بسم الله الرحمن
الرحيم
سازمان حج واوقاف وامور
خیریه در عصر انقلاب اسلامی در ایران وظیفه
خطیری نسبت به اشاعه فرهنك ومعارف اصيل اسلامى بعهده دارد ولذا از بدو پیروزی انقلاب اسلامی ایران علاوه
بر انجام وظائف قانونی وشرعی خود ، در موارد دیگر در این
امر نیز سعی خود را مبذول داشته وتا اندازه ای نیز موفق
بوده است در این رابطه با تلاشی پی گیر کتاب حاضر را که
از تقریرات درس مرحوم آیت الله العظمی جامع معقول ومنقول آقا
ضیاء الدین عراقی رضوان الله تعالی علیه در علم
اصول میباشد وبوسیله حضرت آیت الله حاج شیخ مرتضی
نجفی اصفهانی دام ظله برشته تحریر کشیده شده است در
یوم الله ١٢ فروردین ١٣٦٤ سالروز استقرار نظام جمهوری
اسلامی ایران تقدیم فقهای عظام وعلمای گرام وطلاب
محترم حوزه های مقدسه علمیه وپژوهندگان علوم اسلامی
مینماید ، توفیق همگان را در راه خدمت به اسلام ومسلمین
از خداوند متعال خواهانم.
وآخر دعوانا ان
الحمد لله رب العالمین
سید
مهدی امام جمارانی
نماینده
امام وسرپرست سازمان حج واوقاف وامور خیریه
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين. خالق الخلائق اجمعين ، الحاكى لنبيه أحسن القصص ليكون هداية للعالمين
والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين ، وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد هذا هو
المجلد الاول من كتاب «تحرير الاصول» الذى أفاده أستاذ الفقهاء والمجتهدين وشيخ
أكابر الاصوليين آية الله العظمى الشيخ ضياء الدين العراقى قده لمؤلفه الفقيه
الورع أية الله الشيخ مرتضى النجفى المظاهرى الأصبهاني دامت بركاته ، الذى هو من
أعيان تلاميذ شيخنا العراقى قده ، بحيث أقروا لاجتهاده جمهور من فقهاء عصره منهم
آيات الله العظام العراقى والنائينى والسيد الأصبهاني والحائرى قدس الله أسرارهم ،
وغيرهم.
كان دام ظله من
نوادر العصر فى الزهد والعبادة دائم الاشتغال بالتأليف والتصنيف ، شديد التحرز من
مطامع الدنيا وحطامها ، يفر من الرئاسة والاشتهار فرار الغنم من الذئب ومن ذلك لا
يخرج من بيته الا للضرورة شديد الاهتمام بالتهجد بحيث لا ينام بالليل الا قليلا ،
كثير الصمت ، خفيف المئونة ، وكثير الاحتياط ، ينتهى نسبه الشريف الى حبيب بن
مظاهر الاسدى رضى الله عنه من أصحاب النبى صلىاللهعليهوآله ومن أنصار مولانا الحسين عليهالسلام.
له مؤلفات كثيرة
منها رسالة فى العدالة ، رسالة فى الوضوء ، رسالة فى أحكام الصلح ، رسالة فى
المكاسب المحرمة ، رسالة فى أحكام البيع ، رسالة فى القضاء والشهادات ، رسالة فى
علمى الدراية والرجال ، كتاب المعارف الرجالية فى مقدمات علم الرجال ، وغير ذلك من
كتب الاخلاق والدعاء والادب منها آداب الدعاء ، وقلع الغيبة وأحسن اللغة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم
أجمعين الى يوم الدين.
«القول فى موضوع
العلم»
قوله قدسسره : «موضوع كل علم وهو الذى يبحث عن عوارضه الذاتية أى بلا
واسطة فى العروض» بمعنى انتساب المحمولات استقلالا الى ذلك الموضوع على نحو
الحقيقة أولا وبالذات كنسبة الحاجة الى الممكن ، لا ثانيا وبالعرضة كنسبة التحرك
الى جالس السفينة ، فنسبة الحركة بواسطة انتسابه الى السفينة. وعلى هذا فمن شأن كل
موضوع من موضوعات العلوم ، أن يكون معروضا لمحمولات مسائله على نحو الاستقلال لا
ضمنا ، وأولا وبالذات لا ثانيا وبالعرض.
وتفصيل المقام أن
يقال : ان المحمولات المنسوبة الى موضوعاتها ، تارة يكون انتسابها اليها على جهة
الحقيقة وأخرى على جهة المجاز ، ولا اشكال فى دخول القسم الثانى فى الاعراض
الغريبة ، وأما القسم الاول فتارة يكون الموضوع فيه تمام الموضوع لذلك المحمول نحو
قولهم فى علم النحو «الكلمة قول مفرد» فان الكلمة تمام الموضوع لهذه القضية
المنسوب فيها القول المفرد الى الكلمة ، وأخرى يكون جزء الموضوع كالافعال الصلاتية
المعروضة للوجوب فى قولهم «الصلاة واجبة» فان الوجوب منسوب الى الصلاة
المركبة من
الافعال الخاصة من نسبة الشىء الى جزء موضوعه ، فان تمام الموضوع فى هذه القضية هو
مجموع الافعال مع الموالات لا الافعال وحدها ، ولا الموالات وحدها.
لا يقال : التوالى
بين الافعال ليس خارجا عن سنخ الافعال. لانه يقال : لا ينبغى الارتياب فى خروجه عن
سنخها لانه من مقولة الاضافة ، والافعال الخاصة من الركوع والسجود وغيره من مقوله
الفعل ، وهما متباينان. وبالجملة : اذا قيس الوجوب المحمول فى هذه القضية الى نفس
الفعل المتركب منه الموضوع كان عرضا غريبا واذا قيس الى الصلاة الملتئمة من
الافعال الخاصة والموالات ، كان عرضا ذاتيا ، وحينئذ فإن نسب الوجوب الى الفعل
وحده على وجه الاستقلال كان عرضا غريبا لان الوجوب ليس حقه أن ينسب استقلالا الى
جزء الموضوع الذى هو الصلاة ، بل الى الموضوع نفسه ، واذا نسب الى الصلاة كان له
نسبة ضمنية الى الفعل الذى هو جزئها على وجه الحقيقة ، إلّا أنه مع ذلك لا يعد
عرضا ذاتيا للفعل بواسطة هذه النسبة الضمنية لاعتبار الاستقلال فى العرضية
الذاتية.
فتلخص أن من
كلماتهم اعتبار الاستقلال والانتساب الحقيقى فى العرضية الذاتية ، فلا يكفى أحدهما
بدون الآخر.
ثم أنه قد وقع فى
كلام المشهور أن العرض الذاتى ما يعرض الشىء لذاته أو لامر يساويه. واحترزوا
بالمساواة عن العارض بواسطة أمر أعم أو أخص.
وأشكل عليهم صاحب
الفصول بما حاصله أن المراد من الامر المساوى فى كلماتهم ان كان
هو الواسطة العروضية اتجه عليهم
__________________
أن العارض على
الواسطة العروضية ليس من لواحق ذى الواسطة إلّا بالعناية فكان ينبغى اعتبارها
موضوعا فى علم باحث عن أحوالها. وان كان هو الواسطة الثبوتية اتجه عليهم عدم لزوم
اعتبار التساوى فى الواسطة الثبوتية ، بل يجوز أن يكون أمرا مباينا من قبيل الوضع
الذى هو واسطة ثبوتية فى لحوق الاعراب للكلمة والجعل الذى هو واسطة ثبوتية فى لحوق
الاحكام لفعل المكلف وهما أمران مباينان للكلمة والفعل انتهى كلامه رفع مقامه.
وهو جيد متين ،
وتمثيله الثانى فى الواسطة الثبوتية مبنى على مجعولية الاحكام اذ بناء على عدم
مجعوليتها وأنها أمور واقعية كشف عنها الشارع اندرجت فيما يكون الموضوع مقتضيا
لانتساب المحمول اليه نحو الحاجة الى الممكن.
وكيف كان فقد عرفت
ضعف ما ذكروه من الحاق العارض للمساوى بالاعراض الذاتية فلم يبق الا ما ذكرناه من
اعتبار الانتساب الاولى الحقيقى مستقلا الى الموضوع ، فان كان انتساب المحمول الى
الموضوع بنحو الاستقلال على جهة الحقيقة كان ذلك المحمول بالقياس الى ذلك الموضوع
من الاعراض الذاتية وإلّا فهو من الاعراض الغريبة سواء كان له انتساب أولى الى
الموضوع ضمنا نحو الوجوب المنسوب الى الافعال الخاصة الصلاتية أو لم يكن له انتساب
اولى اليه أصلا لا ضمنا ولا استقلالا ، بل ثانيا وبالمجاز كالاعراض اللاحقة
للموضوع بواسطة الامر المساوى او الاعم أو الاخص فان انتسابها الى الموضوع ثانيا
وبالمجاز.
واذا عرفت ذلك ظهر
لك الاشكال فيما ذكره الماتن قدسسره هنا فى شأن موضوع العلم من أنه : «هو نفس موضوعات مسائله
عينا وما يتحد معها خارجا وان كان يغايرها مفهوما تغاير الكلى ومصاديقه
والطبيعى وأفراده».
توضيح الاشكال أن
ما يبحث من عوارضه الذاتية قد ذكر فى تعريف موضوع العلم عنوانا مشيرا الى جامع بين
شتات موضوعات المسائل ، وكان ذلك الجامع بما هو جامع حسب مختاره موضوعا للعلم ،
نحو الكلمة ، الجامعة بين الفاعل والمفعول والمضاف اليه فى قولهم : كل فاعل مرفوع
، وكل مفعول منصوب ، وكل مضاف اليه مجرور ، الى غير ذلك من مسائل النحو ، ومن
الواضح أن نسبة المرفوعية الى الكلمة بما هى كلمة ضمنية لا استقلالية ، ضرورة أن
المرفوعية من خواص الكلمة بما هى فاعل فخصوصية الفاعلية لها دخل فى لحوق الرفع لها
، وقد تقرر فيما سبق ان المعتبر فى العرضية الذاتية هو الانتساب الاستقلالى الى
موضوع العلم دون الضمنى ولئن تعسفت فى النسبة وأعتبر فيها الاستقلال ولو بالعناية
والمجاز لم تكن النسبة اولا وبالذات ، بل ثانيا وبالعرض ، فاذا لا محيص لك من
الغاء أحد الشرطين السابقين اللذين اعتبرناهما فى العرض الذاتى ، فحينئذ يخرج
المحمول بالقياس الى ذلك الجامع عن الاعراض الذاتية ، ويندرج فى الاعراض الغريبة ،
ولازم ذلك أن لا تكون الكلمة بما هى كلمة موضوع علم النحو. وكذا فعل المكلف بما هو
فعل لا يكون موضوعا لعلم الفقه ، اذ الوجوب فى قولهم الصلاة واجبة لم يكن عارضا
للفعل بما هو فعل الا ضمنا لا استقلالا ومناط العرضية الذاتية هو الثانى دون
الاول.
ولئن أبيت وقلت لا
نسلم اعتبار الاستقلالية فى العرضية الذاتية بل يكفى فيه الانتساب على جهة الحقيقة
ولو ضمنا لكى يتجه ما ذكروه من أن الكلمة موضوع علم النحو وفعل المكلف موضوع علم
الفقه.
قلنا : هذا أنما
يتم فيما يكون ثمة جامع بين موضوعات المسائل ،
ولا طريق لنا اليه
إلّا بأحد الامرين : اما بملاحظة اتحاد المحمولات ، أو بملاحظة وحدة الغرض
والفائدة المترتبة على تلك المسائل كصون اللسان عن الخطاء فى المقال الذى هو غاية
علم النحو مثلا ، ويتجه على الاول أن المحمولات بالوجدان متباينة ، ولو اتفق جامع
فى بعضها كالحجية المنسوبة الى ظاهر الكتاب والسنة المبحوث عنها فى علم الاصول ،
فانما ذلك من باب الاتفاق وليس هو مطرد فى جميع مسائله. ويرد على الثانى أن الواحد
انما يلزم انتسابه الى الواحد اذا كان بسيطا من جميع الجهات ، وإلّا فلو كان ذا
جهات بكل جهة يفتقر الى أمر كانت تلك الامور بما هى متكثرات ، مؤثرات فى ذلك
الواحد ، مثلا استراحة النوم على السرير الذى هو الغرض من عمل السرير والفائدة
المترتبة عليه تحصل من طوله للامتداد ، وعرضه للتقلب ورفعه لدفع الموذيات الارض ،
فمن حصول الامور الثلاث يحصل الغرض البسيط الذى هو الاستراحة إلا أن المؤثر فيه
والمحقق له أمور متعددة لا أمر واحد.
ولعل ما يكون
الغرض المقصود من علم النحو الذى هو صون اللسان عن الخطاء فى المقال من هذه القبيل
، فيفتقر الى قواعد النحو بما هى متكثرات لا بجا معها الذى هو الكلمة.
ولئن سلمنا اعتبار
الوحدة فى المؤثر فى الغرض الوحدانى إلّا أن ذلك على تقدير تسليم المؤثرية فى هذه
القواعد المقررة فى علم النحو وهو فى حيز المنع ، لكونها طرف إضافة لا مؤثرات
حقيقية فإن المؤثر فى صحة الكلام وجريه على طبق القواعد العربية ، هو إرادة
المتكلم لا تلك القواعد ، وانما الكلام يضاف الى تلك القواعد فيرى جاريا على وفقها
فيكون صحيحا تام الاعراب ، أو مخالفا لها فيكون غلطا غير تام الاعراب ، ومثل هذا
لا يقتضى ان يكون المضاف
متحدا بالنسبة الى
المضاف اليه الواحد ، لجواز اتحاد الغرض المضاف اليه مع تعدد القواعد المضاف
اليها.
وبالجملة لم يقم
برهان جزمى على لزوم تحقق جامع واحد فى موضوعات المسائل حتى يكون ذلك هو موضوع
العلم ، ويكون انطباقه على موضوعات المسائل انطباق الكلى على أفراده ويتحد معها
خارجا كما ذكره الماتن قدسسره ، نعم قد يتفق ذلك إلّا أنه ليس لازما دائما.
حول تمايز العلوم
هذا كله الكلام فى
الموضوع وأما المسائل فهى «عبارة عن جملة من قضايا متشتتة» مختلفات موضوعا ومحمولا
غالبا ويكون «جمعها» هو «اشتراكها فى الدخل فى الغرض الذى لاجله دون هذا العلم»
فمن ثم عدت المسائل علما على حدة ، فعمدة الوجه فى عدها علما مستقلا ، هو كونها
وافية بذلك الغرض الوجدانى المترتب على مجموع تلك المسائل ، ولذا كان اختلاف
العلوم باختلاف تلك الاغراض ووحدتها بوحدتها ، لا باختلاف المسائل ووحدتها ، «اذ
قد يتداخل بعض العلوم فى بعض المسائل» ومع ذلك لا يكون اتحاد المسألة سببا لاتحاد
العلمين.
ويظهر الوجه فى
ذلك مما عرفت من أن اثنينية العلمين تجىء من اختلاف الاغراض لا من اختلاف المسائل
، فلا بأس باندراج بعض المسائل فى العلمين «اذا كان له دخل فى مهمين» أمكن جعله من
مسائل العلمين المختلفين فى الفرضين اللذين «لاجل كل منهما دون علم على حدة فيصير
من مسائل العلمين» فصار الوجه فى عدهما علمين مع اشتراكهما فى بعض المسائل ، ليس
إلّا اختلافهما فى الغاية التي من أجلها دون كل من العلمين.
«لا يقال : على
هذا يمكن تداخل علمين فى تمام مسائلهما ، فيما كان هناك مهمان متلازمان فى الترتب
على جملة من القضايا لا يكاد» يتحقق «انفكاكهما. فانه يقال :» فى جوابه «مضافا»
الى قوله قدسسره «مما لا يخفى».
ثم أنه قد ذكر فى
الفصول معترضا على ما اشتهر بينهم ، من
أن تمايز العلوم
بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، أن هذه القضية مما لم نقف
لها على وجه ، لان موضوع أحد العلمين أن تميز بنفسه عن موضوع الآخر ، فالتمايز بين
العلمين حاصل بنفس الموضوع ، ولا حاجة الى اعتبار الحيثية وان اشترك فاعتبارها لا
يوجب التمايز. ألا ترى أن اللفظ العربى الذى هو موضوع العربية اذا أخذ من حيث
الاعراب والبناء مثلا كما هو المعروف فى الكتب النحوية ، لم يوجب اختصاصه بعلم
النحو لانه حال تقييده بهذا الاعتبار ، يعرض له أيضا أحوال الابنية ، ويلحقه احكام
الفصاحة والبلاغة ، وغيرها لظهور أن لا منافاة بينها ، فيصح أن يقع مقيدا بهذه
الحيثية ، موضوعا لتلك العلوم. وكذا اذا أعتبر مقيدا بسائر الحيثيات ، الى أن قال
:
فالتحقيق أن يقال
: تمايز العلوم اما بتمايز الموضوعات ، كتمايز علم النحو عن علم المنطق وتمايزهما
عن علم الفقه ، أو بتمايز حيثيات البحث كتمايز علم النحو عن علم الصرف وتمايزهما
عن المعانى ، فإن هذه العلوم وان اشتركت فى كونها باحثة عن أحوال اللفظ العربى ،
إلا أن البحث الاول من حيث الاعراب والبناء ، وفى الثانى من حيث الابنية ، وفى
الثالث من حيث الفصاحة والبلاغة فهم وان أصابوا فى اعتبار الحيثية للتمايز بين
العلوم ، لكنهم أخطأ وافى أخذها قيدا للموضوع. والصواب أخذها قيدا للبحث ، وهى عند
التحقيق عنوان إجمالي للمسائل التى تقرر فى العلم انتهى كلامه رفع مقامه
ومراده من اعتبار
الحيثية فى البحث هو اعتبار اختلاف المحمول فى قضايا العلوم ، كما يشهد بذلك قوله
أخيرا وعند التحقيق الخ ،
__________________
فانه مع وحدة
الموضوع فيها حسب الفرض ، ينحصر الميز والامتياز فيما بينها باختلاف المحمولات
التى هى محط البحث فى العلوم.
ويشكل ذلك بانه
ربما يتحد العلمان فى بعض المسائل موضوعا ومحمولا ، كمسألة الحسن والقبح المبحوث
عنها فى الاصول والكلام ، مع وحدتهما فيها ، فحينئذ ينبغى أن يكون المعيار فى
تمايز العلوم أمرا أخر غير اختلاف الموضوعات ، والمحمولات ، وليس ذلك إلّا ما
ذكرناه من اختلاف الاغراض ، سيما على ما عرفت منا ، من عدم ما يدل على جهة مشتركة
بين موضوعات المسائل باعتبارها تعد علما واحدا ، وان كان قد يتفق ذلك.
نعم ربما يرد
الاشكال على الماتن ، الذى أعتبر للعلم موضوعا يكون انطباقه على موضوعات مسائله من
باب انطباق الكلى على أفراده ، بأنه اذا أختلف الغرض المترتب على المسألة الواحدة
كان ذلك دليلا أنيا على تضمن هذه المسألة جهتين كان كل منهما هو المؤثر فى حصول
ذلك الغرض ، فكان امتياز العلم على هذا فى نفس الامر والواقع بامتياز الموضوعات ،
وأن كان فى بعضها يتوصل اليه من طريق اختلاف الغرض.
وبعبارة أخرى
قولهم : امتياز العلم بامتياز الموضوعات ، ظاهره بيان حال الامتياز الواقعى مرحلة
الثبوت دون الاثبات ، ومن الواضح أن اختلاف الاغراض ببرهان ، الواحد لا يصدر منه
الا الواحد ، على ما قيل كاشف عن اختلاف المؤثر فى حصول تلك الآثار ، فصح لنا على
هذا دعوى أن امتياز العلوم بامتياز الموضوعات ، وان كان طريقنا الى الموضوعات فى
المسائل المشتركة بين العلمين هو اختلاف الاغراض والفوائد المترتبة عليها ، هذا.
وقد انقدح بما
ذكرناه ، انه يلزم على الماتن الذاهب الى وجود
الموضوع لكل علم ،
أن يقول : بمقالة المشهور من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، اللهم إلّا أن
يكون نظره قدسسره الى مرحلة الاثبات دون الثبوت ، بمعنى أن يكون غرضه أن
الاطلاع على الميز والامتياز بين العلوم ، «أنما هو باختلاف الاغراض الداعية الى
التدوين ، لا الموضوعات» كما ذهب اليه المشهور ، «ولا المحمولات» كما ذهب اليه
صاحب الفصول قده
وأما على مذهبنا
من عدم اعتبار لزوم موضوع ، لكل علم جامع بين مسائله ، لعدم ما يدل عليه من
البرهان العقلى ، فلا أشكال وينحصر الامتياز عندنا بين العلوم ثبوتا وإثباتا
باختلاف الاغراض دون الموضوعات والمحمولات.
«حول موضوع علم الاصول»
قوله «وإلّا كان»
الى قوله «ثم أنه» حكى عن صاحب القوانين فى بعض حواشيه ، أنه أختار فى موضوع هذا العلم أنها الادلة الاربعة بما
هى أدلة ، فأعتبر صفة الدليلية فى الموضوع ، فيكون البحث عن دليلية الدليل على هذا
بحثا عن نفس الموضوع لا عن أحواله.
ويشكل ذلك بلزوم
خروج جل مسائل الاصول عن مسائله ومقاصده واندراجها فى مباديه ضرورة أن عمدة مباحثه
المسألة الباحثة عن حجية الخبر ، ومباحث التعادل والتراجيح ، ولازم اعتبار
الدليلية فى الموضوع ، خروج مثل هذه المباحث عنه ، وهو واضح البطلان.
ولو قيل : ان
الدليلية المعتبرة فى الموضوع ، هى الدليلية الاقتضائية ، دخلت مباحث التعادل
والتراجيح فى المقاصد ، لان البحث فيها بعد الفراغ عن ثبوت اقتضائية الخبرين
المتعارضين للاعتبار والحجية بدليل الاعتبار ، لكن يبقى المباحث المتكفلة لتحقيق
أصل الدليلية ، خارجة عن المقاصد ، نحو مسئلة حجية الخبر والظهورات ، وكفى بذلك
موهنا لاعتبار الدليلية فى الموضوع.
وأختار صاحب
الفصول فى موضوع هذا العلم ، أنها الادلة الاربع بذواتها وخصوصياتها ، لا بوصفها
من الدليلية إلّا أنه يلزم عليه خروج مباحث الامر والنهى وبقية ظواهر
الالفاظ ، لعدم اختصاصها بما فى الكتاب والسنة.
__________________
ومن الغريب أنه قدسسره قد تفطن لهذا الاشكال ، وأجاب بما لا يسمن ولا يغنى من جوع
حيث قال فى الجواب : أنما يبحث عنها باعتبار وقوعها فى الكتاب والسنة ، فعند
التحقيق ليس موضوع مباحثهم مطلق تلك الامور ، بل المقيد منها بالوقوع فى الكتاب
والسنة ، ولا يقدح فى ذلك بيانهم لوضعه اللغوى والعرفى ، اذ المقصود بيان مداليل
تلك الالفاظ باى وجه كان انتهى . وفيه أن اعتبار وقوعها فى الكتاب والسنة ، يتعلق بغرض
البحث فهو أمر لا يتعلق بعقد البحث من تلك المسألة وفرق بين بين عقد المسألة
والبحث فيها ، وبين تعلق الغرض منها.
وأختار الماتن فى
موضوع هذا العلم ، أنه مطلق الدليل الموصل الى الحكم الفرعى ، من غير اعتبار
انطباقه الى خصوص الادلة الاربع ، ومن غير لزوم اعتباره مسمى باسم خاص «اذ ربما لا
يكون لموضوع العلم وهو الكلى المتحد مع موضوعات المسائل ، عنوان خاص واسم مخصوص
فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه ، بداهة عدم دخل ذلك فى موضوعيته أصلا.»
وعلى التحقيق الذى
سمعته آنفا من عدم لزوم اشتراك المسائل فى جامع مسمى بالموضوع ، فلا داعى الى تمحل
اعتبار كلى جامع لموضوعات المسائل المتشتتة ، بل المسائل بشتاتها يترتب عليها
الغرض المقصود بلا لزوم اعتبار جامع موضوعى فيما بينها.
فتلخص مما قررناه
أن المحصل من الاقوال فى المقام ، مع ضم المختار أربعة :
الأول أن موضوع
الاصول هو الادلة الاربعة بما هى ادلة وهو
__________________
المحكى عن صاحب
القوانين قده.
الثانى أن موضوعه
هى الادلة الاربعة بنفسها وخصوصيتها ، وهو اختيار صاحب الفصول.
الثالث أن موضوعه
الكلى المتحد مع موضوعات المسائل وهو مختار الماتن.
الرابع ما اخترناه
من عدم لزوم كلية فى موضوعية العلم ، بل ليس فى الحقيقة موضوعه الا أشخاص موضوعات
المسائل لا كليها وهى مصاديقه.
وبما سمعت من
الكلام يتضح لك المرام فى كلام الماتن هنا بقوله : «وقد انقدح» الى قوله «لا عنها
ولا عن سائر الادلة» وقد يذب عما أورده من الاشكال بما أفاده بقوله : «ورجوع البحث
فيهما فى الحقيقة الى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد فى مسئلة حجية الخبر كما
أفيد وبأى الخبرين فى باب التعارض فانه أيضا بحث فى الحقيقة عن حجية الخبر فى هذا
الحال» انتهى.
وحاصله أن المسألة
الباحثة عن حجية الخبر ما لها الى البحث عن حال السنة الواقعية ، بتقريب أن ثبوتها
بالخبر وعدم ثبوتها من أحوالها.
وأجاب عنه بقوله :
«فإن البحث عن ثبوت الموضوع وما هو مفاد كان التامة ليس بحثا عن عوارضه فانها مفاد
كان الناقصة.» انتهى كلامه
وتوضيحه أن ثبوت
الموضوع ، عبارة أخرى عن وجوده ، والمسألة الباحثة عن حال الموضوع يعتبر فيها
المفروغية عن وجوده ، وهو المعنى بقوله : مفاد كان الناقصة ، وإلّا فلو بحث عن
وجوده كان ذلك بحثا عن نفس الموضوع ، وهو المعنى بقوله : مفاد كان التامة.
«لا يقال : هذا»
الذى ذكرته من أن البحث عن ثبوته مفاد كان التامة
أنما يتأتى لو
أريد بذلك البحث «فى الثبوت الواقعى وأما الثبوت التعبدى كما هو المهم فى هذه
المباحث فهو فى الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.»
«فانه يقال :» فى
جوابه «نعم» كما ذكرت يكون البحث عن ثبوته التعبدى مفاد كان الناقصة «لكنه مما لا
يعرض السنة» الواقعية «بل» أنما يعرض الخبر «الحاكى لها فإن الثبوت التعبدى يرجع
الى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به وهذا من عوارضه لا عوارضها كما لا
يخفى. وبالجملة الثبوت الواقعى ليس من العوارض والتعبدى وان كان منها إلّا أنه ليس
للسنة بل للخبر فتأمل جيدا.
ويمكن الخدشة فى
ذلك بأن الثبوت التعبدى أنما يكون من عوارض الخبر الحاكى اذا أعتبر التنزيل بلحاظ
مؤداه ، حتى يكون مفاد الدليل الدال على اعتبار الخبر هو تنزيل مؤداه منزلة الواقع
، وحينئذ فيتجه دعوى كون مثل هذا التنزيل ، من عوارض الخبر الحاكى للسنة ، لا
للسنة نفسها ، اما بناء على أن لحاظ التنزيل فى دليل اعتبار الخبر الى جعل احتمال
مؤدى الخبر بمنزلة العلم ، فكان صدق العادل ، فى قوة قوله تنزل احتمال صدقه فى
أخباره منزلة العلم ، وحينئذ على هذا الوجه يمكن التفصى عن الاشكال بأن يقال أن
الاعتبار وان رجع أولا الى احتمال المطابقة للواقع إلا أنه يترتب على ذلك أن يكون
المحتمل بمنزلة المعلوم ، فكانت السنة الواقعية على تقدير تحققها ، فى مورد الخبر
موصوفة بالمعلومية التعبدية ففى هذا الجعل حصلت حالة للسنة الواقعية على تحققها ،
وكان البحث فى تنزيل الاحتمال منزلة العلم مستتبعا للبحث عن حال السنة الواقعية من
اتصافها بالمعلومية التعبدية.
وبعبارة أخرى : لو
تبدل الاحتمال تكوينا الى العلم ، لكان يلزم
تبدل صفة
المحتملية العارضة على السنة الواقعية ، الى صفة المعلومية. فكذلك لو تبدل
الاحتمال جعلا وتنزيلا ، الى ذلك استتبع تبدل المحتمل تعبدا الى المعلوم كذلك.
لا يقال : عروض
الحالة على السنة الواقعية ، فرع تحققها ولربما يكون العلم الحقيقى فضلا عن
التنزيلى متحققا ، ولا يكون ثمة سنة واقعية ، فكيف يكون ذلك من حالاتها وحالة
الشىء الطارية عليه فرع تحقق ذلك الشى.
لانا نقول : لا
نعنى من البحث عن أحوال السنة الا البحث عن حالها على تقدير وجودها الواقعى فى
قبال من يجعل مثل هذه الحالة ، من حالات الخبر الحاكى لها دونها هذا كله اذا كان
المراد من السنة هو نفس قول المعصوم أو أخويه.
«وأما اذا كان
المراد من السنة ما يعم حكايتها» فيشكل عليه ما سمعت آنفا من خروج جملة من مباحث
الاصول عنه وذلك «لان البحث فى تلك المباحث» المتقدمة من مباحث حجية الخبر ،
ومباحث التعادل والتراجيح» وان كان عن أحوال السنة بهذا المعنى إلّا أن البحث فى
غير واحد من مسائلها كمباحث الالفاظ وجملة من غيرها لا يخص الادلة بل يعم غيرها
وان كان المهم معرفة أحوال خصوصها كما لا يخفى.» هذا
ولقائل : أن يمنع
تعميم البحث فى تلك المسائل الى غير أوامر الكتاب والسنة من حيث أن الغرض اذا كان
هو استنباط الاحكام الشرعية ، وهو امر يترتب على خصوصية الامر الوارد فى الكتاب
والسنة ، لا ما يعم سائر الاوامر ، كشف ذلك عن أن الجامع العام المسمى بالموضوع
ليس خارجا عن دائرة الكتاب والسنة.
حول تعريف علم الاصول
ثم أن العلم لا
حقيقة له وراء المسائل والقواعد ، لا إدراكها ، ويرشدك الى ذلك مقايسة الغاية الى
نفس القواعد ، لا ادراكاتها ، مثلا صحة الكلام أعرابا وبناء ، جعل غاية لعلم النحو
باعتبار مقايسة الكلام الى قواعده ، فان طابقها كان صحيحا ، وإلّا كان غلطا.
وكذا صحة
الاستنباط غاية العلم الاصول ، وانما تعرف الصحة وعدمها بمقايسة الاستنباط الى
قواعد الاصول ، فإن كان على وفقها كان استنباط الحكم صحيحا ، وان لم يكن كذلك لم
يكن صحيحا. فالملحوظ مقيسا اليه ومعيارا لملاحظة الغاية ، منسوبة اليه ، هى
القواعد لا ادراكها وكذا الموضوع أعتبر موضوعا كليا منطبقا على جميع موضوعات
مسائله وقواعده ، لا موضوعات إدراكاتها فليكن التعريف على هذا النهج شارحا لتلك
القواعد ، فكان المناسب تعريفه بالقواعد دون العلم بها. وبالجملة أن نسبة الموضوع
، والغاية ، والتعريف المذكور ، فى كلما تهم فى مقدمة الشروع ، نسبة واحدة. فكما
أن المقصود من العلم فى قولهم ، موضوع هو القواعد دون إدراكها والعلم المتعلق بها
، فليكن ذلك كذلك فى قولهم تعريف العلم. فكان ينبغى على هذا التعريف بالقواعد ، لا
العلم بها. وربما يؤيد ذلك أنه قد يجعل العلم ، متعلقا للعلم والجهل ، فيقال هذا
عالم بالنحو ، وهذا جاهل به ، وهكذا غير ذلك.
وقد يعتذر للمشهور
، ويوجه تعريفهم : علم الاصول «بانه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.»
فيقال : بأن للقواعد
المدونة ، وجودات
واعتبارات ، فهى باعتبار وجودها الخارجى والنفس الامرى قواعد واقعية ، وباعتبار
تحصيلها بالاكتساب ، صناعة وباعتبار تصورها الذهنى علوم ، وباعتبار اسمها فى الكتب
نقوش وكتابات.
