلو كان غرض المولى هو المقيد ، إذن فقد حصل غرضه بالجعل الأول ،
وقد وصلتم إلى نتيجة التقييد وبدون جعل ثاني ، اللهمّ إلّا إذا أراد المولى نتيجة
الإطلاق من أنّ الميرزا «قده» يقول بالحاجة إلى الجعل الثاني حتّى في نتيجة
التقييد.
وإن قيل بالثاني ،
وهو كون المهملة في قوّة الكليّة ، بحيث أنّ الطبيعة المهملة تنطبق على تمام
الأفراد ، إذن فالمولى لو تعلّق غرضه بالمطلق فإنّه لا يحتاج إلى جعل ثاني ، لأنّ
الجعل الأول يكون كافيا.
وإن قيل بالثالث ،
وهو كون هذا الجعل المهمل الأول غير منطبق لا على المقيد ، ولا على فاقد القيد ،
إذن حينئذ متى سوف يعلم بمجعوله؟ لأنّه إذا كان لا ينطبق ، إذن سوف لن يتحقّق علم
بالمجعول الأول لكي يتحقّق الجعل الثاني ، فإنّ الجعل الثاني أخذ في موضوعه العلم
بمجعول الجعل الأول.
وحينئذ إذا قلنا
انّ مجعول الجعل الأول لا يصير فعليا ، لعدم انطباقه على شيء في الخارج ، حينئذ
معه لا يعقل العلم بفعلية المجعول ، وحينئذ ، لا يتحقّق شرط الجعل الثاني.
والحاصل هو أنّ
العلم المأخوذ في موضوع الجعل الثاني هو العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول المهمل
حسب الفرض ، وحينئذ نسأل : هل انّ الجعل المهمل ، هل هو في قوّة الجزئية ، أو الكليّة
، أو أنّه لا قوّة له أصلا؟
فإن قيل بالأول :
إذن فهذا معناه أنّنا لا نحتاج إلى نتيجة التقييد بالجعل الثاني ، بل الجعل الأول
يحقّق التقييد.
وإن قيل بالثاني :
فهذا معناه أنّنا لا نحتاج في موارد الإطلاق إلى الجعل الثاني ، فإنّ الجعل الأول
يكون مطلقا في نفسه.
وإن قيل بالثالث :
حينئذ يقال : بانّ الجعل الثاني يستحيل تحقّق موضوعه الّذي هو العلم بالمجعول
بالجعل الأول ، لأنّ العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول فرع العلم بتحقّق موضوعه ،
وقد فرض أنّ موضوعه هو المهمل غير المنطبق على شيء ، إذن فلا يعلم بتحقّقه ، وعليه
: فلا يتحقّق موضوع الجعل الثاني.
ثمّ انّنا نصعّد
هذا الإشكال ، بناء على كون العلم بمجعول الجعل الأول مأخوذا في موضوع الجعل
الثاني ، فنقول : بأنّه إذا كان العلم بالمجعول الأول مأخوذا في موضوع الجعل
الثاني ، فيلزم أن يستحيل تحقّق العلم بالمجعول بالجعل الأول ، كما أنّه يستحيل
فعلية المجعول بالجعل الثاني ، وذلك لأنّ المجعول في الجعل الأول قضية مهملة ،
والموضوع فيه لا مطلق ولا مقيد ، والموضوع المهمل الّذي هو هكذا يستحيل أن يكون في
قوّة الكليّة ، وذلك لأنّ المهملة معناها أنّه لا إطلاق فيها ، والإطلاق معناه حيثيّة
السريان ، أي الحيثيّة الّتي تقتضي إسراء الطبيعة إلى تمام أفرادها ، فإذا فرض عدم
الإطلاق ، فلا بدّ وأن يفرض عدم السريان ، لأنّنا إذا فرضنا أنّ المهملة كانت
سارية ، وفي قوّة الكليّة ، فهذا معناه : انّ حيثيّة السريان محفوظة ، ونحن لا
نريد بالإطلاق إلّا حيثيّة السريان ، إذن فهذا خلف ما فرض من عدم الإطلاق فيها ،
إذن فلا يمكن أن تكون المهملة في قوّة الكليّة ، بل هي إمّا في قوّة الجزئيّة أو
أنّه لا قوّة لها أصلا ، وعلى كلا التقديرين يستحيل تحقّق العلم بالمجعول الأول
الّذي أخذ شرطا في الجعل الثاني.
أمّا إذا كان المجعول
الأول لا قوّة له أصلا فواضح كما عرفت.
وأمّا إذا كان في
قوّة الجزئيّة ، فحينئذ يقال : بأنّ معنى كونه في قوّة
الجزئيّة ، يعني
أنّه قابل للانطباق على المقيّد لا على غيره ، إذن ، انطباق الموضوع في الجعل
الأول على فرد ، فرع أن يكون واجدا للقيد ، والقيد هو العلم بالحكم ، إذن فيكون
انطباق المهملة على فرد يعني : العلم بالحكم ، والعلم بالحكم ، وهو المجعول ، فرع
انطباق المهملة عليه ، فيلزم الدور ، ونفس المحاذير السابقة ، من أخذ العلم في
الجعل الأول ، في موضوع الجعل الأول تأتي هنا أيضا ، وبهذا يتبرهن استحالة الجعل
الأول ، كما يتبرهن استحالة الجعل الثاني.
ثمّ انّنا نصعّد
الإشكال فنقول : انّ المهملة يستحيل أن تكون في قوّة الكليّة ولا في قوّة الجزئيّة
، بل لا قوّة لها أصلا ، وذلك لأنّ انطباق الطبيعة على حصة يتوقف على أحد أمرين :
إمّا على أخذ هذه الحصة بعنوانها موضوعا ، وإمّا على لحاظ الطبيعة مطلقة من ناحية
الحصة المقابلة لهذه الحصة.
إذن الانطباق
موقوف إمّا على تقييد ، أو على إطلاق للمقابل ، فإذا لم يكن تقييد ولا إطلاق مقابل
، إذن لا ينطبق على أيّهما ، فمثلا : طبيعة الإنسان لها حصتان ، الأسود ، والأبيض
، فانطباق هذه الطبيعة على الأبيض فرع أحد أمرين.
فإمّا أن يفرض أن
يكون البياض قد أخذ قيدا كما لو قال : «أكرم الإنسان الأبيض» فحينئذ تنطبق الطبيعة
على الأبيض.
وإمّا أن نلحظ
الطبيعة مطلقة من ناحية السواد ، فنلحظ عدم أخذ السواد قيدا ، حينئذ تسري الطبيعة
إلى الأسود ، إذن فانطباق الطبيعة على أحدهما فرع أحد أمرين ، إمّا التقييد
بالبياض ، أو الإطلاق من ناحية السواد ، فإذا لم يثبت كلاهما ، فلا تنطبق على
الأبيض.
حينئذ ، هنا في
محل الكلام ، المقيّد هو العالم بالحكم ، وانطباق طبيعة المكلّف على العالم بالحكم
فرع أحد أمرين : فإمّا أن يؤخذ نفس
العلم بالحكم قيدا
فتنطبق عليه ، لكن هذا يستحيل أن يكون مطلقا من ناحية الجهل ، لأنّ التقييد بالجهل
مستحيل عند الميرزا «قده» ، فالإطلاق المقابل له مستحيل أيضا عنده «قده» كما عرفت
من مبناه في قضية التقابل بين الإطلاق والتقييد ، حيث إذا استحال الإطلاق استحال
التقييد ، إذن انطباق المهملة على المقيّد بالعلم مستحيل ، وهذا يبرهن على أنّ
المهملة لا قوّة لها في مقام الانطباق أصلا.
وإذا تبرهن هذا ،
يتبرهن بالتبع استحالة الإهمال ، وبهذا تمّ النقاش مع الميرزا «قده» ، وبه تمّ
الكلام في المقام الأول ، وهو أخذ العلم بشخص الحكم شرطا في موضوع الحكم.
٢ ـ المقام الثاني
: في أخذ العلم بالحكم مانعا في شخص ذلك الحكم وذلك ، بأن يؤخذ عدم العلم بالحكم
في موضوع ذلك الحكم.
وهذا المطلب تصوره
الشيخ الأنصاري «قده» في مقام توجيه كلمات المحدّثين الّذين ذهبوا إلى عدم حجيّة
القطع الناشئ من الدليل العقلي ، فاعترض عليهم ، بأنّه كيف يعقل الردع عن القطع مع
أنّ حجيته ذاتية ، حينئذ ، صار الشيخ «قده» في مقام توجيه كلمات المحدّثين بحيث لا
يردّ عليهم إشكال عقلي ثبوتي ، فقال : بانّه يمكن أن نحول القطع من طريقي إلى
موضوعي ، وحينئذ يدّعى انّ الأحكام الشرعية قد أخذ في موضوعها عدم القطع بها من
غير طريق الأئمّة عليهمالسلام ، فلو حصل القطع بها من غير طريقهم عليهمالسلام ، حينئذ لا يتحقّق الحكم ، لا لأنّ القطع غير حجّة ، بل
لانتفاء موضوع الحكم ، وبهذا وجّه كلمات المحدّثين ، ومن هنا انفتح باب معقولية أخذ عدم العلم وعدم القطع
بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم.
__________________
والصحيح أنّه
بالنسبة للجعل لا إشكال في معقولية أخذ عدم القطع بالجعل في موضوع المجعول ، وذلك
بأن يقال : «بأنّي جعلت وجوب الحج على من لم يقطع بهذا الجعل من ناحية الرمل ، أو
الجفر مثلا ، أمّا من قطع به من هذه الناحية ، فلا يشمله هذا الجعل».
وهذا أمر معقول ،
فأخذ القطع بالجعل معقول ، لكن كيف يؤخذ عدم القطع به؟.
وغاية ما يتوهم
هنا هو ، انّ الجعل إذا قيّد بعدم القطع به فإنّه يلغو ، لأنّ الجعل إنّما يترقب
له فائدة فيما لو فرض أنّه وصل إلى المكلّف ، فإذا قيّد الجعل بعدم الوصول يكون
لغوا ، إذ لو وصل لما كان مجعولا فعليا ، ولو لم يصل فلا أثر له حتّى لو كان
مجعوله فعليا ، إذن أي متى يترقب الأثر؟
أمن حالة وصول
الجعل؟ من الواضح عدمه ، لأنّ المجعول غير فعلي.
أو من حالة عدم
وصول فعلية المجعول؟ من الواضح أنّه لا أثر لها.
وهذا الكلام إنّما
يتم فيما لو أخذ عدم مطلق الوصول قيدا في الجعل بتمام مراتبه ، فإنّه حينئذ يلزم
هذا الإشكال ، وهو اللغوية وأنّه لا أثر له.
وأمّا إذا أخذ فيه
عدم حصة من الوصول ، لا عدم مطلق الوصول ، حينئذ لا يلزم منه محذور اللغوية ، إذ
يكفي في ترتيب الأثر الوصول الآخر الّذي لم يؤخذ عدمه في الموضوع.
وما ادّعاه الشيخ
الأنصاري «قده» في مقام توجيه كلماتهم هو ، أن يؤخذ عدم حصة خاصة من الوصول ، في
موضوع الحكم ، وهو عدم الوصول الناشئ من البراهين العقلية ، وهذا لا يردّ عليه
الإشكال.
وأمّا أخذ عدم
العلم في المجعول في موضوع المجعول ، فهل يعقل؟ أو أنّه مستحيل؟ كما أنّ أخذ العلم
في المجعول في موضوع المجعول مستحيل؟
والصحيح انّ برهان
الدور بصيغته السابقة لا يجري في المقام ، إذ قلنا سابقا أنّه إذا أخذ العلم
بالمجعول في موضوع المجعول ، فيلزم توقف الحكم على موضوعه ، وتوقف الموضوع على
حكمه ، فيتوقف كل منهما على الآخر.
وهذا الدور لا
يأتي هنا ، لأنّه هنا إذا أخذ عدم العلم بالمجعول في موضوع المجعول ، ففعلية
المجعول موقوفة على عدم العلم بالمجعول ، وعدم العلم بالشيء لا يتوقف على ذلك
الشيء.
وبعبارة أخرى ،
انّه إذا أخذ عدم العلم بالمجعول في موضوع المجعول ، ففعلية المجعول يتوقف على
العلم بالمجعول ، ولكن عدم العلم بالمجعول لا يتوقف على المجعول ، إذن ، فلا دور.
والخلاصة هي أنّ
فعلية المجعول يتوقف على عدم العلم به ، وعدم العلم به لا يتوهم أنّه يتوقف على
المجعول ، وهذا هو الفرق بين طرف العلم ، وطرف عدمه.
ففي طرف العلم ،
يتوهم أنّ العلم بالمجعول يتوقف على المجعول ، فإن توقف المجعول على العلم دار.
لكن في طرف عدم
العلم ، لا يتوهم انّ عدم العلم بالمجعول يتوقف على المجعول ، ومعه لا دور حينئذ ،
ومعه لا تجري المحاذير السابقة ، فإن كان هناك محذور فلا بدّ من استئناف بحث جديد
ليتضح به غير ما تقدّم.
ومن هنا ، قد يقال
: بوجود محذور في أخذ العلم بحكم مانعا عن شخص ذلك الحكم ، وذلك بأن يقال : أنّه
إذا أخذ العلم المخصوص
كالعقلي مثلا ،
مانعا عن فعلية الحكم ، فهذه المانعية لا يترتب عليها أثر في المقام ، وإنّما
يترتب عليها أثر لو أمكن أن تصل إلى من وجد في حقّه المانع ، لكي يعرف المانعية
ويترتب الأثر عليها ، مع انّ هذه المانعية لا يمكن أن تصل إلى الشخص الّذي يكون
المانع محفوظا عنده ، لأنّها إن وصلت لمن لم يكن علمه عقليا ، إذن فالمانع غير
موجود عنده ليكون لإيصال المانعية أثر بالنسبة إليه ، وأمّا من كان عالما علما
عقليا بفعلية المجعول ، فهذا يستحيل تصديقه بهذه المانعية ، إذ بمجرد أن يصدق بها
يخرج عن كونه عالما بفعلية الحكم ، إذن ، فاجتماع المانع مع وصول المانعية مستحيل
، وعليه : فمثل هذه المانعية لا يعقل جعلها ، لعدم الأثر لها.
وجواب هذه الشبهة
أولا : انّ هذه المانعية مجعولة بنفس جعل الحكم لا بجعل مستقل ، والمناط في فائدة
جعل الحكم هو أن يكون قابلا للوصول إلى المكلّف ، ومن الواضح أنّ التكليف بوجوب
الحج على البالغ المستطيع غير العالم علما عقليا بهذا الوجوب ، هو تكليف قابل
للوصول إلى المكلّف به ، وهو من كان عالما علما شرعيا ، وهذا تمام ما يراد من
التكليف ، فإنّه يكفي في فائدته أن يكون قابلا للوصول لمن خوطب به ، ولا يعتبر
قابليته للوصول لمن لم يخاطب به.
وثانيا : إنّ
قولكم ، انّ من يوجد عنده المانع يستحيل أن تصل إليه المانعية ، فهذا غير تام.
وذلك لأنّه بحسب
الدقة ، حينما يقيّد الحكم بعدم العلم العقلي بالمجعول ، حينئذ ، يستحيل أن يوجد
المانع ، لا أنّه يوجد ولكن لا تصل المانعية ، لأنّ هذا المكلّف الّذي يعلم عقلا
بشخص هذا الحكم والّذي هو حكم مقيّد بعدم هذا العلم ، كيف يعقل أن يتعلّق علمه
العقلي بفعلية حكم مع أنّ فعليته مقيّدة بعدم هذا العلم العقلي بهذا الحكم نفسه
إذ عدم علمه به لا
يجتمع مع علمه به ، فهذا التقييد بحسب الحقيقة يؤدّي إلى استحالة وجود المانع ، لا
أنّ المانع يوجد لكن يستحيل وصول مانعيته.
فإن قيل : إذا كان
المانع مستحيل وجوده ، إذن ما معنى أخذ عدمه قيدا ، وما هي فائدته؟ لأنّه إذا
استحال وجوده كان عدمه ضروريا.
فجوابه : إنّ
استحالة وجود المانع ، كان سببه هذا التقييد ، إذ لو لا هذا التقييد كان وجود
المانع بمكان من الإمكان ، واستحالة وجوده الناشئة من التقييد لا يوجب لغويته ،
وبهذا يتضح ، انّ أخذ عدم العلم في موضوع شخص الحكم أمر معقول.
وبهذا تمّ الكلام
في أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مماثل ، أو مخالف ، أو مضاد ، أو متحد معه شرطا
ومانعا.
ثمّ انّ الشيخ «قده»
في الرّسائل ، والمتأخرين ذكروا كلاما طويلا في أقسام الظن ، ومماثلتها لأقسام
القطع ، حيث أنّه قد يكون مأخوذا في موضوع حكم آخر يماثله ، أو يخالفه ، أو يضاده
، أو يكون عينه بنحو الشرطية أو المانعية ، ومن هنا صاروا في مقام التفتيش عن نكات
الفرق بين القطع والظن من هذه الناحية ، وحيث انّ هذه الأقسام هي مجرد افتراضات لا
تطبيق لها ولا أثر إلّا في مجال جعل الأحكام الظاهرية ، والجمع بينها وبين الأحكام
الواقعية الّتي سوف يأتي الكلام عنها ، لذا نتركها في المقام إلى مقامها إذ لا
ثمرة في بحثها ، وندخل في تنبيه جديد من تنبيهات القطع.
التنبيه الثالث
من تنبيهات القطع
، هو البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية في التكليف الشرعي وعدمه.
ويقع البحث فيه من
ناحيتين.
١ ـ الناحية
الأولى : في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمها.
٢ ـ الناحية
الثانية : هي أنّه إذا قيل بوجوب الموافقة الالتزامية ، فهل يكون وجوبها مانعا عن
إجراء الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا لم يكن هناك مانع من ناحية
الموافقة العملية؟ كما في موارد الأصول المثبتة للتكليف مع كون المعلوم بالإجمال
حكم ترخيصي كما في موارد جريان استصحاب النجاسة مع العلم إجمالا بطهارة أحد
الإناءين ، حيث لا محذور في جريان الاستصحابين من ناحية الموافقة العملية ، إذ لا
امتثال عملي للمعلوم بالإجمال لأنّه ترخيص؟ لكن حينئذ يقع الكلام في أنّه هل ينشأ
محذور من ناحية المخالفة الالتزامية؟ لأنّه إذا استصحبنا النجاسة أو الحرمة في كلا
الطرفين يكون هذا موجبا للالتزام بمخالفة حكم الله تعالى ، وحينئذ ، ان قيل بحرمة
المخالفة الالتزامية ، ووجوب موافقتها فقد ينشأ محذور يمنع من جريان الأصول في مثل
هذا المورد.
ومثال آخر : هو
موارد دوران الأمر بين المحذورين ، كما لو علم في مورد بالوجوب أو الحرمة ، فإنّه
هنا لا مانع من جريان الأصول
بلحاظ الموافقة
العملية ، لأنّ المخالفة الاحتمالية قهرية سواء جرت الأصول أم لا ، والمخالفة
القطعية مستحيلة سواء جرت الأصول أم لا ، إذن لا محذور من ناحية المخالفة العملية
، لكن قد ينشأ محذور من ناحية المخالفة الالتزامية ، كما لو تعبّدنا بعدم الوجوب ،
وعدم الحرمة ، فمعناه أنّه لم نلتزم بحكم الله تعالى في هذه المسألة الدائرة أمرها
بين الوجوب أو الحرمة ، إلى غير ذلك من الموارد الّتي تظهر فيها ثمرة المخالفة
الالتزامية ، وقبل الدخول في تحقيق الحال في ذلك ، لا بدّ من بيان معنى الموافقة
الالتزامية الّتي يدّعى وجوبها حيث يحتمل فيها عدّة احتمالات.
وقبل بيان هذه
الاحتمالات ، لا بدّ من شرح معنى الموافقة الالتزامية فنقول : إنّ الموافقة
الالتزامية هي عبارة عن فعل نفساني واقع تحت اختيار المكلّف ، وهذا الفعل هو سنخ
توجّه مخصوص من قبل النّفس نحو مطلب «ما» بحيث ينتزع من هذا التوجّه مفهوم الخضوع
والتسليم والانقياد ، وهذا أمر اختياري للنفس ، إذن ، ليست الموافقة الالتزامية
مجرد القطع واليقين والعلم بالمطلب ، إذ قد يفرض أنّ الإنسان يحصل له اليقين
بنبوّة إنسان أو إمامته أو أعلميته ، لكنّه مع هذا لا يلتزم بذلك ، بمعنى أنّه لا
يتوجه إلى هذه النّبوّة أو الإمامة توجها نفسيا خاصا بحيث ينتزع منه عنوان الخضوع
والانقياد لذلك النّبيّ ، بل هو في مقام التوجيه يعرض عنه وإن كان في واقع نفسه
يقطع بأنّ هذا نبي.
ومن هنا يعلم ،
انّ الالتزام ليس مساوقا لليقين والقطع ، بل معناه ما تقدّم ، إذن فهو من أفعال
الجوانح وليس من أفعال الجوارح.
وحينئذ ، يقع
الكلام ، في أنّ الحكم الشرعي كما يستدعي فعلا جارحيا ، فهل يستدعي فعلا جانحيا
بحيث نتوجّه إلى الحكم الشرعي توجها مخصوصا ، والمعبّر عنه بالالتزام بالنحو الّذي
عرفت أم لا؟.
وتحقيق الكلام في
ذلك ، يستوجب التكلم في عدّة أمور.
الأمر الأول : في
أنّه كيف نتصور مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن إجراء الأصول العملية؟.
وهنا يمكن تصوير
هذه المانعية ببيانات ثلاث.
١ ـ البيان الأول
: هو أنّه إذا وجب الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالا ، فإنّه يستحيل حينئذ
جريان الأصول والالتزام بها ، لأنّه لو جاز الالتزام بجريانها أيضا للزم الالتزام
بالمتنافيين ، وهذا يستحيل صدوره من عاقل ، إذ كيف نلتزم بطهارة أحد الإناءين مع
الالتزام فعلا بنجاسة كل منهما بالاستصحاب ، إذن فالالتزام بهذين الأمرين معا
التزام بالمتنافيين ، وهو مستحيل.
وهذا التقريب واضح
البطلان ، لأنّ المفروض في المقام أنّ متعلّق أحد الالتزامين حكم واقعي ، ومتعلّق
الآخر حكم ظاهري ، والمفروض انّنا جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية
ولم نفترض تضادا وتنافيا بين الإباحة الواقعية والحرمة الظاهرية ، وحينئذ لا يكون
الالتزام بهما معا التزاما بالمتنافيين.
وعليه : لا يكون
هذا برهانا على استحالة جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي بناء على وجوب
الموافقة الالتزامية.
٢ ـ البيان الثاني
: هو أنّ نفس الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالا ، مناف لجريان الأصول ، وإن
لم يكن التزاما بالمنافي ، لأنّه لا منافاة بين الحكم الواقعي والظاهري ، لكن نفس
الالتزام منافي ، لأنّ الالتزام الجدي بإباحة شيء شرعا وواقعا لا يلائم مع
الالتزام بحرمته استصحابا وظاهرا ، إذ الالتزام الجدي بإباحته يستدعي ترتب الأثر عليها
، إذن فنفس الالتزام بالإباحة الواقعية ينافي جريان الاستصحاب ،
وبناء عليه : قد
يتوهم انّ هذه المانعية ـ كما في الدراسات ـ إنّما تتم لو كان الواجب هو الالتزام
بالحكم الواقعي بعنوانه التفصيلي ، فإنّ الالتزام بإباحة شيء بعنوانه التفصيلي مع
البناء على حرمته استصحابا لا يجتمعان.
وأمّا إذا كان
الواجب هو الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي فلا منافاة حينئذ بين الإباحة
والحرمة في كل مورد.
لكن الصحيح في
تقريب هذه المانعية هو البيان الثالث ، حيث لا يفرّق فيه الحال بين كون الواجب هو
الموافقة الالتزامية للحكم الواقعي بعنوانه التفصيلي ، أو بعنوانه الإجمالي.
٣ ـ البيان الثالث
: هو أن يقال : بأنّ وجوب الموافقة الالتزامية من شئون الحكم المعلوم بالإجمال ،
فإذا جرى الأصل في نفي الحكم المعلوم بالإجمال ، نفي وجوب الموافقة الالتزامية
نفيا ظاهريا بنفي موضوعها ، باعتبار انّ موضوع وجوبها هو ثبوت الحكم ، فإذا انتفى
الحكم بالأصل المؤمن ، فحينئذ ، ينتفي موضوع وجوب الموافقة الالتزامية ، وهذا ينتج
الترخيص من قبل الأصل في ترك الالتزام رأسا ، أي الترخيص في المخالفة القطعية
الالتزامية ، لأنّ هذا الحكم منفي ، فكأنّه قال : لا يجب عليك الالتزام ، وهذا
ترخيص في المخالفة القطعية الالتزامية.
وهذا التقريب من
سنخ تقريب المانعية لوجوب الموافقة القطعية ، أو حرمة المخالفة القطعية في جريان
الأصول ، حيث كنّا نقول : بأنّ جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يؤدّي إلى
الترخيص في ترك الموافقة الالتزامية ، لأنّ وجوبها من تبعات الحكم الشرعي ، وهو
منفي ، وهذا ترخيص في المخالفة الالتزامية القطعية ، وعليه فلا يجب الالتزام به لا
إجمالا ولا تفصيلا.
وبهذا التقريب
ينبغي أن يبين مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول.
٢ ـ الأمر الثاني
: في تحقيق حال هذه المانعية ، فنقول :
إنّ وجوب الالتزام
فيه احتمالات.
١ ـ الاحتمال
الأول : هو أن يكون وجوب الالتزام بالأحكام ، حكما عقليا في طول تنجز التكليف ،
بمعنى أنّ كل تكليف يتنجز امتثاله العملي وموافقته العملية في طول ذلك الحكم
العقلي بلزوم الالتزام الجنائي به ، فيكون وجوب الموافقة الالتزامية حكما عقليا في
طول تنجز التكليف من ناحية امتثاله العملي.
ومن الواضح ، انّه
بناء على هذا الاحتمال لا يعقل مانعية وجوب الالتزام عن جريان الأصول ، لأنّ وجوب
الالتزام هنا فرع تنجز التكليف ، ومع جريان الأصل لا يتنجز التكليف ، لأنّه بجريان
الأصل يرتفع تكوينا موضوع وجوب الموافقة الالتزامية.
وينبغي أن يعلم
أنّه بناء على هذا العلم الإجمالي ، يختصّ وجوب الموافقة الالتزامية بالأحكام
الإلزامية دون الترخيصية ، لأنّ الأحكام الترخيصية لا تنجز لها ، ويختصّ بالأحكام
الإلزامية الواصلة أيضا ، لأنّ غير الواصل لا تنجز له ، ويختص بالأحكام الإلزامية
الواصلة بوصول منجز لا بوصول غير منجز كالعلم الإجمالي ونحوه الدائر أمره بين
المحذورين ، إذن فلا موضوع لوجوب الموافقة الالتزامية في هذه الموارد ليتصور
مانعيته عن جريان الأصول.
٢ ـ الاحتمال
الثاني : هو أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية متنجزا في عرض التنجز العملي ، يعني
: انّ للحكم الشرعي تنجزان في عرض واحد ، أحدهما تنجز عملي ، والآخر تنجز التزامي
، والعقل
يحكم إذا وصل
التكليف بوجوب الموافقة العملية ، وهذا هو التنجز العملي ، ويحكم بوجوب الموافقة
الالتزامية ، وهذا هو التنجز الالتزامي ، وهذان حكمان عقليان ، وتنجزان عقليان
عرضيان ، وكلاهما فرع وصول الحكم الشرعي ، فإذا لم يصل ، فكلاهما غير منجز.
وفرق هذا الاحتمال
عن الأول ، هو أنّ التنجز الالتزامي هنا ليس في طول التنجز العملي ولذا يعقل
الانفكاك بينهما ، بأن يكون حكم من ناحية التنجز العملي غير منجز ، لكن من ناحية
الالتزام منجز ، لعدم الطولية بينهما ، وبناء عليه : قد يتنجز الحكم التزاما ولا
يتنجز عملا.
وحينئذ يقال : إذن
، ما هو المقدار الواصل من التكليف هنا؟ فيقال : إنّ المقدار الواصل في موارد
العلم الإجمالي هو الجامع بين الوجوب والحرمة وهو الإلزام ، إذ من الواضح انّ
إباحة كل منهما بالخصوص غير واصلة في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، بل الواصل
هو جنس الالتزام ، وهناك ، الواصل جامع الإباحة ، وحينئذ ، وحيث أنّنا قلنا إنّ
وجوب الموافقة الالتزامية فرع الوصول ، إذن فتجب الموافقة الالتزامية بمقدار ما
وصل ، وما وصل هو الجامع ، إذن يجب الالتزام بالجامع ، وهذا لا ينافي جريان الأصول
في كلا الطرفين ، إذن ، فتجري أصالة البراءة في هذا الطرف وفي ذاك الطرف ، لكن
يلتزم بالجامع ، ولا يؤدّي جريانها في كليهما إلى الترخيص في الموافقة الالتزامية
القطعية ، كما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة العملية القطعية ونكتة الفرق هي أنّه
في باب المخالفة العملية القطعية نقول : إنّ التكليف المنجز هو الجامع ، لكن لا
تجري الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال ، لأنّ جريانها في تمامها يؤدّي إلى
الترخيص في ترك الجامع رأسا ، لأنّه موجود في أحدهما ، ومع الترخيص في كليهما يلزم
منه ترخيص بترك الجامع ، إذن جريانها يوجب الترخيص في المخالفة العملية
القطعية للجامع ،
لأنّ الإتيان بالجامع مع ترك الطرفين غير معقول ، إذ ليس له وجود إلّا بهما ، فإذا
تركا ترك.
وهذا بخلافه في
الموافقة الالتزامية القطعية ، فإنّ جريان الأصل المؤمن في الأطراف يستدعي عدم
وجوب الالتزام بكل منها ، وهو لا ينافي وجوب الالتزام بالجامع ، لأنّ الالتزام به
لا يوجد في ضمن الالتزام بأحدهما ، بل يمكن للالتزام أن يقف على الجامع ولا يسري
إلى هذا الطرف أو ذاك ، وذلك لأنّ الجامع هنا أمر نفساني يوجد بوجود مستقل دون أن
يسري إلى أحد الطرفين ، كما انّ نفس العلم لم يسر إلى أحدهما ، فكذلك الالتزام به
، لأنّ الجامع غير منحصر لا بهذا ولا بذاك.
والحاصل : هو أنّ
الترخيص في ترك الالتزام بهذا بالخصوص أو بذاك بالخصوص ليس معناه ترك الالتزام
بالجامع ، ومن هنا كان جريان الأصول في تمام الأطراف يؤدّي إلى الترخيص في
المخالفة العملية القطعية ، ولكن لا يؤدّي إلى الترخيص في الموافقة الالتزامية
القطعية ، وعليه ، لا مانع من جريان الأصول من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية ،
بمعنى أنّ وجوب الموافقة الالتزامية لا يكون مانعا عن جريان الأصول بناء على هذا
الاحتمال.
٣ ـ الاحتمال
الثالث : هو أن يفرض انّ وجوب الموافقة الالتزامية حكم شرعي مستقل لا عقلي ، كما
لو حكم الشارع بأنّه «كلّما ثبت الجامع يجب الالتزام به» ، وهذا معناه : انّ العلم
الإجمالي بإباحة أحد الأمرين ، يستوجب علما إجماليا بوجوب الالتزام بأحدهما ،
وحينئذ نسأل : هل يوجد محذور في جريان الأصول من ناحيته أم لا؟
وقد ذكرنا في
الأمر الثاني ، انّ وجوب الموافقة الالتزامية له عدّة الاحتمالات كما تقدّم ،
والاحتمال الثالث منها هو ، أن يكون وجوب
الموافقة
الالتزامية حكما شرعيا مترتبا على واقع الحكم الشرعي الأولي ، بمعنى أنّ هناك حكم
شرعي أولي ، هو الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، وهناك حكم شرعي ثانوي مترتب على
الأول ، هو وجوب الالتزام بالحكم الشرعي الأولي ، فيكون هذا الوجوب حكما مترتبا
على واقع الحكم الأول سواء كان معلوما أو مشكوكا ، واصلا أو غير واصل ، وكأنّ كل
حكم يجب الالتزام به سواء وصل أم لا ، وبناء على هذا الاحتمال ، يوجد عندنا في
المقام إباحة واقعية غير واصلة بخصوصيتها في أحد الطرفين ، وهذه الإباحة تقع
موضوعا لوجوب الالتزام الشرعي بناء على عدم اختصاصه بالحكم الواصل ، بل يهم غير
الواصل ، إذن الإباحة الواقعية المشخصة تقع موضوعا لوجوب الالتزام ، ومن هنا قد
يتوهم أنّ جريان استصحاب النجاسة في كل من الطرفين موجب لنفي الإباحة الواقعية
ظاهرا ، ويترتب على ذلك نفي أثرها ، وهو وجوب الالتزام ، وهذا ترخيص في المخالفة
الالتزامية القطعية ، وعليه : فلا يجوز إجراء الأصول لئلّا يؤدّي جريانها إلى تلك
المخالفة.
وهذا التوهم غير
صحيح لوجهين.
١ ـ الوجه الأول :
هو أنّه لا يعقل القول بوجوب الموافقة الالتزامية للحكم الواقعي غير الواصل
بعنوانه التفصيلي ، لأنّه يلزم منه التشريع حيث أنّ عنوانه التفصيلي مع عدم الوصول
ممّا لا يعلم ، والالتزام بحكم غير معلوم تشريع محرم ، وعليه : فبناء على أنّ وجوب
الالتزام المترتب على التكليف الواقعي غير الواصل لا يمكن أن يكون متعلقه هو
الالتزام بالعنوان التفصيلي ، فيجب حينئذ أن يكون متعلق وجوب الموافقة الالتزامية
هو الحكم الشرعي الواقعي بعنوانه الإجمالي ، ومن الواضح حينئذ ، انّ وجوب الالتزام
بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي موضوعه معلوم الثبوت وجدانا ، لأنّ كل واقعة لا
تخلو من حكم ، وهذا الحكم يستدعي وجوب الالتزام الإجمالي ، سواء كان
وجوبا أو حرمة أو غيرهما
، فإنّ اللازم المشترك فيها واحد ، وهو الالتزام الإجمالي ، وجريان الأصول في
أطراف المعلوم بالإجمال إنّما يوجب نفي الطهارة أو الإباحة ، ولا يلزم منه نفي
موضوع وجوب الالتزام ، لأنّ موضوعه طبيعي الحكم ـ الحكم على إجماله ـ لا خصوص
الإباحة ، ومن الواضح انّ طبيعي الحكم ، أو الحكم على إجماله ، معلوم الثبوت في كل
واقعة بالوجدان.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو أن نفرض انّ الواجب هو الالتزام بالعنوان التفصيلي للحكم الواقعي المشكوك
حتّى لو كان تشريعا ، فحينئذ نقول : بأنّ الأصول العملية تجري ، لأنّ هذه الأصول
إمّا أن تكون أصولا تنزيلية ، تتعبدنا بالآثار الشرعية لمؤدّاها ، وإمّا أن تكون
أصولا غير تنزيلية فتتعبدنا بالوظيفة العملية لمؤدّاها فقط ، فإن كانت الأصول
الجارية في أطراف المعلوم بالإجمال أصولا غير تنزيلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان
الّتي تعبدنا بالوظيفة العملية لمؤدّاها فقط ، فمن الواضح حينئذ انّ مثل هذه
القاعدة لا يترتب على جريانها نفي وجوب الالتزام ، لأنّ الالتزام أثر شرعي مترتب
على الحكم بالإباحة ، والأصل الجاري لنفي الإباحة لمّا لم يكن تنزيليا ، فلا يترتب
على نفي الإباحة بالأصل غير التنزيلي نفي آثار الإباحة والّتي منها وجوب الالتزام.
وإن كانت الأصول
الجارية في أطرافه أصولا تنزيلية ، حينئذ ، يقال : إنّ إطلاق الأصل لهذا الأثر غير
معقول ، لأنّ هذا الأصل التنزيلي مفاده التعبّد بمؤداه لتمام آثاره ، لكن شموله
لهذا الأثر لا يمكن ، فنرفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله ، وعليه : فلا مانعية حينئذ
لوجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول ، وممّا ذكرنا يظهر حال الاحتمال
الرابع.
٤ ـ الاحتمال
الرابع : هو أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية حكما عقليا ، موضوعه مطلق الحكم
الشرعي ولو لم يصل ، فهو عين
الاحتمال الثالث ،
لكن الوجوب هنا عقلي لا شرعي كما في الثالث ، وحينئذ ، ممّا ذكرناه في الوجه الأول
في الجواب عن الاحتمال الثالث يأتي هنا في المقام ، وهو أنّه إذا كانت تجب
الموافقة الالتزامية للحكم الواقعي وإن لم يصل فلا بدّ وأن يكون المقصود وجوب
الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي لا التفصيلي ، وذلك لأنّ الالتزام به
بعنوانه التفصيلي مستلزم للتشريع ، وهو قبيح عقلا حرام شرعا ، فيكون وجوب الموافقة
الالتزامية موضوعه عبارة عن الحكم الشرعي على إجماله ، فكأنّه قال : كل موافقة ثبت
لها حكم شرعي على إجماله ، فإنّه يجب الالتزام به ، وإذا كان موضوع الالتزام الحكم
الشرعي على إجماله ، فهو معلوم الثبوت وجدانا وواقعا ، لأنّ كل واقعة لا تخلو من
حكم ، وليس موضوعه خصوص الإباحة ليقال : نرفعه باستصحاب النجاسة ويلزم الترخيص في
المخالفة الالتزامية القطعية.
ومن مجموع ما
تقدّم ، يتضح أنّ الموافقة الالتزامية على تقدير وجوبها لا تكون مانعة عن جريان
الأصول في أطراف العلم الإجمالي.
٣ ـ الأمر الثالث
: في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه ، وفي الحقيقة انّ هذا بحث فقهي ، ومن الواضح
أنّه إن كان المراد من الالتزام البناء على انّ هذا حكما صادرا من الشارع وأنّه من
أحكام الله سبحانه ، فمن الواضح انّ هذا البناء ليس من الواجبات ، فإنّ الإنسان لا
يجب عليه أن يبني على أنّ كل حكم من الأحكام يكون صادرا من الشارع ، وإن كان
المراد من الالتزام البناء على أنّ كل ما جاء به النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هو من عند الله تعالى ، فهو ممّا لا بدّ من أن يتعبّد به ،
لأنّ إنكار مثل هذا تكذيب للنّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا يمكن أن يجتمع الإنكار مع التصديق بنبوّته.
وبعبارة أخرى :
هناك مرحلتان ، مرحلة نفرغ فيها عن انّ هذا
الحكم جاء به
النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الله تعالى ، وفي هذه المرحلة يجب أن نتعبّد بذلك ،
لأنّ هذا معناه الاعتقاد بالنّبوّة.
وهناك مرحلة قبلها
، وهي أنّه هل يجب التعبّد بأنّ هذا حكم جاء به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أم لا؟ فهذا لا دليل على وجوبه.
نعم الواجب على
المكلّف أن يجزم بأنّ سلوكه لا يخالف ما جاء به النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولو من باب الاحتياط ، إذن فالالتزام بمعنى التسليم
والانقياد والخضوع لأحكام الله تعالى ممّا جاء به النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على نحو الإجمال مع تطبيق الخضوع على ما يحرز كونه مصداقا
لهذه القضية الاحتمالية ، هو واجب ، وهو من شئون الإيمان عقلا وشرعا ، إلّا أنّه
لا دخل له فيما هو محل الكلام ، وبهذا ننهي البحث في الموافقة الالتزامية.
الجهة السادسة :
حجية الدليل العقلي
بعد الفراغ عن
حجيّة القطع في نفسه بلا حاجة إلى جعل جاعل ، وقع البحث بينهم في خصوص القطع
الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، أي من الأدلة العقلية ، فذهب فريق من علمائنا إلى
إنكار حجيّة الدليل العقلي في مقام استنباط الأحكام الشرعية ، ولتوضيح الحال في
تحرير محل النزاع ينبغي إيراد مقدمتين.
١ ـ المقدّمة
الأولى : هي أنّ النزاع الواقع في حجيّة الدليل العقلي نزاعان لا ينبغي الخلط
بينهما.
أحدهما : النزاع
بين الإمامية وغيرهم ، وهو نزاع في الدليل العقلي الظني المبني على الظن كالرأي ،
والقياس ، والاستحسان ، وسدّ الذرائع ، والمصالح المرسلة ، وغيرها من الأدلة
العقلية الظنيّة الّتي بنى جمهور علماء المسلمين غير الإمامية على العمل بها ،
وأجمع علماء الإمامية تبعا لأئمتهم عليهمالسلام على عدم جواز التعويل عليها في أنفسها.
وثانيهما : هو
نزاع بين علماء الإمامية أنفسهم ، في جواز استنباط الأحكام الشرعية من الدليل
العقلي حتّى ولو كان قطعيا.
وقد ذهب المشهور
من علمائنا إلى حجيّة الدليل العقلي القطعي في
استنباط الحكم
الشرعي ، وذهب جملة منهم إلى عدم حجيته وعدم جواز التعويل عليه في ذلك ، والنزاع
الثاني هو محل الكلام.
وينبغي أن يعلم
أنّ المقصود من الحكم العقلي ليس هو حكم القوّة العاقلة بمعناها الفلسفي الّذي
يتميّز عن باقي قوى النّفس ، بل المقصود به هو الحكم الّذي يصدره الإنسان على وجه
الجزم واليقين غير مستند إلى آية ، أو رواية.
ثمّ انّ محل
النزاع في حجيّة الأدلة العقلية إنّما هو في حجيّة الأدلة العقلية الّتي يراد
استنباط الأحكام الشرعية منها في عرض الكتاب والسنّة.
وأمّا الدليل
العقلي الواقع في مبادئ التصديق بالكتاب والسنّة ، فلا إشكال في حجيته ، فإنّ
الكتاب والسنّة ينتهي التصديق بهما إلى دليل عقلي ، إذ لا يمكن الاستقلال بالكتاب
والسنّة للتصديق بالكتاب والسنّة.
كما انّ الحكم
العقلي الواقع في طول الكتاب والسنّة كحكم العقل بوجوب الامتثال ، وقبح المعصية ،
واستحقاق العقاب ونحوه ممّا هو واقع في طول الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب
والسنّة ، فهذا أيضا ممّا لا خلاف ولا إشكال فيه ، وإنّما مورد الخلاف والنزاع
إنّما هو في الحكم العقلي الّذي هو في عرض الكتاب والسنّة بحيث يكون مصدرا ومرجعا
في مقام استنباط الأحكام الشرعية منه ، على حدّ مرجعية الكتاب والسنّة.
٢ ـ المقدّمة
الثانية : هي انّ الأحكام العقلية على قسمين.
١ ـ القسم الأول :
أحكام عقلية نظرية.
٢ ـ القسم الثاني
: أحكام عقلية عملية.
وقد قيل بأنّ
العقل النظري هو إدراك ما هو واقع.
وقيل بأنّ العقل
العملي هو إدراك ما ينبغي أن يقع.
والأحسن تبديل هذا
التعبير فيقال : إنّ العقل العملي بحسب الدقة هو أيضا إدراك ما هو واقع ، وذلك
لأنّ العقل العملي يدرك حسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح حيثيتان واقعيتان
ثابتتان في لوح الواقع ، فكما انّ العقل النظري يدرك الإمكان والاستحالة ، وهما
ثابتان في لوح الواقع ، فكذلك العقل العملي يدرك الحسن والقبح ، «وأنّ هذا ممّا
ينبغي ، وهذا ممّا لا ينبغي» ، ونفس الانبغاء واللّاانبغاء أمر ثابت في لوح الواقع
، لكن الفرق بينهما هو ، أنّ الأمر الواقعي المدرك للعقل ، إن كان لا يستدعي بذاته
جريا على طبقه فهو من مدركات العقل النظري ، وإن استدعى بذاته وبلا ضميمة الجري
على طبقه فهو من مدركات العقل العملي ، إذن ، مدركات العقلين أمور واقعية لكنّها
تختلف من حيث استدعائها للجري على طبقها بذاتها ، وعدم استدعائها ذلك.
ثمّ انّ تشكيل
الدليل العقلي على الحكم الشرعي ، تارة ، يكون مقتنصا من العقل النظري ، وأخرى
يكون مقتنصا من العقل العلمي ، إذن ، فهنا قسمان من الأدلة العقلية.
١ ـ القسم الأول :
الدليل العقلي المقتنص من العقل النظري ، وهذا الدليل يرجع إلى أحد بابين.
أ ـ الباب الأول :
باب الإمكان والاستحالة ، فإنّ العقل حاكم في هذا الباب ، وهو كما يدرك الإمكان
والاستحالة بحسب عالم التكوين كذلك يدركهما بحسب عالم التشريع أيضا ، فالعقل يحكم
مثلا باستحالة اجتماع الوجوب والحرمة ، ويحكم باستحالة الخطاب الترتبي ـ على مبنى
الكفاية ـ ويحكم بالإمكان على مبنانا.
وهذه الأحكام ،
يمكن أن تشكل أدلة عقلية على الحكم الشرعي ، لكن بمعنى أنّها يمكن أن تشكل بمفردها
أدلة نافية للحكم الشرعي ، لكن
لا يمكن أن تشكل
بمفردها أدلة مثبتة للحكم الشرعي ، لأنّ العقل إذا حكم بالاستحالة في مورد فهذا
يكفي وحده لنفي الحكم والتكليف الشرعي فيه ، لكنّه إذا حكم بالإمكان أو الاستحالة
، فحكمه حينئذ ، لا يكفي في إثبات الحكم الشرعي ، بل يحتاج إثبات الحكم حينئذ إلى
ضم ضميمة خارجية إليه.
ب ـ الباب الثاني
: باب العلية والمعلولية ، من قبيل أن يفرض أنّ العقل النظري أدرك الملاك التام
والمصلحة الملزمة التامة في «فعل» فيستكشف استكشافا لمّيا ـ أي أنّه ينتقل من
العلّة إلى المعلول ـ وجود الحكم في مورد وجدت فيه تلك العلّة ، وكذلك في موارد
الأولوية ، كما لو ثبت بقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) حرمة هذا الكلام ، فهنا يستقل العقل ويحكم بأنّ تمام
المحذور الموجود في هذا الكلام موجود بنحو أتمّ في الضرب ، والشتم ، إذن بقانون
العليّة ، يحكم العقل بأنّ المساوي للعلّة علّة لا محالة ، وكذلك علية وجوب الشيء
لوجوب مقدمته أو لحرمة ضده ، فإنّ هذه العلية على فرض ثبوتها يدركها العقل النظري.
وقد يدرك العقل
معلولية شيئين لعلّة واحدة بحيث إذا ثبت أحد المعلولين ثبت الآخر لا محالة ، فكل
هذه الأحكام المدركة بالعقل النظري ترجع إلى باب العلية.
ومن هنا يظهر أنّ
العقل النظري قد يستقل أحيانا في إثبات هذه الأحكام ، وقد لا يستقل في إثباتها
أحيانا أخرى.
٢ ـ القسم الثاني
: الدليل العقلي المقتنص من العقل العملي ، فإنّ العقل العملي لا ينهض وحده ولا
يكفي لاستنباط الحكم الشرعي ، بل لا بدّ من أن ينضم إليه العقل النظري كي تتم
عملية الاستنباط ، فالعقل العملي في المقام قد يدرك قبح الكذب ، ولكن هذا الإدراك
وحده لا يكفي لاستنباط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ما لم نضم إليه عقلا نظريا
يدرك ويحكم
بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فإنّ هذه الملازمة من مدركات وأحكام العقل
النظري لا العملي ، وكذلك قد يدرك ويحكم العقل العملي بقبح تكليف العاجز ، ولكن
هذا لا يستنبط منه حكم شرعي ما لم يضم إليه عقل نظري يدرك استحالة صدور القبيح من
المولى ، إذن ، فالعقل العملي دائما يحتاج إلى ضم عقل نظري في مقام استنباط الحكم
الشرعي.
وهذا بخلاف العقل
النظري فإنّه لا يحتاج في هذين البابين إلى ضم عقل عملي إليه.
هذه نبذة عن حكم
الدليل العقلي في كل من قسمي الدليل العقلي ، والنظري ، والعملي.
وحيث اتضح موضوع
هذا البحث وحيثيّاته ، نبدأ في الحديث عن حجيّة الدليل العقلي وعدمها ، فنقول :
إنّ الكلام حول
الدليل العقلي يقع في ثلاث مقامات :
لأنّ القصور
المدّعى في الدليل العقلي ، إمّا أن يكون بلحاظ عالم الجعل ، وإمّا أن يكون بلحاظ
عدم صلاحيته للكشف ، وإمّا أن يكون ـ بعد الفراغ عن عدم القصور في عالم الجعل وفي
عدم القصور في صلاحيته الدليل العقلي للكشف ، بلحاظ قصوره في المنجزية والمعذرية ،
وانّ الدليل العقلي قاصر عن تنجيز الحكم أو التأمين عنه.
المقام الأول :
هو أن يقال : بأنّ
قصور الدليل العقلي نشأ من ضيق في عالم الجعل وأخذ قيدا في الحكم الشرعي من قبل
المولى ، وهذا القيد يختل بقيام الدليل ، وقد يصور هذا المعنى بعدّة وجوه نذكرها
مع ذكر الخصوصيات الّتي تميّز بعضها عن بعض ومن ثمّ نذكر ما يعقب عليها من تعقيبات
عامة.
١ ـ الوجه الأول :
هو أن يقال : بأنّ المولى أخذ في موضوع الحكم الشرعي العلم بالجعل ، لكن لا كل علم
بالجعل ، بل خصوص العلم الناشئ من تبليغ الحجّة ، الناشئ من الأدلة الشرعية بناء
على ما أوضحناه سابقا من أنّه يعقل أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول دون أن يلزم
محذور الدور ونحوه ، إذ كما يعقل أخذ طبيعي العلم بالجعل في موضوع المجعول ، كذلك
يمكن أن يؤخذ حصة خاصة من العلم بالجعل في موضوع المجعول ، وهو العلم الناشئ من
الأدلة السمعية والشرعية ، وحينئذ ، متى ما وصل الجعل بدليل عقلي بحت ، لا يكون
المجعول فعليا وإن كان الجعل ثابتا ، وذلك لأنّ فعلية المجعول مقيدة بالعلم الخاص
بالجعل ، وهذا العلم الخاص لم يتحقّق ، ومعه لا يكون المجعول فعليا ، إذن فالقصور
في الدليل العقلي ينشأ من نقص وضيق في عالم الجعل .
وهذا الوجه لو
فرضت تماميته فهو ، ينتج أكثر ممّا يريد إثباته هذا المنكر لحجيّة الدليل العقلي ،
وذلك لأنّه ينتج ربط الحكم بالعلم السمعي ، فلو لم يعلم المكلّف بالتكليف لا بدليل
سمعي ولا بدليل عقلي ، فمقتضى هذا الوجه حينئذ ، انّ المجعول ليس فعليا في حقّه
ذلك لأنّ فعلية المجعول أنيطت بالعلم السمعي ، وحيث لا علم سمعي ، إذن ، لا فعلية
للمجعول ، إذن فكما انّ حالات العلم العقلي تخرج عن نطاق فعلية المجعول ، فكذلك
حالات اللّاعلم مطلقا تخرج عن نطاق فعلية المجعول ، ويلزم عدم كون الشاكّ مكلفا.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو أن يفرض أخذ عدم العلم العقلي بالجعل ، في موضوع المجعول ، بناء على ما
أوضحناه سابقا من أنّه كما يمكن أخذ العلم بالجعل شرطا ، يمكن أخذ العلم بالجعل
مانعا ، ـ أي أخذ
__________________
عدمه قيدا ـ فيؤخذ
عدم العلم العقلي بالجعل ، في موضوع المجعول ، وحينئذ ، سوف يكون القصور في الدليل
العقلي ناشئا من ضيق في عالم الجعل ، لا من كاشفيته ومنجزيته.
وهذا الوجه يتميّز
عن الوجه الأول ، أنّه يتلاءم مع ثبوت التكليف للشاكّ ، لأنّه أخذ في موضوعه عدم
العلم العقلي بالجعل قيدا في المجعول ، ولذا لو لم يعلم أصلا كان الحكم ثابتا عليه
، ولكن لا بدّ من تقييد هذا القيد ، فيقال : إنّ القيد ليس هو عدم العلم العقلي
مطلقا ، وإلّا لزم في حال قيام دليل عقلي ودليل سمعي معا على حكم عند المكلّف ،
لزم أن لا يثبت الحكم عليه ، لأنّه يصدق على مثل هذا الشخص حينئذ ، انّه قام عنده
دليل عقلي ، مع أنّه لا يلتزم أحد بعدم ثبوت الحكم في مثل هذا المورد ، إذن ، فلا
بدّ من تقييد هذا القيد فيقال : إنّ الشارع أخذ في موضوع الحكم عدم العلم العقلي
وحده ، وهذا يناسب صورتي قيام الدليل الشرعي وحده ، أو منضما إلى الدليل العقلي ،
إذ في صورة قيام الدليلان معا يصدق أنّه لم يقم الدليل العقلي وحده ، ومعه يكون
الشرط متحققا لأنّ الشرط هو عدم قيام وتفرّد الدليل العقلي وحده ، وهذا الشرط
محفوظ في هذه الصورة.
٣ ـ الوجه الثالث
: هو أن يؤخذ عدم العلم العقلي بالمجعول في موضوع الحكم المجعول بناء على ما
أوضحناه في التنبيه السابق ، من أنّ العلم بالمجعول لا يعقل أخذه شرطا في المجعول
، لكن يعقل أخذه مانعا خلافا لمدرسة النائيني «قده» الّتي ساقت المطلبين سياقا
واحدا دون أن تبرز نكتة فرق بين أخذ العلم بالمجعول شرطا ، وبين أخذه مانعا.
ونحن قد ذكرنا
أنّه إذا أخذ شرطا يلزم منه محذور ما يشبه الدور ، بخلاف ما لو أخذ مانعا فإنّه لا
يلزم منه محذور.
٤ ـ الوجه الرابع
: لو تعذرت كل هذه الوجوه ، أو أنّه لم يلتفت إلى إمكان نكاتها وأنّه لا يعقل أخذ
العلم بالجعل ، ولا العلم بالمجعول لا شرطا ولا مانعا في الجعل الأول ، فحينئذ ،
يصور هذا القيد بنتيجة التقييد على مسلك الميرزا «قده» بأن يقال : بأنّ الحكم يقيد
بنفس ما قيّد به في الوجوه السابقة ، لكن على نحو نتيجة التقييد ـ أي بجعلين لا
جعل واحد ـ.
وقد قلنا سابقا
إنّ هذا غير معقول ، وإن بنى عليه الميرزا «قده» .
٥ ـ الوجه الخامس
: هو أن يؤخذ العلم الناشئ من الدليل الشرعي قيدا في متعلق الوجوب وليس في موضوع
الوجوب ، أي في المأمور به لا في نفس الأمر ، بخلاف الوجوه السابقة المفترضة لأخذه
قيدا في موضوع الوجوب ، بحيث لا وجوب بلا علم ، وذلك انّ الأمر بالعام أو بالصّلاة
مثلا ، متعلق بالفعل المأتي به بقصد القربة ، وقصد امتثال الأمر في المقام موقوف
على أن يكون هناك أمر قد وصل إلى المكلّف ليقصد امتثاله ، وحينئذ ، المولى ، يخصص
نفس قصد الامتثال الّذي هو داخل تحت الأمر ومتعلقا له بحصة خاصة ، وهي قصد امتثال
الأمر الّذي وصل إلى المكلّف بالدليل الشرعي ، فيقصد القربة الّذي هو متعلق الأمر
، فيؤخذ منه حصة خاصة ، وهو قصد التقرّب بلحاظ أمر واصل بالدليل الشرعي.
وهذا الوجه ذكره المحقّق
العراقي «قده».
وميزة هذا الوجه
عن الوجوه السابقة هي ، انّ الوجوب فيه فعلي على كلّ حال حتّى في حقّ من قطع
بالحكم عن طريق الدليل العقلي ، غاية الأمر أنّ الصّيام أو الفعل لا يصحّ منه لعدم
تحقّق حقّ الامتثال منه ما دام قد وصله الحكم بدليل عقلي لا شرعي.
__________________
نعم هذا الوجه فيه
جهة قصور عن الوجوه السابقة ، وهو أنّه يختصّ بأبواب العبادات الّتي أخذ في متعلق
الأمر فيها قصد القربة ، ولا يجري في التوصليات البحتة المستغنية عن أخذ قصد
القربة فيها ، فلا تحصص بحصة خاصة.
إلّا أنّ هذا
الوجه إنّما يتعقل فيما لو فرض أنّ تحصيل العلم بالدليل الشرعي كان تحت قدرة
المكلّف واختياره ، وأمّا إذا لم يكن تحت قدرته واختياره ، وكان أمرا اتفاقيا قد
يحصل بلا اختيار وقد لا يحصل ، حينئذ يكون هذا القيد من قيود الواجب ، يجب أخذه في
الوجوب أيضا لا الواجب ، لما برهنّا عليه في بحث مقدّمة الواجب من أنّ قيود الواجب
إذا كانت اختيارية فيعقل أخذها في الواجب وعدم أخذها في الوجوب ، ويكون اللازم
حينئذ إيجادها من المكلّف ، وأمّا إذا كانت غير اختيارية «كالوقت» مثلا ، فإذا
أخذت في الواجب وجب أخذها في الوجوب أيضا ، وإلّا لزم البعث نحو تحصيلها وهو محال
، لاستحالة التحريك نحو غير المقدور ، إذ أنّ قصد القربة مقيّد بالعلم الشرعي
بالأمر ، إذن فهذا العلم الشرعي بالأمر يكون قيدا في الواجب ، وحينئذ ، فإن لم يكن
هذا العلم تحت القدرة ، فيجب أخذه في الوجوب ، إذن فيرجع إلى أحد الوجوه السابقة
مع شيء من التغيير.
هذه وجوه خمسة
يمكن أن تذكر في المقام لإثبات قصور الدليل العقلي الناشئ من قصور في عالم الجعل.
وبما بيّناه فيما
تقدّم ، حينئذ ، لا يرد ما أورده الشيخ الأعظم «قده» في الرّسائل ، من أنّ هذا
القيد الّذي هو ـ «تبليغ الحجّة» ـ حاصل حتّى في حقّ من قام عنده الدليل العقلي ،
لأنّ من قام عنده هذا الدليل العقلي على انّ الله سبحانه أوجب صوم شهر رمضان مثلا
، يستكشف من نفس هذا الدليل العقلي دليلا شرعيا وحكما سمعيا ، لأنّ كل ما حكم به
الله
سبحانه قد بيّنه
النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام وبلّغوه ، إذن ، فالتبليغ محفوظ ، فإن قيل : بأنّ الأحكام
الشرعية مقيدة بكون التبليغ من الحجج عليهمالسلام ، فهنا عند ما يقوم دليل عقلي على حكم شرعي وانّ هذا الحكم
شرّعه الله تعالى ، حينئذ نستكشف التبليغ من الحجج وأنّه وقع منهم عليهمالسلام ، وحينئذ يكون القيد محرزا ، ومعه لا يردّ الإشكال الّذي
أورده الشيخ الأعظم «قده» لأنّه مبني على كون القيد المأخوذ هو ، عنوان تبليغ الحجج عليهمالسلام لا عنوان الوصول من قبل الحجج عليهمالسلام ، مع أنّه يمكن له «قده» أن يقول : بأنّ القيد المأخوذ
إنّما هو الوصول من الحجج عليهمالسلام وليس تبليغهم عليهمالسلام كما في الرّواية ، «انّه إن كان قد صام نهاره ، وصلّى ليله
، وتصدّق بجميع ماله ، ولم يكن ذلك بدلالة وليّ الله تعالى ، لم يقبل منه ذلك» ،
الدالة على انّ العبرة بالوصول من الإمام عليهالسلام ، لا بالتبليغ الواقعي الثبوتي ، والوصول من الحجّة عليهالسلام غير متحقّق ، كما أنّه لا يردّ عليه ما أورده الميرزا «قده»
، من أنّ الوصول أو التبليغ من الحجج متحقّق ، لأنّ العقل هو أيضا حجّة ، لأنّه
الرّسول الباطني فإذا استفاد الحكم من الدليل العقلي فيكون قد وصل إليه من قبل
الحجّة ، فهذا لا يردّ أيضا ، وذلك لأنّ الكلام ليس في لفظة حجّة ومدلولها العقلي
كي يقال : بأنّ مفهوم حجّة ينطبق على الدليل العقلي والعقل ، وإنّما الكلام في
الحجج الأئمّة عليهمالسلام المعصومين كما هو منصرف اللفظ ، فإنه منصرف إلى الأئمة
المعصومين عليهمالسلام.
نعم يردّ عليه ،
انّ هذا المطلب غير تام لا إثباتا ولا ثبوتا.
أمّا إثباتا ،
فلأنّ هذه الوجوه لو كانت معقولة فهي تحتاج إلى دليل يدلّ عليها ، لأنّ تقييد
الوجوب أو الواجب بهذا القيد على خلاف مقتضى إطلاقات الأدلة ، والّذين ذهبوا إلى
عدم حجيّة الدليل العقلي
__________________
تمسكوا بروايات
ذكرها الشيخ في الرّسائل ، وهذه الرّوايات لا تتم دلالة وحجيّة شيء منها في إثبات
هذا التقييد ، لأنّها لا تخلو من أحد أمور ثلاثة.
١ ـ الأمر الأول :
هو أن تكون مسوقة لبيان عدم جواز التعويل على الأدلة العقلية الظنية الّتي يعول
عليها فقهاء غير الإمامية في استنباط الأحكام الشرعية ، ولأجل ذلك شدّد الأئمّة
النكير على من كان يعوّل على مثل هذه الأدلة من القياس والاستحسان ، وسد الذرائع
والمصالح المرسلة وغيرها.
ولكن معه تكون هذه
الرّوايات أجنبية عن محل النزاع بناء على ما ذكرناه في المقدّمة الأولى ، من
مقدمتي هذا البحث ، إذن ، على هذا الوجه يحمل قسم من الرّوايات.
٢ ـ الأمر الثاني
: هو أن يكون قسما آخر من هذه الرّوايات دالا على اشتراط الولاية في صحة العمل ،
بمعنى أنّ العمل من دون معرفة الإمام عليهالسلام والإيمان به لا يقع صحيحا.
وهذا مطلب نحن
نقول به ونفتي به أيضا ، وأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلّا مع الإسلام والإيمان ، أي
الولاية ، فإذا اختل أحد الشرطين بطلت.
ولكن هذه
الرّوايات الدالة على ذلك خارجة عن محل النزاع.
٣ ـ الأمر الثالث
: هو أن يكون قسما ثالثا من هذه الرّوايات دالا على التأنيب على ترك الفحص عن
الأدلة الشرعية والتوغل في أخذ المطالب والأحكام من الأدلة العقلية كما هو الحال
في رواية أبان المعروفة ، الّتي يقول فيها الإمام عليهالسلام : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين».
__________________
والرّواية صحيحة ،
وليس كما ادّعي ، ولكنّها ناظرة إلى ما ذكرنا ، لأنّ أبان حينما سمع بذلك الحكم ،
حصل له اطمئنان سريع بأنّ هذا حكم غريب لا يحتمل ثبوته وذلك لأنّه لم يلتفت إلى
الأدلة الشرعية ، بينما لو فحص في الأدلة لما حصل عنده قطع واطمئنان بغرابة الحكم
، بل ولزال من نفسه هذا القطع كما هو الحال في كل الأمور الّتي لا يراجع الصغار
فيها الكبار ، بينما لو راجعوا أو سألوا لم يحصل لهم الاطمئنان فضلا عن القطع في
جلّ ما قطعوا به ، وهذا ما يعبّر عنه بالتقصير في مقدّمات الدليل.
فالرّوايات الّتي
استدلوا بها على التقييد المذكور لا تخلو من أحد هذه المضامين الثلاثة ،
واستيعابها مفصلة يخرجنا عن طور علم الأصول ، هذا محصل الكلام في مقام الإثبات ،
إذن فهذه الوجوه الخمسة غير تامة إثباتا ، حتّى لو فرض أنّها ممكنة ثبوتا.
والخلاصة هي أنّ
الوجوه الخمسة لدعوى القصور في الدليل العقلي الناشئ من النقص في عالم الجعل ، يقع
تارة إثباتا ، وقد عرفت أنّها غير تامة.
وبقي الكلام ثبوتا
، ولنا حوله ثلاث تعليقات.
١ ـ التعليق الأول
: هو انّ هذا الكلام لو تمّ وصحّت هذه الوجوه الخمسة ، وفرض أنّ العلم بالجعل
مأخوذ في موضوع المجعول ، لكن هذا لا يعني أنّ فقيها أصوليا إذا لم تثبت عنده هذه
الوجوه ولو اشتباها ، وتمسك بإطلاقات الأدلة ، يكون القطع العقلي حجّة بالنسبة
إليه تنجيزا وتعذيرا.
إذن ، فالنزاع بين
الأصوليين والإخباريين بناء على هذا ، يكون نزاع تخطئة وليس نزاع اتهام ، من قبيل
النزاع في نجاسة الخمر وطهارته ، أو
النزاع في حليّة
لحم الأرنب وحرمته ، إذن فهذه الوجوه تنتج أنّ النزاع على مستوى التخطئة لا
الاتهام.
وهذا بخلاف ما لو
قيل بأنّ الدليل العقلي لا ينتج القطع إلّا مع التقصير في المقدّمات كما هو معنى
المقام الثاني ، وانّ الإنسان الّذي لا يقصر في المقدّمات لا يحصل له القطع من
الدليل العقلي ، لأنّ هذا يعني ؛ انّ الّذي يعتمد على القطع العقلي لا يكون معذورا
وليس مخطئا فقط ، وكذا لو قيل بأنّ القطع العقلي ليس منجزا ولا معذرا بحكم العقل.
٢ ـ التعليق
الثاني : هو انّ تصوير أخذ العلم الشرعي في موضوع المجعول ، أو أخذ عدم العلم
العقلي بالجعل في موضوع المجعول ، وتصويرها بأحد الوجوه الخمسة ـ خصوصا الوجه
الأول لأنّه أحسنها ـ إنّما يريد به أصحاب هذه الوجوه بيان ، أنّهم لا ينكرون
حجيّة القطع الذاتية ، وإنّما ينكرون حصول قطع بالحكم الشرعي ، وذلك لأنّ الحكم
الشرعي مقيد بالعلم الشرعي ، أو بعدم العلم العقلي به ، فإنّه بناء على مبناهم لا
يحصل مع العلم العقلي قطع بفعلية المجعول ، إذن ، فمدّعاهم إنكار حصول القطع وليس
إنكار حجيته ، ويتمّ لهم ذلك ـ حسب مدّعاهم ـ بتحويل القطع من طريقي إلى موضوعي
بأخذه في موضوع الحكم بأحد الوجوه الخمسة ، ومعه لا يحصل القطع بفعلية المجعول
خارجا.
هذا هو الغرض من
الوجوه الخمسة ، وهذا الغرض لا يمكن تحقيقه في المقام ، لأنّ من قام عنده البرهان
العقلي على وجود العلّة التامة للحكم يستحيل أن يصدّق بأنّ هذا الحكم منوط بأمر
آخر هو عدم العلم العقلي وراء هذه العلّة التامة الموجودة بالفعل ، لأنّه خلف قيام
البرهان على وجود العلّة التامة بالفعل على الحكم الشرعي ، فمثلا : من
يرى الملازمة بين
وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، يرى انّ وجوب ذي المقدّمة علّة تامة لوجوبها بالبرهان
، ومعه يستحيل أن يصدّق بهذه الوجوه الخمسة ، لأنّ التصديق بها خلف العليّة التامة
لما وقع مع قيام البرهان عليها.
وبتعبير آخر : انّ
من حصل عنده علم عقلي ، هل يحتمل أن يكون هناك شيء آخر وراء ما هو موجود عنده من
دليل له دخل في فعلية الحكم؟. أو أنّ البرهان العقلي قام عنده على عدم دخل ذلك في
فعليته؟ والأول أي إن كان يحتمل ذلك ، يلزم منه أن لا قطع لهذا الإنسان بالحكم من
أول الأمر وحينئذ ، لا حاجة إلى هذه الوجوه الخمسة ، والثاني أي إن كان لا يحتمل ،
يلزم منه حصول القطع له بالحكم الشرعي ، وحينئذ يستحيل له التصديق بتقييد الحكم
الشرعي بعدم العلم العقلي ، إذن فحال تقييد العلم الشرعي بالعقلي حال سائر
التقييدات الأخرى الممكنة ، فمثلا : إذا كان يقطع بوجود مصلحة بالإحسان إلى الفقير
، فحينئذ ، إن كان يرى انّ هذا هو العلّة التامة ، إذن ، فلا يمكنه أن يصدّق انّ
عدم العلم العقلي مانعا ، وإلّا احتمل أن يكون فسق الفقير هو المانع ، إذن فهذا
الوجه غير تام ، إمّا بالبيان الأول أو الثاني.
٣ ـ التعليق
الثالث : هو انّ الدليل العقلي قد يكون برهانا على عدم الحكم ونفيه وليس على وجوده
، وحينئذ ، في مثله ما ذا يصنع؟ ، فإنّه لو كان الدليل العقلي برهانا على ثبوت
الحكم تقولون انّ الحكم يؤخذ في موضوعه شرعا عدم الوصول عقلا ، وهذا قد وصل عقلا ،
إذن ، فلا يكون فعليا في حقّه ، لكن لو قام الدليل العقلي برهانا على نفي الحكم ،
كما لو قطع المكلّف بعدم وجوب الصّلاة بالخطاب الترتبي ، لاستحالة الترتب عنده
مثلا ، فهنا لا يوجد جعل ليؤخذ عدم الوصول العقلي شرطا في فعليته ، وحينئذ ، فهل
يلزم على المولى أن
يؤسس جعلا بالوجوب
المقطوع الاستحالة بحيث أنّه متى قطع الإنسان عقليا باستحالة الوجوب ، بجعل المولى
الوجوب في حقّه ، ليردعه عن العمل بقطعه؟.
من الواضح انّ هذا
مستحيل ، لأنّه مع قطع المكلّف باستحالة الوجوب ، كيف يجعل الشارع الوجوب في حقّه
، فإنّ من قطع بالوجوب يمكن أن نردعه بما ذكرنا سابقا من أخذ عدم العلم العقلي في
موضوع المجعول ، لكن من قطع بعدم الوجوب واستحالته ، كيف نردعه؟ هل نحكم عليه
بالوجوب؟ هذا مستحيل ، وعليه : فهذا الكلام لو تمّ فإنّما يتم في طرف الإثبات
وقيام الدليل العقلي على ثبوت حكم ، لا على نفي حكم ، وبهذا اتضح انّ هذه الوجوه
الخمسة غير تامة ، لا ثبوتا ولا إثباتا.
ثمّ انّه لو قطعنا
النظر عن كل ما قلناه ، وفرضنا تمامية هذه الوجوه ثبوتا وإثباتا ، إمكانا ووقوعا ،
وفرضنا أنّ الحكم الشرعي مقيد ـ كما تزعمون ـ بأن يكون واصلا من ناحية الأئمّة عليهمالسلام حينئذ نقول : إنّ الصغرى هنا موجودة ، وهي أنّ الحكم متى
وصل بالدليل العقلي فقد وصل إلينا عن طريق المعصومين عليهمالسلام ، لا ببيان الشيخ الأعظم «قده» في الرّسائل حيث عرفت عدم
تماميته ، بل ببيان آخر ، وهو أنّ الكتاب والسنّة أمرانا باتباع العقل ، وعلى
الأقل العقل الفطري الخالي من شائبة الوهم ، إذن ، فإذا ثبت شيء بالعقل ، وثبتت
الكبرى بالكتاب والسنّة ، أي ثبت الرّجوع إليه بالكتاب والسنّة ، حينئذ يثبت وصول
ذلك الشيء إلينا عن طريق الكتاب والسنّة فيشمله إطلاق الدليل ، فمثلا : لو أمرنا
المعصوم عليهالسلام بالقرعة ، ثمّ قرعنا وعيّنا المسألة بها ، حينئذ نسأل ، هل
هذا اتباع للأئمّة عليهمالسلام ، أو اتباع للقرعة؟ لا إشكال في أنّه اتباع للأئمّة عليهمالسلام ، لأنّهم هم جعلوها حجّة وأمرونا باتباعها ، وفي المقام
الأئمّة عليهمالسلام أمرونا باتباع العقل ، وحينئذ يكون ما وصلنا عن طريقهم
محقّقا صغرى لتلك الكبرى ، فيشمله إطلاق الدليل أيضا وخلاصة كل ما تقدّم أنّه لا
يعقل فرض القصور في الدليل العقلي من ناحية عالم الجعل ، هذا حاصل الكلام في
المقام الأول من المقامات الثلاثة.
المقام الثاني :
هو في تصوير كون
القصور المدّعى في الدليل العقلي من ناحية عدم صلاحيته للكشف في مقام إثبات حقيقة «ما»
، بمعنى أنّ الدليل العقلي لا يصلح لتكوين اليقين بالحكم الشرعي ، وهذا المعنى هو
المناسب لظاهر جملة من كلمات المحدّثين ، خصوصا المحدّث الأسترآبادي في فوائده المدنية حيث ذكر هو وغيره من المحدّثين أنّ الدليل العقلي
لا يصلح التعويل عليه في مقام الكاشفية كما يذكر في هذا المقام كلمات للأسترآبادي
والجزائري «ره» أثاروا فيها نقطة انّ الدليل العقلي إذا لاحظناه في حياة الإنسان ،
نرى شيوع الخطأ فيه والاشتباه ، إذ كم من إنسان برهن على مدّعاه عقليا ثمّ أبطله
آخر ببرهان عقلي آخر ، وقد يستثنى من ذلك جملة من فروع الرياضيات.
وقد فسّر المحدّث
الأسترآبادي نفسه هذا ، بأنّ هذه الجملة من الفروع إنّما تكون مستثناة باعتبار انّ
موادها قريبة من الحس ومحسوسة فلا يقع فيها الخطأ ، بينما غيرها يكثر فيها شيوع
الخطأ والاشتباه كما في الفلسفة الإلهية وعلم الكلام والأصول ، ومع شيوع الخطأ
فيها كيف يمكن التعويل على الدليل العقلي.
وكأنّ التعويل في
نظر هؤلاء لا يكون إلّا على الحس والأمور البديهية والأولية ، وأمّا النظريات
العقلية ، فلا يمكن الاعتماد على العقل فيها.
__________________
وهذا المدّعى لا
يفرق فيه ـ من زاوية غرضنا البحثي ـ بين أن يقال : إنّ الخطأ يقع في قوّة واحدة من
قوى النّفس الدرّاكة ، أو انّ قوى النّفي الدرّاكة لو لوحظت كل قوّة قوّة ، لا يقع
فيها خطأ ، بل الخطأ يقع من حيث تلفيق النّفس وإصدار أحكام ناتجة عن التلفيق بين
مدركات القوى الدرّاكة كما يدعي الفلاسفة ، كما لو رأينا شخصا أسودا وحكمنا عليه
بأنّه إفريقي وهو ليس كذلك ، فإنّ هذا خطأ في الحكم ، لكن مردّ هذا الخطأ إلى
حكمين لقوّتين درّاكتين كلاهما صواب في نفسه صحيحا ، أحدهما أنّه أسود ، وهو حكم
لقوّة الإدراك الحسّي ، وهو مطابق للواقع ، وحكم آخر ، وهو انّ هذا الأسود ـ على
نحو القضية الكلية الغالبية ـ إفريقي ، وهذا حكم عقلي صحيح ، صدر من العقل ، وهو
مطابق للواقع ، ولكن وقع الاشتباه من قبل النّفس في مقام استنتاج حكم ثالث من
هاتين القوّتين فأخطأت.
وعلى كلّ حال ،
فهذا بحث فلسفي سواء أكان صحيحا أم لا ، لا ندخل فيه ، وإنّما تحقيقه في الفلسفة ،
ولا دخل له في غرضنا سواء كان الخطأ يقع في قوّة دراكة واحدة ، أو من التلفيق من
قوّتين.
كما أنّه لا يفرق
في غرض الإخباريين ، حيث أنّ الدليل هو حصيلة هذه المدركات ، حينئذ قالوا : بأنّ
الدليل العقلي حيث يقع فيه الخطأ كما عرفت ، فكيف يمكن أن يعوّل عليه؟
وقد نقل عن السيّد
البروجردي «قده» قوله : انّ هذه النزعة الّتي ظهرت على أيدي الإخباريين ـ من عدم
التعويل على الدليل العقلي وحصر المعرفة بالحس ـ يحتمل أن تكون قد تسربت إليهم من
الاتجاه والنزعة التجريبية والحسية في الفلسفة الأوروبية ، لأنّ هذه النزعة
الإخبارية كانت قد ظهرت عقيب تلك النزعة التجريبية الحسية ، فكما أنّ تلك النزعة
رفضت العقل وحصرت المعرفة بالحس ،
فالأخباريون ،
وبالخصوص المحدّث الأسترآبادي «قده» كذلك فعلوا.
وهذه الملاحظة رغم
حسنها ومعقوليتها بحدّ ذاتها ، إلّا أنّها على فرض صحة صدورها عن البروجردي «قده»
، فهي غير تامة ، فإنّه قد أشرنا في محله من كتابنا «المعالم الجديدة» بأنّ هذا
الاتجاه الممثل للنزعة الحسية التجريبية جاء بعد اتجاه الإخباريين والأسترآبادي «قده»
بمائة سنة تقريبا ، فإنّ الأسترآبادي «قده» عاش في أوائل القرن الحادي عشر ، بينما
هذه المدرسة الحسية الأوروبية عاشت في أواخر القرن الثاني عشر ، ومن هنا يحتمل أن
تكون أفكار الأسترآبادي «قده» ومدرسته هي الّتي تسربت إلى أوروبا والمدرسة الحسيّة
فيها ، وكل هذا حكم على فرض أن نتعامل مع مدّعيات الأسترآبادي «قده» على أساس أنّ
مدرسته هذه تمثل نزعة حسيّة.
إلّا أنّ هذا
الافتراض غير واضح من كلماته ، وإن كان يقول بأنّ الحس معتبر ، وانّ العلوم
العقلية الّتي تكون موادها حسيّة هي الثانية معتبرة ، إلّا أنّه مع هذا ليس واضحا
أنّ غرضه نفس غرض المدرسة الحسيّة الأوروبية ، بل الظاهر أنّ غرضهم كان حصر
المعرفة بالدليل الشرعي اللفظي وإلغاء حجيّة الدليل العقلي ، سواء كان عقليا قبليا
، أي غير مستمد من التجربة والاستقراء ، أو عقليا بعديا ، أي مستمدا من التجربة
والاستقراء ، وهذا يكفي بمدرسة الإخباريين بعدا عن المدرسة الحسيّة التجريبيّة
الّتي ألغت العقل القبلي وحصرت المعرفة بالدليل الحسي الاستقرائي ، بينما
الأسترآبادي ألغى القبلي والبعدي واعترف بالشرعي على أساس أنّه محسوس ، وهذا
اعتراف منه بالحس بالجملة لا بالحس الّذي تتبناه المدرسة الحسيّة الأوروبية.
وعلى أيّ حال
فالكلام في مدّعى الإخباريين المذكور يقع في مقامين.
١ ـ المقام الأول
: في العقل النظري :
وقد عرفت انّ جوهر
الكلام من قبل المشكّكين في كاشفية الدليل العقلي ، مردّه إلى دعوى كثرة الأخطاء
الواقعة في العقل النظري ، وهذه الكثرة في الخطأ تمنع من حصول اليقين منه ، وحينئذ
لا يكون مشمولا لدليل الحجيّة ، وحيث أنّ هذا الكلام لا يخلو من غموض ، فلا بدّ من
مقام حلّه وتحقيقه من الكلام حول هذا اليقين فيقال : انّ اليقين له معنيان.
١ ـ المعنى الأول
: هو أن يراد باليقين اليقين بالمعنى الأصولي ، وهو الجزم والانكشاف التام الّذي
لا يستبطن أيّ تردّد وشكّ وهذا اليقين هو الّذي وقع موضوعا للحجيّة والمنجزية
والمعذرية.
٢ ـ المعنى الثاني
: هو أن يراد به اليقين بالمعنى المنطقي المأخوذ من كتاب البرهان والصناعات الخمس
، وهو غير الأول ، فإنّ المناطقة البرهانيين لا يسمون كل جزم يقينا ، وإلّا
فالصناعات الأخرى غير صناعة البرهان قد تؤدّي إلى الجزم ولكنّه ليس يقينا ، بل
اليقين هو الجزم المضمون الحقانية الّذي يكون مطابقا للواقع بالضرورة ، فتكون
حقانيته ومطابقيته للواقع هي المقومة ليقينيته ، ومقصود المحدّثين في المقام عند
ما يقولون إنّ الدليل العقلي لا يورث اليقين ، تارة يكون إنكار اليقين الأصولي في
الأدلة العقلية ، وأخرى ، يكون إنكار اليقين المنطقي ، فأيّ اليقينين يريدون ،
الأصولي أو المنطقي؟ فإن كان مراد إنكاركم هو اليقين الأصولي ، فحينئذ إن تمّت
صغراه تمّت كبراه ، بمعنى أنّه إن تمّ أنّ اليقين بالمعنى الأصولي غير موجود ، بل
الشك هو الغالب فيه وحينئذ ، مثل هذا لا ينتج جزما ، ومعه يتبين أنّه لا موضوع
للحجيّة في الأدلة العقلية ، لأنّ الحجيّة بمعنى المنجزية والمعذرية موضوعها الجزم
واليقين الأصولي الّذي لا يحتمل فيه الخلاف ، ومع عدم وجوده ولا حجّة أصلا.
والحاصل انّ كبرى
وقوع الأخطاء في الاستدلالات العقلية هل يمنع عن حصول الجزم واليقين أم لا؟
وهنا عادة قبل
الحل ينقض على هذا المدّعى نقضا وحلا.
أمّا نقضا : فينقض
عليه بنقضين.
١ ـ النقض الأول :
هو انّه إذا لم يكن الدليل العقلي معتبرا في إيجاد اليقين ، باعتبار كثرة الأخطاء
فيه ، وانحصر الدليل بالأدلة الشرعية ، حينئذ ما ذا تصنعون بالأدلة العقلية الّتي
تثبتون بها أصل الشرع ـ أصول الدّين ـ حيث أنّه لا يمكن إثباته بالدليل الشرعي ،
مع أنّكم تستدلون بالأدلة العقلية في أصول الدّين ويحصل لكم الجزم على أساسها.
٢ ـ النقض الثاني
: هو النقض بنفس الاستدلال بالأدلة الشرعية ، فإنّه في هذه الأدلة وعمليات
الاستدلال بها والملابسات الّتي تحيط بالدليل الشرعي والأخطاء الّتي تقع فيه ، هي
أيضا تشكّل نفس ما كان يقع في الدليل العقلي ، خاصة إذا لاحظنا عالم الدلالة
والسند ، فلو كان مجرد حصول أخطاء كثيرة من هذا القبيل يوجب التوقف عن الجزم ، إذن
ينبغي أن لا يحصل جزم للمستدل بالأدلة الشرعية أيضا ، إذ كثيرا ما يقع الخطأ في
مقام الاستدلال بها.
وكلا هذين النقضين
إنّما يردّان على المحدّثين ، «خصوصا النقض الأول» فيما إذا افترض أنّ المحدّث
الأسترآبادي كان يريد إنكار كاشفية الدليل العقلي جملة وتفصيلا ، أي كل دليل عقلي
على الإطلاق.
وأمّا إذا كان
ينكر كاشفية خصوص تلك الأدلة العقلية ذات الطابع النظري التجريدي المستعملة في مثل
علم الكلام والفلسفة والأصول ، بمعنى أنّه ينكر حجيّة ذلك العقل البرهاني الّذي
ينتج نظريات فقه وقضايا أخرى ، فإنّه حينئذ لا يردّ عليه النقض الأول حيث أنّه ليس
بحاجة لمثل
هذا العقل في
إثبات «النّبوّة أو الله» ، فإنّ إثبات هذه الأصول وإن استدل عليها ببراهين عقلية
، إلّا أنّها هي بحسب الحقيقة تثبت بأدلة استقرائية أيضا ، وحالها حال أي قضية
عرفية تثبت بأدلة استقرائية ، وإن استدل عليها ببراهين عقلية ، وكذا النقض الثاني
لا يردّ عليه ، لأنّ كثرة الأخطاء هذه إنّما تمنع عن كاشفية خصوص العقل البرهاني ،
إذن ، فهذان النقضان غير واردين على المحدّث حينئذ.
وأمّا حلا : فنطرح
بادئ ذي بدء هذا السؤال ، وهو أنّه ، لما ذا كان الاطلاع على كثرة الأخطاء في الاستدلالات
العقلية موجبا لعدم حصول اليقين منها؟ وللجواب عن ذلك يمكن للأخباريين ذكر
تقريبين.
١ ـ التقريب الأول
: هو انّه إذا فرض أن استعرضنا مجموعة الاستدلالات العقلية ، وافترضنا أنّ جزءا
معينا منها ثبت خطؤه ، فمثلا لو فرض أنّ مجموع الاستدلالات العقلية مائة ، وفرضنا
انّ خمسا وعشرين منها ثبت خطؤه ، حينئذ مقتضى ذلك انّ أيّ استدلال نلحظه يكون نسبة
احتمال عدم الخطأ فيه مطابقة مع نسبة مجموع الاستدلالات الصحيحة إلى مجموعة
الاستدلالات ، فإن كان مجموع الاستدلالات الصحيحة خمسة وسبعون من مائة ، أي ثلاثة
من أربعة ، إذن يكون احتمال عدم الخطأ فيه ثلاثة على أربعة.
وبتعبير آخر ، إذا
كان في كل أربعة عراقيين يوجد عراقي واحد مريض ، حينئذ إذا وجدت عراقيا واحدا ،
يكون احتمال كونه مريضا ، واحدا على أربعة ، واحتمال عدم كونه مريضا واحدا على
أربعة ، فإذا كان هناك نسبة معينة من المجموع ، حينئذ ، بمقتضى قانون حساب
الاحتمال يستحيل أن يكون احتمال عدم مرضه أكبر من تلك النسبة ، ومن هنا لا يمكن أن
يحصل الجزم من الدليل العقلي.
والحاصل : هو أنّه
لو فرض أنّ مجموع الاستدلالات في الدليل
العقلي كانت مائة
، وقد ثبت خطأ ربعها ، فحينئذ ، كل دليل عقلي يكون احتمال صحته ثلاثة من أربعة ،
ومثله لا يمكن الجزم بصحته حيث لا موجب لهذا الجزم ، ومعه : فلا يمكن حصول الجزم
من الدليل العقلي ، ومعه لا يكون حجّة.
وجواب هذا التقريب
: هو أنّ هذا التقريب بهذه الطريقة إنّما تصح في تقييم استدلال عقلي يمارسه غيرنا
ويكون نظرنا مجرد نظر المشاهد للنتائج ، كما لو فرض أنّنا أردنا أن نعرف قيمة صواب
نظرية «انّ الجزء لا يتجزأ» وقد استدلّ عليها بدليل عقلي فحينئذ نقول : بما أنّ
نسبة الخطأ عند المستدل هي واحد على أربعة من مجموع استدلالاته ، حينئذ تكون نسبة
احتمال الصحة في نظريته ثلاثة على أربعة ، ومعنى هذا أنّه لا مدرك لهذا الحكم إلّا
النسبة ، إذن فمثل هذا الاستدلال لا ينتج إلّا الاحتمال.
لكنّ هذا الحال
يختلف عمّا لو فرض أنّنا بأنفسنا عشنا ومارسنا عملية البرهان والاستدلال العقلي
بوجداننا العقلي ، ورتبنا مقدّماته واحدة بعد الأخرى ، حينئذ ، لا تتحكم نظرية
حساب الاحتمال والنسبة وحدها في تقرير احتمال حجيّة هذا البرهان ، لأنّ مدرك صحته
لا يستمدّ من حساب النسبة ، وإنّما مدركه هو الفحص وما يسمّى بالوجدان العقلي ،
وحينئذ ، لا معنى لإجراء حساب الاحتمالات في هذا الوجدان ، إذ نفس هذا الوجدان بنفسه
امارة وله درجة من الكاشفية قد تصل أحيانا إلى درجة الجزم والقطع حسب وثوق الإنسان
بنفسه ، مضافا إلى خصوصيات جسمية وروحية وملابسات أخرى كلها تتدخل في مقدار فاعلية
هذا الوجدان العقلي ، وعليه فهذا التقريب غير تام ، وإنّما يصحّ عند ما نريد أن
نقيّم صحة نظرية يثبتها شخص آخر.
٢ ـ التقريب
الثاني : وهو ينصبّ على نفس ما سمّيناه هناك بالوجدان العقلي ، فيقال : بأنّ كثرة
وقوع الأخطاء في العقل بحيث لا
يلتفت إلى الشيء
مرّة بعد مرّة ، فإنّ هذا يؤدّي إلى زوال الثقة منه بهذا الوجدان العقلي ، ومعه لا
يحصل للمستدلّ العقلي يقين.
والحاصل هو أنّ
كثرة وقوع الأخطاء في الاستدلالات العقلية يوجب زوال الثقة بهذا الوجدان العقلي ،
ومعه لا يحصل للمستدل يقين.
وهذا التقريب يفرق
عن التقريب السابق ، بأنّه في التقريب السابق كان يتصور بأنّ مدرك التصديق هو
ملاحظة النسبة الرياضية للصواب وللخطإ ، ولهذا قلنا بأنّ مدرك التصديق بالنسبة
لنفس المباشر لعملية الاستدلال ليس هو النسبة ، بل هو الوجدان العقلي ، بينما في
هذا التقريب يعترف بأنّ مصدر التصديق هو هذا الوجدان العقلي ، لكن يقال : بأنّ هذا
الوجدان لا يولد اليقين بسبب ما يراه صاحب هذا الوجدان من كثرة وقوع الأخطاء.
ويردّ على هذا
الكلام نقضا وحلا.
أمّا نقضا : فإنّه
يقال : بأنّ مرجع هذه الدعوى إلى أنّ العقل يرى انّ كثرة الأخطاء مانعة من تأثير
هذا الوجدان العقلي في حصول اليقين.
وهذه الدعوى
بنفسها من مدركات العقل ، إذ ليست هي مفاد آية ولا رواية ، بل هي من مدركات العقل
الّذي يقع فيه هذا الخلاف ـ النفي والإثبات ـ وعليه : فكيف يعقل أن يدّعي الطرف
المقابل هذه الدعوى في مقام إلزامنا برفع اليد عن الدليل العقلي ، لأنّه إن ادّعى
هذه الدعوى بنحو اليقين والجزم ، فهذا بنفسه تكذيب للدعوى ، لأنّه حصل له يقين
بإدراك عقلي ، وهو خلف دعواه نفسها ، وإن فرض أنّه لم يدّع حصول اليقين والجزم بها
، فحينئذ ، هو وشأنه ، ولكن دعواه لا تصلح دليلا ملزما للغير برفع اليد عن التعويل
على الدليل العقلي.
ويردّ عليه حلا
بأن يقال : إنّ بطلان يقين بسبب ظهور الخطأ في يقين آخر له ثلاث حالات.
١ ـ الحالة الأولى
: هي أن يفرض وجود تلازم بين القضية الثانية والأولى اللّتين نعتقد بهما ، ثمّ بعد
ذلك يظهر خطأ اعتقادنا بالقضية الأولى ، حينئذ ، لا محالة يزول اعتقادنا بالقضية
الثانية.
وهذا مبني على
التلازم الموضوعي الخارجي بين المعتقد به في القضية الأولى والمعتقد به في القضية
الثانية ، لأنّنا فرضنا أنّ القضية الثانية ـ الّتي هي موضوع الاعتقاد الثاني ـ تستلزم
القضية الأولى الّتي هي موضوع الاعتقاد الأول ، فإذا زال اعتقادنا الأول ، فلا
محالة يزول اعتقادنا الثاني.
وهنا استدعاء ظهور
الخطأ في الاعتقاد الأول لزوال الاعتقاد في القضية الثانية هو ، استدعاء منطقي
قائم على أساس التلازم بين الموضوعين حتّى لو لم يكن هناك استلزام من الأول على
الثاني ، أي حتّى لو كان هذا الاستدعاء من طرف واحد.
٢ ـ الحالة
الثانية : هي أن يفرض عدم التلازم بين الموضوعين في البطلان والصحة ، لكن ظهور
بطلان الاعتقاد بالقضية الأولى يوجب زوال البرهان على الاعتقاد بالقضية الثانية
وإن لم يكن استلزام بين القضيتين ، ونمثل لذلك بمثالين :
١ ـ المثال الأول
: هو أنّ قدماء الفلاسفة كانوا يعتقدون بقضيتين.
إحداهما : قضية
وجود الأفلاك التسعة طبقا لنظرية كونية قديمة.
والأخرى : قضية
وجود عقول عشرة تطبيقا لقانون «انّ الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد» ، ومع الاعتقاد
بكون الأفلاك تسعة وكونها متغايرة سنخا وذاتا فلا بدّ وأن يكون هناك عقول بعدد هذه
الأفلاك مع زيادة عقل لما هو تحت فلك القمر ، أي لعالم العناصر الأربعة ، ثمّ بعد
ذلك ثبت خطأ الاعتقاد بالقضية الأولى ، لأنّه ليس هناك أفلاك تسعة كما
كانوا يتصورون ،
وخطأ هذا الاعتقاد لا يستلزم خطأ الاعتقاد بقضية العقول العشرة ، أي بالقضية
الأخرى ، إلّا أنّه بعد ثبوت بطلان القضية الأولى ـ أي العقول العشرة ـ يبطل برهان
القضية الثانية ، وهو انّ الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد ، أي أنّ برهان «انّ
الواحد لا يصدر منه إلّا واحد» لا يمكنه أن يثبت عقولا عشرة ، بل عقل واحد لا غير.
٢ ـ المثال الثاني
: هو أن يخبرك شخص بإخبارات متعددة ، ثمّ بعد ذلك تطلع على كذبه في عدد كبير منها
، فانّه حينئذ يزول تصديقك له فيما يأتي به من أخبار جديدة ، وإن لم يكن تلازم بين
الصدق والكذب في تلك الأخبار ، لأنّ الكذوب قد يصدق أحيانا ، لكن رغم هذا ، يزول
الاعتقاد بصحة كلامه كلّه ، لأنّ برهان هذا الاعتقاد كان حساب الاحتمال ، فتضيق
نسبة الصدق في مجموع الكلام ، إذ كنت تصدقه في أكثر ما يقول ، ثمّ بعد الاطلاع على
كذبه في جملة من الإخبارات السابقة تهبط حينئذ هذه النسبة ، ومعها يهبط الاعتقاد
بكلامه الجديد وهذا معناه زوال البرهان على تصديق أخباره الجديدة.
٣ ـ الحالة
الثالثة : هي أن يفرض وجود حالة نفسية ـ وليست حالة منطقية كما هو الحال في الأولى
ـ تمنع من حصول اليقين بالقضية الثانية بعد ظهور خطأ اليقين بالقضية الأولى ، وهذا
من قبيل : ما حصل لجملة من الفلاسفة الشكّاكين ـ من عدم حصول اليقين في القضية
الثانية ـ بسبب تذبذب البراهين في أفكارهم ولما كان يتراءى لهم من أخطاء في القضية
الأولى أوجبت بطلان الثانية ، فهنا ، زوال الاعتقاد ببعض القضايا ، كان نتيجة
لزوال الاعتقاد بقضايا أخرى ، ولم ينشأ من التلازم بين القضيتين كما في الحالة
الأولى ، ولا من ناحية فقدان البرهان كما في الثانية ، بل هي حالة نشأت من سبب
نفسي.
ولا إشكال انّ محل
الكلام ليس من قبيل الحالة الأولى ، فإنّا لا
نتكلم عن
استدلالات عقلية على قضايا تستلزم أمورا ثبت بطلانها ، إذ أنّ مثل هذا لا إشكال في
بطلانه ، فإنّ ما يستلزم الباطل باطل.
كما انّ محل
الكلام ليس من الحالة الثانية ، فإنّا لا نتكلم في اعتقادات عقلية يزول البرهان العقلي
فيها بظهور الخطأ في أمور أخرى ، لأنّ البرهان هنا ليس النسبة ، بل هو الوجدان
العقلي ، إذ هذا الوجدان بالمقدار الملحوظ منطقيا لا علاقة له بالوجدانات الأخرى.
نعم الحالة
الثالثة داخلة في محل الكلام ، فيقال : ما دمت قد أخطأت عشرة إخطاءات ، إذن لا
يبقى لي ثقة بهذا الوجدان ، وحصول هذه الحالة النفسية الّتي تمنع من حصول الثقة
باليقين العقلي أمر وجداني ، فقد يحصل عند شخص أخطاء يقينية عدّة مرّات ومعها لا
يبقى له ثقة بوجدانه العقلي بعد ذلك ، وهذا أمر معقول قد يتفق لإنسان ، لكنّه قد
لا يتفق لإنسان آخر ، وذلك لأنّ هذا أمر وجداني ، والقضية فيه ليست مبنية على
ترابط منطقي أو تلازم موضوعي بين هذه القضية والقضية الأخرى ، بل هو مبني على أمور
نفسية قد تحصل بموجبها القريحة النفسية الّتي توجب زوال الثقة بالوجدان العقلي ،
وقد لا تحصل بموجبها تلك القريحة الّتي توجب زوال الثقة به ، فهي تختلف باختلاف
الأشخاص ، وعلى كلّ حال لا ملازمة بين هذه التفصيلات.
إذن فروح هذا
المطلب ، يرجع إلى التجربة ، لأنّ هذه الحالة سببها سرعة التصديق وتكرار حالة «ما»
، وهكذا.
ولا إشكال في أنّ
العلماء الّذين استندوا إلى الأدلة العقلية وجدت عندهم قناعات كاملة بذلك ، وعلى
أساسه ترتبت هذه النتيجة بعد أن كانوا لا يرون حجيّة الظنون.
هذا كله إن كان
المراد من اليقين الّذي لا يعطيه الدليل العقلي لكثرة الأخطاء ، هو اليقين
الأصولي.
وأمّا إن كان
المراد منه اليقين المنطقي ، «وهو الجزم المضمون الحقّانيّة» ، هو الّذي يزول
لكثرة الأخطاء ، حيث يقال : إنّ الدليل العقلي قد يخطئ فلا تكون الأدلة العقلية
حينئذ مضمونة الحقّانيّة.
وهذا الكلام وان
تمّت صغراه ، لكن الكبرى لا تتم ، لأنّ الحجيّة بمعنى المعذرية والمنجزية موضوعها
الجزم واليقين الأصولي الّذي ليس معه شك ، وليس موضوعها اليقين المنطقي البرهاني
المضمون الحقّانيّة ، إذ الأصولي لا شغل له باليقين البرهاني ، بل شغله بالقطع
والظن والشك ، فانكفاء وتعثر اليقين البرهاني لا يضرّ بغرض الأصولي.
هذا ما ينبغي قوله
في مقام التعليق على هذا الكلام ، إلّا أنّ الموجود في الكتب في مقام التعليق على
هذه النقطة ، اتجاه آخر ، حيث ذكروا في مقام الجواب على مسألة «انّ كثرة الخطأ
يوجب زوال اليقين» فقالوا : إنّ كثرة الخطأ إنّما تقع لعدم مراعاة قواعد وعلم
المنطق وضمان تفادي هذا الخطأ يكون بمراعاة علم المنطق ونحن نتكلم عن الأدلة
العقلية الّتي روعي فيها علم المنطق ، وكأنّهم افترضوا انّ الكلام في اليقين
المنطقي ، فلم يميزوا بصورة واضحة بين اليقين الأصولي واليقين المنطقي.
ولذلك أشكل
المحدّث الأسترآبادي على هذا الكلام ، حيث قال : بأنّ علم المنطق يعصم من الخطأ من
ناحية الصورة ، ولا يعصم من ناحية المادة.
وقد أجاب العلماء
على هذا الكلام : بأنّ الخطأ في المادة لا بدّ وأن ينتهي إلى الخطأ في الصورة ،
وذلك بعد أن نستبطن طريقة القوم المتعارفة عند هؤلاء في المنطق الأرسطي ، فهم
يقولون أنّه توجد معارف أولية هي أساس المعرفة البشرية وهذه المعارف تستنبط منها
كل معرفة بطريقة البرهان ، وهذه الطريقة يحدّدها علم المنطق ، وحينئذ ، إذا جئنا
إلى كل قضية وقلنا
بأنّه حصل خطأ في هذا الاستدلال ، فإن كان في الصورة ، فالمنطق هو الّذي يعصم ،
وإن كان في المادة ، فإن كانت أولية فلا معنى للخطإ فيها ، وإن كانت ثانوية ، إذن
فهي بحاجة إلى برهان ، ثمّ ننقل الكلام إلى هذا البرهان ، فإنّ له صورة ، ومادة ،
والخطأ إمّا في صورته ، وإمّا في مادته ، وهكذا ، ولكي لا يلزم التسلسل ، لا بدّ
وأن ينتهي إلى الأوليات ، وعليه : فالخطأ إنّما يرجع إلى الصورة ، وبهذا أبطلوا
كلام المحدّث الأسترآبادي «قده».
والحاصل : هو أنّ
الأعلام من الأصوليين عند ما تصدوا للجواب عن الشبهة ، افترضوا الكلام في اليقين
المنطقي البرهاني ، وحينئذ ، قالوا : إنّ هذه الشبهة غير واردة ، لأنّ كثرة
الأخطاء إنّما وقعت بسبب عدم مراعاة قواعد المنطق العاصم عن الخطأ ، فلو أنّ قواعد
المنطق روعيت لما وقع الخطأ ، وذلك لأنّ المعرفة البشرية تنقسم إلى عقلين.
١ ـ العقل الأول :
هو عقل أوّلي ، وهو عبارة عن إدراك المعارف الأولية الّتي هي أساس معرفة الإنسان ،
وهذه المعارف الأولية هي عبارة عن القضايا الست المعروفة ، وهي : الأوليات ،
والفطريات الّتي قياساتها معها ، والتجريبيات ، والحدسيات ، والمحسوسات ،
والمتواترات ، فهذه القضايا تشكل العقل الأولي ، وهي قضايا مضمونة الحقّانيّة
بذاتها.
٢ ـ العقل الثاني
: هو العقل الثانوي ، وهو عبارة عن البرهان واستخراج معلومات من تلك المعلومات
الأولية ، وفي هذا العقل الثاني ، كل قضية ومعرفة تمّ استخراجها من قضايا العقل
الأول على أساس وضوء قواعد المنطق ، تكون مضمونة الحقّانيّة ، لضمان حقّانيّة
العقل الأول ، إذ أنّ القضية والمعرفة المستخرجة منه لازمة له ولازم الحق حق لا
محالة ، وأمّا إذا لم يكن استخراجها منها قائما على أساس قواعد علم المنطق فإنّها
لا تكون مضمونة الحقّانيّة ، وفي مثلها يكثر
وقوع الخطأ ،
لأنّها غير مضمونة الحقّانية لا بالذات ، ولا بانتهائها إلى ما يكون مضمون
الحقّانيّة بالذات.
وبناء عليه : يمكن
للمحدث الأسترآبادي «قده» أن يشكل على هؤلاء ، بأنّ قواعد علم المنطق الّتي تعصم
الفكر عن الخطأ ، هل هي ضرورية بديهية كبرى وتطبيقا ، أو انّها ليست بديهية كذلك ،
أو انّها على الأقل بعضها ليس بديهيا؟.
فإن قالوا : بأنّ
القواعد المذكورة بديهية كبرى وتطبيقا ، قلنا : انّ هذا خلاف الوجدان بالضرورة ،
لأنّها لو كانت كذلك لما وقع خطأ بحسب الخارج أصلا كما هو الحال في كثرة الأخطاء
في العلوم النظرية البرهانية ، وهذا يبرهن على عدم بداهتها كبرى وتطبيقا.
وإن قالوا : انّها
ليست بديهية كبرى ، قلنا : إذن سوف يقع الخطأ في نفس القواعد العاصمة.
وإن قالوا : انّها
ليست بديهية تطبيقا ، قلنا : إذن سوف تحتاج إلى عاصم آخر في مرحلة التطبيق غير
القاعدة المنطقية ، بعد فرض عدم عصمتها في مرحلة التطبيق ، وحيث لا عاصم آخر ، إذن
فتنشأ الأخطاء الكثيرة.
هذا غاية ما يمكن
أن يجيب به الأخباري على كلام الأصوليين بناء على التصور المعروف للمعرفة البشرية.
وهذا الجواب هو
أفضل ممّا ذكره المحدث الأسترآبادي ، من أن علم المنطق يعصم صورة لا مادة ، إذ قد
ذكرنا سابقا ، أنّ الخطأ يمكن إرجاعه إلى الصورة أيضا.
ولكن هذا التصور
للمعرفة البشرية أساسا غير صحيح ، وقد كانت هذه المسألة هي الّتي فتحت علينا أبواب
التفكير وكانت المفتاح لتأليف
كتاب الأسس
المنطقية للاستقراء ، وحيث انّ الخوض فيها تفصيلا يخرجنا عن غرض بحثنا فلا بدّ من
ذكر شيء ولو إجمالا يتمثل في نظرية أخرى يقع مجملها في مقامين.
١ ـ المقام الأول
: في العقل الأول :
وخلاصته : هو أنّ
منطق أرسطو يرى انّ القضايا الست وهي القضايا العقلية الأولية هي أساس المعرفة
البشرية ، وتكوّن المواد الرئيسية لكتاب البرهان ، لأنّها مضمونة الحقّانيّة.
ونحن لا نسلم ذلك
في كل هذه القضايا ، بل إنّ ما نسلمه قسمين من هذه القضايا الست ، وهما الأوليات ،
من قبيل «استحالة اجتماع النقيضين» ، والفطريات الّتي هي عبارة عن القضايا الّتي
قياساتها معها من قبيل ، «انّ الأربعة زوج لأنّها تنقسم إلى متساويين» ، بينما لا
نسلم كون القضايا الأربعة الأخرى من التجريبيات ، والحدسيات ، والمتواترات ،
والمحسوسات ، انّها قضايا أولية لا تعتمد على قضايا قبلية ، وذلك لأنّه لو أخذنا
على سبيل المثال التجريبيات ، نرى أنّ المنطق الأرسطي عند ما يجري تجارب عدّة على
قطع عديدة من الحديد ، ويرى أنّه يتمدد بالحرارة فالعقل يحكم حينئذ ، بأنّ كل حديد
يتمدد بالحرارة ، فهذه قضية تجريبية خارجية ، حيث جرّبنا مائة قطعة حديد فوجدناها
تتمدد بالحرارة ، وبعد ذلك لم نصدر الحكم على خصوص المتمدد بالحرارة ، بل عمّمنا
الحكم على كل حديد.
وحينئذ في بادئ
النظر يخطر على بال الإنسان العرفي أنّ مدرك هذا الحكم هو هذه التجارب العديدة ،
ومن هنا يقال : بأنّ النتيجة هنا أكبر من المقدّمات ، لأنّ المقدّمات في الدليل
محصورة بعدد معين ، بينما النتيجة تشمل كل حديد في العالم ، والحال على عكس ذلك في
الاستنباط والقياس من الشكل الأول ، فإنّ النتيجة إمّا مساوية للمقدّمات
أو أصغر منها ،
ومن هنا يقال : إنّ الفكر له سيران ، أحدهما سير من العام إلى الخاص ، كما في باب
الشكل الأول من القياس ، وثانيهما ، سير من الخاص إلى العام ، كما في باب
الاستقراء المنطقي.
والمنطق الأرسطي
لم يقبل السير من الخاص إلى العام في الاستنتاج لأنّ مسألة السير هذه أوجدت مشكلة
منطقية لم تحل وهي زيادة الحكم على التجربة حيث يقال : ما هو مبرر الانتقال من
الخاص إلى العام؟.
وفي مقام حل هذا
الإشكال قال المنطق الأرسطي : إنّ الاستقراء والتجربة بحسب الدقة هي ، سير من
العام إلى الخاص ، وذلك لأنّه يوجد عند العقل قبل التجربة والاستقراء قضية عقلية
قبلية ، وهي أنّ الاتفاق لا يكون دائميا ولا أكثريا في عالم الطبيعة والخارج ،
بمعنى أنّ الصدفة لا تتكرر ، والاتفاق لا يستمر ، وهذه قضية يعتبرها أرسطو قضية
أولية في العقل.
ونحن : إذا
افترضنا انّ هذه القضية قضية أولية نأتي إلى مثالنا فنقول : بأنّه في مائة حالة
تجربة وجدت فيها الحرارة ، وجد التمدد أيضا ، فإن لم تكن الحرارة سببا للتمدد ، إذن
، يكون اجتماع الحرارة مع التمدد في المائة مرّة اتفاقيا ، لكن قلنا : إنّ الاتفاق
لا يتكرر ولا يكون دائميا ، بقانون تلك القضية العقلية المتقدّمة ، إذن فيتبرهن
أنّ الحرارة هي سبب التمدد في الحديد ، وإذا كانت سببا وعلّة ، فيجب أن لا يتخلّف
عنها معلولها ، إذن ، فتسري هذه العلّة إلى كل حديد آخر ، إذا تعرّض للحرارة ،
ومعه يسري حكم التمدد إلى كل حديد تعرّض للحرارة.
وبهذا أرجع القضية
التجريبية إلى السير من العام إلى الخاص ، وبهذا يعرف أنّ القضية العقلية الأولية
هي عبارة عن قضية «انّ الاتفاق لا يتكرر وليس دائميا ، وأمّا قضية الحرارة والتمدد
فهي قضية ثانوية.
ونفس هذا الكلام
الّذي قالوه في التجريبيات ، قالوه أيضا في الحدسيات ، فذكروا انّ نور القمر مستمد
من ضوء الشّمس ، لأنّ ضوءه دائما يتشكل بشكل يناسب مع نسبة مكان الشّمس إليه ، فإن
لم يكن ضوؤه مستمد منها ، فهذه صدفة ، والقضية العقلية الأولية تقول بأنّ الصدفة
والاتفاق لا يتكرر ، إذن يتبرهن أنّ ضوءه مستمد من ضوء الشّمس ، إذن فضوؤها علّة
لضوئه ، فتسري إلى دائمية ضوئه.