ولعل تعريفهم ناظر
الى الوجود العلمى. وفيه أنه بناء على هذا لا ينبغى إيراد العلم متعلقا بالقواعد
للمنافرة ، اذ الوجود العلمى يقضى بعدم تغاير العلم عن معلومه ، فما هو المعلوم
والحاصل صورته فى العقل ، ليس إلّا تلك القواعد ، وهى باعتبار الوجود العلمى عين
العلم لا متعلقات له ، فكيف يجعل فى التعريف متعلقا له : ويقال هو العلم بالقواعد؟
ولئن قلت : أنا
نعتبر القواعد موجودات خارجية واقعية ، لكى لا يصح جعلها متعلقا للعلم.
قلنا : عاد
الاشكال والمحذور ، من أن العلم ليس إلّا نفس تلك القواعد ، لا العلم بها.
ومما سمعت ظهر لك
أن حق التعريف ، كان ينبغى تصديره بالقواعد لانه أقرب الى معنى العلم حقيقة فهو «الاولى»
بالذكر من تصديره بالصناعة كما عرفه الماتن قده حيث رجح تعريفه بأنه «صناعة يعرف
بها القواعد التى يمكن أن يقع فى طريق استنباط الاحكام ، أو التى ينتهى إليها فى
مقام العمل ، بناء على أن مسئلة حجية الظن» من الاصول على القول «بالحكومة» فى
اعتبار الظن عند انسداد باب العلم بالاحكام الشرعية ، دون الكشف ، اذ على الكشف
يكون الظن مندرجا فى القواعد التى ، يمكن أن تقع فى طريق استنباط الاحكام ، فلا
شبهة فى كونها من المسائل الاصولية «ومسائل الاصول العملية فى الشبهات الحكمية»
معدودة «من الاصول كما هو كذلك ، ضرورة أنه
لا وجه لالتزام
الاستطراد ، فى مثل هذه المهمات.»
بل قد يشكل هذا
التعريف على مختاره من وجه آخر : بأن فيه جمعا بين أدلة الاجتهادية والاصول
العملية ، وهما متناقضان بحسب الجعل ، حيث ان الدليل الاجتهادى مجعول كاشفا عن
الواقع ، والاصل العملى مجعول عند انستار الواقع ، فهما طرفا نقيض من حيث الاعتبار
ولا جامع بين النقيضين ، وإذا لم يكن ثمة جامع فكيف يصح اعتبار موضوع جامع بين
موضوعات شتات المسائل المتناقضة بحسب الاعتبار والجعل.
وهذا من أوضح
الشواهد على صحة ما ذكرناه ، آنفا ، من عدم لزوم تحقق جامع موضوعى بين موضوعات
المسائل ، يكون انطباقه عليها من انطباق الكلى على أفراده.
وبالجملة يعتبر فى
التعريف أن يكون جامعا اجماليا لشتات المسائل الباحثة ، عن أحوال موضوع العلم
الوجدانى المنطبق على موضوعات مسائله ، ويستحيل تحقق الجامع بين المتناقضات فاما
أن يقتصر على ذكر إحدى الفقرتين فى التعريف ، أو لا يعتبر اشتراكها فى البحث عن
حال موضوع وجدانى كما اخترناه فافهم وأغتنم فانه دقيق.
«حول الوضع»
«الامر الثانى
الوضع» على ما عرفه الماتن «هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما» وهذا
أولى من تعريفه ، بانه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، لخروج الوضع
التعينى عن التعريف الثانى فلا يكون جامعا بخلاف الاول فانه شامل للوضع بكلا قسميه
اذ الاختصاص
المزبور «ناش من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيه أخرى» والاول هو الوضع
التعيينى والثانى التعينى وبسبب هذا المعنى الذى عرفته «صح تقسيمه الى التعيينى
والتعينى.»
ثم ان فى كلام
المصنف الماتن هنا حيث عبر بنحو اختصاص تلويحا الى أن للاختصاص أنحاء وليس الوضع
إلّا أحد تلك الانحاء وكان المناسب ذكره ولو على سبيل الاجمال ، ولعل تركه لوضوح الحال
ولا بأس أن نشير اليه تنبيها وتتميما لمزيد الفائدة وبالله نستعين فانه خير معين.
فاعلم أن النسب
والاضافات ، التى هى عبارة أخرى عن الاختصاصات الواقعة بين الاشياء على قسمين :
الاول : أن يكون لها حظ فى الخارج نحو الاضافات ، والنسب الواقعة بين اجزاء السرير
التى هى منشأ حدوث الهيئة السريرية ، ونحو هيئة المقاتل الحادثة من محاذات الشخصين
مثلا ، فان للخارج دخل فى هذا النحو من الاختصاص على اختلاف فى كون الخارج ظرفا
لوجوده أو ظرفا لنفسه.
الثانى : ما لا
يكون للخارج دخل فيه أصلا بمعنى أنه لا موطن لها الا الذهن ، وأنما كان الخارج
ظرفا لمنشا انتزاعه كنسبة الكلى الى أحد افراده فى قولك زيد إنسان ، لان موطن هذه
النسبة فى الذهن وليس فى الخارج الا الفرد الذى هو منشأ انتزاع هذه النسبة الذهنية
، والاختصاص الوضعى من قبيل القسم الثانى ، اذ لا وجود له فى الخارج ، الا بوجود
منشإ انتزاعه الذى هو الجعل أو كثرة الاستعمال ، غاية الامر : منشأ هذا الاختصاص
اما لاتحادهما فى الخارج كالكلى والفرد ، لان العقل لا يرى فى الخارج اثنينية
فيهما خارجا ، واما من جهة جعل الجاعل هذا اللفظ بازاء المعنى وما نحن فيه من
القسم الثانى كما لا يخفى.
ثم ان هذا
الاختلاف باعتبار موطن الاختصاص خارجا أو ذهنا ، وله اختلاف آخر باعتبار كيفية
الاضافة والاختصاص ، وهى اما أن يكون من باب اختصاص الملك بمالكه ، أو من باب
اختصاص الامارة بذيها ، أو من باب اختصاص المرآة بمرئيها ، فهذه صور ثلث فى كيفية
الاختصاص.
والحق أن الاختصاص
الوضعى من قبيل الصورة الاخيرة ، لما نجد فى موارد الاستعمالات أن اللفظ يرى فانيا
فى المعنى ، بسبب وحدة الاعتبارية الواقعة بين اللفظ والمعنى. ومن ثم ربما يسرى
قبح اللفظ الى المعنى بحيث يشمئز الانسان من سماعه ، وقد يسرى حسن اللفظ الى معناه
بحيث يحب الانسان سماعه ، وليس هذا إلّا من شدة الاتحاد بينهما اعتبارا ، فاذا كان
هذا الاختصاص متحققا بين اللفظ والمعنى فى مقام الاستعمال ، كشف ذلك أنا عن اعتبار
هذا النحو من الاختصاص فى مقام الوضع لظهور أن الاستعمالات اللفظية كلها ، تبع وضع
الواضع ، فاذا أحرزت خصوصية فى الاستعمال أنبأ ذلك عن اعتبارها فى الوضع أيضا.
وبالجملة فرق بين
الآلة والامارة اذ فى الاول يكون الانتقال بسبب وحدة اللحاظ ، وفى الثانى بسبب
الملازمة ، فحيثية الاثنينية ملحوظة فى الثانى ، دون الاول ، والاختصاص الوضعى
اختصاص آلى لا أمارى.
ويدل على ذلك
الاستعمالات الكاشفة ، عن اعتبارها خصوصية الآلية فى الوضع.
ثم أنه يمكن القول
بعدم لزوم وجود طرفين للاضافة فى الخارج ، فيكون أمرا اعتباريا محضا وليس لهما
وجود الا ذهنا كما أنه يتصور غولا ويجعل له أنيابا ، وهذه الاضافة فى غاية خفة
المئونة ولذلك
قيل أن فى الاضافة
يكفى أدنى مناسبة.
ثم أعلم أنه ربما
يجعل الوضع كالاحكام الوضعية عند القائلين بأنها منتزعات من الاحكام التكليفية
مثلا اذا قال الشارع ، من حاز شيئا لا يجوز لاحد التصرف فيما حازه ، ينتزع من هذا
الحكم التكليفى الحكم الوضعى ، وهو الملكية التى هى عبارة أخرى عن الاختصاص الواقع
بين المحيز والمحاز.
وقس على ذلك الوضع
، لانه ليس إلّا منتزعا من تعهد الواضع إرادة المعنى عند ذكر اللفظ.
وبعبارة أخرى ،
ذكر اللفظ عند تفهيم المعنى ، فأرادته ذلك وتعهده بمنزلة التكليف المنتزع منه
الحكم الوضعى.
وهذا الكلام وان
كان بمكان من الامكان ، إلّا أنه غير واقع فى المقامين :
أما المقام الاول
: أعنى الوضع فلان هذه الارادة التعهدية ، ان لم تكن مسبوقة بجعل وهو الذى نسميه
بالوضع فلا يخلو اما أن تكون إرادة نفسية وهو باطل بالضرورة ، لان الواضع ليس غرضه
من ذكر اللفظ الا التوصل الى تفهيم المعنى. واما أن تكون لك الإرادة ارادة غيرية ،
فحينئذ. لا محيص من كون تلك الارادة الغيرية ، ناشئة من مقدمية اللفظ للتفهيم ،
ومن المعلوم أن المقدمية فى اللفظ لا بد من أن تكون ، مسبوقة بجعل من الواضع ، لان
دلالة الالفاظ ليست ذاتية على ما هو الحق والتحقيق ، فحينئذ ننقل الكلام الى ذلك
الجعل ، ونقول لا يعقل أن يكون ناشيا عن الارادة الاولى ، لان الارادة الاولى
متفرعة على المقدمية الناشية من الجعل ، فهل يعقل نشوا الجعل منها وحينئذ لا بدو
أن ينشأ الجعل من إرادة أخرى ، وليست هى نفسية بالضرورة ، وغيريتها لا تكون الا عن
مقدمية اللفظ للمعنى ، وهكذا
فى الثالث والرابع
فيلزم التسلسل ، أو ينتهى الى جعل مستقل وهو المطلوب ، ويمكن تصوير الدور فى
المقام ، فتأمل تدرك.
وأما المقام
الثانى : فلانا نرى بالوجدان خلاف ذلك ، لان قول الشارع : الناس مسلطون على
أموالهم وأيضا لا يحل مال امرئ الا بطيب نفسه نص بمجعولية الاحكام الوضعية جعلا مستقلا ، حيث ان إضافة
المال الى الغير ، أخذت فى موضوع الحكم فى الروايتين ، وموضوع الحكم مقدم على
الحكم تقدما رتبيا ، فحينئذ يستحيل أنتزع الملكية من الحكم المتأخر عنها رتبتا ،
فلا بد من فرض حكم أخر ينتزع منه الملكية ، فيلزم اما اجتماع المثلين أو الضدين
وكلاهما محال عقلا ، فعلى ذلك لا بد من سبق هذه الاضافة والاختصاص ، بجعل مستقل
للحكم الوضعى كما هو الحق.
ثم انك قد عرفت أن
الوضع على قسمين ، تعيينى وتعينى ، ومنهم من أنكر القسم الثانى وتخيل أن العلاقة
الوضعية لا تكون الا دفعية ، فاذا تواردت الاستعمالات لا يحصل الوضع الا بواحد
منها قصد بها انشاء الوضع لا بالمجموع تدريجا ، وذلك الاستعمال الواحد المحقق
للوضع يكون من قبيل إنشاء البيع بالمعاطاة ، فالتعينى بمنزلة الوضع القولى ،
والتعيينى بمنزلة الوضع الفعلى وبالجملة استحالة حصول الوضع تدريجا بحسب نظر
المتوهم ، دعاه الى الالتزام بالوضع فى أحد الاستعمالات التدريجية ، وذلك توهم
فاسد كما يشهد به الوجدان ، لان الاستعمال الاول يحدث علاقة ضعيفة بين اللفظ
والمعنى ، وكلما يتكرر الاستعمال تتقوى تلك العلاقة الى درجة
__________________
الاختصاص الوضعى ،
والشاهد على ذلك أقوائية دلالة الحقيقة التى ليس لها مجاز من الحقيقة التى لها
مجاز.
وأيضا أنه جرى
ديدن القوم على ترجيح العام الذى قل مخصصه على العام الذى كثر مخصصه وليس ذلك إلّا
من جهة ضعف دلالة العام الذى كثر مخصصه ، ولعل الماتن قده أراد بقوله ومن كثرة
استعماله ما ذكرناه من الرد على المتوهم.
«فى أقسام الوضع»
«ثم ان الملحوظ
حال الوضع ، اما ان يكون معنى عاما فيوضع اللفظ له تارة ، ولافراده ومصاديقه أخرى
، وأما ان يكون معنى خاصا لا يكاد يصح الا وضع اللفظ له دون العام ، فتكون الاقسام
ثلاثة ، وذلك لان العام يصلح آلة للحاظ أفراده ومصاديقه ، بما هو كذلك فانه من
وجوهها ومعرفة وجه الشىء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص فانه بما هو خاص لا يكون وجها
للعام ولا لسائر الافراد ، فلا تكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها اصلا ولو بوجه».
وان شئت قلت حيث
تحقق فى محله ان كل مقوم للعالى مقوم للسافل بخلاف العكس ، يصلح العام أن يكون
مرآتا حاكيا عن أفراده ، لتضمن العام كل ما فى الخاص ، بخلاف العكس ، اذ الحكاية
من الخاص للعام ، ان كان بخصوصية الخاص فهى مباينة للعام لا تصلح لحكايتها عنه وان
كان بالعام الذى هو فى ضمنه كان هو نفسه لا غيره ، فهل يعقل أن يكون حاكيا عنه؟
وبعبارة أخرى :
حيث أن الفرد واجد للطبيعة ، يمكن أن يكون مرآة للخاص ، بخلاف الطبيعة ، فانها غير
واجدة للفرد ، بل مغايرة
معه ذهنا ، ومتحدة
معه خارجا ، فالفرد مباين للطبيعة ، والمباين مع الشىء يستحيل أن يكون مرآة للشىء
، وإلا يلزم مرآتية كل شىء لشىء وهو باطل بالضرورة.
نعم ربما يوجب
تصوره تصور العام بنفسه فيوضع له اللفظ فيكون الوضع عاما كما كان الموضوع له عاما
وهذا بخلاف ما فى الوضع العام والموضوع له الخاص ، فان الموضوع له وهى الافراد لا
يكون متصورا الا بوجهه وعنوانه وهو العام ، وفرق واضح بين تصور الشى بوجهه وتصوره
بنفسه ولو كان بسبب تصور أمر آخر. ثم أن نسبة الوضع الى الموضوع له كنسبة الحكم
الى موضوعه فكما أن الحكم المتعلق بالموضوع يختلف بحسب اختلاف الموضوع فإن كان
الموضوع جزئيا وشخصيا كان الحكم كذلك ، وان كان كليا ، فتارة يكون لعنوان ذلك
الكلى دخل فى ثبوت الحكم نحو أكرم العالم ، كان ذلك الحكم كليا ، وتارة يكون
عنوانا مشيرا الى افراده نحو اكرم من فى الصحن اذا لم يكن للكون فى الصحن مدخلية
فى وجوب الاكرام بل كان ذكره لتعريف الاشخاص ، منتهى الامر للاختصار جمع فى
التعبير ، أو لمكان ضيق الخناق ، وانحصار التعريف عنده بذلك العنوان أخذه معرفا
لتلك الافراد ، هذه الصور الثلث متصورة فى الحكم وكذلك هى متصورة فى الوضع ، وهذا
بخلاف الصورة الرابعة ، فانه كما لا يمكن من الخصوصية الى معرفة حال العالم ، لكى
يحكم عليه ، كذلك الحال فى الوضع لا يمكن التوصل من خصوصية الخاص الى معرفة حال
العام حتى يوضع له اللفظ ، فأقسام الوضع على هذا ثلاثة فقط.
«ولعل خفاء ذلك
على بعض الاعلام وعدم تميزه بينهما ، كان موجبا لتوهم إمكان ثبوت قسم رابع ، وهو
أن يكون الوضع خاصا مع
كون الموضوع له
عاما ، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل».
نعم هناك قسم آخر
من الوضع العام والموضوع له العام ، حيث ان الافراد المشتركة الحقيقة فى الخارج يرى
بينها حسا ، جهة مشتركة بها تمتاز عن الافراد المشتركة فى جامع غير هذا الجامع ،
مثلا اذا نظرت على قطار من أفراد الانسان تراه ممتازا من أفراد الفرس ، كما يشهد
به الوجدان ، فمثل هذا الجامع المندك فى ضمن الخصوصيات ، له وجود فى الخارج.
وبعبارة أخرى
الطبيعة السارية فى ضمن الافراد موجودة خارجا لا مستقلا بل فى ضمن الافراد فالواضع
تصور هذه الطبيعة السارية ، ووضع لها اللفظ ، فمثل هذا الجامع العام بهذا النحو ،
غير الجامع الملحوظ معرى عن الخصوصيات ، فإن الثانى لا موطن له الا فى الذهن ،
بخلاف الاول ، فانه كما هو متحقق فى الخارج ، يمكن لحاظه كذلك فى الذهن ، فحينئذ
ربما يوضع اللفظ لذلك المعنى العام ـ المندك فى ضمن الخصوصيات ، كما أنه ربما يوضع
اللفظ للمعنى العام المعرى عن لحاظ الخصوصيات فللوضع العام حينئذ قسمان وليكن
ببالك لينفعك فيما سيأتى.
«التحقيق فى معانى
الحروف»
«ثم انه لا ريب فى
ثبوت وضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام ، وكذا وضع العام والموضوع له
العام» بالمعنى المشهور الذى هو معرى عن الخصوصيات «كوضع اسماء الاجناس» واما
القسم الثانى من الموضوع له العام الذى نحن تصورنا فسيبين لك مثاله فيما ياتى إن
شاء الله.
«واما الوضع العام
والموضوع له الخاص فقد توهم انه وضع الحروف ، وما الحق بها من الاسماء كما توهم
ايضا ان المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاما» وكلا القولين فيه
ما لا يخفى «والتحقيق حسبما يؤدى اليه النظر الدقيق ان حال المستعمل فيه والموضوع
له فيها حالهما فى الاسماء ، وذلك لان الخصوصية المتوهمة ان كانت هى الموجبة لكون
المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا ، فمن الواضح ان كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه
فيها كذلك ، بل كليا» ضرورة ان الابتداء المستفاد من لفظة «من» فى قولك سرت من
البصرة ، لا يختص بواحد معين من نقاط البصرة فما يفهم من لفظة «من» فى هذا الكلام
ما يساوق المستفاد من لفظ الابتداء فى قولك ابتداء سيرى من البصرة «ولذا التجأ بعض
الفحول الى جعله جزئيا اضافيا وهو كما ترى» ضعفه ظاهر ، ضرورة انه
اذا جاز ان يكون المعنى الحرفى عنده بمعنى عام تحت ما هو اعم منه بحسب ما سماه
جزئيا اضافيا ، فليكن الموضوع له عاما ، ولا داعى للالتزام بكون الموضوع له فيها
خاصا.
وبالجملة اعتبار
الجزئية الخارجية فى المعانى الحرفية ، خلاف الوجدان ، وما اعتذر به البعض واضح
البطلان.
ويزيدك تصديقا فى
بطلان اعتبار الجزئية الخارجية ، انه يصح ان يقال : اكلت ، وشربت ، وسرت من البصرة
، مع انه بناء على اعتبارها يلزم استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة وهو باطل.
هذا اذا كانت الخصوصية المعتبرة خارجية ، وقد عرفت فساد اعتبارها.
وان كانت الخصوصية
المعتبرة هى الخصوصية الذهنية الموجبة
__________________
لكونه ، اى المعنى
الحرفى «جزئيا ذهنيا حيث انه لا يكاد يكون المعنى حرفيا ، إلّا اذا لوحظ حالة
لمعنى آخر ، ومن خصوصياته القائمة به ويكون حاله كحال العرض ، فكما لا يكون فى
الخارج الا فى الموضوع ، كذلك هو لا يكون فى الذهن الا فى مفهوم آخر ، ولذا قيل فى
تعريفه ما دل على معنى فى غيره ، فالمعنى وان كان لا محالة يصير جزئيا» لان
التبعية للغير المعتبرة للمعنى الحرفى من لوازم شخص اللحاظ الخاص المتعلق بذلك
المعنى الحرفى فلا محالة يصير جزئيا «بهذا اللحاظ بحيث يباينه اذا لوحظ ثانيا ،
كما لوحظ اولا ولو كان اللاحظ واحدا إلّا ان هذا لا يكاد يكون ماخوذا فى المستعمل
فيه وإلّا» فلو كان ماخوذا فيه لزم اجتماع لحاظين على ملحوظ واحد وهو محال ، وجه
الملازمة انه لا بد له من لحاظ محقق للمعنى ، ولحاظ مصحح للاستعمال ضرورة ان
المستعمل لا بد له من ملاحظة المعنى ثم استعمال اللفظ ، فيكون معنى الابتداء
المستفاد من «من» فى سرت من البصرة ، قد تعلق به لحاظان وهو بديهى الفساد. وهذا
معنى قوله : «فلا بد من لحاظ آخر متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ بداهة ان تصور
المستعمل فيه مما لا بد منه فى استعمال الالفاظ وهو كما ترى».
وايضا لو قال
المولى : سر من البصرة ، فلا يمكن الامتثال لاستحالة وجود الملحوظ باللحاظ الذهنى
مقيدا باللحاظ الذهنى فى الخارج.
وايضا يلزم مساواة
الحروف والاسماء فى الوضع ، لان الالية والاستقلالية كلاهما على السواء فى اقتضائهما
شخصية المعنى ، فلزم ان يكون كل منهما موضوعا بالوضع العام ، والموضوع له الخاص
الى آخر ما ذكره فى الكفاية وختم كلامه بالامر بالتامل «فانه دقيق وقد ذل فيه
اقدام غير واحد من اهل التحقيق والتدقيق».
وبعد هذا كله
فنقول : ان هذا الكلام منه ناظر الى كلام صاحب الفصول ، فلا باس بذكر بعض فقرات
كلامه.
قال صاحب الفصول
فى معانى الحروف : ان التحقيق ان الواضع لاحظ فى وضعها معانيها الكلية ، ووضعها
بازائها باعتبار كونها آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها الخاصة ، فلاحظ فى وضع «من»
مثلا مفهوم الابتداء المطلق ، ووضعها بازائه باعتبار كونه آلة ومرآة لملاحظة حال
متعلقاتها الخاصة ، من السير والبصرة مثلا ، فيكون مداليلها خاصة لا محالة.
وقال فى موضع آخر
: اعلم ان الحروف حيث كانت موضوعة بازاء المفاهيم الملحوظ بها حال ما تعلقت به ،
لا جرم كان معانيها الحقيقية معان خاصة مقيدة بمتعلقاتها الخاصة ، وتلك المعانى
وان كانت فى حد انفسها كلية ، إلّا ان اعتبار تقيدها باللحاظ على الوجه الذى سبق ،
يصيرها شخصية ممتنعة الصدق على الافراد المتكثرة ، فان الماهية متى اعتبرت بشرط
التقييد بالوجود الذهنى وهو المراد باللحاظ او بالوجود الخارجى ، خرجت عن كونها
كلية لا محالة ، فانها من صفات الماهية الموجودة فى الذهن عند تجريد النظر عن
وجودها فيه ، ولا يلزم مما قررناه ان يكون الحروف باعتبار كل واحد من معاينها من
متكثر المعنى ذاتا ، نظرا الى تعدد ما يعتريها من اللحاظ لان المسمى نفس المفهوم ،
وهو لا يختلف فى موارده وان تعدد القيد المعتبر فى لحوق الوضع له فانه شرط خارج عن
المسمى ، وليس بشرط داخل فيه ، فهى عند التحقيق موضوعة بازاء المفاهيم المقيدة
باحد افراد الوجود الذهنى الآلي من غير ان يكون القيد و
__________________
التقيد داخلا ،
فيكون مداليلها جزئيات حقيقية متحدة فى مواردها ذاتا ومتعددة الحقيقة تقييدا
وقيدا. انتهى موضع الحاجة من كلامه قده .
ويمكن الذب عن
الفصول بان الاشكال عليه ، يبتنى على ان اللحاظ الذهنى الذى صير معنى الابتداء
شخصيا ، قد اخذ فى معنى الحرف جزءا مقوما ، وليس كذلك بل بسببه يحدث لتلك الحصة من
الابتداء المتعلق بها اللحاظ الذهنى نحو ضيق ، على وجه لا يتناول الحصة الاخرى من
الابتداء الملحوظة بلحاظ آخر ، فهى حصة مهملة لا اطلاق لها ، ولا هى مقيدة باللحاظ
، وهذا شان كل معروض اذا قيس الى عارضه ، او موضوع قيس الى محموله ، فان الموضوع
لم يعتبر مقيدا بالمحمول ، وإلّا لزم تاخر ما هو مقدم رتبة ، اذ المقيد بوصف
التقييد ، مؤخر طبعا عن القيد ، وهذا ينافى الموضوعية اذ الموضوع ، له تقدم طبعى
على محموله.
نعم لتلك الحصة
جهة كلية من حيث الانطباق على الافراد الخارجية ، فهى جزئية ذهنية ، لا تنطبق على
سائر الحصص الذهنية ، وان كانت كلية من حيث الانطباق على الخارجيات.
واذا عرفت ذلك
نقول : قولك : يلزم تعدد اللحاظ قلنا : لا نحتاج الا الى لحاظ واحد استعمالى به
يتحصص المعنى الحرفى ويصير جزئيا ولا يحتاج الى لحاظ آخر يكون مقوما للمعنى الحرفى
، لما عرفت من ان المعنى الحرفى معرى عن اللحاظ ذاتا ، وانما باللحاظ يتحدد المعنى
ويتحصص ، وهذا يكفيه اللحاظ الاستعمالى واما قولك : انه مع قيد اللحاظ لا يكاد
يوجد المعنى فى الخارج ، وحينئذ فلا يمكن
__________________
الامتثال.
قلنا : قد عرفت ان
اللحاظ لم يكن ماخوذا فى المعنى حصة قابلة الانطباق على الخارجيات ، وان كانت لا
تشتمل الجزئيات الذهنية ، واما قولك : يلزم من هذا خروج الاسماء ايضا من متحد
المعنى ودخولها فى متكثره لاعتبار الاستقلال فى مفهومها. قلنا : قد عرفت آنفا ان
لنا فى الوضع العام والموضوع له العام قسمين ، تارة يلحظ العام معرى عن الخصوصيات
ويوضع اللفظ له ، واخرى يلحظ فى ضمن الخصوصيات ، بحيث يجىء العام مع الخصوصيات فى
الذهن ويوضع اللفظ له ، فنقول الحروف طرا وضعها بهذا النحو.
واما الاسماء
فيجىء فيها القسمان وعلى كلا الوجهين لم تخرج من متحد المعنى ، وان اختلف اعتبار
المعنى بحسب اللحاظ ، هذا على المختار.
واما على ما
اختاره الفصول فى الاسماء من انها يجوز ان تستعمل تبعا ، كما يجوز ان تستعمل
استقلالا .
فذاك مسلك آخر.
محتاج به بيان آخر ليعلم مقدمة : انهم اختلفوا فى المطلق والمقيد فى ان المطلق
موضوع للطبيعة الشائعة بين الافراد ، او صرف الطبيعة المهملة؟ المشهور على الاول
وسلطان العلماء على الثانى وتظهر الثمرة عند التقييد ، فعلى المشهور يكون استعمال
المقيد مجازا اذ التقييد ضد الشيوع ، بخلافه على القول الثانى اذ الطبيعة اللابشرط
تجامع مع الف شرط ، ولما كان المختار عندنا وعند جل المتاخرين هو ما اختاره
السلطان ، فنقول : معنى
__________________
الابتداء اذا تعلق
به اللحاظ صار ملحوظا ، فهو معروض اللحاظ والمعرضية ، تارة تطلق ويراد بها عنوانا
مشيرا الى الذات المعروضة ، واخرى يراد بها المتصف بالعارض بشرط الاتصاف بحيث يكون
العارض دخيلا فى اصل المعنى ، والذى أراده الفصول هو الاول لانه اعتبر اللحاظ شرطا
خارجا ، فالابتداء الملحوظ آلة بمنزلة المطلق الذى يعتريه التقييد ، ليس إلّا
الماهية البحث الخالية عن جهة الاطلاق والتقييد.
وبعبارة اخرى
الماهية التى يعرضها الاطلاق والتقييد ، لا محيص تكون معراة عنهما فحينئذ لم تكن
هى الا مهملة ، وهى بهذا الاعتبار يمتنع صدقها على سائر الملحوظات ، وان كانت
تنطبق على كثيرين فى الخارج ، فهى فى حال تعلق اللحاظ بها جزئية ذهنية ، وان كانت
بالقياس الى الخارجيات كلية ، وحينئذ فلا موقع لاشكالين الاولين عليه لعدم اخذ
اللحاظ فى حقيقة المعنى الحرفى ، ويكفى لحاظ واحد للاستعمال.
نعم يتجه عليه
الاشكال الاخير وحاصله ، ان مثل هذا اللحاظ اذا حكم بصيرورة الحروف من متكثرات
المعنى ، فليحكم ذلك فى الاسماء ايضا من حيث انها ملحوظة ، بالاستقلال.
وما اجاب عنه قده
بعدم اعتبار الاستقلال فى الاسماء ، حتى انها يجوزان تستعمل تبعا.
لا يجديه ، ولا
يرتفع به غائلة الاشكال ، اذ الاسم الملحوظ ، ان كان معتبرا مطلقا ، فليعتبر ذلك
فى الحروف ايضا ، وان اعتبر مقيدا ففى الحروف ايضا مثل ذلك ، وان كان مهملا ففى
المقامين كذلك.
وبالجملة الاسم
بعد تعلق اللحاظ باى نحو كان لا يفترق به عن الحرف ، فبأي نحو يمكن اعتبار الاسم
فى ذلك اللحاظ ، يمكن اعتبار
الحرف كذلك ،
فبناء على ذلك لا يتصور وضع العام والموضوع له العام فى الاسماء والحروف ، اذ لا
بد من تشخص ذهنى فى الملحوظ منهما تبعا او استقلالا ، ومع هذا التشخص الذهنى كيف
يتصور عموم فى المعنى حتى يكون الوضع فيه عاما والموضوع له كذلك.
نعم بالنسبة الى
الخارجيات يمكن تصوير العموم والانطباق على المتكثرات ، وهذا بخلاف التشخصات
الذهنية ، فانها جزئيات ذهنية لا يكاد يكون لها انطباق على ما فى الذهن من الحصص
المتكثرة بمعونة اللحاظ ، فلا يتصور فيها الا الوضع العام والموضوع له الخاص ،
وذلك بتوسيط مفهوم عرضى مشيرا به الى الحصص الذهنية الملحوظة ، فيقال تلك الحصص قد
وضع لها اللفظ ، وحينئذ فتحرج الحروف والاسماء من متحد المعنى الى متكثر المعنى ،
وهذا لا يلتزم به صاحب الفصول ولا غيره فلا محيص الا من الذهاب الى ما تصورناه فى
الوضع العام والموضوع له العام ، من القسم الآخر المغاير لما عليه المشهور.
فنقول : هنا لما
كانت الحصص المتكثرة الملحوظة ، تبعا من الابتداء ، تشترك فى جامع ملحوظ فى الضمن
تبعا للخصوصيات الابتدائية الذهنية ، فتضع لفظ «من» لذلك الجامع ، كما ان هذه
الحصص اذا لوحظت استقلالا ، وضع لما فيها من الجامع الملحوظ لفظ الابتداء ، فيكون
مثل هذا الجامع فى المقامين مجامعا للخصوصيات لا هو معرى عنها ، وبهذا افترقت
الاسماء عن الحروف ، حيث ان المعنى الحرفى ذلك الجامع بين الحصص الملحوظة تبعا ،
والمعنى الاسمى ذلك الجامع بين الحصص الملحوظة استقلالا ، وان كانت تشترك فى ان كلا
منهما من قسم متحد المعنى لا متكثره.
وهل بينهما اختلاف
آخر بحسب الذات علاوة عن اللحاظ ام لا؟ والظاهر وجوب الاختلاف بينهما بحسب الذات ،
ببيان ان من الاعراض
ما يفتقر الى محل
واحد فى الخارج ، كالكيفيات والكميات ، وان كانت فى عالم التصور ، لا تفتقر الى
محل ، بل يمكن تصورها مجردة عن معروضها.
ومنها ، ما يحتاج
الى محلين وطرفين كالنسب والاضافات ، فانها تفتقر الى المنسوب ، والمنسوب اليه
والمضاف والمضاف اليه ، وحينئذ فتقول مفهوم الابتداء الاسمى من قبيل الاول ، فان
الابتداء لا يحتاج إلّا الى وجود مسبوق بالعدم ، ولا يفتقر الى شىء آخر ، بخلاف
مفهوم «من» فانها لا تكاد تتحقق لها مفهوم ومعنى إلّا بملاحظة طرفيها من السير
والبصرة مثلا ، كما هو مشاهد فى قولك : بدو سيرى من البصرة ، فانك ترى البدو الذى
هو معنى اسمى للابتداء ، لا يفتقر إلّا الى السير الذى هو المحل المعروض للابتداء
، بخلاف معنى «من» فانه يفتقر الى امرين ، السير والبصرة وهكذا الحال فى كل ما كان
من قبيل «من» مما دل على النسب والاضافات ، كهيئات الافعال والمشتقات.
وفى تلك الاضافات
والنسب اختلافات فيما بينها ، بحسب اختلاف اطرافها ، فان النسبة التى بين زيد على السطح
، غير النسبة التى بين عمرو على السطح ، او زيد على السطح غير زيد على الفرس وهكذا
، بل النسبة التى بين خصوصية وخصوصية ، غير النسبة التى بين كلتيهما ، مثلا
الخصوصية التى هى نسبة بين زيد وكونه على نقطة خاصة من السطح ، غير كون الانسان
على السطح ، فهما بحسب الذهن والتعقل نسبة بين كليين ، ونسبة بين جزئيين ، وان
كانت النسبتان فى الخارج منطبقين على شىء واحد.
وهكذا الكلام فى
النسب الظرفية ، والابتدائية ، والانتهائية ، فانها فيما بينها مختلفة بحسب اختلاف
اطرافها.
ومن هنا اشكل
النهاوندى قده فى تشريحه بان الحروف لا يتعقل فيها غير وضع العام
والموضوع له الخاص ، اذ الحروف كلها على ما عرفت ، نسب جزئية خاصة لا تندرج تحت
ضابط .
لانك قد عرفت منا
تصوير وضع العام والموضوع له العام فيها ، حيث ان النسب الابتدائية وان كانت
مختلفة فيما بينها ، إلّا انها تشترك كلها فى كونها نسب ابتدائية ، وهكذا فى النسب
الظرفية وغيرها من اقسام النسب الحرفية ، فهى بما فيها من الجامع المنتظم مع
الخصوصيات تفترق من جهة الخصوصيات ، وتأتلف بالجامع ، وهى بهذا النحو التى هى فى
الخارج من كونها خصوصيات منضمة الى جامع يمكن تصورها فى عالم الذهن ، فاذا وضع
الحرف لمثل هذا الجامع الضمنى كان وضعه عاما والموضوع له عاما ، ولا ينافى مع ذلك
تصور الخصوصية. من لفظ الحرف لكون الجامع حسب الفرض مصاحبا مع الخصوصية ، فكانت
الحروف على هذا من متحد المعنى لا متكثره ، ومثلها هيئات للافعال والمشتقات.
«حول الخبر والانشاء»
«ثم لا يبعد ان
يكون الاختلاف فى الخبر والانشاء ايضا كذلك ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل فى حكاية
ثبوت معناه فى موطنه ، والانشاء يستعمل فى قصد تحققه وثبوته وان اتفقا فيما
استعملا فيه فتامل».
__________________
وتوضيح المقام ان
لكل شىء اعتبارين ، الوجود والايجاد ، فان اعتبر متحركا من كتم العدم الى عالم
الوجود كان ذلك ايجادا ويعبر عنه بالفارسية «وجود گرفتن» وان اعتبر متلبسا بالوجود
كان ذلك وجودا ويعبر عنه ايضا «بوجود داشتن» ومنه يظهر ان اعتبار الوجود مؤخر رتبة
عن اعتبار الايجاد. وبهذا يمكن الفرق بين الفعل واسم فاعله ، حيث ان الاول يدل على
حالة التحرك ، وبعد ذلك اذا حصلت الحركة وتحصل المتحرك ، تعنون بعنوان اسم الفاعل
الذى هو فى الحقيقة دال على المتلبس بعد الفراغ عن تلبسه ، بخلاف الفعل الدال على
حدوث التلبس والى ذلك اشير فى الخبر ، الاسم ما دل على المسمى ، والفعل ما دل على
حركة المسمى والمراد بالمسمى هو المعنى المدلول عليه باللفظ ، فكان هذا
هو الفارق بين الاسماء والافعال ، ففى الاسم دلالة على الوجود ، وفى الفعل دلالة
على الايجاد ، وهذا الايجاد هو معنى الجملة ، اسمية كانت او فعلية ، خبرية كانت او
انشائية ، كما ان معنى الوجود هو معنى الاسم مفردا او مركبا فان المركبات
التقييدية ، كغلام زيد مثلا ، حالها حال المفردات فى دلالتها على شىء مفروض الوجود
، اى دالة على نسب واضافة متحققة ، لا كالمركبات التامة الدالة على احداث النسبة
وايقاعها ، ومن هذا الباب قولهم : ان الاوصاف قبل العلم بها اخبار وبعد العلم بها
اوصاف والسر فى ذلك ما ذكرناه من ان مفاد الايجاد واحداث التلبس ، لا يكون إلّا
قبل العلم لافادة المخاطب ، وبعد ان علم بها بالاخبار ، صارت الذات
__________________
مميزة بذلك الوصف
، ويلحق المحمول بالاوصاف.
ثم انهم ربما
يطلقون على القضية ، اسم التصديق ، فيقولون قضية تصديقية ، باعتبار كون نسبتها
متعلقة للتصديق والاذعان ، وربما يتوسعون ، فيطلقون ، على كل قضية انها تصديقية
حتى فى مثل المشكوكات ، والموهومات منها ، وذلك منهم مسامحة فى مسامحة فلا تغفل.
واذا عرفت اشتراك
تمام الجمل فى حيثية الايجاد والايقاع ، كما يساعد عليه الوجدان.
ظهر لك انه لا
مائز بين الاخبار والانشاء بالذات ، وانما يفترقان باعتبار آخر ، حيث ان هذا
المعنى الإيقاعى ، تارة يتخذ وسيلة للحكاية ويقصد به اعلام ما فى الخارج ، واخرى
يتخذ وسيلة لتحقق معناه وثبوته فى الخارج ، مثلا اذا قيل «بعت» فلا شك فى ان قصده
ايقاع هذه النسبة ، وهذا المعنى جامع بين الاخبارية والانشائية ، فان قصد بذلك
المعنى ، التوسل الى حكاية ما فى الخارج ، كان ذلك اخبارا ، وان قصد به التوسل الى
وقوع بيع مملك فى الخارج ، كان ذلك انشاء.
فالجملتان بحسب
الذات والمستعمل فيه متفقان ، وانما الاختلاف بينهما فى كيفية الاستعمال نظير
الاسماء والحروف.
ثم ان كل من
الاخبار والانشاء ، ينقسم الى الجد والهزل فتارة يخبر او ينشئ عن جد وارادة واقعية
واخرى عن داعى الهزل والسخرية ، والجد فى الانشاء ، يكون بقصد الموجدية والمؤثرية
لا محالة ، إلّا انه قد يترتب عليه فى الخارج ، ما قصده واراد وقوعه ، وقد لا
يترتب كما فى البيع الفضولى فانه وان كان يصدر عن العاقد بداعى الجد والتاثير ،
إلّا انه ما لم تلحقه الاجازة لا يكاد يكون له
تاثير واقعا ،
وكذلك الهبة قبل القبض بناء على اشتراط صحتها به.
فتلخص مما ذكرنا
ان للكلام وما يتبعه من الوقوع واللاوقوع فى الخارج مراتب.
اوليها : مرتبة
الايقاع الذى هو محفوظ فى الكلام بجميع اقسامه. ثانيها مرتبة الحكاية والموقعية
التى بها يحصل الامتياز بين الخبر والانشاء. ثالثها مرتبة الجد والهزل التى هى
مشتركة بين الاخبار والانشاء. رابعها : مرتبة الوقوع وتحقق مفاد الجملة فى الخارج
اخبارا وانشاء.
اذا عرفت هذه
المراتب ، فينبغى بعد ذلك لمزيد توضيح كلام الماتن قده ، بيان ان اى مرتبة من هذه
المراتب داخلة فى المستعمل فيه وايها خارجة؟
فنقول : اما
المرتبة الاولى ، التى هى مرتبة الايقاع والانتزاع فهى من مقومات الكلام ولا يحصل
بدونه ، فكما ان الموضوع والمحمول والفعل والفاعل مما يتقوم بها معنى الكلام ،
فكذلك النسبة الايقاعية التى هى مدلول الهيئة الكلامية ، لا يحصل معناه الا
باعتبارها وملاحظتها.
واما المرتبة
الثانية التى هى الفارقة بين الاخبار والانشاء ، من حيث الحكاية والموقعية فهى من
شئون المستعمل فيه ، ملحوظة بتبع لحاظ الايقاع الكلامى ، فاللاحظ يلاحظ النسبة
الايقاعية المكيفة بحيثية الحكاية او التحقيق ، فهناك لحاظ واحد متعلق بالمجموع من
الايقاع المكيف بكيفية الاخبارية والانشائية ، لا لحاظان ، احدهما للايقاع ،
والآخر لشئونه من كيفية الاخبار والانشاء ، وان كان بالتحليل العقلى لحاظان إلّا
ان المتحقق فى عالم الذهن ليس إلّا شخص لحاظ واحد.
فقد انقدح بذلك ان
كيفية الاخبارية والانشائية ملحوظان بلحاظ
النسبة الايقاعية
، ومن هذا الوجه يحصل الفرق بين الانشاء والاخبار ، وبين الحروف والاسماء ، حيث ان
التبعية والاستقلالية اللتين بهما يفترق الاسماء عن الحروف وان كانا من شئون
المستعمل فيه إلّا انهما معلولان للحاظ. وهذا بخلاف الموقعية والحكاية اللتين بهما
اقتران الاخبارات عن الإنشاءات فانهما بانفسهما متعلقان للحاظ. فكان الاخبار
والانشاء تشترك مع الاسم والحرف فى اتحاد المستعمل فيه فى كل منهما ، فان الابتداء
الاسمى ، و «من» الحرفى مشتركان فى ان المستعمل فيه فى كليها معنى الابتداء وان
افترقا باللحاظ الاستقلالى والتبعى الذين هما من شئون المستعمل فيه. كما ان
الانشاء والاخبار يشتركان فى انهما مستعملان فى معنى الايقاع ، وان افترقا فى
حيثية الحكاية والموقعية اللتين هما من شئون المعنى الايقاعى إلّا أنّك قد عرفت
الفارق بين كلتا الطائفتين من حيث المعلولية اللحاظ فى الحروف والاسماء ، ومتعلق
اللحاظ فى الاخبارات والانشاءات.
ولعله الى هذا
المقدار من الفرق اشار بالامر بالتامل بعد ما حكم بالمساوات بين الاخبار والانشاء
وبين الاسم والحرف.
وعلى اى حال هذه ،
الجهة الزائدة على اصل معنى الايقاع فى قسمى الاخبار والانشاء ، والجهة الزائدة
على معنى الابتداء ، الفارقة بين من الحرفى والابتداء الاسمى ، لم تكن الا من
اشتراط الواضع فى «من» بان يستعمل تبعا ، وفى الابتداء ليستعمل استقلالا ، كما هو
الحال فى الاخبار بان يستعمل بقصد الحكاية وفى الانشاء بقصد التحقق والثبوت.
واما المرتبة
الثالثة التى هى داعى الجد والهزل ، فمن المعلوم ان ذلك من الدواعى الداعية للتكلم
، والدواعى خارجة عن المستعمل
فيه لا داخلة فيه
كما انه فى المرتبة الرابعة التى هى مرتبة الثبوت الواقعى لم يكن ذلك من شئون
الاستعمال ، ولا المستعمل فيه ابدا ، بل هو تابع لواقعه فان تحققت شرائط المقررة
للوقوع يقع خارجا كالانشاء وإلّا فلا.
وليعلم ان النسبة
الايقاعية التى هى مقوم الكلام كفحوى الاخبار والانشاء خفيف المئونة يصح للمتكلم
اعتبارها فى كل مقام كقولك : الارض تحتنا ، والسماء فوقنا ، وملكت السماء وهكذا ،
بخلاف الانشاء الجدى فانه لا يمكن اعتباره الا فيما يمكن تحققه بذاك الداعى وذلك
انما يكون فى الاعتباريات الخارجية المعبر عنها بخارج المحمول نحو الملكية ، فقول
المنشئ بداعى الجد يترتب عليه الملكية والانتقال مع اجتماع سائر الشرائط.
ثم ان هذا كله
فيما يصلح الخبرية والانشائية ، كما فى مثل بعت ، وزوجتى طالق فبقى فى صيغتى الامر
الدالين بهيئتهما على الانشاء مع عدم صلاحيته لصرفه الى الاخبار والسر فى ذلك ان
فى ذاك القسم من الكلام كان ما تحت الهيئة الكلامية معنى الصدور والايقاع الذى هو
صالح لصرفه الى جنسى الاخبار والانشاء. بخلاف مثل صيغة الامر اذ هى لا تدل الا على
الارسال والبعث نحو المطلوب بلا توسيط جهة ايقاعية فى البين فلا مدلول لها الا هذا
المعنى. ولا نعنى من الارسال والبعث ما يكون خارجيا حتى يتجه على ذلك انه اذا لم
يقع فى الخارج الانبعاث نحو المطلوب ، لا يكون اللفظ مقصودا فيكون استعماله مجازا
بل المراد منه البعث المتصور ذهنا المنطبق تصورا على ما فى الخارج وان لم يتحقق فى
الخارج بعث ولا انبعاث.
وكذا كل معنى
انشائى او اخبارى ، حرفى او اسمى لا يراد منه الا الصور الذهنية ، طابقت الخارج او
لم تطابقه ، وقع بازائها شىء
خارجا او لم يقع.
واذا عرفت ان معنى
صيغة الامر هو الارسال والبعث ، وبعبارة اخرى كانه يحرك الامر المامور نحو الفعل ،
ظهر لك ان الطلب خارج عن مدلول الصيغة ، بل هو مدلول التزامى لها اذ الارسال
يستدعى الطلب والارادة ، وإلّا فلو كان معنى الصيغة نفس الطلب لكان مفادها من
المحمولات بالضميمة وهى الاعراض القائمة بالمحل الواحد ، وقد تقدم آنفا ان هذا
المعنى معنى الاسماء دون الحروف وما شاكلها من الهيئات ، وانما مفادها من قبيل
خارج المحمول اى الاعتبارات المفتقرة الى طرفين ، إلّا ان هذا مبنى على اتحاد
الطلب والارادة حتى يكون الطلب معنى عرضيا قائما بالنفس ، فيكون كسائر الاعراض
القائمة بمحالها.
اما لو قلنا
بتغايرهما فلا غرو اصلا من دعوى ان مدلول صيغة الامر هو الطلب ، اذ الطلب على هذا
هو عين الارسال المعبر عنه بالفارسية «خواهش كردن» والارادة هى المعنى القائم
بالنفس المعبر عنها ايضا «بخواهش داشتن».
هذا كله الكلام فى
الانشاء وقد عرفت ان منه ما لا يصلح للاخبار ومنه ما يصلح لذلك.
واما الحروف فهى
ايضا ربما تختلف ، منها ما يكون حاكية عن نسبة ثابتة على حذو النسب التقييدية مثلا
فى قولك بدو السير من البصرة ، او كون على السطح وغير ذلك من التراكيب الغير
التامة المشتملة على حرف من حروف الجر لا يراد منه الا الاشارة ، وبيان ما كان
وتحقق فى الخارج من النسبة الكذائية ، فهى دالة فى مثل هذه التراكيب على نسبة
محققة ، خارجية بالمعنى الذى سبق من كونها صورا منطبقة على ما فى الخارج بحسب
التصور والتعقل.
ومنها ما تكون
صادرة للايقاع والموجدية نحو حرف النداء الذى لم يصدر الا لاحداث النداء بحسب نظر
المنادى وان لم يتحقق فى الخارج نداء حقيقى ، فلو نودى الجبل او سائر الجمادات لم
يكن اللفظ خارجا عن معناه الحقيقى ، بل قد استعمل حقيقة فى النداء وان لم يكن
المنادى ممن له شعور وادراك.
ومنها ما يدل على
الاضافة نحو حروف المشبهة بالفعل فانها دالة على اضافة بين معنى الترجى فى لعل
والتمنى فى ليت وهكذا وبين مداليل الجمل الواقعة من زيد قائم وعمرو جالس وامثال
ذلك ، فيكون نسبة الترجى ونحوه الى هذه الحروف كنسبة الطلب الى صيغة الامر فهى
مدلولات التزامية خارجة عن اصل المعنى ، وانما يكون معناها الاضافة المتحققة بين
هذه الصفات والجمل التى هى داخلة عليها وعاملة فيها فافهم واغتنم.
«حول الاسماء المبهمة»
«ثم انه قد انقدح
مما حققناه» الى قوله «غير مجازفة»
وليعلم مقدمة
لتوضيح ما افاده قده ان تصور الشىء تارة بنحو الاجمال ، واخرى بنحو التفصيل مثلا
قد يتصور زيد مجملا لا بنحو التفصيل وذلك تحصل بالنظر الى شبحه ، وقد يتصور تفصيلا
وذلك بالنظر الى شخصه وخصوصيته ، ولا ريب ان نحوى التصور فى ذلك مختلفان فى عالم
الذهن والانتقال إلّا انه بعد حصول المعرفة التفصيلية يتحقق الانطباق والتطابق بين
كلتا الصورتين ويعدان بعد ذلك شيئا واحدا من جميع الوجوه والحيثيات. وذلك بخلاف ما
اذا تصور زيدا بعنوانه الكلى ثم تصوره ثانيا بعنوانه التفصيلى
الجزئى ، فان
الكلى وان كان مع ملاحظته مع جزئية فى الخارج متحدان وجودا إلّا ان اتحادهما ليس
إلّا من هذا الوجه الذى هو الوجود الخارجى ، وإلّا قمع قطع النظر عن ذلك لم يكن
الكلى الا جزءا من جزئية ذاتا او عرضا لتركب الجزئى من الكلى والخصوصية.
والحاصل انه فرق
بين اتحاد الصورة الاجمالية مع الصورة التفصيلية ، وبين اتحاد الكلى مع افراده.
فان الاول اتحاد
من جميع الوجوه والحيثيات ، والثانى اتحاد من جهة دون جهة ، ولا يغرنك ما تراه من
صحة حمل الكلى على افراده ، فان الحمل يكفيه اتحاد ما ، فلا دلالة فيه على اتحاد
التام كما هو كذلك بين الصورة الاجمالية والتفصيلية.
ثم ان الصورة
المنتقشة فى الذهن تارة تكون متصورة بلا توجه نفسى اليها واخرى مع توجه كذلك كما
هو المشاهد فيمن يرى زيدا فانه بمجرد النظر اليه تنتقش صورته فى الذهن ، إلّا انه
ربما ينقدح له داع للمخاطبة والمحاورة معه ، واخرى لا ينقدح له مثل ذلك الداعى
فتبقى الصورة حينئذ معراة فى عالم الذهن عن توجه نفسى اليها ، وهذا التوجه متاخر
تبعا عن اللحاظ اذ ما لم يكن المعنى مسبوقا باللحاظ لا يكاد يحصل ثمة توجه من
النفس اليه والنسبة بين اللحاظ والتوجه عموم وخصوص مطلقا بحسب الموارد فكل مورد
كان فيه توجه نفسى الى المعنى ، لا بد وان يكون ذلك المعنى ملحوظا سابقا ولا عكس
لما عرفت انه ربما يحصل اللحاظ والتصور للمعنى ، بلا تحقق توجه من النفس اليه.
ثم ان التوجه
واللحاظ اذا تحققا وتعلقا بالذات ، كانا من قبيل اللحاظ الحرفى والاسمى غير
مأخوذين فى المتعلق ، ضرورة انه ليست الذات بقيد اللحاظ او التوجه متعلقة لهما ،
بل الذات البحت
المعراة عن
القيدين متعلق لهما ، واذا كانت الذات بما هى متعلقة لهما يظهر لك الحال فى
الاسماء المبهمة من كونها موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام. كما قال قده : «ان
المستعمل فيه فى مثل اسماء الاشارة والضمائر ايضا عام ، وان تشخصه انما نشاء من
قبل طور استعمالها ، حيث ان اسماء الاشارة وضعت ليشار بها الى معانيها ، وكذا بعض
الضمائر وبعضها ليخاطب به المعنى ، والاشارة ، والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا
يخفى».
وتوضيح ذلك ان
الاسماء المبهمة ليست موضوعة الا لتلك الصورة الاجمالية التى تراها متحدة مع كل
مورد اريد فيه شخص خاص وهى تتضمن التوجه النفسى الذى به افترقت عما عداها من اسماء
الاجناس والنكرات ، وقد عرفت آنفا تجرد الذات الملحوظة مع التوجه عن مراعاة
التقييد بقيدى اللحاظ والتوجه النفسى ، ولم يكن الاستعمال الا ذكر اللفظ ولحاظ
المعنى.
فيستنتج من مجموع
هذه المقدمات ، ان المستعمل فيه امر عام وهى الذات المطلقة الخالية عن تقييد ما
واذا كان هذا حال المستعمل فيه ، استكشف عنه حال الموضوع له فى كونه مثله فى
العموم ، وإلّا فلو كان الموضوع له خاصا بقيدى التوجه واللحاظ دون المستعمل فيه
لحصل التخالف بين الموضوع له والمستعمل فيه ، وكانت الاستعمالات فى مثل هذا
المبهمات طرا مجازية ، وهو بديهى الفساد فانقدح بذلك صحة المدعى من كون الوضع عاما
والموضوع له عاما ايضا.
وما تراه من
التخصيص والانحصار فى ارادة فرد شخصى حين الاستعمال ، فانما ذلك ناش من تضمنها قيد
التوجه الذى هو آت من كيفية الاستعمال ، وليس هو معتبرا فى مفاهيمها.
هذا تمام الكلام
فى توضيح ما افاده ، إلّا انه يتجه عليه ما مر منا
نظيره فى المعانى
الحرفية ، من ان خروج الاشارة والتخاطب عن معنى اللفظ لا ينافى تخصص المعنى
وصيرورته بمقدار يكون تواما مع الاشارة والتخاطب بحيث لا يكون له اطلاق ، يشمل حال
ضده ونقيضه ، وحينئذ فيخرج المعنى بذلك عن الكلية الى الجزئية ويكون من متكثر
المعنى ، الا على ما سمعت منا فى كيفية تصوير وضع العام والموضوع له العام هذا.
بقى الكلام فى شرح
حال الاسماء المبهمة من الموصولات واسماء الاشارة والمضمرات.
وحاصل الكلام انها
تحتوى على جهات ثلاث ، الاسمية والبناء ، والتعريف وهذه لا تكون الا عن منشإ وسبب
معنوى لاحق لها ، وكشف الغطاء عنه انها باعتبار دلالتها على المعانى الاجمالية
التى هى الذات الملحوظة فى عالم التصور المتحدة مع الصور التفصيلية عند لحاظ
الاشخاص باعيانهم وخصوصياتهم بعنوان الزيدية والبكرية ، كانت اسماء لانها بهذا
المعنى مستقلة فى المفهومية.
وباعتبار تضمنها
لمعنى الاشارة والتخاطب والمعهودية فى ضمير الغائب والموصولات ، كانت مبنية لان
هذه المعانى نوع من النسب والاضافات.
وباعتبار دلالتها
على تعيين مسماها بالاستعمال كانت معرفة هذا ما افاده دام ظله فى مجلس البحث.
ويمكن الاستشكال
فيما ذكر من وجه تعريفها من حيث ان هذا الوجه لو اقتضى تعريفها لاقتضى تعريف «من»
الموصولة ايضا فكانت مثل من الموصولة خرجت عن النكارة الى التعريف لاتحاد المناط
فيهما بسبب ان الموصولة فيها ايضا دلالة على الذات المعهودة بالصفة فهى كمن
الموصولة دالة على الذات المعهودة بالصلة.
فان قلت : ان
العهدية فى من الموصولة معتبرة فى الموضوع له بخلاف الموصوفة فان العهد فيها آت من
قبل الاستعمال.
قلت : قد تبين لك
الحال من اول البحث الى هنا ان المعهودية فى الموصولات كالاشارة والتخاطب فى اسماء
الاشارة وضمير المخاطب من شئون الاستعمال وليست هى من قيود المستعمل فيه فتوافقت
الموصولة والموصوفة من حيث خروج المعهودية عن اصل المعنى فعاد الاشكال فتأمل.
«فى استعمال اللفظ فى
نوعه ، وشخصه ومثله»
هذا كله الكلام
فيما يتعلق بالامر الثانى.
«واما الامر
الرابع» المتضمن لاستعمال اللفظ فى نوعه وصنفه ومثله فقد صدع قده فيه بالحق قائلا
ان استعمال اللفظ فيها كما فى المجازات الجارية على اقتضاء السليقة ، لا من باب
الوضع بل من باب الدلالة الطبعية ، وهل يجوز استعماله فى شخصه؟ فيه خلاف ومقتضى
كلامه قده فيه ، اختيار الجواز بوجه تغاير الدال والمدلول اعتبارا ، ويتجه عليه ان
الاستعمال كما اعترف به فى بحث المشترك ليس إلّا التوصل الى المعنى باللفظ العبرى
ونظر المرآتى ، بحيث لا يكون اللفظ فى جنب المعنى شيئا بحياله ملحوظا بالاستقلال ،
بل هو فان فيه فناء الوجه فى ذى الوجه والعنوان فى المعنون وهذا المعنى من
الاستعمال ينافى اعتبار الشىء بنحوين من اللحاظ فى استعمال واحد عبوريا واستقلاليا
، وإلّا لزم اجتماع اللحاظين المتباينين فى الشىء الواحد وهذا محال ، بل اللازم فى
مثل هذا النحو من الاستعمال اعتبار المغايرة الذاتية بلا اكتفاء بالمغايرة
الاعتبارية ، فمتى لم تحصل
المغايرة الذاتية
لم يكن للقضية موضوع قد استعمل لفظه فى معناه ، فتخلو القضية على هذا من الموضوع
وتصير مركبة من جزءين نسبة ومحمول كما ذكره فى الفصول بل اللازم تفردها بجزء واحد الذى هو المحمول خاصة من دون
نسبة ، لافتقار النسبة الى منتسبين فمع انتفاء احد طرفيها تنتفى هى قطعا ، فيبقى
المحمول لا بوصف المحمولية ، بل باعتبار ذاته وشخصه.
نعم لو كان الاستعمال
عبارة عن جعل اللفظ علامة وامارة لارادة المعنى لجاز ان يكون اللفظ ملحوظا
بالاستقلال باعتبارين دالا ومدلولا ، إلّا ان هذا مع كونه خلاف التحقيق خلاف
مختاره قده فى مبحث المشترك.
«فى ان الدلالة تتبع
الارادة»
«الخامس لا ريب فى
كون الالفاظ موضوعة بازاء معاينها من حيث هى لا من حيث هى مرادة للافظها» سواء
فسرت الارادة بالارادة اللحاظية او التصديقية التى هى بمعنى ارادة التفهيم ووجه
يعلم من الكفاية ، وحاصلها ان ما يتاتى من قبل الاستعمال يستحيل اعتباره فى مفهوم
المستعمل فيه ولا يكاد يكون من قيوده ، وايضا الوجدان شاهد آخر على تجرد المعنى عن
مثل هذا اللحاظ والارادة من حيث خلو الاطراف فى الجمل والقضايا عن اعتبار الارادة
فى مفهومها ، لعدم الانسباق.
وايضا يلزم من
اعتبار الارادة فى المعنى «كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا لمكان
اعتبار خصوص ارادة
__________________
اللافظين فيما وضع
له اللفظ» ، لكنك خبير بان مفاد هذه باسرها ، ليس إلّا عدم اعتبار الارادة داخلة
فى معنى اللفظ ، ولا ينافى ذلك خروجها عنه مع استتباعها تحصص المعنى بحصص تكون
تواما مع الارادة اللحاظية بل والارادة التصديقية ايضا كما ستعرفه إن شاء الله.
كما قلنا بمثل ذلك
فى المعانى الحرفية فحينئذ يستلزم ذلك عدم الرخصة فى التعدى فى مدلول اللفظ عن
المعنى الملحوظ من دون حاجة الى الالتزام بدخول الارادة حتى يشكل علينا بالوجهين
الاولين.
بل الاشكال الاخير
لا يرد ايضا فى مختارنا فى الوضع العام والموضوع له العام ، من تصوير معنى سار فى
الحصص الخارجية والذهنية الملحوظة فى عالم الذهن ، ويكون اللفظ موضوعا لذلك المعنى
، وحينئذ فلا يلزم القول باعتبار الارادة بالمعنى الذى بيناه ، القول بكون وضع
عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا هذا كله فى الارادة اللحاظية.
واما الارادة
التصديقية التى يبتنى عليها كلام «العلمين الشيخ الرئيس والمحقق الطوسى قده» ، الذاهبين «الى ان الدلالة تتبع الارادة» فاحسن ما قال
شيخنا العلامة الاستاذ مد ظله فى وجهه ان غرض الواضع فى وضعه ، ليس إلّا ارادة
تفهيم المعنى بالبداهة ، فاذا كان هذا هو الغرض من الوضع فذلك يستلزم ان يكون
الموضوع له خصوص المعنى المقصود تفهيمه ، لتبعية الوضع سعة وضيقا دائرة الغرض ،
فاذا لم يكن للغرض سعة عموم شاملة للمعنى بجميع شئونه واطواره ، كيف يترتب عليه
الوضع العام متعلقا بالمعنى باى نحو يكون ويتحقق! فمن ملاحظة الغرض يستكشف لما ان
الوضع لم
__________________
يتعلق الا بحصة من
المعنى ، وهو الحصة التى تكون تواما مع ارادة التفهيم ، لا بنحو الدخول والجزئية ،
وحينئذ فاذا استعمل اللفظ فى المعنى بقصد التفهيم ، كان ذلك على وفق الوضع وكان
حقيقة ، واذا استعمل فيه لا بهذا الوجه ومن دون هذا القصد كان مجازا لاستعماله فى
غير المعنى الموضوع له.
ولعله الى هذا
المعنى نظره قده فى قوله «ويتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت وتفرع الكشف على
الواقع المكشوف».
ان قلت : هذا انما
يتم فى الوضع التعيينى دون التعينى ، وذلك لان ارادة التفهيم من الامور الاختيارية
القصدية ، فيفتقر صدوره من مختار ويكون باعثا لتخصيصه اللفظ بالمعنى لكيما يترتب
عليه غرضه المقصود بمعونة الوضع ، وهذا انما يتاتى فى الوضع التعيينى خاصة ، اذ
الوضع التعينى قهرى الحصول ينشأ من كثرة الاستعمال ، وليس هو متفرعا عن ارادة وقصد
، فكيف يتصور فيه اختصاص المعنى بما يكون تواما مع ارادة التفهيم.
قلت : الوضع
التعينى لما كان ناشيا عن كثرة الاستعمالات الخارجية ، ولا ريب فى ان الاستعمالات
الخاصة الواقعة فى الخارج لم تقع الا عن ارادة التفهيم ، فهى اذ تراكمت وتكاثرت ،
توجب بمقتضى العادة اختصاص اللفظ بالمعنى على النهج الذى صدرت من المستعملين ، وقد
كانت فى حال صدورها عنهم منبعثة عن داعى ارادة التفهيم ، لا باى وجه كان ، فيكون
الاختصاص المتسبب عنها غير خارج عن دائرة مسببه ، فلا يكاد يكون الا اختصاص بين
اللفظ بحصته الخاصة منه التى هى توأم مع ارادة التفهيم.
«القول فى وضع المركبات»
الامر السادس
اختلفوا فى ان المركبات بما هى مركبات هل هى موضوعة بوضع على حدة غير الوضع
المتعلق بموادها وهيئاتها ام لا؟ وينشأ الخلاف اختلاف انظارهم فى بحث المطلق
والمقيد فانه قد وقع الخلاف بينهم ثمة فى ان المطلق هل هو موضوع للحصة الشائعة
والطبيعة السارية كما هو مختار المشهور ، او هو موضوع للماهية اللابشرط المقسمى
التى لا يكاد ينافيها طرو التقييد فى المقيد كما هو الحق وعليه التحقيق ، او لهم
فيما اعلم سلطان العلماء؟
ويتفرع على خلافهم
ثمة ان استعمال المقيدات على القول الاول مجاز ، وعلى الثانى حقيقة. واما وجه
ابتناء الخلاف هنا على الخلاف ثمة ، هو ان الاسماء المفردة باسرها لو نظرت اليها
بعين البصيرة تراها غير خارجة عن الاطلاق والتقييد ، حتى ان مثل زيد الذى هو علم
شخصى غير منطبق على متكثرات فردية ، لو اعتبرته بالنظر الى حالاته كان مطلقا ،
لصلاحيته للقيام والقعود والاكل والشرب وامثال ذلك ، فاذا تقيد بواحد منها صار
مقيدا ، فاذا بنينا على وضع المطلقات للحصة الشائعة ، لزم التجوز فى المواد
المفردة الواقعة فى ضمن هيئات المركبات ، لخروجها بذلك عن الشيوع الى التقييد ،
وهذا مما لا يلتزم به احد بل الوجدان يشهد بخلافه ، حيث انا لا نجد فى تركيب زيد
قائم وعمرو جالس ونحو ذلك خواص المجاز من رعاية علاقة واعمال عناية ، فهذا شاهد
صدق على أنها لم تستعمل المواد فى حال التركيب الا فى المعنى الحقيقى ، ولا يكون
ذلك بناء
على القول الاول
إلّا بارتكاب وضع آخر للمجموع المركب من الهيئة والمادة ، وهذا بخلافه على القول
الثانى ، اذ لا يلزمنا التجوز فى المواد وان لم نقل فيها بالوضع الآخر ، اذ المعنى
الموضوع له محفوظ فى ضمن الهيئة التركيبية ، فاستغنى بوضع المواد فى نفسها
والهيئات فى نفسها عن تكلف وضع آخر للمجموع التركيبى.