وكذلك قالوا في
المتواترات : فإنّ التواتر على ما عرفوه ، عبارة عن اجتماع عدد من النّاس وتوافقهم
على الإخبار عن قضية يكونون بنحو من الكثرة بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب ،
وامتناع تواطؤهم ، باعتبار أنّه لو كان كل واحد منهم يكذب لكان صدفة ، وهي لا
تتكرر وليست دائمية ، إذن فيثبت صدقهم.
فالمتواترات ،
والحدسيات ، والتجريبيات ، أقاموها على أساس هذه القضية العقلية القبلية.
وقد ناقشنا هذا
المطلب في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، وأثبتنا بسبعة براهين ، انّ هذه القضية
العقلية الأولية ، وهي كون «الاتفاق لا يكون دائميا ، وانّ الصدفة لا تتكرر»
أثبتنا انّها ليست قضية عقلية ثابتة قبل التجربة ، كاستحالة اجتماع النقيضين ، وإنّما
هي قضية مبنية على الاستقراء والتجربة وحساب الاحتمالات ، فمثلا : عند ما نعطي
مريضا قرصا من الأسبرين فيشفى ، نقول : يحتمل أن يكون سبب شفائه ذلك القرص ، ولكن
يبقى احتمال آخر وهو أن يكون سبب شفائه حادثة أخرى اقترنت مع الأسبرين صدفة ، لكن
إذا أعطي الأسبرين لشخص آخر مريضا بنفس المرض وشفي فاحتمال أن يكون سبب شفائه أمر
آخر غير ذلك القرص لاحتمال أن تكون الصدفة قد تكررت في هذا الأمر الثاني احتمال
ضعيف ، وهو أضعف من الفرض الأول ، وهكذا يضعف
هذا الاحتمال أكثر
لو أعطينا شخصا ثالثا قرصا من الأسبرين ، حيث يضعف احتمال كون حادثة أخرى اقترنت
صدفة مع الأسبرين ، وهكذا يضعف أكثر لو أعطينا قرص الأسبرين شخصا رابعا وشفي ، إلى
أن يصبح احتمال استناد الشفاء لأمر آخر غير قرص الأسبرين ضعيف جدا بحيث لا يؤثر
على احتمال استناد الشفاء إلى قرص الأسبرين الّذي أعطيناه للمريض ، لأنّه لو لم
يكن الأسبرين هو سبب شفائه لكان معناه اجتماع ثلاث أو أربع صدف وهذا بحسب حساب
الاحتمالات ضعيف ، فإنّه كلّما تكاثرت التجربة وكانت النتيجة واحدة ضعف احتمال
الصدفة ، لأنّ ضرب مجموع الاحتمالات ببعضها يضعفها ، إذن ، فقضية «انّ الاتفاق لا
يكون دائميا ليست قضية قبلية بديهية ، بل هي قضية بنفسها استقرائية ثبتت بحساب
الاحتمالات ، وبهذا يثبت أنّ المتواترات والتجريبيات ، والحدسيات ، ليست قضايا
ضرورية بديهية كما انّها ليست مضمونة الحقّانيّة ، وإن كانت قضايا قطعية بالقطع
الأصولي ، لكنّها ليست كذلك منطقيا ، لقيامها على أساس حساب الاحتمال ، بل هذا
المطلب قلناه بعينه في المحسوسات أيضا ، كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
والخلاصة هي أنّ
الكلام في تحقيق الصورة الّتي ذكروها يقع في مقامين وكان الكلام في المقام الأول
حول تحقيق حال العقل الأول ، حيث يقولون أنّه عبارة عن المعرفة الأولى الّتي تشكّل
الأساس في المعرفة البشرية ، وانّ هذه المعرفة تتكوّن من ستّ قضايا كلها أوليّة ،
وقد قبلنا اثنتين منها انّها كذلك ، وهما : الأوليات ، والفطريات ، وأمّا الأربعة
الباقية منها ، وهي التجريبيات ، والحدسيات ، والمتواترة ، والمحسوسات ، فلم نقبل
بأوّليتها ، وقد ذكرنا انّها قائمة على أساس قاعدة ، وهي «انّ الصدفة والاتفاق لا
يتكرر» ، وهذه القاعدة بنفسها قائمة على حساب الاحتمالات.
وبقي الكلام عن
القضايا المحسوسة ، وهي على قسمين.
١ ـ القسم الأول :
هو أن يكون الواقع المحسوس فيها أمرا وجدانيا ، من قبيل الإحساس بالجوع والألم
والحب ونحوه.
وهذه القضايا لا
إشكال في كونها أولية ، ولا تقوم على أساس حساب الاحتمالات.
٢ ـ القسم الثاني
: هو أن يكون المحسوس له ثبوت خارج عالم النّفس ، من قبيل الإحساس بالقلم ،
والسرير الّذي ننام عليه ، وبجارك الّذي تراه إلى جانبك ، ومن هنا يقال : «إنّ هذه
المحسوسات ، فيها ما هو محسوس بالذات ، وهو الصورة القائمة في أفق النّفس في مرتبة
الإدراك الحسي ، وفيها ما هو محسوس بالعرض وهو الأمور الخارجية ، وعليه : فالإدراك
الحسّي لا يتعلّق مباشرة بالواقع الخارجي بل يتقوم بالمحسوس بالذات.
ومن هنا قد لا
يكون للإدراك الحسّي واقع خارجي ، كالأصولي الّذي يرى الواحد اثنين ، فإنّه له
إدراكان حسيّان دون أن يكون هناك واقعان خارجيان ، وإنّما الواقع الخارجي محسوس
ومحكي بالعرض ، وفي هذا القسم الثاني بالنسبة إلى المحسوس بالذات معرفتنا أولية
أيضا كالقسم الأول.
وأمّا بالنسبة إلى
معرفتنا بالمحسوس بالعرض ، أي انّ هذه الصورة الحسيّة القائمة في أفق إدراكنا
الحسّي لها مطابق في الخارج وواقع موضوعي أم لا؟ ومعه فهل معرفتنا به أوّلية أم لا؟
وهذه المسألة من ألغاز الفلسفة ، وكأنّ الاتجاه المتعارف عند فلاسفتنا إلى أنّ هذه
المعرفة أوليّة ، لأنّ الإنسان بالفطرة الذاتية يدرك أنّه يتعامل مع أشياء لها
وجود في الخارج ، وليست مجرد صور في ذهنه.
وكأنّ بعض
الفلاسفة المسلمين المتأخرين تنبه إلى أنّه لا يمكن الالتزام بأنّ
معرفة الواقع الموضوعي أوليّة ، إذ لو كانت أوليّة للزم أن لا تخطى ـ كما يعتقدون
ـ معرفة حسيّة أبدا ، بينما الخطأ في الحواس موجود ، إذ أنّ خداع الحواس كثير ،
ومعه ، كيف يقال بأنّ الإدراك الحسّي معرفة أوليّة؟ وكأنّه لأجل هذا ، أراد هذا
الفيلسوف المسلم أن يتخلص من هذا المحذور ، فبنى على أنّ المعرفة الحسيّة بنحو القضية
الإجمالية هي أوليّة ، بمعنى أنّ بعض الإحساسات بالجملة لها مطابق في الواقع ، إذ
ليست كل هذه الأشياء الّتي نحسّ بها من حولنا مجرد خيالات ، ولذلك ادّعى البداهة
والأوليّة فيها.
ونحن في كتاب
فلسفتنا قبل الأسس المنطقية للاستقراء ، اتجهنا إلى علاج آخر ، فبنينا على أنّ
المعرفة هنا في القضايا الحسيّة معرفة مستنبطة بقانون العلية ، باعتبار ان الصورة
الحسيّة حادثة لا بدّ لها من علّة ، وقانون العلية قضية أوليّة أو مستنبطة من قضية
أوليّة ، فما أحسّ به بالذات هو الصورة وإلّا كيف حصلت هذه الصورة في أفق النّفس؟
إذن ، فعن طريق قانون العلية نثبت الواقع الموضوعي للصورة الحسيّة.
وفي مقابل هذه
الاتجاهات الثلاثة اتجاه المثاليين ، حيث أنّهم يقولون بأنّه لا معرفة أوليّة لنا
بالواقع الموضوعي أصلا ، بل انّ هذه الموجودات المحسوسة كلها ، ليس لها واقع خارجي
وراء الصور الذهنية القائمة في النّفس ، إذن فتمام ما نعرفه هو المحسوس بالذات.
وأمّا المحسوس
بالعرض فلا معرفة لنا به.
وكل هذه الاتجاهات
الفلسفية الأربعة الّتي تذبذب بها الفكر البشري خلال ألفي عام غير صحيحة ،
فالمعرفة الحسيّة ليست بديهية
__________________
بداهة تفصيلية ،
ولا بداهة إجمالية ، ولا مستنبطة بقانون العلية ، ولا أنّه ليس لدينا معرفة موزونة
بالواقع الموضوعي الخارجي للمحسوسات.
وإنّما الصحيح
بناء على ما اكتشفناه من الأسس المنطقية للاستقراء هو ، معرفتنا بالواقع الموضوعي
للمدركات الحسيّة جملة وتفصيلا قائمة على أساس حساب الاحتمالات ، غاية الأمر انّ
هذا الحساب يشتغل بالفطرة عند الإنسان ، وبعقل رزقه الله تعالى ، سمّيناه بالعقل
الثالث ، في قبال العقلين الأول والثاني آنفي الذّكر.
ونحن حينما نقارن
إحساساتنا في عالم اليقظة بإحساساتنا في عالم الرؤيا ، ندرك بأنّ إحساساتنا في
عالم الرؤيا ليس لها مطابق واقعي إلّا أوهام شيخ الإشراق ، وهذا بخلاف الإحساسات
في عالم اليقظة ، فإنّا ندرك بأنّ لها واقع موضوعي ، مع أنّه إذا لوحظت هذه
الإحساسات بكل منها نجد أنّه لا فرق بين هذه الصورة وتلك من حيث وضوح الصورة ،
لأنّ الإحساس بكل منها وجداني لا يفرق بينها.
نعم هناك فرق
بينهما ، هو ، أنّ المحسوس في عالم اليقظة بما أنّه يدرك مرّات عديدة وفي أزمان
مختلفة حيث يشكل هذا التكرار قرائن احتمالية تتجمع بحساب الاحتمال على المدركات
الحسيّة للتغطية على ثبوت صورتها لواقعها الموضوعي ، إذ أنّ تكرر صورتها بشكل ثابت
ومستمر على نهج واحد مدّة طويلة ، يقتضي بحساب الاحتمالات انّ هذه الصورة ليست
مخلوقة لي ، بل توجب بحساب الاحتمال ثبوت حقيقة موضوعية للمدرك خارجا بعيدا عن
الخيال والوهم ومع قطع النظر عن تصوّر المدرك.
وهذا بخلاف المدرك
المحسوس في عالم المنام ، حيث أنّ الصورة فيه سريعة التقلّب والتغيّر ، ممّا لا
يحصل بحساب الاحتمال ما يوجب ثبوت حقيقة موضوعية له.
إذن فمعرفتنا
بالواقع الموضوعي ليست بديهية لا تفصيلا ، ولا إجمالا ، ولا مستنبطة من قانون
العلية ، لأنّ قانون العليّة يبني على انّ هذه الصورة لها علّة ، ولكنّه لا يعيّن
أنّ علّتها هل هو الواقع الموضوعي ، أو الحركة الجوهرية للنفس ، وإنّما الّذي
يعيّن أنّ العلّة من خارج هو حساب الاحتمال.
وبهذا يتضح لدينا
، صورة إجمالية عن الاختيارات الّتي انتهينا إليها في الأسس المنطقية للاستقراء ،
وتفصيل ذلك في محله.
وبهذا يتبين لنا ،
أنّ العقل الأول ، منحصر في الأوليات والفطريات والحسيّات المحسوسة بالذات ، وأمّا
بقية القضايا الّتي عدّوها من البديهيات ، فإنّها ليست من العقل الأول ، بل هي
قضايا مستنبطة على أساس حساب الاحتمالات كما عرفت.
٢ ـ المقام الثاني
: في العقل الثاني :
وهو أنّ أرسطو
والمناطقة بعد أن فرغوا من العقل الأول وفرضوه وقالوا : بأنّ كل ما يستنبط بطريقة
صحيحة من العقل الأول يكون عقلا ثانيا مضمون الحقّانيّة ببركة ضمان حقّانيّة العقل
الأول ، وكل ما لا يستنبط منه بطريقة صحيحة لا يكون مضمون الحقّانيّة ، وطرق
الاستدلال والاستنباط عندهم هي القياس ، والاستقراء ، والتمثيل ، والثاني والثالث
، لا يرون حجيتهما إلّا إذا أرجعا إلى القياس ، إذن ، فالطريق الوحيد والصحيح منها
لاستنباط المعرفة من العقل الأول هو الشكل الأول من القياس ، ويتقوم هذا الشكل بحدود
ثلاثة ، هي أصغر ، وأوسط ، وأكبر ، وبين كل حد والحد الّذي يليه مباشرة لا يوجد حد
، وهذا يعني : انّ القضية أوليّة ، ولكن ثبوت الحد الثالث للحد الأول يعني قضية
مستنبطة دون ثبوت الحد الثاني للأول ، ولا ثبوت الثالث للثاني ، لأنّه لا حدّ أوسط
بينهما ، وحينئذ ، إذا أخذنا بذلك ، فمعناه : إنّنا إذا وضعنا قائمة
بمعلوماتنا فينبغي
أن نذكر في السطر الأول المحمولات الذاتية لموضوعاتها المنطقية بالضرورة مع
موضوعاتها ، ثمّ في السطر الثاني نذكر محمولات هذه المحمولات المنطقية بالضرورة
عليها ، وفي السطر الثالث نذكر محمولات هذه المحمولات ، وهكذا في كل سطر تكون
القضية ضرورية لا مستنبطة ، لأنّ المحمول ثابت للموضوع بالذات.
نعم ، ثبوت محمول
المحمول للموضوع والّذي بينهما حد أوسط ، يكون قضية مستنبطة ، لأنّه بواسطة
المحمول.
إذن فتمام خارطة
المعرفة البشرية تكون عبارة عن هذه الأسطر.
ومن هنا لا يخلو
الكلام المعروف عن صحة ببعض المعاني ، وهو أنّ المعرفة البشرية إذا فرضت وضبطت
بحسب طريقة أرسطو لا نرى فيها أيّ زيادة أو نمو أو معرفة جديدة ، وأنّ هذا الكلام
أشبه بالتحليل المجمل منه باستفادة المعارف.
ولكن أرسطو
والمناطقة يقولون حينئذ ، انّ هذا العقل الثاني مضمون الحقّانيّة بالعقل الأول ،
باعتبار أنّه مستنبط منه حسب قانون الشكل الأول الّذي هو من قوانين العقل الأول ،
فيكون مضمون الحقّانيّة بالأول ، فالعقل الأول مضمون الحقّانيّة بالذات ، والعقل
الثاني مضمون الحقّانيّة بالعرض.
وخلاصة تصورهم
للعقل الثاني هي أنّ كل المعلومات والمعارف الثانوية المستمدة من الأوليات بطريقة
القياس أو بطريقة أخرى ترجع إلى القياس تكون مضمونة الحقّانيّة بالعرض باعتبار
ضمان حقّانية الأوليات ما دامت طريقة المنطق الأرسطي وقواعده قد روعيت في مقام
الاستنباط.
وما ذكره أرسطو
والمناطقة ينحل إلى دعويين.
١ ـ الدعوى الأولى
: هي أنّ المعارف الّتي ينتهي إليها التسلسل في مقام الاستدلال كلها مضمونة
الحقّانيّة.
٢ ـ الدعوى
الثانية : هي دعوى أنّ المعارف الثانوية هي أيضا مضمونة الحقّانيّة لأنّها تستنتج
من المعارف الأولية باعتبار التلازم والتضمن بينها وبين المعارف الأولية الّتي
استنتجت منها ، بمعنى : انّ المعقول من المعرفة الأوليّة يتضمن أو يستلزم المعقول
من المعرفة الثانوية ، وهذا ما نسميه بالتوالد الموضوعي ، بمعنى أنّ المعلومات
الأولية تولّد المعلومات الثانوية باعتبار التلازم بينهما ، فإذا تمّت كلتا
الدعويين يثبت المطلوب ، وهو أنّ ما استنتج من المعارف الأولية بطريق صحيح يكون
مضمون الحقّانيّة.
ونحن لنا تعليق
على كل واحدة من هاتين الدعويين.
أمّا تعليقنا على
الدعوى الأولى : فهو ، إنّا نرى أنّ المعلومات والقضايا الّتي يدركها العقل إدراكا
أوليا مباشرا ـ أي من غير أن يبرهن عليها ـ لا يلزم أن تكون يقينية ، ولا مضمونة
الحقّانيّة ، بل قد تكون مشكوكة ، أو مظنونة ، أو مقطوعة قطعا خاطئا ، بينما
المعروف بينهم أنّ كل القضايا الأولية الّتي هي أساس المعرفة ، يجب أن تكون يقينية
وحقّانية ، بينما هذا لا موجب له كما عرفت. ومن ذلك ينشأ شيوع الأخطاء في العلوم
النظرية ، فإنّ كثيرا من هذه الأخطاء في هذه العلوم لم ينشأ من خطأ في الاستدلال ،
بل نشأ من الخطأ في الأصول الموضوعية للاستدلال ، أي من طرح فكرة ادّعيت أوّليتها
وحقّانيتها ، وهي غير مطابقة للواقع ، كما هو ديدنهم في البناء على حقّانية كل
قضية أولية. وهذه الكلية لا نسلّمها إذ كون الفكرة أولية يدركها العقل مباشرة دون
حاجة إلى استدلال شيء ، وكونها يقينية حقّانية شيء آخر ، وأحدهما لا يستلزم الآخر
، فمثلا : نحن قلنا انّ إدراك الإنسان لمحسوساته
الوجدانية إدراك
أولي ، ومعرفته بمحسوساته الوجدانية معرفة أولية ، لكن مع هذا فإنّ هذه المعرفة
ليست دائما يقينية ، بل قد تكون غير ذلك.
فمثلا : إذا اتفق
لإنسان أن يسمع صوتا ، فمعرفته بهذا الصوت وجدانه ، لأنّ سماعه وجداني ، فلو ابتعد
هذا الإنسان عن مصدر هذا الصوت قليلا فإنّه يبقى يسمعه لكنّه يبقى يبتعد ويخفّ
سماعه للصوت وهكذا كلّما ابتعد ، حتّى يصل إلى درجة يشكّ في أنّه هل يسمع الصوت
ذاته أم لا؟ ، إذن فهذا شكّ في قضية أولية لأنّها قضية غير مستنتجة وهذا دليل على
إمكان وقوع الخطأ والشك في الوجدانيات الأوليات فكيف بقضايا أولية غير وجدانية.
ومثال آخر : وهو
أنّهم بقوا لفترة طويلة من الزمن قديما يطبقون قانون «انّ الكل أعظم من الجزء» على
الكميات المتناهية وغير المتناهية ، ومن هنا استدلّ على استحالة التسلسل ببرهان
التطبيق ، أي تطبيق العلل على المعلولات ، كأن يقال : إنّه إن تساويا لزم تساوي
الجزء مع الكل ، لأنّ سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد ، والكل لا بدّ
وأن يكون أعظم من الجزء ، وإن لم يتساويا كان معناه تناهي أحدهما على الأقل ، وقد
كان هذا البرهان على استحالة التسلسل مبنيا على بديهية «انّ الكل أكبر من الجزء»
حتّى جاءت الرياضيات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللّامتناهية ،
وجعلتها مختصّة بالكميات المتناهية ، إذ في غيرها ينعدم معنى الكل والجزء ، مع أنّ
قضية «انّ الكل أعظم من الجزء» قضية أولية حكم بها كثير من العقول ، كما حكم
ببطلانها كثير من العقول أيضا ، وعليه : فعلى فرض كونها خطأ ، فهو في إدراك كونها
أولية ، ومن هنا امتازت الرياضيات البحتة والمنطق عن العلوم النظرية ، وكان الخطأ
فيهما أقل ، باعتبار أنّ المصادرات والأصول الموضوعية في المنطق والرياضيات البحتة
معلوم الحقّانية.
والحاصل هو أنّ
كثيرا من الخطأ في العلوم النظرية لا ينشأ من الاستدلال الصحيح ، بل ينشأ من
افتراض قضايا على انّها أوليّة ، بينما هذه القضايا ليست أوليّة ولا يقينية ، أو
ليست صحيحة أصلا ، فقد تكون مشكوكة عند شخص ، ومعلومة عند آخر.
وأمّا تعليقنا على
الدعوى الثانية : فهو إنّا نرى أنّ المعارف الأولية يتولّد منها قسمين من المعارف.
١ ـ القسم الأول :
معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي بين متعلق تلك المعرفة ، ومتعلق هذه ، وهذا
ما يقول علم المنطق.
٢ ـ القسم الثاني
: معارف ظنية بدرجة من درجات الاحتمال بحسب حساب الاحتمالات ، وهذا القسم الثاني
تدخل فيه جميع معارفنا المستقاة من التجربة والاستقراء ، فإنّ هذه المعارف وإن
كانت مستخرجة من أولياتنا ، لكن هذه الأوليات لا تنتج معرفة قطعية بالقضية
الاستقرائية على أساس التلازم الموضوعي ، وإنّما تنتج منطقيا درجة كبيرة من
الاحتمال ، وأمّا اليقين فإنّه يحصل في المقام نتيجة ضعف درجة احتمال الخلاف إلى
درجة بحيث يزول ضمن قواعد معيّنة لذلك قد بيّناها في كتاب الأسس المنطقية
للاستقراء ، هذا حاصل التعليق على المقام الأول ، وهو العقل النظري.
٢ ـ المقام الثاني
: في العقل العملي :
وقد قلنا سابقا
انّ بعض علمائنا الإخباريين ذهبوا إلى عدم إمكان التعويل على العقل ، باعتبار كثرة
الأخطاء فيه ، وقد قلنا انّ الكلام معهم تارة ، يقع في العقل النظري ، وأخرى ، في
العقل العملي ، وقد تقدّم الكلام في الأول.
وأمّا الكلام في
العقل العملي فنفس الشبهة جارية فيه ، حيث يدّعى بأنّ كثرة الأخطاء إنّما هي في
العقل العملي ، فتكون مانعة عن إمكان
التعويل على
إدراكات العقل في باب الحسن والقبح ، وأكبر دليل على كثرة الأخطاء فيه هو وقوع
الاختلاف في إدراك الحسن والقبح بين النّاس ، فما داموا مختلفين في تقويم حقيقة
الأفعال والأشياء من حيث الحسن والقبح ، وما داموا لا يمكن أن يكونوا مصيبين جميعا
في وقت واحد ، إذن ، فلا بدّ وأن يكون فيهم المصيب ، وفيهم المخطئ ، وهذا برهان
كثرة الأخطاء في إدراكات العقل العملي.
وهذا المدّعى بهذا
المستوى لا يريد في المقام إنكار الحسن والقبح بما هما صفتان ذاتيتان واقعيتان في
الأفعال ، قائمتان في نفس الأمر والواقع ، وإنّما يريد أن يشكّك في صلاحية العقل
وفي صلاحية الكشف العقلي عن هاتين الصفتين ، باعتبار كثرة وقوع الأخطاء في إدراك
العقل لصفتي الحسن والقبح ، إذن ، فتشكيك علمائنا المحدّثين إنّما هو بحسب مقام
الإثبات لا الثبوت ، وهذا بخلاف تشكيك الأشعري ، فإنّه تشكيك ثبوتي لا إثباتي ،
بمعنى أنّه ينكر أصل الحسن والقبح ويعتبرهما من الصفات الجعلية ، وهذا هو معنى
قوله «الحسن ما حسّنه الشارع ، والقبح ما قبّحه الشارع».
إذن ، هناك
تشكيكان في العقل العملي ، والكلام مع هذين التشكيكين ، تارة يكون نقضا عليها ، وأخرى
حلا ، فالكلام إذن في جهتين.
١ ـ الجهة الأولى
: هي أنّ هؤلاء المشكّكين بعد أن بنوا على سقوط العقل العملي في مقام الإثبات ،
كما هو مقتضى التشكيك الأول ، وفي مقام الثبوت ، كما هو مقتضى التشكيك الثاني ،
نقض عليهم الأعلام بأنّه يلزم من ذلك محذوران.
١ ـ المحذور الأول
: هو أنّه كيف نثبت وجوب الطاعة وحرمة المعصية للشارع ، فإنّ هذا الوجوب والحرمة
لا يمكن أن يكون بدوره
حكما شرعيا ،
وإلّا نقلنا الكلام إلى نفس هذا الحكم الشرعي ، وسألنا من جديد ، أنّه لما ذا تجب
طاعته؟ وهكذا ، وفي مقام الجواب نحن ننتهي إلى أن العقل العملي يستقل بلزوم فعل ما
ينبغي ، وترك ما لا ينبغي ، وانّ طاعة المولى ممّا ينبغي ، وانّ معصيته ممّا لا
ينبغي ، وبالتالي يحكم باستحقاق المثوبة أو العقوبة ، فلو أنّه أنكر الحسن والقبح
ثبوتا أو إثباتا لما أمكن ذلك.
وجواب هذا النقض
واضح ، إذ بناء على مسلك التشكيك الإثباتي ـ القائلين بأنّ منشأ عدم التعويل على
العقل هو كثرة الأخطاء ، مع الاعتراف بالحسن والقبح ـ يمكن أن يدّعى استكشاف «الحسن
، والقبح» ، أي وجوب الطاعة وحرمة المعصية ، من الأدلة الشرعية الواردة عن
المعصومين عليهمالسلام ممّا دلّ على تقبيح المعصية وحسن الطاعة ، فيكون هذا بنفسه
كاشفا عن قبح المعصية ، ووجوب الطاعة ، بلا حاجة إلى التعويل على الدليل عقلي ،
إذن ، الحسن والقبح العقليان موجودان ، وهما يستكشفان من كلمات الشارع بعد ثبوت
عدم إمكان التعويل على استقلال العقل في ذلك.
وأمّا بناء على
مسلك التشكيك الثبوتي ، بمعنى إنكار أصل الحسن والقبح الواقعيين ، فإنّه حينئذ لا
معنى لاستكشاف الحسن والقبح الواقعيين من الدليل الشرعي ، لأنّ ما لا واقع له ، لا
معنى لإثباته بالدليل الشرعي ، ولكن حينئذ يقال : لا حاجة لإثبات قبح المعصية ،
وحسن الطاعة في مقام تحريك العبد نحو الطاعة ، بل يكفينا فرض وجود العقاب على
المعصية ، والثواب على الطاعة ، كما هو لسان بعض الأدلة الشرعية ، من «انّ الله
تعالى يعرّض العاصي لعقاب» ، دون حاجة إلى إثبات حسن الطاعة وقبح المعصية ، إذ
احتمال تعرّض العبد للعقاب والثواب ، كاف في ردعه عن المعصية ، وبعثه نحو الطاعة.
٢ ـ المحذور
الثاني : اللازم من كلام المشكّكين في العقل العملي ، هو أن يقال لهم : انّه بناء
على إنكاركم لأحكام العقل العملي ، سوف ينسدّ باب إثبات نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل نبوّة سائر الأنبياء عليهمالسلام ، وذلك لأنّ إثبات النّبوّة إنّما يكون بالمعجزة ، غير أنّ
دلالة المعجزة على النّبوّة ، فرع مقدّمة عقلية مأخوذة من العقل العملي ، وهي قبح
إظهار المعجزة على يد الكاذب ، لأنّ ذلك تضليل ، وهو قبيح من الله ، وبعد ضمّ هذه
المقدّمة العقلية إلى المعجزة ، يثبت أنّ المعجزة تكون دالة على صدق مدّعي
النّبوّة ، ولو لا هذه المقدّمة لما دلّت المعجزة وحدها على نبوّته ، إذ غاية ما
تدلّ عليه هو ، انّ الله تعالى خرق المألوف وأوجد هذه الحادثة ، أمّا كون هذا نبي
، فهذا لا يثبت كما عرفت ، إذن هذه المقدّمة لا بدّ منها ، وهي مأخوذة من العقل
العملي ، فإذا أنكرناه ثبوتا أو إثباتا ، فمعناه : إنكارنا لهذه المقدّمة ، ومعه
لا دليل على النّبوّة.
وهذا النقص ، يمكن
دفعه ، ولنا عليه ثلاث تعليقات.
١ ـ التعليق الأول
: هو أنّه لا حاجة في دلالة المعجزة على صدق مدّعي النّبوّة إلى ضمّ هذه المقدّمة
العقلية ، وإن كان هذا هو المألوف في علم الكلام ، وذلك لأنّنا لو قطعنا النظر عن
هذه المقدّمة العقلية ـ «قبح الكذب والتضليل» ـ نسأل ، انّه هل المعجزة تدلّ على
إثبات النّبوّة أم لا؟ فإن كانت تدلّ عليها ، فهذا معناه : انّ دلالة المعجزة على
النّبوّة لها طريق آخر إجمالا ، من دون توقف على ضم هذه المقدّمة ، وإن كانت لا
تدلّ عليها ، ـ مع قطع النظر عن هذه المقدّمة العقلية ـ ، إذن ، فأيّ كذب حينئذ
موجود حتّى يقبح ، إذ لا قبح حينئذ أصلا ، لأنّ قبح الكذب ، فرع كون المعجزة دالة
على النّبوّة ، فإذا قلنا انّ المعجزة في نفسها لا يكون لها دلالة على النّبوّة ،
فإنّه حينئذ لا قبح أصلا ، لأنّه لا كذب.
٢ ـ التعليق
الثاني : هو انّ هذه المقدّمة العقلية الّتي نضمّها إلى
المعجزة ، وهي «قبح
الكذب» قد يستبدلها المشكّك بمقدّمة عقلية من العقل النظري ، فيبدل قضية «قبح
الكذب» بقضية «منقصة الكذب» ، فإنّ النقصان منفي عنه تعالى بالعقل النظري ، لأنّ
المطلق لا نقصان فيه بوجه ، إذن ، فنحتاج إلى بحث في إمكانية تحويل المقدّمة
العقلية المذكورة ، من دعوى «قبح الكذب ، إلى دعوى «منقصة الكذب» ، والمنقصة غير
القبيح ، إذ ليس كل منقصة قبيح ، فالجهل نقص ، لكنّه ليس قبيحا في كثير من الأحيان
، والنقص منفي عنه تعالى بالعقل النظري ، لأنّ النقص حدّ ، والمطلق لا حدّ فيه.
٣ ـ التعليق
الثالث : وهو يختصّ بخصوص نبوّة نبينا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فنقول : انّه لو احتجنا إلى ضمّ هذه المقدّمة العقلية إلى
المعجزة لإثبات النّبوّة ، فإنّا لا نحتاج إلى ضمها لإثبات نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّ معجزته هي نفس كتابه ورسالته ، لا على نحو الحصر ،
وإن كانت بعض معجزاته الأخرى تحتاج إلى ضم هذه المقدّمة ، ولكن باعتبار انّ هذه
الرّسالة لا يمكن لأمّي مثله أن يأتي بها من عند نفسه في مثل ظروف محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم الاجتماعية ، فإنّه حينئذ ، لا نحتاج إلى ضمّ تلك المقدّمة
، لأنّ هذه المعجزة عبارة أخرى عن أنّه جاء بها من عند الله تعالى ، ولا معنى
للمجيء بها من عند الله صدفة.
٢ ـ الجهة الثانية
: في الكلام الحلّي ، وقبل الدخول في الحل ، يمكن تصعيد بيان هذه الشبهة بنحو تصبح
تشكيكا وبرهانا للتشكيك الأشعري الثبوتي فضلا عن التشكيك الإثباتي ، وذلك بأن يقال
: انّ هذا الاختلاف في الحسن والقبح دليل على أنّهما ليسا صفتين واقعيتين ثابتتين
للأشياء في نفس الأمر والواقع ، بل هما تلفيقات عرفية اجتماعية ، ولذا اختلفا
باختلافهما ، وهذا معنى انّ الحسن والقبح شرعيين لا عقليين ، أي أنّهما بجعل
الشارع وتربية مرب.
وكأنّ المعلقين
الأصوليين على هذه الشبهة ، أرادوا الجواب عنها ، سواء كانت شبهة للتشكيك الإثباتي
، أو الثبوتي ، وذلك ببيان : أنّه لا اختلاف في كبرى العقل العملي أصلا ، وإنّما
الاختلاف في تشخيص الصغرى والمصداق ، لأنّ كبرى العقل العملي ، مرجعها إلى قضيتين
كليتين ، وهما حسن العدل ، وقبح الظلم ، وهاتان القضيتان لا اختلاف فيهما بين
العقلاء في مختلف المجتمعات والأعراف ، وكل الاختلاف الّذي يقع بينهم إنّما يقع في
تشخيص الصغرى ، حيث انّ بعضهم يقول : انّ هذا العمل ظلم ، ويقول البعض الآخر ، انّ
هذا العمل ليس ظلما ، ومن ثمّ يدرجه كل منهما في قضية من تينك القضيتين ، وهذا لا
يضرّ في حقّانية الكبرى والعقل العملي المدرك لها.
وهذا الكلام بهذا
البيان صوري ، لأنّ هؤلاء الأعلام جعلوا من هاتين القضيتين ـ «قبح الظلم ، وحسن
العدل» ـ كبرى كلية للعقل العملي ، وجعلوا تمام القضايا الأخرى تطبيقا لهذه الكبرى
، فكأنّ العقل العملي أوّل ما يحكم ، يحكم بقبح الظلم ، ثمّ يطبّق قياسا من الشكل
الأول ، فيقول : هذا ظلم ، وكل ظلم قبيح ، فهذا قبيح ، والخطأ هنا في هذا القياس ،
يكون في اختيار الحد الأوسط المناسب الّذي جعلوه واسطة في إثبات الأكبر للأصغر.
ونحن قد حلّلنا
هذه القضية ، وقلنا في بحث التجرّي ، انّ قضية «الظلم قبيح» ، ليست قضية أوليّة من
مدركات العقل العملي ، بل ولا يعقل كونها كذلك ، وإنّما هي قضية ضرورية بشرط
المحمول ، وذلك لأنّ قولنا : «الظلم قبيح» ، من قبيل قولنا ، «القبيح قبيح» ،
باعتبار انّ معنى الظلم ، «العدوان ، والتعدّي» ومعنى التعدّي هو ، الخروج عن
الحدّ ، والحدّ هو ذلك الضابط الّذي يدركه العقل ، ويرى أنّه لا ينبغي للإنسان أن
يتعدّاه ، لا أنّه لا يمكن تعدّيه تكوينا ، إذن ، مفهوم «لا
ينبغي» مستبطن في
نفس مفهوم الظلم ، وكذا ، القبح ، فإنّ معناه : الإتيان بما لا ينبغي ، إذن ، صارت
القضية تكرارين ، لأنّه حينئذ ، يكون معنى ، «الظلم قبيح» ، هو انّ الإتيان بما لا
ينبغي لا ينبغي.
وهذه القضية ، إن
كانت مفيدة ، فهي مفيدة في مقام التعبير والإشارة إلى تمام مدركات العقل العملي
الثابتة في المرتبة السابقة على هذا التعبير ، وعليه : فهي في طول العقل العملي ،
لا انّ قضايا العقل العملي في طولها ، وعليه : فهذا البيان للتخلص من هذا المحذور
غير تام.
بل الّذي ينبغي أن
يقال : هو أنّه لا اختلاف أصلا في قضايا الحسن والقبح عند الإنسان المتمدن في جميع
مجتمعاته وأعرافه على اختلافها ، وإنّما الاختلاف في الأنظار إنّما هو في مقام
التزاحم بين حيثيّات الحسن والقبح فيما إذا اجتمعتا في فعل واحد ، حيث أنّ من يقدم
حيثيّة الحسن على حيثيّة القبح ، وهناك من فعل العكس.
وتوضيح ذلك هو ،
انّ العقل العملي قسمان : الأول : هو عقل بديهي لا يختلف فيه النّاس ، والثاني :
هو عقل نظري يختلف فيه النّاس ، والعقل الأول البديهي هو عبارة عن العقل الّذي
يدرك الحيثيّات الاقتضائية للحسن والقبح في نفسها ، ـ بقطع النظر عن ابتلائها
بمزاحم وعدمه ـ فإنّ كل إنسان سوي ، يمكنه إدراك هذه البديهيات والحيثيّات ، كما
في إدراك حسن الصدق ، مع قطع النظر عن مزاحمة أي حيثيّة أخرى تقتضي قبحه ، كما لو
تزاحم مع حفظ الأمانة لو توقف حفظها على الكذب ، فإنّه يحصل حينئذ تزاحم بين
الحيثيّة الإيجابية للصدق ، والحيثيّة السلبية للخيانة ، لكن العرف من حيث هو ،
بقطع النظر عن هذه المزاحمة ، لا يوجد فيه من يشكّك بحسن الصدق ، وحفظ الأمانة ،
هذه هي بديهيات العقل العملي الأول ، ولكن هذه الحيثيّات المقتضية للحسن
والقبح قد تتزاحم
في مرحلة تالية ، كما لو اقتضت حيثيّة حفظ الأمانة لزوم الكذب ، فإنّه حينئذ يقتضي
قبح الصدق أو حسن تركه ، وتقع المزاحمة بين حرمة الصدق وحرمة خيانة الأمانة ،
والمتحصل بعد الكسر والانكسار قضايا نظرية في العقل العملي ليست بديهية ، لكنّها
قد تستقر على ميزان أخلاقي «ما» ، ولا يعني كونها نظرية أنّها مستنبطة بالبرهان من
القضايا الأولية كما كنّا نقصد بالعقل النظري ، بل بمعنى أنّها رؤية أخرى وراء
العقل العملي ، لكنّها ليست واضحة دائما وقد قلنا فيما تقدّم انّه ليس كل قضية
أولية يجب أن تكون واضحة إذ لا دليل على ذلك ، بل قد يكون الدليل على خلافها كما
أوضحنا ذلك في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، إذ كون القضايا قضايا نظرية لا
يعني أنّها معرفة ثانوية مستنبطة ، بل معناه ـ مع الحفاظ على كونها معرفة أولية ـ انّ
بعضها يكون واضحا فيكون بديهيا ، وبعضها ليس كذلك.
ونحن نرى انّ
الاختلافات الموجودة بين النّاس السويّين في تفكيرهم على اختلاف مجتمعاتهم
وأعرافهم ، إنّما ترجع بحسب الحقيقة ـ إذا استثنينا بعض حالات الشذوذ ـ إلى باب
التزاحم ، وإلى الاختلاف في تقديم قيمة على قيمة في عملية الكسر والانكسار ، ورغم
هذا ، فإنّ هذه الاختلافات لا توجب تشكيكنا في أصل إدراكاتنا للعقل العملي الأول.
ثمّ انّ هناك
شبهات وإشكالات تذكر للأشاعرة في مقام نفي الحسن والقبح العقليّين في علم الكلام ،
نعرض عنها لكونها تخرجنا عن محل الكلام ، ولاكتفائنا بذكر ما يناسب المقام من
ناحية البحث الحلّي.
إلّا أنّه بقي
هناك نقطة لا بدّ من بيانها ، وهي انّ العقل العملي وحده لا يمكن ان يستكشف به حكم
شرعي ، أو يستدل به على ذلك ، فلو حكم العقل العملي بحسن الصدق ، وقبح الكذب فهذا
لا يكفي
لاستكشاف وجوب
الصدق أو حرمة الكذب ، ما لم نضمّ إليه قانونا وقضية أخرى من العقل النظري هي
قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وانّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع
، فإذا ثبت هذا التلازم ، حينئذ ، يمكن استكشاف الحكم الشرعي من العقل.
وقد توهم بعض
الأكابر كما ورد في كلماته ، انّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع واضحة في المقام
، باعتبار انّ الشارع سيّد العقلاء فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلاء ، كان
الشارع في طليعتهم وأول الحاكمين به ، ومن هنا قال المحقّق الأصفهاني «قده» ، انّ
التعبير بالملازمة ، فيه تسامح ، بل الأنسب التعبير بالتضمن ، أي انّ حكم العقل
والعقلاء يتضمن حكم الشارع لاندراج الشارع في العقلاء ، فيكون حكمه ضمن حكمهم.
ولكن هذا الكلام
غير تام ، وذلك لأنّ الحسن والقبح ليسا حكمين مجعولين من قبل العقلاء كي يقال :
انّ جعل العقلاء لحكم يكشف عن جعل الشارع له ، لأنّه منهم ، بل سيّدهم ، بل الحسن
والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع ، وقولنا : العقلاء يحكمون بهما ، يعنى
: انّهم يدركونهما لا أنّهم يشرعونهما ويجعلونهما ، فحينما نقول : بأنّ العقلاء
يدركون الحسن والقبح ، نقول أيضا ، إنّ الشارع يدركهما ضمنا ، لكن فرق بين إدراك
الشارع لشيء ، وبين جعله الحكم على طبقه ، فإنّ إدراك الحكم لا يلزم منه جعله لا
التزاما ، ولا تضمنا ، إذن فإدراك العقلاء لشيء وإن كان يتضمن إدراك الشارع ، لكن
حكمهم على شيء ، لا يتضمن حكم الشارع عليه أصلا ولا يلزمه.
وكأنّ هذا الكلام
صدر عن الأصفهاني «قده» بناء على مبناه في
__________________
الحسن والقبح ،
حيث يرجعهما إلى ما يشبه الأحكام العقلائية ، ونحن لو تنزلنا وسلّمنا ذلك المبنى ،
فإنّه أيضا لا يلزم من صدور هذا الحكم من العقلاء بما هم عقلاء ، أن يكون صادرا من
الشارع أيضا ، بدعوى أنّه أحد العقلاء ، وذلك لأنّ صدوره منهم ، إنّما كان رعاية
لمصالحهم وحفاظا على نظامهم ، فلو فرضنا أنّ عاقلا لا يعيش في ظل هذا النظام
كالشارع الحكيم مثلا ، فليس من الضروري عقلا حينئذ أن يشرّع نفس تشريعهم ويحكم
بحكمهم.
إذن فالصحيح في
المقام ، انّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في الحسن والقبح غير ثابتة.
والخلاصة : هي انّ
استكشاف الحكم الشرعي من العقل يحتاج إلى حكم عقلي قائل بالتلازم ، أو التضمن ،
وقد عرفت وجه الخلل في ذلك.
وفي مقابل دعوى
التلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، يمكن إبراز دعوى أخرى على عكسها ، مفادها : انّه
لا يعقل جعل الحكم الشرعي بملاك الحسن والقبح العقليّين ، لأنّ جعل الحكم الشرعي
إنّما هو لأجل التحريك والزجر بتوسيط حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية ،
والمفروض في المقام انّ الحسن والقبح حاصلان في المرتبة السابقة على جعل الحكم
الشرعي ، فالكذب قبيح ، مع قطع النظر عن تحريمه ، إذن يكون جعل الحكم الشرعي من
باب تحصيل الحاصل ، وتحصيل الحاصل محال ، وعليه : فلا مجال لإعمال المولوية في
المقام.
وهذه الدعوى باطلة
أيضا ، لما ذكرناه في بحث التجري ، من أنّ إعمال المولى لمولويته في موارد الحسن
والقبح ، يوجب إيجاد ملاك آخر للحسن والقبح وراء المحركيّة والزجرية الّتي كان
مفروغا عنها في المرتبة السابقة ، فمثلا : الخيانة للأخ ، أو الوطن ، قبيحة في
نفسها
عقلا ، لكن إذا
حكم الشارع بحرمتها ، صارت خيانة للشارع ومعصية له ، فوجد فيها هنا ملاك آخر للقبح
، وبهذا يتأكد المحرك والزاجر العقلي ، لتعدّد الحيثيّات الموجبة لاشتداد الحسن
والقبح ، إذن فهذه الدعوى إنّما تردّ إذا لم يكن الحسن والقبح قابلا للاشتداد
والتأكيد.
والصحيح هو أن
يقال : انّ الحسن والقبح بثبوتهما الواقعيين وبما يستتبعان واقعا ـ بقطع النظر عن
جعل جاعل ـ من استحقاق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، لهما محركيّة ذاتية وزاجرية
ذاتية أيضا بمرتبة من المراتب ، وحينئذ يقال : انّ الشارع بعد التفاته للحسن
والقبح ، وإدراكه لما ندركه من حسن هذا ، وقبح ذاك ، تارة يكون غرضه ـ في مقام حفظ
هذا الحسن وترك ذاك القبيح ـ بنفس مرتبة وحافظية تلك المحركيّة الذاتية للحسن
والقبح العقليين الواقعيين ، ففي مثله ، لا مجال لإعمال المولى مولويته في جعل حكم
جديد ، غايته أنّه يرشد إلى الحسن والقبح العقليين الموجودين في المقام ، وتارة
أخرى تكون درجة اهتمام المولى ـ في حفظ هذا المرام من عدم ارتكاب ذلك القبيح أو
فعل ذلك الحسن ـ أشدّ وأقوى من الحافظية الذاتية الضيقة للحسن والقبح لو خلّي
وأنفسهما ، ففي مثله يتصدّى المولى بنفسه لإصدار الأمر والنهي لأجل تأكيد تلك
الحافظية ، وحينئذ ، يحصل حكم شرعي مولوي على طبق الحسن والقبح.
وتشخيص مرتبة
اهتمام المولى في المقام بالحسن والقبح ، تارة يكون بدليل شرعي ، وأخرى يكون راجعا
إلى مناسبات وأذواق عقلائية ، لا يمكن التعويل عليها ، ما لم تبلغ إلى درجة الجزم
واليقين الأصولي ، وبناء عليه : يصحّ القول انّه لا برهان ـ مبدئيا ـ على ثبوت
الملازمة بين الحسن والقبح العقليين ، وبين حكم الشارع ، بمعنى أنّه لا دليل على
أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.
هذا هو الكلام في
العقل العملي بكلا مقاميه ، وبهذا يتضح انّه لا يتصور قصور في كاشفية الدليل
العقلي ، وإلى هنا يتمّ الكلام في المقام الثاني.
٣ ـ المقام الثالث
:
هو دعوى أن يكون
القصور المدّعى في الدليل العقلي ، من ناحية المنجزية والمعذرية بمعناها الأصولي ،
وفي هذه المرحلة ، يفرض أن الأخباري يعترف بأنّ الجعل الشرعي لا قصور في إطلاقه ،
وانّ الدليل العقلي لا قصور في كاشفيته وسلّم حصول القطع من الدليل العقلي ، إلّا
أنّه يدّعي عدم معذريّة هذا القطع الناشئ من العقل ، بسبب نهي الشارع عن اتباعه ،
وهذا النهي يمكن تصوره ثبوتا ، على نحوين ، كما أشار إليه الشّيخ الأعظم «قده» في الرّسائل.
١ ـ النحو الأول :
هو دعوى نهي الشارع عن اتباع القطع الناشئ عن الدليل العقلي بعد فرض حصوله.
٢ ـ النحو الثاني
: هو دعوى نهي الشارع قبل حصول القطع عن الخوض في المقدّمات العقلية في مقام
استنباط الأحكام الشرعية ، وصرف الذهن إلى استنباطها من الأدلة اللفظية.
ويظهر الفرق بين
هذين النحوين من النهي فيما لو اتفق أنّ إنسانا حصل له قطع عقلي بحكم شرعي من دون
أن يتسبّب في ذلك ، ويرتب له مقدّماته العقلية ، بحيث يشمله النهي عن العمل بقطعه
، لو كان النهي باللّسان الأول ، دون اللّسان الثاني ، فإنّه لا يشمله كما هو
واضح.
وقد يقال : بأنّ
النهي باللّسان الثاني إنّما يفيد قبل الاستدلال
__________________
وحصول القطع ، لكن
بعد الاستدلال وحصول القطع فلا ، لأنّه بعد حصول القطع ، على أيّ شيء يعاقب؟ فهل
يعاقب على مخالفة هذا النهي ، أم أنّه يعاقب على مخالفة الواقع؟
فإن كان على
مخالفة النهي ، فهذا النهي طريقي وليس نهيا حقيقيا نفسيا ليستحق عليه العقاب ، وإن
كان على مخالفة الواقع ـ أي ما قطع به ـ فهو الآن مضطر إلى تطبيقه على قطعه ،
والعمل به ، لأنّ القاطع يرى بقطعه الواقع أمام عينه ، صحيح بعد أن قطع يضطر إلى
تطبيقه في الواقع ، لكنّه من التطبيق بالاضطرار بسوء الاختيار ، وهو يشبه دخول
الأرض المغصوبة بسوء الاختيار ، ولذا لو أدّى هذا الاضطرار للعمل بالقطع ، إلى
مخالفة حكم شرعي ، فإنّه يعاقب عليه ، لأنّه بسوء اختياره.
ومن هنا يعلم ،
انّ النهي باللّسان الثاني معقول ، بمعنى النهي عن الدخول في هذا الباب والتسبّب
بالأسباب العقلية إلى الأحكام الشرعية ، ولكن هذا بخلاف النهي باللّسان الأول ، لما
بيّناه في بحث حجيّة القطع ، من أنّه لا يعقل جعل حكم في حق القاطع على خلاف قطعه
، إذن : فالنهي له لسانان ، فالنهي باللّسان الأول مستحيل ثبوتا ، بخلاف النهي
باللّسان الثاني ، حيث أنّه معقول ثبوتا ، ولكنّه لم يدلّ عليه دليل إثباتا.
نعم قد توهم
وادّعي دلالة روايات عليه إثباتا ، وأهم ما يتوهم دلالته عليه هو روايات ناهية عن
العمل بالرأي وناهية عن الاستقلال عن الأئمّة عليهمالسلام ، حيث أنّ من راجعها ولاحظ ظروف صدورها ، لا يشكّ في أنّ
المقصود منها ومن الإفتاء بالرأي ، هو النهي عن العمل بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح
المرسلة ونحوها من الظنون ممّا كان معروفا في وقت صدورها ، كما أنّ المقصود بها
أولئك العاملين بتلك الأمور من بقية فقهاء المسلمين ممّن كانوا يجعلون أنفسهم في
مقابل الأئمّة
الأطهار عليهمالسلام ويفتون النّاس دون أن يكون عندهم علم بذلك ، ودون أن
يرجعوا إلى الإمام المعصوم من أهل البيت عليهمالسلام رغم أنّهم كانوا معاصرين له ، وهكذا ، تكون هذه الرّوايات
أجنبية عن محل الكلام.
ثمّ إنّه لو سلّم
دلالة هذه الرّوايات ، بمعنى أنّه سلّم أنّ عنوان الرأي المذكور فيها مطلق يشمل
الرأي الظني والرأي القطعي ، إذن ، فتكون دالة على عدم حجيّة الدليل العقلي القطعي
بالإطلاق ، فتقع المعارضة بينها وبين بعض الطوائف من الرّوايات الدالة على لزوم
اتباع العلم والدالة على براءة العالم إذا عمل بعلمه ، من دون تقييد بأن يكون مصدر هذا العلم العقل أو الشرع ،
وحينئذ ، تكون النسبة بين هاتين لطائفتين ، العموم والخصوص من وجه ، لأنّ هذه
الطائفة الثانية تدلّ على أنّ من قضى بالواقع وهو يعلم فهو في الجنّة ، أي سواء
كان علمه عقليا أم شرعيا ، وتلك الطائفة تدلّ على أنّ من أفتى برأيه فهو في النّار
، أي سواء كان رأيه ظنيا أو قطعيا ، ومعه : فيتعارضان في مادة الاجتماع ، وهو مورد
العلم العقلي ، ومع عدم المرجح ، يتساقطان فيه ، ومعه : لا يبقى دليل على الردع عن
العمل بالعلم العقلي.
ثمّ إنّ هناك
طائفة من الرّوايات ، ذكرها في أصول الكافي ، كما أشار إليها الشيخ الأعظم «قده» ، تحثّ على العمل بالعقل ، وهذه الرّوايات لو تمّت سندا
ودلالة ، لوقعت طرفا للمعارضة مع تلك الرّوايات المدّعى دلالتها على النهي عن
العمل بالعقل أو الرأي.
وقد يقال : بأنّ
ما دلّ على حرمة العمل بالرأي ، مقدّم على هذه
__________________
الطائفة الّتي
تحثّ على العمل بالعقل ، وذلك لأنّ روايات حرمة العمل بالرأي مطلقة ، تشمل العقل
النظري البرهاني والعقل الفطري بينما الرّوايات الّتي تحثّ على العمل بالعقل ،
فإنّ المقصود بها هو العقل الفطري الخالي من شوائب الأوهام ، وبهذا تكون مخصصة
لتلك الرّوايات ، ومعه تبقى دالة على حرمة العمل بالعقل النظري.
لكن قد يقال : انّ
هذه الرّوايات إذا لوحظت من ناحية أخرى ، وجدنا أعميّة في عنوان «الرأي» بحيث
أنّها تشمل الرأي الظنّي والرأي القطعي ، بينما روايات الحثّ على العمل بالعقل ،
لا تقتضي حجيّة الرأي الظنّي ، وإنّما هي في مقام إمضاء العقل على طبقه ، إذ من
الواضح أنّ العقل لو خلّي وطبعه لأدرك بنفسه عدم حجيّة الظن ، إذن فالنسبة بينهما
عموم من وجه أيضا ، إذ أنّ روايات النهي عن العمل بالرأي أخصّ ، لعدم شمولها
الفطريات ، لكنّها أعمّ لشمولها الظنون العقلية ، ومع كون النسبة بينهما العموم من
وجه ، إذن ، تتعارض الطائفتان ثمّ تتساقطان في مادة الاجتماع ، وكل هذا لو فرض صحة
هذه الطائفة.
إلّا أنّه عند
مراجعة هذه الرّوايات ـ روايات الحثّ على العمل بالعقل ـ يتضح عدم تماميتها سندا
أو دلالة ، فالمهم ، التعويل على الطائفة الأولى الدالة على براءة ذمّة العالم إذا
عمل بعلمه ، حيث أنّها وافية بالغرض مع كونها طرفا للمعارضة بنحو
العموم من وجه مع تلك الطائفة الّتي احتجّ بها الأخباريون من النهي عن العمل
بالرأي بالنحو الّذي بيّناه ، وبعد التساقط لو سلّم التساقط لا يبقى دليل على
الردع ـ مدّعى الأخباري ـ لا بالوجه المنقول عنهم ، ولا بغيره.
والحاصل هو أنّ
الأهم هو ، إيقاع المعارضة بين أخبار الرأي ،
__________________
وبين الطائفة
الثانية الدالة على جواز التدين والقول بعلم لأجل حجيّة سندها ، وتكون المعارضة
بينهما بنحو العموم من وجه ، لاجتماعهما في العقل القطعي ، وافتراق أخبار الرأي
بالعقل الظنّي ، وافتراق أخبار العلم بالقطع الناشئ من الأدلة اللفظية ، وبعد
التساقط ، لو سلّمنا به ، لا يبقى دليل على مدّعى الأخباري.
في مخالفة العلم التفصيلي
بقي هناك فروع
تعرض لها الشيخ الأعظم «قده» ، بعنوان أنّه قد يستدل بها الأخباريون ، ليوهموا بها
إثبات إمكان الردع عن العمل بالقطع ، بدعوى أنّ الاختيارات الفقهية في هذه الفروع
تستدعي أمر الشارع بطرح علم تفصيلي ، وقد ذكروا فروعا نقتصر فيها على التعرّض
للفروع الستة الّتي ذكرها السيّد الخوئي «قده» تبعا للشيخ الأعظم «قده» ، بحيث تكون أنموذجا للباقي. ولكن
ليس بملاك تتميم النقاش مع الإخباريين ، بل باعتبار ما في تحقيقها من نكات صناعية
، ومن تمرين على الصناعة.