لوفاء الوضعين
الاولين بالمعنى الذى يراد استفادته من الوضع الثالث هذا.
ولمانع ان يمنع
توقف التحرز عن المجازية فى الموارد الواقعية فى ضمن الهيئات عند المشهور ، على
الالتزام بوضع مستقل للمجموع المركب المؤتلف من المادة والهيئة ، اذ التحرز عنها
كما يحصل بمثل هذا الوضع يمكن حصوله بوضع مستقل للمواد فى حال اندراجها فى الهيئات
، لا بنحو التقييد والانضمام حتى يرجع الى الاول ، ولا بنحو التجريد حتى يرجع الى
الوضع الاصلى الذى هو مقرر للمفردات ، بل بنحو الظرفية ومن قبيل القضايا الحينية
التى لا يستفاد منها الا التحصص واختصاص الوضع بحصة خاصة من المادة المشار اليها
بما وقعت فى ضمن الهيئات ، فيكون الوضع على هذا متعلقا بخصوص المادة المظروفة لا
بالمجموع المركب من الظرف والمظروف ، كما كان عليه بناء الكلام السابق ، وحينئذ
فلا يتجه الاستشهاد بانتفاء المجازية عن المواد وجدانا فى نظر المشهور على تعلق
الوضع الاستقلالى بالمجموع المركب الذى يبتنى عليه الخلاف فى هذه المسألة.
فتلخص مما قررناه
ان الدليل على القول بالوضع المستقل للمجموع المركب ، اعم من المدعى ولا دلالة
للاعم على الاخص ، فاما ان يكون دعوى ابتناء الخلاف هنا على الخلاف الواقع فى تلك
المسألة
حدسية على خلاف
الواقع واما ان تكون هى على وفق الواقع ، إلّا ان دليلهم هنا غير تام لانه من
الاستدلال بالعام على الخاص.
«حول علائم الحقيقة
والمجاز»
«السابع» فى علائم
الحقيقة والمجاز
منها تنصيص اهل
اللغة على ان اللفظ الكذائى معناه كذا ، وفى اعتبار هذه العلامة وعدم اعتبارها
خلاف ، وعلى تقدير اعتبارها فهل الرجوع اليهم من باب الرجوع الى اهل الخبرة ، او
من باب الشهادة او الرواية ، او لدليل الانسداد؟ فيه كلام بين الاعلام ، والتحقيق
عدم اعتبارها فى غير ما لم يحرز فيه ارادة التنصيص على المعنى الحقيقى خاصة ،
وقلما يتفق من لغوى احراز هذا المعنى منه اذ الغالب المعهود فيما وفقنا عليه من
كتبهم ذكر موارد الاستعمالات التى ، لا تختص بالاستعمالات الحقيقية فلاحظ وتبصر.
ومنها التبادر وعدم
صحة السلب فانهما دليلان على الحقيقة ، كما ان خلافهما دليلان على الخلاف.
وشبهة الدور
المعروف إيرادها فى المقام ، بينة الاندفاع بما بينوه من تحقق المغايرة بين
الموقوف والموقوف عليه بالاجمال والتفصيل ، وان التبادر عند العالم علامة للمستعلم
الجاهل ، وهكذا الحال فى جانب عدم صحة السلب ، وهذا واضح.
وربما يستشكل فى
أماريتهما بعدم دلالتهما الا على الحقيقة فى زمان التبادر ، لا ما قبله من زمان
صدور اللفظ من الشارع ، مثلا لو ورد ان الكنز فيه الخمس وشك فى معنى الكنز بانه هل
هو مختص بالنقدين او يعم غيرهما من الجواهر وامثالها؟ فتبادر احد المعنيين
لا يجدى فى المهم
المقصود اثباته فى الاحكام الشرعية. والتشبث باصالة عدم النقل انما يجدى لو كان
يثبت بمثل هذا الاصل استناد الظهور اللفظى الى الوضع ، ولا يثبت به إلّا بناء على
غير المختار من حجية الاصول المثبتة.
على انه لم يقم دليل
على اعتبار هذه الاصل المعبر عنه بالاستصحاب القهقرى كما سيجىء فى محله إن شاء
الله تعالى نعم ربما يتمسك لتوافق الزمانين ، باصالة تشابه الازمان الماخوذة من
سيرة عموم الناس على استنباط المعانى من الالفاظ القديمة ، بما يفهمونه بحسب
مرتكزاتهم من غير نكير من بعضهم على بعض
ومنها الاطراد
وعدمه وهو ان يوجد لفظ مستعمل فى مورد لمعنى لا يختص بمورده ويكون صحة استعمال
اللفظ دائرة مدار ذلك المعنى وجودا وعدما ، بلا رعاية علاقة ولا اعمال عناية وهو
المعنى من قولهم من غير تاويل ، او على وجه الحقيقة ، فان تحقق هذا النحو من
الاستعمال فى اللفظ كان ذلك علامة كونه حقيقة فى ذلك المعنى العام ، الذى يدور
مداره الاستعمال ، كعالم فانا نجد اطلاقه على زيد لتلبسه بصفة العلمية ، كما انا
نجد استعماله بارتكازياتنا لم يكن عن تاويل ، بل يستفاد المعنى من اللفظ من حاقه
وحينئذ ، فيستدل بمثل هذا على ان لفظ العالم حقيقة فى المتلبس بالعلم اى متلبس كان
وهذا بخلاف استعمال اسأل القرية فانا نجد حسن الاستعمال مختصا بمورده ، لا يتجاوز
الى قولك اسأل الجدار فمثل هذا يكشف عن مجازية اللفظ فى مورد استعماله.
ثم انه لا يخفى
عليك ان شبهة الدور المزبورة واردة هنا ايضا ، والجواب عنها واحد ، وربما يمنع
تاتى التفصى عن الدور هنا بما ذكر ثمة نظرا الى «انه مع العلم بكون الاستعمال على
نحو الحقيقة
لا يبقى مجال
لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد او بغيره».
وبعبارة اخرى ان
ذكر الحقيقة وجعلها قيدا فى العلامة ومعتبرة يوجب سبق معرفتها تفصيلا على ذى
العلامة ، اذ ما لم تستكمل القيود المعتبرة فى المعرف «بالكسر» وتستعلم باسرها على
نحو التفصيل لا يتعرف به المعرف «بالفتح» ومن ثم بنوا على ان الفارق بين المعرف
والمعرف هو الاجمال والتفصيل ، والاجمال فى جانب المعرف بالفتح والتفضيل فى جانب
المعرف بالكسر ، فاذا كان اللازم فى استعمال الشىء تعرف تمام قيود العلامة على نحو
التفصيل ، وكان من جملة قيودها نفس المعرف الذى هو ذو العلامة يجىء الدور ، فيقال
معرفة الحقيقة على التفصيل موقوفة على علامتها التى هو الاطراد على وجه الحقيقة ،
ولا تعرف هذه العلامة الا بعد معرفة تمام قيودها تفصيلا ، ومن جملة قيودها هى نفس
الحقيقة ، فتوقفت معرفتها كذلك وهذا هو الدور المحال. هذا غاية ما يمكن ان يؤيد به
كلام المانع.
ويمكن الجواب عنه
بان قيد الماخوذ فى العلاقة هاهنا هو الحقيقة الملحوظة على سبيل الاجمال ، ويعبر عنها
بالمرتكز الذهنى الذى يستعان به على معرفة اطراد اللفظ فى تمام موارد استعمالاته
بمعنى واحد ، على نحو الاستناد الى حاق اللفظ ، ويكون هذا المقدار من الارتكاز
الذهنى وسيلة الى الوقوف على معرفة المعنى تفصيلا ، فظهر بهذا بطلان ما ذكره من
لزوم معرفة الاجزاء باسرها فى العلامة على وجه التفصيل ، لظهور ان المعرفة
الاجمالية فى بعض القيود اذا كانت وافية بالغرض المقصود للمستعلم من تحصيل معرفة
الحقيقة تفصيلا ، فلا داعى الى لزوم لحاظه تفصيلا.
«الامر الثامن»
اختلقت كلمات الاصوليين فى مبحث تعارض الاحوال اللاحقة للفظ ، اذا تردد الامر فيه
بين الاشتراك ، والاضمار ،
والتخصيص ،
والتجوز ، والنقل ، وأوردوا «لترجيح بعضها على بعض وجوها استحسانية ، لا اعتبار
بها إلّا اذا كانت موجبة لظهور اللفظ فى المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها
بدون ذلك كما لا يخفى» اذا العبرة بالظهور ومن ثم لو كان اللفظ حقيقة فى معنى وشك
فى ارادة ذلك المعنى عند الاستعمال حمل اللفظ على ذلك المعنى ولا يعبأ التجوز ما
لم تقم قرنية بينة عليه.
«القول فى الحقيقة
الشرعية»
«الامر التاسع انه
اختلفوا فى ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على اقوال»
وقد عرفت آنفا ان
الوضع على قسمين تعيينى وتعينى فهل الثابت على القول بثبوتها هو الاول او الثانى؟
وربما يستبعد الاول من حيث انه لم يعهد من النبى (ص) قيامه فى ملاء من الناس
واعلامهم بانى وضعت هذه الالفاظ الكثيرة الدوران الى معانيها المعهودة ، ولو كان
لبان.
نعم «دعوى الوضع
التعينى» فيها قريبة جدا عند القائل بثبوتها ، وقد يقرب الاول ايضا «بان الوضع
التعيينى كما يحصل بالتصريح بلسانه كذلك يحصل باستعمال اللفظ فى غير ما وضع له»
بقصد تخصيص اللفظ به ، فيصح لمن يريد تسمية ولده باسم ان يصرح بالتسمية والجعل بان
يقول سميته محمدا او يقول جئنى بولدى محمد مريدا به تسميته بهذا الاسم فانه لا ريب
فى صحته وهو نحو من الوضع التعيينى.
لا يقال : هذا
محال لانه مستلزم للجمع بين لحاظين متباينين ،
وهما لحاظ الالية
والاستقلالية فى اللفظ الموضوع ، وجه الملازمة ان استعماله فى المعنى لا يكون إلّا
بالنظر الآلي ، وكون المقصود من ذلك وضع اللفظ للمعنى لا يكون إلّا بنظر استقلالى
للفظ وبطلان اللازم بديهى.
لانه يقال : نعم
فى المقام اجتماع لحاظين ، متباينين إلّا ان الملحوظ فى كل من اللحاظين غير
الملحوظ باللحاظ فان الملحوظ آلة ، هو شخص اللفظ بالنسبة الى شخص المعنى ،
والملحوظ استقلالا طبيعة اللفظ بالنسبة الى طبيعة المعنى ، فلم يجتمع فى موضوع
واحد لحاظان متنافيان ، بل فى موضوعين ولا باس به كما لا يخفى.
فتلخص مما ذكرناه
ان الحقيقة الشرعية بناء على ثبوتها يمكن تحققها فى مرحلة الخارج بكلا نحوى
التعيين والتعين.
وبعد هذا نقول :
ان القائل بها لا يسعه القول بها فى الالفاظ المتداولة فى لسان الشارع إلّا اذا لم
يقم فيها احتمال وضعها لمعانيها فى الاعصار السالفة والشرائع السابقة ، واما مع
قيام مثل هذا الاحتمال فيها كما يقتضيه غير واحد من الآيات فلا مجال ودعوى القطع
بثبوتها على هذا التقدير مجازفة ، بل ليس معه الا الاحتمال ، فان الاحتمالات
العقلية المتصورة فى المقام حينئذ لا تخرج عن واحد من ثلث ، اذ هذه المعانى
القديمية ، ان كانت مسماة بهذه الاسماء من اول زمان اختراعها ، كانت الالفاظ حقايق
لغوية ، لا شرعية نظرا الى كون واضعها اهل اللغة.
وان لم تكن مسماة
بهذه الاسماء من سابق الزمان ، بل من زمان الشارع على لسانه ، كانت الالفاظ حقائق
شرعية ، لان التسمية من الشارع وان كان المسمى بذاته ليس من مخترعاته ، فعلى هذا
يحتاج فى دلالة الالفاظ على ما يزيد على تلك المعانى من الشرائط والاجزاء
المستحدثة منه (ص)
، الى دال آخر اذ المسمى بناء على هذا الاحتمال الثانى ، معرى عن هذه الشرائط
والاجزاء لا هو الحاوى لها ، فعليه فتسقط الثمرة المطلوبة للقائل بثبوت الحقيقة
الشرعية اذ على كلا تقديرى الثبوت وعدمه ، لا بد من حمل اللفظ على معناه الموضوع
له وهو هنا على الاحتمالين ليس إلّا المعنى القديم.
غاية ما فى الباب
انه على فرض الاحتمال الاول يكون اللفظ حقيقة لغوية ، وعلى الثانى شرعية باعتبار
ملاحظة حال الواضع ، وهذا المقدار من التغاير لم يكن محط نظرهم فى الاختلاف ، فى
ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه ، لانه نزاع لفظى تابى عنه كلام الاعلام ، وما رتبوا
عليه من الثمرة فى هذا المقام ، فلا بد وان يكون نظر القائل بثبوتها الى احتمال
ثالث ، وهو ان تكون الالفاظ اسماء للمعانى المعهودة فى شرعنا الحاوية لتمام
الاجزاء والشرائط المقررة فيها ، على ان يكون استفادة تلك الاجزاء والشرائط من حاق
اللفظ لا من دال آخر وعليه فيتجه النزاع وتظهر الثمرة بين القولين إلّا ان هذا
الاحتمال يفتقر تعيينه الى دليل وهو مفقود فى المقام.
ويمكن الانتصار
للقول بثبوتها ، بان الدليل عليه موجود وهو تبادر المعانى الشرعية منها فى
محاوراته «ص» واجيب عن ذلك بان هذا انما يتجه لو لم يحتمل وضعها قديما للمعانى «ومع
هذا الاحتمال لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها حقايق شرعية ، ولا لتوهم
دلالة الوجوه التى ذكروها على ثبوتها لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه».
وفيه ان التبادر
جهة معتبرة يلغى به الاحتمالات المخالفة ، للمعنى المتبادر كما فى غير المقام فهو
كالظهور اللفظى الذى لا يكاد يقدح معه احتمال الخلاف فمع تسليمه قده التبادر لو لا
هذا الاحتمال
كما اعترف به فى
كلامه قده كيف يسوغ له انكاره مع صرف هذا الاحتمال.
لا يقال : لا
منافاة بين تبادر المعنى الشرعى فى محاوراته ، وبين قدم المعنى اذ ربما يكون اللفظ
حقيقة فى معنى من قديم الزمان ويبقى على حقيقته الى عصر الشارع ، فيستعمل فيه
بلحاظ وضعه الاولى ولا يكون حينئذ حقيقة شرعية.
لانا نقول : كيف
يكون ذلك المعنى شرعيا ولم يكن مخترعا فى زمان الشارع؟
فان قلت : انما
صار شرعيا لانه كان مستحدثا فى الشرائع السابقة فنسب الى الشرع بتلك الجهة.
قلت اذن لم يكن
النزاع بين مثبت الحقيقة الشرعية ونافيها الا لفظيا لتسالم الطرفين على تبادر
المعنى الشرعى ، إلّا ان الاول يقول : بذلك بوضع جديد من الشارع ، والثانى يقول به
بوضع سابق من الشرائع السابقة ، وحينئذ فلم يكن ثمرة على هذا الوجه بين القولين.
لا يقال : الثمرة
تظهر بين القولين على القول بالاعم فى اسماء العبادات ، فمن قال بالحقيقة الشرعية
وهو قائل بالاعم يلتزم بتبادر معنى حاو لبعض الاجزاء والشرائط الزائدة على معنى
الدعاء الذى هو المعنى اللغوى مدعيا قدم تلك الزيادة فى السابق باقية الى عصرنا
هذا ، فاستفادتها بناء عليه يكون من حاق اللفظ ، وعلى قول النافى من دال آخر وكفى
بذلك ثمرة وفارقا بين القولين.
لانا نقول : مبنى
الاشكال لم يكن على الاعمى حتى يتفصى عنه بما ذكر بل على الماتن قده الذاهب الى ان
اسماء العبادات موضوعة للصحيحة فانه على هذا المبنى لا يسعه التفصى عنه بدعوى قدم
هذا المعنى الشرعى الصحيح ، للقطع بان المعنى الصحيح من الصلاة ،
من مستحدثات شرعنا
لا من الشرائع السابقة ، وحينئذ فيتجه الاشكال عليه بانه اذا كان هذا المعنى
متبادرا فى محاورات الشارع كيف ينكر شرعية بمجرد وجود صلاة ما فى الشرائع السابقة
وهل هذا الا تهافت؟
بقى فى المقام
اشكال آخر على ظاهر عبارته قده فانه بعد احتماله وضع الالفاظ فى الشرائع السابقة
قال بصورة الجزم ان الالفاظ بناء عليه تكون حقائق لغوية لا شرعية انتهى.
مع انه من المعلوم
ان وجود الاحتمال لا يكاد يستنتج منه إلّا احتمال كونها حقائق لغوية لا الجزم
بذلك.
ثم ان الثمرة على
زعمهم «تظهر فى لزوم حمل الالفاظ الواقعة فى كلام الشارع بلا قرينة على معانيها
اللغوية مع عدم الثبوت وعلى معانيها الشرعية على الثبوت فيما اذا علم تاخر
الاستعمال» ولا يخلو ذلك من نظر واشكال اذ القائل بالحقيقة الشرعية لا يقتضى دليله
الا تجدد وضع جديد لهذه الالفاظ فى معانيها الشرعية ، فى قبال النافى الذى لم يثبت
عنده مثل هذا الوضع الجديد الحادث ، او ثبت عدمه عنده ومن الواضح ان مجرد حدوث وضع
جديد للفظ فى معنى لا يستدعى هجر معناه اللغوى السابق ، وحينئذ فيكون اللفظ مشتركا
لفظيا عند القائل بالحقيقة الشرعية واذا كان مشتركا فلا مجال للالتزام بحمله على
المعنى الشرعى الابدال آخر وإلّا فمجرد اللفظ بنفسه صالح للمعنيين ، فينبغى على
هذا ان تكون الثمرة بين القولين هى اجمال اللفظ فى معناه على القول بثبوتها فيتوقف
الى ان يحصل المعين ، بخلافه على القول الآخر فانه يتعين بناء عليه حمل اللفظ
المجرد على معناه اللغوى.
«حول الصحيح والاعم»
العاشر فى ان
الفاظ العبادات اسام لخصوص الصحيحة او الاعم منها وقبل الخوض فى ادلة الطرفين
ينبغى التنبيه على امور : منها ان المقصود من الصحيح والاعم فى المقام ليس هو
مفهومهما ولا مصداقيهما بل المعنى الملزوم لهما ، بداهة ان الصحة التى هى فى
الحقيقة بمعنى التمامية امر منتزع من ملاحظة الشىء وافيا بالغرض ، والفساد بعكس
ذلك فحينئذ كانا من العناوين المنتزعة المتاخرة عن ذات الشى فلا يعقل اعتبار فى
ذات الشىء كما لا يخفى.
«فى ان الصلاة اسم
للجامع الوحدانى»
ومنها ان مصاديق
الصحيح كمصاديق الاعم مختلفة ، لا يكاد يجتمع تحت جامع مشترك بينها ظاهرا فمن ثم
ذهب شيخنا المرتضى قده فيما حكى عنه ، الى ان الصلاة اسم لصلاة الكامل المختار وان
ما عداها من المراتب النازلة كلها ابدال لا صلاة على الحقيقة بل بالتنزيل والعناية
.
ويرد عليه ان
الاختلاف موجود فى صلاة المختار ايضا اذ هى فى صلاة اليومية على نحو مغاير لها فى
صلاة جعفر (ع) ، وفى صلاة الكسوف على نحو مغاير لها فى صلاة العيدين فما فر منه
قده وقع فيه.
__________________
على ان المراتب
النازلة اذا كانت وافية بالغرض المطلوب من صلاة المختار ، كشف ذلك انا عن تحقق
عنوان وحدانى تشترك فيه جميع الصلوات هو المسمى بالصلاة.
وبهذا يستدل على
ان الصلاة اسم للجامع الوحدانى ، فان الاثر الواحد لا ينبعث ولا ينشا إلّا من مؤثر
واحد ، ببرهان السنخية بين العلة والمعلول ، وان الواحد لا يصدر إلّا من الواحد.
فلما كانت الصلاة
قربان كل تقى ، وكان هذا الاثر بسيطا دل ذلك على بساطة المؤثر فيه.
والحاصل ان قوله عليهالسلام : الصلاة قربان كل تقى قضية حملية حمل فيها الاثر الواحد البسيط على الصلاة ، فلو
لا ان الصلاة ، حقيقة فى ذلك المعنى الجامع البسيط المؤثر فى هذا الاثر ، لما صح
مثل هذا الاطلاق ، والاستعمال الغير المبنى على رعاية علاقة واعمال عناية.
وايضا لو فرض ان
زيدا كان يصلى بصلاة الاشارة ، وعمروا يصلى بصلاة المضطجع ، وبكرا يصلى بصلاة
المختار وهكذا ، فانه يصح فى هذا الفرض ان يقال زيد وعمرو وبكر مشتغلون بالصلاة ،
من غير تجوز فلو لا ان الصلاة اسم للمعنى الجامع للزم الاستعمال فى اكثر من معنى
واحد وهو محال.
وايضا انا نجد
استعمالات الصلاة فى الموارد المختلفة كلها ، بدالين يدل احدهما على اصل المعنى
والآخر يدل على الخصوصية ، فلو لا ان الصلاة اسم للمعنى الجامع ، لكانت الدلالة
على الخصوصية وذيها من حاق اللفظ ، مع انه ليس كذلك ، ألا ترى انك لو قلت زيد
__________________
يصلى لا يستفاد
منه الا معنى يحتمل ان يكون فى خصوصية الاشارة او الاضطجاع او القيام ، وغير ذلك
فتحتاج فى افادة الخصوصية الى دال آخر.
فهذه وجوه ثلاثة
دالة على ان الصلاة اسم للجامع الوحدانى.
«فى توهم الاشكالين
على الجامع»
وقد يتوهم ان لازم
القول بالجامع ، الاجتزاء بكل صلاة لكل مكلف ، ولم يدر ان ذلك انما يلزم لو كان
مصداقية الافراد متحققة ، فى كل حال وفى كل ان ، وليس كذلك فان صلاة الغريق لا
تكون مصداقا للصلاة الا فى حال الغرق وكذلك صلاة المضطجع لا تكون صلاة الا فى حالة
خاصة من المرض وهكذا.
وهناك توهم آخر
وهو ان لازم القول بالجامع الذهاب الى الاحتياط فى مقام الشك فى جزئية شىء للصلاة
، او شرطيته لها من حيث رجوع الشك فى ذلك الى الشك فى المحصل ومحقق الجامع المطلوب
، مع ان المشهور القائلين بالصحيح قائلون بالبراءة فى الشك فى الاجزاء والشرائط.
يظهر فساده ببيان
الفرق بين صورتى الشك فى المحصل والمقام ، فان المطلوب تارة يكون هو الجامع بما هو
جامع ، واخرى يكون الجامع بمرتبة خاصة منه مطلوبا ، وان كان المسمى هو الجامع نفسه
، نظير الحمرة لو كانت مطلوبة بمرتبة خاصة من مراتبها الضعيفة او الشديدة فان كان
المطلوب من قبيل الاول ، كان ذلك شكا فى المحصل ولزم فيه مراعاة الاحتياط وان كان
من قبيل الثانى ، كما هو كذلك فى الصلاة وجب على الحكيم بيان تحديد مرتبة المطلوب
، فان بينه
على وجهه تماما
وكمالا بحيث لم يبق شك فى المطلوب ، كانت الحجة تامة ووجب الامتثال واتيان المطلوب
على حسب امره ، وان لم يبينه كذلك فبمقدار ما علم اشتغال الذمة به من الاجزاء يلزم
مراعاته بالامتثال والزائد على ذلك مما يشك فيه تجرى فيه اصالة البراءة هذا.
وقد يجاب عن هذا
التوهم بما فى المتن «من ان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات
المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتحاد وفى مثله تجرى
البراءة ، وانما لا تجرى فيما اذا كان المامور به امرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب
مردد بين الاقل والاكثر كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما اذا شك فى
اجزائهما انتهى».
وظاهره ان الجامع
الصلاتى مفهوم انتزاعى لا تاصل فى الوجود وهو كما ترى ولعله يريد ما نريده والله
العالم بما فى الضمائر.
فقد عرفت من جميع
ما قدمناه ان تصوير الجامع عند الصحيح معقول وممكن ذاتا وهو واقع خارجا.
«فى تصوير الجامع عند
الاعمى»
واما عند الاعمى
فيمكن تصوير الجامع مع رأيه بان يقال : انك اذا تعقلت جامعا بين الافراد الصحيحة
لزم من ذلك تعقل الجامع بين الاعم منها ومن الفاسدة.
وبيان ذلك ان كل
فرد من تلك الافراد والمصاديق الصحيحة ، لا بد وان يحتوى على اجزاء وشرائط بها
تحققت فرديتها وصار لها التاثير الفعلى فى ذلك الاثر الواحد البسيط ، فكل جزء من
تلك الاجزاء له دخالة ما فى حصول الاثر وان لم يكن هو تمام العلة بل
جزئها ، نظير
القوة القائمة بعشرة رجال البالغة درجة حمل الحجر الثقيل ، فكل رجل من تلك العشرة
له قوة ما على الحمل ، إلّا انها قوة شأنية لا فعلية ، فيتصور جامع مشترك بين
المرتبة الفعلية وما ينقص عنها مما يتلوها من المراتب الشانية ، اذ القوة الغير
المحدودة بحدها الضعفى الشانى ولا بالمرتبة الفعلية هى جامع بين قوة العشرة
والتسعة. وهذا هو مرام الاعمى ومقصوده فكل من التزم بجامع بين الافراد يلزمه
الالتزام باعتبار ذلك الجامع بين الاجزاء ، اذ لا يتصور الجامع بين الافراد الا
حيث يكون الجامع من المعانى التشكيكية التى لا يكون الامتياز فيما بين افراده الا
بعين ما به الاشتراك ، فحينئذ وان يكون جامع معنى ساريا فى الاجزاء والافراد وهو
المعنى الاعم.
ومما يمكن ان
يستدل به لعموم الجامع بين الصحيح والفاسد ما تراه من تمسك الصحيحى بالتبادر فان
مثل هذا الاستدلال منه على اثبات مرامه فى قبال الاعمى ، دليل على ان فى ارتكاز
ذهنه بحسب طبعه هو ثبوت جامع عام وهو يريد لنفى وضع اللفظ له بالتبادر فى خصوص
الصحيحى ، وإلّا فلو استحيل الجامع العام على حسب ما يقوله الصحيحى لم يكن داع الى
تعيين الصحيح بالتبادر لتعينه بانتفاء عديله الذى هو المعنى العام ، لعدم قائل
بوضعه لخصوص الفاسد كما لا قائل باشتراكه لفظيا بين الصحيح والفاسد ، فانحصر الامر
والخلاف فى وضعه لخصوص الصحيح او الاعم فاذا انتفى الثانى بعدم معقولية الجامع بمقتضى
دعوى الصحيحى ، فلا بد وان يتعين كونه موضوعا لخصوص الصحيح اذ ليس اللفظ مهملا
قطعا ، وبالجملة هذا الزام للصحيحى بحسب ارتكاز ذهنه.
هذا ما استفدت من
مجلس البحث ، ويمكن الخدشة فيه بان استدلال الصحيحى بالتبادر ليس من جهة ان الجامع
مرتكز فى ذهنه
بل من باب التسليم
وعلى سبيل التنزل كما ان هذا ديدن القوم فى استدلالاتهم وذلك واضح للمتتبع البصير
بحيث لا يكاد يخفى فتامل فى المقام فانه من مزال الاقدام.
وايضا يمكن
الاستدلال للجامع العام بان الشارع من ديدنه مع عدم التنبيه ان يكون فى عادته على
حسب عادة الناس ، كما ان الحكمة تقتضى ذلك فاذا اراد وضع الفاظ عنده لمعان مخصوصة
كالصلاة والصيام وغير ذلك ، فلا بد وان يكون وضعه لمعانيها على حسب وضع الواضعين ،
ونحن نرى بالوجدان من حال الواضعين انهم يضعون الالفاظ للمعانى على وجه لا يقدح
فيه اختلال بعض اجزائه وشرائطه ، وما ذاك إلّا لكونه موضوعا عندهم لمعنى عام يشترك
فيه الناقص والكامل فكذلك الشارع هذا ان قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية وان لم نقل
وكانت هذه الالفاظ حقائق عرفية فى معانيها فالامر اوضح من ان يخفى ، اذ هى على هذا
التقدير تكون كسائر الالفاظ العرفية التى لا يتفاوت الحال فى اطلاقها على مسمياتها
بين نقصان المسمى وكماله كلفظى الساعة والكتاب مثلا ، فانك تجد صحة استعمالهما
فيما ينقص عنه ورقة من الكتاب او بعض آلات الساعة.
لا يقال : ليس
الغرض من الاوضاع الا تعيين المسميات والمسمى الذى يكون الحاجة الى تعيينه هو
الصحيح الموافق للغرض ولا داعى للوضع الى يعم الفاسد.
لانه يقال : يجوز
ان يكون الداعى للوضع للمعنى الاعم هو فتح باب التمسك بالاطلاق فى الفاظ العبادات
، اذ لو اقتصر فى الوضع على خصوص الصحيح كان اللفظ مجملا لا يسع الناظر فيه الا
الرجوع الى الاصول العملية بخلاف ما لو وضع للاعم فانه يصح معه التمسك باطلاق
اللفظ لنفى مشكوك الجزئية ، او الشرطية.
فان قلت : ربما
يكون الصحيحى قائلا بالبراءة فى الشك فى الاجزاء والشرائط فيتوافق الصحيحى على هذا
مع الاعمى ، فى التمسك باطلاق اللفظ فى نفى شكوك الجزئية والشرطية اذ كل منهما لم
يعتبر الجزء او الشرط المشكوك الجزئية والشرطية وان كانا مختلفين مدركا.
قلت : كفى باختلاف
المدرك فارقا ، اذ الثمرة بين التمسك بدليل الاجتهادى والفقاهتى لا يكاد يخفى ،
لظهور ان الاصل العملى يرتفع موضوعه حكما بورود ادنى دليل معتبر من رواية او ظهور
آية ، بخلاف الاطلاق فانه لا يقاومه من الادلة الاجتهادية الا ما يفوقه فى قوة
الدلالة والسند.
«فى ما استدل به
الاعمى على مرامه»
واستدل للاعمى
ايضا بظاهر التقسيم الى الصحيح والفاسد فانه لو لا عموم المقسم لما صح التقسيم
بالبديهة واما تاويله الى تقسيم المسمى بالصلاة ، فمع ما فيه من التعسف لا يكاد
يتم ايضا ، اذ الصحة والفساد ليسا من عوارض المسمى بما هو مسمى بل بما هو معنى من
سائر المعانى ، فحيثية التسمية اجنبية عن الاتصاف بالصحة والفساد ، فان الشىء ان
وافق الغرض كان صحيحا وإلّا يكون فاسدا ، سمى باسم خاص او لم يسم باسم خاص اصلا ،
فاذا على تقدير ارتكاب هذا التاويل فى المقسم لا بد وان يكون ذكر المسمى ولحاظه
عبرة ووسيلة الى ذلك المعنى القابل للاتصاف بالصحة والفساد ولازم ذلك وجود جامع فى
نفس الامر والواقع يشار اليه ببعض العناوين وهذا هو قرة عين الاعمى.
واستدل له ايضا
بما ورد فى بعض الاخبار عنه (ع) بنى الاسلام على الخمس ، الصلاة ، والزكاة ، والحج
، والصوم ، والولاية ، ولم يناد احد بشىء كما نودى بالولاية فاخذ الناس بالاربع
وتركوا هذه فلو ان احدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا
صلاة .
تقريب الاستدلال
ان الاخذ بالاربع ، عبارة اخرى عن الاخذ بالصلاة والزكاة والحج والصوم ... فلو لا
ان اسماء هذه العبادات موضوعة للاعم ، لم يكونوا آخذين بالاربع لبطلان عبادتهم
بناء على اشتراط صحة العبادات بالايمان.