١ ـ الفرع الأول :
هو أنّه لو علم الإنسان بجنابة نفسه أو جنابة شخص آخر ، فإنّ مثل هذا العلم
الإجمالي غير منجز ، باعتبار أنّه علم إجمالي بتكليف متوجه إلى العالم أو إلى شخص
آخر ، والعلم الإجمالي إنّما يتنجز إذا كان علما إجماليا بالتكليف الفعلي للعالم
كي يدخل حينئذ في عهدته ، وإن كان تكليف الغير لا يدخل في عهدته ، فإذا لم يكن هذا
العلم منجزا ، ففي مثله لا مانع من جريان الأصول المؤمنة في كل
__________________
الأطراف حيث لا
تعارض بينها ، فيستصحب بقاء طهارته وعدم وجوب الغسل عليه ، كما أنّه يجري استصحاب
بقاء طهارة الرجل الآخر.
وهذان الاستصحابان
إنّما يجريان معا لعدم تنجيز العلم الإجمالي ، مع انّ جريانهما معا قد يؤدّي إلى
طرح علم تفصيلي في بعض الأحيان.
فمثلا : تارة يفرض
انّ هذا الإنسان يستصحب طهارته ويصلّي فرادى ، فهنا لا يكون مخالفا لعلم تفصيلي ،
وقد يفرض أنّه اغتسل وصلّى خلف الآخر ، فكذلك لا مخالفة تفصيلية ، وأمّا إذا لم
يغتسل ، وكذلك الشخص الآخر لم يغتسل ، وصلّى خلفه ، فحينئذ ، تكون صلاته صحيحة
بمقتضى الاستصحابين ، ولكنّها معلومة البطلان وجدانا وتفصيلا ، لأنّها إمّا أنّها
صلاة جنب ، وإمّا لأنّها صلاة خلف الجنب ، إذن ، فهنا قد طرح علم تفصيلي باعتبار إجراء
الأصلين ، فإذا جاز ذلك ، إذن فكيف يقال لا يجوز الردع عن العمل بالعلم.
وقد أجيب عن هذه
الشبهة بأجوبة مترتبة.
١ ـ الجواب الأول
: هو أن يدعى انّ صحة الائتمام موضوعها واقعا هو ، الأعم من صحة صلاة الإمام واقعا
، أو اعتقادا ، أو ظاهرا ، بمعنى أنّ الصحة الظاهرية لصلاة الإمام ، أو الصحة
الاعتقادية لصلاته هي ، موضوع للحكم الواقعي ، فتصح صلاة المأموم حتّى لو لم تكن
صلاة الإمام صحيحة في الواقع ، وبناء على ذلك ، فحينئذ لا بأس في المقام بجريان
الأصلين معا ، ولا يلزم من إعمالهما في حال ائتمام أحدهما بالآخر ، طرح علم تفصيلي
ببطلان الصّلاة ، إذ لا علم تفصيلي للمأموم ببطلان صلاته ، لأنّه لو كان هو الجنب
فصلاته باطلة ، وإن كان الإمام هو الجنب فصلاة المأموم صحيحة ، لأنّ صلاة الإمام
بحسب الحكم الظاهري ، أو بحسب اعتقاد المأموم صحيحة ، وهذه موضوع للصحة الواقعية
عند المأموم ، إذ لا علم تفصيلي للمأموم ببطلان صلاته
على كلّ حال ليلزم
المحذور ، نعم هو يعلم ببطلانها على تقدير كونه هو الجنب.
ولكن هذا الجواب
غير تام مبنى ، لأنّ ظاهر الأدلة هو إناطة جواز الائتمام بصحة صلاة الإمام واقعا ،
وكون صحة صلاة الإمام ظاهرا هي الموضوع للحكم بجواز الائتمام واقعا ، يحتاج إلى
دليل ، مع أنّه لا دليل في المقام على ذلك.
٢ ـ الجواب الثاني
: هو أنّ هذين الاستصحابين المؤمّنين لا يجريان في المقام ـ حتّى بقطع النظر عن
هذا
العلم التفصيلي ـ وذلك
، لأنّ هذين الأصلين على خلاف علم إجمالي منجز ، وليس كما ادّعى أنّه غير منجز.
وتوضيح ذلك : هو
أنّ المكلّف إذا علم إمّا بجنابة نفسه ، وإمّا بجنابة الغير ، فتارة : يفرض أنّ
ذلك الغير ممّن يجوز الائتمام به لو كانت صلاته صحيحة ، وأخرى : يفرض أنّه ممّن لا
يجوز الائتمام به حتّى لو كانت صلاته صحيحة ، فإذا فرض انّ هذا الغير كان ممّن
يجوز الصّلاة خلفه ، إذن ، سوف يتشكل لدينا علم إجمالي منجز ، وذلك ، لأنّ هذا
المكلّف يعلم إجمالا ، إمّا ببطلان صلاته الّتي يصلّيها فرادى قبل أن يغتسل ،
وإمّا ببطلان صلاته الّتي اقتدى بها خلف الشخص الآخر ولو بعد أن يغتسل ، وذلك
لأنّه إن كان هو الجنب ، كانت صلاته باطلة سواء اقتدى أم صلّى فرادى ، وإن كان
الإمام هو الجنب ، فلا يجوز الاقتداء به ، وحينئذ ، تبطل صلاته لو اقتدى وإن اغتسل
، وحينئذ ، فهذا علم إجمالي منجز يوجب تعارض الأصلين والاستصحابين وتساقطهما فلا
يجريان ، ومعه لا تصل النوبة إلى ما ادّعي من لزوم طرح علم تفصيلي.
ومن هنا قلنا في
تعليقتنا على منهاج الصالحين إلّا إذا كانت جنابة
أحدهما موضوعا
لحكم إلزامي لآخر كما في الكلام المتقدّم في الجنابة الدائرة بين شخصين وقد ذكر
هنا دعويان .
١ ـ الدعوى الأولى
: هي انّ العلم الإجمالي هنا ينحل باستصحاب عدم الجنابة في كل منهما ، وباعتبارهما
أصلين من سنخ واحد فيسقطان ، فتصل النوبة إلى أصالة الصحة في صلاة الإمام مثلا ،
وأصالة الاشتغال من ناحية إحراز الطهور من الحدث الأكبر لكونه شكّا في المحصل.
وهذه الدعوى
مدفوعة : بأنّ أصالة الصحة دليلها لبّي لا إطلاق فيه لمثل هذه الحالات.
٢ ـ الدعوى
الثانية : هي انّ جواز الائتمام مرجعه إلى إمكان تحمل الإمام القراءة عن المأموم ،
أي عدم وجوب القراءة عليه ، وهذا بخلاف شرطية الطهور من الحدثين ، إذ بعد تساقط
الاستصحابين يكون الأصل الحكمي الجاري في أحد الطرفين هو أصالة الاشتغال ، وفي الآخر
أصالة البراءة عن وجوب القراءة ، لأنّه من الشكّ في الجزئية.
وهذه الدعوى
مدفوعة أيضا ، لأنّ الائتمام بحسب ما يستفاد من أدلته ، أمر وجودي ، وهو الاقتداء
بمن تكون صلاته صحيحة ، ومعه يعلم حينئذ بوجوب الجامع بين القراءة في الصّلاة ،
والاقتداء بالغير الّذي تكون صلاته صحيحة ، فيكون هذا من الشكّ في تحصيل هذا
الجامع المعلوم وجوبه ، ومعه تبقى منجزية العلم الإجمالي قائمة بدون ردع عنها.
٣ ـ الجواب الثالث
: هو أنّه لو سلّم جريان الأصلين الموضوعيين
__________________
في حقّ الشخصين
معا وعدم تعارضهما وغفل عن هذا العلم الإجمالي ، نقول حينئذ : إنّ الأصلين
الجاريين هنا ، يستحيل أن يكونا شاملين للأثر المعلوم بطلانه ، فإنّ كل أصل عملي
إنّما يصحح محتمل البطلان ، ولا يعقل أن يصحح معلوم البطلان ، فيترتب على استصحاب
طهارة هذا الإنسان ، وعلى استصحاب طهارة ذاك الرجل ، كل آثارها غير ما يعلم بعدمه
، وحينئذ نلتزم بجريان الاستصحابين معا ، ـ بقطع النظر عن ذاك العلم الإجمالي ـ ونلتزم
بأنّهما لا يؤدّيان إلى الترخيص بائتمام أحد الشخصين بالآخر بدون غسل من الاثنين ،
لأنّ هذه الصّلاة معلومة البطلان ، والاستصحاب لا يتعبّدنا بمثل هذه الآثار ، إذن
فيلتزم بجريان الاستصحابين والتبعيض في الآثار المترتبة على جريانهما بين ما لا
يقطع بعدم ترتبه ، وما يقطع بذلك.
٢ ـ الفرع الثاني
: هو ما لو اختلف شخصان ، فقال أحدهما ، قد بعتك هذا الكتاب بدينار ، فقال الآخر ،
بل وهبته لي ، ففي مثل ذلك حكم الفقهاء بعدم ثبوت البيع ولا الهبة ، وبرجوع الكتاب
لصاحبه ، باعتبار التهافت ، وحينئذ ، فلو فرض ان انتقل الكتاب إلى شخص ثالث
بالشراء ونحوه ، فهو يعلم تفصيلا أنّه انتقل إليه من غير مالكه ، لأنّه يعلم انّ
مالكه الأول إمّا باعه لذلك الشخص ، أو وهبه له ، فإذا حكم في المقام بانفساخ ما
وقع ، سواء كان بيعا أو هبة ، فمعنى هذا أنّه قد حكم على خلاف الواقع ـ لأنّنا
نعلم بتحقيق أحد الأمرين ـ ومعه يلزم من ذلك مخالفة علم تفصيلي.
وقد أجاب السيّد
الخوئي «قده» عن ذلك ، بأنّ الهبة المدعاة ، تارة تكون جائزة ، وأخرى تكون لازمة ،
فإن فرض أنّها كانت جائزة ، فحينئذ نفس دعوى صاحب الكتاب تكون سببا في رجوع الكتاب
إليه على كلّ حال ، سواء كان الواقع هو الهبة ، أو البيع ، لأنّه إن كان الواقع هو
البيع
والمفروض أنّ
البائع لم يقبض ثمنه ، والمشتري ممتنع عن دفع الثمن ، إذن ، يثبت للبائع حقّ الفسخ
حينئذ ، واسترجاع الكتاب ، وإن كان الواقع هو الهبة ، فالمفروض أنّها جائزة ،
وحينئذ ، فنفس إنكارها يعدّ رجوعا فيها ، وبهذا يكون الكتاب قد رجع رجوعا واقعيا
إلى مالكه الأول ، وحينئذ ، لو فرض أنّ شخصا ثالثا أخذه ، إذن فقد أخذه من مالكه
الواقعي.
وأمّا إذا كانت
الهبة لازمة ، فحينئذ ، يكون كل منهما منكرا لما يدّعيه الآخر ، فيصير المورد من
موارد التحالف ، والتحالف من أسباب انفساخ المعاملة واقعا ، وبه يرجع الكتاب إلى
مالكه الأول واقعا ، ولا إشكال.
والجواب : هو انّ
ما أفاده بالنسبة إلى ما إذا كانت الهبة جائزة ، فصحيح ، وأمّا بالنسبة إلى ما إذا
كانت الهبة لازمة فهو غير صحيح ، بل الصحيح هو انّ المورد ليس من موارد التحالف
لأنّ مورد التحالف إنّما يكون فيما لو ادعى كل من المتخاصمين شيئا على الآخر
، والآخر ينكره ، والمقام ليس من هذا القبيل ، لأنّ المدّعي هو صاحب الكتاب فقط ،
حيث يدعي شيئا بالبيع على مدّعي الهبة ، أمّا مدّعي الهبة ، فإنّه لا يدّعي شيئا
على صاحب الكتاب ، وإنّما ، صاحب الكتاب ، وصاحب الهبة كلاهما ، متفقان فعلا على
انّ الكتاب ملك لمدّعي الهبة ، ويختصّ صاحب الكتاب بدعوى استحقاقه الثمن في ذمّة
الآخر ، فهو مدّعي والآخر ينكر ، كما انّ صاحب الكتاب يدّعي حقّ استرجاع الكتاب ،
لأنّه لم يقبض الثمن من الآخر ، والآخر ينكر ذلك ، إذن فهناك حقّان يدّعيهما
الأوّل على الثاني ، وأمّا مدّعي الهبة ، فهو يدّعي ملكيته للكتاب ، وهذا شيء لا ينكره
الأوّل.
__________________
وبهذا يتضح ، انّ
الأوّل يكون مدّعيا ، والثّاني منكرا ، فإذا لم تكن للأوّل بيّنة ، ثمّ حلف
الثّاني على عدم البيع ، تثبت في المقام ، نتيجة الهبة بالنسبة إليه ، وتسقط
إلزامات الأوّل حينئذ.
وهنا لا تردّ شبهة
الأخباري ، لأنّ مالكية الثّاني للكتاب أمر مفروغ عنه حدوثا ، ومحتمل بقاء ، إذن
فلا علم تفصيلي ليلزم طرحه بتطبيق تلك القواعد الشرعية.
٣ ـ الفرع الثالث
: هو أنّه قال الفقهاء : إنّه لو أقرّ زيد بعين لعمرو ، حكم لعمرو بها ، تنفيذ
القاعدة حجيّة الإقرار ، فلو قال زيد بعد ذلك ، إنّ هذه العين ليست لعمرو ، بل هي
لخالد ، فأيضا ينفذ هذا الإقرار وذلك بأن يغرّم زيد قيمة العين إن كانت قيمية أو
مثلها لخالد إن كانت مثلية باعتبار أنّها في حكم التالفة بعد أن أعطيت لعمرو ، مع
أنّه يعلم إجمالا انّ أحدهما لا يستحقّ ما أخذه ، وحينئذ ، فلو انتقلت كلا العينين
إلى ثالث ، فهذا الثالث يحصل له علم إجمالي بحرمة التصرف في إحداهما ، وقد ينتهي
الأمر إلى مخالفة علم تفصيلي ، كما لو جعل كلا العينين معا ثمنا لعين أخرى ، فإنّه
هنا يعلم تفصيلا بعدم استحقاقه لهذه العين ، وحينئذ يقال : أنّه هنا قد طرح علم
إجمال منجز ، بل علم تفصيلي ، وهذا يدلّ على أنّه يمكن الردع عن العمل بالعلم.
وفي مقام الجواب
هنا ذكر السيّد الخوئي «قده» ، بأنّ ما ذكره الفقهاء هو على مقتضى القاعدة ، فإنّ مقتضى
القاعدة هو شمول حجيّة الإقرار للإقرار الأوّل ، كما أنّ الإقرار الثّاني مشمول
لدليل حجيّة الإقرار ، ومقتضى حجيّة الثّاني هو ثبوت ملكية العين للمقرّ له ثانيا
، لكن
__________________
حيث أنّها صارت
تالفة على المقر له ثانيا من قبل المقر بسبب إقراره الأوّل ، أو بحكمها ، فينطبق
عليها حكم التلف ، فينتقل حينئذ إلى بدلها من المثل أو القيمة لا محالة ، ويلتزم
بتمام آثار حجيّة هذين الإقرارين ، ما لم يلزم مخالفة علم إجمالي منجز أو علم
تفصيلي.
والخلاصة ، انّ
السيّد الخوئي «قده» أفاد ، بأنّ مقتضى القاعدة هو ، شمول دليل حجيّة الإقرار لكلا
هذين الإقرارين ، فنلتزم بتمام آثارهما ما لم يلزم مخالفة علم إجمالي منجز ، أو
علم تفصيلي.
والتحقيق انّ ما
ذكره الفقهاء في المقام من العمل بالإقرارين صحيح كما أفاد السيّد الخوئي «قده» ،
ولكن تخريج ذلك ليس كما ذكر آنفا على ما يبدو من ظاهر كلام السيّد الخوئي «قده» ، وعليه : فلا بدّ من تخريج آخر لما أفاده ، بناء على
قاعدة حجيّة الإقرارين ، فإنّه ربّما يقال : إنّ كلام زيد الثّاني له مدلولان ،
مطابقي وهو ، انّ هذه العين ملك لخالد ، والتزامي ، وهو أنّه مشغول الذمّة لخالد
لأنّه فوّت عليه ماله والمدلول المطابقي ليس إقرارا في الواقع لأنّه إقرار بالعين
الخارجة عن ملك المقر ، لأنّها أصبحت ملكا لعمرو بمقتضى الإقرار الأوّل ، وحينئذ ،
لا يكون إقراره الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي مشمولا لدليل حجيّة الإقرار لأنّه
إقرار بما هو ملك الغير بمقتضى إقراره الأوّل ، فإنّ الإقرار إنّما يكون حجّة
بمقدار ما يكون على الشخص ، بحيث لو أخذ المقر به منه لخسر ، ولو لم يؤخذ لاستفاد
، ولذا قيل : «إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ» ، وهنا لو أخذنا بإقراره الثّاني
بلحاظ مدلوله المطابقي لم يخسر المقرّ شيئا ، لأنّ العين ليست ملكا له ، ولو رفضنا
إقراره لم يربح شيئا ، وبهذا يتبين انّ الكلام الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي غير
مشمول
__________________
لدليل حجيّة
الإقرار ، بل هو ادّعاء ، وعنوان الإقرار يطبق ابتداء على مدلوله الالتزامي ، وهو
كونه مشغول الذمّة لخالد ، فيكون دليل حجيّة الإقرار شاملا له ابتداء ، وحينئذ ،
يضمن المقر المثل أو القيمة ، ولا مانع أن يكون كلام واحد بلحاظ مدلوله المطابقي
ادّعاء ، بلحاظ مدلوله الالتزامي إقرار ، والمفروض انّ الحجيّة يكون بلحاظ مقدار
الإقرار ، ولا يتوهم انّ هذا على خلاف المتفق عليه من حيث تبعية الدلالة
الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجيّة ، وذلك ، لأنّ التبعية إنّما تكون ، في
مورد تكون فيه الدلالة المطابقية حجّة ابتداء ، وبتبعها تكون الحجيّة شاملة
للدلالة الالتزامية ، كما لو كان موضوع دليل الحجيّة عنوانه الإخبار ، كما في خبر
الواحد ، والخبر ينطبق على الدلالة المطابقية ولا ينطبق على الالتزامية إلّا بتبع
ذلك ، ففي مثله ، إذا سقط الخبر عن الحجيّة بلحاظ الدلالة المطابقية ، حينئذ نلتزم
بسقوطه عن الحجيّة بلحاظ مدلوله الالتزامي ، وهنا محل كلامنا ليس من هذا القبيل ،
فإنّ دليل الحجيّة من أوّل الأمر أخذ في موضوعه عنوان لا ينطبق إلّا على الدلالة
الالتزامية ، إذن ، فالحجيّة من أوّل الأمر لم تشمل المطابقية ، وشملت الالتزامية
، وبهذا لم تكن حجيّة الالتزامية بتبع المطابقية ، إذ أنّه لم تكن المطابقية
مشمولة لدليل الحجيّة من أوّل الأمر أصلا ، لا أنّها أسقطت عن الحجيّة.
والحاصل هو ، أنّه
لا يصحّ تطبيق حجيّة الإقرار على الإقرار الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي كما عرفت
، وإنّما الّذي يكون مرادا من فتوى الفقهاء هو ، انّ الإقرار الثاني له مدلولان ،
ومدلوله المطابقي هو انّ العين لخالد ، ومدلوله الالتزامي هو أنّه قد فوّت على
خالد ماله بعد أن حكم به لعمرو ، ولهذا يكون مشغول الذمّة له فإنّ إخباره بأنّه
فوّت على خالد ، أمر مشغل لذمّته ، وإلزام لنفسه بشيء ، يكون إقرارا ، هذا حاصل
تخريج فتوى الفقهاء في المقام.
وأمّا تمسك
الأخباري بذلك ، وكونه ملازما لمخالفة علم إجمالي منجز أو تفصيلي ، فجوابه كما ذكر
السيّد الخوئي «قده» من عدم الالتزام بمخالفة علم إجمالي أو تفصيلي.
٤ ـ الفرع الرابع
: هو أنّه لو اختلف المتبايعان في تشخيص البيع أو الثمن ، كما لو قال البائع ،
بعتك هذا الكتاب بدينار ، فقال المشتري : بل بعتني قلما بدينار ، ففي مثله : حكم
الفقهاء بالتحالف ، لأنّ كلا منهما يدّعي شيئا ينكره الآخر.
أمّا البائع ،
فلأنّه وإن كان أصل ملكيته للثمن ـ الدينار ـ معلوما ، إلّا أنّه يدّعي على
المشتري حقّ الإلزام بدفعه بمجرد إعطائه الكتاب.
وأمّا المشتري ،
فيدّعي على البائع ملكيته للقلم وبالتالي حقّ إلزامه بدفعه بمجرد تقديم الثمن إليه
، وحينئذ ، هنا يتحالفان ، وبعد التحالف قد يحكم ظاهرا بعدم كلا الأمرين ، وحينئذ
، يأخذ كل منهما ماله ، مع انّ إعمال ذلك يلزم منه علم إجمالي ، إمّا بخروج الكتاب
أو القلم عن ملك البائع ، كما يعلم تفصيلا بخروج الثمن عن ملك المشتري ، مع انّ
إعمال هذا يؤدّي إلى طرح إجمالي منجز ، بل طرح علم تفصيلي.
وقد ذكر السيّد
الخوئي «قده» في مقام التعليق ، أنّه إن بني على انّ التحالف يوجب
الانفساخ الواقعي ، إذن ، فبالحلف لا يبقى وجود للمعاملة بحكم الشارع ، ومعه لا
يلزم ما ذكر ، وإذا لم نبن على انّ التحالف موجب للانفساخ الواقعي ، وإنّما يوجب
ترتيب الآثار ظاهرا ، فإنّه حينئذ ، يبنى على ترتب كل أثر لا يلزم منه مخالفة علم
إجمالي منجز أو علم تفصيلي.
__________________
وتحقيق الحال في
هذه المسألة ، أنّه بعد الفراغ عن كون المورد من موارد التحالف ، يقع الكلام في
مقامين.
١ ـ المقام الأوّل
: هو في انّ التحالف هل يوجب انفساخ العقد واقعا أو لا؟ وعلى تقدير أنّه لا يوجبه
، فهل هناك نكتة أخرى تقتضي انفساخه الواقعي أم لا؟
٢ ـ المقام
الثّاني : هو في جواب الأخباري ـ الّذي ينقض بهذا الفرع ـ ويكون جوابه على ضوء ما
يتمّ في المقام الأوّل.
أمّا المقام
الأوّل : وهو إيجاب التحالف للانفساخ الواقعي ، فقد يقرب استفادة الانفساخ من دليل
اليمين بعدّة وجوه.
١ ـ الوجه الأوّل
: هو أن يقال : إنّ مفاد دليل اليمين ، هو إنهاء الخصومة وسدّ بابها ، ومن الواضح
إنّها الخصومة وسدّ بابها لا يتحقّق إلّا مع انفساخ العقد ، وافتراض كون العقد
كأنّه لم يكن ، إذ مع بقائه على حاله ، يبقى دعوى كل من المتحالفين قائمة ، وهذا
مناف لإنهاء الخصومة ، ومن هذا يعرف معنى الانفساخ ، وهو ممّا يستفاد من دليل
اليمين.
وهذا الوجه غير
تام : وذلك ، لأنّ إنهاء الخصومة شيء ، وإنهاء منشأ الخصومة شيء آخر ، وما يتكفله
دليل اليمين هو الأوّل ، فإنّه لا شكّ في انّ دليل اليمين مفاده إنهاء نفس الخصومة
، بمعنى : أنّه لا هذا من حقّه أن يطالب ذاك ، ولا العكس ، بل قد أفتى الفقهاء في
مورد اليمين ، بأنّ من حرم من ماله باليمين ، لو وجد ماله وأمكنه أخذه ولو بالسرقة
، لما جاز له ذلك ، وهذا إنهاء لفعلية الخصومة ، إذن ، ما يتكفله دليل اليمين هو
إنهاء الخصومة ، أي الشق الأول ، بينما محل البحث هو الثاني ، أي منشأ الخصومة.
وفيه يقال : إنّ
منشأ الخصومة الّذي هو العقد ، لا يستفاد من دليل اليمين حلّه إذ كون دليل اليمين
يتكفل إنهاء الخصومة ، ولا يتكفل إنهاء منشئها لا ملازمة بينهما.
٢ ـ الوجه الثّاني
: هو أن يقال : إنّ مفاد دليل اليمين ، وإن كان إنهاء الخصومة ، ولا ملازمة بين
إنهائها ، وزوال منشئها ، لكن بقاء العقد ، لغو عرفي بعد نفوذ اليمين ، وهذا اللغو
باعتبار لغويته ، يراه العقلاء كأنّه المجمل ، إذ ما فائدة بقاء عقد لا يترتب عليه
الأثر خارجا ، كيف وقد أشرنا سابقا إلى انّ الفقهاء أفتوا بأنّ الشخص لو عثر على
ماله المحروم منه باليمين ، لا يجوز له أخذه ، إذن ، فأيّ أثر في إبقاء العقد في
عالم الجعل.
وهذا الوجه يمكن
مناقشته ، وذلك بمنع اللغوية ، حيث أنّه من جملة الثمرات لبقاء العقد هو ، أنّه لو
تاب المعاند من المدّعيّين ، وأقرّ بكذب يمينه ، فحينئذ يجب عليه أن يرتب آثار
العقد ، لأنّ اليمين إنّما ينفذ مفعولها إذا لم يقرّ صاحبها بكذبها ولكن إذا أقرّ
بالحق يكون إقراره حاكما على اليمين.
٣ ـ الوجه الثالث
: هو انّ هذا التحالف يكون إتلافا للمال قبل قبضه ، كما هو الحال في محل الكلام ،
حيث أنّ البائع أنكر أن يكون باع المشتري قلما وحلف على إنكاره ، وبذلك يكون قد
فوّت القلم على مشتريه ، وهذا التفويت بحكم تلف القلم قبل قبضه ، وقد حكم الفقهاء
بأنّ كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ، ومحل الكلام : بحكم التلف ، لأنّ
التحالف إتلافا للمال على من انتقل إليه قبل قبضه ، فيتعدّى بالمناسبات العرفية من
التلف بعنوانه ، إلى محل الكلام.
أمّا إذا كان
الدليل على الانفساخ لفظيا ، فلا بدّ حينئذ من التعدّي بالمناسبات العرفية ، من
مورد الرّواية إلى محل الكلام.
وأمّا إذا لم يكن
لفظيا ، بل كان عبارة عن الارتكازات العقلائية الممضاة شرعا ، فإنّه حينئذ يقال :
بسعة هذه الارتكازات والتعدّي بها أيضا إلى غير البيع من سائر المعاوضات ، لأنّ
روح المعاوضة عقلائيا هو التسليم والتسلّم ، فإذا تعذّر ذلك ، انفسخت المعاملة.
وهذا الوجه مفيد
ولو في الجملة ، فمن يقتصر في حكم تلف المبيع قبل قبضه على مورد النصّ ، وهو البيع
في خصوص المبيع ، فيكون هذا الوجه مفيدا له في خصوص مورد النصّ ، وأمّا لو كان
التحالف داخلا في باب الصلح ، فلا يتمّ هذا الوجه بالنسبة للتحالف ، لأنّه لا يكون
من مورد النصّ.
نعم لو كان
التعدّي من مورد التلف إلى ما نحن فيه ، ولم يكن مستندا ـ بالنسبة لحكم التلف قبل
القبض ـ إلى دليل لفظي ـ الرّواية ـ بل كان مستندا إلى المرتكزات العرفية
العقلائية القائلة : بأنّ روح المعاوضة عبارة عن التسليم والتسلّم لا مجرد الإنشاء
، فإذا تلف قبل التسليم تبطل روح المعاوضة ، حينئذ ، بناء على ذلك يمكن التعدّي من
مورد البيع إلى الصلح ، ومن مورد المبيع ـ المثمن ـ إلى الثمن ، وحينئذ ، يكون
شاملا لمحل الكلام.
والحاصل هو ، أنّه
في كل مورد تمّ فيه الوجه الثالث ، حينئذ يثبت الانفساخ بالتحالف ، وفي كل مورد لم
يتم فيه الوجه الثالث ، إمّا لعدم تمامية الدليل ، وإمّا لعدم إمكان التعدّي ،
فحينئذ ننتهي إلى السؤال الثاني ، وهو أنّه هل هناك نكتة أو سبب آخر غير نفس
التحالف يقتضي انفساخ العقد أم لا؟
والجواب على ذلك
هو ، انّ هناك سبب آخر يقتضيه ، وذلك لأنّ كل متعاوضين ، المحقّ منهما له خيار
الفسخ بلا إشكال ، لأنّ كل متعاوضين إذا تصدّى أحدهما لدفع وتسليم ما بيده ممّا
وقعت عليه
المعاوضة ، وامتنع
الآخر عن التصدي لذلك ، يكون للمتصدي خيار الفسخ ، وفي محل الكلام ، المحق من
المتداعيين له خيار الفسخ ، لأنّه متصدي لدفع ما وقعت عليه المعاوضة ، وحينئذ ،
فمع امتناع الآخر يكون له خيار الفسخ ، فإذا ضممنا إلى ذلك ، انّ نفس ظهور حال
المتداعيين دال عرفا على انّ المحقّ لا يرضى بهذه المعاملة على فرض أن لا يسلم
إليه ما اشتراه ، فإذا كان للمرافعة ظهور عرفي في ذلك ، فهذا معناه : انّ هذه
المعاملة قد انفسخت ، هذا حاصل الكلام في المقام الأول ، وعلى ضوئه نأتي إلى
المقام الثاني.
٢ ـ المقام الثاني
: هو في جواب الأخباري الّذي ينقض بهذا الفرع.
وحاصل جوابه هو ،
أنّه إذا ثبت انّ قانون التحالف يوجب الفسخ الواقعي ، إذن لا موضوع للنقض ، لأنّه
مع الفسخ يرجع كل مال إلى صاحبه ، كما أنّه إذا ثبت الفسخ الواقعي ، بملاك إعمال
الخيار بالنحو الّذي أشرنا إليه ، فأيضا لا موضوع للنقض ، ولا إشكال.
وأمّا إذا لم نقل
بالفسخ الواقعي بأحد الملاكين ، بل قلنا انّ المترتب على التحالف وغيره أحكام
ظاهرية ، فحينئذ ، نلتزم بهذه الأحكام ما لم يلزم منها مخالفة علم إجمالي منجز أو
علم تفصيلي ، فإنّها حينئذ تسقط بمقدار المخالفة ، فلا نقض إذن.
٥ ـ الفرع الخامس
: وهو فيما لو أودع إنسان عند الودعي درهما ، وأودع إنسان آخر عنده درهمين ، فضاع
أحد الدراهم الثلاثة ، إمّا مع الاحتياط ، أو مع عدمه ، ولم يميّز الودعي انّ
الضائع من أيّ من الوديعتين ، وفي هذا الفرع قولان للفقهاء.
١ ـ القول الأول :
هو قول مشهور ، بأنّه يعطى درهما لصاحب الدرهمين ، لأنّه يعلم أنّه قد بقي له درهم
، والدرهم الثاني الباقي يصبح
مردّدا بينهما ،
فينصّف بينهما نصفين ، لكلّ نصف جمعا بين الحقّين ، فيكون لصاحب الدرهمين ، درهما
ونصف ، ولصاحب الدرهم نصف ، وذلك عملا براوية السكوني .
٢ ـ القول الثاني
: وهو ما استقرّ به الشهيد الثاني في المسالك ونسب الميل إليه إلى الشهيد الأول في
الدروس ، وقيل انّه أحد أقوال العلّامة.
والحاصل : انّ
الدرهمين الباقيين تقسمان أثلاثا ، فيعطى ثلثاهما لصاحب الدرهمين ، ويعطى ثلثهما
لصاحب الدرهم.
وهذا القول ، مبني
على استضعاف رواية السكوني ، وتحكيم القاعدة ، واعتقاد انّ الاختلاط بين الدراهم
يوجب الشركة قبل الضياع ، وحينئذ ، إذا تلف درهم ، توزع الخسارة بالنسبة ، تطبيقا
لقواعد الشركة.
والجواب هو أنّه
إذا كان نقض الإخباري بلحاظ القول الأول ، فهو مبني على انّ رواية السكوني ـ الّتي
هي الأصل ـ إنّما هي بصدد بيان أحكام ظاهرية ، وحينئذ ، نلتزم بتلك الأحكام ما لم
يلزم منها مخالفة علم إجمالي منجز أو علم تفصيلي كما عرفت ، وأمّا إذا كانت هذه
الرّواية بصدد بيان تعين الصلح بينهما واقعا كما احتمل الفقهاء ذلك ـ ولذا أدخلوا
هذه المسألة في باب الصلح ـ فإنّه حينئذ لا وجه لنقض الأخباريّين ، لأنّ كلا من
المودعين يملك ما أعطي له واقعا.
وأمّا إذا كان نقض
الإخباري بلحاظ القول الثاني ، فدفعه واضح ، لأنّه بناء على حصول الشركة الواقعية
، إذن يحدث انقلاب واقعي في الملكية ، ومعه لا موضوع للنقض ، فكل منهما يملك ما
أعطي له.
وإلى هنا نكتفي
بهذا القدر من الفروع الّتي نقض بها الأخباري على الأصولي ، ظانا أنّها فروع ردع
بها عن العمل بالعلم.
__________________
مباحث منجزية العلم الإجمالي
وقد تعرّض
الأصوليون لبحث العلم الإجمالي في موضعين.
١ ـ الموضع الأول
: في مباحث القطع ، حيث تكلموا هناك في منجزية العلم الإجمالي باعتباره فردا من
أفراد العلم.
٢ ـ الموضع الثاني
: في مباحث الأصول العملية ، في أحكام الشكّ في المكلّف به ، حيث تكلموا عن جريان
الأصول في أطرافه كلا أو بعضا ، وقد حصل تكرار في بعض الجهات بحسب الواقع الخارجي
، إلّا أنّ لكل من الموضعين حصته المناسبة له من الكلام ، ولو أنّه اقتصر في كل
منهما على الحصة المناسبة له لما لزم التكرار.
وتوضيح ذلك هو ،
انّ الكلام في منجزية العلم الإجمالي يقع على مرحلتين.
١ ـ المرحلة
الأولى :
هي في تأثير العلم
الإجمالي في التنجيز بلحاظ مرتبة المخالفة القطعية ، بمعنى انّ العلم الإجمالي ،
هل يستدعي بطبعه حرمة المخالفة القطعية عقلا ، أو لا يستدعي ذلك؟ إذن ، في هذه
المرحلة يبحث عن أصل استدعاء العلم الإجمالي وتأثيره في حرمة المخالفة القطعية ،
فإذا أفرغ عن استدعائه لذلك ، يقع الكلام في انّ هذه المؤثرية للعلم الإجمالي في
حرمة المخالفة القطعية وتنجيزها عقلا ، هل هي على نحو
الاقتضاء فقط ، أو
على نحو العليّة ، بمعنى انّ العلم الإجمالي هل يكون بنفسه علّة تامة لمنجزية هذه
المرتبة ، كما تكون العلّة مع المعلول ، بحيث يستحيل أن يقترن بما يمنعه عن
التأثير ، وحينئذ يكون من نتائج ذلك ، امتناع ورود ترخيص من قبل الشارع في
المخالفة القطعية ، أو يكون تأثير العلم الإجمالي في تنجيز هذه المرتبة على نحو
المقتضي بالنسبة لمقتضاه ، ومعه يمكن حينئذ أن يقترن المقتضي بما يمنعه عن التأثير
في التنجيز ، ومن نتائجه حينئذ ، إمكان ورود الترخيص من قبل الشارع في المخالفة
القطعية ، فيمنع عن تأثير المقتضي ، بدعوى انّ فعلية تأثير المقتضي ، معلقة على
عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، ثمّ إنّه إذا ثبت انّ العلم الإجمالي مؤثر في
تنجيز حرمة المخالفة القطعية ، حينئذ ، يقع الكلام في مرحلة الثانية.
٢ ـ المرحلة
الثانية : هي أنّه بعد الفراغ عن تأثير العلم الإجمالي ، في تنجيز حرمة المخالفة
القطعية ، فهل يكون العلم الإجمالي مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية عقلا ، بحيث
أنّه لا بدّ للمكلّف من رعاية تمام الأطراف ، أم لا؟ فإن لم يثبت له تأثير أصلا في
وجوب الموافقة القطعية ، فلا كلام ، وإن ثبت تأثيره في وجوب الموافقة القطعية أيضا
، يقع الكلام حينئذ في انّ تأثيره هذا في ذلك ، هل هو بنحو العليّة ، بحيث يستحيل
تخلف المعلول عنه ، ومعه يستحيل ورود ترخيص ظاهري من الشارع ولو بطرف واحد ، انّ
تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية يكون على نحو تأثير المقتضي في
مقتضاه ، وحينئذ ، يكون تأثير المقتضي الفعلي معلّق على عدم المانع ، كما في
الترخيص الشرعي في بعض الأطراف؟.
وحينئذ ، كل من
هاتين المرحلتين ينبغي أن يتكلم عنهما بحسب المنهجية في بحث القطع ، لأنّه بحث عن
شئون العلم حينما يصبح العلم إجماليا.
وحينئذ ، فإن
اخترنا العلية في كل من المرحلتين ، وقلنا بأنّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة
المخالفة القطعية ، وكذلك لوجوب الموافقة القطعية ، حينئذ لا يبقى مجال لبحث آخر
إلّا من باب التطبيقات ، وأمّا إذا لم نقل بالعلية في كلتا المرحلتين وإنّما قلنا
بالاقتضاء إمّا في كلتا المرحلتين ، أو في خصوص المرحلة الثانية فقط ، فهذا معناه
: إنّ ورود الترخيص الشرعي في بعض الأطراف إن لم يكن في كل الأطراف ، أمر معقول
ثبوتا.
ومن هنا ينفتح بحث
آخر محلّه الأصول العملية ، وهو انّ أدلة الأصول العملية ، هل تفي بجريان الأصول
في كل الأطراف لو أنكرنا العلية في المرحلتين ، أو في بعض الأطراف على الأقل لو
أنكرنا العلية في خصوص المرحلة الثانية؟.
وبعد هذا ندخل في
البحث ، حيث قلنا إنّ الكلام في تنجيز العلم الإجمالي يقع في مرحلتين ، الأولى :
في تنجيزه بلحاظ حرمة المخالفة القطعية ، وأصل تنجيزه بلحاظ ذلك ، بمعنى أنّه لو
خلي وطبعه يكون منجزا ، وكذلك تنجيزه بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ، بمعنى أنّه لو
خلي وطبعه لكان منجزا ، أي أنّ أصل المنجزية هو الجامع بين الاقتضاء والعلية ،
وأصل هذا التنجيز إنّما نبحث عن تحصيله في العلم الإجمالي بناء على مسلك قاعدة قبح
العقاب بلا بيان ، فإذا قلنا بأنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وهو ما يسمّى
بالبراءة العقلية ، فحينئذ ، بقطع النظر عن العلم الإجمالي لا منجزية هنا ، وإنّما
المنجزية يجب اقتناصها من العلم الإجمالي.
ومن هنا يقع البحث
بلحاظ المرحلتين ، بمعنى انّ العلم الإجمالي إلى أيّ مقدار ومدى يبدل من اللّابيان
إلى البيان لكي يخرج الموضوع عن قانون قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا بناء على
مسلكنا الّذي حقّقناه في
أوّل بحث القطع ،
وهو مسلك حق الطاعة ، فقد أنكرنا ـ بناء عليه ـ البراءة العقلية ، وأنّه لا أساس
لموضوعها ، «قبح العقاب بلا بيان» ، وانّ الصحيح هو انّ وصول التكليف ولو كان
بالاحتمال فهو منجز فضلا عن وصوله بالعلم ، فبناء عليه يكون المنجز في المقام ثابت
حتّى بقطع النظر عن العلم الإجمالي ، ولم نعد بحاجة في اقتناص أصل التنجيز إلى
العلم الإجمالي ، وبهذا يكون أصل تنجيز حرمة المخالفة القطعية وأصل تنجيز وجوب الموافقة
القطعية أمر مفروغ عنه ، وإنّما يتجه الكلام إلى انّ العلم الإجمالي إذا ضممناه
إلى منجزية الاحتمال ، فهل يحول هذه المنجزية إلى منجزية مطلقة ومنجزة وغير معلّقة
على ورود ترخيص من قبل الشارع؟ أو أنّها تبقى منجزية معلّقة على عدم ورود ترخيص من
قبل الشارع؟ وحينئذ بناء على مسلكنا ، يقع البحث في انّ هذه المنجزية ، هل هي بنحو
العلية ، أو بنحو الاقتضاء فقط؟
وبهذا يتبين انّ
البحث عن أصل التنجيز يلائم مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ،
وأمّا البحث عن نوعية هذا التنجيز ، وأنّه على نحو العلية أو الاقتضاء ، فهو بحث
يلائم كلا المسلكين ، مسلكنا ، ومسلك المشهور.
والخلاصة هي ، انّ
البحث عن أصل منجزية العلم الإجمالي في كلتا المرحلتين مبني على مسلك المشهور ، من
«قبح العقاب بلا بيان» ، إذ بناء عليه لا يكون الاحتمال منجزا ، فيقع الكلام في
منجزية العلم الإجمالي ، ومن هنا يقع الكلام بلحاظ كلتا المرحلتين ـ أصل المنجزية
ـ وعن أنّها بأي نحو هي ، هل بنحو الاقتضاء ، أم بنحو العلية ، وأمّا بناء على
مسلكنا ، من إنكار قانون قبح العقاب بلا بيان ، وكون الاحتمال منجزا ، فإنّه لا
يبقى موضوع للبحث عن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ كلتا المرحلتين ، لأنّه إذا كان
الاحتمال منجزا ، فالعلم
الإجمالي منجز
بطريق أولى ، بل حينئذ ، يبحث في انّ هذا العلم الإجمالي إذا ضمّ إلى منجزيته
منجزية الاحتمال ، فهل يحوّل هذه المنجزية إلى منجزية مطلقة وغير معلّقة على ورود
ترخيص من قبل الشارع ، أو أنّها تبقى منجزية معلّقة على عدم ورود مثل ذلك الترخيص؟
وعليه : بناء على مسلكنا ، يكون البحث عن انّ هذه المنجزية هل هي بنحو العلية؟ أو
بنحو الاقتضاء؟
وبهذا يتضح انّ
البحث عن أصل المنجزية والتنجيز يلائم مسلك المشهور القائل بقانون قبح العقاب بلا
بيان ، بينما البحث عن نوعية هذا التنجيز وأنّه بنحو العلية أو الاقتضاء ، يلائم
كلا المسلكين ، مسلكنا ، مسلك المشهور ، هذا حاصل منهجة البحث ، وبعد هذا يقع
الكلام في المرحلة الأولى في مقامين.
١ ـ المقام الأول
: هو في أصل منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، ولا إشكال في أصل
تنجيز العلم الإجمالي لها ، حتّى بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب
بلا بيان ، لأنّ البيان تام بلحاظ الجامع بلا إشكال ، والمخالفة القطعية مخالفة
لذلك الجامع ، فمن علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، يكون تركه للإثنين
مخالفة قطعية لجامع الوجوب.
ومن الواضح انّ
العلم الإجمالي ، علم بالجامع على جميع المسالك في تفسير هوية العلم الإجمالي ، أي
سواء فسّر العلم الإجمالي بأنّه علم بالجامع وشكّ في الزائد عليه ، أو فسّر بأنّه
علم بالواقع المشوب بالإجمال ، أو فسّر بأنّه علم بالفرد المردّد ، إذ على جميع
هذه التفاسير والمسالك ، العلم الإجمالي علم بالجامع ، غايته انّ الجامع ، إمّا
معلوم وحده ، بناء على التفسير الأوّل ، أو مع زيادة ، بناء على التفسيرين
الأخيرين ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى ، إذن ،
الجامع قد تمّ
عليه البيان وأصبح منجزا ، وترك امتثاله مخالفة قطعية لما هو معلوم ، وهو حرام.
وبهذا يثبت أصل
منجزية العلم الإجمالي للجامع على جميع المباني بلا إشكال.
٢ ـ المقام الثاني
: في انّ تأثير العلم الإجمالي في هذه المنجزية ـ أي في حرمة المخالفة القطعية ،
وعدم إطلاق العنان فيهما معا ـ هل هو على نحو العلية ، أو على نحو المقتضي المعلّق
تأثيره الفعلي على عدم ورود الترخيص في تمام الأفراد؟
وقد اختار المشهور
في هذه المرحلة ، انّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية ، وأنّه
يستحيل الترخيص في تمام الأفراد.
وخالف في ذلك صاحب
الكفاية «قده» ، حيث ذهب إلى أنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامة لحرمة المخالفة
القطعية ، وانّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في أطرافه ، فيعقل ثبوتا جريان الأصول
العملية في تمام أطرافه.
والصحيح ما ذهبنا
إليه كصاحب الكفاية لكن لا بالنحو الّذي ذكره ، بل الصحيح ، انّ العلم
الإجمالي ليس علّة تامة لذلك ، بمعنى أنّه لا يستحيل عقلا أن يتعبّدنا الشارع
بالأصول العملية الترخيصيّة في تمام الأطراف ، حتّى لو أدّى ذلك إلى الترخيص في
المخالفة القطعية.
والعلماء القائلون
بالعليّة ، وهم المشهور ، ذكروا وجوها لإثبات العليّة من قبيل أن يقال : إنّ جريان
الأصول في تمام الأطراف يوجب الترخيص في المعصية ، لأنّ هذا ترخيص في المخالفة
القطعية ، والمخالفة القطعية معصية ، وهي قبيحة بحكم العقل ، والترخيص بذلك قبيح ،
وعليه : يستحيل جريانها في تمام الأطراف.
__________________
وسوف نتعرّض
للوجوه الأخرى الّتي ذكروها لإثبات العليّة.
وما ذكرناه ،
إنّما هو نموذج فقط لبيان المنهج ، ولكن منهج البحث يقتضي أن نرجع إلى الأدلة
الّتي ذكرت في مقام التوفيق والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، حيث أنّه قد
عولج الإشكال في جعل الأحكام الظاهرية ونفي التضاد بينها ، وحينئذ ، لا بدّ من
الرّجوع إلى المسلك الصحيح في تصوير جعل الأحكام الظاهرية وكيفية التوفيق بينها
وبين الأحكام الواقعية ، لنرى أنّ ذلك المسلك الّذي يصحح جعل الأحكام الظاهرية ،
هل يختصّ بخصوص موارد الشّبهات البدوية ، أو أنّه يشمل موارد العلم الإجمالي؟. وهل
انّ مجرد العلم بالجامع في موارد العلم الإجمالي ، هل يمنع عن ذلك التوافق المبرهن
بين الأحكام الواقعية والظاهرية أو لا يمنع عن ذلك ، بل يمكن التوفيق بين الواقع
والظاهر في موارد العلم الإجمالي بنفس الطريقة الّتي يوفق فيها بين الواقع والظاهر
في سائر الشّبهات البدوية؟.
وحتّى نعرف مدى
إمكان جعل الحكم الظاهري الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي ، فلا بدّ ـ بحسب
المنهجة المتقدّمة للبحث ـ من استعراض كيفية تخريج الأحكام الظاهرية ، وطريقة
الجواب على شبهة ابن قبّة ، فإذا حدّدنا كيفيّة التخريج هذه ، يمكننا حينئذ أن
نعرف مدى إمكان انطباقها على محل الكلام.
وهنا لا بدّ وأن
نتعرّض لبعض ما ذكر في مقام الجمع ، فنقول : إنّ شبهة استلزام جعل الأحكام
الظاهرية لاجتماع الضدين ، وذلك للتضاد بين الحكم الواقعي والظاهري ، هذه الشبهة
ليست مستحكمة إذا لوحظ فيها عالم الامتثال ، لأنّه لا امتثال للحكم الواقعي في
مورد الحكم الظاهري ، باعتبار عدم وصوله ، كما أنّها ليست مستحكمة إذا لوحظ فيها
عالم الجعل ، باعتبار أنّ المجعول بما هي أمور اعتبارية لا تضاد بينها ، وإنّما
تستحكم هذه الشبهة إذا لوحظ فيها عالم مبادئ الأحكام من
المصلحة والمفسدة
، والإرادة ، والكراهة ، والحب والبغض ، في فعل واحد ، فمن يقول يلزم اجتماع حكمين
متضادين ، واقعي وظاهري فإن أراد اجتماعهما وكونهما متضادين بحسب عالم الامتثال ،
فيمكن الجواب عنه ، بأنّ الحكم الواقعي لا امتثال له ، لأنّه غير واصل ، وإن أراد
بيان التضاد بلحاظ عالم الجعل ، فكذلك يجاب عنه ، بأنّ المجعول بما هي أمور
اعتبارية لا تضاد بينها ، وإنّما جوهر الإشكال هو في كيفية التوفيق بينها بحسب
عالم المبادئ ، فإنّه إذا كانت هذه المبادئ الواحدة بنفسها منتجة لحكم واقعي
كالتحريم ، ولحكم ظاهري كالوجوب ، فكيف يمكن التوفيق بينهما مع التضاد بينهما بحسب
عالم المبادئ ، حيث انّ مبادئ التحريم هي المفسدة والمبغوضيّة ، ومبادئ الوجوب هي
المصلحة والمحبوبيّة ، وهي مضادة لمبادئ التحريم ، فيلزم من ذلك اجتماع الضدين
بلحاظ مبادئ الحكمين ، هذا مضافا إلى لزوم نقض الغرض ، ومن هنا كان جوهر حل هذا
الإشكال أن يقال : إنّ مبادئ الأحكام الظاهرية هي نفسها مبادئ الأحكام الواقعية ،
ولا مبادئ لها وراءها ، فإذا كانت نفس تلك المبادئ بنفسها نكتة جعل الأحكام
الظاهرية ، كما أنّها هي نفسها نكتة جعل الأحكام الواقعية ، إذن فلا يعقل افتراض
التضاد بين الظاهرية والواقعية بحسب عالم المبادئ ، وهنا يردّ سؤال :
وهو أنّه كيف يمكن
أن تكون هذه المبادئ الواحدة بنفسها منتجة لحكم واقعي كالتحريم ، ولحكم ظاهري
كالوجوب؟.
وقد ذكرنا في جواب
ذلك ، بأنّ هذه المبادئ من حيث هي هي تنتج الخطابات الواقعية ، لكن في طول وقوع
التزاحم بينها في مقام الحفظ التشريعي ، هذا التزاحم الناشئ من الاشتباه بين
مواردها تنتج الخطابات الظاهرية لأجل الحفظ التشريعي.
وتوضيح ذلك ، هو
انّ التزاحم على ثلاثة أقسام كما تقدّم في محله.
١ ـ القسم الأول :
هو التزاحم الملاكي ، الّذي هو مصطلح صاحب الكفاية «قده» ، وحاصله : هو أنّه يوجد
هناك ملاكان ، مصلحة ومفسدة في فعل واحد ، فالمصلحة تقتضي إيجابه ، والمفسدة تقتضي
تحريمه ، وهذا التزاحم إنّما يكون في موضوع واحد ، ولا يعقل كونه في موضوعين ،
لأنّه لو كانت المصلحة في موضوع ، والمفسدة في موضوع آخر ، فإنّه حينئذ لا مانع من
تأثير كل منهما أثره ، ولا تزاحم ملاكي بينهما حينئذ ، وإنّما يقع التزاحم الملاكي
في تأثير كل من المقتضيين فيما لو فرض وحدة الموضوع ، فباعتبار استحالة جعل حكمين
على موضوع واحد ، فحينئذ يتزاحم هذان المقتضيان في مقام التأثير.
كما انّه من خصائص
هذا التزاحم ، أنّه كما يكون بين حكمين إلزاميّين فقد يكون بين حكم إلزامي ، وآخر
ترخيصي ، كما لو فرض وجود مفسدة في فعل ووجود مصلحة في آخر ، في أن يكون الإنسان
مطلق العنان بالنسبة لذلك الفعل والّذي هو عبارة عن الحكم الترخيصي ، فهنا يقع
التزاحم بين الملاك المقتضي للحكم الإلزامي ، والملاك المقتضي للحكم الترخيصي.
ومن شئون هذا
التزاحم وخصائصه أيضا ، هو أنّ علاجه بيد المولى ، لأنّه تزاحم في مقام جعل الحكم
، والمولى هو الّذي يجعل الحكم لأنّ جعل الحكم من شئونه.
٢ ـ القسم الثاني
: من التزاحم ، هو التزاحم الميرزائي ، أو التزاحم بحسب عالم الامتثال ، وهذا التزاحم ، مثاله
المعروف هو أن يدور أمر المكلّف بين الصّلاة ، وإزالة النجاسة عن المسجد ، حيث انّ
كلا من هذين الأمرين واجب على المكلّف القادر ، وبما أنّه لا يقدر
__________________
على الاثنين معا
في آن واحد فيقع التزاحم بينهما امتثالا ، لا ملاكا ، لأنّ كلا منهما في موضوع غير
الآخر.
ومن شئون هذا
التزاحم ، أن يكون في موضوعين كما عرفت ذلك في المثال.
ومن شئونه أيضا ،
أن لا يكون إلّا بين الأحكام الإلزامية ، فإنّه لا يتصور وقوعه بين حكم إلزامي ،
وآخر ترخيصي ، باعتبار أنّ الحكم الترخيصي لا يزاحم الحكم الإلزامي.
وعلاج هذا التزاحم
يكون بالرّجوع إلى مرجحات تقدم تفصيلها في محله ، والمكلّف هو الّذي يشخص هذه
المرجحات.
٣ ـ القسم الثالث
: من التزاحم ، هو التزاحم بين الأحكام الواقعية في مقام الحفظ التشريعي في طول
الاشتباه ، وعجز الخطابات الأولية عن تحقيق ذلك الحفظ التشريعي ، فإنّ للمولى
ملاكات تقتضي التحريم ، كما انّ لديه ملاكات تقتضي الإباحة ، ومن هنا حكم بحرمة
أشياء ، وإباحة أشياء أخرى.
وهنا إذا فرض انّ
هذه الأشياء والأمور اشتبهت على المكلّف خارجا ، فلم يميّز المباح منها عن الحرام
، فهنا : تارة يفرض انّ المولى يتعلّق غرضه برفع شكّ المكلّف وبيان حال المشتبه ،
فيكون هذا بيانا للحكم الواقعي.
وأخرى : يفرض
تعذّر هذا البيان ، أو أنّه ليس له موجب ، بحيث أنّه في مثله يستحكم الشكّ عند المكلّف
، وحينئذ ، سوف ينشأ تزاحم جديد بين ملاكات الحرمة الواقعية ، وملاكات الإباحة
الواقعية.