لا يقال : يجوز ان
يكون المراد آخذين بالاربع الصحيحة بحسب معتقدهم وحينئذ فلا دلالة فى الرواية على
اعمية المعنى.
لانا نقول : هذا
تاويل فى الرواية يا باه ظهورها من تعلق الاخذ بعين ما ذكر سابقا ، فلو كان
المذكور فى السابق مرادا منه ، الصحيح من حاق اللفظ كما هو مرام الصحيحى ، تعين
فيه ارادة الصحيح الواقعى اذ هو الذى بنى عليهالسلام لا الصحيح الاعتقادى ، فلو اريد من الاربع المذكورات على
ان تكون صحيحه اعتقادية لا واقعية لزم الاختلاف بين المشار به والمشار اليه ، وهذا
خلاف ظاهر الكلام ولا يلزم هذا المحذور بناء على الاعم ، اذ من الجائز ان يكون
المراد من المذكورات فى صدر الكلام هو الصحيح بدالين اصل الماهية من حاق اللفظ ،
والصحة من دال آخر ، كما ان المراد من الاربع فى ذيل الكلام خصوص
__________________
الفاسد منها بفقد
شرط الولاية ، ويكون ارادة ذلك ايضا بدالين كما تقدم آنفا وحينئذ فلا اختلاف بين
المشار به والمشار اليه لكن المعنى فى كل منهما واحدا وهو المعنى العام وما بينهما
من الاختلاف بالصحة والفساد ، خارج عن مدلول اللفظ.
هذا غاية ما يمكن
ان يذكر فى تقريب الاستدلال بهذه الرواية لمدعى الاعمى.
ويرد عليه اولا
انه بناء على ارادة المعنى العام من اللفظين صدرا وذيلا يلزم ان يكونوا قد اخذوا
بالاربع الغير المبنى عليها الاسلام ضرورة ابتناء الاسلام على الصحيح الواقعى منها
لا الاعتقادى ولا لفاسد منها ، فلا محيص اذن على كلا القولين من لزوم تاويل فى سوق
الرواية والخروج عن ظاهرها ، فلم يكن فى البين مستمسك للاعمى من طريق الاخذ
بالظهور.
وثانيا ان اقصى ما
يتحصل من هذا الاستدلال بالرواية ، هو مجرد الاستعمال فى المعنى الاعم ، واما انه
على سبيل الحقيقة فلا ، على ان مثل هذا الدليل انما يفيد عدم اعتبار الشرط فى مسمى
اللفظ فهو انما يصلح ردا على الصحيحى المعتبر للاجزاء والشرائط فى المسمى ، اما
اذا كان ممن يقول باعتبار الاجزاء خاصة فلا يصلح الاستدلال بهذا النحو ردا عليه.
ومن جملة ما استدل
به للاعمى قوله (ع) دعى الصلاة ايام اقرائك
بتقريب ظهور النهى
فى المولوية ، ومقتضى ذلك تحريم الصلاة ذاتا عليها فى ايام الحيض ، فيكون محصل ما
افيد فى هذه الرواية ، ان ما كنت تاتينه من الصلاة قبل ايام الحيض محرم عليك
__________________
اتيانه فى ايام
الحيض ، فلو لا ان الصلاة للاعم لحصل التغاير بين ما تاتينه قبل الحيض وبعده ، ولم
يكن بحسن حينئذ مثل هذا التعبير الظاهر فى الاتحاد وعدم المائز بينهما الا من حيث
القبلية والبعدية.
وجوابه يظهر مما
مر ، فان غاية ما يتحصل من ذلك الاستعمال فى المعنى الاعم الذى هو اعم من الحقيقة
والمجاز.
واستدل له ايضا
بانه «لا شبهة فى صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة فى مكان تكره فيه وحصول الحنث
بفعلها» ولا يكاد يحصل الحنث إلّا باتيان ما يكون مصداقا من مصاديق المنذور تركه
ومن المعلوم ان الصلاة المتحقق بها الحنث لا بد وان تكون فاسدة لتعلق النذر بتركها
، فكونها فاسدة ومع ذلك كانت مصداقا للصلاة دليل على عموم معنى الصلاة.
على ان الصلاة لو
كانت مختصة بالصحيحة لاستحال انعقاد النذر اذ هو فرع القدرة والتمكن من موافقته
فيبرّ النذر ومخالفته فيحنث به ولا يكاد يتمكن من الحنث بعد النذر اذ كل ما ياتى
به يكون فاسدا لا صحيحا ، وبناء على الوضع للصحيح يكون المنذور تركه هو الصلاة
الصحيحة ، ويستحيل على هذا الحنث بالمخالفة ولا بر النذر بالموافقة ، لان تركه
للصلاة الصحيحة على هذا يكون قهرى الحصول لا بالاختيار هذا.
واجاب عنه الماتن
بما حاصله ان المتحصل من هذا الاستدلال ليس إلّا ان متعلق النذر هو الاعم واين هذا
من اثبات الوضع للاعم.
على انه بناء على
الوضع للصحيح يمكن القول بان المنذور تركه هو الصلاة الصحيحة لو لا النذر ومثل هذه
الصلاة يمكن تحققها بعد النذر ولو كانت فاسدة بالنذر إلّا انها صحيحة لو لا النذر
نعم لو اريد الصحيحة بالفعل «لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من
الامكان».
والصواب فى الجواب
ان يقال ان الصلاة المنذور ترك ايقاعها فى مكان خاص لا بد وان تكون مكروهة كى يصح
تعلق النذر بتركها ضرورة اشتراط الرجحان فى متعلق النذر.
وقد اختلفوا فى
معنى كراهة العبادة هل هى بمعنى المرجوحية او اقلية الصواب؟ فمنهم من اختار الاول
نظرا الى ان المرجوحية ، راجعة الى الخصوصية وهى الكينونة فى الحمام لا فى ذات
العبادة ، ومنهم من اختار الثانى بملاحظة تعلق النهى بحسب ظاهر اللفظ بالصلاة
المكيفة بالخصوصية الخاصة ، ولما لم يكن يتصور مرجوحية العبادة فى نفسها لم يكن بد
من ارتكاب التاويل فى النهى المتعلق بتنزيله على اقلية الثواب ، وعلى هذا فلا تكون
العبادة الا راجحة وان كانت برجحان ضعيف ، فبناء على المرجوحية لا بد وان يكون
متعلق النذر ترك الخصوصية اذ هى التى يكون تركها راجحا وإلّا فذات الصلاة متمحضة
للرجحان لا يصح تعلق النذر بتركها ، فلو تعلق النذر بمثل هذه العبادة ذات الخصوصية
المرجوحة ، لزم توجهه الى الخصوصية لا الى ذات العبادة ، وحينئذ فلا دلالة فى صحة
النذر على ان الصلاة بمعنى الاعم ، بل لو اريد منها الصحيح ايضا امكن القول بصحة
النذر وكانت الصلاة صحيحة ، وبناء على اقلية الثواب لا يصح النذر لمرجوحية ترك هذه
العبادة وهو مانع من تعلق النذر به فتامل.
«حول ثمرة النزاع»
وكيف كان فالثمرة
بين القولين بينة ، وهى كما فى الكفاية «اجمال الخطاب على القول الصحيحى وعدم جواز
الرجوع الى اطلاقه فى رفع ما اذا شك فى جزئية شىء للمامور به او شرطيته اصلا
لاحتمال دخوله فى المسمى كما لا يخفى ، وجواز الرجوع اليه فى ذلك على القول الاعمى
فى غير ما احتمل دخوله فيه مما شك فى جزئيته او شرطيته ، نعم لا بد فى الرجوع اليه
فيما ذكر من كون واردا مورد البيان كما لا بد منه فى الرجوع الى سائر المطلقات ،
وبدونه لا مرجع ايضا الا البراءة او الاشتغال.» انتهى.
ولعلك تقول لا فرق
بين القولين فى عدم جواز الرجوع الى اطلاق المامور به فى نفى مشكوك الشرطية او
الجزئية فان الاعمى انما يقول بالتعميم فى المسمى لا فى المامور به فيجوز عنده
اطلاق اسم الصلاة على الفاسدة ، إلّا ان الامر لا يتعلق عنده الا بالصحيح من
العبادة ضرورة استحالة طلب الشارع عبادة غير وافية بالمصلحة الواقعية ، فاذا فرق
بين بين المامور به وبين المسمى ومن الواضح ان ملاك التمسك بالاطلاق هو اعتبار حال
المامور به ، وهو لا يكون إلّا الصحيح على كلا القولين والصحيح مجمل فيمتنع التمسك
باطلاق المامور به عند الفريقين وبطلت الثمرة المذكورة.
قلنا هذا اشتباه
وخلط بين مرحلتى الاثبات والثبوت ، بيان ذلك وتوضيحه انه لا شك فى توقف الطلب فى
مرحلة الواقع على صحة المطلوب وتماميته فى الوفاء بالمصلحة والفرض وهذا هو مرحلة
الثبوت ، فمطلوبية
الشىء واقعا موقوفة على الصحة واما احراز مطلوبية ذلك الشىء والعلم به فلا يتوقف
على احراز صحته ، بل على انطباق ذلك العنوان الواقع تلو الامر على ذلك الشىء
الخارجى بحسب متفاهم العرف فاذا انطبق عليه كان من ثمراته استكشاف صحة الواقعية ،
فالصحة عند الاعمى ليست عنوانا معتبرا فى مفهوم متعلق الامر حتى يلزم منه الاجمال
والتوقف فى المراد كما هو كذلك عند الصحيحى بل الاعمى يقتفى الموارد التى يصح فيها
اطلاق لفظ الصلاة عرفا ، فان وجد المورد مما يصح فيه اطلاق لفظ الصلاة عليه بنى
على صحته واقعا وإلّا فلا.
وبالجملة الفرق
بينهما ان الصحيحى يتخذ الصحة عنوانا فى المامور به ، والاعمى يتخذه ثمرة لما
ينطبق عليه عنوان المامور به ، والعنوان اذا كان مجملا اقتضى ذلك ، التوقف والحيرة
فى تعيين المامور به. ومن ثم لا يسع الصحيحى التمسك باطلاق المامور به لاجماله
عنده ، بخلاف الاعمى اذ هو قد اتخذ الصلاة بما هى صلاة فى نظر العرف عنوانا وهى
تصدق على كل صلاة لم يفقد منها مقومات التسمية فله التمسك باطلاقها على تلك
الموارد المستتبع ذلك الحكم بصحتها شرعا.
«الكلام فى المعاملات»
هذا كله فيما
يتعلق بالعبادات واما فى المعاملات فنقول : ان مثل قوله تبارك وتعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله (ع) الصلح جائز بين المسلمين يفيد التقرير وامضاء طريقة العرف وليس هو كالعبادات التى
يجهل المراد منها على الصحيحى ، ومنشأ الفرق ان العبادات تكاليف متعلقة بموضوعات
شرعية ، فلا سبيل لنا فى معرفة الموضوع الشرعى إلّا بالرجوع اليه فان بينه فهو ،
وإلّا يلحق بالمجملات ، ولا اطلاق فيها حينئذ كى يتمسك به فى مقام الشك وهذا بخلاف
المعاملات ، فانها من الامضائيات وليس فيها تاسيس تكليف جديد ، بل تقرير لما يرونه
العرف بيعا وصلحا ، فكان تطبيق عنوان المتعلق على الفرد المشكوك اعتبار جزء كذائى
فى صحته معلوما ويقطع بانه بيع عرفا ، وانما الشك فى انه هل للشارع فيه تاسيس من
حيث اعتبار شىء آخر فيه زائدا على ما عند العرف او لا؟ فيتمسك باطلاق اللفظ على
نفيه.
وربما تجعل الثمرة
بين القولين عند بعضهم فى النذر فمن نذر ان يعطى دينارا لمن يصلى ، او ياتى بمسمى
الصلاة فعلى الصحيحى لا تبرأ الذمة إلّا اذا احرز صحة صلاة من يعطيه من المصلين
وهذا بخلاف الاعمى فانه يبر نذره ولو علم بفساد صلاة من يعطيه.
__________________
وانت خبير بما فيه
اذ الثمرة فى المسائل الاصولية لا بد وان يكون مما يستنبط بها الحكم الفرعى الكلى
، او مما يقع فى طريق الاستنباط لا فى مثل النذر الذى هو ليس إلّا مسئلة فرعية
ثابتة بدليل آية ورواية ، على ان كل منذور يجب الوفاء به ، فيكون محصل الثمرة بناء
على ذلك ان الصلاة الخارجية الفاسدة الصادرة من زيد مثلا هل هى مما ينطبق عليها
عنوان الحكم الفرعى الكلى او لا؟ فعلى الصحيحى لا ينطبق فلا يبر النذر باعطائه
الدينار.
وليس هذا إلّا
مسئلة جزئية شخصية فرعية من مصاديق المسألة الفرعية الكلية ، وليس من شان الاصولى
البحث عنها ، فلا يصلح ان تكون ثمرة للمسألة الاصولية ، والله الهادى الى سواء
السبيل.
«فى الاشتراك»
«الامر الحادي عشر»
وقع الكلام بين الاعلام فى امكان الاشتراك ووقوعه او امتناعه او وجوبه والقول
الاول اقرب الى الصواب وادل دليل على عدم امتناعه هو وقوعه وسيجىء ابطال دليل
القائل بالوجوب.
واستدل للقول
بالامتناع بمنافاة الاشتراك للغرض المقصود من الوضع وهو التفهيم اذ مع الاشتراك
يحصل الاجمال فى اللفظ لتردده بين معنيين ، وحينئذ فينتفى الغرض الاصلى الذى هو
التفهيم فيلزم من القول بالاشتراك نقض الغرض وهو محال.
وفيه ان الغرض من
الوضع لا ينحصر فى التفهيم ، فربما يكون الوضع لداعى الاجمال والابهام كما فى
النكرات.
وقد يستدل له بوجه
آخر ، وهو ان يقال : على ما تبين لك شرحه سابقا ، هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى ومن
لوازم الاختصاص
نفى الاغيار قطعا
، فمع حصول الوضع لمعنى خاص يحصل للفظ نحو اختصاص بذلك المعنى لا يتعدى عنه الى
غيره ، وإلّا لما كان وضعا واذا اختص اللفظ بذلك المعنى كيف يجوز وضعه لمعنى آخر ،
فان وضعه للمعنى الآخر ينافى اختصاصه بالمعنى الاول.
وربما يجاب كما فى
الفصول على ما هو ببالى بمنع كون الوضع معناه هو جعل الاختصاص بين اللفظ والمعنى
بل جعل علاقة بينهما ، وهذا المقدار لا ينافى جعل علاقة اخرى بينه وبين معنى آخر.
ويمكن ان يجاب عنه
بعد تسليم كون الوضع بمعنى الاختصاص ، بان الاختصاص المجعول بين لفظ العين
والباصرة ، انما هو فى حال استعماله فيها ، ولا ينافى ذلك جعل اختصاص آخر بين هذا
اللفظ وبين النابعة فى حال استعماله فى المعنى الثانى.
وبالجملة الاختصاص
المجعول بالنسبة الى المعنيين يتعدد بتعدد حالات الاستعمال ، فان استعمل اللفظ فى
الباصرة ، كان ثمة اختصاص بين العين والباصرة ، وان استعمل فى النابعة كان اختصاص
آخر مجعول بين العين والنابعة.
واستدل للقول بالوجوب
بان الالفاظ متناهية والمعانى غير متناهية فلا بد من الاشتراك.
واجيب عنه بان
الغير المتناهى من المعانى الجزئية واما كلياتها فمتناهية ويستغنى بوضع الالفاظ
لها عن وضعها لجزئياتها ومن المعلوم ان مراد القائل بالوجوب الوجوب الغيرى ضرورة
ان الشىء ما لم يجب لم يوجد ، فيرجع النزاع بينه وبين القائل بالامكان لفظيا ، اذ
القائل بالامكان لا يمنع طرو الوجوب بسبب اجتماع تمام اجزاء
__________________
علة الوجود
المستتبع ، لصيرورته حينئذ واجبا وانما هو يمنع الوجوب الذاتى والخصم يوافقه على
ذلك ويقول بالوجوب الغيرى.
«حول استعمال اللفظ
فى اكثر من معنى واحد»
«الثاني عشر فى
استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد والاستقلال ، بان يراد منه
كل واحد كما اذا لم يستعمل الا فيه» وقد اختلفوا فى جواز مثل هذا الاستعمال وعدمه «على
اقوال اظهرها عدم جواز الاستعمال فى الاكثر عقلا».
وليعلم او لا ان
الاستقلال تارة يعتبر بالنسبة الى اللحاظ بان يلحظ كل معنى بحياله ، بلحاظ مستقل
به ، وفى قباله تعلق لحاظ واحد بمتكثرات كاللحظة الواحدة المتعلقة بالنقاط
المتعددة.
واخرى يعتبر
بالنسبة الى ارادة مع قطع النظر عن اللحاظ ، فربما يكون اللحاظ واحدا متعلقا
بالمتكثرات ، إلّا ان كل واحد من تلك المتكثرات مراد بالتفهيم مستقلا وفى قباله ما
لو اريد تفهيم متكثرات بارادة واحدة متعلقة بتلك المتكثرات.
وثالثة يعتبر
بالنسبة الى تعلق الحكم الواقعى بالمتكثرات فيكون كل من تلك المتكثرات محكوما بحكم
مستقل ، وان كانت المتكثرات باجمعها مجتمعة تحت لحاظ واحد نحو قوله «ص» رفع عن
امتى تسعة .
ومورد البحث من
الاستقلال فى الاستعمال هو المعنى الاول اذ لا شبهة فى جواز الاخيرين.
__________________
وربما يتوهم من
كلام صاحب المعالم قده ان محل النزاع هو الاستقلال فى الحكم حيث جعل المدار على ان
يكون كل من المعنيين مناطا للنفى والاثبات ، وهذا هو عبارة اخرى عن اعتبار
الاستقلال فى الحكم الذى هو المعنى الاخير الذى نفينا النزاع منه.
ويدفعه ان المراد
من النفى والاثبات فى كلامه هو الحكم المستفاد من النسبة الكلامية دون الحكم
الواقعى وفرق بينهما ، فان الاستقلال بالحكم الواقعى لا يلزم الاستقلال فى اللحاظ
كما عرفته فى حديث الرفع بخلاف الاستقلال بالحكم المستفاد من ظاهر الكلام وهو
النسبة الكلامية ، فانه يلازم الاستقلال فى اللحاظ وكيف كان فحيث عرفت اعتبار
الاستقلال لحاظا فى محل النزاع ، للاحتراز عن خلاف ذلك من فرض الاتحاد اللحاظى
المتعلق بالمتكثرات ، فاعلم انه قد يتخيل ان ذكر هذا القيد مستدرك فى الكلام اذ
الاستعمال فى اكثر من معنى واحد لا يتصور إلّا ان تعتبر المتكثرات شيئا واحدا من
قبيل المركب فاذا اريد استعمال اللفظ فى متكثرات بوصف التكثر ، فلا بد وان يكون
ذلك على نحو الاستقلال ، فالتعبير باستعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد هو بنفسه
يفيد الاستقلال ، وإلّا فلو لم يكن على نحو الاستقلال بل بنحو وحدة اللحاظ لم يكن
الملحوظ والمستعمل فيه الا معنى واحدا لا اكثر من معنى واحد.
وفيه ان اللحاظ
المتعلق بالمعانى المتعددة كالنقاط لا يعقل اعتباره فى الملحوظ اذ هو بالنسبة الى
ملحوظه كالحكم بالنسبة الى موضوعه يستحيل اعتباره فيه ، وحينئذ فلم يبق فى جانب
الملحوظ الا حيثية التكثر دون الوحدة ، فاذن لا ملازمة بين وحدة اللحاظ ووحدة
__________________
الملحوظ ، فربما
يكون اللحاظ واحدا والملحوظ متكثرا كلحاظ النقاط بلحاظ واحد ، وربما يكونان كلاهما
متحدين ، كلحاظ الواحد المتعلق بالخط المستقيم ، فلا دلالة فى قولهم استعمال اللفظ
فى اكثر من معنى واحد على قيد الاستقلال حتى يكون ذكره فى الكلام مستدركا.
فتخلص مما ذكرنا
ان محل البحث ومورد النزاع هو الاستقلال فى اللحاظ الاستعمالى.
ومنه انقدح وجه
الامتناع على ما هو المختار لاستحالة تعدد اللحاظ فى ان واحد من لاحظ واحد سواء
قلنا ان اللفظ امارة وعلامة للمعنى ، او قلنا هو مرآة للمعنى فان فيه فناء الوجه
فى ذى الوجه والعنوان فى المعنون.
غاية ما فى الباب
ان الامتناع على الثانى من جهتين بخلاف الاول ، اذ الاستحالة فى الاول ليست هى
إلّا من حيث قيام اللحاظين الاستقلاليين بنفس اللاحظ ، وان نشا ذلك من سماع اللفظ
لم يكن معبرا يستطرق منه الى معرفة المعنى ، كما هو كذلك على المرآتية فان المرآة
وسيلة وآلة لمعرفة المعنى فاللحاظان يتوجهان الى اللفظ على المرآتية دون الامارية
، وكما يستحيل قيامها على نحو الاستقلال بنفس اللاحظ ، كذلك يستحيل توجههما على
ذلك النحو الى اللفظ الواحد فالاستحالة على المراتبة من وجهين ، وفى الامارية من
وجه واحد كما لا يخفى.
ومن هذا يظهر لك
ما فى كلام الماتن فى هذا المقام ، حيث قال : «ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل
اللفظ علامة لارادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له.» الى آخر ما افاده لظهوره
فى تسليم الجواز ، بناء على ان الاستعمال جعل اللفظ علامة ، وقد عرفت بما لا مزيد
عليه عدم الفرق فى الامتناع بين كلتا الصورتين ، وان كان الامتناع على المرآتية من
وجهين.
فان قلت : استعمال
اللفظ فى اكثر من معنى واحد من قبيل استعمال العام الذى تعلق الحكم فيه بكل فرد من
افراده ، فكما جاز فى العام تعلق الحكم بكل واحد من افراده على نحو الاستقلال
فكذلك اللحاظ الاستعمالى ، يجوز تعلقه بكل واحد من المعانى على نحو الاستقلال ،
فلو كان هذا محالا ، لكان ذلك محالا ، والتالى باطل فالمقدم مثله لوقوعه كثيرا ،
وكذا الحال فى الوضع العام والموضوع له الخاص قد تعلق الوضع بكل واحد من افراد
المعنى العام حتى صار كل واحد منها مستقلا فى وضعه لا يشترك فيه المعنى الآخر.
قلت : انما نشا
المحال من تعدد اللحاظ ، والاستغراق الحكمى لم يتعدد لحاظه بل حكمه ، اذ ليس فيه
إلّا لحاظ متعلق بصورة اجمالية بسيطة ذات افراد عديدة اعتبرت فى التصور وسيلة الى
تعلق الحكم بافرادها ، وليست الافراد ملحوظة بنفسها وإلّا فربما تكون الافراد غير
متناهية ، فلو كان كل فرد ملحوظا بحياله مستقلا لكان للاحظ لحاظات غير متناهية ،
وهو محال قطعا.
وكذلك الحال فى
الوضع العام والموضوع له الخاص ، ليس الملحوظ الا صورة اجمالية اعتبرت مرآة الى
معرفة حال الافراد على سبيل الاجمال ، واين هذا من محل الكلام الذى فرض فيه
استعمال واحد فى اكثر من معنى واحد ، على نحو الاستقلال الذى يرجع حاصله الى
لحاظات متعددة متعلقة بملحوظات عديدة فى ان واحد ، وهذا مما تشهد الوجدان
باستحالته.
وسر الفرق ان مقوم
الاستعمال هو اللحاظ فالاستعمال فى اكثر من معنى واحد على نحو الاستقلال لا ينفك
عن تعدد اللحاظ ، وهذا بخلاف الحكم على العام الاستغراقى والوضع ، فان اللحاظ ليس
من مقوماتهما ، بل يتوقفان عليه ، اذ ما لم يلحظ الشىء او لا لا يحكم عليه
ولا يوضع له ،
فاذا قيل : اكرم كل عالم ، منشأ لوجوبات عديدة متعلقة بافراد العالم على سبيل
الاستغراق ، لا بد وان يكون ذلك ملحوظا فى مقام الاستعمال ، ولكنه لا يلزم ان يكون
بلحاظات متعددة بل يكتفى باللحاظ الواحد المتعلق ، بتلك الصورة الاجمالية ، ويكون
توزيع الوجوبات على الافراد بدال آخر ، وهو أداة الاستغراق من لفظة كل ونحوها ،
وكذلك الحال فى الوضع ، هذا كله اذا كان الاستعمال فى المعنيين ، او المعانى بلحاظات
استقلالية.
«فى استعمال المشترك
فى معانيه بلحاظ واحد»
واما اذا كان
بلحاظ واحد فهو بمكان من الامكان ، إلّا ان الشأن فى وقوعه حقيقة او مجازا وعدم
وقوعه ، ولعل نظر المعالم والقوانين فى مقام الاستدلال وبيان المختار الى هذا المعنى وان كان
صدر عبارتهما فى تحرير محل النزاع يابى عن ذلك.
وكيف كان فلننقل
الكلام الى الاستعمال الواحد باللحاظ الواحد المتعلق باكثر من معنى واحد فنقول :
وبالله نستعين فانه خير معين.
ذهب صاحب المعالم
الى جواز ذلك على سبيل المجاز فى المفرد والحقيقة فى التثنية والجمع ، واختار صاحب
القوانين المنع فى الجميع مطلقا.
واستدل صاحب
المعالم على مختاره فى المفرد بانسباق الواحدة فى المفرد فهى معتبرة فيه جزءا ،
وعند استعماله فى اكثر من معنى واحد تنسلخ الوحدة عن المعنى ، فيكون استعمال اللفظ
فيه من قبيل
__________________
استعمال اللفظ
الموضوع للكل فى الجزء ، وهو مجاز وعلى مختاره فى التثنية والجمع بانها فى قوة
تكرار المفرد ولا ريب ان اللفظ المفرد اذا تكرر واستعمل فى معان فكل لفظ يكون
حقيقة فى ذلك المعنى المستعمل فيه ، فكذلك ما هو فى قوته وبمنزلته.
اقول : الوحدة
التى اعتبرها فى المعنى ، ان أراد بها الوحدة الذاتية القائمة فى كل شىء ، فذلك لا
ينافى استعمال اللفظ فى كلا معنييه وان كان كل واحد منها واحدا فى ذاته ، وان اراد
بها الوحدة الوجودية المانعة من ضم وجود شىء آخر معه ، فهذا لا يلتزم به من هو
ادنى منه فضلا عنه قده اذ ضم وجود الى وجود آخر مما لم يقم على امتناعه دليل عقلى
ولا عرفى ، وان اراد بها الوحدة الاستعمالية اى يكون المعنى منفردا فى تعلق
الاستعمال به لا منضما مع غيره ، قلنا هذا صحيح إلّا انه لا يكون الوحدة بهذا
المعنى ماخوذة فى معنى اللفظ المفرد ، لاستحالة اعتبار ما يتاتى من قبل الاستعمال
فى مفهوم المستعمل فيه كما مر منا غير مرة ، فان الاستعمال والقيود المتصيدة منه
متاخرة طبعا عن المعنى المستعمل فيه ، فكيف تعتبر فيه وهو مقدم عليها طبعا ، واذ
لم يكن مثل هذا الوحدة معتبرة فى المعنى فلا يكون خلوه عنها موجبا للتجوز فى اللفظ
هذا ما يتعلق بالمفرد.
واما التثنية
والجمع فان لحقا اسماء الاجناس كرجلين مثلا كانت دلالة رجل على الجنس نفسه
والعلامة الملحقة به دالة على تعدد فرديه بنحو دخول التقيد وخروج القيد وليس هذا
من استعمال اللفظ فى معنيين وان لحق الاعلام فربما ارتكب فيها التاويل بالمسمى
وبناء عليه تكون بمنزلة اسماء الاجناس ، إلّا ان هذا مع تعسفه فى نفسه ربما يمتنع
ارتكابه فى المعارف المتوغلة فى التعريف كما فى اسماء الاشارة ، ومن ثم التجأ بعض
الفحول «صاحب الفصول» فى
مثل ذلك الى القول
بوضع على حدة للمثنى بنفسه من دون رجوعه الى وضع للعلامة وملحوقها.
وهو بعيد جدا
والتحقيق ان يقال : ان من شان المرآة سراية صفاتها الى المرئى كما ان صفات المرئى
تسرى الى المرآة بسبب مزيد الاتحاد المتحقق فيما بينهما ، واللفظ لما كان متحد
الصورة فى كلا معنييه سرت وحدته الى المعنيين كما سرى تعدد المعنى الى اللفظ
فاعتبرت الوحدة من جهة والتعدد من جهة اخرى فصار اللفظ بمنزلة رجل معنى ، يحتوى
على فردين ، فصح من اجل ذلك لحوق العلامة له لبيان حال هذا التعدد ، كما فى رجلين
فلم يكن الاعلام فى حال التثنية الا كاسم الجنس ، يراد به فردان من معنى واحد من
باب تعدد الدال والمدلول ، لا من باب استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد هذا ما
يتعلق بكلام صاحب المعالم.
واما صاحب
القوانين فحجته ان الوضع توقيفى لا يجوز التخطى عنه بغير رخصة من الواضع ، وقد وضع
اللفظ فى حال الوحدة فلا يجوز استعماله فى غير ذلك الحال.
وهذه بظاهره مخدوش
فيه اذ الحالات التى يقع الوضع عليها لم يجب مراعاتها ، كيف وإلّا لزم اختصاص
اللفظ بالمعنى الذى كان عليه من الصفات والحالات ضحكا وقياما وقعودا وغير ذلك فلا
يصح استعمال زيد مثلا فيه الا بالحالة التى كان عليها حين الوضع من هذه الصفات ،
وهذا مما لا ريب فى بطلانه.
ويمكن ان يكون
نظره قده الى ان الوضع لما كان جعل علاقة بين اللفظ والمعنى بنحو يكون اللفظ جهة
مرآتية للمعنى ، والذى
__________________
تحصل من الواضع ان
اللفظ تمام مرآة للمعنى ، وهذا لا يكون إلّا فى حال انفراده عن غيره بلا ضم ضميمة
اليه ، وإلّا فلو ضم المعنى الى غيره فى حال الاستعمال لم يكن اللفظ تمام مرآة له
، وان كان المعنى بتمامه مرئيا مع الغير وليس هذا من مجعولات الواضع.
وهذه الدعوى ان
تمت فكلامه قده فى غاية المتانة ، ولا يرد عليه شىء اصلا ، إلّا ان الشأن فى
تماميتها ودون اثباتها خرط القتاد ، اللهم إلّا ان يقال ان الاستقلال فى المرآتية
ان لم يثبت اعتباره من الواضع ، فخلافه غير ثابت لعدم الدليل ويكفينا الشك فى
الاقتصار على ما يتيقن رخصة فيه من استعماله فى المعنى منفردا.
«وهم ودفع» قد ورد
فى الاخبار بان للقرآن بطونا سبعة او سبعين
وربما يتوهم من
ذلك ان هذا من استعمال اللفظ الواحد فى اكثر من معنى واحد.
ويدفعه ان
المستحيل من الاستعمال فى اكثر من معنى واحد ما كان بلحاظات متعددة ولم يحرز فى
الاستعمال القرآني كونه من هذا القبيل ، ويحتمل ان يكون المستعمل واحدا من المعانى
والبقية من لوازم المعنى لا مما استعمل فيه اللفظ.
__________________
«حول المشتق»
«الامر الثالث عشر
انه اختلفوا فى ان المشتق حقيقة فى خصوص ما تلبس بالمبدإ فى الحال او فيما يعمه
وما انقضى عنه على اقوال.»
وينبغى النظر او
لا فى تحرير محل النزاع وتعيين ما هو المراد من حال التلبس ، فانه بظاهره لا تخلوا
من اشكال ، فان حال التلبس يراد به حال تلبس الذات بالضرب ، واذا وصف به زيد كان
ذلك حال الجرى والتطبيق واذا تعلق به حكم كالاكرام فقيل : اكرم زيد الضارب كان ذلك
حال النسبة الحكمية ولا اشكال فى خروج النسبة الحكمية عن مدلول المشتق اذ المشتق
طرف هذه النسبة ، فكيف تكون حال النسبة الحكمية معتبرة فى موضوعها ومتعلقها وكذلك
الحال فى نسبة التطبيق والجرى فانهما نسبة ناشية من التوصيف اللاحق لزيد فى زيد
الضارب ومن المعلوم ان التوصيف كالحكم خارج عن مدلول طرفيه ، فلم يبق الا اعتبار
حال التلبس وهذا لا يصلح ان يراد به التلبس الخارجى اذ الالفاظ على ما هو التحقيق
ليست موضوعة للذوات الخارجية الموجودة فى الخارج ، لما نجده من صحة توصيف زيد
الموجود والمعدوم ، وهذا لا يتصور فرضه فى الموجود الخارجى لما فيه من التناقض بل
الالفاظ الموضوعة للتصور الذهنية الحاكية عما فى الخارج واذا كان هذا معنى الالفاظ
، فضارب لا يراد به الا الصورة الذهنية المتصورة فى العقل المؤتلفة من ذات متصفة
بالمبدإ ، وهذا ينوط بالتصور ، فان تصورت الذات متصفة بالمبدإ تحقق عنوان الضارب ،
وإلّا فلا ، وحينئذ فلا معنى للنزاع فى حال التلبس
او الاعم منه ومن
المضى ، بعد فرض التسالم على المجازية فى الاستقبال ، لظهور ان عالم التصور
والتعقل ليس ذوى هذه الاعتبارات المبتنية على الازمنة الثلاثة ، بل ان تصور
المفهوم بكونه ذاتا متلبسة بالمبدإ تحقق عنوان المشتق ، وإلّا فلا ، هذا محصل
الاشكال الذى يمكن ايراده على نزاع القوم فى هذا المبحث.