ولا يدخل هذا
التزاحم في باب التزاحم الملاكي المتقدّم ذكره ، وذلك لتعدّد الموضوع ، ولا في باب
التزاحم الامتثالي ، إذ لا امتثال
للإباحة ، وإنّما
هو تزاحم في مقام حفظ تلك الملاكات تشريعا ، بمعنى أنّ ملاكات الحرمة تقتضي من
المولى ، للتحفظ على نفسها أن يحكم بتحريم كل ما يحتمل حرمته ، لكي يضمن اجتناب كل
المحرّمات ، وعلى العكس منها ملاكات الإباحة ، فإنّها تقتضي تحفظا عليها ، أن يحكم
المولى بإباحة كل ما يحتمل إباحته لكي يضمن إطلاق العنان الّذي هو محط المصلحة في
كل المباحات الواقعية ، وحينئذ ، يقع التزاحم في مقام الحفظ التشريعي ، وفي مثل
ذلك يوازن المولى بين ملاكاته الترخيصيّة ، وملاكاته الإلزامية ، فإن فرض أنّ
الملاكات الترخيصيّة كانت أهم ، فسوف يجعل حكما بالإباحة في موارد الشّبهات بلسان
من ألسنة الحكم الظاهري ، وإنّ فرض أنّ الملاكات الإلزامية كانت أهم ، فسوف يجعل
حكما بوجوب الاحتياط في موارد الشّبهات بلسان من ألسنة الحكم الظاهري.
ومن هنا يتبين ،
انّ الخطاب الظاهري ـ بناء على هذا ـ ليس له مبادئ وراء مبادئ الأحكام الواقعية ،
لأنّ جعلها إنّما كان للتحفظ على مبادئ الأحكام الواقعية كما عرفت ، ومن هنا لا
يلزم من وجود الحكم الظاهري أن يكون ناسخا للحكم الواقعي ، لأنّ تمام مبادئ تلك
الأحكام على حالها لأنّها واحدة ، كما أنّه لا يلزم التضاد بين الخطابات الظاهرية
والواقعية ، لأنّ التضاد إن فرض ، فإنّما يفرض في المبادئ ولا مبادئ للحكم الظاهري
مقابل مبادئ الحكم الواقعي ، بل المبادئ واحدة فيهما ، كما أنّه لا يلزم من جعل
الحكم الظاهري نقض الغرض ، لأنّه بجعل الحكم الظاهري ـ كالإباحة مثلا ـ وإن كان
يؤدّي في بعض الأحيان إلى نقض الغرض والترخيص في ترك الواجب ، كما لو كان ذلك
الفعل واجبا في الواقع ، إلّا أنّ مثل هذا النقض إذا كان من أجل الحفاظ على غرض
أهم فلا يكون قبيحا حينئذ.
وفي المقام ،
الأمر كذلك ، لأنّ المولى لو أمكنه عدم نقض غرضه
أصلا لفعل ، لكن
حيث تزاحمت أغراضه في مقام الحفظ التشريعي في طول الاشتباه ، ودار الأمر بين
الحفظين التشريعيين ، فحينئذ يقدّم الأهم في مقام التزاحم.
ومن هنا نسمي
الأحكام الظاهرية بأنّها أحكام طريقية لا أحكام حقيقيّة ، لأنّها نشأت من مبادئ
وملاكات خاصة بالأحكام الواقعية غايته : أنّها جعلت بلحاظ وقوع التزاحم بين تلك
المبادئ ، لأجل التحفظ على الأهم فيها ، ولم نسمها بالأحكام الحقيقيّة ، لأنّ
الأحكام الحقيقيّة إنّما تنشأ من مبادئ وملاكات خاصة بها.
فبهذا الترتيب
نتصور الأحكام الواقعية وهذا مجمل ما ذكرناه في مقام الجمع ورفع التضاد المتوهم
بين الواقعية والظاهرية ، وحينئذ ، لا بدّ من إعماله في المقام ، وسوف نرى أنّه
كما يوجب تعقل جعل الأحكام الظاهرية في موارد الشبهة البدوية ، فإنّه كذلك أيضا
يوجب تعقل جعلها في موارد العلم الإجمالي.
والخلاصة هي ،
أنّه يمكن تصحيح الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية بحيث لا يلزم من ذلك محذور
اجتماع الضدين ، ولا محذور نقض الغرض ، وذلك ، بإرجاع الأحكام الظاهرية إلى كونها
خطابات صادرة من نفس مبادئ الأحكام الواقعية ، لكن في طول وقوع التزاحم بالمعنى
الثالث بين تلك المبادئ الواقعية ، وهو التزاحم في مقام الحفظ التشريعي بعد
الاشتباه.
وهذا الاشتباه
الّذي يحقّق التزاحم بالمعنى الثالث ، تارة يكون بأن يوجد مورد ، ويتردّد أمره عند
المكلّف بين أن يكون داخلا في مجموعة الأغراض الإلزامية ، أو أن يكون داخلا في
مجموعة الأغراض الترخيصيّة ، فشرب «التتن» مثلا ، لا يعلم أنّه داخل في مجموعة
الأغراض الإلزامية ، وانّ المولى له غرض إلزامي في عدم شربه ، أو أنّه
داخل في مجموعة
الأغراض الترخيصيّة ، وانّ المولى له غرض في أن يكون المكلّف مطلق العنان من جهته
، هذا هو معنى الشبهة البدوية ، حينئذ يقع التزاحم في مقام الحفظ التشريعي.
وتارة أخرى ، يكون
هناك مورد داخل في الأغراض الإلزامية ، ومورد آخر يعلم بدخوله في الأغراض
الترخيصيّة ، كالإناء النجس الداخل في الأغراض الإلزامية ، وهناك إناء طاهر داخل
في الأغراض الترخيصيّة ، واشتبه أحدهما بالآخر ، فعلمنا إجمالا بنجاسة أحدهما ،
وطهارة الآخر ، وهنا أيضا يوجد نفس التزاحم المذكور ، فإنّ الغرض الإلزامي يستدعي
في مقام حفظه توسعة دائرة الإلزام ، وذلك بجعل إلزام ظاهري بالاجتناب في تمام
الطرفين ، وكذلك الغرض الترخيصي ـ «وهو كون المكلّف مطلق العنان» ـ فإنّه يستدعي
من أجل ضمان حصوله توسعة دائرة إطلاق العنان والحفظ التشريعي لذلك ، وذلك بجعل
الإباحة ظاهرا في كل الأطراف ، فيقع حينئذ ، التزاحم في مقام الحفظ التشريعي ، مع
أنّه لا تزاحم ملاكي في المقام ، لأنّ موضوع هذه المبادئ غير تلك.
كما انّه لا تزاحم
امتثالي ، لأنّه لا امتثال للإباحة في مقابل الحرمة ، وإنّما التزاحم بينهما تزاحم
في مقام الحفظ التشريعي ، وتوسعة دائرة الخطاب الظاهري على طبق كل منهما باعتبار
الاشتباه ، وحينئذ ، هنا أيضا المولى سوف يوازن بينهما ليرى الأهم ، ويجعل الحكم
على طبقه ، وأيّ المطلبين جعل حكما ظاهريا على طبقه لا يوجد تنافي بينه وبين
الخطابات والأحكام الواقعية ، وذلك بنفس تلك النكتة الّتي دفع بها التنافي بين
الأحكام الواقعية والظاهرية في مورد الشّبهات البدوية ، فكما كنّا نقول : إنّ
الحكم الظاهري ليس له مبادئ في مقابل مبادئ الحكم الواقعي ، بل مبادئه نفس تلك
المبادئ ، كذلك نقول هنا ، إذن فلا مانع
عقلي من جعل حكم
ظاهري بالإباحة في هذا الطرف ، وحكم ظاهري بالإباحة في الطرف الآخر وإن لزم من ذلك
الترخيص في المخالفة القطعية ، فإنّ هذين الترخيصين لا تضاد بينهما وبين التكليف
الواقعي ، لأنّ التضاد المترقب إنّما هو بلحاظ عالم المبادئ ، وقد بيّنّا أنّه لا
تضاد بلحاظ ذلك.
وبهذا البيان ينحل
إشكال التضاد بين الخطابات الظاهرية ، وبين التكاليف الواقعية بلحاظ عالم المبادئ.
ونفس الشيء يقال
فيما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين ، وشكّكنا في طهارة الآخر ، ثمّ اختلطا ، فأيضا
يقع التزاحم ، غاية الأمر هنا ، أنّه يكون اقتضاء ملاك الترخيص لجعل حكم ظاهري
بالإباحة أضعف من الغرض السابق وإن كان ملاكها يقتضي في مقام حفظها جعل الترخيص في
كلا الطرفين ، فيقع التزاحم في المقام أيضا.
وبهذا يتضح أنّه
لا منافاة بين الحكم الظاهري المجعول في موارد العلم الإجمالي ، وبين الحكم
الواقعي بلحاظ عالم المبادئ ، باعتبار أنّه ليس للحكم الظاهري مبادئ غير مبادئ
الحكم الواقعي ليلزم اجتماع الضدين.
بقي في المقام أن
نلاحظ أنّه وإن كان لا يلزم التضاد بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية بحسب
عالم المبادئ ، لكن قد يتوهم ويقال بوجود تضاد بينهما في عالم الامتثال ، كما لو
جعل المولى حكما ظاهريا بإباحة الأطراف ففي مثله يقع التضاد ، لأنّ التكليف
المعلوم بالإجمال يستدعي عقلا التحرك نحو امتثاله ، وذلك بالاجتناب ، فيكون مضادا
للحكم بالترخيص بارتكابهما معا.
وهذا التوهم غير
تام ، وذلك لأنّ استدعاء كل تكليف للامتثال إنّما
هو بمقدار حكم
العقل ، وحينئذ لا بدّ وأن يرى أنّ العقل الحاكم بوجوب امتثال التكليف المعلوم
بالإجمال ، هل يحكم بوجوب امتثاله حكما مطلقا ، أو حكما معلّقا على عدم ورود
الترخيص الظاهري من قبل الشارع بالخلاف؟ فإن فرض الأول ، فهذا معناه أنّ التكليف
المعلوم بالإجمال سوف يضاد الأحكام الظاهرية الترخيصيّة في عالم الامتثال ، لأنّ
ذاك يستدعي التحريك ، وهذا يستدعي الإرخاء وهما لا يجتمعان.
وأمّا إن فرض
الثاني ، فحينئذ لا تضاد بينهما في عالم الامتثال ، لأنّ الترخيصات الظاهرية ترفع
موضوع حكم العقل وفي محل الكلام ، المفروض أنّه ورد ترخيص من الشارع بإباحة الأطراف
، ومعه لا يبقى للتكليف المعلوم بالإجمال اقتضاء بالامتثال ، حيث لم يبق موضوع
لحكم العقل بوجوب الامتثال ، ومعه لا تضاد ، إذن ، فبحث التضاد بينهما في عالم
الامتثال مربوط بمعرفة كون حكم العقل أنّه تعليقي أم لا ، وسوف يأتي تحقيق هذا عند
التعرّض لكلام المحقّق النائيني «قده» ، حيث سنبين هناك أن حكم العقل تعليقي ،
فإذا ثبت أنّه تعليقي ، إذن فلا تضاد بين الترخيصات الظاهرية وبين التكليف المعلوم
بالإجمال لا بلحاظ عالم المبادئ ، ولا بلحاظ عالم الامتثال ، لما عرفته.
وممّا ذكرناه ،
يظهر الفرق بين موارد العلم الإجمالي حيث يمكن جعل حكم ترخيصي على الخلاف في مقام
حفظ أحد الغرضين الإلزامي أو الترخيصي ، كما يعقل جعل الحكم الطريقي في مورد العلم
الإجمالي دون مورد العلم التفصيلي.
وهذا بخلاف موارد
العلم التفصيلي ، فإنّه لا يمكن فيها ذلك ، لأنّ مثل هذا الحكم الترخيصي ، إن كان
حقيقيّا ، بمعنى أنّ له مبادئ مستقلة في نفسه ، فحينئذ يلزم التضاد بين مبادئه
ومبادئ الحكم الواقعي ، وإن كان طريقيا ، بمعنى أنّ مبادئه هي نفس مبادئ الحكم
الواقعي ، فهذا غير
معقول إلّا في
موارد التزاحم الناشئ من موارد الاشتباه بين الأغراض كما عرفت ، وهو غير ممكن في
موارد العلم التفصيلي ، لأنّه لا اشتباه بنظر العالم في موارد العلم التفصيلي.
ثمّ انّه حتّى
يتمّ الكلام لا بدّ من التعرّض لمدرسة الميرزا «قده» ، ومدرسة الآخوند «قده» ، حيث ذكرت المدرسة الأولى في مقام الاستدلال على عدم
إمكان جريان الأصول في تمام أطراف المعلوم بالإجمال ، بأنّ جريانها في تمام
الأطراف يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية ، وهي معصية بحكم العقل ، وهي
ممتنعة لقبحها.
وهذا الكلام من
الميرزا «قده» يستبطن دعوى ، وهي انّ حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية حكم تنجيزي
مطلق وغير معلّق على عدم ورود ترخيص بالمخالفة من قبل الشارع ، وإلّا فلو كان
معلّقا ـ بحيث يرتفع موضوعه بمجيء الترخيص الشرعي ـ لما حكم العقل بالحرمة مع ورود
الترخيص ، لارتفاع موضوع حكمه حينئذ ، بمعنى أنّه لا يكون الترخيص حينئذ ترخيصا في
القبيح ، بل يكون رفعا لموضوع القبيح ، وعليه : فدعواه المذكورة تستبطن دعوى كون
حكم العقل بالحرمة في المقام مطلقا وغير معلّق ، إذن فالميرزا «قده» يحكم بحرمة
المخالفة القطعية وقبحها حق لو أذن المولى بذلك ، بمعنى أنّه لا يمكن للمولى ذلك
فكأنّه حق على المولى ، لا له ، من قبيل عدم إمكان حكمه وتكليفه بغير المقدور.
ومن هنا كانت روح
كلام الميرزا «قده» دعوى انّ حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية دعوى مطلقة ، وغير
معلّقة على عدم ورود الترخيص الشرعي على الخلاف.
إذن فدعوى الميرزا
«قده» هي انّ العقل بحكم بالمنجزية حكما
__________________
مطلقا لا يقبل
الرفع حتّى من المولى نفسه ، بمعنى انّ هذا حق على المولى ، ومن هنا كان لا بدّ من
معرفة تلك الخصوصية الّتي يحكم بها العقل حكما بتّيا حتّى على المولى ، وهذه
الخصوصية يتراوح أمرها بين ثلاثة احتمالات ، نقبل اثنين منها ، ولا نقبل الثالث ،
لكن ما نقبله لا يفيد الميرزا «قده» ، وما يفيده وهو الثالث لا نقبله.
١ ـ الاحتمال
الأول : هو أن تكون هذه الخصوصية الّتي يحكم بها العقل حكما حتميا ، هي خصوصية
مولوية المولى ، لأنّه من الواضح كما تقدّم ، انّ مولوية المولى الحقيقي ليست
مجعولة من قبل جاعل ، بل هي ذاتية يدركها العقل ، وروح هذه المولوية على ما عرفت ،
هي كونه سيّدا ، وله حق الطاعة على العبد ، إذن ، فمولوية الله تعالى ، أمر ذاتي
واقعي يدركه العقل ، وليست من المجعولات من قبل جاعل أو مجتمع ، وهذه المولوية لا
يمكن انفكاكها عنه ، شأنها شأن سائر صفاته تعالى من الكمال والجلال ، بل حتّى هو
تعالى لا يمكنه تجريد نفسه عن هذه الصفة ، كما لا يمكنه تجريد نفسه عن صفة الكمال
والجلال والعلم ونحوه ، باعتبار وجوبها الذاتي ، فمولوية المولى خصوصية ذاتية لا
يمكن انفكاكها عنه لا بالجعل التكويني ، ولا التشريعي ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.
إلّا أنّ هذا
الكلام رغم صحته فهو خارج عن محل الكلام ، لأنّنا لا نتكلّم عن إمكان ان يرخّص
المولى في أطراف العلم الإجمالي بعنوان «أنّه ليس مولى» ، وإنّما الكلام في أنّه
يرخّص ترخيصا ناشئا من إعمال مولويته في علاج التزاحم بين أغراضه المولوية ،
وتقديم الأهم منها على المهم ، وهذا علاج للتزاحم بالمعنى الثالث ، وليس سلبا
للمولوية.
٢ ـ الاحتمال
الثاني : هو أن تكون عبارة «عن مولوية المولى» ، لكن بتقريب آخر ، وهو أن يقال :
بأنّ المولى بعد ان كان محتفظا
بمولويته لو فرض
أنّه أعمل مولويته فاتخذ قرارا ، وجعل حكما ، فإنّه لا يجوز عصيان ذلك الحكم ، ولا
يمكن للمولى نفسه أن يحلّل تلك المعصية لأنّها ظلم ، وهو قبيح ممتنع بالنسبة إليه
تعالى.
وهذا الكلام هو
أيضا صحيح ، لكنّه خارج عن محل الكلام ، لأنّ محله هو في أنّ العبد حينما يرتكب
كلا الطرفين في موارد العلم الإجمالي ـ أي أنّه يخالف قطعا كلا طرفي العلم
الإجمالي ـ يكون قد استند إلى قرار المولى نفسه الناشئ عن إعمال المولوية في مقام
علاج التزاحم بالمعنى الثالث ، وحينئذ لا يكون ذلك ردّا لقرار المولى ، بل هو
إنفاذ لقراره وحكمه لا معصية له ، إذن فهذه الخصوصية غير مربوطة بمحل الكلام.
٣ ـ الاحتمال
الثالث : هو أن تكون هذه الخصوصية البتّيّة الّتي يمنع عنها العقل بتّا ، هي عبارة
عن أنّ العقل يمنع المولى نفسه عن إعمال مولويته في مقام التزاحم بين أغراضه
الواقعية وتقديم الأهم منها على المهم.
ولو تمّ هذا
الاحتمال ، لصحّ كلام الميرزا «قده» ، بامتناع صدور الترخيص من المولى في المخالفة
القطعية.
إلّا أنّ هذا
الاحتمال غير تام ، بل هذا التقييد ممّا لا يدركه العقل ، لأنّه تقييد لمولوية
المولى بلا وجه ، إذ لم نعرف الوجه في تقييد العقل لمولوية المولى في إعمال أحد
ملاكاته.
وبهذا تبين انّ
كلام الميرزا «قده» غير تام ، كما تبين انّ الترخيص بالمخالفة القطعية ، لا ينافي
حكم العقل بحرمتها ، بل هو رافع لموضوع حكم العقل كما عرفت.
وبهذا التحليل ،
يتبين أنّه لا محصل لهذا الكلام القائل : بأنّ
الترخيص بحرمة
المخالفة القطعية ينافي حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية ، لأنّ حكم العقل بهذا
يكون مشروطا بأن لا يعمل المولى مولويته ، وقد عرفت بطلان ذلك.
كما انّه يظهر من
مجموع كلماتنا ، الفرق بين العلم الإجمالي ، والعلم التفصيلي ، إذ لو رخّص في
التفصيلي لكان أمرا غير معقول ، لأنّه لا خلط ولا اشتباه في العلم التفصيلي ،
بخلاف العلم الإجمالي.
وأمّا مدرسة صاحب
الكفاية «قده» فقد ذكرت : انّ التكليف الواقعي سواء كان مشكوكا ، أو
معلوما بالإجمال ، بل حتّى لو كان معلوما بالتفصيل وإن لم يصرّح هو بذلك ، فهذا
التكليف إذا كان فعليا من سائر الجهات ، فيستحيل جعل حكم ترخيصي على خلافه حتّى في
الشبهة البدوية ، فضلا عن العلم الإجمالي ، لأنّ الحكمين الفعليّين متضادان
باعتبار تضاد الأحكام الفعلية ، فجعل حكم على خلافه يلزم منه في الشّبهات البدوية
احتمال اجتماع الضدين ، ويلزم منه في موارد العلم الإجمالي القطع باجتماع الضدين
وكلاهما مستحيل ، وأمّا إذا لم يكن التكليف الواقعي فعليا من سائر الجهات ، فحينئذ
، لا مانع من جعل حكم ترخيصي على خلافه حتّى في موارد العلم الإجمالي فضلا عن مورد
الشبهة البدوية ، لأنّ التكليف الواقعي يكون إنشائيا ، ولا مانع من اجتماعه مع حكم
فعلي آخر على خلافه ، حيث أنّه لا تضاد بين الأحكام الفعلية والأحكام الإنشائية ،
وسوف نتعرّض في بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية لمبنى صاحب الكفاية «قده»
في مراتب الحكم الأربعة ، كما سنتعرّض لكل تصوراته مفصلا.
ولكن نقول هنا على
نحو الإجمال : إنّ كلام صاحب الكفاية غير
__________________
تام : لأنّه إذا
كان المقصود «بالفعلية» في قوله «إذا كان التكليف الواقعي فعليا ، فلا يقبل
الترخيص على خلافه لاستلزامه اجتماع الضدين يقينا أو احتمالا» ، إذا كان مقصوده
بالفعلية ، الفعلية الناتجة من التزاحم بالمعنى الثالث ، أي أنّ هناك مصلحة فعلية
على طبق الحكم الواقعي ، فهذا معقول ، إلّا أنّه لا يمنع عن جعل حكم ترخيصي على
خلافه ، وإن كان المقصود بالتكليف الواقعي الفعلي ، انّه فعلي في نفسه ، فهذا غير
صحيح.
وتوضيحه : هو انّ
الفعلية ، إن كانت بمعنى أنّ الحكم الواقعي يوجد على طبقه مصلحة واقعية فعلية وليس
مجرد إنشاء وكلام ، فإن أراد هذا ، حينئذ ، نسلّم به ، لكن مع هذا يعقل جعل ترخيص
على خلافه ، لأنّ الحكم الواقعي موجود ، والحب على طبقه موجود ، لكن وقع التزاحم
بين هذه المبادئ ، ومبادئ الحكم الترخيصي ، حسب القسم الثالث من التزاحم ، وهنا ،
المولى ، مع أنّه يجب هذا واقعا فعلا ، فمع هذا ، حيث أنّه ابتلى بمزاحم مع غرض
ترخيصي آخر أهم ، فلهذا رخّص بالمهم من أجل الأهم ، ولا منافاة بين ذلك ، وبين
فعلية مبادئ الواقع ، لأنّ هذه الفعلية إنّما تحفظ نفسها إذا لم تبتل بفعلية أخرى
أقوى منها.
وإن أراد بالفعلية
، الفعلية حتّى بلحاظ المزاحمة ، بمعنى أنّ الحكم الواقعي فعلي ، ومبادئه فعلية ،
وغير مزاحمة بمثلها ، أي ليس لها مزاحم ، فهذا صحيح ، ولكن حينئذ ، لا يعقل جعل
أصالة الإباحة حتّى في مورد الشبهة البدوية ، لأنّ الحكم الواقعي الإلزامي إذا
كانت مبادئه فعلية ولا مزاحم لها في مقام الحفظ التشريعي ، فلا محالة يستدعي حفظها
، وذلك بإيجاب الاحتياط ، إذن ، فلا يمكن الترخيص حينئذ ، إلّا أنّ فعلية الواقع
بهذا المعنى لا دليل عليها ، بل جلّ ما يلتزم به هو فعليتها ، لا فعليتها بمعنى
عدم المزاحم لها في مقام الحفظ التشريعي.
وبهذا يتضح : انّ
الترخيص في المخالفة القطعية أمر معقول ثبوتا ،
وانّ العلم
الإجمالي مقتض لحرمة المخالفة القطعية. لا انّه علّة تامة لها.
والخلاصة : هي انّ
كلام صاحب الكفاية «قده» غير تام ، لأنّه إذا كان المقصود بالفعلية في قوله : «إذا
كان التكليف الواقعي فعليا» ، إنّ هناك مصلحة فعلية على طبق الحكم الواقعي ، فهذا
معقول ، إلّا أنّه لا يمنع عن جعل حكم ترخيصي على خلافه ، لأنّ الحكم الواقعي وإن
كان موجودا ، إلّا أنّه قد وقع التزاحم بين مبادئه ، ومبادئ الحكم الترخيصي الّذي
هو الأهم بحسب الغرض ، ولهذا جعل ذلك الحكم الترخيصي على خلاف ذلك الحكم الواقعي ،
فإنّ فعلية الحكم الواقعي إنّما تحفظه إذا لم تزاحم بما هو أهم منها.
وإذا كان المقصود
بالفعلية الفعلية حتّى بلحاظ المزاحمة ، بمعنى أنّه لا مزاحم لها أبدا ، فحينئذ
يتمّ كلامه «قده» حتّى في الشبهة البدوية كما ذكر هو «قده» ، لأنّ مثل هذه الفعلية
تستدعي في مقام حفظها ، جعل حكم بوجوب الاحتياط ، ومعه لا يمكن الترخيص ، إلّا أنّ
فعلية التكليف الواقعي بهذا المعنى لا دليل عليها ، وعليه : فما ذكره «قده» غير
تام.
وبذلك يظهر انّ
الترخيص في المخالفة القطعية أمر معقول ثبوتا ، وانّ العلم الإجمالي مقتض لحرمة
المخالفة القطعية لا أنّه علّة تامة لها.
وهناك كلام في
المقام ذكره المحقّق العراقي «قده» حاصله : انّه لا نعقل الفرق بين العلم التفصيلي ، والعلم
الإجمالي من حيث حكم العقل بالمنجزية ، وذلك ، لأنّ العلم التفصيلي وإن اختلف عن
العلم
__________________
الإجمالي من حيث
أنّه مشوب بالإجمال والشك ، إلّا أنّ هذا الإجمال والشك إنّما هو في خصوصيات لا
دخل لها في موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال ، إذ أنّ موضوع حكم العقل بوجوب
الامتثال إنّما هو ذات الأمر الصادر من المولى ، وأمّا خصوصية كون هذا الأمر
متعلّق بصلاة الجمعة ، أو بصلاة الظهر ، فهذه خصوصية ليست دخيلة في موضوع حكم
العقل ، إذ من الواضح أنّ وجوب صلاة الجمعة لا يحكم العقل بوجوب امتثاله بما هو
وجوب الجمعة ، وإنّما يحكم بوجوب امتثاله بما هو أمر من المولى ، سواء كان متعلّقا
بالجمعة أو بالظهر أو بغيرهما من الواجبات ، إذن فتمام النظر في حكم العقل بوجوب
الامتثال إنّما هو إلى صرف الأمر الصادر من المولى بقطع النظر عن خصوصيات متعلّقة
وانّه تعلّق بهذا الفعل أو بذاك حيث أنّها خصوصيات لا دخل لها في ملاك حكم العقل
بوجوب الامتثال ولا في موضوعه.
وإذا تبين انّ هذا
هو موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال ، حينئذ ، يصبح من الواضح انّ هذا المتعلّق
يكون معلوما تفصيلا لا إجمالا ، لأنّ العالم بالعلم الإجمالي يعلم تفصيلا بصدور
الأمر ، وإنّما يكون علمه إجماليا بلحاظ إضافته إلى خصوصيات أخرى ليست دخيلة في
موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال.
وبهذا يثبت انّ
العقل يحكم بالمنجزية في موارد العلم الإجمالي كما يحكم بها في موارد العلم
التفصيلي.
وما ذكره العراقي «قده»
متين ، حيث أنّا لا نتعقل فرقا في المنجزية بين العلم الإجمالي بمقدار أصل
الالتزام بوجوب امتثال الأمر الصادر من المولى ، وبين العلم التفصيلي ، فإنّ العقل
في كل من العلمين يحكم بحرمة المخالفة القطعية ، إلّا أنّ حكمه بالمنجزية تلك ،
معلّق لبّا على عدم ورود ترخيص من الشارع على خلافه ، سواء في موارد العلم
التفصيلي ، أو
الإجمالي ، غايته أنّه وإن كنّا ندّعي عدم الفرق بين العلمين من حيث حرمة المخالفة
القطعية وأنّ حكمه بذلك معلّق على عدم ورود ترخيص من الشارع من غير فرق بين
العلمين لما عرفت ، لكن الفرق بينهما أنّ الترخيص هذا يستحيل وجوده في موارد العلم
التفصيلي ، لأنّ ذلك الترخيص على خلاف التفصيلي إن كان حقيقيّا لزم منه اجتماع
الضدين ، وإن كان طريقيا ناشئا من التزاحم بالمعنى الثالث فهو لا يعقل في موارد
العلم التفصيلي كما عرفت تفصيله ، وعليه : فالمعلّق ، وهو حكم العقل بالمنجزية في
موارد التفصيلي مضمون التحقّق.
وأمّا في موارد
العلم الإجمالي ، فإنّ الترخيص الطريقي معقول ، لأنّ ضمّ الإجمالي إلى العلم يوجب
الاشتباه والخلط الّذي يحقّق التزاحم بالمعنى الثالث المتقدّم ، وهو ملاك الترخيص
الطريقي ، ومن هنا قد يكون حكم العقل بالمنجزية فعليا ، وقد لا يكون كذلك فيما إذا
ورد الترخيص ، فالفرق هو في جوهر المدّعى.
فالصحيح انّ ورود
الترخيص وجريان الأصول في تمام أطراف العلم الإجمالي ممكن ، هذا حاصل الكلام في
عالم الثبوت والإمكان.
وأمّا بحسب عالم
الإثبات والخارج ، فهل يمكن التمسك بأدلة الأصول لإثبات جريانها في تمام الأطراف ،
أو أنّه لا يمكن ذلك؟ فهذا البحث سيأتي تفصيله في الأصول العملية عند البحث في
الشك.
ولكن نشير في
المقام إجمالا إلى نكتة عدم إمكان ذلك بما حاصله : من أنّه ظهر بما تقدّم انّ
الترخيص في المخالفة القطعية إنّما يعقل إذا كانت الأغراض الترخيصيّة أهم بنظر
المولى من أغراضه الإلزامية ، وهذا في الشّبهات البدوية معقول وعقلائي ، وأمّا في
موارد العلم الإجمالي ، فإنّه وإن كان معقولا كما عرفت ، إلّا أنّه غير عقلائي ،
لأنّ الأغراض الّتي يدركها العقلاء ويتعاملون على أساسها لا
يوجد عادة فيما
بينها غرض ترخيصي يبلغ من الأهمية إلى درجة بحيث يوجب رفع يدهم عن غرض إلزامي
مضمون الوصول ، إذ مثل هذا لا مصداق له في حياة العقلاء ، ولأجله ينعقد ارتكاز
عقلائي على عدم بلوغ الأغراض الترخيصيّة هذه المرتبة ، وهذا الارتكاز يكون
كالقرينة اللّبية المتصلة المانعة عن انعقاد إطلاق في أدلة الأصول وهذه هي النكتة
الّتي على أساسها لا تجري الأصول في أطراف العلم الإجمالي. ومن هنا لم يحكم أحد
بجواز المخالفة القطعية ، غاية الأمر ، علّلوا ذلك بعدم معقوليته ، ونحن أثبتنا
معقوليته ، إلّا أنّه غير عقلائي كما عرفت ، ولهذا كانت هذه النكتة كالقرينة
اللّبية المتصلة المانعة عن انعقاد إطلاق في أدلة الأصول يشمل موارد العلم
الإجمالي.
ويترتب على
تخريجنا هذا وعلى تخريج المشهور لعدم جريان الأصول ، فوارق عملية عديدة يأتي
تفصيلها في محله.
هذا حاصل الكلام
في المرحلة الأولى ، أي في تنجيز العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، وقد
تبيّن من خلالها ، انّ العلم الإجمالي مقتض لتنجيز حرمة المخالفة القطعية ، وليس
علّة لها.
٢ ـ المرحلة
الثانية : في تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية :
والكلام فيها يقع
في جهتين.
١ ـ الجهة الأولى
: في أصل تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية :
بعد الفراغ عن
تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ، وفي المقام يوجد ثلاثة مسالك.
١ ـ المسلك الأول
: هو أنّ العلم الإجمالي منجز لوجوب الموافقة القطعية مباشرة وبلا واسطة ، وهذا هو
ظاهر كلام
الميرزا «قده» في تقرير بحثه في فوائد الأصول ، كما انّ هذا هو محصل كلام الشّيخ الأنصاري «قده» في
الرّسائل .
٢ ـ المسلك الثاني
: هو انّ العلم الإجمالي بنفسه وبصورة مباشرة لا ينجز وجوب الموافقة القطعية
وإنّما ينجز وجوبها بواسطة ، باعتبار كون العلم الإجمالي يوجب تعارض الأصول
وتساقطها ، وهذا التعارض والتساقط يؤثر في وجوب الموافقة القطعية ، فيكون العلم
الإجمالي مؤثرا بالواسطة في وجوب الموافقة القطعية بنكتة تساقط الأصول دون أن يكون
علّة أو مقتض لوجوب الموافقة القطعية ، وهذا ظاهر كلمات الميرزا «قده» في تقرير
بحثه في أجود التقريرات .
٣ ـ المسلك الثالث
: وهو مسلكنا المختار ، وحاصله : أنّه بناء على ما هو الصحيح من إنكار قاعدة «قبح
العقاب بلا بيان» حيث يصبح الاحتمال منجزا في كل طرف فضلا عن العلم الإجمالي ،
ومعه فلا إشكال في وجوب الموافقة القطعية.
لكن لو قطعنا
النظر عن هذا المبنى وجرينا على مبناهم من الاعتراف بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان»
فحينئذ لا يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الموافقة القطعية لا بصورة مباشرة ولا
غير مباشرة ، غايته أنّه يكون منجزا في بعض الموارد دون بعض كما سيأتي تفصيله ،
وهذا اللازم من عدم تنجيزه في بعض الموارد يكون من المنبهات الوجدانية على عدم صحة
قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
__________________
إذن فالعلم
الإجمالي عند ما نختار أنّه منجز بصورة مباشرة فهو يتّحد مع المسلك الأول.
وحيث أنّه وقع في
بعض كلمات الباحثين بناء هذه المسألة على ما هو المدّعى والمتصور في حقيقة العلم
الإجمالي ، حيث ادّعي أنّه إن بنينا على انّ العلم الإجمالي علم بالجامع ، فحينئذ
، لا يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية ، وإنّ بنينا على أنّه علم متعلّق
بالواقع وليس بمجرد الجامع ، فيكون مؤثرا بوجوب الموافقة القطعية.
وحيث أنّ المسألة
بنيت في كلماتهم على تحقيق حقيقة هذا العلم الإجمالي ، وأنّه هل هو متعلّق بالجامع
، أو بالواقع؟ وفرّع عليه ما هو المختار من هذه المسالك.
ومن أجل ذلك ، سوف
نقدّم مقدّمة في تحقيق حقيقة العلم الإجمالي ، وفي كيفية تعلّقه بمعلومه قبل
الشروع في تحقيق المسالك الثلاثة ، ثمّ بعد هذا نشرّع في تحقيق المسالك الثلاثة
لنرى أنّ المبنى الأصولي هل يختلف باختلاف تلك الأقوال ، أو أنّ النتيجة الأصولية
على نحو واحد مهما كانت الأقوال في حقيقة العلم الإجمالي؟.
وحاصل هذه
المقدّمة هو ، انّ التصورات في حقيقة العلم الإجمالي ترجع إلى ثلاثة مباني.
١ ـ المبنى الأول
: هو المستفاد من ظاهر كلمات صاحب الكفاية «قده» في بحث الواجب التخييري حيث ذكر في تصوير الواجب التخييري ، انّ الوجوب فيه يتعلّق بالفرد المردّد ، بين العتق ،
والإطعام ، والصّيام ، وهذا علم إجمالي قد تعلّق بالفرد المردّد ، وكون
__________________
الوجوب صفة لا
يعقل تعلّقها بواحد مردّد ، لا يمنع من تعلّقه بها ، إذ نرى أنّ الصفات الحقيقيّة
كالعلم الإجمالي تتعلّق بالفرد المردّد ، فإنّ العلم الإجمالي صفة حقيقيّة ومع ذلك
فإنّ معروضه ومتعلّقه الفرد المردّد ، ومعه : فإمكان تعلّق الصفات الاعتبارية به ،
كالوجوب أولى.
ويستفاد من ظاهر
كلام صاحب الكفاية أنّه فرغ عن انّ العلم في موارد الإجمالي يتعلّق بالفرد المردّد
لا بالجامع.
وقد أشكل على هذا
المبنى ، باعتبار استحالة ثبوت الفرد المردّد في أفق النّفس لكي يكون معروضا لصفة
من الصفات ، سواء كانت الوجوب أو العلم الإجمالي ، أشكل عليه ، بأنّ محل الكلام
عمّا يكون متعلّقا بالذات لهذا العلم ، وهو ما يسمّى بالمعلوم بالذات الّذي هو
عبارة عن نفس الصورة الذهنية الواقعية المقومة للعلم في أفق النّفس ، وهذه الصورة
الذهنية الواقعية المقومة للعمل في أفق النّفس الّتي هي المعلوم بالذات ، هي نحو
من الوجود الذهني ، والوجود مطلقا مساوق للتعيين ، لأنّ الإبهام في الوجود خلف
كونه وجودا ، فالتردّد في الوجود محال ، إذن ، فلا بدّ من أن يكون متعينا ، وإذا
كان الوجود متعينا في مرحلة الوجود ، إذن فلا بدّ وأن يكون متعينا ماهية أيضا ،
لأنّ الماهية حدّ للوجود والتردّد في حدّ الوجود تردّد في الوجود نفسه ، أي في
المحدود ، وما دام أنّه لا بدّ من أن يكون متعينا وجودا ، إذن لا بدّ وأن يكون
متعينا ماهية ، وعليه : فيستحيل أن تكون الصورة الذهنية المقومة للعلم في أفق نفس
العالم ، وجودا للماهية المردّدة ، ومن هنا أعرض المشهور عن هذا المبنى ، أي عن
كون العلم الإجمالي متعلّق بالفرد المردّد إلى المبنى الثاني.
٢ ـ المبنى الثاني
: هو انّ العلم الإجمالي متعلّق بالجامع ، فهو علم تفصيلي بالجامع ، غاية الأمر
أنّه مقترن بشكوك في الأفراد عند
تطبيقات هذا
الجامع ، فالعلم الإجمالي لا يختلف عن العلم التفصيلي من حيث المعلوم ، أي انّ كلا
منهما علم تفصيلي بالجامع ، غاية الأمر ، انّ متعلّق العلم التفصيلي هو الفرد ،
بينما متعلّق العلم الإجمالي هو الجامع ، مع الشك في تطبيقات هذا الجامع بعدد ما
يتصور له من أفراد بحسب الواقع.
والحاصل أنّه لا
فرق بين العلمين من حيث العلميّة ، وإنّما الفرق بينهما من حيث المعلوميّة.
وهذا المبنى هو
مختار المحقّق الميرزا «قده» ، وقد حاول المحقق الأصفهاني «قده» البرهنة على هذا المبنى
حيث قال : إنّ العلم الإجمالي من حيث متعلّقه لا يخلو من أحد شقوق أربعة ، فإمّا
أن لا يكون له متعلّق أصلا ، وإمّا أن يكون متعلّقه الفرد بعنوانه التفصيلي
المعيّن ، وإمّا أن يكون متعلّقه الفرد بعنوانه التفصيلي المردّد ، وإمّا أن يكون
متعلّقه الجامع ما بين الفردين.
والثلاثة الأول
كلّها محال.
أمّا الشق الأول :
فلأنّ العلم من الصفات ذات الإضافة ، فيستحيل أن يكون بلا متعلّق.
وأمّا الشق الثاني
: فهو خلاف الوجدان وإلّا لا نقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي كما هو واضح.
وأمّا الشق الثالث
: فيستحيل ، لما بيّناه في الإشكال على صاحب الكفاية من استحالة الفرد المردّد ،
حينئذ ، يتعيّن الشق الرابع ، وهو كون العلم متعلّقا بالجامع ، وحينئذ فمن علم
إجمالا بوجوب الظهر ، أو
__________________
الجمعة ، فقد علم
بالجامع ، أي جامع الوجوب فيكون عنده علمان ، أحدهما العلم بجامع الوجوب ، والثاني
العلم بأنّ هذا الوجوب لا يخرج عن أحد هذين الفردين الظهر والجمعة وليس شيئا ثالثا
ورائهما.
وهذان العلمان وإن
عبّر عنهما بصيغة علمين ، إلّا أنّه تعبير فيه مسامحة ، لأنّه يمكن إرجاعهما إلى
علم واحد ، فيقال : علم بالجامع المقيّد بحيث لا يكون قابلا للانطباق إلّا على أحد
هذين الفردين.
وهذا البرهان ،
يمكن إقامة صورة برهان على إبطاله ، فيقال : إنّ مقتضى هذا المبنى إنّ العلم
الإجمالي يتعلّق بالجامع فقط ولا يسري إلى الأفراد ، مع انّا نعلم بأزيد من
الجامع.
والبرهان على ذلك
هو ، انّنا نعلم من المنطق والفلسفة بأنّ الجامع لا يجود إلّا في ضمن خصوصية وحصّة
خاصة من الحصص في الخارج ، وعلمنا بذلك يوجب انّنا حينما نعلم إجمالا بالجامع ، أن
نعلم زائدا عليه بأمر آخر لا محالة ، لأنّنا نقطع بأنّه لا يوجد بلا خصوصية ،
وحينئذ ، فهذا الأمر الزائد إن كان بنفسه أمرا جامعا ، إذن ، فيجري فيه نفس الكلام
المتقدّم من أنّه يوجد ضمن خصوصية وحصة ، وهكذا ننقل الكلام إليها حتّى ننتهي إلى
أمر زائد ليس بجامع منعا للتسلسل ، وهذا معنى قولنا انّ العلم الإجمالي بالجامع
يشتمل على العلم بأمر آخر غير الجامع زائد على الجامع لا محالة.
وبهذا يبطل القول
، يتعلّق العلم الإجمالي بخصوص الجامع ولا يتعدّاه.
ولعلّ تعبير
المحقق الأصفهاني «قده» بعلمين حينما بيّن انّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع ،
وعلم بأنّه لا يخرج عن أحد هذين الفردين ، حيث عبّر بصيغة علمين ـ فيه تسامح ـ لأنّهما
يرجعان إلى علم واحد بالجامع المقيّد ، فلعلّه عبّر بذلك لأجل إشباع حاجتنا إلى
العلم بأمر
زائد ، حيث أنّه
التفت إلى انّنا بحاجة إلى فرض علم بأمر آخر زائد على الجامع ، ولهذا عبّر بأنّنا
نعلم بالجامع ، ونعلم بأنّه لا يخرج عن أحد هذين الفردين.
وبتعبير آخر :
لعلّ تعبير الأصفهاني «قده» بعلمين ، أحدهما بالجامع ، والآخر بأنّه لا يخرج عن
أحد هذين الفردين ، إنّما هو باعتبار التفاته إلى أنّه لا بدّ من هذا الأمر الزائد
، فعبّر بالأمر الثاني عنه.
لكن من الواضح انّ
هذا لا يحلّ المشكلة ، لأنّ هذا الأمر الزائد المعلوم بالعلم الثاني الّذي جاء في
كلامه ، إمّا أن يكون كليا جامعا ، وإمّا جزئيا ، فإن كان كليا ، جاء نفس البرهان
لإثبات أنّه نعلم بأمر زائد عليه كما تقدّم ، وإن كان جزئيا ، فهو مناف لمبناه ،
لأنّه يثبت انّ العلم لم يتعلّق بالجامع ، بل تعلّق بالفرد ، وهو خلف مبناه.
وقد يتوهم إمكان
التخلص من هذه المشكلة ، حيث يقال : إنّ هناك فرقا بين الجامع في صورة الأمر ،
وبين الجامع في صورة العلم الإجمالي ، ففي موارد الأمر حينما يأمر المولى بجامع ،
إنّما يأمر بجامع غير مفروغ عن انطباقه ، بينما في موارد العلم ، فإنّ العالم
حينما يعلم بجامع ، إنّما يعلم بجامع مفروغ عن انطباقه .
إلّا أنّ هذا
الكلام لا يحلّ المشكلة أيضا ، لأنّه لو سلّمنا بأنّ العالم يعلم بجامع مفروغ عن
انطباقه ، فحينئذ ، ننقل الكلام إلى هذا الانطباق ونسأل : هل هو كلّي ، أو جزئي؟ ،
فإن كان الأول ، إذن هو يعلم بأمر زائد عليه ، فيجري فيه الكلام السابق ، وإن كان
الثاني ، فمرجعه إلى العلم بالفرد لا الجامع ، لأنّ معناه : انّه يعلم بفرد معيّن
، وهو خلف هذا المبنى.
__________________
ولعلّه لأجل هذا
أو شيء آخر عدل المحقق العراقي «قده» عن المبنى الثاني المشهور إلى المبنى الثالث
في تصوير العلم الإجمالي ، فذهب إلى انّ العلم الإجمالي ليس متعلقا بالفرد المردّد
، وليس متعلقا بالجامع ، بل هو متعلق بالواقع وقد ذكر أنّه بلغه أنّ بعض أهل الفضل
من المعاصرين يذهب إلى تعلقه بالجامع وأنّه لا تفاوت بينه وبين العلم التفصيلي في
حيثيّة العلميّة ، وإنّما الفرق بينهما في المعلوم ، حيث أنّه في التفصيلي صورة
الفرد ، وفي الإجمالي صورة الجامع مع الشك في الخصوصية الفردية.
ثمّ انّ المحقق
عقّب على هذا الكلام ، بأنّه غير تام : بل الصحيح هو انّ العلم الإجمالي والتفصيلي
لا يختلفان من جانب المعلوم ، بل يختلفان من جانب نفس العلم مع كون المعلوم فيهما
معا هو الواقع ، كالتفصيلي ، أي بالفرد المعيّن ، لكن فرق بين نفس العلمين ،
فالتفصيلي عبارة عن مرآة صافية لهذا الواقع لا غبار عليها ، بينما العلم الإجمالي
مرآة عليها غبار وإجمال يكتنف هذا الواقع ، بما يوجب الشك في تطبيقه ، وإلّا
فكلاهما مرآة للواقع ، ويقرب هذا بمثال عرفي ، فالتفصيلي والإجمالي يشبهان
بالإحساس ، فتارة نحسّ بزيد وهو أمامنا ، وأخرى نحسّ به وهو بعيد عنّا وكأنّه شبح
، فحينما نراه قريبا ، نعلم بأنّه زيد بلا شك ، وحينما نراه من بعيد كالشبح ، فنحن
أيضا نرى واقعا يحتمل أن يكون زيدا ، ويحتمل أن يكون عمروا ، لكن في كلتا الحالتين
الإحساس متعلق بالواقع وهو ذلك الفرد المعيّن ، وعليه : فلا فرق بين التفصيلي
والإجمالي من ناحية المعلوم ، وإنّما الاختلاف من ناحية نفس العلم ، بعكس ما جاء
في المبنى الثاني.
وكأنّ المحقّق
العراقي «قده» طرح هذا التصور لهذا المبنى بنحو الاستبداد من دون أن يتصدّى لإقامة
برهان عليه.
إلّا أنّه يمكن أن
نتصيّد من بعض فقرات كلامه نوعا من الاستدلال حيث يقول : إنّ العنوان القائم في
أفق العلم ، أي المعلوم بالذات ، ينطبق على الواقع بتمامه ، يعني أنّ المعلوم
الإجمالي بالذات ـ الّذي هو الصورة الذهنية القائمة في أفق نفس العالم ـ ينطبق على
الواقع بتمامه ، لا على الواقع بحدّ منه وبمرتبة منه.
وهذا الكلام قد
يجعل أساس برهان فيقال : إنّ العلم الإجمالي متعلّق بصورة شخصية لا كليّة جامعة ،
لأنّه لو كان متعلقا بعنوان كلّي لما انطبق على الواقع بحدّه وبتمامه ، باعتبار أنّ
الجامع إنّما ينطبق على الواقع بمرتبة منه لا بتمامه ، إذ ذكر في المنطق ، انّ
الجامع ينتزع من الأفراد بعد إلغاء خصوصياتها وطرح حدودها ، فعنوان الإنسان ينتزع
من «زيد ، وعمرو ، وبكر» بعد إلغاء خصوصيات هذه الأفراد ، ومعه : فهذا الجامع
المنتزع بعد طرح الخصوصيات لا ينطبق على المطروح ، بل ينطبق على الباقي بعد الطرح
من الأفراد ، فالجامع إذن لا يعقل انطباقه على الأفراد مع خصوصياتها الّتي تطرح
منها ، وإنّما ينطبق على الأفراد بلحاظ الحيثيّة المشتركة بينها بعد الطرح ،
وحينئذ بحسب الخارج ، نرى أنّ الصورة العلميّة الإجمالية تنطبق على الواقع بتمامه
لا على الواقع بلحاظ منه.
وهذا يكشف ، عن
انّ الصورة العلمية الإجمالية ليست أمرا كليا وجامعا ، وإلّا لاستحال انطباقها على
الواقع بتمامه.
وبهذا يكون هذا
الكلام ، صورة برهان ينتزع من كلام العراقي «قده» لإثبات عدم تعلّق العلم الإجمالي
بالجامع وإنّما هو متعلّق بالواقع ، أي بصورة شخصية.
إلّا أنّ هذا
البرهان ، إنّما يتمّ لو سلّمنا الأصل الموضوعي المبني عليه ـ وهو استحالة انطباق
العنوان الجامع على الفرد بتمامه وعلى الواقع بخصوصيته كما بيّناه.
ولكن قد ذكرنا في
بحث الوضع عند التكلّم عن الوضع العام ، والموضوع له خاص ، انّ هذا الأصل الموضوعي
ليس صحيحا على إطلاقه ، بل هناك بعض الجوامع يمكن انطباقها على الأفراد مع
خصوصياتها وعلى الواقع بتمامه وحدّه ، بل انّ العراقي «قده» نفسه ذكر في تلك
المسألة ، انّ بعض الجوامع تنطبق على الواقع بحدّه ، وعلى الفرد بخصوصيته ،
وسمّاها بالجوامع المصطنعة للنفس ، أي انّ النفس تصنعها ، فكأنّه صوّر أنّ الجوامع
على قسمين.
قسم : النفس
تنتزعها من الخارج ، وهذا يستحيل انطباقه على الفرد بتمامه.
وقسم : الذهن
البشري ينشئها ، من قبيل عنوان : الجزئي ، والفرد ، والخصوصية ، ونحو ذلك ، فمثل
هذه العناوين اختار هناك أنّ النفس تنشئها وتخترعها بحيث يمكن تطبيقها على الفرد
بتمامه دون الجوامع الّتي تنتزعها النفس من الخارج ، حيث لا يمكن انطباقها كذلك.
والحاصل هو ، أنّ
الجامع الإنشائي للنفس يعقل انطباقه على الفرد بتمامه ، وقد مضى تفصيل ذلك في محله.
وعلى ضوء هذا يبطل
برهان العراقي «قده» إذ لا يعقل أن يستدل بكلامه على تعلّق العلم الإجمالي بالواقع
، وبأنّه ينطبق على الواقع بتمامه ، لأنّه لعلّ المعلوم بالإجمال يكون من سنخ
الجوامع الإنشائية المصطنعة للنفس والّتي اعترف هو نفسه بأنّها تنطبق على الواقع
بتمامه ، نعم يحتمل أن يكون مقصوده من تعلّق العلم بالواقع دون الجامع هو ، إنكار
أن يكون المعلوم الإجمالي متعلقا بالجامع بالمعنى الّذي يستحيل انطباقه على الواقع
بتمامه ، بل مقصوده من تعلّق العلم الإجمالي هو تعلّقه بجامع إنشائي يكون ما
بإزائه الواقع بتمامه ، وحينئذ يتطابق كلامه هنا مع كلامه هناك ، وتكون صورة
برهانه مقبولة على مبناه.
وقد اعترض الميرزا
«قده» على هذا المبنى الأخير فقال : إنّ العلم الإجمالي إذا كان متعلقا بالواقع لا
بالجامع ، لزم محذور ، وهو أنّه لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين ، وفرض أنّهما
كانا في الواقع نجسين معا ، ففي مثله يسأل : أنّه ما هو الواقع المعلوم بالإجمال؟
فإن قيل انّه إحدى النجاستين دون الأخرى ، فهو ترجيح بلا مرجح ، وحينئذ إمّا أن
يلتزم بالترجيح بلا مرجح وهو محال ، وإمّا أن يلتزم بأنّ العلم ليس له معلوم ، فهو
غير متعلّق بهذا ولا بذاك ، وهذا محال أيضا ، لأنّ العلم لا يكون بلا معلوم ،
وإمّا أن يلتزم بأنّ متعلقه ليس هو الواقع ، بل متعلقه الجامع ، وهو محفوظ ، لأنّ
الجامع بين النجاستين معلوم.
وبهذا يثبت انّ
العلم الإجمالي ليس متعلقا بالواقع ، بل هو متعلق بالجامع.
وهذا الكلام لا
ربط له بمحل الكلام ، فلا ينبغي أن يجعل برهانا على إبطال المبنى الثالث ، وتعيين
الثاني ، لأنّ من يقول انّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع لا بالجامع ليس مقصوده من
ذلك ، انّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع الخارجي مباشرة ، وإلّا لما أخطأ العلم
أصلا ، وكان معناه : انّ العلم الإجمالي لا بدّ وأن يكون مطابقا للواقع ، لأنّ كل
علم لا بدّ له من معلوم ، مع أنّه لا يخطر على بال أحد ، ان يدّعي مثل هذه الدعوى
، بل المقصود انّ العلم الإجمالي كالتفصيلي ، يتعلّق بالصورة الذهنيّة القائمة في
أفق نفس العالم لا بالواقع الخارجي ، ويعبّر عن تلك الصورة بالمعلوم بالذات ،
وهناك معلوم بالعرض ، وهو الواقع الخارجي بحيث إذا كان له واقع خارجي مطابق له كان
القطع ، وقد لا يكون ، ونفس هذا يقال في العلم الإجمالي ، فإنّه لا يتعلّق بالواقع
__________________
الخارجي مباشرة ،
بل المقصود من كونه متعلّقا بالواقع هو ، انّ معلومه بالذات ، وهو تلك الصورة
الذهنية ، إنّما هي صورة للفرد لا صورة للجامع ، غايته ، انّ معلومه بالعرض ، وهو
الصورة المطابقة لما في نفس العالم ، هي خارجيّة ، وهذه هي صورة الفرد لا الجامع ،
ومن هنا قد يخطئ العلم الإجمالي ، لأنّه لا واقع له ، ولكن ليس معناه أنّه ليس له
معلوم ، بل هذه الصورة هي معلومه ، وهذا معنى كون العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ،
بمعنى انّ هذه الصورة يكون مدلولها ومحكيّها الفرد.
وإن شئت قلت : إنّ
المقصود من كون العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع هو أنّ معلومه بالذات ، وهو تلك
الصورة الذهنية ، إنّما هي صورة للفرد ، لا صورة للجامع.
إذا عرفت ذلك ،
حينئذ ، لا يرد الإشكال المذكور ، لأنّه فيما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين
، وكانا في الواقع في علم الله سبحانه كلاهما نجسين ، فهنا ، الصورة الذهنيّة
المقومة للعلم الإجمالي في أفق النفس ، هي صورة بإزاء الفرد لا للجامع ، لكن هذه
الصورة حيث أنّها صورة إجمالية لا تفصيلية ، لا يمكن أن يجعل مطابقها الخارجي أحد
الفردين بخصوصه ، بل لا بدّ وأن يكون أحدهما على سبيل البدل دون تعيين ، كما انّ
القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع لا فرق عنده بين أن يتعين تطبيق ذلك الجامع
على فرد معيّن أو لا يتعين ، وذلك لاستواء نسبة ذلك الجامع إلى أفراده ، بل عدم
تطبيقه وتعينه في الخارج لا يؤدّي إلى عدم وجود معلوم خارجي ، ومعه لا يكون هذا
نقضا على المبنى الثالث ، وإنّما يرد هذا النقض لو كان المقصود هو ، انّ العلم
يتعلّق بالواقع الخارجي مباشرة ، لكن قد عرفت أنّه ليس هذا مقصود المبنى الثالث.
والحاصل هو ، أنّه
كما انّ عدم تطبيق الجامع على فرد معيّن لا
يؤدّي إلى محذور ،
فكذلك عدم تطبيق الصورة الذهنية للفرد ـ كما في المبنى الثالث ـ على أحد الفردين
بعينه لا يلزم منه محذور.
ثمّ انّ المحقّق
الأصفهاني «قده» قد اعترض على المبنى الثالث ـ كما يفهم من مجموع كلماته ـ بما
حاصله : أنّه إذا كان مقصودكم من تعلّق العلم الإجمالي بالواقع يعني تعلّقه بصورة
حاكية عنه ، فإنّه حينئذ نسأل : هل انّ الحدّ الشخصي الّذي به يكون الفرد فردا ،
هل هذا الحدّ داخل في تلك الصورة الحاكية عن هذا الواقع ، أم أنّه غير داخل؟
فإن قلتم بأنّه
داخل ، فهذا معناه العلم بالحد الشخصي ، مع أنّ الوجدان قاض بأنّه لا علم بالحد
الشخصي.
وإن قلتم بأنّه
غير داخل ، فهذا معناه أنّ الصورة عارية عن الحدود الشخصية ، ولا نقصد بالجامع
أكثر من ذلك.
وبهذا يثبت ، انّ
العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع . ولكن لو فرض أنّ المحقق العراقي «قده» يقول بتعلّق العلم
الإجمالي بالفرد لا بالجامع الإنشائي ، وقد أورد عليه هذا الإشكال ، فإنّه يمكن
للعراقي «قده» دفعه ، وذلك لأنّ المحقق العراقي «قده» يفرّق بين العلم الإجمالي ،
والعلم التفصيلي من ناحية نفس العلم ، حيث أنّه يرى انّ الصورة العلمية التفصيلية
صورة غير مشوبة بالإجمال ، بخلاف الصورة العلمية الإجمالية ، فإنّها صورة مشوبة بالإجمال
، وهذا معناه : انّ الصورة العلمية الإجمالية مزدوجة ، مخلوط فيها حيثيّة الوضوح
مع حيثيّة الغموض الّذي منشؤه الإجمال بخلاف التفصيلية ، فإنّها كلها وضوح ، وهذا
معنى ما يقوله العراقي «قده» من أنّ الفرق بين العلمين إنّما هو بلحاظ نفس
العلمين.
__________________
فإذا تعقلنا هذا ،
حينئذ نقول في مقام جواب الأصفهاني «قده» : إنّ الحدّ الشخصي محكي بهذه الصورة
العلمية الإجمالية ، فهي كما انّها تحكي عن الجامع ، هي أيضا حاكية عن الحدّ
الشخصي ، إلّا أنّ الحدّ الشخصي محكي عنه بالجانب الإجمالي في الصورة ـ أي بالجانب
الّذي فيه حيثيّة غموض ـ لا بالجانب الواضح منها ، حيث أنّ فيها صورتين كما عرفت ،
لكن لا خارجا ، بل وفقا لطرز تفكير المحقق العراقي «قده» ، وهذا لا يعني أنّه أصبح
معلوما على حدّ معلوميته في العلم التفصيلي.
وبهذا يتضح انّ
هذه الإشكالات على المبنى الثالث لا ترجع إلى محصل.
إلّا أنّ الظاهر
في المقام ـ باعتبار أنّهم يتكلّمون عن أمر وجداني ، وهو العلم الإجمالي ـ الظاهر
أنّهم قصدوا معنى واحدا ، ولكن لم يتوفقوا صناعيا للتعبير عن هذا المعنى ، حيث أنّ
كل واحد منهم أخذ زاوية وتكلّم عنها وكان محقّا فيما تكلّم من زاويته ، إلّا أنّ
تلك الزوايا لم تجتمع لكي تتجسد روح المسألة.
إذن فالمباني
الثلاثة في تفسير العلم الإجمالي ترمي إلى مطلب واحد وحقيقة واحدة ، لكن هذه الحقيقة
لها ثلاث زوايا ، وكل مبنى من هذه المباني لاحظ الحقيقة في إحدى هذه الزوايا ، وهو
في حدود ملاحظته محق.
وبما انّ الحقيقة
لا تتكامل إلّا عند ما تبرز بكامل أبعادها وجهاتها. فلا بدّ من تحقيق الحال في
المقام ، وهو يتوقف على بيان نكتة حاصلها : انّ المفاهيم الّتي توجد في الذهن ـ وإن
قرأنا في المنطق ـ انّها تنقسم إلى مفهوم كلي وآخر جزئي ، وانّ الكلي ما لا يمتنع
صدقه على كثيرين ، وانّ الجزئي هو ما يمتنع صدقه على كثيرين.
ولكن هذا الكلام
ليس صحيحا ، لأنّه لا ينطبق على المفاهيم الموجودة في الذهن ، بل المفاهيم الّتي
توجد في الذهن كلها كلية في نفسها وليس فيها مفهوم جزئي على الإطلاق ، وضمّ أيّ
قيد مفهومي إليها لا يخرجها عن كونها كلية إلى الجزئية ، لأنّ هذا القيد هو بنفسه
مفهوم كلي أيضا ، فضمّ كلي إلى كلي لا يصيّره جزئيا حقيقيا ، وإن صيّره جزئيا
إضافيا ، ومن الواضح انّ الجزئي الإضافي إذا لم يكن حقيقيا ، فهو كلي ، إذن ، كل
مفهوم لا يمكن أن يخرج بالتقييدات المفهومية عن الكلية إلى الجزئية ، لأنّ الكلام
في القيد هو الكلام في المقيّد ، وعليه : فهذه المفاهيم الّتي هي كلية بحسب ذاتها
، فإنّ للذهن في كيفية استعمالها طرزان.
١ ـ الطرز الأول :
هو أن يستخدم الذهن المفهوم بنحو الإشارية إلى الخارج كما في قولنا : «هذا الإنسان
مريض» ، غاية الأمر انّ هذه الإشارة معنوية ، بخلاف إشارة الإصبع ، فإنّها خارجية
حسيّة ، فهنا مفهوم الإنسان استخدم بنحو الإشارية ، وقرينة هذا الاستخدام اسم
الإشارة.
٢ ـ الطرز الثاني
: هو أن يستخدمه بما هو فان في معنونه كما في قولنا : «الإنسان ضاحك» ، والمفهوم
في كلتا القضيتين كلي ، غايته أنّه في مقام التطبيق على الخارج يرى المفهوم في
النحو الأول ضيقا وغير قابل للانطباق على كثيرين ، ويرى في الثاني واسعا وقابلا
للانطباق على كثيرين ، والوجه في ذلك هو ، انّ الإشارة تجعل المفهوم موضوعا لقضية
خارجية فيكون جزئيا ، لا بمعنى أنّ المفهوم يتحول إلى مفهوم جزئي حقيقة ، بل بمعنى
انّ هذا المفهوم بالإشارة يكون ضيقا في نظر الذهن وفي مقام تطبيقه على الخارج ،
بينما المفهوم بالطرز الثاني والّذي لا يكون مستخدما بنحو الإشارية يقع موضوعا
للقضية الكلية ، وقد تكون هذه القضية الكلية ملحوظة على نهج القضية الحقيقيّة ،
بمعنى أنّ
الموضوع الكلي
يؤخذ بما هو فان في معنونه ، لكن لا يخرج عن كونه كليا ، إذن فكون المفهوم يلحظ
بنحو الإشارية شيء ، وكونه يلحظ بما هو فان في معنونه شيء آخر.
وتمام ما نريد
توضيحه في المقام ، هو أنّ المفهوم مع أنّه دائما كلي ولا يخرج في الواقع عن
الكلية إلى الجزئية ، إلّا أنّ هناك طريقتين في استخدامه ، الأولى هي ، الإشارية ،
والثانية هي ، اللّاإشارية.
وهاتان الطريقتان
، ليس مرجعهما إلى إضافة مفهوم إلى آخر ، لأنّ المفهوم المضاف أيضا نقول إنّ للذهن
طريقتين في استعماله وليس الفارق بين الطريقتين بأنّه تارة نضيف المفهوم الفلاني
إلى آخر وأخرى إلى غيره ، إذ ليس الفرق بلحاظ ما يضاف إذ أيّ مفهوم يضاف فهو بدوره
تارة يستخدم بنحو الإشارية ، وأخرى بنحو اللّاإشارية.
إذن ، فالإشارية
واللّاإشارية طرزان من النظر إلى المفهوم ، وليسا مفهومين إضافيّين يضافان إلى
المفهوم ، غايته أنّه بأحد هذين النظرين يبدو المفهوم ضيقا بلحاظ التطبيق على
الخارج ، وبالنظر الآخر يبدو المفهوم وسيعا ، وإن كان لا يختلف في كليته في كلا
النظرين ، وبهذا يتضح أنّ الجزئية في المفهوم من تبعات النظر الإشاري في استخدام
المفهوم ، لا أنّ المفهوم في نفسه ينقسم إلى كلي وجزئي كما قرأنا في المنطق.
وإذا اتضحت هذه
النكتة ، حينئذ نقول : إنّ العلم الإجمالي متعلّق بجامع ومفهوم كلّي ، غايته ، انّ
هذا المفهوم الكلي ملحوظ بنحو الإشارية ، وبهذا يختلف عن الجامع الّذي يتعلّق به
الوجوب في سائر الموارد ، فإذا وجب الجامع بين خصال الكفارة الثلاث ، يكون متعلق
الوجوب هنا جامع ومفهوم كلي ، لكن هذا المفهوم الكلي ليس ملحوظا بنحو الإشارية ،
وإن كان ملحوظا بما هو فان في معنونه كما هو شأن
القضايا الحقيقيّة
، لكن الإشارية أمر آخر غير مجرد ملاحظة الموضوع فانيا وحاك عن معنونه ، وفرق بين
الأمرين كما هو واضح ، وأمّا الجامع الّذي يتعلق به العلم ، فهو نفس ذلك الجامع من
حيث ذاته وحدود مفهومه ، لكن مع اختلاف في كيفية استخدامه ، فإنّه منظور إليه بما
هو مشار به ، ومن هنا صحّ مبنى الميرزا «قده» القائل بتعلق العلم الإجمالي بالجامع
، لأنّ مصبّ العلم بحسب الحقيقة هو مفهوم كلي في نفسه وجامع ، لما عرفته من أنّ
المفهوم دائما كلي ، ولا يخرج عن الكلية إلى الجزئية أصلا.
وإن شئت قلت :
انّه بناء على ما تقدّم يصحّ مبنى الميرزا القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق
بالجامع ، لأنّ مصبّ العلم بحسب الحقيقة هو مفهوم كلي في نفسه كما عرفت.
وكذلك يصحّ المبنى
الثالث القائل بأنّ العلم الإجمالي متعلّق بالواقع والجزئي لا بالجامع ، باعتبار
انّ المفهوم الكلي استخدم بنحو الإشارية في الخارج ، وبهذا النحو من الاستخدام
الإشاري يصبح بهذا النظر جزئيا وإن كان بنفسه كليا إذ نظر الّذي يستخدم إشاريته لا
يراه وسيعا في شخص هذا النظر ، بل يراه ضيقا ، لأنّه في شخص هذا النظر هو معنى
حرفي لأنّ ما يرى هو الخارج ، وليس في الخارج إلّا الجزئيات وبهذا يمكن القول بأنّ
العلم الإجمالي تعلّق بالواقع.
وإن شئت قلت :
وكذلك يصحّ المبنى الثالث القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع والجزئي ،
لأنّ المفهوم الكلي قد استخدم بنحو الإشارية ، فيرى جزئيا.
كما أنّه بما عرفت
يصحّ المبنى الأول ، القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالفرد المردّد ، باعتبار
أنّ المفهوم أخذ على نحو الإشارية ، وهذه الإشارية من ناحيتها لا تعين نوع المشار
إليه بها ، كما لو مدّ شخص
أعمى إصبعه وقال :
«هذا» فإن كان الواقف أمامه «زيد» فسوف يكون هو المشار إليه ، وإن كان «عمرو»
فكذلك ، فهنا لا يقال : إنّ المشار إليه هو الجامع لأنّه لا يشير لذلك ، بل المشار
إليه واحد ، غايته انّ هويته مردّدة وغير متعيّنة ، فهذا كأنّه تردّد في الإشارة
ذاتها وانّها على وجه الترديد ، ولأجل هذا ادّعى صاحب الكفاية «قده» تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد.
وبهذا البيان
تندفع كل الإشكالات الّتي أوردت على المباني الثلاثة.
أمّا ما أورد على
الأول ، من انّ الفرد المردّد يستحيل أن يكون له وجود في الذهن أو في الخارج.
فجوابه : أنّه ليس
المدّعى انّ لهذا الفرد وجودا ليرد هذا الإشكال. بل نقول : إنّ هذا الوجود الذهني
المستخدم بنحو الإشارية قابل للانطباق على هذا الفرد بالخصوص وعلى ذاك الفرد ،
وهذا ليس معناه التردّد ، لا في عالم الذهن ولا في عالم الخارج.
وأمّا ما أورد على
المبنى الثاني للميرزا «قده». من أنّه كيف يقال : بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع
ولا يتعدّاه ، مع انّا لنا علما وجدانيا بما هو أزيد من الجامع ، لأنّنا نعلم
بالبرهان أنّ الجامع لا يوجد إلّا في ضمن حصة ما ـ أي مع الخصوصيّة ـ وهذا معناه
إنّا نعلم بتلك الحصة أيضا.
فجوابه : يتضح بما
تقدّم لأنّنا نقول : إنّ العلم الإجمالي علم بالجامع الكلي ، إلّا أنّ هذا الجامع
الكلي استخدم بنحو الإشارية ، كما
__________________
عرفت ، وبهذا
الإشاري لا نرى سعة في مقام التطبيق ، وبهذا اللحاظ نرى المفهوم جزئيا بالمعنى
المتقدّم ، ومعه فنحن لا نعلم بأزيد ممّا نرى ليرد الإشكال ، إذ إنّنا نرى شيئا
ليس له سعة في مقام التطبيق ، وعليه : فلا يقال إنّنا نحتاج إلى ضمّ خصوصية في
مقام التطبيق.
وأمّا ما أورد على
المبنى الثالث ، من انّ العلم الإجمالي إذا كان متعلّقا بالواقع ، فحينئذ نسأل :
انّ حدّ الواقع الّذي به صار الواقع جزئيا هل هو داخل في تلك الصورة العلمية أو لا؟
فإن كان داخلا ، إذن لا يبقى فرق بين التفصيلي والإجمالي ، وإن كان خارجا ، إذن
تكون الصورة كليّة لا جزئية.
فجوابه : إنّا
نختار ، انّ الحدّ غير داخل في الصورة ، فتكون الصورة كلية ، إلّا أنّ الجزئية
جاءت من ناحية كيفية استخدام هذا المفهوم الكلي ، حيث استخدم بنحو الإشارية ، وهو
بهذا الاستخدام يرى ضيّقا وجزئيا كما عرفت.
وبما ذكرنا نكون
قد توصلنا إلى نظرية واضحة عن العلم الإجمالي ، وهذه النظرية تجمع بين المباني
الثلاثة المذكورة من حيث أنظارها ، كما تندفع بها كل الإشكالات الّتي أوردت عليها.
وحاصل هذا المدّعى
، هو أنّنا نقول : بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بمفهوم كلي جامع ، إلّا أنّ هذا
المفهوم يستخدم بنحو الإشارية ، وهذا الاستخدام ليس معناه انّنا نضيف مفهوما إلى
مفهوم ، بل هو طرز من النظر لهذا المفهوم ، ونفس ما ذكرنا ينطبق على العلم
التفصيلي ، فأيضا هو متعلّق بجامع كلي بحسب الحقيقة ، ولا يخرج عن الكلية إلى
الجزئية بنفسه ، لما بيّناه من أنّ المفهوم لا يصبح جزئيا في عالم الذهن وإنّما
يكون مستخدما بنحو الإشارية للخارج ، لكن الإشارية تارة تكون من ناحية إشاريتها
معيّنة لمطابقها في الخارج ، وأخرى لا تكون كذلك ، فإن
عينت مطابقها في
الخارج بحيث لو رفعنا هذا ، ووضعنا ذاك مكانه لما حصل التطابق من هذه الناحية ،
فهذا العلم التفصيلي ، وإلّا فهو العلم الإجمالي.
والخلاصة : هي انّ
نفس ما ذكرناه هنا في المقدّمة يجري في العلم التفصيلي ، فإنّه هو أيضا متعلّق
بجامع كلي مستخدم بنحو الإشارية غاية الأمر هو انّ مطابقه في الخارج متعيّن ،
بخلاف العلم الإجمالي ، فإنّ مطابقه غير متعين لأنّ الإشارية به على نحو الترديد.
هذا هو حاصل
المقدّمة والنكتة في تحقيق حقيقة العلم الإجمالي باعتبار متعلقه.
إذا عرفت ذلك نرجع
إلى أصل البحث ، وهو منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.
فنقول : إنّه بناء
على مبنانا في إنكار قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ، فإنّه يكفي الاحتمال ، وحينئذ
، لا إشكال في منجزيته ولا موضوع لهذا الكلام أصلا ، وإنّما تتفرع هذه المباني
الثلاثة المتقدّمة على القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ حينئذ يقال : إنّه
ما الّذي أخرجه العلم الإجمالي من اللّابيان إلى البيان ، وهل يستدعي وجوب
الموافقة القطعية أو لا يستدعي؟.
وقد أشرنا إلى
المسالك الثلاثة ، حيث كان الأول منها يقول : بأنّ العلم الإجمالي يؤثر في وجوب
الموافقة القطعية تأثيرا مباشرا.
وكان المسلك
الثاني منها يقول : بأنّه يؤثر فيها ، لكن لا مباشرة ، بل بالواسطة.
وكان المسلك
الثالث منها ـ وهو المختار ـ يقول : بالتفصيل بين الموارد ، بناء على القاعدة
المذكورة ، فهو في بعض الموارد لا ينجز
وجوب الموافقة
القطعية لا بصورة مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، وفي بعضها يؤثر فيكون منجزا بشكل
مباشر.
والآن نبدأ بتحقيق
المسلك الثالث ـ المختار ـ وبعد تحقيقه نأتي إلى معالجة الأول ، والثاني ، والمسلك
الثالث هذا ينقسم إلى دعويين.
١ ـ الدعوى الأولى
: هي انّ العلم الإجمالي لا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية في الشّبهات الحكمية
عند ما يكون مقرونا بها ، كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فهنا لا
يقتضي ولا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية لا بصورة مباشرة ، ولا غير مباشرة.
٢ ـ الدعوى
الثانية : هي انّ العلم الإجمالي يؤثر في تنجيز الموافقة القطعية في الشّبهات
الموضوعية فيما إذا كانت مقرونة بالعلم الإجمالي ، كما إذا علم أساسا بوجوب إكرام
كل عالم ، وعلم إجمالا بأنّ أحد الفردين عالم ، «إمّا زيد ، وإمّا عمرو» ، ففي
مثله ، العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية.
وقبل تعميق هاتين
الدعويين ، نتناول دعوى مشتركة بينهما ، وهي عبارة عن مقدّمة مفروغ عنها كأصل
موضوعي.
وحاصلها : هو أنّه
لا خلاف في أنّ أي مقدار ينجز من التكليف ويدخل في العهدة بحكم العقل ، ويخرج عن
موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، مثل هذا المقدار لا بدّ من موافقته القطعية ،
كما يقال : «بأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» ، بمعنى أنّه بعد فرض دخول
شيء في العهدة ، وتنجز التكليف ، فإنّ العقل لا يكتفي من العبد باحتمال الامتثال ،
بل لا بدّ من الجزم بالامتثال ، وهذا واضح كبرويا ، ومن أجله لم يستشكل أحد في
موارد العلم التفصيلي فيما لو علم تفصيلا بوجوب صلاة العصر وشك في الإتيان بها
وعدمه وهو في داخل الوقت ، لم
يستشكل أحد في
أنّه لا يكفي مجرد احتمال الامتثال للتأمين ، بل لا بدّ من تحصيل الجزم بالإتيان
بها ، لأنّ الوجوب خرج عن اللّابيان إلى البيان ودخل في العهدة ، وهذا مفروغ عنه
فإنّهم قالوا بأنّ الشك في أصل التكليف مؤمّن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا
إذا تنجز التكليف وشك بامتثاله فلا بدّ من الجزم بامتثاله لخروجه من اللّابيان إلى
البيان ، ومعه لا بدّ من تفريغ الذمّة وهو لا يتمّ إلّا بالعلم بالموافقة القطعية
، إذن فالبحث في العلم الإجمالي بحسب الحقيقة بحث في أنّ المقدار الّذي تنجز من
التكليف وخرج عن اللّابيان إلى البيان بالعلم ، فهذا المقدار بما ذا تحصل موافقته
القطعية ، فهل تحصل بالإتيان بكلا الطرفين ، أو بأحدهما فقط؟ وإن كان من الواضح
أنّ الموافقة القطعية للتكليف الواقعي لا تحصل إلّا بالإتيان بالطرفين بهما معا ،
إذن فالبحث صغروي بلحاظ المقدار المنجز من التكليف ، فلو ثبت أنّ المقدار المنجز
لا تحصل موافقته القطعية إلّا بالإتيان بكلا الطرفين فلا إشكال ، حينئذ في وجوب
الإتيان بهما عقلا ، لأنّه من باب الشك في الامتثال ، وحينئذ ، فالشغل اليقيني
يستدعي الفراغ اليقيني.
وبعد هذه المقدّمة
الّتي تشكّل أصلا موضوعيا للبحث ، نأتي إلى أصل المطلب فنقول :
إنّ الدعوى الأول
تتضمن انّ الشّبهات الحكمية المقرونة بالعلم الإجمالي ، هذا العلم لا ينجز وجوب
الموافقة القطعية ، أي أنّه لا يلزم عقلا الإتيان بالطرفين.
وبيان هذه الدعوى
يكون بتوضيح نكتتين.
١ ـ النكتة الأولى
: هي انّ العلم الإجمالي ينجز المقدار الّذي تعلّق العلم ، لأنّ هذا هو الّذي
يخرجه عن اللّابيان إلى البيان ـ هذا بناء على افتراض تمامية قاعدة قبح العقاب بلا
بيان ـ إذ المقدار الّذي
يخرجه العلم
الإجمالي ، هو الّذي يجعله معلوما ، وأمّا غيره فيبقى تحت قاعدة «قبح العقاب بلا
بيان» إذن ، فمقتضى القسمة ، انّ أيّ مقدار أصبح معلوما يخرج عن قاعدة القبح ويكون
منجزا ، وانّ أيّ مقدار لم يصبح معلوما يبقى تحت قاعدة القبح.
ومن الواضح ، انّ
العلم الإجمالي لا يجعلنا عالمين بأزيد من الجامع ، إذ أنّ المعلوم بالعلم
الإجمالي هو الجامع فقط ، على جميع المباني المتقدّمة في تفسير العلم الإجمالي.
أمّا بناء على
مبنى الميرزا «قده» من تعلقه بالجامع فالأمر واضح ، وكذلك بناء على مبناه بعد
تنقيح كلامه «قده» كما تقدّم ، من انّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع على نحو
الإشارية إلى الواقع لأنّ الإشارية غير المعلومية حيث انّ نسبة الإشارية إلى كل من
الفردين على حدّ واحد ، إذن ، فهي إشارة مردّدة ، إذن فهي لا تعيّن أحد الفردين
ومعه فالإشارة لا توصل إلينا أكثر من الجامع ، إذن فحالها كحاله.
بل الأمر كذلك على
مبنى المحقّق العراقي «قده» لو جمدنا على حرفيّة كلماته ، حيث يقول : إنّ العلم
الإجمالي يتعلّق بالواقع ، لكن بالبيان الّذي نقلناه عنه ، وهو ، «انّ الصورة
العلمية يختلط فيها جانب الوضوح مع جانب الخفاء» ، ـ وهو بهذا يفرّق بين صورتي
العلم الإجمالي ، والتفصيلي ـ ولكن حينئذ ، الأمر أيضا كذلك ، لأنّ الحد الشخصي
للواقع وإن كان داخلا في الصورة العلمية ، لكنّه داخل في الجانب المجمل من الصورة
، لا في الجانب المبيّن ، وحينئذ لا يكون البيان تاما على هذا الحد ، لأنّ تماميته
مبنية على الصورة الواضحة ، ومن الواضح ، انّ الوضوح إنّما يكون تاما على الجامع.
إذن فعلى جميع هذه
المباني ، العلم الإجمالي لا يؤدّي إلى تمامية البيان إلّا على الجامع ، إذن فلا
ينجز إلّا الجامع.
٢ ـ النكتة
الثانية : هي انّ هذا الجامع الّذي اشتغلت به الذمّة عقلا وتنجز ، إنّما تحصل
موافقته القطعية بالإتيان به ، والإتيان بالجامع يكون بالإتيان بأحد أطرافه ، لأنّ
وجوده إنّما هو بأطرافه ، فوجودها ، أو وجود فرد منها وجود للجامع لا محالة ،
وحينئذ ، يكون الإتيان بطرف من أطرافه موافقة قطعية للمقدار المنجز ، وإن لم يكن
موافقة قطعية للتكليف الواقعي ، وحينئذ ، إذا ضممنا هذه النكتة إلى النكتة الأولى
، يثبت انّ العلم الإجمالي لا يستدعي الإتيان بكلا الطرفين المعلومين بالإجمال معا
، لأنّه لا ينجز إلّا بقدر المعلوم ، والمعلوم ليس إلّا الجامع كما في الأولى ،
والإتيان بأحد طرفي الجامع هو امتثال له كما بيّناه ، والحاصل هو ، انّ العلم
الإجمالي لا يستدعي إلّا إتيان أحد الطرفين المعلومين بالإجمال لأنّه لا ينجز إلّا
الجامع ، وما زاد عن الجامع يبقى تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وأمّا الدعوى
الثانية : فهي انّ العلم الإجمالي في موارد الشّبهات الموضوعية المقرونة به يكون
مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنفسه ومباشرة ، وكنّا قد قلنا إنّ الأصل الموضوعي
هو أنّ التكليف بمقدار ما يتنجز يدخل تحت البيان ، ومعه تجب موافقته القطعية لأنّ
دخوله تحت البيان انشغال للذمّة يقينا ، وهو يستدعي الفراغ اليقيني ولا يكفي
احتمال الموافقة والفراغ ، كما أنّ برهان الدعوى الأولى كان يقول : إنّ المقدار
المنجز بالعلم الإجمالي إنّما هو الجامع لا الواقع ، وموافقة الجامع تحصل بالإتيان
بأحد مصداقيه.
وعلى ضوء هذا ندخل
في الدعوى الثانية الّتي مفادها ، انّ العلم الإجمالي المقرونة به الشّبهات
الموضوعية يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنفسه ومباشرة ، كما لو علم بوجوب
إكرام كل عالم ، وعلم إجمالا بأنّ أحد الفردين ، إمّا زيد ، وإمّا عمرو هو عالم ،
وحينئذ ،
فهذه شبهة موضوعية
تشكل منها علم إجمالي بوجوب أحد الفردين ، وهذا العلم الإجمالي نشأ من تردّد القيد
بين الفردين ، وحينئذ يقال : بأنّ العلم الإجمالي لا يكتفي في مقام امتثاله بإكرام
زيد وحده ، أو عمرو وحده ، بل لا بدّ من إكرام كلا الفردين وهذا معنى انّ العلم
الإجمالي يؤثر بنفسه في وجوب الموافقة القطعية.
وبرهان ذلك هو ،
انّ العلم هنا ، تعلّق بوجوب إكرام العالم ، ووجوب إكرامه ينحل إلى العلم بوجوبين
ضمنيين ، أحدهما : وجوب ذات الإكرام ، والآخر : وجوب إكرام متقيد بكونه عالما ،
ولهذا لو أكرم غير العالم ، لم يكن ممتثلا ، إذن ، فالتقيد مأخوذ تحت الأمر ، أي
أنّه داخل في العهدة ، إذن ، كلا هذين الوجوبين داخل في عهدة المكلّف للعلم بهما
وخارج عن اللّابيان إلى البيان ، وحينئذ ، لا يمكن الخروج عن عهدتهما إلّا بإكرام
كلا الفردين حيث أنّه بإكرامهما تتحقّق الموافقة القطعية بناء على الأصل الموضوعي
كما تقدّم ، ومن الواضح انّ هذا المكلّف لو أكرم زيدا فقط ، فهنا تحقّق الإكرام
لكن لم يحرز تقييد الإكرام بالعالم وإن كان زيد أحد طرفي العلم الإجمالي لأنّه لم
يحرز انطباق التقييد المعلوم وجوبه على ما وقع خارجا ، والمفروض هو أن مقتضى قاعدة
انّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، هو لزوم الإتيان بإكرام كلا الفردين لكي
يحصل جزم بأن تقيد الإكرام بالعالم قد تحقّق خارجا.
إذن ففرق بين
موارد الشّبهات الموضوعية وموارد الشّبهات الحكمية ، ففي الحكمية لم يعلم بعروض
الوجوب إلّا على الجامع بين الفعلين ، وهذا الجامع بما هو جامع معلوم الانطباق على
الفرد المأتي به خارجا ، إذن فالموافقة القطعية على ما علم بوجوبه حاصلة ، وهذا
بخلافه في الشّبهات الموضوعية ، حيث أنّه لم يعلم بوجوب إكرام
الجامع بين
الفردين فقط ، بل علم بوجوب إكرام العالم فيهما ، وحيث أنّه لم يعلم أيّهما العالم
، إذن فقد دخل في العهدة وجوب إكرام العالم ، ومعنى وجوب إكرامه يعني : وجوب إكرام
مقيد بأن يكون عارضا على العالم ، إذن ، فتقييد الإكرام بالعلم أيضا وجوبه دخل تحت
العهدة وصار يحتاج إلى الفراغ اليقيني ، ولا يحصل الفراغ اليقيني إلّا بإيجاد كلا
الإكرامين ، إكرام زيد وإكرام عمرو.
وبالتدقيق يظهر
أنّ فذلكة هذه النكتة ليست قائمة في الشبهة الموضوعية على الإطلاق ، بل قائمة بأن
يكون العلم الإجمالي ناشئا من التردّد في قيد مأخوذ في الأمر قد تقيّد الواجب به ،
ففي مثله تأتي هذه النكتة ، حيث يعلم أنّ هنا تقييدا «ما» تحت الأمر ، ولا يعلم
بانطباقه على الخارج إلّا بإتيان كلا الفردين.
وأمّا إذا فرض أنّ
الشبهة موضوعية ولكن بلحاظ قيد الوجوب محضا من دون أن يكون هناك تقييد مأخوذ تحت
الأمر ، فحينئذ لا تأتي هذه النكتة ، ومثاله : أن نفرض أنّ المولى يقول : إذا جاء
الحجاج من الحج فتصدّق بدرهم ، وإذا جاء الزوّار من الزيارة فصلّ ركعتين ، وعلمنا
إجمالا بأنّه تحقّق أحد الأمرين ، فهنا علم إجمالي بوجوب أحد الأمرين ، وهذا العلم
الإجمالي نشأ من شبهة موضوعية ، لأنّه ناشئ من الشكّ في تحقّق الموضوع خارجا ، أي
في تحقّق شرط الوجوب خارجا ، لكن مع هذا ، فهذه الشبهة الموضوعية تشبه الشبهة
الحكمية ، لأنّه ليس هناك شيء تحت العهدة سوى ذات الفعل ، إمّا ذات التصدّق بدرهم
، أو ذات الصّلاة ، فهنا تقيّد الفعل بوصف مخصوص قائم بفعل خارجي لم يؤخذ تحت
الأمر ، إذن فنحن نعلم بوجوب الجامع ، وهذا يتحقّق بالإتيان بأحد الفردين ، وبهذا
تتحقّق الموافقة للمقدار المعلوم بالتكليف ، وهو الجامع.
وأين هذا من إكرام
العالم ، إذن فالميزان في وجوب الموافقة القطعية ليس هو مطلق كون الشبهة موضوعية ،
بل كون الشبهة موضوعية بلحاظ تقييدها بقيد داخل تحت الأمر ، فإذا كانت كذلك ،
حينئذ لا بدّ من الجزم ، ولا جزم إلّا بالجمع بين الطرفين ، وبهذا يتمّ برهان الدعوى
الثانية ، وبه يتمّ تنقيح مسلكنا.
والخلاصة هي : إنّ
الميزان في وجوب الموافقة القطعية ليس هو كون الشبهة موضوعية ، بل هو كون العلم
الإجمالي ناشئا من التردّد في قيد مأخوذ تحت الأمر وداخل في العهدة كما عرفت في
المثال ، وإلّا فقد تكون الشبهة موضوعية ومع ذلك لا تجب الموافقة القطعية كما لو
قيل : «إذا جاء زيد فأكرمه» ، وقيل : «إذا جاء عمرو فأكرمه» ، وعلمنا بمجيء أحدهما
إجمالا ، فيتحقّق عندنا علم إجمالي بوجوب إكرام أحدهما ، وهذا العلم الإجمالي نشأ
من شبهة موضوعية ، لأنّه ناشئ من الشك في تحقق شرط الوجوب خارجا ، ومع ذلك لا تجب
الموافقة القطعية ، بل يكتفي بإكرام أحدهما ، لأنّ الداخل في عهدة المكلّف هو ذات
الإكرام ، من دون تقييد بأيّ وصف مخصوص ، وعليه فنحن نعلم بوجوب الجامع وهذا
يتحقّق بإكرام أحد الفردين.
٢ ـ المسلك الثاني
: وهو للميرزا «قده» كما في أجود التقريرات حيث ذهب إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضى بنفسه وجوب
الموافقة القطعية ولا يؤثر بذلك أصلا بصورة مباشرة ، ولكن يؤثر بصورة غير مباشرة ،
وهذا المسلك ينحل إلى دعويين.
١ ـ الدعوى الأولى
: هي أنّ العلم الإجمالي لا يؤثر تأثيرا مباشرا في وجوب الموافقة القطعية ، وقد
استدلّ على هذه الدعوى ، بأنّ العلم
__________________
الإجمالي يتعلّق
بالجامع ، إذن فهو لا ينجز سوى الجامع ، والجامع يتحقّق بأحد الفردين ، وأحدهما قد
تحقّق خارجا.
٢ ـ الدعوى
الثانية : هي أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية بالواسطة ، واستدلّ
على هذه الدعوى ، بأنّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعية ، وهذه الحرمة
علّة لتعارض الأصول ، والتعارض يوجب تساقطها ، وهذا يعني أنّ كل شبهة في كل طرف
تبقى شبهة بلا أصل مؤمّن ، وهذا وحده يكفي في التنجيز ، وهذا التنجيز وإن كان
تنجيزا بالاحتمال لا بالعلم ، لكن هذا التنجيز الاحتمالي من بركات العلم ، لأنّ
هذا التنجيز إنّما حدث بسبب تساقط الأصول في الأطراف ، إذ لو لا ذلك لما كان
الاحتمال منجزا ، وتساقط الأصول نشأ من التعارض ، والتعارض معلول لحرمة المخالفة
القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية هذه ، معلولة للعلم الإجمالي ، وبذلك يكون هذا
التنجيز من تبعات العلم الإجمالي ، لكن بالواسطة كما عرفت ، ومن هنا صحّ القول :
بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية بالواسطة لا مباشرة.
ولنا تعليق على كل
من هاتين الدعويّين.
أمّا ما جاء في
دعواه الأولى ، وإن كنّا نوافق عليه بالجملة ، حيث كنّا نقول : إنّ العلم الإجمالي
لا يقتضي أصلا وجوب الموافقة القطعية ، بل نرى ذلك على جميع المباني في العلم
الإجمالي ، لا على خصوص مبنى الميرزا «قده» ، لكن لا على الإطلاق بل على التفصيل
الّذي ذكرناه ، حيث أنّنا بيّنا أنّه في الشّبهات الموضوعية عند ما يكون التردّد
فيها في التقيّد المردّد دخوله تحت الأمر المعلوم ، حينئذ يكون العلم الإجمالي
منجزا لوجوب الموافقة القطعية ، وكلام الميرزا «قده» وإن كان صحيحا في أصل الدعوى
، لكن ينبغي أن يفصل ويخصصها بموارد الشبهة الحكمية ، وعليه : فإطلاق الدعوى
الأولى غير تام.
وأمّا ما جاء في
الدعوى الثانية : وهو أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية ، وحرمة
المخالفة القطعية تستدعي تعارض الأصول ، وتعارضها يستدعي التساقط ، فيكون العلم
الإجمالي منجزا.
فهنا نسأل : أنّه
ما هو المقصود بالأصول المتعارضة ، ومن ثمّ المتساقطة؟
فهل المقصود بها
كلتا البراءتين ، الشرعية والعقلية ، أو خصوص الشرعية؟.
فإن أريد مطلق
البراءة ، حيث يقال : بأنّه كما يتمّ في الشرعية ، يتمّ في العقلية ، لأنّه كما
يقال في البراءة الشرعية أنّ جريانها في هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، وكذلك في
ذاك ، وجريانها فيهما معا غير معقول لاستلزام المخالفة القطعية ، كذلك يقال في
البراءة العقلية حيث يقال : إنّنا نتعامل مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان كذلك.
ولكن هذا غير
معقول ، لأنّ البراءة العقلية حكم عقلي ، ولا تعارض في أحكام العقل بحسب مقام
الإثبات ، وإنّما يجب أن ينظر إلى ملاكها بحسب مقام الثبوت ، وحينئذ يقال : بأنّ
البراءة العقلية ملاكها تام في كلا الطرفين إذا لوحظت الخصوصية ، بمعنى أنّ كلا
الطرفين مجرى للبراءة العقلية بخصوصه ، لأنّه لم يتمّ عليه البيان ، ولا يلزم
الترخيص في المخالفة القطعية ، فإنّ وجوب الظهر بما هو وجوب الظهر ، هو مجرى
للبراءة ، وكذلك الجمعة ، لأنّ التأمين بلحاظ الخصوصية لا يلزم منه التأمين بلحاظ
الجامع الموجود في ضمن الخصوصية.
وهذا التحليل لا
نجريه في أدلة الأصول الشرعية ، لأنّه غير عرفي ، لأنّ أدلة الأصول الشرعية خطابات
عرفية ، وهذا التحليل ليس عرفيا ، بأن يقال : بأنّنا نؤمّن عن الخصوصية مع تنجيز
الجامع الموجود في
ضمن الخصوصية ،
فمثل هذا غير عرفي ، لكن عند الكلام عن البراءة العقلية لا نتعامل مع دليل لفظي
ليجري فيه ذلك ، بل يكون التعامل مع قانون عقلي ، فلا بدّ من تطبيقه بالدقة ،
ومقتضى ذلك القول بأنّ اللّابيان يؤمن بمقداره ، والبيان ينجز بمقداره ، ومحطّ
البيان غير محطّ اللّابيان ، إذ محطّ البيان هو الجامع إذن فينجز الوجوب بما هو
مضاف للجامع ، ويؤمن عنه بما هو مضاف للفرد ولا تنافي.
إذن ، إذا كان
المقصود بتعارض الأصول ، تعارض كل البراءات حتّى العقلية ، فهذا غير صحيح ، لأنّ
البراءتين العقليتين لا تعارض بينهما.
وإن كان المقصود
بتعارض الأصول البراءة الشرعية فقط ، فلا بأس بذلك ، لأنّه يبقى عندنا مؤمن ، وهو
البراءة العقلية بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذن فمسلك الميرزا «قده»
غير تام مبنى.
وإن شئت قلت :
انّه إذا كان المقصود من الأصول الّتي تعارضت وتساقطت ، هي خصوص البراءات الشرعية
، فهذا صحيح ، ولكن تبقى البراءة العقلية ، وتكون مؤمّنة ، ومعه لا يتمّ ما ذكره
من التنجيز بالواسطة.
وإن كان المقصود
من الأصول ما يشمل البراءات العقلية أيضا ، فهذا غير ممكن ، لأنّ البراءة العقلية
حكم عقلي ، ولا تعارض بين أحكام العقل بحسب مقام الإثبات ، وحينئذ ، فلا بدّ من
النظر إلى ملاكها بحسب مقام الثبوت ، وحينئذ يقال : بأنّ ملاكها ، وهو قبح العقاب
بلا بيان ، تام في كل من الطرفين ، لأنّ كلا منهما بخصوصه لا بيان عليه ، وهذا لا
يلزمه الترخيص في المخالفة القطعية ، لأنّ الجامع بين الفردين قد تمّ عليه البيان
، فيكون منجزا بمقداره ، ويجب إيجاده ولو بأحد فرديه ، ويكون مؤمّنا عنه بما هو
مضاف لهذا الفرد ولا تنافي.
والحاصل : هو أنّه
لمّا كانت البراءة العقلية حكما عقليا ، فلا بدّ من الدقة في مقام تطبيقها ،
والدقة تقتضي ما ذكرناه من تنجيز الجامع ، لتمامية البيان عليه ، وعدم تنجيز كل
فرد بخصوصه ، لعدم تمامية البيان عليه.
وهذا الكلام لا
يجري في البراءة الشرعية ، لأنّ أدلة الأصول الشرعية خطابات عرفية ومعه لا بدّ من
تحليلها تحليلا عرفيا لا عقليا.
وبهذا ثبت أنّ
إثبات منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بالواسطة بالنحو الّذي ذكره
الميرزا غير تام على مبنى الميرزا «قده» ، حيث أنّه يعترف بالبراءة العقلية ، لأنّ
هذه البراءة تكون مؤمنة عن كل طرف بخصوصه ، وإن لم تؤمّن عن الجامع ، إلّا أنّ
إيجاد الجامع يتحقّق بأحد الفردين كما عرفت.
أمّا المسلك الأول
، الّذي هو مسلك المشهور ، كما أنّه مسلك الميرزا «قده» في تقرير فوائد الأصول والّذي حاصله : إنّ العلم الإجمالي يؤثر بنفسه في وجوب
الموافقة القطعية ، ولعلّ أشدّ النّاس تعصبا لهذا المسلك هو المحقّق العراقي «قده»
حيث ذكر انّ تأثيره في ذلك إنّما هو على نحو العليّة ، ولأنّ كلامنا في أصل
التأثير ، فلا يتحصل من فوائد الأصول معنى فنيا لتقريب هذا المدّعى ، نعم يمكن أن
نستنتج من كلمات العراقي «قده» ـ على ما في بعضها من التشويش ـ بيانين في مقام
الاستدلال على هذا المسلك.
١ ـ البيان الأول
: وهو مركّب من ثلاث نقاط.
__________________
أ ـ النقطة الأولى
: هي انّ هناك فرقا بين العلم والتنجز ، حيث أنّ العلم صفة للصورة الذهنية القائمة
في أفق النّفس.
وأمّا التنجز فهو
صفة للحكم الشرعي الواقعي القائم في لوح التشريع.
إذن فلا يمكن أن
يقاس التنجز بالعلم وأنّه مثله بأن يقال : انّ التنجيز كالعلم ، فكما انّ العلم
يقف على الجامع ولا يسري منه إلى أفراده فكذلك التنجز لا يسري من الجامع إلى
الخارج ، وقد عرفت أنّه يوجد فرق بين العلم والتنجز ، إذ ما هو معروض التنجز مختلف
سنخا عمّا هو معروض العلم ، لوضوح انّ العلم لا يتعلّق بالخارج ابتداء ، وإلّا لما
أمكن فيه وقوع الخطأ أصلا في تحقّق معلومه ومتعلقه ، بينما العلوم الخاطئة كثيرة ،
وإنّما متعلّق العلم هو الصور الذهنية الحاكية عمّا في الخارج.
ب ـ النقطة
الثانية : هي أنّه بعد أن عرفنا انّ التنجز صفة للواقع الخارجي للحكم ، فمن الواضح
أنّ الواقع الخارجي للحكم إنّما يتصف بالتنجز إذا كان واصلا ومبينا ، لأنّه مع عدم
وصوله وبيانه تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لكن لا نريد بالعلم هنا ،
العلم المتعلق بنفس الواقع الخارجي ، لأنّ هذا غير معقول كما عرفت في النقطة
الأولى ، لأنّ العلم التفصيلي فضلا عن العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع الخارجي ،
إذ لو شرطنا أن يتعلّق به العلم مباشرة لانسدّ باب التنجز.
وعليه : فالعلم
المنجز إنّما هو العلم بالصورة الواقعية ، باعتبار أنّ العلم يعرض على الصور
الذهنية المطابقة للواقع الخارجي الحاكية عنه ، فمعنى أنّ الواقع الخارجي للحكم
الشرعي يتنجز بالعلم ، يعني يتنجز إذا علم بصورة ذهنية له حاكية عن ذلك الواقع
الخارجي ومطابقة له ، يكون حينئذ منجزا.
والحاصل هو ، انّ
الواقع الخارجي للحكم إنّما يتصف بالتنجز إذا كان معلوما ، وإلّا ، فتجري فيه
قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويقصد بالعلم المنجز ، العلم بالصورة الذهنية
المطابقة للواقع الخارجي والحاكية عنه كما عرفت في النقطة الأولى ، من أنّ العلم
صفة لتلك الصورة ويتعلّق بها لا بالواقع الخارجي ، وإلّا لما أخطأ العلم أصلا ،
وهو خلاف الوجدان.
وعليه : فمعنى
تنجز الواقع الخارجي بالعلم ، يعني إذا علم بصورة ذهنية حاكية له حاكية عنه
ومطابقة له ، يكون حينئذ منجزا.
ج ـ النقطة
الثالثة : هي انّ هذا الواقع الخارجي ، هناك صورتان ذهنيتان قابلتان للحكاية عنه.
إحداهما : صورة
ذات حدّ تفصيلي ، وهي المسمّاة بالصورة التفصيلية ، وهي الّتي يعرض عليها العلم
التفصيلي.
والثانية : هي
صورة ذات حدّ إجمالي ، وهي المسمّاة بالصورة الإجمالية ، وهي الّتي يعرض عليها
العلم الإجمالي.
وكل من هاتين
الصورتين تكون بإزاء الواقع بشخصه ، غايته ، أنّ إحداهما مفصّلة ، والأخرى مجملة ،
كما عرفت في مبنى العراقي «قده».
نعم الواقع
الخارجي ليس له حدّ تفصيلي وآخر إجمالي ، لأنّ الإجمال والتفصيل من شئون الحكائية
، وهذه تكون للصورة ، لا لذي الصورة الّذي هو الواقع الخارجي.
فالواقع الخارجي
دائما له حد شخصي واقعي محفوظ ، به يكون الواقع شخصا من الأشخاص ، حيث لا يقال عنه
تفصيلي أو إجمالي ، لكن هذا الواقع بهذا الحدّ الشخصي هناك صورتان ذهنيتان قابلتان
للحكاية عنه ، إحداهما : صورة مفصلة ، وأخرى إجمالية.
والخلاصة : هي انّ
هذا الواقع الخارجي له صورتان ذهنيتان قابلتان للحكاية عنه والمطابقة له ، إحداهما
تفصيلية ، وأخرى إجمالية كما عرفت في مبنى العراقي «قده».
إذا اتضحت هذه
النقاط الثلاث ، حينئذ نستخرج النتيجة ، حيث ذكرنا في النقطة الأولى ، إنّ التنجيز
ليس من شئون الوجود الذهني والصورة الذهنية كما هو الحال في العلم ، إذن ، فلا
معنى لما يقال ، من أنّه إذا لم يكن العلم ساريا من الصورة الإجمالية إلى الواقع
الخارجي ، إذن التنجز أيضا لا يسري من الصورة الإجمالية إلى الواقع الخارجي ، فهذا
الكلام لا معنى له ، لأنّ التنجز ابتداء ، مصبّه الواقع الخارجي ، وليس مقصودنا من
تنجز الواقع الخارجي عند العلم به ، انّ العلم ينصبّ ابتداء على الواقع الخارجي ،
إذ عرفت استحالة هذا في النقطة الثانية ، بل مقصودنا من العلم بالواقع الخارجي ،
هو أن يعلم بصورة ذهنية مطابقة معه وحاكية عنه ، وقد عرفت في النقطة الثالثة أنّ
هناك صورتان مطابقتان حاكيتان عن هذا الواقع الخارجي ، إحداهما ، إجمالية ،
والأخرى تفصيلية ، وحينئذ يقال : كما يتنجز هذا الواقع بتعلّق العلم بصورة تفصيلية
له ، كذلك يتنجز بتعلّق العلم بصورة إجمالية له.
والحاصل هو : أنّه
إذا تعلّق العلم الإجمالي بصورة ذهنية لذلك الواقع الخارجي يكون حينئذ منجزا
بمقتضى ما جاء في هذه النقاط كما هو واضح.
هذا حاصل ما
يستفاد من كلام العراقي «قده» كتقريب أول للبرهنة على مؤثريّة العلم الإجمالي في
وجوب الموافقة القطعية.
ولنا حول هذا
الكلام ملاحظتان.
١ ـ الملاحظة
الأولى : وهي ترتبط بالنقطة الأولى ، حيث قال
فيها : «إنّ
التنجز يختلف عن العلم ، وانّ التنجز من شئون الواقع الخارجي».
وهذا الكلام غير
تام ، بل التنجز من شئون الوجود العلمي للحكم ، لا من شئون الوجود الخارجي ، وذلك
لأنّ التنجز عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة ، وتمام موضوع حكم
العقل للاستحقاق هو هذا الوجود العلمي للحكم ، سواء أكان مصادفا أو لا ، بينما
الحكم على وجوده الواقعي ليس موضوعا للتنجز ولا جزء الموضوع لذلك وعلى هذا ترتب
استحقاق عقاب المتجري ، وحينئذ ، إذا لم يسر الوجود العلمي من الجامع إلى الفرد
يصحّ أن نقول : انّ التنجز لا يسري من الجامع إلى الفرد ، لأنّ المتنجز يضع قدمه
في المكان الّذي يضع العلم قدمه فيه ، وحيث أنّ العلم وضع قدمه على الحكم فكذلك
التنجز.
والحاصل هو انّ ما
ذكر في النقطة الأولى ، من أنّ التنجز من شئون الواقع الخارجي للحكم ، غير صحيح ،
بل هو من شئون الوجود العلمي له ، لأنّ التنجز عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب
، وموضوع حكم العقل بذلك هو الوجود العلمي للحكم ، سواء أكان مطابقا للواقع أو
مخالفا له ، ومن هنا قلنا باستحقاق المتجري للعقاب ، وحينئذ ، فإذا لم يسر الوجود
العلمي من الجامع إلى الفرد ، فكذلك التنجز لا يسري ، لأنّه منصبّ عليه ومن شئونه
كما عرفت.
٢ ـ الملاحظة
الثانية : هي أنّه لو تنزّلنا وفرضنا انّ التنجز يعرض على الواقع الخارجي للحكم ،
لكن لا مطلقا ، بل يشرط العلم به ، بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ،
حينئذ لا بدّ من تعدّي التنجز بمقدار العلم ، وقد بيّنا أنّ العلم حتّى لو فرض
تعلّقه بصورة إجمالية ، فإنّ هذه الصورة وإن كانت مطابقة مع الواقع ، بمعنى كونها
مشيرة إليه ، لكن ليست مطابقة معه ، بمعنى كونها كاشفة عن حدّه الشخصي ، فإن
أردتم من كون
مطابقة الصورة الإجمالية للواقع ، إنّها مشيرة إليه ، فهذا صحيح ، لكن المشير كما
تكون للمعلوم ، تكون أيضا للمجهول ، لأنّ المشيرية ليست علما ، وإن أردتم بالتطابق
للواقع ، كون الحدّ الشخصي منكشفا بهذه الصورة ، فهذا خلاف الوجدان والبرهان ،
لأنّه ليس بمنكشف فيها ، إذن لا يمكن سراية التنجز إلى الحدّ الشخصي.
وإن شئت قلت :
انّه لو تنزلنا وفرضنا أنّ التنجز من شئون الواقع الخارجي ويعرض عليه بشرط العلم
به ، حينئذ لا بدّ من تقرير التنجز بمقدار العلم ، ولمّا كانت الصورة الإجمالية
مطابقة للواقع بمعنى كونها مشيرة له ، لا بمعنى كونها كاشفة عن حدّه الشخصي ،
فحينئذ لا يمكن سريان التنجز إلى الحدّ الشخصي ، لعدم كشف الصورة الإجمالية عنه ،
فلا يكون متعلّقا للعلم الإجمالي ليتنجز به.
٢ ـ البيان الثاني
: المستفاد من كلمات العراقي «قده» ، هو أنّ العلم الإجمالي وإن تعلّق بالجامع ، إلّا أنّه
تعلّق فرغ عن انطباقه وتخصّصه ، لا بجامع لم ينطبق ولم يتخصّص كما في موارد الوجوب
التخيري حينما يتعلّق الوجوب بالجامع ، فالوجوب تعلّق بجامع لم يفرغ عن تخصيصه ،
ومن هنا لا يتنجز سوى الجامع ولا تتنجز الخصوصية ، بينما هنا ، العلم تعلّق بجامع
فرغ عن تخصيصه في المرتبة السابقة فيكون منجزا للخصوصية.
وإن شئت قلت : انّ
العلم الإجمالي وإن تعلّق بالجامع ، إلّا أنّه تعلّق بجامع فرغ تخصّصه ، وحينئذ
يكون العلم الإجمالي منجزا للخصوصية أيضا ، وهذا بخلاف الجامع في مورد تعلّق
الوجوب التخيري به حيث لم يفرغ عن تخصّصه ، ومن هنا لا يتنجز غير الجامع.
__________________
وهذا البيان غير
تام لأنّه إن أراد بالجامع في مرحلة تعلّق العلم به وأنّه مفروغ عن تخصيصه ، إن
أراد واقع الخصوصية ، وما هو بالحمل الشائع خصوصية ، فهذا غير موجود في مرحلة
تعلّق العلم به ، لأنّ الخصوصية بالحمل الشائع غير معلومة ، وإن أراد بها مفهوم
الخصوصية أي الخصوصية بالحمل الأولي ، والعلم بجامع الخصوصية ، فهو بنفسه جامع ،
والعلم به لا يوجب أكثر من تنجز هذا الحدّ الجامعي دون أن يسري التنجز منه إلى ما
لا بيان له.
والحاصل انّ هذا
خلط بين الخصوصية بالحمل الأولي الذاتي ، وبينها بالحمل الشائع ، فإنّ المفروغ عنه
وهو الخصوصية بالحمل الأولي هو الجامع حقيقة ، وما يراد تنجيزه هو الخصوصية بالحمل
الشائع.
والحقيقة هي انّ
ما ذهب إليه هؤلاء الأعلام في بياناتهم كلها نشأت من ضيق الخناق ، لأنّ هؤلاء
الأصحاب ألزموا أنفسهم بما لا ملزم به ، وهو الجمود على قاعدة «قبح العقاب بلا
بيان» وحينئذ وقع التزاحم بين الإشكالات الواردة على تقريباتهم وبين هذه القاعدة
وكأنّها برهان عقلي ، فوقعوا في حيرة بين هذه القاعدة وبين وجدانهم ، حيث أنّ
الوجدان العرفي لا يحتمل أنّ العبد إذا علم إجمالا انّ المولى أوجب إمّا الظهر ،
وإمّا الجمعة ، أن يقول : انّ هذا العلم لا يقتضي منّي أكثر من الإتيان بكلا
الفردين ، فهذا غير محتمل ، بل الوجدان العرفي قاض بأنّ وجوب الموافقة القطعية من
الواضحات ، ومن أنّه مؤمّن عقلائيا إذا اقتصر على أحد الفردين ، ويقطع النظر عن
باقي المؤمّنات ، ولو أنّهم رفعوا أيديهم ابتداء عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ،
أو في الجملة لما وقعوا في ذلك ، فيقال بقبح العقاب بلا بيان في بعض الموارد ،
وذلك كما لو كان الوجوب الواقعي مصداقا لجامع تمّ البيان على جامعيته ، إذ حينئذ
يرتفع الإشكال عنهم برفع اليد عن هذه القاعدة إمّا كلية كما
اخترناه وهو
الصحيح ، أو في الجملة ويقال حينئذ أنّه لا يحكم العقل بقبح العقاب إذا كان الوجوب
الواقعي مصداقا لجامع تمّ بيانه حيث أنّ العلم الإجمالي يقتضي التنجز سواء قبلت
قاعدة قبح العقاب أو لم تقبل.