وحله ان المشتق
لما كان بمفهومه حاكيا عن ذات خارجية موصوفة بالمبدإ والذات الخارجية المحكية تقبل
الاتصاف بالمبدإ باعتبار الازمنة الثلاث ، فمآل نزاع القوم الى ان المشتق الحاكى
عما فى الخارج ، هل ينحصر حكايته فيمن اتصف بالمبدإ فى حال التلبس ، او يعمه وما
بعد انقضائه خاصة دون زمان الاستقبال فانه فيه مجاز بالاتفاق؟
والحاصل لفظ قائم
دال على مفهوم حاك عمن هو متصف بالقيام فى زمان من احد الازمنة فيتوسل بهذا
المفهوم الى تعرف حال المصداق ، فالقائل باعتبار حال التلبس يعتبر المصداق خصوص
الذات المقرونة بالمبدإ المتلبسة به حال تلبسها بلا اختصاص فى ذلك بمن يتلبس فى
خصوص زمان من الازمنة ، فيجوز عنده استعمال قائم حقيقة فى زيد القائم بالامس اذا
نسب القيام اليه باعتبار الامس ، وهكذا اذا استعمل فى زيد القائم فى الغد أو فى
الحال.
وهذا بخلاف القائل
بالاعم فانه يجوز عنده استعمال القائم حقيقة فى زيد الذى قام بالامس ولو باعتبار
حاله بعد الامس ، فيكون تلبسه بالقيام فى الزمان الماضى هو المصحح لحقيقة
الاستعمال باعتبار كلتا حالتى التلبس وما بعده.
واذا عرفت الحال
فى محل النزاع فربما يشكل الامر فيما ذكروه من ثمرة النزاع التى هى كراهية البول
تحت الشجرة المثمرة اذ على
كلا القوالين يمكن
الالتزام بكراهة البول تحت الشجرة الخالية عن الثمرة بعد ان كانت ذات ثمر اذ على
القول باعتبار حال التلبس يصح استعمال المثمرة بعد مضى الاثمار من الشجرة باعتبار
حال اثمارها ، فيكره البول تحت الشجرة التى كانت مثمرة فى السابق ، وان لم تكن
مثمرة فعلا ، وعلى القول الآخر فالامر اوضح من ان يخفى ، وعلى هذا فلا ثمرة فى هذا
النزاع اصلا.
ويمكن التفصى عن
هذه الشبهة وهذا الاشكال بان ظاهر الجملة والهيئة التركيبية يدل على اتحاد زمان
النسبة الحكمية مع زمان الجرى والاتصاف ، وبهذا تظهر الثمرة بين القولين ، فان
زمان الحكم بكراهة البول هو حين البول فمع لزوم مراعاة الاتحاد بين زمان الهيئة
التركيبية وزمان التوصيف بالاثمار تنحصر الكراهة فى حين اثمارها عند معتبر حال
التلبس ، بخلافه عند الاعمى فانها غير منحصرة فى ذلك ، لسعة زمان التوصيف عنده
فتجرى الكراهة حين اثمارها وبعده هذا.
وقبل الخوض فى
تحقيق المسألة ينبغى تمهيد امور.
«حول جريان النزاع فى
الجوامد»
منها ان المذكور
فى عباراتهم تحرير البحث والنزاع فى المشتق وهذا بظاهره يقتضى الاختصاص وعدم جريان
النزاع فى غيره من الجوامد ، مع ان المستفاد من كلام المسالك جريانه فى كل ما كان
مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات ، سواء كانت
عرضا كما فى المحمول بالضميمة نحو قائم وضارب وغير ذلك ، او عرضيا كما فى خارجات
المحمول نحو الزوجية
والرقية والحرية
وغيرها من الاعتبارات والاضافات ، وان كان جامدا وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا
عن مقام الذات والذاتيات كالانسان فانه لا نزاع فى كونه حقيقة فى خصوص ما اذا كانت
الذات باقية بذاتياتها ـ
ونقل التعميم ايضا
عن ظاهر العلامة وابن ادريس قدسسرهما فى مسئلة من كانت له زوجتان كبيرتان ارتضعتا زوجته الصغيرة
قال : فى المحكى عن الايضاح «ما هذا لفظه تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول
باحدى الكبيرتين واما المرضعة الآخرة ففى تحريمها خلاف فاختار والدي المصنف وابن
ادريس قدهما تحريمها لان هذه يصدق عليها ام زوجته لانه لا يشترط فى المشتق بقاء
المشتق منه» انتهى.
«تنبيه» قد سمعت
من العلامة وابن ادريس الفتوى بالحرمة فى المرضعة الثانية وهو مخالف للمنصوص عليه
فى رواية على بن مهزيار عن ابى جعفر «ع» قال : قيل له : ان رجلا تزوج بجارية صغيرة
فارضعتها امرأته ، ثم ارضعتها امرأة له اخرى ، فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية
وامرأتاه. فقال ابو جعفر «ع» : أخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامراته التى
ارضعتها اولا فاما الاخيرة فلم تحرم عليه كانها ارضعت ابنته.
فان المستفاد منها
ان المدار فى الحرمة ليس على تحقق عنوان ام من كانت زوجة ، كما هو كذلك فى المرضعة
الثانية ، بل على من
__________________
كانت ام زوجة كما
هو كذلك فى المرضعة الاولى. فان هذا العنوان الثانى حيثما تحقق تحرم الزوجة وامها
، ولا يشترط فى حرمة ام الزوجة حيوة الزوجة بل تحرم بعد مماتها ايضا.
ولا اظن عدم وقوف
العلامة قده على هذه الرواية ولعله لم يعمل بها لضعف سندها بصالح ابن ابى حماد ولا
يبعد العمل بها لموافقتها للاصل.
واما ابن ادريس
فلان بنائه على عدم حجية اخبار الآحاد.
ويحتمل ان يكون
نظر العلامة قده الى اشكال يرد على ظاهر الرواية ، فلم يثق بصدورها من الامام «ع»
وهو ان مقتضى قصر الحلية فيها على المرضعة الثانية هو المفروغية عن حرمة الاولى ،
وهو كذلك فانه من المتسالم عليه بين الاصحاب ولم يعثر على مخالف فى ذلك ولا وجه له
الا التعبد وإلّا فلا يكاد ينطبق الحكم بحرمة الاولى على القواعد ، اذ هى ليست ام
الزوجة ، ولم يتحقق فيها هذا العنوان اصلا فانها قبل استكمال الرضا لم تتعنون
بالامومة ، وبعده خرجت الزوجة من الزوجية بل خروجها عنها فى رتبة اتصافها بالامية
لانهما معلولان للرضاع ، فليس لاحدهما تقدم على الآخر فحينئذ لا منشأ للحكم
بحرمتها الا ما عنى من ظاهر الاجماع والمفروغية عنه فتوى ونصوصا ، حتى هذا النص
الذى وقع فى رواية المتقدمة.
إلّا ان لسان
الرواية ان الحكم بتحريمها على القاعدة ، بناء على ان التعليل فى الثانية يدل على
ان حرمة الاولى لكونها ام زوجة وليس كذلك.
والحاصل ان مصب
الرواية على ذكر الوجه فى الحكم بتحريم المرضعة الاولى وحلية الثانية ، فذكرت وجه
الحكم الثانى ويستفاد منها بالفحوى وجه الحكم الاولى ، فهى ناطقة بصريحها ان حلية
الثانية لانها لم
تتعنون بعنوان من العناوين المحرمة ، ودالة بفحواها على ان حرمة الاولى لانها ام
زوجة.
ومن هنا ينقدح
الاشكال فيها بان الاولى كيف تكون ام زوجة ، مع ما عرفت من كون الامومة والخروج عن
الزوجية فى رتبة واحدة؟
اللهم إلّا ان
يمنع دلالتها على ان الحكم بالتحريم فى المرضعة الاولى على وفق القواعد ، وليس
فيها تعرض لوجه الحكم بالحرمة فيها اصلا ، وانما هى واردة فى رد ابن شبرمة فى حكمه
بتحريمه الثانية كما يؤيده قصر التعليل عليها.
«حول جريان النزاع فى
اسم الزمان»
ومنها ان المعتبر
فى صدق المشتق على شىء بقاء الذات لا تصرمها ، كضارب اذا يطلق على زيد فان ذات زيد
محفوظة وباقية ، سواء كان قد مضى عنها الضرب او كان هو بالفعل متلبسا به ، فالنزاع
الجارى فى المشتق انما يجرى فيه ، فيما اذا كان الانقضاء وعدمه لاحقين للمبدا لا
الذات المتلبسة به ، وحينئذ فيشكل الامر فى اسماء الزمان نحو مقتل الحسين روحى
وارواح العالمين له الفداء فقد جرى النزاع فيه ، مع ان المنقضى منه ليس خصوص القتل
بل زمانه ايضا ، فاطلاق مقتله عليهالسلام على يوم العاشر من المحرم مقصور على زمان قتل فيه الحسين
روحى لتراب مرقده الفداء لا على سائر الايام فيما بعد ذلك الزمان ، فانه مجاز حتى
عند الاعمى القائل بحقيقة المشتق فى الاعم من الحال وما انقضى عنه المبدأ ، اذ هو
انما يقول بالتعميم فى المنقضى عنه المتلبس به فى الحال اذا كانت الذات باقية غير
متصرمة لا مثل الزمان الغير القار الذات ، فاطلاق المقتل على
عاشر المحرم بعد
المقتل الحقيقى لا يكون إلّا مجازا عند الفريقين ، فكيف يدخل فى محل النزاع؟
فينبغى استثنائه عنه ، مع ان نزاع القول وتحرير محل الخلاف فيما بينهم غير آب عن
شموله.
«ويمكن حل الاشكال
بان انحصار مفهوم عام بفرد كما فى المقام لا يوجب ان يكون وضع اللفظ بازاء الفرد
دون العام ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع ان الواجب موضوع
للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى.»
وهذا الجواب منه
قده مبنى على تسليم انقضاء الذات فى اسماء الزمان ، فهى فى عالم الخارج والمصداقية
على حسب ما رامه المستشكل ، إلّا ان النزاع فيما بينهم جار فى المفهوم وهو فى حد
نفسه عام لا اختصاص له بلفظ دون لفظ.
ويمكن الجواب
ثانيا بمنع تسليم الانقضاء عرفا ، فان العرف يرى يوم العاشر من المحرم بعينه
الزمان المقتول فيه الحسين روحى له الفداء ، غير انه فى انظارهم زمان واحد ممتد
باق وقع القتل فى قطعة منه وبقى الاطلاق عليه باعتبار ذلك القتل الواقع فى مبدإ
ذلك الزمان ، ولا شك ان العرف محكم فى باب الالفاظ كما فى باب الاستصحاب ، فقد جرى
نظير هذا الاشكال فيه ، وتعلقوا ، فى الجواب بالمسامحة العرفية ايضا ، حيث انهم
بعد تسالمهم على جريان الاستصحاب فى الزمان والزمانيات ، استشكلوا بان الاستصحاب
يفتقر الى بقاء الموضوع ، والزمان منقض بنفسه غير صالح للبقاء فالتجئوا بالتشبث
بان العرف لما كان يرى الزمان واحدا نحو ما يرى الليل بتمامه واحدا والنهار كذلك ،
صح استصحاب الليل والنهار هذا.
__________________
وقد يقال بالفرق
بين المقام وباب الاستصحاب ، فان الاستصحاب هو بنفسه حكم شرعى ذو موضوع ، وموضوعه
امر عرفى فيلتمس فيه مذاق العرف ، ويتبين به تحديد دائرة موضوعه سعة وضيقا ، واما
المقام فليس الاشكال فيه من حيث الترديد والشك فى معنى لفظ حتى يرجع فيه الى ما هو
المتبادر عند اهل العرف ، ولا هو من قبيل الاستصحاب الذى هو حكم شرعى موكول تعيين
موضوعه الى العرف حتى يلتمس موضوعه من فهم العرف وانظارهم ، بل هو لفظ مبين
المفهوم ، بل والمصداق ايضا ، سوى ان العرف يتوسعون فى تطبيق المفهوم على ازيد من
المصداق الحقيقى فيطلقون المقتل على سائر الازمة المتلاحقة المتشابهة صورة ليوم
القتل الحقيقى ، ولا عبرة بمثل هذه المسامحة الجارية فى التطبيقات ، فان هذا نظير
ما لو تسامحوا فصاروا يطلقون على ما ليس باحمر اسم الاحمر ، فانه لا يجب اتباعهم
فى ذلك ، ويكون هذا من باب الاشتباه فى التطبيق لا من باب تعيين المسمى والمفهوم ،
حتى يكونوا هم المحكم فيه.
ومن ثم ترى
المشهور فى الفقه بعد ان بنوا على ان الفقاع هو الماء المتخذ من الشعير اقتصروا فى
الحرمة على خصوص ذلك الماء وما تعدوا الى كل ما يسمى فقاعا فى العرف ولو لم يكن
كذلك خلافا لما ذهب اليه شهيد الثانى فى الروضة حيث اخذ بالتعميم وبجريان حكم
الفقاع على كل ما يسمى فقاعا عرفا مع حصول خاصيته او اشتباه حاله .
ويمكن الجواب
ثالثا بما قرره الماتن قده فى باب الاستصحاب للتفصى عن جريانه فى الامور التدريجية
الغير القارة ، قائلا ثمة ان
__________________
الانصرام والتدرج
فى الوجود ، فى الحركة ، فى الاين ، وغيره ، انما هو فى الحركة القطعية ، وهى كون
الاول فى حد او مكان آخر فى الآن الثانى ، لا التوسطية وهى كونه بين المبدإ
والمنتهى فانه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا.
ونقول بمثله هنا
فنعتبر الزمان بالحركة التوسطية ليكون من الامور القارة المستمرة.
«فى وضع المشتقات»
ومنها ان المشتق
كغيره من سائر الجوامد لا بد وان يشتمل على مادة وهيئة ويفترقان فى ان وضع
المشتقات نوعى ، وان وضع الجوامد شخصى ، وهل يستقل كل من المادة والهيئة فى
المشتقات بوضع او ان للجموع منهما وضع واحد نوعى؟ فيه تردد.
والمراد من الوضع
النوعى ذكر الضابطة فى الوضع على وجه لا يختص بلفظ دون لفظ ، كان يقول الواضع فى
ضرب ان هذه المادة من صيغة ضرب موضوعة للحدث الخاص المولم فى ضمن اى هيئة كانت
وتحققت من المواد الموضوعة دون المهملة نحو نصر واكل وقتل وغير ذلك من المصادر
المشاكلة لهيئة الضرب فى الصورة. فعلى هذا يكون الوضع فى كل منهما نوعيا ويستقل كل
منهما بوضع.
واما اذا اريد
الوضع نوعيا للمجموع بوضع واحد ، فيضع الواضع اولا المصادر شخصيا كل لمعناه المختص
به من الضرب والنصر وغير ذلك ، ثم يذكر بعد ذلك قانونا كليا على انى قد وضعت كل ما
كان على زنة فاعل الى مجموع ما تشمل عليه الكلمة من المادة والهيئة ، لا الى
الهيئة خاصة ، فيكون المجموع فى كل ما صيغ على هيئة فاعل
من نحو ضارب وناصر
الخ موضوعا للذات المتلبسة بالضرب والنصر وهكذا وهذا بخلاف الجوامد كالانسان
والبقر والحمار ، فانها مستقلة بوضع شخصى يختص به كل واحد منها تفصيلا.
ثم ليعلم ان مادة
المشتقات وما تشتق منه لا بد وان يكون فى عالم التعبير والنطق فى ضمن هيئة من
الهيئات ويستحيل خلوها عنها ، حتى لو عبرت عنها بالحروف المفردة نحو ضاد ، وراء ،
وباء كانت هذه الحروف مقرونة مع هيئة خاصة تغاير الهيئة فى ضارب ومضروب وغيرهما من
سائر المشتقات فهى بحسب الصورة اللفظية ، تعد متبايية ، لا يجمعها جامع لفظى يحتوى
على ما يشمل الهيئات اللفظية المختلفة ، وهكذا معناها المتصيد منها فى ضمن الهيئات
يختلف بحسب اللحاظ والاعتبارات فاذا لوحظ معرى عن تمام النسب والاضافات ، كان ذلك
معنى اسم المصدر كالغسل بالضم وبعده السكون ، وان لوحظ مقرونا بنسبة الى فاعل ما ،
كان ذلك معنى المصدر كالغسل بالفتح ويستحيل اعتبار الجامع فى عالم التصور بين هذين
الاعتبارين الواجد والفاقد فكانت المادة على هذا كالكلى الطبيعى فى عالم الوجود
الخارجى والذهنى مندكة فى ضمن الهيئات اللفظية والصور الذهنية ، سوى ان الكلى
الطبيعى يمكن تعقله مستقلا ومنحازا عن افراده ، والمادة يستحيل فيها ذلك ، وكان
اقرب المعانى الى المادة اسم المصدر لتعريته عن جميع الحيثيات والاضافات ، حتى
حيثية الانتساب السلبى ، فانه ليس التجرد المعتبر فيه بمعنى سلب معناه عن جميع
الاضافات والنسب حتى يتخيل فيه انه يتضمن النسبة السلبية ، بل هو فى الحقيقة لم
يعتبر فيه شىء وان لزم من ذلك السلب إلّا انه عدم اعتبار شىء لا انه اعتبار العدم
حتى يكون قد تضمن النسبة السلبية ، والحاكم بذلك الذوق السليم والتبادر فان المنسبق
الى الذهن من
كلمة الغسل بالضم
ما يعبر عنه بالفارسية «شست وسو» وهذا هو المعنى المعرى عن تمام الحيثيات
والاضافات.
ثم ان اسم المصدر
بعد ان كان متلبسا بهيئة خاصة كما فى الغسل بالضم ، فربما يتوهم من ذلك ان استفادة
التجرد عن معناه ناش عن هيئة وليس كذلك اذا التجرد معنى قائم باسم المصدر الخاصة ،
ومدلول الهيئة لا بد وان يكون من سنخ المعانى الحرفية قائما بالطرفين لا طرف واحد
كما هو كذلك فى اسم المصدر.
ودعوى ان التجرد
ينحل الى سلب شىء عن شىء ، فيكون نسبة سلبية قائمة بالطرفين ، قد عرفت انها دعوى
على خلاف ما هو المتبادر من اسم المصدر ، نعم المصدر وسائر المشتقات قد وضعت
هيئاتها للنسبة والاضافة ، اما المصدر فقد عرفت ان مدلوله المعنى الحدثى المنتسب
الى فاعل ما ، وبقية المشتقات مختلفة بحسب المدلول ، فان اشتملت على مدلول المصدر
مع زيادة اضافة الى سبق او لحوق او زيادة طلب لفعل شىء او تركه ، كانت هى الافعال
ماضيا ومضارعا وامرا ونهيا وان كانت مشتملة على معنى حدثى مع انتسابه الى مكان ،
او زمان ، او آلة ، كانت اسماء زمان ومكان ، وآلة ، وعلى هذا المنوال بقية
المشتقات فانها تحتوى على معنى حدثى وزيادة.
ومن ثم كانت
المشتقات فى اصطلاحهم ماخوذة من اسم المصدر ، وربما يتفق فى بعضها ترتب لفظى فيما
بينها كما ترى ذلك فى المضارع فانه لا يتشكل إلّا مع زيادة على صيغة ماضيه بواحد
من حروف المضارعة فكان فرعا عليه ، وبهذا الوجه صح اطلاق اشتقاقه منه.
وقد يتفق الترتب
المعنوى فيما بينها كما ترى ذلك فى اسم الفاعل فانه بحسب المعنى مرتب على الفعل ،
اذ هو متضمن للنسبة الوقوعية والفعل يتضمن النسبة الإيقاعية ، والوقوع متاخر طبعا
عن الايقاع ،
وبذلك صح القول باشتقاق اسم الفاعل من الفعل.
وبالجملة مثل هذه
الوجوه الاعتبارية صار منشأ للذهاب الى الاشتقاق وتفرع المشتقات بعضها على بعض ،
وإلّا فلو لم يعتبر مثل هذه المسامحة امكن المناقشة فى الاشتقاق ، بان الصيغ
بصورتها اللفظية متباينة لم يؤخذ بعضها فى بعض كما ان صورتها المعنوية كذلك.
«فى عدم دلالة الفعل
على الزمان»
ومنها ان المشهور
فى كلمات النحاة دلالة الفعل على الزمان ، وظاهر كلام بعضهم ان دلالته عليه
بالتضمن كما قال ابن مالك : المصدر اسم ما سوى الزمان ، من مدلولى الفعل كامن من
امن .
وقد يقال ان
دلالته عليه بالالتزام باعتبار دلالته على نسبة المادة الحديثة الى فاعل ما ، بنحو
التقييد بالزمان على نحو يكون القيد خارجا والتقيد داخلا ، وقد يمنع دلالته عليه
باحدى من الدلالات الثلث كما يميل اليه كلام متاخرى المتاخرين من الاصوليين ،
والسر فى ذلك يبتنى على تمهيد مقدمة.
هى ان دلالة
المفردات على معانيها دلالة تصورية كما اشرنا اليه آنفا فى مطاوى المباحث السالفة
، ومثله فى ذلك المركبات الناقصة واما المركبات التامة ، فانها تدل على معاينها
الذى هو انتساب شىء الى شىء آخر بعد الفراغ عن وجود الطرفين وتحققهما فى عالم
الخارج ، وبهذا تفترق المفردات والمركبات التقييدية عن
__________________
المركبات التامة ،
ألا ترى انك اذا قلت زيد وغلام زيد فلا تتعقل منهما الا المعنى بلا ملاحظة الوجود
والعدم ، وهذا بخلاف زيد قائم فانه ينتقل من الهيئة التركيبية الى وجود زيد وقيامه
فى عالم الخارج علاوة عن انتساب القيام اليه.
لا يقال : فى قضية
زيد معدوم كيف يسوغ لك الحكم بدلالة الهيئة على وجود زيد مع ان مصب القضية على نفى
وجوده.
لانه يقال : هذا
من قرينة المحمول فانه بمادته اقتضى نفى الدلالة ، وإلّا فلو خليت القضية ونفسها
لكانت دالة على وجود موضوعها فى عالم الخارج ، فلا ينبغى الشك والتشكيك فى مثل هذه
الدلالة فى الجمل الاسمية ، وهكذا الحال على هذا المنوال فى الجمل الفعلية ، بل فى
ضرب نفسها ، ويضرب بنفسها ينتقل الى تحقق ضرب فى عالم الوجود الخارجى كائنا او
يكون.
وهذه العلاوة فى
معانى المركبات التامة والافعال من دلالتها على الوجود ، هى الباعثة الى توهم
اعتبار الزمان فى مفاهيم الافعال ، حيث ان الوجود لما يلزمه الكينونة فى زمان ،
يخيلوا ان ذلك من مداليل الكلمة ، انه مستفاد من حاق اللفظ ، وهو توهم فاسد كما لا
يخفى.
وإلّا لاقتضى ذلك
اعتبار الزمان فى مداليل الجمل الاسمية ايضا ، مع انهم لم يلتزموا به.
والحاصل ان
الدلالة المعتبرة فى الالفاظ ما كانت واحدة من ثلث ، وليس للفعل دلالة على الزمان
بشىء منها ، اما المطابقة فظاهر ، واما التضمن فلان المستفاد من الفعل ليس هو
الحدث والزمان لكى يكون دلالته عليه بالتضمن ، بل الحدث المنسوب الى فاعل ما ،
بنحو السبق فى الماضى واللحوق فى المضارع واما الالتزام فلان المعتبر
فى الدلالة
الالتزامية اللزوم الذهنى ، بمعنى الانتقال من المسمى الى اللازم وليس فى الفعل
مثل هذا اللزوم ، وانما اللزوم فيه على تقدير تسليمه هو اللزوم الخارجى ، لظهور ان
كل زمانى يوجد فى الخارج لا بد وان يكون فى احد الازمنة الثلاثة من غير اختصاص فيه
بالفعل ، بل يشترك معه فى هذا المعنى جميع الجمل اسمية وفعلية ، وليس هذا مناط
الدلالة الالتزامية.
وربما يستانس لذلك
من خروج الزمان عن مدلول الفعل بما نجده فى الافعال المنسوبة الى المجردات ونفس
الزمان ، مثل كان الله ولم يكن معه شيء ومثل قول الشاعر : مضى الزمان وقلبى يقول انك آت فان هذه
مما لا ريب فى انسلاخها عن معنى الزمان.
ويبعد كل البعد
ارتكاب التجوز فى مثل هذه الموارد ، او تجشم القول بالاشتراك اللفظى.
وكذا ينبغى
استثناء فعل الامر من الافعال بناء على دلالة الفعل على الزمان ، لما نجده فى
الامر انه لا دلالة له الا على الطلب دون الزمان.
ثم انه ظهر لك مما
قدمناه الفرق بين الماضى والمضارع باعتبار السبق فى الاول واللحوق فى الثانى ، اى
اعتبار خصوصية ينتزع منها السبق فى الفعل الماضى واللحوق فى المضارع ، وهذا
الاختلاف ينشأ من كيفية اختلاف النسبة المستفادة من هيئة الكلام وذلك السبق
واللحوق لا اختصاص له بالسبق واللحوق الزمانى بل يجرى فى السبق الذاتى ، كما فى
سبق بعض الازمنة على بعض فى مضى الزمان ، وفى سبق الرتبة كما فى سبق العلة على
المعلول.
__________________
وان شئت قلت : ان
المستفاد من الجمل الاسمية هو الوجود ، وتحقق لا بشرط ، وفى الجمل الفعلية بل
الافعال وحدها يستفاد الوجود المحدود الذى ينتزع منه فى بعضها عنوان السبق وفى بعض
آخر عنوان اللحوق ، وهذا السبق واللحوق يختلف بحسب الموارد والمقامات ، ففى
الزمانيات ينطبق على السبق الزمانى ، وفى العلل بالنسبة الى معلولاتها ينطبق على
السبق الرتبى ، وفى اجزاء الزمان فى قولك : مضى الزمان ، ينطبق على السبق الذاتى ،
ونحو ذلك ، فهو فى كل مقام يناسب شيئا ولا اختصاص له بالزمان ذهنا ولا خارجا.
«حول اختلاف المبادى
فى المشتقات»
«ومنها ان اختلاف
المشتقات فى المبادى ، وكون المبدإ فى بعضها حرفة وصناعة وفى بعضها قوة وملكة وفى
بعضها فعليا لا يوجب اختلافا فى دلالتها بحسب الهيئة اصلا ...» فلا يتوهم من اطلاق
العالم والتاجر على من لم يتشاغل بتحصيل العلم ، وصنعة التجارة ، ان ذلك من باب
استعمال المشتق فيمن انقضى عنه المبدأ ، لظهور اندفاعه بسعة معنى المبدإ هنا على
نحو لا يختص بحال التشاغل بتحصيل العلم وحرفة التجارة ، فان العلم فى العالم بمعنى
الملكة والتجارة فى التاجر بمعنى الحرفة ، وهما حاصلان لهما فى كلتا حالتى
تشاغلهما بهما وعدمه ، وحينئذ فتندرج مثل هذه الامثلة والصيغ فى زمرة الصيغ
المستعملة فى خصوص حال التلبس بالمبدإ الماخوذ بمعنى عام لا يختص تحققه بحال
التشاغل هذا.
ولكن ربما يستشكل
فى ذلك بان لازم هذه المقالة وهذا البيان
الالتزام
بالمجازية فى مدلول العالم والتاجر ، اذ العلم والتجارة قد اعتبر فيهما بالمعنى
الذى اعتبر فى اخواتهما من سائر المشتقات المأخوذة من العلم والتجارة وهو الفعلية
دون الملكة من نحو علم يعلم ، واتجر يتجر ، بل الظاهر من المصدر ايضا ذلك ، فالقول
بان العالم والتاجر بمعنى من له ملكة العلم وحرمة التجارة ، خروج عن مدلول الكلمة
التى هى على حد اخواتهما فى ارادة الفعلية من مباديها ، بل لا محيص من القول بتعدد
الوضع الهيئى والمادى فى المشتقات من الالتزام بارادة الفعلية من صيغتى العالم
والتاجر فان طرو هيئة فاعل على المادة التى هى ظاهرة فى نفسها بالفعلية لا يوجب
اختلافا فيها عما كانت عليه اذ لكل من الهيئة والمادة وضع مستقل يختص به.
نعم تتجه دعوى
الاختلاف لو بنى على وضع واحد فى المشتقات لمجموع الكلمة المؤتلفة من الهيئة
والمادة ، إلّا ان هذا القول على خلاف التحقيق ولا يساعد عليه النظر الدقيق.
والحاصل ان مثل
هذه الصيغ اقرب شاهد لصحة مقالة الاعمى وإلّا فلو بنى على الوضع لخصوص حال التلبس
فلا محيص الا من ارتكاب التجوز ، اما فى الكلمة او فى امر عقلى ، وكلاهما تعسف
وخروج عن مقتضى الظاهر من غير شاهد. بيان الملازمة اما لزوم التجوز فى الكلمة فذاك
قضية حمل العلم على الملكة والتجارة على الحرفة والصناعة وقد تقدم توضيحه ان شئت
فراجع. واما لزوم التجوز فى امر عقلى فذاك بعد المحافظة على ارادة الظاهر من
المادة والمبدإ ، بارادة الفعلية منها مع التصرف فى الآنات الخالية عن التلبس ،
بتنزيلها بالقياس الى آنات التلبس منزلة العدم ادعاء ، فانه على هذا الوجه لم يطلق
العالم ولا التاجر الا على من تلبس بالعلم والتجارة بالفعل حقيقة فى ازمنة التشاغل
وادعاء فى غيرها وهذا
ارتكاب لخلاف
الظاهر من غير دليل.
اللهم إلّا ان
يستشهد لذلك بما ستسمعه من دليل القول باعتبار حال التلبس فانه ان تم يصلح ان يكون
شاهد الارتكاب مثل هذه التمحلات إلّا ان الشأن فى تماميته وستعرفه فى محله إن شاء
الله تعالى.
«فى انقسام المشتقات
باعتبار مباديها»
ومنها ان المشتقات
تنقسم باعتبار مباديها الى قسمين آنية واستمرارية ، فمن الآنيات نحو القاتل
والسارق والزانى ، ومن الاستمراريات نحو العالم والفاسق ، ومن هذا القبيل كلمة
المثمرة فى عبارات الفقهاء يكره البول تحت الشجرة المثمرة ، ويختلف حال الكلام
المتضمن لكل واحد من القسمين فانه اذا تضمن المشتق الآني لم يكن لهيئة الكلام
دلالة على مقارنة بين النسبة الحكمية وزمان الجرى ان لم يكن له دلالة على عدم
التقارن ، لجريان عادة المحاورة غالبا على تعليق الحكم على مثل تلك الصفات الآنية
بعد مضى زمان جريها مثل قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وقوله تبارك وتعالى : (السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما.).
وان تضمن المشتق
الاستمرارى افاد التقارن بين زمانى النسبة الحكمية والجرى ، لكونه المتبادر من مثل
ذلك ، نحو اكرم العالم فانه يتبادر منه مقارنة الاكرام لزمان التلبس بالعلم ،
وكذلك فى اهن الفاسق.
__________________
ومنها انه لا اصل
لنا لفظيا يقضى بتعيين احد القولين او الأقوال فى المسألة ، كما ان الاصول العملية
تختلف بحسب الموارد اذ الذات ان كانت مسبوقة بحكم من الاحكام ، استصحب حكمها فى
زمان الانقضاء وإلّا جرى اصل البراءة عن التكليف.
«حول ادلة الطرفين»
فاذا اتضحت لك هذه
المقدمات فنقول : وبالله نستعين : انه قد استدل للقول باعتبار خصوص حال التلبس بان
مرتكزات العرف والاذهان المستقيمة ، تابى عن وضع المشتق للاعم ألا ترى ان النائم
فى حال نومه لا يقال له مستيقظ مع انه قد كان مستيقظا فى الزمان الماضى ، وان الذى
كان قائما ثم قعد لا يقال له فى حال قعوده انه قائم ، بل ارتكازهم على المناقضة فى
مثل هذه الاوصاف دليل انى كالتبادر على ان وضع المشتق لخصوص حال التلبس دون الاعم
ومن الماضى ، بل هذا الارتكاز الذهنى منشؤه التبادر ، فانه لو لا تبادرهم التلبس
الفعلى بالمبدإ عند اطلاق المشتق واستعماله ، ما كان ذلك عندهم مؤديا الى ما يرونه
من المناقضة عند ذكر الاوصاف المتقابلة.