والخلاصة هي انّ
ما ذهب إليه هؤلاء الأعلام من كون العلم الإجمالي مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية
، أمر وجداني لا إشكال فيه ، لكن الإشكالات الواردة على تقريباتهم لهذا المطلب ،
نشأت من التزاحم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ ، فلا يرتفع الإشكال عنهم
إلّا برفع اليد عن هذه القاعدة رأسا ، كما اخترناه ، أو في الجملة ، فيقال : انّه
لا يحكم العقل بقبح العقاب إذا كان الوجوب الواقعي مصداقا لجامع تمّ البيان عليه.
وإلى هنا تمّ
الكلام في الجهة الأولى من المرحلة الثانية ، حيث قلنا إنّ الكلام في تنجيز العلم
الإجمالي يقع في مرحلتين.
الأولى في مرحلة
تأثيره في حرمة المخالفة القطعية.
والمرحلة الثانية
في تأثيره في وجوب الموافقة القطعية.
وفي كل من
المرحلتين إذا فرض الفراغ عن التأثير ، يقع الكلام في انّ هذا التأثير ، هل هو
بنحو العليّة ، أو الاقتضاء؟
وقد مضى الكلام عن
الجهة الأولى من المرحلة الثانية وصرنا إلى الكلام عن الجهة الثانية من المرحلة
الثانية.
٢ ـ الجهة الثانية
: من المرحلة الثانية :
وهي أنّ العلم
الإجمالي بعد الفراغ عن تأثيره وتنجيزه لوجوب الموافقة القطعية ، يقع الكلام في
انّ هذا التأثير هل هو بنحو العليّة ، أو الاقتضاء؟ بحيث أنّه إذا كان بنحو
العليّة ، يمتنع ورود الترخيص الشرعي
الظاهري في بعض
الأطراف ، وأمّا إذا كان بنحو الاقتضاء ، المعلّق على عدم ورود الترخيص الشرعي
الظاهري في بعض الأطراف ، بحيث لا يمتنع ولا يأبى العقل عن ورود مثل هذا الترخيص؟
وهذا البحث لا
موضوع له ولا معنى إذا بني على أنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية
ليس على نحو العليّة كما عرفت في المرحلة الأولى من أنّ تأثيره بحرمة المخالفة القطعية
هو اقتضائي معلّق على عدم ورود الترخيص في خلافه ، فإذا كان هذا هو شأن تنجيز
العلم الإجمالي في المرحلة الأولى ، فما ظنّك بتأثيره في المرحلة الثانية ، بل لا
معنى للبحث عن العليّة في المرحلة الثانية بعد إنكارها في المرحلة الأولى ، لأنّه
إذا لم يكن مؤثرا في حرمتها على نحو العليّة ، فعدم تأثيره كذلك في وجوبها بطريق
أولى ، إذن فالانتهاء إلى هذا البحث يجب أن يكون بغمض العين عن إنكار العليّة في
المرحلة الأولى.
كما أنّه لا معنى
للنزاع وهذا البحث بناء على المسلك الثاني القائل بالتأثير بالواسطة ، حيث أنّه
ينكر أصل تأثير العلم الإجمالي المباشر في وجوب الموافقة القطعية ، إذن فلا مجال
للنزاع في أنّ تأثيره هل هو بنحو العليّة أو الاقتضاء ، وأمّا كون تأثيره بالواسطة
، فهو وإن اعترف به ، إلّا أنّ هذا لا يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف لما
عرفت من أنّ سبب هذا التأثير إنّما نشأ من تعارض الأصول ، فلو لم يكن هناك تعارض
بينها كما لو لم يكن أحدها جاريا ، إذن لا مانع من جريان الآخر في بعضها بلا معارض
، ومعه لا يعقل أن يكون هذا التنجيز مانعا من جريان الأصل ، إذن ، فبناء على
المسلك الثاني أيضا لا محصل للبحث في أنّ تنجيز العلم الإجمالي هل هو بنحو العليّة
أو الاقتضاء وإنّما كان البحث في المقام الثاني مبنيا على الإغماض عمّا ذكرناه من
عدم كون العلم مؤثرا بنحو علي في حرمة المخالفة القطعية.
نعم هناك مجال
لهذا البحث بناء على المسلك الأولى القائل بالتأثير ، وبناء على المسلك الثالث
القائل بالتأثير بالجملة وفي بعض الموارد ، إذ في هذين المسلكين يمكن أن يبحث في
أنّ تأثير العلم الإجمالي ، هل هو بنحو العليّة ، أو الاقتضاء.
وقد اختار المحقّق
العراقي «قد» انّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية هو
بنحو العليّة ، واختار الميرزا «قده» على ما في فوائد الأصول أنّه على نحو الاقتضاء ، وإن كان
لا موضوع للبحث عده في الاقتضاء أو العليّة كما في أجود التقريرات ، وعباراتهم في المقام لا تخلو من تشويش ، ولعلّه لعدم
اتضاح العليّة والاقتضاء بنحو حدّي ، ومن هنا نرى بعض عبارات الفوائد تميل إلى
الاقتضاء ، وبعضها يميل إلى العليّة ، ولذا ترى كلا من العراقي والميرزا «قدهما»
نسب مختاره إلى الشّيخ الأعظم «قده» ، بينما عبائر الشيخ الأعظم في الرّسائل مشوشة
إذ بعضها يميل إلى هذا ، وبعضها الآخر يميل إلى ذاك ، وعلى أيّ حال ، فالمسألة ،
على الإجمال فيها اتجاهان ، الأول ، يقول بعليّة العلم الإجمالي ، والثاني ، يقول
باقتضائه ، وقد حاول كل من الاتجاهين أن يثبت مدّعاه حلا تارة ، ونقضا أخرى.
أمّا الموقف
الحلّي للميرزا «قده» الممثل لموقف الاقتضاء ، فقد ذكر في فوائد الأصول : انّ
العلم الإجمالي ليس علّة لوجوب الموافقة القطعية ، وإن كان علّة لحرمة المخالفة
القطعية ، وذلك لأنّ الترخيص في المخالفة القطعية لم يكن معقولا لأنّه ترخيص في
المعصية وهو قبيح ،
__________________
وأمّا الترخيص في
المخالفة الاحتمالية فهو ليس ترخيصا في المعصية ، فيعقل ورود الترخيص على أحد
الطرفين ، وهذا معناه انّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية هو على
نحو الاقتضاء وليس على نحو العليّة.
وهذا الكلام من
الميرزا «قده» ، انّ حملناه على محمل الجد والاستدلال فلا محصل له ، لأنّه لا معنى
لتعليل كون العلم الإجمالي هناك علّة لحرمة المخالفة القطعية بأنّ الترخيص فيها
يكون ترخيصا في المعصية ، وعدم كونه علّة لوجوب الموافقة القطعية ، لأنّ الترخيص
بأحد الأطراف هنا لا يكون ترخيصا في المعصية.
وذلك لأنّ المقصود
من المعصية هو ما حكم العقل بكونه منافيا لحقّ المولى ، إذ حكم العقل بالمنافاة
لحقّ المولى وعدمها هو فرع إثبات العليّة أو الاقتضاء في المقام الّذي هو محل
النزاع ، لأنّه هو الّذي ينقح لنا حكم العقل وحدود حكمه من ناحية الإطلاق
والتعليق.
ولأجل هذا ينبغي
أن يحمل هذا الكلام من الميرزا «قده» على أنّه مجرد منبّه وجداني ، لأنّه لا يعقل
تعليل عدم العليّة بما يتوقف على عدم العليّة ، ولهذا لا يكون هذا الكلام صياغة
لبرهان ، وإنّما يرجع هذا البيان الحلّي إلى دعوى وجدانية ، على كون العلم
الإجمالي ليس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية.
وأمّا الموقف
الحلّي للمحقّق العراقي «قده» القائل بالعليّة ، فإنّه قال في مقام البرهنة ، بأنّنا لا
نحتاج إلى مزيد برهان إضافة إلى ما تقدّم على إثبات العليّة ، لأنّنا جميعا متفقون
على أنّ العلم الإجمالي ينجز شيئا «ما» على نحو العليّة ، لكنّنا مختلفون في أنّ
ما ينجزه ما هو؟ فهل
__________________
هو الجامع ، أو
الواقع؟ فإذا ثبت ، كما عرفت ، انّ العلم الإجمالي ينجز الواقع ، إذن ، فالعليّة
تترتب قهرا حينئذ ، ولذا لم يتوهم أحد ممّن قال بتنجز الجامع أنّه على نحو
الاقتضاء ، وإنّما انصبّ الخلاف على شخص المنجز ، وأنّه ما هو ، الواقع ، أو
الجامع؟
وقد برهنا بما لا
مزيد عليه بأنّ المنجز هو الواقع ، ومعه يكون منجزا بنحو العليّة.
وهذا الكلام من
العراقي «قده» لا محصّل له أيضا إذا حملناه على محمل الجد والاستدلال ، وذلك لأنّا
لا نسلّم كون التنجيز عليّا أمر مفروغ عنه حتّى على تقدير كون المنجز هو الواقع ،
لأنّه حتّى على فرض كون المنجز هو الواقع ، فهو لا يعني عدم تنجز الجامع أيضا ، إذ
أنّ الجامع محفوظ في ضمن الواقع ، ومعه ، يكون هناك تنجيز للجامع وتنجيز للخصوصية
والواقع ، وتنجيز الجامع عليّ ، وتنجيز الخصوصية محل خلاف ، في أنّه علي أو لا.
وكأنّ المحقّق
العراقي «قده» فرغ عن انّ المنجز بالعلم الإجمالي هو شيء واحد ، وهو إمّا الجامع
فقط ، وإمّا الواقع فقط ، وبنى استدلاله على ذلك بعد الفراغ عن أنّ التنجيز علي ،
وحينئذ ألزم القائلين بذلك ، وقال إذا كان الأمر كذلك ، فنحن قد أثبتنا أنّ المنجز
هو الواقع ، إذن لا بدّ من الاعتراف بالعليّة وإلّا لزم إمكان الترخيص بكلا
الطرفين ، لأنّ العلم الإجمالي إذا لم يكن له إلّا تنجيز واحد للواقع ، فهو إمّا
معلّق أو لا ، والثاني هو المقصود ، ومعنى هذا أنّ الأول يرتفع بالترخيص ، إذن لو
رخّص في كلا الطرفين لكان معقولا ، لأنّه تنجيز معلّق ، بينما القول بتنجيز الواقع
لا يعني عدم تنجيز الجامع في ضمنه.
ونحن نلتزم
بتنجيزين ، للجامع ، وللخصوصية ، وكون تنجيز الجامع على نحو العليّة لا يستدعي أن
يكون تنجيز الخصوصية على نحو العليّة
بل قد يقال بأنّ
المنجزية بلحاظ الخصوصية الواقعية اقتضائي اللهمّ إلّا أن يرجع ما ذكره إلى دعوى
أنّ الوجدان قاض بأنّ العلم الإجمالي منجز للواقع بنحو العليّة.
والحاصل هو إنّا
لا نسلّم كون التنجيز عليّا حتّى على تقدير كون المنجز هو الواقع ، والوجه في ذلك
أنّه إذا كان الواقع هو المنجز ، فهذا معناه تنجيز الجامع أيضا ، لأنّ الجامع
محفوظ في ضمن الواقع ، فيثبت حينئذ تنجيز للجامع وتنجيز للخصوصية والواقع ، وتنجيز
الجامع علي ، إلّا أنّ تنجيز الخصوصية محل الكلام ، فالمحقّق العراقي «قده» فرض
أنّ المنجز بالعلم الإجمالي هو إمّا الواقع فقط ، وإمّا الجامع فقط ، وبنى
استدلاله على ذلك بعد الفراغ عن أنّ التنجيز علي ، مع أنّ الأمر ليس كذلك لما عرفت
من أنّه إذا كان المنجز هو الواقع فيتنجز الجامع في ضمنه ولا يتمّ كلامه حينئذ لما
ذكرناه إلّا أن يحمل كلامه على دعوى وجدانية فلا يرد عليه ذلك.
وقد نقض كل من
هذين العلمين على الآخر بنقض لا يلتزم به.
أمّا الموقف
النقضي للميرزا «قده» فحاصله : هو أنّه هل صار العلم الإجمالي أشدّ من العلم
التفصيلي ، إذ قد يكتفى أحيانا في العلم التفصيلي بالموافقة الاحتمالية كما هو
الحال عند ما نجري قاعدة الفراغ والتجاوز في الصّلاة إذا شكّ في صحة العمل مع
توطين النّفس على المخالفة الاحتمالية حيث يكتفى بما أتى به مع احتمال بطلانه
واقعا ، وهذا معناه الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية في موارد العلم الإجمالي بطريق
أولى ، وهذا معناه أنّه لا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية بنحو علي ، وإلّا لنقضنا
بموارد العلم التفصيلي كما عرفت.
أمّا نقض العراقي «قده»
حيث لم يرتض نقض الميرزا «قده» ، فإنّه يقول : بأنّ بعض أعلام العصر نقض بمثل هذا
النقض ، فخلط بين
الأصول الجارية في
مرحلة ثبوت التكليف ، «كالبراءة» والّتي هي محل الكلام ، وبين الأصول الجارية في
مرحلة امتثال التكليف ، كقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوهما.
وأضاف «قده»
بأنّنا نقول : إنّ العلم التفصيلي علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية كما هو الحال
في العلم الإجمالي ، وقاعدة الفراغ والتجاوز غير مانعة من هذه العليّة لأنّ قاعدة
الفراغ والتجاوز تعبّدنا بالموافقة القطعية إذ مقصودنا بالموافقة هو الأعمّ من
الموافقة الوجدانية ، والتعبّديّة إذ في موارد قاعدة الفراغ أيضا هناك موافقة
قطعية ، إذن فالتعبّديّة هنا محفوظة ، غايته أنّها تعبّديّة ثبتت بواسطة قاعدة
الفراغ ، وقاعدة الفراغ والتجاوز لا تنافي العلّية المذكورة ، وأين هذا من محل
الكلام ، فإنّه في مورد العلم الإجمالي إذا جاءت قاعدة أو دليل وتعبّدنا بأنّ
المعلوم بالإجمال إنّما هو في هذا الطرف دون ذاك ، فإنّا نلتزم بذلك لأنّ معنى ذلك
أنّ امتثال هذا الطرف هو تعبّد بالعلم الإجمالي وامتثال له ، ويكون حينئذ موافقة
تعبّديّة وهذا لا ينافي العليّة ، إلّا أنّ كلامنا في أنّه هل يجري أصل ترخيصي
ينفي بها التكليف رأسا كإجراء أصالة البراءة في أحد الطرفين بحيث ينفي بها التكليف
رأسا ، وليس محل كلامنا فيما ذكره ، لأنّ إجراء هذا الأصل يتنافى مع الموافقة
القطعية إذ بإجرائه لا تتحقّق لا الموافقة الوجدانية ولا التعبّديّة ، إذن فالقول
بعليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية إنّما ينافي الأصول التكليفيّة لا
الأصول الامتثاليّة.
وقد أشرنا سابقا ،
إلى أنّ كلمات فوائد الأصول في المقام مضطربة ، وأنّ بعضها يناسب ما ورد في أجود
التقريرات ، من أنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية فرع تعارض
الأصول ، وقد عرفت أنّه حينئذ لا معنى لبحثنا بناء على هذا المسلك ، وهناك بعض
الكلمات في فوائد
الأصول يناسب القول بالعليّة حيث يذكر بأنّ العلم الإجمالي علّة تامة لوجوب
الموافقة القطعية لكن الأعمّ من الموافقة التعبّديّة والوجدانيّة ، وهنا كأنّه
يفترض وجود من يقول بالتأثير العلّي في خصوص الموافقة الوجدانيّة وكأنّه يفترض أنّ
خصمه يدّعي أكثر من ذلك ، ومن هنا نقض بموارد قاعدة الفراغ والتجاوز ونحوهما.
وحينئذ ، بناء على
ما ذكره يرد نقضه.
إلّا أنّه لا نعرف
خصما يدّعي أكثر من ذلك بل العراقي «قده» وغيره من القائلين بالعليّة يذهبون إلى
أنّ العلم الإجمالي علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية الأعمّ من الوجدانيّة
والتعبّديّة.
كما أنّ هناك بعض
الكلمات في فوائد الأصول للميرزا «قده» تناسب القول بالاقتضاء حيث يذكر أنّ العلم
الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ، لكن لو جرى الأصل في بعض الأطراف بلا
معارض لكان ذلك مانعا عن تأثير ذلك المقتضي ، وهذا الكلام منه يناسب المسلك الأول.
ثمّ انّه في مقام
استخلاص النتيجة والتفريع يوجد اضطراب في كلامه في الفوائد أيضا ، فهو تارة يقول
كما ذكرنا آنفا من أنّه لو جرى الأصل في بعض الأطراف بلا معارض لأخذنا به ، لأنّ
العلم الإجمالي لا يمنع من ذلك ، لأنّ تأثيره في وجوب الموافقة اقتضائي وليس
عليّا.
وهذا التفريع
يتناسب مع مبناه القائل بالاقتضاء ، لكن في بعض الكلمات يقول : إنّه إذا جرى الأصل
في بعض الأطراف نستكشف جعل البدل في الطرف الآخر ، بمعنى أنّ امتثال الطرف الآخر
يكون موافقة قطعية تعبّديّة.
وهذا التفريع
يتناسب مع القول بالعليّة ، لأنّ معنى ذلك ، انّ جريان
الأصل في بعض
الأطراف لا يمكن إلّا إذا أحرزت الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ولو
تعبّدا ، وذلك يجعل البدل كما عرفت ، بينما القول بالاقتضاء لا يستدعي إحراز ذلك
فيما إذا جرى الأصل في بعض الأطراف.
والحقّ في المقام
هو ، أنّه إذا أخذنا بالإطار الفكري لكل من العراقي والميرزا «قدهما» ، وعشنا نفس
تصوراتهما ، يكون الحقّ مع العراقي «قده» ضمن ذاك الإطار حيث أنّ العراقي أعطى
تصورا واضحا ومحدّدا للقول بالعليّة ، والقول بالاقتضاء حيث ذكر أنّ القول
بالعليّة عبارة عن أنّ العلم الإجمالي يأبى عن إمكان الترخيص ولو في بعض أطراف
العلم الإجمالي ، وذكر أنّ القول بالاقتضاء معناه ، أنّ العلم الإجمالي يؤثر في
وجوب الموافقة القطعية ، لكن معلّقا على عدم جريان الأصل في بعض الأطراف.
وأمّا بالنسبة إلى
ما نقض به الميرزا «قده» على العراقي «قده» في مبنى العليّة ، فقد دفعه العراقي
آنفا بأنّه فرّق بين الأصول الجارية في مقام نفي التكليف ، والأصول الجارية في
مقام التعبّد في إحراز الامتثال ، فالعلم الإجمالي والتفصيلي إنّما يكونان علّة
تامة لوجوب الموافقة الأعمّ من الوجدانيّة والتعبّديّة ، وحينئذ ، بقاعدة الفراغ نثبت
الموافقة التعبّديّة ، وهذا لا ينافي القول بالعليّة ، وهذا بخلاف لسان أصالة
البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فإنّه ينافي مع العليّة.
كما انّ ما ذكره
الميرزا «قده» بعد أن لبس ثوب العليّة وادّعى أنّه ثوب الاقتضاء ، حيث قال : انّ
جريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي ، إنّما نقبله باعتباره محرزا لجعل البدل
في الطرف الآخر.
فقد أشكل عليه
العراقي «قده» ، بأنّ جعل البدل ـ أي تبديل الطرف الآخر ببدله التكليف المعلوم
بالإجمال ـ إن كان مدلولا التزاميا
لنفس أصالة
البراءة ، فهو غير صحيح ، لأنّ الأصول لوازمها لا تثبت بها ، إذن فلوازم الأصول
ليست بحجّة ، وإن كان مدلولا التزاميا لدليل أصالة البراءة باعتبار أنّ دليل أصالة
البراءة اجتهادي ، ففيه : إنّ ذلك الدليل يدلّ بالمطابقة على أصالة البراءة ، في
هذا الطرف ، ويدلّ بالالتزام على جعل البدل في الطرف الآخر لأنّنا نعلم في الخارج
باستحالة جعل البراءة في أحد الطرفين من دون جعل البدل في الطرف الآخر.
فإن أراد هذا ،
فجوابه : انّ دليل الأصل لا يدلّ على ذلك بالالتزام وذلك لأنّ الترخيص في بعض
الأطراف لا يكفي فيه واقع جعل البدل في الطرف الآخر في مقام تحصيل الموافقة
القطعية. بل لا بدّ من وصول جعل البدل والعلم به ليكون امتثاله موافقة قطعية
تعبّديّة ، إذن فأصالة البراءة هنا تتوقف على العلم بجعل البدل في الطرف الآخر ،
لا على واقع جعل البدل ، فإن دلّ دليل الأصل على شيء بالالتزام ، فإنّما يدلّ على
علمنا بجعل البدل ، ومن الواضح انّ دليل الأصل لا يدلّ بالالتزام على العلم بجعل
البدل في الطرف الآخر لأنّنا لا نعلم بجعل البدل فيه.
وبعبارة أخرى :
انّ دليل الأصل يدلّ بالالتزام على شرط معقولية الأصل ، وشرط ذلك ليس هو واقع جعل
البدل ، بل هو العلم به ، فما يدّعى أنّه مدلول التزامي لدليل الأصل ـ وهو جعل
البدل ـ فهو ليس مدلولا التزاميا له ، لأنّ جريان الأصل ليس منوطا به ، بل هو منوط
بوصوله والعلم به ، وما هو شرط في تصحيح جريان الأصل نعلم بعدمه وجدانا إذ أنّه لا
علم لنا بجعل البدل من غير ناحية دليل الأصل.
وهذا إشكال صحيح
للعراقي على الميرزا «قدهما» ضمن الإطار الفكري لهما ، ولكن نحن عند ما نخرج عن
ذلك الإطار الفكري لهذين العلمين «قدهما» ، وندخل إلى لب المباني الّتي توضحت فيما
بيّناه
سابقا ، نرى أنّ
الحقّ في المقام مع الميرزا «قده» في نقضه ، وذلك لأنّنا أوضحنا سابقا أنّ كل
القواعد الظاهرية مهما اختلفت ألسنتها فهي ترجع في الحقيقة إلى إيقاع التزاحم في
مقام الحفظ التشريعي بين الأغراض الترخيصيّة والأغراض اللزومية ثمّ تقديم
الترخيصيّة على اللزومية ، فإنّ المولى كما يجعل «البراءة» حينما تتزاحم أغراضه
الإلزامية مع أغراضه الترخيصيّة في مقام الحفظ ـ أي في مقام التزاحم بين الحرمة
الواقعية ، والإباحة الواقعية ـ تقديما لجانب الإباحة الواقعية على الحرمة
الواقعية ، كذلك الحال في قاعدة الفراغ والتجاوز عند الشكّ في صحة الصّلاة حيث يقع
التزاحم بين حفظ غرضه اللزومي الصّلاتي الموجب لإعادة الصّلاة بين حفظ غرضه الترخيصي
الموجب لعدم إعادة الصّلاة لاحتمال كون صلاته صحيحة ، فيقدّم هنا غرضه الترخيصي
بجعل قاعدة الفراغ.
والتعبير عن هذا
التقديم يختلف ، فهو تارة يقول : أرخّصك بترك الاحتياط» ، وأخرى بلسان ، «رفع ما
لا يعلمون» ، وهو لسان البراءة ، وثالثة يكون بلسان التعبّد بالامتثال كأن يقول : «بلى
قد ركعت» ، أو «أفترضك راكعا» ، إذا كان الشكّ في الصحة من جهة الشكّ في الرّكوع ،
وهذا هو لسان قاعدة الفراغ ، وكل هذه الألسنة تفننات إنشائية اعتبارية لروح واحدة
وبأيّها كان التقديم نأخذ به لأنّ جميع هذه الألسنة ترجع إلى معنى واحد كما عرفت
أنّه عبارة عن كون الغرض الترخيصي للمولى هنا أهم من الغرض الإلزامي وكذلك الحال
بالنسبة لقاعدة الفراغ والتجاوز.
وحينئذ ، فلو
فرضنا انّا سلّمنا أنّه في موارد العلم التفصيلي يكون الغرض الترخيصي أهم من الغرض
اللزومي في مقام الحفظ عند تزاحمهما ، بحيث يستدعي من المولى إنشاء حكم ظاهري يفوت
به الغرض اللزومي احتمالا ، ويحفظ به الترخيصي احتمالا أيضا ، فإذا كان
هذا معقولا ،
فحينئذ ، أي فرق بين أن يكون التقديم بلسان ، «رفع ما لا يعلمون» ، «ولا يجب
الاحتياط» ، كما هو لسان البراءة ، وبين أنّ بلسان «بلى قد ركعت» كما هو لسان
قاعدة الفراغ ، فإنّ أحكام العقل في الموافقة القطعية والمخالفة القطعية مرجعها
إلى تشخيص حقّ المولى في الطاعة ، وإنّما يكون هذا بعد معرفة أغراض المولى وانّه
ما ذا يعمل في مقام التزاحم بين أغراضه ، فإذا قدّم الغرض الترخيصي احتمالا ، على
الغرض اللزومي احتمالا ، فلا تجب الموافقة القطعية ، سواء أكان التقديم بأيّ لسان
، ومن أجل هذا فنحن نجري الأصل لو جاءت قاعدة الفراغ بلسان لا يجب الاحتياط ،
فكذلك ينبغي أن نقبل بلسان بلى قد ركعت ، لعدم الاختلاف بينهما عقلائيا ، وبهذا
يثبت انّ جواب العراقي «قده» عن نقض الميرزا «قده» بالتفريق بين أصالة البراءة ،
وقاعدة الفراغ غير صحيح ، كما يثبت بحسب لب المطلب ، إنّ نقض الميرزا «قده» يكون
واردا على العراقي «قده» أي على القول بالعليّة ، وأنّه إذا اكتفى بالموافقة
الاحتمالية في موارد العلم التفصيلي ، ففي موارد العلم الإجمالي يكون الاكتفاء بها
بطريق أولى.
ثمّ انّ المحقّق
العراقي «قده» نقض على الميرزا «قده» لقوله بالاقتضاء بنقضين ، أحدهما ذكره في
مقالاته ، والآخر في تقريرات بحثه.
أمّا النقض الأول
: فحاصله على نحو الإجمال هو أنّ الميرزا «قده» القائل باقتضاء العلم الإجمالي
لوجوب الموافقة القطعية ، يدّعي فقدان المانع عن هذا الاقتضاء ، وذلك لأنّ المانع
ـ على تقديره ـ هو جريان الأصول الّتي لا تؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ،
__________________
وحينئذ يترتب على
ذلك ، أنّه دائما تجوز المخالفة الاحتمالية في جميع موارد العلم الإجمالي لأنّ هذا
الاقتضاء دائما مقرون بالمانع ، وهو الترخيص الشرعي في المخالفة الاحتمالية ، وهذا
الترخيص عبارة عن الأصول المجعولة في دليل أصالة البراءة ونحوها ، فإنّ أصالة
البراءة وأمثالها من الأصول المرخّصة والمؤمّنة وهي ممّا يدّعي الميرزا «قده» عدم
جريانها لا في بعض الأطراف ولا في جميعها ، أمّا إنّها لا تجري في بعضها ، فلأنّه
ترجيح بلا مرجح إن أريد بالبعض البعض المعين ، وإن أريد من البعض البعض غير المعين
فهو لا وجود له في الخارج ، وأمّا إنّها لا تجري في كل الأطراف ، فلأنّ الجريان
فيها كلها يؤدّي إلى المخالفة القطعية ، ومن هنا يبني الميرزا «قده» على تعارض
الأصول وتساقطها في أطراف العلم الإجمالي ، وبهذا يتحقّق عنده المقتضي ، وعدم
المانع لوجوب الموافقة القطعية ، أمّا المقتضي فهو العلم الإجمالي ، وأمّا عدم
المانع فهو عدم جريان الأصول في بعض الأطراف دون البعض المعين ولا البعض المردّد
ومعناه تساقط الأصول ، إذن فالمانع مفقود فتجب الموافقة القطعية.
ومن هنا نقض
العراقي «قده» على القول بالاقتضاء ، بأنّ لازمه جواز المخالفة الاحتمالية دائما ،
لأنّ مقتضى وجوب الموافقة القطعية مقترن بالمانع عن تأثيره دائما لأنّ أصالة
البراءة تجري في بعض الأطراف.
وتوضيح ذلك هو أنّ
دليل أصالة البراءة يقتضي في نفسه عموما إفراديا ، وإطلاقا أحواليا ، والأوّل
يقتضي دخول كل طرف من أطراف العلم الإجمالي تحت دليل البراءة وهو رفع ما لا يعلمون
، لأنّ كل طرف يصدّق عليه أنّه ممّا لا يعلم ، والثّاني وهو الإطلاق الأحوالي ،
فهو يقتضي إباحة كل طرف مطلقا ، سواء ارتكب الطرف الآخر أم لم يرتكب ، إذن ،
فهناك عموم إفرادي
لكل من الطرفين ، وهناك إطلاق أحوالي في كل من الطرفين كما لو علم بحرمة أحد
المائعين ، وحينئذ ، من المعلوم أنّه إذا تحفظنا على العموم الأفرادي والإطلاق
الأحوالي معا في دليل الأصل ، للزم الترخيص في المخالفة القطعية ، لأنّ مقتضى
العموم الأفرادي الترخيص بكل منهما ، ومقتضى الإطلاق الأحوالي جواز ارتكاب كل طرف
حتّى لو ارتكب الطرف الآخر ، وهذا معناه الترخيص في المخالفة القطعية ، وهذا محال
، ولأجل التخلص من هذا المحذور ، إذن ، لا بدّ من رفع اليد بقدر يرتفع به هذا
المحذور ، ومن الواضح أنّه يكفي في رفعه أن نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي مع
التحفظ على العموم الأفرادي وذلك بأن نلتزم بإباحة كل الأطراف ، وهذا معنى التحفظ
على العموم الأفرادي ، لكن نقول : بأنّ إباحة كل منهما مشروطة بترك الآخر لا مطلقة
من جهة فعل الآخر ، وهذا معناه : رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي ، فينتج حينئذ
الالتزام بإباحتين في كلا الطرفين ، وهو التخيير في جريان الأصول ، وأنّ كل طرف
مباح بشرط ترك الآخر ، ومن الواضح انّ مثل هذين الترخيصين المشروطين لا ينتجان
الترخيص في الجميع الّذي هو معنى المخالفة القطعية ، لأنّه لو ارتكب أحدهما لا
يكون الآخر مباحا ، إلّا أنّه ينتج الترخيص في المخالفة الاحتمالية دائما حيث أنّه
يجوز إجراء الأصل في كل طرف بشرط عدم إجرائه في الآخر ، إذن لا محذور في هذين
الترخيصين على مبنى الاقتضاء وإنّما يتعيّن الالتزام بإجراء الأصل مشروطا في كلا
الطرفين لأنّ العموم الأفرادي والإطلاق الأحوالي كل منهما حجّة ولا يجوز رفع اليد
عن الحجّة إلّا بمقدار الضرورة ، فيرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي.
وبهذا يثبت أنّه
على القول بالاقتضاء ، دائما يكون دليل الأصل مستلزما المخالفة الاحتمالية ، ومعه
يكون المقتضي مقترنا بالمانع عن التأثير في وجوب الموافقة القطعية دائما.
وهذا النقض لا يرد
على القول بالعليّة ، إذ بناء عليها يستحيل الترخيص الظاهري في المخالفة
الاحتمالية ، بل حتّى لو ساعد إطلاق دليل على ذلك ، وجب رفع اليد عن هذا الإطلاق.
وكأنّ هذا النقض
شاع عن المحقّق العراقي «قده» واستحكم ، حتّى أنّ المحقّق الكاظمي مقرر بحث
الميرزا «قده» في فوائده هوّن من شأن هذا النقض ـ معتذرا بأنّ هذا النقض إنّما
توسع واستحكم ، لأنّ شبهة التخيير في جريان الأصول أصبحت مركوزة في أذهان المحصلين
، وأنّه بعد هذا البيان لم يبق من هذه الشبهة أثر ولا عين.
والإنصاف إنّ ما
ذكره الميرزا «قده» لا يدفع هذه الشبهة وهذا النقص ، لأنّها شبهة قوية ومستعصية
خصوصا على القول بالاقتضاء ، فإنّ تخريج عدم جريان الأصول بنحو التخيير ـ بناء على
الإطار الفكري لعلماء الأصول ـ في غاية الإشكال ، وما ذكره الكاظمي «قده» في
فوائده لا يرجع إلى محصّل معقول بحيث يكون جوابا على هذه الشبهة.
ولكن سوف نتعرّض
لبحثها في موردها في الأصول العملية ، لأنّ بحثها مرجعه إلى موارد جريان الأصول ،
بينما الكلام هنا هو في مقدار ما يرجع لتنجيز العلم ، وأمّا جريان الأصول فعلا فهو
بحث إثباتي موكول إلى الأصول العملية ، وهناك سنذكر هذه الشبهة ، ونوضح عدم ورودها
على القول بالاقتضاء ، كما سنوضح هناك ، انّ التخيير بالمعنى الّذي أفاده المحقّق
العراقي «قده» هو على خلاف صناعة الأدلة.
٢ ـ النقض الثاني
: للعراقي «قده» هو ، أنّه إذا كان العلم الإجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة
القطعية ، لا علّة تامة له ، إذن فالعلم التفصيلي أيضا كذلك إذ لا فرق بينهما من
هذه الناحية ، ولازم ذلك أنّ
__________________
العلم التفصيلي لا
يمنع عن جريان البراءة المرخّصة في المخالفة الاحتمالية ، مع أنّه لا يلتزم أحد
بإجراء البراءة في موارد العلم التفصيلي فيما إذا كانت المخالفة الاحتمالية واردة
، وذلك كما لو فرض أنّه وجبت عليه صلاة الظهر ، وعلم المكلّف بذلك الوجوب تفصيلا ،
ثمّ شكّ في امتثاله وأنّه أتى بها أم لا ، ففي مثله ، يرجع الشكّ إلى الشكّ في
بقاء الوجوب وسقوطه ، وحينئذ ، بناء على القول بالاقتضاء لا مانع من جريان البراءة
عن الوجوب ، مع أنّه لا يلزم منه مخالفة قطعية للعلم التفصيلي ، وإنّما يلزم منه
المخالفة الاحتمالية لاحتمال أن يكون قد أتى وامتثل هذا الوجوب ، مع أنّه لا إشكال
عندهم في انّ المقام من موارد أصالة الاشتغال ، باعتبار أنّ الشغل اليقيني يستدعي
الفراغ اليقيني ، مع أنّه لو بنيّ على عدم عليّة العلم التفصيلي لوجوب الموافقة
القطعية وجواز الترخيص في المخالفة الاحتمالية لتعين إجراء البراءة ، وتكون حينئذ
حاكمة على أصالة الاشتغال.
وقد يقال في
الجواب عن هذا النقض ، انّ عدم جريان البراءة في المقام ليس باعتبار انّ المقام
ليس من مواردها ، بل باعتبار انّها محكومة لاستصحاب حكمي ، وهو استصحاب بقاء
الوجوب السابق ، فإنّ هذا المكلّف بعد أن يشكّ في الامتثال ، يشكّ في بقاء الوجوب
السابق ، وحينئذ ، يستصحبه ، أو أنّها محكومة لاستصحاب موضوعي ، وهو استصحاب عدم
الامتثال ، فإن عدم الامتثال هنا استصحاب موضوعي ، إذن فالبراءة هنا لا تجري
باعتبار الأصل الحاكم.
وهذا البيان لا
يكفي لدفع هذا النقض وذلك لوضوح أنّه لا يوجد أحد يلتزم بأنّ البراءة تجري لو لا
الاستصحاب ، فإنّ غاية ما يفيده هذا البيان أنّ البراءة لا تجري لوجود أصل حاكم
عليها ، مع أنّه من المسلّم به انّ هذا المورد في نفسه ليس مورد للبراءة ، بل هو
مورد لأصالة
الاشتغال ، ولهذا
لا يشكّ في جريان أصالة الاشتغال بالاتفاق حتّى عند من ينكر حجيّة الاستصحاب كما
عرفت ، وعليه : فيبقى هذا النقض واردا على كلّ حال.
والصحيح أن يقال
في دفع هذا النقض : إنّ أصالة البراءة لا تجري هنا لقصور في دليلها ، وذلك لأنّ
البراءة موضوعها الشكّ في التكليف ، وهنا لا شكّ في التكليف لا حدوثا ولا بقاء ،
أمّا حدوثا فواضح لأنّنا نعلم بوجوب الظهر عند الزوال.
وأمّا بقاء :
فلأنّه لا شكّ في بقاء الوجوب ، وإنّما الشكّ في محركيته.
وتوضيحه هو : انّ
توهم كون الوجوب مشكوك البقاء مبني على تخيّل انّ الوجوب يسقط بالامتثال ، أو
العصيان ، مع انّ هذا غير صحيح كما بيّناه في بحث الترتب من أنّ الامتثال والعصيان
ليسا من مسقطات الوجوب بمبادئه وإنّما مسقطية الامتثال أو العصيان للوجوب بمبادئه
لا يكون إلّا بأن يؤخذ عدم الامتثال وعدم العصيان في موضوع الوجوب كي يسقط بأحدهما
، مع أنّه لم يؤخذ في موضوع الوجوب ، لا عدم الامتثال ، ولا عدم العصيان ، وإنّما
الامتثال يسقط فاعلية الوجوب ، لا نفس الوجوب ، إذن ، ففي حالة عدم الامتثال ،
الوجوب باق ، وإنّما تسقط محركيته ، لأنّها تكون تحصيلا للحاصل حينئذ ، والوجدان
يشهد بذلك ، ويتضح ذلك بقياس الإرادة التشريعيّة ، بالإرادة التكوينيّة ، فإنّ
الإرادة التشريعيّة بمعنى الحب والّذي هو روح الوجوب ، على وزان الإرادة
التكوينيّة بهذا المعنى ومن الواضح أنّ وقوع المحبوب خارجا لا يخرجه عن كونه محبوبا
ومرغوبا ، غايته أنّ الحب يفقد محركيته وفاعليته في حال وجود المحبوب ، لأنّ
محركيته حينئذ تكون تحصيلا للحاصل ، ووزان عالم الوجوب ، وزان مبادئه ، إذ الوجوب
بحسب الدقة لا يسقط
نفسه بالامتثال ،
وإنّما الّذي يسقط بالامتثال هو محركية الوجوب ، وفاعليته ، وعليه فكما أنّه لا
شكّ في حدوث الوجوب في المقام ، كذلك لا شكّ في بقائه ، ومعه لا يبقى موضوع لأصالة
البراءة ، لأنّ البراءة موضوعها التكليف المشكوك ، وهنا من حيث كونه حكم الله فهو
معلوم وإنّما يشكّ في أنّه حقّق ذلك أم لا وهذا مورد حينئذ لأصالة الاشتغال لأنّ
الشكّ في محركية الوجوب.
وبهذا يتضح انّ
الصحيح في المقام هو أنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية ،
وإنّما هو مقتضي لذلك كما هو مختار الميرزا «قده» ، ومعه ، فإذا جرت الأصول في بعض
الأطراف بلا معارض فلا مانع من ذلك.
وتظهر الثمرة
العملية بين القول بالاقتضاء ، والقول بالعليّة ، فيما إذا كان أحد طرفي العلم
الإجمالي موردا لأصل مؤمّن كأصالة البراءة ، ولم يكن أصل مؤمّن صالح لمعارضتها في
الطرف الآخر ، ولا أصل مثبت للتكليف في ذلك الطرف الآخر ، فإنّه في مثل هذه الحالة
إذا قلنا بالاقتضاء تجري أصالة البراءة في هذا الطرف بلا معارض ، ولا يلزم الترخيص
في المخالفة القطعية ، بينما لا تجري أصالة البراءة بناء على القول بالعليّة ،
وأمّا إذا وجد في الطرف الآخر أصل مؤمّن صالح لمعارضة البراءة فلا ثمرة عملية كما
هو واضح لعدم جريان الأصول على كلا القولين ، أمّا على القول بالعليّة ، فلا يجري
كلا الأصلين كما هو واضح ، وأمّا على القول بالاقتضاء فلتعارض الأصول وتساقطها.
كما أنّه لا تظهر
ثمرة فيما إذا كان هناك أصل مثبت للتكليف في الطرف الآخر ، لأنّ أصالة البراءة
تجري حينئذ في الطرف الأوّل على كلا القولين ، أمّا على القول بالاقتضاء فواضح ،
وأمّا على القول بالعليّة فلانحلال العلم الإجمالي بذلك الأصل المثبت ، وبعد
الانحلال يسقط
عن العليّة لأنّ
عليته فرع عدم انحلاله ، ومعه لا يبقى أيّ مانع من جريان البراءة في الطرف الأوّل
، وتحقيق ذلك ، وتحقيق جهاته يأتي في مباحث الأصول العملية إن شاء الله تعالى.
إجزاء العلم الإجمالي بالامتثال وعدمه
بعد أن فرغنا
بمنجزية العلم الإجمالي ، يقع الكلام في مسقطية الامتثال الإجمالي الراجع إلى
العلم الإجمال بالامتثال ، بمعنى أنّ هذا الامتثال الإجمالي هل يكون مجزيا في مقام
الخروج عن العهدة أو لا؟
ومن الواضح انّ
هذا النزاع لا يجرى في التوصليّات ، إذ لا إشكال في كفايته فيها ، لأنّ المطلوب
فيها صرف إيجاد الفعل كيفما اتفق ، كما أنّه لا إشكال في كفاية الامتثال الإجمالي
فيما إذا تعذّر الامتثال التفصيلي ، وإنّما وقع الكلام في كفاية الامتثال الإجمالي
في خصوص التعبّديّات فيما إذا كان الامتثال التفصيلي ممكنا ، وأنّه في هذه الحالة
، هل انّ الإجمالي يقع في عرض التفصيلي ، أو أنّه يترتب عليه أو لا؟. وقد ذهب جملة
من الفقهاء الأصوليّين إلى عدم كفايته ، لأنّ الامتثال التفصيلي متقدّم رتبة ،
فمتى أمكن الامتثال التفصيلي لا يجوز الاقتصار على الامتثال الإجمالي ، وهذا القول
في وجوب تقديم الامتثال التفصيلي يبتني على أحد ثلاثة مسالك.
١ ـ المسلك الأول
: هو أن يبنى على انّ هذه التفصيليّة واجبة ، باعتبار توقف أمر مفروغ عن وجوبه
عليها ، فمثلا في باب العبادات قد فرغ عن وجوب قصد القربة ، وحينئذ قد يدّعى انّ
هذا العنوان المفروغ عن وجوبه ، لا يحصل بدون الامتثال التفصيلي.
وهذا المسلك لا
يدّعي وجوبا زائدا ، بل يدّعي انّ ما هو مفروغ عن وجوبه ، لا يحصل إلّا بالامتثال
التفصيلي.
٢ ـ المسلك الثاني
: هو أن يدّعى انّ عنوان التفصيلية في مقام الامتثال ، متعلّق للوجوب الشرعي ، فهو
دخيل في غرض الشارع ، فهو إمّا خطابي أو غرضي ، ولأجل ذلك يوجبه إمّا يجعله
متعلّقا للأمر إذا أمكن ذلك ، وإمّا روحا فقط إذا لم يمكن أخذها في متعلّق الأمر ،
وإمّا روحا وخطابا إذا أمكن أخذها كما هو مذكور ومحقّق في باب التعبّدي والتوصلي
من إمكان أخذ قصد القربة وأمثاله قيدا في متعلّق الأمر وعدم إمكانه.
وهذا المسلك مرجعه
إلى دعوى وجود شرط شرعي جديد زائد على أصل الفعل ، اسمه التفصيلية ، إذن ، فمرجعه
إلى مسألة فقهية.
٣ ـ المسلك الثالث
: هو أن يدّعى الوجوب ، فيقال : بأنّ التفصيلية في الامتثال ، بنفسها ممّا يحكم
العقل بوجوبها ، إمّا لاقتضاء نفس التكليف لذلك ، وإمّا لسبب آخر كما ستعرف بيانه.
والوجوه المذكورة
في الكتب في مقام إثبات عدم كفاية الامتثال الإجمالي عند التمكن من التفصيلي ترجع
إلى أحد هذه المسالك ، فبعضها يرجع إلى الأوّل ، وبعضها الآخر إلى الثّاني ،
وبعضها الآخر إلى الثالث كما سنستعرضها.
١ ـ الوجه الأول :
هو ما ذكره الميرزا «قده» ، وهو مركب من جزءين ، أوّلهما ينطبق على المسلك ، بينما
الجزء الثاني يناقضه ، وما ذكره أولا ، هو أنّه يجب الإتيان بالعبادة بعنوان حسن
عقلا ، لأنّ هذا
__________________
هو معنى العبودية
والعبادية ، فيقع الفعل موصوفا بالحسن عقلا ، حينئذ يقال : بأنّ العقل لا يحكم
بحسن الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، وإنّما يحكم بحسن
الامتثال الإجمالي في فرض تعذّر الامتثال التفصيلي وقد اكتفى المحقّق الكاظمي «قده»
، بحلاوة توضيحه لأجل البيان ولكن بدون برهان.
وهذا الكلام ينطبق
على المسلك الأول ، لأنّ مرجعه إلى أنّ وجوب الامتثال التفصيلي إنّما هو باعتبار
توقف أمر قد فرغ عن وجوبه عليه ، وهو الإتيان بالفعل على وجه حسن عقلا ، دون أن
يقيم الميرزا «قده» دليلا على هذه الدعوى في فوائده وإنّما اكتفى بكون التفصيلية
واجبة لدخلها في تحصيل الحسن العقلي الّذي هو واجب بنفسه في العبادات.
بخلاف أجود
التقريرات حيث حاول إقامة صورة برهان عليها ، فذكر انّ الامتثال الإجمالي
متأخر رتبة عن الامتثال التفصيلي باعتبار أن الامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال
الأمر ، بينما الامتثال التفصيلي انبعاث عن شخص الأمر مباشرة ، والانبعاث عن
احتمال الأمر متأخر رتبة عن الانبعاث عن شخص الأمر ، وكأنّه يريد أن يقول بأنّه
لمّا كان احتمال الأمر متأخر رتبة عن نفس الأمر كذلك يكون الانبعاث عن احتماله لا
بدّ وأن يكون متأخرا رتبة عن الانبعاث عن نفسه وشخصه.
إلّا أنّ هذا
الوجه غير تام ، ويرد عليه : إنّنا لا نرى طولية بين الامتثال الإجمالي ،
والامتثال التفصيلي بلحاظ حكم العقل بالحسن ، لأنّ حكم العقل بالحسن هنا ليس بملاك
مرموز غيبي ، وإنّما هو بملاك مفهوم ، وهو تعظيم المولى والانقياد له ، وهذه
النكتة والملاك ليس
__________________
تواجدها في
الامتثال التفصيلي بأشدّ وأبرز من تواجدها في الامتثال الإجمالي ، كما يشهد عليه
الوجدان.
وأمّا ما ذكره في
أجود التقريرات كبرهان لتلك الدعوى فيرد عليه :
أولا : إنّ كلا
الامتثالين ، التفصيلي والإجمالي ليسا منبعثين عن شخص الأمر ، لأنّ شخص الأمر
بوجوده الواقعي التشريعي النّفس الأمري لا يكون محركا ، وإنّما يكون محركا بوصوله
للمكلّف ، ولهذا لو بقي الأمر في لوح التشريع ، والمكلّف غافل عنه ، لما حركه بوجه
من الوجوه ، وإنّما يكون محركا بوصوله ، وهذا الوصول على نحوين ، وصول احتمالي ،
ووصول تفصيلي ، فالامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال الأمر ، والامتثال التفصيلي
انبعاث عن العلم بالأمر ، وكلاهما انبعاث عن حالة وجدانية متعلّقة بالأمر ، لا أنّ
أحدهما انبعاث عن شخص الأمر ، والآخر انبعاث عن احتمال الأمر ليتمّ ما ذكره ، ومعه
تكون صورة البرهان غير تامة ، لأنّ الأمر ليس منشئا للانبعاث ، وإنّما يكون منشئا
بتوسط أحد الأمرين ، وكلاهما بمرتبة واحدة ، إذن فلا موجب لتقدّم أحد الانبعاثين
على الآخر فضلا عن عدم كون التقدّم بالتفصيلية والتأخر بالاحتمالية ، بمعنى أنّ
الاحتمال والتفصيل ليس مرجحا لأحدهما على الآخر ، بل هو تقدّم وتأخر رتبي في عالم
التكوين ، هذا مضافا إلى إنّ كون احتمال الأمر في طول الأمر لا يلزم منه كون
الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص الأمر ، وهذا إشكال ثاني.
ويرد عليه وثانيا
: أنّه لو سلّمنا انّ الامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال الأمر ، والامتثال
التفصيلي انبعاث عن شخص الأمر ، لكن لم يعرف السبب بعد ، وكيف صار هذا الانبعاث من
مصدريه موجبا لتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي ، لأنّ المطلوب في
باب
العبادة هو انتساب
العبادة إلى المولى ، وهذا المعنى محفوظ فيهما معا ، سواء تعدّدت الوسائط أو اتحدت
، وكون احتمال الأمر في طول الأمر تكوينا ، لو سلّم فهو تأخر وتقدّم رتبي في عالم
التكوين لا دخل له ليكون نكتة في وجوب تأخر الامتثال الإجمالي في عالم التشريع عن
الامتثال التفصيلي بحيث أنّ العقل العملي لا يرى حسن هذا إلّا إذا تعذّر ذاك.
ثمّ انّ الميرزا «قده»
ذكر في الجزء الثاني من كلامه ، أنّه لو أبيت عن التصديق بما ذكرناه أولا ،
فلا أقل من حصول الشكّ في حصول الحسن العقلي في الامتثال الإجمالي في ظرف التمكن
من الامتثال التفصيلي ، إذ حينئذ يكون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير
، لأنّه يدور بين وجوب الامتثال التفصيلي تعيينا ، أو التخيير بينه وبين الامتثال
الإجمالي ، وفي هذه الموارد تجري أصالة الاشتغال ، فيتعيّن الامتثال التفصيلي.
وهذا الجزء من
كلامه غير تام ، ويرد عليه.
أولا : بأنّ هذا
الجزء الثاني من كلامه «قده» لا يتناسب مع الجزء الأوّل من كلامه ، حيث أنّ الجزء
الأول يناسب إرجاع الشكّ إلى الشكّ في المحصل ، لا إلى دوران الأمر بين التعيين
والتخيير الراجع إلى الشكّ في أصل جعل الشارع وكيفيته والّذي هو مجرى للبراءة كما
ستعرف ، والوجه في ذلك هو أنّ ما ذكره في كلامه الأول قد خرجناه على أساس المسلك
الأول ، وهو أنّه العبادة يجب فيها تحصيل عنوان حسن عقلا ، وهو يتوقف على
التفصيلية في الامتثال ، وعند عدم تحصيل هذا العنوان كما لو فرض أنّ أصل الواجب لا
إشكال فيه ولكن يشكّ في المحصل
__________________
لهذا العنوان ،
فإنّه حينئذ يكون الشكّ في المحصل ، حينئذ لا إشكال في جريان أصالة الاشتغال فكان
المناسب مع الجزء الأول من كلامه أن يدّعي أنّ الشكّ هنا هو شكّ في المحصل ، وتجري
في مثله أصالة الاشتغال ، لا انّ الشكّ راجع إلى الدوران بين التعيين والتخيير ،
فإنّه لا يناسب كلامه الأول.
وثانيا : هو أنّه
لو فصلنا الجزء الثاني من كلامه عن الجزء الأول منه ، وتعاملنا مع الجزء الثاني
وحده على أساس أنّ الشكّ في أصل جعل الشارع ، وانّ الشكّ هنا يرجع إلى الدوران بين
التعيين والتخيير ، فإنّه هنا أيضا لا يتمّ ما ذكره ، لأنّه بناء عليه يرجع الشكّ
إلى الشكّ في أصل جعل الشارع لوجوب التفصيليّة في الامتثال وعدمه ، فيرجع إلى
الشكّ في وجوب شرط زائد على شرطية قصد القربة في العبادة ، وفي مثله لا إشكال في
جريان أصالة البراءة.
وبعبارة أخرى : هي
أنّه إن أرجعنا وجوب التفصيليّة إلى توقف الطاعة العقلية عليه ، كان الشكّ حينئذ
في التفصيلية شكّا في المحصل ، ولكن إذا تنزلنا وقلنا أنّه يدّعى وجوب مستقل
للتفصيلية ، فإنّه حينئذ ، يكون الشكّ في شرط زائد ، وفي مثله لا إشكال في جريان
البراءة.
وثالثا : هو أنّه
لو سلّمنا أنّ المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فأيضا تجري
البراءة عن التعيين ، لأنّه إذا فرض أنّه لم نفرغ عن عنوان واجب ونشكّ في حصوله
بالامتثال الإجمالي ، لكن نحتمل ابتداء أن تكون التفصيليّة في المقام أمرا معتبرا
، حينئذ يكون هذا الشكّ شكّا في الشرط الزائد ، لأنّ التفصيليّة في الامتثال أمر
زائد على قصد القربة ، وحينئذ يكون هذا من موارد الشك في الشرطية ، فتجري البراءة
عنها ، سواء قلنا بالبراءة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، أو قلنا
بالاشتغال.
والحاصل أنّه لو
سلّم انّ المقام من موارد التعيين والتخيير ، فهنا أيضا نقول بجريان البراءة.
إلّا أنّ ظاهر
الميرزا «قده» في أجود التقريرات ، كأنّه يريد أن يبين بيانا آخر ، غير ما ذكره في
الفوائد ، ولذلك فهو لم يعبّر بأنّ المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ،
بل ذكر أنّ التفصيلية في مقام الامتثال شيء يحتمل اعتباره في الطاعة الّتي يحكم
العقل باعتبارها فالشك هنا ليس على حدّ الشك في الطهارة في الصّلاة على الميت ، لأنّ
هذا شك في اعتبار الطهارة في الواجب الشرعي ، وفي مثله لا تجري البراءة عن اعتبار
التفصيلية ، وأمّا في المقام ، فالشك ليس في اعتبار التفصيلية في الواجب الشرعي ،
وإنّما الشك في اعتبار التفصيلية في الطاعة اللازمة والّتي مرجعها حكم العقل ، ومن
الواضح أنّ أدلة البراءة غير ناظرة لما يحتمل اعتباره عقلا في الطاعة ، بل هي
ناظرة إلى ما يحتمل اعتباره في الواجب شرعا ، ثمّ يقول «قده» ، وليس معنى هذا انّ
الشارع لا يمكنه التصرف في باب الطاعة فيما يعتبر فيها عقلا ، بل يمكنه ذلك كما في
الرياء ، فإنّ الشارع اعتبر الخلوص في الطاعة ، فالشارع يمكنه التوسيع والتضييق ،
إلّا هذا التصرف يحتاج إلى دليل يثبته ولا دليل في المقام حيث أنّ دليل البراءة
غير ناظر إلى ذلك كما عرفت ، بل هو ناظر إلى ما يحتمل اعتباره في الواجب شرعا.