وكذلك الاستدلال
مع ذلك بصحة السلب عمن انقضى عنه المبدأ ، فان الضارب الامسى ليس بضارب فى هذا
اليوم.
فان قلت : هذا سلب
للمقيد وعلامة المجاز سلب المطلق. قلت : هذا اذا اعتبر الضرب قيدا للمحمول ، وإلّا
فلو اعتبر قيدا للنسبة صح السلب وكان المسلوب مطلقا غير مقيد ، فانك لو قلت فى
مفروض المثال زيد ليس اليوم بضارب بلا تقييد فى جانب المحمول ، صح السلب وكان
المحمول مطلقا غير مقيد ، ولو كان المشتق حقيقة
فى الاعم لما صح
ذلك والتالى باطل.
ومن هذا الوجهين
يظهر لك الحال فيما اختاره صاحب الفصول قده من التفصيل بين المشتقات الماخوذة من
المبادى المتعدية الى الغير ، فحقيقة فى القدر المشترك بين الماضى والحال ، وبين
غيرها فحقيقة فى خصوص الحال .
ويضعفه ان ذلك على
خلاف التبادر وصحة السلب كما عرفت.
ويمكن الخدشة فى
وجهى الاستدلال بان التبادر وما شاكله من الامارات لا يثبت بها الحقيقة فى عصر
المعصومين الا بعد ضم مقدمة اخرى اليها من اصالة عدم النقل او اصالة تشابه الأزمان
ومن المعلوم ان الاعتماد على مثل هذين الاصلين ، انما هو فيما لم يثبت المخالفة بين
العصرين بالدليل ، وقد ثبت هنا باستدلال الامام «ع» فى غير واحد من الاخبار بقوله
تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد صنما بمنصب الامامة والخلافة مريدين
به التعريض على الثلاثة ، والتنبيه على جورهم فى الخلافة الظاهرية.
فان دلالة الآية
على ذلك تتوقف على كون المشتق وهو الظالم موضوعا للاعم من المتلبس كما لا يخفى.
واجيب عنه بضعف
السند اولا ، وضعف الدلالة ثانيا ، اما ضعف الدلالة فوجهه ان غاية ما ثبت منها
اطلاق الظالم فى الآية وارادة
__________________
ما يعم المتلبس
والمنقضى والاطلاق اعم من الحقيقة.
ونوقش فى ذلك بان
ضعف السند غير قادح ، لحصول الاطمينان بصدورها بشهادة ما فيها من المضامين الناطقة
بالحق ، الشاهدة للصدق ، مع تجاوزها عن حد الاثنين.
واما الدلالة
فيتعين فيها ان تكون دلالة حقيقة ، وإلّا لما صح الاستدلال عنه (ع) ردا على خصمه
فان المجاز يفتقر الى قرينة ، ولا قرنية فى البين.
وقد يقال : ان
القرينة هنا موجودة لان مساق الآية بيان تعظيم منصب الامامة وذكر شرفها ، وعظم
خطرها ، ورفعة محلها ، وجلالة قدرها وكرامتها عند الله تعالى ، ولا يجامع ذلك كون
المراد به خصوص المتلبس بالظلم فى زمان تلك الرئاسة ، بان يكون شرط الامامة الفعلية
عدم الظلم بكفر ونحوه فى حينها ، ولو مع الظلم قبلها بساعة ، لان جميع المناصب
الشرعية وما يشبهها كالامامة والشهادة مشروطة بعدم الظلم فى حينها ، فلا مزية
حينئذ للامامة التى هى صنو النبوة على غيرها.
او يقال : ان
الاستعمال فى الآية الشريفة قد وقع بلحاظ حال التلبس ، فلا دلالة فيها على مرام
الاعمى ، فان الظالم حينئذ يكون مستعملا فى خصوص حال التلبس دون الانقضاء.
ويرد على الاول ان
القرينة ان كانت بملاحظة المقايسة على إمامة الجماعة والشهادة فهو انما يتجه فى
ظالم لم يتب عن ظلمه وكان مقيما عليه ، وإلّا فلو تاب عن ظلمه وحسن ظاهره جازت
امامته للجماعة وشهادته ، وهؤلاء كذلك فى نظر الخصم الواقع طرفا للامام «ع».
وان كانت بملاحظة
جلالة قدر الخلافة وعظم شانها على وجه
لا يليق بها الا
المنزه عن الظلم فى تمام عمره ، فذاك انما هو اعتبار غير صالح للقرينية ، وربما
ينكره الخصم ولا يلتزم بانها بالغة الى حد لا يليق بها المتلبس بالظلم فى زمان من
الازمنة الماضية.
ويرد على الثانى
بان قضيته اختلاف زمان الجرى مع زمان النسبة الحكمية ، وهذا خلاف ظاهر الكلام
وظاهر الجملة المحتوية على المشتق الماخوذ من المبادى القارة.
ان قلت : الظلم
آنى قلت : المراد به هنا الظلم بالشرك وهو قار.
فظهر من هذا كله
ان الرواية ان صحت لصلحت دليلا للاعمى بلا شبهة ولا اشكال ، وكانت مقدمة على ما
استدل به خصمه من التبادر وصحة السلب.
إلّا ان الشأن كله
فى الحكم بصحتها على وجه يحصل الوثوق والاطمينان بصدورها ، ولا يصلح اشتمالها على
المضامين العالية ان تكون مشاهدة على صدقها ، اذ لا يؤمن ان تكون المضامين قد صدرت
من غير الامام ونسبت اليه افتراء عليه.
نعم اذا كانت
الرواية منقولة الينا بطرق مختلفة ، او كان مضمونها قد ذكر فى ضمن روايات عديدة
جاوزت حد الاثنين كما سمعته فيما سبق ، امكن القول بحصول الوثوق بصدورها فنحتاج
الرواية حينئذ الى نظر وتامل فى سندها فتامل جيدا.
«حول بساطة المشتق»
«بقى فى المقام
امران : احدهما» انه عزى الى بعض اصحاب الراى من العامة القول بان مفهوم المشتق «بسيط
منتزع عن الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ واتصافها به غير مركب.»
والمراد من البسيط
مختلف بحسب المقامات فقد يطلق ويراد به البسيط مفهوما ومنشأ ، ويقابله التركيب من
احد الوجهين ، وقد يطلق ويراد به البسيط مفهوما خاصة ، وفى قباله التركيب بحسب
المفهوم والمنشا ، فقائم يراد به الصورة الخاصة الذهنية التى هى بازاء الوجود
الخارجى الخاص ، بالهيئة الكذائية والشكل المخصوص ، فان عالم الذهن نظير ما فى
الخارج فكما لا ترى فى الخارج زيدا الموصوف بصفة القيام الا امرا واحدا لا متعددا
، فكذلك الصورة الذهنية المحكية بلفظ القائم المطبقة على ما فى الخارج ، لا ترى
بحسب التصور الا امرا واحدا لا متعددا.
نعم لمنشا انتزاع
المفهوم تركب تحليلى بمعنى انك بعد التعمل العقلى تراه شيئين ذاتا ومبدأ. وهذا
المعنى الثانى فى البسيط هو الظاهر من قوله بسيط منتزع الخ ويوافقه صريح ما فى
الكفاية فى ذيل هذا البحث إلّا ان هذا المعنى من البساطة وان كان ظاهر عبارته فى
تحرير الدعوى ، لكنه مناف لما ذكره فى وجه تلك الدعوى كما لا يخفى ، حيث قال : فى
مقام الاحتجاج على تجرد مفهوم المشق عن الذات «ان مفهوم الشىء لا يعتبر فى مفهوم
الناطق مثلا وإلّا لكان العرض العام داخلا فى الفصل ، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه
الشىء انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة ، فان الشىء الذى له الضحك هو الانسان
وثبوت الشىء لنفسه ضرورى انتهى.»
وجه المنافاة ان
المتحصل من كلامه فى الحجة ، ليس إلّا خروج الشىء بمفهومه ومصداقه عن مفهوم المشتق
، وذلك لا يستلزم البساطة اذ هناك احتمال ثالث غير ما ذكر من دخول المفهوم او
المصداق وهو احتمال دخول منشأ انتزاع المفهوم العرضى فى معنى المشتق ، وحينئذ فلا
بد من رفع التنافى من العبارة ، بتنزيلها على ان المراد
من خروج المفهوم
خروجه بمنشئه لا وحده ، اذ المفهوم اذا كان عرضيا فمنشأ انتزاعه يكون مثله عرضيا
ايضا ، لكونه امرا آخر وراء الجنس والفصل خارجا عن ذاتياته لاجتماعه معهما ، وما
يكون مجتمعا مع تمام الذاتيات لم يكن عين كل واحد منها بل يكون خارجا عنها ، فاذا
كان المفهوم خارجا عن الناطق الذى هو فصل ذكر بعبارة المشتق ، فاللازم خروجه بمنشإ
انتزاعه لا وحده مع بقاء المنشا مأخوذا ، وإلّا لعاد المحذور من دخول العرض فى
الفصل لما عرفت من ان المنشا كالمفهوم ايضا عرضى.
والحاصل ان تمامية
الحجة يبتنى على اخذ البساطة المدعاة بالمعنى الاول لكن هذا يأباه قوله فى تحرير
محل النزاع منتزع عن الذات الخ لظهور العبارة فى دخالة الذات فى منشإ الانتزاع
ولعله نظر.
إلّا ان المشتق
لما كان له وجهة الى الذات ، فكان يرى فى عالم النظر والاعتبار متحدا مع الذات
منتزعا عنها انتزاعا ادعائيا لا حقيقيا فبهذه العناية بنى على انتزاع المفهوم
الاشتقاقى عن الذات فلا ينافى ذلك خروج الذات عن المشتق مفهوما ومنشأ.
وكيف كان فيمكن
الجواب عن هذا التقريب من الاستدلال بما ذكر فى الفصول من امكان اختيار الوجه
الثانى «ويجاب بان المحمول ليس مصداق الشىء والذات مطلقا ، بل مقيدا بالوصف وليس
ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة لجواز ان لا يكون القيد ضروريا انتهى.» .
وكانه يريد بذلك ان
الضرورية تفتقر الى حمل المساوى على
__________________
مساويه ، او حمل
الاعم على الاخص وهاهنا ليس الامر كذلك ، فان المحمول باعتبار تقييده بالوصف يكون
اخص من الموضوع ولا ريب ان حمل الاخص على الاعم بالامكان لا بالضرورة.
والماتن قده بعد
ان نقل هذا الجواب عن صاحب الفصول اورد عليه بقوله : «يمكن ان يقال» الى قوله «عند
الفارابى فتامل.»
وقد يستشكل فيما
ذكره قده من شقى الترديد ، اما على تقدير خروج القيد ودخول التقيد ، فيمكن الخدشة
فيه بان التقييد اذا كان داخلا كان المحمول اخص ويكون حمله على الموضوع الاعم
بالامكان لا بالضرورة.
وقد يذب عنه بان
هذا الكلام جار على مبناه الذى بنى عليه فى كون معروض القيد باقيا على اطلاقه اذا
بنى على خروج القيد عنه ولا اثر للتقييد فى تضييق دائرة الاطلاق ، وان اعتبر داخلا
، لما تقرر غير مرة من ان مداليل الهيئات معان حرفية ومن شانها ان لا يكون ملحوظا
الا مرآة وآلة ، لتعرف حال طرفيه ، ليس له فى عالم اللحاظ وجود منحاز فى قبال معنى
الطرفين فلا يرى المعروض بعد البناء على خروج قيده الا نفسه من دون التفات الى جهة
التقييد وهو يرى ان المعروض بعد عرائه عن القيد ولم يكن التقييد ملتفتا اليه باق
على اطلاقه ، فيكون معنى ضارب ، زيد له الضرب فيكون التقييد هو مدلول اللام وهو
معنى حرفى ليس ملتفتا اليه وانما التوجه متمحض الى طرفيه ، فالمقيد حينئذ بلحاظ
نفسه بعد فرض خروج قيده عنه ، يكون مطلقا فيكون بعينه الموضوع المحمول عليه المقيد
ولازم ذلك ان يكون الحمل ضروريا لا بالامكان. هذا حاصل ما يتعلق بتوضيح كلامه قده
ودفع توهم الاشكال على ظاهر عبارته.
ولكنك خبير بان
كلامه هذا يبتنى على مبنى غير مرضى ، اذ
لا نسلم الاطلاق
فى جانب المقيد المفروض خروج قيده عنه بل هو توأم حصة من الذات ، فيكون اخص من
موضوعه ، وحينئذ فحمله عليه يكون بالامكان لا بالضرورة هذا على تقدير خروج القيد ،
واما على تقدير دخوله فتوضيح مراده ان الضارب الذى وقع محمولا فى القضية ، يتضمن
نسبة تقييديه ، وقد عرفت سابقا ان نسبة الوقوع المتقيدة من النسبة الناقصة ،
متفرعة على نسبة ايقاعية هى مضمون الجملة الخبرية فاذا ابرزتها فى عالم النطق تنحل
القضية الى قضيتين «زيد زيد ضارب» فيكون زيد الثانى المحمول على زيد الاول بعينه
موضوعا فى القضية الثانية ولا شك ان نسبة زيد الى نفسه على ما هو مضمون الجملة
الاولى نسبة ضرورية.
ويمكن الخدشة فى
ذلك ايضا ، بان المفروض دخول القيد ولازم ذلك ان يكون المحمول مجموع القضية
الثانية لا موضوعها خاصة ، ومن الواضح ان حمل المجموع واسناده الى موضوع القضية
الاولى ليس على وجه الضرورة ، بل بالامكان ، فصح كلام الفصول وبطل الايراد عليه
بناء على اعتبار المصداق فى حقيقة المشتق.
ان قلت : الموضوع
فى المركبات التامة توأم مع المحمول لا يتناول نقيضه كما هو كذلك فى المركبات
التقييدية وحينئذ فلا محيص من الاشكال ، اذ كل موضوع على هذا لا بد وان يكون
مساويا لمحموله ، او اخص منه ، لاستحالة سعة دائرته على وجه يكون شاملا لمحموله
ونقيضه ، ومن المعلوم ان اسناد الاعم او المساوى الى الاخص منه او مساويه اسناد
ضرورى لا بالامكان.
قلت : ليس الامر
فى المركبات التامة كما زعمت ، اذ التضييق انما يجىء من التقييد ، وإلّا فموضوع
القضية سابق فى الرتبة على محموله ، فالجملة حال الاخبار يراد بها الحكم على
الموضوع الذى
هو فى حد نفسه
قابل لطرو الطوارى عليه ، من غير اختصاص لبعضها فيه ، فاذا تحقق الحمل وتم الاخبار
خرج الموضوع عما كان عليه من صلوحه للتوصيف بجميع الاوصاف الى الفعلية وكان مضيق
الدائرة فلا يشمل فى هذا الحال الذى هو عليه من التلبس بالصفة الكذائية حال ضدها
ونقيضها ، فكان حاله فى مقام الاخبار مغاير لحاله فى مقام التوصيف والتقييد اذ هو
فى الاول عام وفى الثانى خاص ، وحمل الخاص على العام يكون بالامكان لا بالضرورة.
ثم لا يذهب عليك
ان اشكال الانقلاب لو تم لم يكن مختصا بصورة اعتبار المصداق فى معنى المشتق ، بل
يتأتى على اعتبار المفهوم فيه ايضا ، ضرورة صدق مفهوم الذات على كل واحد من
مصاديقه التى منها موضوع القضية.
هذا تمام الكلام
فيما يتعلق بحجة المستدل على بساطة المشتق من بعض اصحاب الراى والخلاف وقد عرفت
عدم تماميتها وضعف ما قيل تأييدا له ، فالحرى بعد هذا ان نجرى الكلام فى تحقيق
الحق
«بأنه يمكن ان
يستدل على البساطة بضرورة عدم تكرر الموصوف فى مثل زيد الكاتب ولزومه من التركب
واخذ الشىء مصداقا او مفهوما فى مفهومه.»
وايضا لكان يحصل
التكرار فى مقام الاخبار عن زيد بانه كاتب ، فانه ينتقل الى زيد تارة بالصراحة
واخرى فى ضمن كاتب ، مع انا لا نجد التكرار بحسب التصور ، ولا ينسبق الى اذهاننا
شىء ، منه ، فكان هذا شاهدا على عدم التركب المفهومى ، لكن يبقى احتمال التركيب فى
المنشا لظهور عدم التلازم بين بساطة المفهوم وبساطة المنشا ، فبنا على القول بوضع
واحد للمجموع المؤتلف من الهيئة والمادة فى المشتقات ، امكن القول حينئذ بتركيب
المنشا فيها ، حيث ان
مجموع المركب
موضوع لمعنى منتزع من الوجود الخاص الخارجى الذى هو ينحل بالتعمل العقلى الى ذات
ومبدإ.
واما بناء على
المختار من تعدد الوضع فى كل من المادة والهيئة ، فلا وجه لاعتبار الذات فى المشتق
لا فى معناه ، ولا فى منشأ انتزاعه ، لظهور ان المادة موضوعة للمعنى الحدثى
والهيئة تدل على معنى حرفى الذى هو النسبة فمن اين يجىء اعتبار الذات؟ وهل القول
باعتباره الا دعوى خالية عن بينة وبرهان؟ وما عساه يتراءى من «ضارب» الذات
المتلبسة بالمبدإ ، فذلك ناش عن كون الذات طرفا للنسبة المفتقرة الى منسوب ومنسوب
اليه ، لا لاندراجه فى المعنى الموضوع له فهو مدلول التزامى لكلمة المشتق لا
تضمنى.
ثم ان المنظور
اليه فى مقام الحكم عنه اطلاق المشتق ، يمكن ان يكون هو الذات اصالة والمبدأ تبعا
ويمكن العكس ، كما انه يمكن تعلق اللحاظ بهما معا اصالة على سبيل لحاظ المجموع
المؤتلف من الذات والمبدإ هذا بحسب عالم التصور ومرحلة الامكان ، وإلّا فمورد
التصديق المحقق وقوعه فى المحاورات والقضايا هو الصورة الاولى ، فانك لا ترى فى مقام
اطلاق رايت الضارب الا الذات ويكون الضاربية فى نظرك ليست إلّا كاللباس المشتمل
على الشخص لو نظرت اليه مريدا شخصه ، ولعله لهذا الوجه وقع فى كلماتهم التعبير عن
المشتق فى مقام شرحه وتوضيحه بأنه ذات متلبسة بالمبدإ ، فان التلبس مأخوذ من
اللباس فهذا الارتكاز الذهنى هو الداعى لهم على التعبير بهذه العبارة ، ويشيرون
بذلك الى ان المبدأ منظور اليه تبعا كاللباس الذى على الانسان ، هذا ما تحصل لى من
بحث الاستاذ مد ظله.
ولكنه غير خال عن
النظر اذ لا وجه لقصر الوقوع فى المحاورات
من الاحتمالات
الثلث المتصورة على الصورة الاولى خاصة ، بل هى بأجمعها وقعت فى المحاورات ،
ويختلف الحال بحسب المقامات ففى نحو رايت الضارب ربما يكون الامر كما ذكر من توجه
اللحاظ الى الذات بالاصالة والى المبدإ بالتبع ، إلّا أنّك لو قلت زيد ضارب قاصدا
به الاخبار عن زيد بالضاربية ترى تمام التوجه فى جانب المحمول الى الضاربية دون
ذاته ، وانما التوجه الى الذات جاء من ناحية الموضوع واما المحمول فهو المتمحض
بالتوجه بصفته دون ذاته ، ومن ثم اعتبروا الوصفية فى جانب المحمول ، والذات فى
جانب الموضوع.
واما لو قلت :
اكرم العالم فمناسبة الحكم للموضوع تقضى باعتبار الذات والصفة معا فى عالم التوجه
بالاصالة كما لا يخفى.
ثم انك قد عرفت ان
الذات خارجة عن المشتق ، وليست داخلة فى معناه وحينئذ فربما ينقدح الاشكال فى اخذ
المشتق وسيلة الى الذات ، معبرا يستطرق منه اليه على وجه يكون الانتقال الى الذات
اصالة والى المبدإ تبعا ، مع ان الالتزامية ترى تبعا للمعنى المطابقى لا اصالة ،
فكون الذات معنى التزاميا خارجا عن المعنى ، ينافى الالتفات اليه من لفظ المشتق
بالاصالة.
ويمكن ان يوجه ذلك
بأن الذات وان لم تدخل فى المعنى إلّا ان المعنى الاشتقاقى قد اعتبر على نحو لا
يصلح إلّا ان يكون وجهة الى الذات فالتبعية اللاحقة لمعناه فى مقام التوجه
والالتفات ، انما هى لقصور فى المعنى ، نظير المعانى الحرفية التى ليست ملحوظة الا
آلة ومرآة لحال المتعلق ، ففى عالم النظر والالتفات لم يكن المقصود الاصلى الا
المتعلق على وجه يرى متكيفا بالمعنى الحرفى ، كما يرى الانسان متكيفا بكيفية
القيام ومترديا بالرداء ، فيكون النظر الى
المدلول تبعا والى
لازمه فى المشتقات والى المتعلق فى الحروف بالاصالة ، فكان المعنى يرى من شئون
الذات وحدوده ، نظير الحروف سوى ان المعانى الحرفية مرآتية لم يتعلق بها توجه من
النفس اصلا ، وهذا بخلاف المشتقات فانها ملحوظة ومتوجه اليها.
والحاصل ان انحاء
التبعية مختلفه ، فتارة يرى التابع منفصلا عن المتبوع كالولد التابع لوالده ،
واخرى يرى موصولا ، وهذا على نحوين ، فان كان على نحو المرآتية كان ذلك من قبيل
المعانى الحرفية ، وان لم يكن كذلك بل على نحو يكون من شئون الذات وحدوده مع كونه
متعلقا اليه تبعا ، كان ذلك معنى المشتق ، وبهذا الوجه صح جريه على الذات وحمله
عليها ، من حيث انه بحسب الرؤية والالتفات لا يرى الذات المتلبسة بالمبدإ الا
واحدا خارجا ، كما انه بهذا الوجه رفعنا التهافت الواقع عن بعض العامة.
«فى بيان ملاك الحمل
فى المشتق»
ثم انه قد انقدح
مما ذكرنا وجه الحمل فى القضايا التصديقية ، وربما قيل بأن الوجه فى الحمل هو
اعتبار المبدإ المأخوذ فى المشتق لا بشرط فى قبال اعتباره بشرط لا ، وقبل النظر
فيما يتجه عليه من الاشكال لا بد من توضيح المراد من قولهم «لا بشرط ، وبشرط لا»
فى المقام ونظائره ، ولنوضح المقصود بالاشباه والنظائر اولا فنقول : فى اجزاء
الصلاة كالركوع والسجود والقيام وغيره ، تارة تعتبر هذه الاجزاء من حيث انبساط
الطبيعة الصلاتية عليها وهذا فى المعنى هو الكل ، واخرى تعتبر بحدودها المتباينة
فيما بينها وبهذا الاعتبار يمتنع حمل بعضها على بعض ، كما لا يصح حملها على الكل
ايضا وهو المعنى
بقولهم بشرط لا ، وثالثة تعتبر بما لها من تحمل صرف وجود الصلاة ، الاعم من الوجود
الضمنى ، والاستقلالى ، فالركوع من حيث كونها صلاة هى السجود بهذه الحيثية ، فيصح
حمل بعضها على بعض بهذا الاعتبار وهو المراد بقولهم لا بشرط ، هذا فى الاجزاء
الخارجية.
واما الاجزاء
الذهنية التحليلية كالحيوان والناطق اللذين هما اجزاء للانسان ، يتصور فيه الوجوه
بعينها ايضا ، ومنه يتضح الحال فى المشتق ، فأنك ان اعتبرت الذات والمبدأ كل
بحياله مستقلا ، كان كل منهما معتبرا بشرط لا ، وان اعتبرتهما من حيث كونهما
حاملين لوجود المشتق على الاطلاق اى الاعم من الوجود الضمنى والاستقلالى كانا
معتبرين لا بشرط.
وبهذا الاعتبار
يتوجه حمل المبدإ على موضوعه ، لكونه بهذا الاعتبار عين الذات الواقعة موضوعا هذا.
ويتجه على ذلك ان
اعتبار اللابشرط وان صلح وجها فى زيد عالم مثلا ، إلّا انه يرد الاشكال فيما لو
قيل : اطعم العالم فإن متعلق الاطعام ليس هو إلّا الذات دون المبدإ ، فلو اعتبر
المبدأ لا بشرط من غير ان يكون فيه جهة وجهة للذات ، وعنوانا مشيرا اليه ، كيف يصح
مثل هذا المثال؟ فأذن لا محيص عما ذكرناه من اعتبار الوجهة والاتحاد اللحاظى فى
المشتق ، وبه يستغنى عن اعتبار اللابشرط فيه. هذا ما تحصل لى من كلام الاستاذ مد
ظله العالى.
اقول : ليت شعرى
اذا كان اعتبار اللابشرط يصحح الحمل ، وكان مسلما لديه ، فلا بد من الالتزام بجواز
صيرورته متعلقا للاطعام ، وذلك لان الحمل انما يتجه فى مورد يتحقق الاتحاد الخارجى
بين الموضوع والمحمول ، فكما يرى العالم فى الخارج عين زيد وصلح لاجله حمله عليه ،
كذلك يصلح مثل ذلك
ان يكون مطعوما بهذا النظر وهذا الاعتبار.
وبالجملة لا وجه
لتسليم صلاحية الحمل مع اعتبار اللابشرط ومنع صيرورته متعلقا للحكم بالاطعام ، اذ
الحمل لا يتجه إلّا فيما يتحقق هناك الاتحاد الخارجى ، واذا تحقق الاتحاد الخارجى
جاز الامران من غير فرق بينهما فتأمل فى المقام ولا تنظر الى من قال.
«الامر الثانى»
يظهر من الفصول اعتبار الاسناد الحقيقى فى صدق المشتق حقيقة فمثل الميزاب الجارى
يكون قد اطلق فيه المشتق على سبيل الحقيقة ، وان كان اسناده الى الميزاب مجازيا.
اقول : ويحتمل
ثالثا ان لا يكون فى ذلك تجوز فى الكلمة ولا فى الاسناد ، بل فى امر عقلى بواسطة
ادعاء الميزاب فردا من افراد الجارى.
وبالجملة لصاحب
الفصول قول بالتجوز فى الكلمة فى مثل قولهم : الميزاب الجارى ، وللماتن قول
بالتجوز فى الاسناد دون الكلمة ، ولنا احتمال ثالث وهو الالتزام بالتجوز العقلى
الادعائى فى جانب الموضوع من غير حاجة الى الالتزام بالتجوزين فى الاسناد او
الكلمة.
«حول الاوامر»
«المقصد الاول فى
الاوامر وفيه فصول : الاول فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات وهى عديدة :»
الاولى قد يطلق
الامر ويراد به البعث القولى الذى هو من مقولة الفعل ، دون الطلب النفسانى الذى هو
من مقولة الكيف المتكيفة به
__________________
النفس الناطقة
ومثل هذا امر بالمعنى الحدثى المصدرى ويجمع على اوامر ، وقد يطلق ويراد به معنى
قريب من الشىء لا عينه اذ الامر اخص وهو اعم ، فانه يقال فى شأن البارى عزّ اسمه
انه شىء لا كالاشياء ولا يقال له امر من الامور.
والحاصل ان الفرق
بين معنيى الامر فى كمال الوضوح ولا جامع بينهما ظاهرا ، فيكون استعمال الامر
فيهما على سبيل الاشتراك اللفظى لا المعنوى ولا الحقيقة والمجاز ، اذ لا عناية فى
الاستعمال فى كل من المعنيين غير الافتقار الى القرينة المعينة الجارية فى
المشتركات اللفظية.
وهل يعتبر فى صدق
الامر على الطلب ان يكون مظهرا بالقول خاصة ، فلو طلب بغيره كالكتابة والاشارة لم
يكن امرا او لا يعتبر ذلك ، ويكون المدار على اظهاره بأى نحو يكون؟ اقربهما لدى
النظر هو الثانى والذى يهون الخطب ، عدم تفاوت الحال بالنسبة الى حكم العقل بلزوم
الاطاعة بين جميع صور بروز الطلب وابرازه سواء سميت كلها امرا او لا.
«الجهة الثانية
الظاهر اعتبار العلو فى معنى الامر فلا يكون الطلب من السافل او المساوى امرا فلو
اطلق عليه كان بنحو من العناية.» واما الاستعلاء فالظاهر عدم اعتباره فى معنى
الامر ، فلو استعمل الامر فيه كان بنحو من العناية اذا لم يكن ثمة جهة علو فى
الطالب.
الجهة الثالثة هل
الامر بمادته يدل على الوجوب؟ لم يستبعد ذلك الماتن مدعيا انسباقه عند اطلاقه حيث
قال قده : «لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة فى الوجوب لانسباقه عنه عند اطلاقه. انتهى»
ويمكن ان يكون ذلك
انسباقا اطلاقيا ، ناشيا عن مقدمات الحكمة
فلا يجدى ذلك فى
اثبات الحقيقة والوضع لخصوص الوجوب ، بل ربما يكون قولهم : امر ندبى وامر وجوبى
شاهد على الاعمية وربما يستدل للقول بالوجوب بأية الحذر على مخالفة امره صلى الله
عليه والله وسلم وبآية التوبيخ والذم على ابليس فى مخالفة ما امر به من
السجود لآدم «ع» وبقوله «ص» لو لا ان أشقّ على امتى لامرتهم بالسواك.
بتقريب ان الامر
اذا كان ملزوما للعقوبة على مخالفته او يذم على مخالفته ، او يشق امتثاله ، فبعكس
النقيض يحكم بأن كل ما ليس ملزوما لاحد هذه الثلث فليس بأمر ، كما ان الحال كذلك
فى المندوبات فلم تكن حينئذ اوامرها اوامر حقيقية بل مجازا وبالعناية.
ويمكن الجواب عن
هذا الاحتجاج بأن العام ليس حجة فيما يشك فى مصداقيته وكان معلوما حكمه كما فى
المقام حيث ان الامر الندبى مما يشك فى مصداقيته للامر ، ومع ذلك قد علم انه ليس
فيه واحد من هذه الامور الثلث فاذا لم يكن العام حجة فى مثل هذا الفرد فى جانب
الاصل ، ففى طرف العكس يكون المحصل ان ما لم يكن فيه احد هذه الامور ، فليس من تلك
الافراد المشمولة للعام وكان هو حجة فيها ، فيكون مثل هذا الفرد المشكوك حاله
مسكوتا فى جانبى الاصل والعكس.
وقد يقرب الاحتجاج
بالحديث بغير ما ذكر وذلك بتمهيد
__________________
مقدمتين :
احدهما ان استحباب
التمسوك مما لا ريب فى وروده فى الشريعة.
ثانيها ان «لو لا»
الامتناعية تدل على انتفاء الثانى لوجود الاول نحو لو لا على (ع) لهلك عمر وحينئذ
فنقول : مقتضى مفاد الحديث انتفاء امره «ص» بالسواك لحصول المشقة مع انا نجد
اوامره الندبية كثيرة الى ما شاء الله ، فلا بد وان تكون الاوامر الندبية خارجة عن
مصاديق الامر الحقيقى صونا لكلامه «ص» عن الكذب.
مضافا الى ان
المشقة لا تتأتى من قبل الطلب الندبى فذكرها فى كلامه «ص» قرينة لفظية على ان المقصود
من قوله لامرتهم خصوص الوجوب لا مطلق الطلب ، وليست هذه القرنية قرنية التجوز اذ
لا يحسن التجوز فى تالى الشرطية اعتمادا على ما ذكر فى مقدمها المتقدم على تاليها
رتبة بحسب صوغ الكلام فإن ظاهر الكلام فى مثل ذلك هو انتفاء الامر بما له من معناه
الحقيقى بسبب المشقة.
والحاصل ان فى
كلامه «ص» دلالة على خروج المطلوبات الندبية عن حيز الامر بالدلالة الاقتضائية
نظير دلالة الآيتين على اقل الحمل وبالقرنية.
وكيف كان فليس
مبنى هذا النحو من التقريب على التمسك باصالة العموم ، لكى يرد عليه المناقشة
المتقدمة ، بل ذلك تمسك بقضية شخصية واردة فى خصوص السواك فان صح الحديث كان
الاستدلال به للقول بالوجوب اولى من غيره.