وهذا الكلام منه «قده»
أقرب ما يكون إلى الجزء الأول من كلامه لأنّه يمكن تخريجه على أساس كون الشك شكّا
في المحصل ، وحينئذ لا يرد عليه الإشكال الأول الّذي أورد على ما ذكر في الفوائد
من أنّ المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إلّا أنّه مع ذلك لا
يتمّ هذا الكلام.
لأنّه إن أريد
التفصيلية في الامتثال ممّا يحتمل اعتبارها في
الطاعة ، يعني أنّ
عنوان الطاعة لا يتحقّق بدونها ، فهذا معناه انّ الشك فيها يكون شكّا في المحصل ،
وفي مثله لا إشكال في جريان البراءة سواء كان ذلك الواجب الّذي احتمل دخالة
التفصيلية فيه شرعيا أو عقليا ، وحينئذ لا معنى لما ذكره من أنّ البراءة في المقام
لا تجري باعتبار انّ الشك إنّما هو فيما يحتمل اعتباره عقلا لا شرعا ، بينما دليل
البراءة غير ناظر للواجبات العقلية وإنّما هو ناظر إلى الواجبات الشرعية ، فضم مثل
هذا الكلام لا موضوع له في المقام لما عرفت من أنّ الشك في المحصل مجرى لقاعدة
الاشتغال حيث لا يفرق الحال فيما تتحقّق به الطاعة بين أن يكون ممّا يعتبر عقلا أو
شرعا في الطاعة.
وإن كان المراد من
كون التفصيلية في الامتثال ممّا يعتبر في الطاعة ، بمعنى انّ العقل يحكم بوجوب
التفصيلية مستقلا وأنّها قيد زائد على الطاعة ، ففيه أنّه لا موجب للالتزام بلزوم
ذلك في خصوص العبادات ، لأنّ عبادية العبادة قد تثبت بالإجماع في أغلب الأدلة أو
بما يكون مفاده مفاد الإجماع ، والقدر المتيقن من الإجماع هو أن يصدق على العمل
عنوان الطاعة ، وأمّا ما زاد عن ذلك ـ كعنوان التفصيلية في مقام الامتثال ـ لم
يثبت اعتباره.
ولعلّ مقصود
الميرزا «قده» من كلامه كما ستعرف ، من أنّ عنوان التفصيلية ، كقصد القربة أو أي
جزء أو شرط ممّا لا يمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر للزوم الدور ، فإذا شكّ في
اعتباره ، فتجري فيه قاعدة الاشتغال كما تجري في قصد القربة وسنتعرض لذلك فيما
يأتي إن شاء الله تعالى.
ثمّ انّه لو تمّ
ما ذكره الميرزا «قده» من انّ الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص
الأمر ، أو عن الأمر المعلوم المتأخر عنه رتبة ، لو تمّ هذا ، فإنّه يقال : إنّ
هذا إنّما يفيد في إبطال
عرضية الامتثال
الاحتمالي للامتثال التفصيلي ، ولا يبطل عرضية الامتثال الإجمالي للامتثال
التفصيلي.
إذ تارة يكون
الامتثال احتماليا بلا علم ، لا تفصيلي ولا إجمالي كما لو شكّ في وجوب الدّعاء عند
رؤية الهلال ، وبدل أن يفحص المكلّف عن الحكم أتى بالدّعاء لاحتماله وجوبه ، حينئذ
يكون انبعاثه انبعاثا عن احتمال التكليف ، وفي مثله يتم كلام الميرزا «قده» ، فإنّ
الانبعاث عن احتمال الأمر كان في طول الانبعاث عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم ، إذ
كان الواجب في مقام الاحتمال هذا الفحص عن دليل الوجوب ، فإذا لم يعثر على دليله ،
يمكنه حينئذ الإتيان بالفعل لاحتمال وجوبه ، وتارة أخرى يكون الامتثال إجماليا
لأنّ المورد من موارد العلم الإجمالي ، كما في محل الكلام ، حيث يعمل إجمالا بوجوب
أحد الفعلين ، فيأتي بهما معا ، كما لو علم إجمالا بوجوب الظهر ، أو الجمعة من يوم
الجمعة ، فأتى بهما دون أن يفحص ، فهنا يكون الانبعاث انبعاثا عن العلم الإجمالي
بالأمر وليس انبعاثا عن احتمال الأمر ، غايته أنّه انبعاث عن معلوم بالإجمالي لا
بالتفصيلي ، وحينئذ في مثله لا يتم كلام الميرزا «قده» ، إلّا إذا ضمّ إليه كلام
آخر ، وهو أنّ التحرك عن نفس الأمر المعلوم بالتفصيل مباشرة مقدّم على التحرك عن
احتمال الأمر المعلوم بالإجمال ، حينئذ لا يرد عليه هذا الإيراد.
وتوضيح الحال في
هذا الإيراد على الميرزا «قده» هو أنّه في موارد العلم الإجمالي ، الأمر وإن كان
معلوما ، إلّا انّ هذا الأمر المعلوم ولو حدوثا ـ بما هو معلوم لا يكفي في أن يكون
محركا نحو أحد الطرفين ، وإنّما محركيته نحو أحد الطرفين تكون بعد ضمّ احتمال
انطباق المعلوم الإجمالي عليه ، وحينئذ يجعل هذا حالة ثالثة وسطا بين الحالتين
بحسب تصورات الميرزا «قده» ، إذ تارة يكون التحرك عن شخص الأمر المعلوم
مباشرة ، وهذا
يكون في موارد العلم التفصيلي ، وتارة أخرى يكون المتحرك عن احتمال الأمر بلا
توسيط أيّ علم كما هو الحال في موارد الشّبهات البدوية ، كما في مثال الشك في وجوب
الدّعاء عند رؤية الهلال ، وثالثة يكون الأمر ممزوجا بكلا الأمرين ، بأن يكون
التحرك عن احتمال انطباق الأمر المعلوم على هذا الطرف.
وهذا القسم الوسط
لا إشكال فيه ، لأنّه في موارد العلم الإجمالي لا يكفي نفس العلم للتحريك نحو أحد
الطرفين إلّا إذا ضمّ إليه احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وحينئذ ، ففي
مثله يكون التحرك نحو الطرف ناشئا عن احتمال انطباق الأمر المعلوم بالإجمال على
هذا الطرف.
وحينئذ ، قد يقال
هنا : إنّ وجدان الميرزا أو دليله الّذي أقامه على أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر
في طول الانبعاث عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم ، يجري هنا أيضا ، فإنّ الوجدان أو
البرهان القائم في أصل المدّعى ، وهو كون احتمال الأمر في طول الأمر يساعد على ذلك
ويجري في محل الكلام ، حيث يقال : إنّ الانبعاث عن احتمال الأمر المعلوم في طول
الانبعاث عن نفس الأمر المعلوم مباشرة ، لأنّ احتمال الأمر المعلوم في طول الأمر
المعلوم ، وحينئذ يكون ما أورد على الميرزا «قده» غير تام من هذه الناحية.
هذا حاصل الكلام
في الوجه الأول ممّا استدلّ به على عدم كفاية الامتثال الإجمالي مع التمكن من
الامتثال التفصيلي.
٢ ـ الوجه الثاني
: هو أن يدعى انّ عنوان التفصيلية في مقام الامتثال واجب شرعي بنفسه وعنوانه إمّا
خطابا ، أو ملاكا بناء على عدم إمكان أخذه في متعلق الأمر ، وهذا الوجه ينطبق على
المسلك الثاني كما هو واضح.
وهذا الوجه قد
يستدلّ عليه تارة بالإجماع ، والاستدلال بالإجماع حينئذ يتناسب مع هذا المسلك ،
حيث أنّ الوجوب المدّعى شرعي ، وفي مثله ـ إذا تمّ الإجماع ـ يكون حجّة عليه
تعبّدا فيثبت به حكم شرعي ، نعم لو كان احتمال اعتبار التفصيلية باعتبار توقف
الطاعة عليها عقلا كما هو حال الوجه الأول ، لما أمكن الاستدلال عليه بالإجماع ،
لأنّ مثل هذا المدّعى يكون مسألة عقلية ، والإجماع غير حجّة فيها ، والحاصل هو
أنّه قد يستدلّ بالإجماع على هذا المدّعى.
إلّا أنّ هذا
الاستدلال غير تام ، لأنّه لا يمكن تحصيل مثل هذا الإجماع في مثل هذه المسألة
الّتي لم يتعرّض لها أكثر الفقهاء القدماء ، خصوصا وأنّ أكثر القائلين لا يرون
الوجوب الشرعي فيها كالميرزا «قده» ، بل يرون الوجوب بما هم عقلاء باعتبار الوجه
الأول ، وهو توقف أمر واجب عقلا عليه ، إذن فالاستدلال بالإجماع ساقط.
وقد يستدلّ على
هذا الوجه تارة أخرى بدليل آخر ، فيقال ، انّه لو تنزلنا عن الإجماع ، نقول : انّه
لا أقل من أنّ فتوى جملة من العلماء بوجوب التفصيلية في الامتثال توجب احتمال
اعتبارها شرعا ، وحينئذ يمكن ترتيب صغرى وكبرى يترتب عليها وجوب عنوان التفصيلية.
أمّا الصغرى فهي ،
انّ التفصيلية في الامتثال لا يمكن أخذها قيدا في متعلق الأمر ، لأنّ مرجعها إلى
تحصيص الانبعاث وقصد القربة بحصة خاصة من القربة ، وهي القربة الناشئة عن العلم
بالأمر وحيث ان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر غير معقول ، فكذلك أخذ حصة خاصة منه
في متعلّق الأمر غير معقول ، وبهذا يثبت ان التفصيلية لا يعقل أخذها في متعلّق
الأمر.
وأمّا الكبرى ،
فهي انّ كل القيود الّتي لا يعقل أخذها في متعلّق
الأمر ، إذا شك في
اعتبارها ودخلها في غرض الشارع ، مثل هذه القيود لا يمكن نفيها ، بالإطلاق ولا
بالبراءة.
أمّا عدم إمكان
نفيها بالإطلاق ، فلما عرفت من أنّه فرع التقييد ، وقد عرفت انّ التقييد مستحيل
فالإطلاق مثله ، بل يكون من باب السالبة بانتفاء موضوعها.
وأمّا عدم إمكان
إجراء البراءة ، فلأنّ دليلها ناظر إلى القيود الشرعية المنظورة من قبل الشارع لا
إلى ما حكم العقل بوجوبه ، إذن فهذه القيود غير شرعية ، لأنّها لا تؤخذ في متعلق
الخطاب الشرعي ، إذن فلا تجري البراءة فيها.
وحينئذ ، فإذا
تمّت الصغرى والكبرى ، أنتجت انّ عنوان التفصيلية الّذي هو مشكوك الاعتبار ، لا
يمكن نفي اعتباره لا بأصل لفظي ، ولا بأصل عملي ، ومعه يتعيّن مراعاته مهما أمكن ،
ولعلّ هذا هو مقصود الميرزا «قده» عند ما ادّعى انّ المورد من موارد أصالة
الاشتغال ، لا البراءة لما ذكرنا.
وخلاصة هذا الوجه
، هو انّ التفصيلية في الامتثال هي من القيود الّتي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر
، وإنّما وجوبها على فرض اعتبارها إنّما هو بحكم العقل ، وحينئذ ، نفي اعتبارها
غير ممكن ، لا بالإطلاق اللفظي ، ولا بالأصل العملي ، فتجري فيها حينئذ أصالة
الاشتغال كما عرفت.
وهذا الكلام غير
تام ، لا بلحاظ الإطلاق ، ولا بلحاظ الأصل العملي.
أمّا كونه غير تام
بلحاظ الإطلاق ، فلأنّه يرد عليه إيرادان.
الإيراد الأول : هو
منع الصغرى ، بمعنى أنّنا لا نسلّم انّ التفصيلية
لا يمكن أخذها
قيدا في متعلق الأمر ، أمّا بناء على مسلك من يقول بإمكان أخذ قصد القربة قيدا في
متعلق الأمر ، فالمطلب واضح.
وأمّا بناء على
مسلك من يحيل أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، فنقول : إنّ هذه الاستحالة لا
تعني استحالة أخذ التفصيلية قيدا فيه ، والوجه في ذلك هو ، انّ الامتثال التفصيلي
يقابله الامتثال الإجمالي ، والامتثال الإجمالي ينحل إلى أمرين ، أحدهما ، قصد
القربة ، والثاني ، هو اقتران العمل عند امتثاله بالعلم الإجمالي والشك في وجوبه
حين الإتيان به ، بينما الامتثال التفصيلي ينحل إلى أمرين أيضا ، أحدهما قصد
القربة ، والثاني هو أن يكون الفعل حين الإتيان به معلوم الوجوب ، إذن ، فقصد
القربة هو الجزء المشترك بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي ، فما به امتياز
الإجمالي هو الإجمال ، وما به امتياز التفصيلي هو عدم الإجمال ، وحينئذ لا محذور
في أن يؤخذ في متعلق الأمر ، عدم الشك في وجوب الفعل حين الإتيان به ، فيقال مثلا
: ائت بهذا الفعل مقيدا بأن لا يكون مشكوك الوجوب حين الإتيان به ، فيؤخذ الشك
مانعا ، وعدمه قيدا ونتيجة ذلك أخذ التفصيلية شرطا في الامتثال ولا محذور في ذلك
أصلا حينئذ ممّا كان يرد على أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، وحينئذ ، لأنّه
إذا أمكن التقييد بهذا ، أمكن التمسك بالإطلاق لنفيه وعدم اعتباره عند الشك.
٢ ـ الإيراد
الثاني : وهو ما أشير إليه في الكفاية ، في بحث التعبّدي والتوصلي ، من أنّه إذا سلّمنا الصغرى
وقلنا باستحالة التقييد ، فغاية ما يقتضيه ذلك هو تعذّر الإطلاق اللفظي ، وأمّا
الإطلاق المقامي فيبقى ممكنا ، لأنّ الشارع بصدد بيان ما له دخل في غرضه ، والحال
أنّه
__________________
لم يذكر هذا
الدخيل ، وهذا يوجب مع عدم ذكر القيد انعقاد إطلاق مقامي في المقام ، وإطلاق في
الرّوايات الّتي هي بصدد بيان تمام كل ما له دخل في غرضه بالنسبة إلى كل قيد يشكّ
في دخالته ، وحينئذ ، يمكن أن ينفى مثل هذا القيد بهذا الإطلاق.
وأمّا كونه غير
تام بلحاظ الأصل العملي فلأنّه يرد عليه ثلاثة إيرادات.
١ ـ الإيراد الأول
: هو أنّنا نمنع الصغرى الّتي بني عليها استدلال عدم أخذ التفصيلية قيدا في متعلق
الأمر ، وذلك لما عرفت من إمكان أخذ عدم الشك قيدا في متعلق الأمر في مورد العلم
الإجمالي ، وحينئذ ، لا يرد محذور أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر.
٢ ـ الإيراد
الثاني : هو أنّه لو سلّمنا الصغرى ، وانّ هذا لا يعقل أخذه قيدا في متعلق الأمر.
إلّا أنّه هنا
مغالطة ، وهي انّ هذا واجب ، بحكم العقل ، ودليل أصل البراءة غير ناظر لذلك.
لكن مع ذلك ، فنحن
نمنع ما جاء في الكبرى ، من عدم إمكان نفي التفصيلية بالبراءة ، باعتبار أنّ
وجوبها عقلي ، لا شرعي.
والوجه في هذا
المنع هو ، أنّ وجوبها شرعي ، لأنّ غاية ما يحكم به العقل هو وجوب استيفاء غرض
المولى ، وأمّا ما هو الدخيل في غرضه ، فهذا من وظيفة المولى إذ هو الّذي يلزم به
، غاية الأمر ، انّ هذا الإلزام تارة يكون غرضيا فقط ، بحيث لا يمكن أخذه قيدا في
متعلق الأمر ، وأخرى يكون خطابيا فيما إذا أمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر ، إذن ،
فالإلزام شرعي على كلّ حال ، فإذا ثبت أنّ وجوب التفصيلية شرعي ، فلا مانع حينئذ
من إجراء البراءة عنها عند الشك في اعتبارها.
نعم ، في طول
إلزام الشارع بها ، يحكم العقل بلزومها من باب وجوب الطاعة والامتثال ، والحاصل
انّ وجوب هذه الخصوصية شرعي ، وحينئذ لا يفرق الحال في جريان البراءة ، بين أن
يكون التحميل خطابيا ، أو غرضيا بعد ان كانت هذه الكلفة من قبل الشارع ، وحينئذ
يشملها دليل البراءة.
٣ ـ الإيراد
الثالث : هو أنّه لو سلّمنا دعوى انصراف أدلة البراءة الشرعية إلى خصوص ما كان
بيانه بالخطاب ، وقلنا انّ التفصيلية لا يعقل أخذها في متعلق الخطاب ، فحينئذ لا
يمكن إجراء البراءة الشرعية.
إلّا أنّه لا مانع
في المقام من إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناء على مسلكهم لأنّ هذه الكلفة من
قبل الشارع لا العقل ، إذن فوجوبها شرعي ، وحينئذ يقبح من الشارع العقاب عليها بلا
بيان هذه الكلفة ، ولو بجملة خبرية إن لم يتمكن من بيانها بجملة إنشائية.
وبهذا تعرف انّ
هذا الوجه غير تام.
٣ ـ الوجه الثالث
: هو دعوى انّ العقل يحكم بعدم جواز الامتثال الإجمالي ، بقطع النظر عن كون
التفصيلية في نفسها دخيلة في غرض الشارع ، ومن الواضح انّ هذا الحكم العقلي ليس من
تبعات حكمه بوجوب امتثال التكليف الأصلي ، إذ من الواضح انّ كل تكليف لا يستدعي
إلّا استيفاء غرضه ، إذن فلا موجب لحكم العقل بلزوم التفصيلية ما لم يكن غرضه
متوقفا على التفصيلية بعنوانها ، ومن هنا قيل : بأنّ حكم العقل بذلك إنّما كان
باعتبار انطباق عنوان قبيح على الامتثال الإجمالي ، بل لعلّه محرّم شرعا ، لأنّه
حينئذ يكون لعبا وسخرية بأمر المولى ، بل المولى نفسه ، وهو قبيح عقلا ، وحينئذ لا
بدّ من الالتزام ببطلان العبادة ، باعتبار أنّه مع حرمتها شرعا لا يمكن الالتزام
بصحتها خارجا.
والخلاصة هي أنّ
العقل يحكم بعدم جواز الامتثال الإجمالي ، باعتبار انطباق عنوان قبيح عليه ، وهو
كون هذا الامتثال لعبا بأمر المولى ، واللعب بأمر المولى قبيح عقلا ، بل محرّم
شرعا ، ومعه لا بدّ من الالتزام ببطلان العبادة الممتثلة إجمالا ، لأنّها تكون
محرّمة بهذا العنوان ، ومعه لا يمكن أن تكون مصداقا للواجب ، لعدم إمكان التقرّب
بها ، والّذي هو شرط في صحة العبادة.
وهذا الوجه غير
تام ، ويرد عليه حلا ونقضا.
أمّا نقضا :
فلأنّه لو تمّ بهذا البيان لسرى إلى الواجبات التوصلية ، فإنّ الواجب التوصلي وإن
كان لا يشترط فيه قصد القربة ، لكن يشترط فيه أن لا يكون حراما لاستحالة اجتماع
الأمر والنهي ، بناء على الامتناع ، فلا يعقل كونه مصداقا للواجب ، لأنّه لا يعقل
كون مصداق الواجب التوصلي حراما ، إذ الأصل في الحرام أن لا يسقط الواجب ، لأنّ ما
تعلّق به النهي لا ينبسط عليه الأمر أو الوجوب ، وأمّا أجزاؤه في بعض الموارد مع
كونه حراما فإنّما هو لدليل خاص ، مع أنّه لا إشكال في إجزاء الواجب التوصلي في
موارد الامتثال الإجمالي.
والحاصل : انّ الواجب
التوصلي وإن كان يشترط فيه قصد القربة ، لكن يشترط فيه أن لا يكون حراما لاستحالة
اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ، إذ لا يعقل كون مصداق الواجب التوصلي
حراما ، إذ الأصل في الحرام أن لا يسقط الواجب ، لأنّ ما تعلّق به النهي لا ينبسط
عليه الأمر أو الوجوب وإذا رأيت إجزاء الواجب التوصلي في بعض الموارد مع كونه
حراما فإنّما ذلك لدليل خاص ، مع أنّه لا إشكال في أجزاء الواجب التوصلي في موارد
الامتثال الإجمالي ، وحينئذ ، إذا قيل بأنّ هذا لعب في أمر المولى ، حينئذ يلزم
أنّه في موارد التوصليات إذا احتاط المكلّف في مورد الاحتياط ، إذن يصدّق عليه
أنّه يتلاعب ويسخر
بأمر المولى ويكون
هذا قبيحا وحراما لما عرفت ، مع أنّه لا إشكال في أجزاء الواجب التوصلي في مورد
الامتثال الإجمالي.
وأمّا حلا :
فبثلاثة وجوه.
١ ـ الوجه الأول :
هو ما أفاده صاحب الكفاية «قده» ، من أنّه لا لعب في الامتثال الإجمالي ، إذ كثيرا ما يتفق
وجود داعي عقلائي شخصي في تفضيل الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي من قبيل
أن يكون الفحص عند المكلّف ، وتعيين الامتثال ، أصعب من الاحتياط ، كما في تعيين
القبلة ، فحينئذ يكون الامتثال الإجمالي لداع عقلي شخصي ، وليس لعبا ، وهذا جواب
صحيح.
ولكن قد اعترض على
هذا الوجه ، بأنّه لا يكفي في صحة العبادة أن يكون الداعي غير داعي اللعب ، بل
يشترط في صحتها أن يكون الداعي هو قصد القربة ، لأنّ العبادة لا تصح بالداعي
الشخصي ، وهذا الوجه لا يثبت ذلك ، فيبقى الإشكال.
وهذا الاعتراض غير
تام ، وجوابه واضح ، لأنّ أصل برهان الخصم كان يعترف فيه أنّ الداعي القربي موجود
، لكن كان يقول : بأنّ هناك داع آخر موجود معه ، وهذا الداعي الآخر يوجب تعنون
الفعل بعنوان قبيح عقلا ، وهذا الوجه قد أثبت عدم وجود هذا الداعي الآخر أو
العنوان الآخر ، إذن الداعي غير القبيح يكفي ومعه لا يبقى مانع من صحة العبادة ،
لأنّ أصل جامع العبادة وقع صحيحا ، وحينئذ تطبيقه على مصداقه بداعي شخصي لا يضرّ
بصحته ، وعليه ، فلا يرد هذا الإيراد على صاحب الكفاية ، بل ما أفاده «قده» صحيح.
__________________
٢ ـ الوجه الثاني
: هو أنّه لو سلّم أنّ الامتثال الإجمالي لعب ، ولا يوجد داعي عقلائي ، لكن هذا
اللعب ليس لعبا بأمر المولى ولا سخرية به ، وإنّما هو لعب في نفسه ، وليس كل لعب
في نفسه يكون قبيحا أو حراما شرعا ، وإذا لم يكن كذلك وانطبق على العبادة فلا
يعنونها بعنوان قبيح ، إذ فرق كبير بين اللعب بما هو لعب في نفسه ، واللعب بأمر
المولى ، إذ اللعب في نفسه حتّى لو انطبق على العبادة ، فإنّه لا يعنونها بعنوان
قبيح عقلا.
٣ ـ الوجه الثالث
: هو أنّه لو سلّم انّ هناك لعبا ، وأنّه لعب بأمر المولى ، لكن هذا اللعب لا يوجب
البطلان ، لأنّه لعب في كيفية الطاعة والأداء ، وليس لعبا بأصل الطاعة وأصل الأداء
، فإذا كان هذا اللعب يوجب تعنون الفعل بعنوان قبيح ومحرّم ، فإنّما يوجب تعنون
الكيفية لا أصل الطاعة.
إلّا أنّ هذا
الوجه غير تام ، لأنّه إذا كانت كيفية الطاعة متحدة وجودا مع أصل الطاعة فحينئذ
يتعنون أصل الطاعة بعنوان قبيح ، ومعه يبطل الفعل ، نعم يصحّ هذا الوجه إذا كانت
كيفية الطاعة مقارنة لنفس الطاعة وأصلها لا متحدة معها ، وعلى أيّ حال ، فإنّه
يكفينا في مقام الجواب الوجهان الأول والثاني المتقدّمان ، وبهذا يثبت انّ الصحيح
هو أنّ الامتثال الإجمالي ليس في طول الامتثال التفصيلي ، بل هو في عرضه.
تنبيهات المسألة
١ ـ التنبيه الأول
: هو أنّه لو بني على أنّ الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي ، فهل هذه
الطولية تختصّ بخصوص الامتثال التفصيلي الوجداني ، أو تعمّ الامتثال التعبّدي؟ فإنّ
المكلّف تارة يكون متمكنا من الامتثال التفصيلي الوجداني ، بمعنى أنّ المكلّف
يتمكن من تعيين الوظيفة واقعا ووجدانا ، وأخرى يكون متمكنا من تعيين الوظيفة
تعبّدا بواسطة قاعدة من القواعد الظاهرية أو أصل من الأصول.
والجواب هنا يختلف
باختلاف المدارك الّتي حاولوا بها إثبات هذه الطولية ، فعلى بعضها ، ينبغي إسراء
الطولية إلى الامتثال التفصيلي التعبّدي ، وعلى بعضها الآخر ينبغي عدم إسرائها ،
بل تختصّ بخصوص الامتثال التفصيلي الوجداني.
وتوضيحه : هو أنّه
إذا استندنا في إثبات طولية الامتثال الإجمالي ـ بالنسبة للامتثال التفصيلي ـ على
الوجه الأول ، فحينئذ يقال :
إنّ الطولية لا
تثبت بالنسبة للامتثال التفصيلي التعبّدي ، بل تختصّ بخصوص الامتثال التفصيلي
الوجداني ، والوجه في ذلك هو أنّ إثبات الطولية بالوجه الأول كان بدعوى انّ
الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص الأمر ، بمعنى انّ حسن الانبعاث
عن احتمال الأمر منوط بعدم التمكن من الانبعاث عن نفس الأمر.
وهذا الكلام إنّما
يثبت الطولية بين الامتثال الإجمالي ، والامتثال
التفصيلي الوجداني
، لأنّه يقال : إنّ المكلّف إذا كان متمكنا من تحصيل العلم الوجداني بالوظيفة ،
إذن فهو متمكن من الانبعاث عن شخص الأمر ، وحينئذ تتم الطولية لما ذكر من أنّ
الانبعاث عن شخص الأمر متقدّم على الانبعاث عن احتمال الأمر.
وأمّا إذا فرض انّ
المكلّف غير متمكن من الامتثال التفصيلي الوجداني ، وكان متمكنا من الامتثال
التفصيلي التعبّدي فحينئذ لا تتم الطولية لأنّ الانبعاث في صورة تعيين الوظيفة
تعبّدا سوف يكون عن احتمال الأمر حتّى بعد قيام هذه الحجّة التعبّديّة ومهما كان
لسان حجيّتها كما في الامتثال الإجمالي ، لأنّ وظيفة الحجّة الّتي عيّنت الوظيفة
العملية هي جعل الاحتمال منجزا ، والاحتمال الآخر مؤمّنا عنه ، فالمكلّف على أيّ
حال هو ينبعث عن الاحتمال المنجز في المقام ، لا عن شخص الأمر كما في موارد العلم
التفصيلي الوجداني ، وذلك لأنّه يحتمل عدم وجود شخص الأمر لاحتمال خطأ الامارة ،
ومعه لا يمكن الانبعاث عن شخص الأمر.
وهذا الكلام يصدق
حتّى بناء على مسلك الميرزا «قده» في جعل الطريقيّة من أنّ مفاد جعل الحجّة هو جعل
الامارة علما وطريقا ، لأنّ هذا الجعل إنّما يعطي للامارة صفة المنجزية والمعذرية
، ولا يعطيها خصائص وصفات العلم التكوينيّة الّتي منها كون العالم ينبعث عن شخص
الأمر.
وعليه : فلمّا كان
الانبعاث في موارد العلم التفصيلي التعبّدي عن احتمال الأمر لا عن شخصه ، يكون
حاله حال العلم الإجمالي ومعه لا معنى للطولية وانّ الأمر دائر بين الانبعاث عن
احتمال الأمر وشخص الأمر ليقدّم الثاني على الأول ، إلّا أن يدّعى دعوى أخرى فيقال
:
إنّ الوجدان قاض
بأنّ حسن الانبعاث عن احتمال لم يجعل علما
بنظر الشارع ، كما
في موارد الامتثال الإجمالي ، هو في طول الانبعاث عن احتمال جعل علما بنظره ، كما
في موارد الامتثال التفصيلي التعبّدي.
وهذه الدعوى مبنية
على أنّ مفاد جعل الحجّة هو جعل الامارة علما.
إلّا أنّ هذه دعوى
جديدة لا ربط لها بأنّ الانبعاث عن المتأخر في طول الانبعاث عن المتقدّم كما جاء
في الوجه الأول.
وأمّا إذا استند
في إثبات الطولية إلى الوجه الثاني ، فحينئذ تتم الطولية حتّى بالنسبة إلى
الامتثال التفصيلي التعبّدي ، فإنّ الوجه الثاني قد استدلّ عليه تارة بالإجماع ، وأخرى
بجريان أصالة الاشتغال بالتقريب المتقدّم ، وفي كلتا الحالتين تتمّ الطولية.
أمّا انّها تتمّ
إذا استدلّ بالإجماع ، فلأنّه قد نقل هذا الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقي
الاجتهاد أو التقليد ، ومن الواضح انّ التقليد عبارة عن الامتثال التفصيلي
التعبّدي ، وكذلك الاجتهاد في أغلب الأحيان ، فلو سلّم انعقاد إجماع على ذلك لكان
شاملا لمورد الكلام ، من أنّه إذا أمكن الامتثال التفصيلي التعبّدي فلا يكفي
الامتثال الإجمالي.
وأمّا إذا استدلّ
بأصالة الاشتغال فأيضا تتمّ الطولية في مورد العلم التفصيلي التعبّدي فيقال : إنّ
فتوى العلماء بالطولية ببركة هذا الإجماع المنقول يوجب احتمال اعتبارها بالنسبة
للتفصيلي التعبّدي ، وحيث لا يمكن نفي ذلك بالإطلاق ولا بالبراءة كما تقدّم ،
وحينئذ تجري أصالة الاشتغال ، إذن فالوجه الثاني بكلا تقريبيه لا يبعد جريانه في
المقام.
وأمّا إذا استند
في إثبات الطولية إلى الوجه الثالث ، وهو كون الامتثال الإجمالي لعبا بأمر المولى
، فحينئذ لا تتمّ الطولية بالنسبة إلى الامتثال التفصيلي التعبّدي وذلك لعدم
انطباق «اللعب بأمر المولى» ، على الامتثال الإجمالي حينئذ ، وذلك لأنّ العدول من
التفصيلي التعبّدي ، إلى الإجمالي ، إنّما هو لداع عقلائي يرجع بالفائدة على
المولى ، لأنّه
بالامتثال الإجمالي الموجب للتكرار يحصل الجزم بالإتيان بالواجب وتحصيل غرض المولى
، بينما في صورة تعيين الوظيفة تعبّدا إذا أتى بتلك الوظيفة فإنّه لا يحرز الإتيان
بالواجب واقعا لاحتمال خطأ الدليل الّذي عيّن تلك الوظيفة وإن كان معذرا.
فإن قيل : لما ذا
لا يعيّن الوظيفة فيأتي بها ، ثمّ يأتي بالمحتمل الآخر احتياطا فيجمع بذلك بين
الامتثال التفصيلي التعبّدي والاحتياط مثلا كما صلاة الظهر والجمعة من يوم الجمعة؟
ففيه : انّ العدول عن مثل ذلك إلى الإتيان الامتثال الإجمالي أيضا فيه داع عقلائي
وهو أنّ التعيين والاحتياط بعد ذلك ، فيه مضافا إلى التكرار مشقة الفحص ، والعدول
إلى ما ليس فيه هذه مشقة أمر عقلائي.
أو قل : إنّ هذا
العدول باعتباره أخف مئونة ، لأنّ ذاك يستبطن الفحص والاحتياط ، بينما الامتثال
الإجمالي يستبطن الاحتياط فقط ، إذن ، فالعدول عن الأصعب إلى الأخف صعوبة ليس لعبا
بأمر المولى ، بل هو تصرف عقلائي فضلا عن أنّه في الأصعب لا يحصل فيه إلّا احتمال
إصابة الواقع ، وبهذا ظهر أنّ الطولية لا تتمّ بالنسبة للعلم التفصيلي التعبّدي
بناء على الوجه الثالث.
٢ ـ التنبيه
الثاني : هو انّ الّذين استشكلوا في جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال
التفصيلي استشكلوا من ذلك عدّة موارد جوّزوا فيها الاجتزاء بالامتثال الإجمالي.
١ ـ المورد الأول
: فيما إذا كان الامتثال التفصيلي متعذّرا ، وملاك هذا الاستثناء واضح وحينئذ لا
ينبغي الاستشكال في صحة هذا العدم ورود الوجوه الثلاثة الّتي ذكرت في مقام إثبات
الطولية في المقام ، لا الأول ، ولا الثاني ولا الثالث ، أمّا الإجماع ، فلأنّ
مورده التمكن من الاجتهاد ، أو التقليد ، بل الإجماع قائم على الخلاف في المقام ،
وأمّا
ملاك اللهو واللعب
بأمر المولى ، فلأنّ داعي التكرار هو الاحتياط وإحراز الامتثال ، وأيّ داع عقلائي
أوضح منه ، وأمّا الطولية ، فلأنّ موردها هو ما إذا كان الانبعاث عن شخص الأمر
ممكنا لا ممتنعا كما في المقام.
٢ ـ المورد الثاني
: هو ما إذا كان الحكم غير منجز الامتثال على المكلّف ، بحيث كان يمكنه تركه رأسا
، وهذا له مصداقان.
أ ـ المصداق الأول
: هو باب المستحبات ، كما لو علم باستحباب الصّلاة يوم العذير وشكّ في أنّها
ثنائية ، أو رباعية فهنا بإمكانه ترك الصّلاة ولكن أراد أن يصلّي ، فبدلا من
الرّجوع إلى الدليل لتعيين المستحب ما هو ، أتى بالصّلاتين رجاء لاحتمال أن يصيب
المطلوب ، وقد حكموا فيه بكفاية هذا الامتثال الإجمالي.
ب ـ المصداق
الثاني : في الواجبات كما لو كان الواجب العبادي محتملا لاحتمال مؤمّن عنه غير
منجز ، فهو مردّد بين عملين بحيث يمكنه رفع هذا التردّد بالرّجوع إلى الدليل
لتعيينه ، وذلك كما في صلاة يوم العيد ، حيث يشكّ في أنّها ثنائية أو رباعية فيأتي
بهما معا لعلّه يصيب الواقع ، فهنا يقال بجواز الامتثال الإجمالي وذلك بالإتيان
بالصّلاتين احتياطا أو رجاء ، والحكم بكفاية الامتثال الإجمالي في هذا المورد
الّذي كان المكلّف فيه متبرعا محتاطا وإن كان واضحا على الوجه الأول والثاني ،
إلّا أنّه لا يخلو من غموض بناء على الوجه الثالث ، باعتبار أنّ العلب بأمر المولى
لا يفرق فيه الحال بين أن يكون ملزما بالتكليف ، أو أن يكون مستحبا ، أو أن يكون
منجزا أو غير منجز ، ونفس هذا الغموض يمكن أن يجعل نقضا على الوجه الثالث باعتبار
أنّ صاحبه يعترف بالإجزاء في المقام مع أنّ دليله يقتضي ثبوت الطولية وعدم كفاية
الامتثال الإجمالي فيه.
٣ ـ المورد الثالث
: هو ما إذا لم يلزم التكرار من الامتثال الإجمالي كما في موارد دوران الأمر بين
الأقل والأكثر قبل الفحص حيث يكون منجزا ، فبدلا من أن يفحص ويعين الوظيفة يأتي
بالأكثر احتياطا ، وهذا الاستثناء وإن كان واضحا على بعض المسالك لكنّه يختلف بحسب
المسالك الأخر ، إذ بناء على المسلك الثاني ، وهو الاستدلال بالإجماع يتم ما ذكر
ويصح الاستثناء ، لأنّ من ادّعى الإجماع إنّما ادعاه في خصوص ما إذا لزم التكرار
من الامتثال الإجمالي ، وحيث لم يلزم التكرار في المقام ، إذن لا إجماع ـ في
المقام ـ ، وكذلك يصحّ هذا الاستثناء بناء على المسلك الثالث حيث لا ينطبق عنوان
اللعب واللهو على من أتى بالأكثر ، بل الّذي أتى به قد يكون هو المطلوب الشرعي للمولى
، لأنّه لم يأت بأي شيء زائد ، وهذا بخلاف المسلك الأول حيث يجزم عند التكرار
بأنّه أتى بأمر زائد ولذا ، فانطباق عنوان اللعب واضحة في صورة التكرار ، وهذا
بخلافه في صورة الإتيان بالأكثر احتياطا عند الدوران بين الأقل والأكثر ، وأمّا
بناء على المسلك الأول ، فالحكم بكفاية الامتثال الإجمالي غير واضح لانطباق المسلك
الأول المذكور ، إذ لا يفرق بين المقام وبين موارد التكرار ، لأنّه عند الإتيان
بالجزء الزائد المشكوك لا يكون منبعثا عن شخص الأمر ، بل يكون منبعثا عن احتمال
الأمر لأنّ الأمر بالمركب يكون داعيا إلى كل جزء من أجزائه باعتبار تعلقه الضمني
به ، وتعلق الضمني بالجزء الزائد أمر مشكوك ، فالإتيان به حينئذ يكون انبعاثا عن
احتمال تعلق الأمر لا عن شخصه ، وحينئذ يقال : إنّ الانبعاث عن احتمال الأمر في
طول الانبعاث عن شخص الأمر كما هو لسان المسلك الثالث ، ومعنى هذا ومقتضاه هو عدم
كفاية الامتثال الإجمالي.
وخلاصة المورد
الثالث الّذي استثني واكتفوا فيه بالامتثال الإجمالي ، هو ما لم يلزم منه التكرار
، كما في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر
كما في احتمال كون
السورة داخلة تحت متعلق الأمر أو لا ، حيث أنّه حينئذ تجري البراءة عن الأكثر ،
إذن ، فهنا لا إشكال في جواز الامتثال الإجمالي ، ولا حاجة حتّى مع التمكن من
تحصيل الحجّة على الأكثر.
ولعلّ هذا المطلب
يختلف باختلاف المسالك السابقة ، فإنّه إذا بنينا على المسلك الأول ـ وهو أنّ
الانبعاث عن احتمال الأمر متأخر رتبة عن الانبعاث عن شخص الأمر ـ فقد يقال هنا :
بانطباقه على محل الكلام ، وذلك لأنّ المكلّف بلحاظ هذا الجزء المشكوك ، وهو
السورة ، لا يكون منبعثا عن شخص الأمر ، بل هو منبعث عن احتمال الأمر ، لأنّ الأمر
بالمركب يكون داعيا إلى كل جزء من أجزائه باعتبار تعلقه الضمني به ، ومن الواضح
أنّ الأمر النفسي بهذه الصّلاة وإن كان معلوما ، لكن تعلّق هذا الأمر الضمني بشخص
هذا الجزء أمر مشكوك ، إذن فالانبعاث فيه انبعاث عن احتمال تعلّق الأمر ، إذ انّ
شخص الأمر وإن كان معلوما إلّا أنّه لا يفيد في مقام الانبعاث ، لأنّه فرع أن يكون
متعلقا بالجزء المشكوك ، وهذا التعلّق ليس معلوما ، بل هو محتمل ، إذن فالانبعاث
يكون عن احتمال التعلّق لا واقع التعلّق ، وحينئذ لا يبقى فرق واضح ما بين
المطلبين ، إلّا أن يدّعى المصادرة في مقام التمييز ، بدعوى وجدانية من دون ربطها
بميزان فني ، وهي أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر متأخر رتبة عن الانبعاث عن شخص
الأمر فبناء على هذا المسلك لا يكون هناك فرق واضح.
نعم بناء على
المسلك الثاني إذا استدلّ بالإجماع ، فمن الواضح أنّه لا إجماع في هذه المسألة ،
لأنّ من ادّعى الإجماع خصّص كلامه بخصوص ما إذا استلزم التكرار ، وهنا لا استلزام
للتكرار ، فانطباق عنوان اللعب عنا أخفى من هناك ، لأنّ هذا الّذي أتى به هنا
لعلّه لا يزيد عن مطلوب المولى ، بينما هناك في التكرار يزيد جزما.
٣ ـ التنبيه
الثالث : هو أنّه بناء على ما هو الصحيح من عرضية
الامتثال الإجمالي
للامتثال التفصيلي ، وعدم الطولية بينهما يتضح أنّ الامتثال الإجمالي جائز في نفسه
، بل حتّى مع التمكن من الامتثال التفصيلي كما عرفت.
والمقصود في هذا
التنبيه هو الإشارة إلى نكتة عدم الفرق بين الامتثال الإجمالي الوجداني ،
والامتثال الإجمالي التعبّدي ، وإنّ كليهما عرضيين بالنسبة للامتثال التفصيلي.
ومثالهما أنّه
تارة يفرض بأنّ الامتثال إجمالي وجداني كما لو علم إجمالا بأنّ أحد هذين المائعين «ماء
مطلقا» ، لكن لا يدري أيّهما المطلق ، فإذا توضأ تارة بهذا ، وأخرى بذاك ، فهذا
امتثال إجمالي وجداني ، فلا يحصل له بالتكرار علم وجداني بالامتثال هذا.
وتارة أخرى يفرض
انّ هذا المكلّف لا يعلم إجمالا بأنّ أحد المائعين مطلق ، لكن قامت عنده حجّة
ظاهرية على أنّ أحدهما لا بعينه مطلق ، ففي مثله لو توضأ بهذا تارة ، وبالآخر أخرى
، فهنا يحصل امتثال إجمالي لكن تعبّدي ، لأنّه لا يحصل له يقين وجدانا بهذا
الامتثال لاحتمال كون المائعين «مضافا» إذن ، فالعلم بالامتثال علم إجمالي تعبّدي
، وبناء على جواز الامتثال الإجمالي لا يفرق الحال بين التعبّدي منه والوجداني ،
اللهمّ إلّا إذا دليل حجّة هذه الحجيّة أخذ في موضوعه انسداد باب العلم ، فحينئذ
لا حجيّة مع انفتاح باب العلم والتمكن من تحصيله ، إذ معه لا امتثال إجمالي أصلا ،
وهذا مطلب آخر مربوط بضيق دائرة الحجيّة وسعتها.
والحاصل هو أنّه
بناء على عرضية الامتثال الإجمالي للامتثال التفصيلي ، لا يفرق الحال بين الامتثال
التفصيلي الوجداني ، والامتثال التفصيلي التعبّدي من حيث العرضية المذكورة.
وتوضيحه هو أنّ
الامتثال الإجمالي على قسمين.
الأول وجداني ،
كما لو علم وجدانا بإطلاق أحد هذين الماءين ، فتوضأ بأحدهما أولا ثمّ بالآخر ثانيا
، فحينئذ يحصل له علم إجمالي وجداني بأنّه قد توضأ بماء مطلق ، وبه يتحقّق منه
الامتثال الإجمالي الوجداني.
والثاني تعبّدي ،
كما لو فرض أنّه قد قامت عنده الحجّة على إطلاق أحد الماءين لا بعينه ، فلو توضأ
بأحدهما ثمّ توضأ بالآخر ، يحصل عنده علم إجمالي تعبّدي بأنّه قد توضأ بماء مطلق ،
وبذلك يتحقّق منه الامتثال الإجمالي التعبّدي لا الوجداني ، لاحتمال خطأ الحجّة
وكون الماءين مضافين.
ثمّ إنّ هذا
الامتثال الإجمالي التعبّدي له صور.
الصورة الأولى :
هي أن يفرض قيام الحجّة على إطلاق ماء أو الطهارة في ماء معين ثمّ بعد هذا يشتبه
هذا الماء مع آخر مضاف ، وحينئذ ، وإن كان مصبّ الحجّة معينا في البداية لكنّه بعد
هذا اختلط واشتبه بالمضاف قطعا ، وفي مثله لا إشكال فيما ذكرناه من الأجزاء لو
كرّر الوضوء بهما لتحقّق الامتثال الإجمالي ، باعتبار انّ هذا المكلّف وإن لم يعلم
وجدانا بالامتثال الواقعي ، لكنّه يعلم وجدانا بالامتثال الظاهري وأنّه توضأ بماء
محكوم بالإطلاق ظاهرا ، وهذا يكفي في مقام الخروج عن العهدة.
٢ ـ الصورة
الثانية : هي أن يفرض قيام الحجّة على إطلاق ماء مردّد بين ماءين ولكنّه متعين
بعنوان إجمالي في الواقع ، كما لو قامت الحجّة على إطلاق ماء إناء زيد ثمّ اشتبه
هذا الإناء بإناء آخر حيث صار إناء زيد غير متعين بينهما ، فهنا ، مصبّ الحجّة في
نفس الأمر والواقع متعين ، ولكنّه عند المكلّف هذا غير متعين من أول الأمر ، فإذا
كرّر المكلّف الوضوء بهما بأن توضأ بهما فإنّه يعلم وجدانا حينئذ بأنّه توضأ
بماء زيد ،
والمفروض أنّه مطلق بالتعبّد ، إذن فلا إشكال في الإجزاء ويحصل الامتثال به ، وهو
كاف في الخروج عن العهدة.
٣ ـ الصورة
الثالثة : هي أن يفرض قيام الحجّة على إطلاق أحد الإناءين ، لكن هذا الإناء المطلق
غير متعين في أفق علم المكلّف بأيّ معين ، سوى أنّه في أحد الإناءين ، وكذلك لو
احتمل إضافتهما معا أيضا وقامت الحجّة على أحدهما على إجماله مطلق ، وهذا بخلاف
الصورتين السابقتين.
ومن الواضح أنّه ـ
حينما يعلم إجمالا بإضافة أحدهما بل ويحتمل إضافتهما معا ـ ، حينئذ أيّ قاعدة يراد
إجراؤها في هذا الطرف لإثبات الإطلاق فيه ، هي معارضة بمثلها في الطرف الآخر ، كما
لو كان الإطلاق حالة سابقة لكل منهما ، فحينئذ ، استصحاب إطلاق أحدهما ، معارض
باستصحاب إطلاق الآخر ، إلّا أن يقال ، إنّ المكلّف يعلم بأنّ أحد هذين المطلقين
صار مضافا ، ولا يعلم بإضافة ما زاد على الواحد منهما ، وحينئذ يجري استصحاب
الإطلاق في عنوان إجمالي وهو عنوان غير المعلوم بالإجمال ، إذن ، فمصبّ الاستصحاب
عنوان غير المعلوم بالإجمال.
وبهذا تفترق هذه
الصورة عن سابقتيها ، حيث انّ مصبّ الحجّة في الصورتين السابقتين كان معلوما
ومتعينا ، سواء خرج في علم الله تعالى انّ كلا الإناءين مضافا أو أحدهما دون الآخر
وهذا بخلافه في هذه الصورة ، فإنّه في هذه الصورة لو فرض انّ كلا الإناءين مضافا ،
حينئذ ، لا يكون المعلوم بالإجمال متعينا ، لأنّ المعلوم بالإجمال هو إضافة أحدهما
لا بعينه من دون أن مميز ، إذ المعلوم بالإجمال لا يتعين حينئذ ، ولا ينطبق على
أحدهما بالخصوص لأنّ نسبته إليهما على حد واحد وعدم تعينه إنّما هو في نفس الأمر
والواقع عند المكلّف ، وإذا لم يكن
المعلوم متعينا ،
فغير المعلوم غير متعين أيضا لأنّ مصبّ الحجّة هو غير المعلوم فإذا لم يكن المعلوم
متعينا ثبوتا فغير المعلوم غير متعين كذلك ، وبهذا يثبت انّ مصبّ الحجيّة غير
متعين ثبوتا لأنّ مصبّها هو عنوان غير المعلوم كما عرفت.
ومن هنا ينشأ
إشكال في كفاية الامتثال الإجمالي التعبّدي في هذه الصورة الثالثة ، حيث أنّه قد
يقال : بأنّ الامتثال الإجمالي هنا غير متعقل ، وذلك لأنّ هذا المكلّف إذا توضأ
بالماءين مكرّرا لا يحصل له علم بأنّه توضأ بالماء الّذي هو مجرى الاستصحاب ، لما
عرفت من انّ مجراه هو عنوان غير المعلوم ، وهذا العنوان غير متعين.
وهذا الإشكال
سيّال في كلّ الموارد الّتي نريد أن نجري فيها أصلا بعنوان إجمالي ، وهو عنوان غير
المعلوم مع فرض انّ المعلوم لا تعيّن له في الواقع إلّا من ناحية عنوان أحدهما.
وهذا الإشكال
يتخلّص عنه بعدّة تخلّصات نقتصر الآن على ذكر واحد منها.
وحاصل هذا التخلّص
هو أن يقال : بأنّه نجري الاستصحاب في كل من الطرفين بعنوانه التفصيلي لا الإجمالي
الّذي بني عليه الإشكال عند ما كان يستصحب إطلاق عنوان إجمالي غير متعيّن في
الخارج وإنّما نجريه في كل من الطرفين بعنوانه التفصيلي ، لكن نرفع اليد عن إطلاق
الاستصحاب بمقدار يرتفع معه محذور المخالفة العملية ، وذلك بأن نستصحب إطلاق كل
منهما مقيدا بأن يكون الطرف الآخر هو المضاف ، وهكذا نصنع مع الطرف الآخر.
وتوضيحه هو انّ
إطلاق دليل الأصل يجري سواء كان ذلك الطرف مضافا أو مطلقا ، ونفس الإطلاق موجود في
الطرف الآخر ، هذا بالنسبة
للدليل في نفسه ،
لكن التعبّد بإطلاق كل منهما حتّى على تقدير إطلاق الآخر غير معقول ، للعلم بإضافة
هذا الطرف على تقدير إضافة الآخر ، إذن نرفع اليد عن إطلاق الأصل في كل منهما ،
ونجري الأصل في كل منهما مقيّدا بأن يكون الآخر مضافا ، فينتج بذلك أصلين في
عنوانين تفصيليّين مشروطين ، وحيث أنّه يعلم وجدانا بأنّ أحد الماءين مضاف ، إذن ،
فنعلم وجدانا بأنّ أحد الأصلين المشروطين تحقّق شرطه ، وبذلك يكون مصبّه متعيّنا
أيضا بحسب الواقع ، لأنّ كلا من الأصلين صار مصبّه هو العنوان التفصيلي لا
الإجمالي ، وحينئذ ينحلّ الإشكال.
والخلاصة هي انّنا
نجري الاستصحاب في كل من الطرفين بعنوانه التفصيلي ، لكن نرفع اليد عن إطلاق
الاستصحاب بمقدار يرتفع معه محذور المخالفة العملية ، وذلك بأن نستصحب إطلاق كل
منهما مقيّدا بأن يكون الآخر هو المضاف ، فإنّ دليل الاستصحاب وإن كان مطلقا من
هذه الناحية ، إلّا أنّا نقيّده ، للتخلّص من محذور المخالفة العملية ، وبذلك يكون
مصبّ الاستصحاب معلوما بالتفصيل ، غايته أنّه استصحاب مشروط كما عرفت ، وحيث أنّ
المكلّف يعلم وجدانا بإضافة أحدهما ، إذن ، فهو يعلم بتحقّق الشرط لأحد
الاستصحابين المشروطين ، والمفروض انّ مصبّه متعيّن بحسب الواقع كما عرفت ، وبذلك
ينحلّ إشكال جريان أحد الاستصحابين بالشرط المذكور.
وللكلام تتمّة في
مباحث إجراء الأصول.
هذا حاصل الكلام
في التنبيه الثالث ،
وبه يتمّ الكلام
في مباحث القطع
والحمد لله رب
العالمين
الفهرس
مقدمة
: في تقسيم مباحث الحجج والأصول العملية.................................. ٧
القسم
الأول : مبحث القطع.................................................... ٤١
الجهة
الأولى : في أصل حجيّة القطع.............................................. ٤٣
الجهة
الثانية : مبحث التجري.................................................... ٦٥
المقام
الأول : في تحقيق الكلام في قبح الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا.............. ٦٨
المقام
الثاني : استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به............................. ١٢٤
المقام
الثالث : في حرمة الفعل المتجرى به شرعا................................... ١٣٠
تنبيهات..................................................................... ١٦٢
١ ـ التنبيه الأول............................................................ ١٦٢
٢ ـ التنبيه الثاني............................................................ ١٦٦
٣ ـ التنبيه الثالث........................................................... ١٧٠
الجهة
الثالثة : أقسام القطع وأحكامه............................................ ١٧٢
١ ـ الجهة الأولى : في أصل تصوير انقسام
القطع الموضوعي إلى صفتي وطريقي...... ١٧٤
٢ ـ الجهة الثانية : في قيام الإمارات
والأصول مقام القطع الطريقي................. ١٨٧
٣ ـ الجهة الثالثة : في قيام الإمارات
مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية الكاشفية ٢٠٧
٤ ـ الجهة الرابعة : في قيام الامارة مقام
القطع الموضوعي الصفتي................... ٢٥٤
تنبيه........................................................................ ٢٥٦
أخذ
القطع بالحكم في موضوع الحكم............................................ ٢٦٢
التنبيه
الثالث................................................................. ٢٩٧
الجهة
السادسة : حجية الدليل العقلي........................................... ٣٠٨
المقام الأول................................................................ ٣١٢
المقام الثاني................................................................ ٣٢٣
١ ـ المقام الأول : في العقل النظري............................................ ٣٢٦
المقام الأول : في العقل الأول................................................ ٣٣٧
المقام الثاني : في العقل الثاني................................................. ٣٤٤
٢ ـ المقام الثاني : في العقل العملي............................................ ٣٤٨
٣ ـ المقام الثالث........................................................... ٣٥٩
في
مخالفة العلم التفصيلي....................................................... ٣٦٤
مباحث
منجزية العلم الإجمالي.................................................. ٣٧٩
١ ـ المرحلة الأولى........................................................... ٣٧٩
٢ ـ المرحلة الثانية : في تنجيز العلم
الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية............... ٤٠٢
١ ـ الجهة الأولى : في أصل تنجيز العلم
الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية........... ٤٠٢
٢ ـ الجهة الثانية : من المرحلة الثانية........................................... ٤٣٩
إجزاء
العلم الإجمالي بالامتثال وعدمه............................................ ٤٥٨
تنبيهات
المسألة............................................................... ٤٧٦
الفهرس...................................................................... ٤٨٩
|