الجهة الرابعة قد
سبق ان الامر هو البعث المعبر عنه فى كلماتهم
__________________
بأنه الطلب بالقول
، وهل الطلب المعتبر فيه هو الانشائى او الحقيقى او مفهوم الطلب؟ استظهر الماتن
قده الاول فقال : «الظاهر ان الطلب الذى يكون هو معنى الامر ، ليس هو الطلب
الحقيقى الذى يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعى بل الطلب الانشائى الذى لا يكون
بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا انشائيا سواء انشاء بصيغة افعل او بمادة الامر او
بغيرها.» انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.
وربما يستشكل فيه
بأن الانشائية كيفية متصدية من الاستعمال القولى ، فكيف يصلح ذلك ان يكون متعلقا
للقول فى مقام تعريفه بأنه الطلب بالقول ، فلو قال المولى : لعبده امرك بشراء
اللحم كان طالبا له بالقول ومنشأ لطلبه ذلك بهذا اللفظ ، وهذا الكلام من غير ان
يكون للانشاء دخالة فى مدلول الكلام ، بل هو من شئون الاستعمال ومن اطواره ، فكيف
يتخذ ذلك مدلولا لمادة الامر؟
ولعل مطمح نظره
الى الملحوظ فى عالم البعث لما كان هو المعنى بتوسيط اللفظ واستعماله فيه ، وكان
اللفظ بما هو متكيف بكيفياته فانيا فى المعنى متحدا معه بنحو الاتحاد ، فكان يرى
المعنى الطلبى انشائيا وليس حقيقية هو الطلب الانشائى ، بل المعنى بحسب الحقيقة هو
مفهوم الطلب وانما تلون بالانشائية بواسطة بروزه بالقول المقصود به الانشاء
والايجاد.
«فى معانى الطلب
والمختار منها فى المقام»
ثم ليعلم ان حقيقة
الامر ليس مجرد الطلب الانشائى ما لم يكن صدوره عن جد وارادة حقيقية ، لظهور ان
الاوامر الامتحانية اذا علم امتحانيتها وخلوها عن واقع الطلب ، لا تكون اوامر
حقيقية بل هى
اوامر صورية يتخيل
الناظر انها اوامر وليست هى اوامر ، فهى كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى اذا
جاءه لم يجده شيئا ، فاذا لا بد فى الامر ان يكون صدوره عن جد وارادة حقيقية ،
فالطلب الحقيقى يعتبر ان يكون داعيا للانشاء ولا يكون داخلا فى مفهوم الامر ، فهو
من قبيل الشرط فى تحقق معنى الامر يعد خارجا عنه وان كان المعنى موقوفا عليه.
فتلخص مما ذكرنا
ان الامر حقيقة هو الطلب الانشائى عن داعى الجد والطلب الحقيقى ، وببيان اوضح انهم
عرفوا الامر بأنه الطلب بالقول وما يحتمل ارادته من لفظة الطلب احد امور ، اما
الطلب الحقيقى الذى هو عين الارادة الحقيقية او غيرها على الخلاف ، او الطلب
المفهومى الذى هو المعنى المتصور عند ارادة استعمال اللفظ فيه ، او الطلب الانشائى
الذى هو الطلب المفهومى المبرز بعالم اللفظ مع قصد الموجدية للمعنى.
فإن اريد المعنى
الاول فلا بد ان يكون المراد من القول فى التعريف هو القول بمفهومه الذى هو مفهوم
الطلب ، اذ الطلب الحقيقى لا يكون مظهرا بالقول نفسه من غير اعتبار دلالة على
مفهوم الطلب الذى هو معناه المطابقى ، وان اريد المعنى الثانى كان المراد من القول
نفسه بلا ملاحظة اعتباره دالا على معناه ، وان اريد المعنى الاخير فلا بد من
مراعاة التسامح فى صيرورته متعلقا للقول ، اذ الانشائية لا يلحق الطلب إلّا بلحاظ
الاستعمال ، ويستحيل اعتبار ما يتأتى من ناحية الاستعمال فى المستعمل فيه.
والحاصل ان
المعانى الثلاثة محتملة فى الطلب المذكور فى التعريف ، والمتعين ارادته من تلك المحتملات
بحسب الظاهر هو المعنى الاول ، خلافا لما فى الكفاية حيث انه قده بنى على ان
المراد
من الطلب فى
تعريفهم ذلك هو الطلب الانشائى.
لنا على المختار
امران : احدهما ان التعريف لما كان مبنيا على شرح مدلول الامر بحسب ما يتفاهم منه
المعنى عرفا ، فلا بد وان يتبع فى استخراج المراد من القيود المذكورة فى التعريف
ما ينطبق عليه الامر بحسب نظر العرف ، والمشاهد لدى العرف انهم لا يرون الامر
الخالى عن الطلب الحقيقى امرا ، كما انه ليس مورد حكم العقل بلزوم الامتثال
والاطاعة ، فدل ذلك على انحصار الامر فى خصوص ما يقترن بالطلب الحقيقى.
ثانيهما : ان
الصيغ المستعملة فى الطلب من نحو اضرب واشرب ونحوهما هى مصاديق للامر جزما ، ولا
يعقل ان يكون مدلولها مفهوم الطلب لكونه معنى اسميا ، فلا يصلح ان يكون مدلولا
لهيئتها بل الهيئة تدل على النسبة التحريكية والحث على العمل والبعث اليه ، فهذا دليل
على ان ما ذكر فى التعريف من لفظة الطلب ، لا يراد به الا الطلب الحقيقى الداعى
الى هذا التحريك وليس هو مدلولا للصيغة بل مظهرا بها بواسطة قرنية ظهور شاهد الحال
الدال على ان الامر اذا امر كان امره عن جد وارادة حقيقية.
ثم ان الطلب
الحقيقى بناء على اتحاده مع الارادة ، حيثما يتحقق يكون داعيا على الانشاء البعثى
والتحريك نحو العمل ، فيكون الانشاء بالنسبة اليه واسطة فى الاثبات حيث انه
بالانشاء البعثى يستعلم ارادة المولى التى هى منشأ حكم العقل بلزوم الاطاعة
المتفرع عليها الوجوب والايجاب.
نعم لو قلنا
بالمغايرة كان الانشاء البعثى هو السبب فى تحقق الطلب الحقيقى فيكون نسبة الانشاء
الى هذا الطلب على هذا التقدير من قبيل الواسطة فى الثبوت ، ويكون نظير انشاء
الملكية والزوجية اللتين
لا يتحقق وجودهما
فى عالم الخارج إلّا بانشاء فهو واسطة ثبوت فى تحققهما لا واسطة اثبات.
«الكلام فى ان الطلب
هل هو عين الارادة او غيرها؟»
ثم ان الطلب هل هو
عين الارادة كما عليه المعتزلة او غيرها كما عليه الاشاعرة؟ فيه نزاع معروف بين
الفريقين ، وربما يحمل الطلب فى كلام القائل بالمغايرة على الانشائى وتحمل الارادة
فى كلامه على الارادة الحقيقية ، فيكون المحتمل من القول بالمغايرة على هذا الوجه
، هو دعوى المغايرة بين الطلب الانشائى والارادة الحقيقية ، وهذا المقدار من
المغايرة لا يتحاشاه القائل بالاتحاد والعينية فيرجع النزاع بين الفريقين لفظيا.
وقريب من هذا
الوجه حمل الطلب فى كلام القائل بالمغايرة على البعث والايجاب المترتب على الطلب
الانشائى ، حيث انه بعد انشاء الطلب يحكم العقل بلزوم الموافقة والطاعة ، فينتزع
من ذلك الوجوب والالزام ، وهذا هو الطلب المدعى مغايرته مع الارادة.
وربما يؤيد ذلك
تقسيمهم الطلب الى الوجوب والاستحباب ، فإن الطلب المنقسم اليهما متحد معهما ولا
يكون هو الارادة الحقيقية ، اذ الارادة هو السبب الباعث الى وجود هذه المرتبة من
الطلب الانشائى المنقسم الى هذين القسمين ، فكيف تتحد الارادة معها وليس نسبتها
الى الطلب الانشائى الا كنسبة العلة الى معلولها هذا.
ولكنك خبير بأنه
من المستبعد كمال البعد لفظية مثل هذا النزاع العظيم ، وهذا التشاجر الواقع من
سالف الزمان بين المعتزلة والاشاعرة ، بل الظاهر ان مدعى المغايرة يدعى المغايرة
المعنوية
بينهما على ان
يكون الطلب بمعناه القائم بالنفس يغايره الارادة الحقيقية.
ويشهد لذلك انه
يجعله منشأ حكم العقل بلزوم الموافقة وحرمة المخالفة ، وظاهر ان هذا لا يوافق
الوجهين المزبورين اذ لا يجب امتثال الطلب والالزام الغير المنبعثين عن الارادة
الحقيقية كما لا يخفى.
فلو علم المأمور
ان المتوجه اليه من الامر هو الامر الصورى الخالى عن الارادة لم يجب عليه امتثاله
عقلا ، مضافا الى ان ظاهر استدلال القائل بالاتحاد بانا لا نجد فى انفسنا شيئا
وراء العلم والارادة يقتضى بأن محط البحث بينه وبين القائل بالمغايرة ، ليس هو
الطلب الانشائى والوجوب المنتزع منه ، كما هو مقتضى الوجهين المتقدمين ، بل هو امر
معنوى قائم بالنفس يثبته القائل بالمغايرة وينفيه القائل بالاتحاد ، ضرورة ان
الطلب الانشائى وما يترتب عليه من الالزام المنتزع منه ، ليسا من المعانى القائمة
بالنفس حتى يتجه الاستدلال على نفيهما بعدم مشاهدة شىء آخر وراء العلم والارادة فى
النفس ، فمثل هذه الامور من شواهد النزاع المعنوى بين الفريقين دون اللفظى كما هو
مآل الوجهين المتقدمين ، وحينئذ فاللازم تطلب ذلك المعنى الثالث الذى يراه القائل
بالمغايرة انه معنى طلبى غير الارادة النفسانية.
والظاهر ان ذلك
المعنى الثالث هو من قبيل ما يذكرونه الفقهاء فى التشريع المحرم الذى هو من
الاعمال الجنانية ، وما يذكرونه فى البناء على الثلث او الاربع فى الشكوك الصلاتية
التى امر المكلف فيها بالبناء على الاربع فيما لو شك بين الثلث والاربع ، او
البناء على الثلث لو شك بين الاثنين والثلث وغير ذلك ، فإن البناء على احدهما عمل
جنانى وان كان نتيجته العمل الجوارحى.
وكذا ما يذكرونه
المتكلمون فى لزوم عقد القلب فى الاعتقاديات التى يتيقن بها من الامور الحقه ،
فلربما يكون الانسان معتقدا للحق ولا يدين به قلبا كما قال تبارك وتعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) فإذا كان مثل هذه الامور الجنانية متحققة ، فلا يبعد ان
يكون مراد القائل بالمغايرة هو تحقق القصد وعقد القلب على تحريك العبد نحو العمل ،
وهذا مما يصلح ان يكون مورد توهم لزوم موافقته عقلا ، كما انه صالح لتعلقه بالمحال
عنه القائل بالمغايرة.
ومن ثم فرع على
المغايرة جواز الامر الامر بشىء مع علمه بانتفاء شرطه ، وهذا المعنى هو الطلب عنده
وهو معنى ثالث غير العلم والارادة ، ومثل هذا المعنى لا يفتقر فى تحققه وانقداحه
فى النفس الى مصلحة فى المتعلق كما هو مقتضى القول بالاتحاد على ما ستعرفه إن شاء
الله تعالى.
بل يجوز ان يكون
ثمة مصلحة فى ايراد مثل هذا الطلب من غير ان يكون هناك مصلحة فى المتعلق.
فتلخص مما حققناه
ان ما ينبغى ان يكون محلا للنزاع وموردا للنقض والابرام هو هذا المعنى الجنانى
المغاير للعلم والارادة.
وربما يكون القائل
بالاتحاد ينكر تعقل مثل هذا المعنى كما انكره جمع فى التشريع ، والانصاف انه غير
قابل للانكار بل هو كالنار على المنار بشهادة الوجدان.
لكن ذلك لا يجدى
القائلين بالمغايرة اذ لا نسلم ان مثل هذا المعنى هو موضوع حكم العقل بوجوب
الموافقة وحرمة المخالفة ما لم يقترن بالارادة الحقيقية ، ضرورة ان الاوامر
الصورية اذا لم يكن لها مصلحة
__________________
الا فى ابرازها من
المولى بصورة الطلب والارادة ، لم يجب موافقتها للعالم بصدورها على هذا النحو قطعا
، لان المصلحة الباعثة على ايراد الامر لم تكن الا فى اظهار الطلب وقد حصلت باظهار
المولى طلبه بالامر ، فلم يبق فى البين ما يقتضى التحرك نحو العمل بعد فرض انحصار
المصلحة فى ابراز الطلب والارادة.
نعم لو كان العبد
جاهلا بكيفية الحال ولم يعلم ان المصلحة فى الامر او المأمور به ، امكن القول
بلزوم امتثاله للامر بحكم العقل اذ الامر بحسب ظاهر الصدور طريق الى واقع الارادة
التى هو موضوع حكم العقل بلزوم الموافقة وحرمة المخالفة.
ولئن قلت : ان
الاوامر الامتحانية يجب الحركة على مقتضاها حتى عند العالم بامتحانيتها وإلّا
لانتفت فائدة الامتحان ، واذا وجب موافقتها عقلا تم مرام الخصم فيما يقوله من
المغايرة بين الطلب والارادة ، اذ لو لا المغايرة لما تخلف مثل هذا الطلب اللازم
موافقته عن الارادة.
قلت : مثل هذا
الطلب لم يتخلف عن الارادة فلا يصلح نقضا على ما قلناه ، فان المأمور به بهذا
الامر الامتحانى وان لم يكن فى نفسه ذات مصلحة ملزمة للاتيان به ، إلّا انه
بعنوانه الثانوى الامتحانى مشتمل على مصلحة قطعا ، لظهور ان الامتحانية لا تحصل
بغير التصدى للموافقة الحركة نحو المأمور به ، فهذا المأمور به بعنوانه الثانوى
الامتحانى مراد مطلوب ايضا ، فلم تتخلف فيه الارادة عن الطلب ، وانما يتصور التخلف
فى الصورة المزبورة التى لم يكن ثمة مصلحة الا فى ابراز الطلب واظهار الارادة ،
فالامر فى هذه الصورة يريد الامر ولا يريد المأمور به فقد تخلف الطلب عن ارادة
المطلوب ، وقد عرفت ثمة ان مثل هذا الطلب لا يحكم العقل فيه بوجوب موافقته وحرمة
مخالفته ، فصح لنا
حينئذ اطلاق القول بأنه ليس لنا ما يكون موضوع حكم العقل بوجوب موافقته وحرمة
مخالفته ، الا الارادة ، كما انه ظهر مما بيناه بطلان استدلال القائل بالمغايرة
بصدور الاوامر الامتحانية وهى متخلفة عن الارادة ، لما عرفت من عدم تخلفها عن
الارادة بما لا مزيد عليه.
وليس لك ان تقول :
ان احتمال صدور الامر بغير داعى الارادة يسد باب الطاعة.
لانا نقول : هذا
الاحتمال لا يجدى العبد فى صحة الاعتذار ما لم يقم عليه قرنية من حال او مقال ،
لان ظاهر الطلب بقرينة شاهد الحال والاصل العقلائى هو انبعاثه عن داعى الارادة
الجدية فيجب اطاعته بالموافقة ويحرم عصيانه بالمخالفة.
نعم اذا ظهر
بقرينة انه ليس فى البين الا ابراز طلب خال عن ارادة اصلا جاز له التماهل
والمسامحة فى الطاعة.
والحاصل ان محط
البحث ومورد النزاع بين الفريقين فى ان موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة ، هل هى
هذه الحالة النفسانية المسماة فى لسان المتشرعة ، بالتشريع المنعقد عليه القلب قبل
بروزه فى عالم الخارج ، غاية ما فى الباب انه تشريع صادر من اهله فكان واجب
الاطاعة فى قبال التشريع المحرم الصادر من غير اهله او هى الارادة النفسانية؟
المختار هو الثانى والشاهد على ذلك هو الوجدان ولا ننكر تحقق معنى غير العلم
والارادة ، كما يظهر ذلك من كلمات القائلين بالاتحاد ، بل نقول به وانما ننكر ان
يكون ذلك موضوع حكم العقل بلزوم الاطاعة فكان المناسب للقائل بالاتحاد والعينية
نفى المعنى الثالث بهذا القيد لا مطلقا كما وقع من الماتن قده.
ثم انك بعد ما
عرفت من دوران الاطاعة مدار الارادة ، فأعلم ان
الارادة يستحيل
انبعاثها عن مصلحة قائمة بنفسها ، اذ مبادى الارادة من الاشتياق والمحبوبية لا
يتعقل حصولها من غير ملاحظة مصلحة فى المتعلق وبلا اعتبار خصوصية ملائمة مع احد
قواه داعية الى اشتياقه وسيلة اليه ، ومن المعلوم استحالة تعلق الارادة بشىء من
دون تحقق هذه المبادى بمحض مصلحة فى نفسها ، فلا بد وان يكون المصلحة حينئذ فى نفس
المراد الذى هو العمل ، كما انه يستحيل بلوغ الارادة الى مرتبة البعث والزجر ، الا
حيث تنتفى الموانع المانعة عن تحميل العبد بالتكليف ، ومن هذه الجهة قيل : ان
الاحكام الشرعية الطاف فى الاحكام العقلية ، لظهور ان التكليف البعثى الصادر من
المولى الحكيم لا يتحقق إلّا حيث يشتمل المأمور به على المصلحة ولم يكن ثمة ما
يمنع عن التكليف به اصلا ، وحينئذ يتوجه بهذا البيان اطلاق القضية المعروفة «كلما
حكم به الشرع حكم به العقل» من دون العكس لجواز ان يكون فى الشىء مصلحة يدركها
العقل ولكن يكون هناك مانع عن تعلق حكم الشرع به ، كما هو كذلك فى المسواك المصرح
به فى الخبر «لو لا ان أشقّ على امتى لامرتهم بالسواك.».
ومن هنا يتضح لك
الوجه فى منع الملازمة المدعاة بين حكمى العقل والشرع من الطرفين اذ لا دليل على
ان ما يحكم به العقل لا بد وان يحكم به الشرع ، لما عرفت من افتقار حكم الشارع الى
مصلحة غير مزاحمة فى الامر والمأمور به معا ، واقصى ما يتصور فى ادراك العقل انه
يرى المصلحة فى العمل نفسه ، ومجرد ذلك غير كاف فى استكشاف حكم الشرع.
نعم لا بأس بدعوى
الكلية من الجانب الآخر ، وهى كلما حكم به الشرع حكم به العقل اذ ما لم تتم الجهات
المصلحة للامر من حصول المصلحة فيه ومتعلقه لا يتوجه حكم من الشارع ، فيستكشف من
حكم
الشرع فى مورد
تمامية العلة فى تشريع الحكم وحصول المصلحة فى المأمور به اذا الامر مظهر الارادة
، ولا تتعلق الارادة بشىء الا حيث يكون مصلحة مقتضية لتعلق الامر به ، فيتحقق بذلك
موضوع حكم العقل.
هذا على المختار
من دوران تحتم الاطاعة مدار تحقق الارادة. واما بناء على القول الآخر فالملازمة
منتفية من الجانبين ، اذ عليه ربما يتحقق الحكم الشرعى عن مصلحة فى حكمه وبعثه نحو
الفعل من غير ان يكون هناك مصلحة فى الفعل نفسه ، واذا لم يكن مصلحة فى الفعل نفسه
لم يحكم العقل فيه بشىء ، فيحصل بذلك انفراد حكم الشرع عن حكم العقل وبطلت
الملازمة من الجانبين.
فتحصل من جميع ما
مر من الكلام ان مدار الطاعة على تحقق الارادة.
لا يقال : هذه
الارادة هل هى متحققة فى تكاليف الكفار والعصاة من غيرهم او غير متحققة؟ فإن كانت
متحققة وجب فيها تحقق المراد وامتنعت المخالفة ، لان ارادة الله سبحانه لا يتخلف
عن مراده كما نطقت به الآية الكريمة : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
وان كانت غير
متحققة جازت المخالفة منهم لانتفاء الارادة منه سبحانه وتعالى ، فما وجه استحقاقهم
للعقوبة بالمخالفة؟
لانه يقال : نختار
الشق الاول اعنى تحقق الارادة منه سبحانه فى تكاليفه ونمنع استحالة المخالفة فى
مثل هذه الارادة المسماة بالارادة التشريعية وانما المستحيل تخلفها عن المراد ،
وكانت مورد انطباق الآية الكريمة عليها هى الارادة التكوينية خاصة لا مطلق
الارادة.
__________________
وتوضيح الفرق بين
الارادتين وبيان السر فى اختلافهما يظهر بملاحظة جهات انعدام الشىء ، ضرورة ان
انعدام الشىء تارة يكون بعدم مقتضيه ، واخرى بوجود الموانع المانعة عن وجوده ،
وثالثة بفوات بعض مقدمات وجوده فاذا تعلقت ارادة المولى بوجوده من جميع الجهات
وكان قادرا مع ذلك على الايجاد فلا محيص من حصول ذلك الشىء عند تعلق ارادته بوجوده
، ولا يكاد يتخلف المراد عن ارادته وهذه هى الارادة التكوينية.
واما اذا تعلقت
ارادته بحفظ الوجود من قبل عدم المقتضى بمعنى انه اراد المولى احداث مقتضى الوجود
من قبل امره لكى يتحقق بذلك مورد حكم العقل بلزوم الموافقة ، امكن تخلف هذه
الارادة عن المراد بواسطة فوات بقية المقدمات او وجود المزاحمات ، بل فى هذا الشق
الثانى اذا تحقق المأمور به ، فقد تخلفت ارادته عن المراد وهذه الارادة هى المسماة
بالارادة التشريعية.
«الكلام فى صيغة
الامر»
«الفصل الثانى
فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث :»
الاول هل صيغة
الامر متحدة المعنى او متعددة؟ صريح الكفاية هو الاول والعلة كالاقوى وظاهر جمع هو
الثانى فجعلوها مشتركة بين معان ، وقد عد منها الترجى والتمنى والتهديد والإنذار
والإهانة والتسخير الى غير ذلك لكن الظاهر انها من الدواعى دون المعانى وعلى المختار
من كونها متحدة المعنى هل معناها انشاء الطلب كما اختاره فى الكفاية او غيره؟
الاقرب الثانى اذ الطلب الانشائى ان كان غير الارادة كان من مقوله الفعل ، وان كان
عينه كان من مقولة الكيف لكونه من
الكيفيات
النفسانية ، وعلى كلا التقديرين لا يصلح مثله ان يكون من المداليل ، اذ هى من قبيل
الحروف التى يعتبر فى مداليها ان تكون نحوا من الإضافة والارتباط لا معنى مرتبط
بغيره كما هو كذلك فى الطلب الانشائى ، فاذن لا محيص من الذهاب فى صيغة الامر الى
انها دالة على معنى نسبى يتحصل من الارسال والبعث نحو العمل ، فهذه النسبة
الارسالية والبعثية هى معنى صيغة الامر ، فكانت الصيغة بمادتها دالة على معنى
الحدثى وبهيئتها دالة على النسبة الارسالية فاين الطلب الانشائى؟
ثم ان هذه النسبة
الارسالية ليست بخارجها مدلولا للصيغة اذ الصيغة كسائر الالفاظ التى هى موضوعة على
التحقيق للمفاهيم الحاكية عما بازائها من الخارجيات ، لا للخارجيات نفسها وهى مع
ذلك تدل على الطلب بالالتزام ، اذ المفاهيم والصور الذهنية لما كانت متحدة مع
الخارجيات فى عالم اللحاظ يلزم انتقال الذهن من الارسال الخارجى الى الطلب الحقيقى
، لما بينهما من الملازمة الخارجية فالعالم بالملازمة لا بد له من الانتقال الى
اللازم عند تصور ملزومه ، ولكن الملازمة بين المعنيين انما هى بحسب التصور دون
التصديق ، بل يفتقر التصديق بتحقق الطلب الحقيقى الى مقدمات تدل على ان الامر فى
مقام الجد وبيان واقع الارادة ، دون الهزل والسخرية مثلا فإن علم من حال المتكلم
انه فى مقام بيان الارادة الحقيقة فبها ، وإلّا كان المرجع لدى الشك الى ظاهر حاله
الدال على انه فى مقام الارادة الحقيقة كما هو الاصل المعتمد عليه العقلاء واهل
اللسان فى محاوراتهم.
«فى ان الصيغة حقيقة فى الوجوب»
«المبحث الثانى فى
ان الصيغة حقيقة فى الوجوب او فى الندب او فيهما او فى المشترك بينهما؟ وجوه» بل
اقوال لا يبعد ظهورها فى الوجوب ، كما ربما يؤيد ذلك بما جرى عليه ديدن الاصحاب فى
الفقه فأنهم لا زالوا يحملون الامر على معنى الوجوب بلا توقف منهم.
ويؤيده ايضا ما
نشاهده فى محاورات العرف من عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال ارادة الندب مع
الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال او مقال ، وهل هذا الظهور يستند الى الوضع او
الاطلاق؟ كل محتمل ولا يهم الاصولى تنقيحه ، لانه يبحث عما هو متعلق باستنباط
الاحكام الفرعية والبحث عن منشإ الظهور ومستنده اجنبى عن ذلك.
نعم ربما يتوهم
الاحتياج اليه فى مقام احتمل فيه ان لا يكون المتكلم بصدد بيان تمام جهات المطلق
فحينئذ تظهر الثمرة بين البناء على استناد الظهور الى الوضع او الى الاطلاق ، فعلى
الاول لا اطلاق فى اللفظ بل هو ظاهر بالوضع فلا يبقى مجال لمراعاة قواعد المطلقات
وتشخيص حال المتكلم من انه فى مقام البيان او لا؟ بخلافه فى الثانى.
ولكنك خبير بأن
هذا المقدار من الفرق ايضا لا يجدى فرقا بين ملاحظة الاصل المؤسس فى المطلقات انها
تحمل على ورودها للبيان دون الاهمال ، فيجب البناء فى العمل على مقتضى ظهور اللفظ
وان لم يحرز فيه وروده للبيان عملا. والحاصل ان البحث فى تشخيص
المعنى الحقيقى
بعد احراز الظهور مما لا طائل تحته.
ان قلت : نمنع
الظهور كما فى المعالم لشيوع استعمال الصيغة فى معنى الندب فى الكتاب والسنة
وغيرهما.
قلت : ذلك «لا
يوجب نقلها اليه او حملها عليه لكثرة استعماله فى الوجوب ايضا.»
على ان المجاز
المشهور المبحوث عنه انه يترجح على الحقيقة او يتوقف فيه على الخلاف المسطور فى
بحث المجاز المشهور ، ليس مثل هذا المجاز الذى لم يتفق فى موارد استعمالاته فى
الندب الا مقرونا بقرينة معتمدا عليها ، فإن المجاز المشهور ما يكون الاعتماد فيه
على الشهرة ، ليس إلّا بواسطة انس الذهن وكمال ملائمته مع ارادة المعنى المجازى
وليست الصيغة هنا كذلك.
«فى ظهور الجمل
الخبرية فى الوجوب»
«المبحث الثالث
الجمل الخبرية التى تستعمل فى مقال الطلب والبعث مثل يغسل ويتوضأ ويعيد ...» هل هى
منسلخة عن معنى الاخبارى ومستعملة فى الطلب او انها بعد على معناها الاخبارى ،
ولكن الداعى فيها غير الاعلام بل هو البعث والطلب وانها فى مقام الاخبار بداعى
الاعلام بوقوع المخبر به ، لكن ذلك فى ظرف وجود العلة التى هى ارادته للعمل ، فكان
العمل عند المتكلم محقق الوقوع فى المستقبل لمكان وجود علته التشريعية التى هى
ارادة المولى؟ احتمالات
__________________
وكيف كان وهل
الطلب المستفاد منها على معناه الاعم من الوجوب والاستحباب ، او هو مختص بالوجوب
خاصة؟ لا يبعد ظهورها فى الطلب الوجوبى ، ولا يتأتى هنا احتمال استناد الظهور فيها
الى الوضع كما فى صيغة الامر اذ لا ريب فى وضع الجملة الخبرية للاخبار بل يتعين
استناده الى مقدمات الحكمة ، فإن الحكيم فى مقام الطلب اذا كان لا يبغض الترك ،
كان الواجب عليه التنبيه والاعلام بأن طلبه هذا لم يبلغ الى حد الكمال الذى يبغض
فيه ترك العمل ، فإن الندب مرتبة ناقصة من الطلب ، فمع عدم التنبيه والاعلام يحكم
العقل بأن الطلب قد وقع من المولى على وجه الكامل المساوق ذلك للحتم والوجوب.
تنبيه اختلف كلام
الماتن قده هنا وفى شرح التكملة فقد اختار هنا ما اخترناه من ظهور الجملة الخبرية
المستعملة فى مقام الطلب والبعث فى الوجوب ، واختار فى شرح التكملة خلاف ذلك حيث
قال : فى مستحبات الغسل يستحب فيه امور : احدها الاستبراء بالبول اذا كانت الجنابة
بالانزال لصحيح البزنطى سألت أبا عبد الله (ع) عن غسل الجبابة قال : تغسل يديك
وتبول ان قدرت على البول ثم تدخل يدك الاناء .
__________________
وجه الاستدلال به
انه لو لا ظهوره فى الاستحباب فلا اقل من عدم ظهوره فى الايجاب ، لعدم وضع الجملة
الخبرية له وكثرة استعمالها فى الاستحباب ايضا فيكون دليلا عليه ولو بضميمة
التسامح فى ادلة السنن ، انتهى كلامه رفع مقامه فتأمل.
«فى ان الاصل فى مورد
الشك هل التوصلية او التعبدية»
«المبحث الخامس :
ان اطلاق الصيغة هل يقتضى كون الوجوب توصليا فيجزى اتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد
القربة ،» او يقتضى التعبدية فلا يجزى اتيانه بغير قصد القربة ، او لا يقتضى شيئا
منها ، «فلا بد من الرجوع فيما شك فى تعبديته وتوصليته الى الاصل العملى؟»
«لا بد فى تحقيق
ذلك من تمهيد مقدمات :»
«تعريف التعبدى
والتوصلى»
«احدها : الوجوب
التوصلى هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ويسقط بمجرد وجوده» كما فى
غسل الثياب الغير المتوقف حصول طهارتها على نية التقرب وهذا «بخلاف التعبدى فان
الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بد فى سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا
به منه تعالى» كما انه لا بد فيما يتقرب
__________________
به من صلاحية
التقرب به الى الله تعالى ، فلو كان ثمة مانع من التقرب به الى الله من حيث العامل
او من حيث العمل ، لم يكد يجدى نية التقرب بذلك العمل ، فمن ثم بطلت عبادة الكافر
وان اشتملت عليه نية التقرب ، لان الكفر فى العامل مانع عن صلاحية التقرب بعمله
كما ان الجاهل بالحكم المقصر فى السؤال اذا صلى فى الدار المغصوبة ، كانت صلاته
باطلة وان اشتملت على نية التقرب لقصورها عن صلاحية التقرب بمانع الغصبية.
«فى معنى القربة»
ثانيها : ان
العبادة على ضربين ، اذ هى تارة يفتقر عباديتها الى قصد التقرب الى الله بداعى
امره او رجاء مثوبته ، او للفرار من عقوبته ، او كونه اهلا للعبادة ، واخرى لا
تفتقر الى ذلك بل تكون هى بنفسها عبادة بواسطة كونها نحوا من الخضوع والتذلل
للمولى ، كالسجود والتعفير بالوجه والخدين ، ولا يختص هذا النحو من العبادة بما
يكون محبوبا للمولى ، بل قد يكون مبغوضا له كما فى التكتف فى الصلاة فإن المبغوضية
فى مثله غير قادحة فى عباديته ، وان كانت قادحة فى مقربيته ، لاستحالة التقرب
بعبادة مبغوضة للمولى ، وان كان العمل بذاته مقتضيا للتقرب إلّا انه لا اثر
للمقتضى مع وجود المانع كما لا يخفى.
ثم ان المعتبر فى
العبادة لما كان هو القربة ، وكانت تتحقق بقصد الامتثال كما تتحقق برجاء المثوبة
والفرار من العقوبة ، فربما يتخيل من ذلك ان قصد الامتثال هو بعينه القربة
المعتبرة فى العبادة كما هو ظاهر كلام الماتن قده.
والذى يقرب فى
النظر ان القربة معنى متولد من قصد الامتثال وليست هى عينه بل هى متسببة عنه اذ لو
كانت القربة بمعنى قصد الامتثال فلم لا يجتزى بعبادة الجاهل المقصر اذا اتى
بالعبادة قاصدا بها الامتثال والموافقة للامر ، وكذا ما ذكروه فى بطلان عبادة
الكافر من تعليلهم البطلان بعدم صلاحية عمله للمقربية فإن ظاهره انحصار سبب المنع
عن انعقاد العمل صحيحا بعدم صلوحه للمقربية بسبب الكفر ، لا لفقد شرطية الايمان.
وربما يرشد الى
ذلك ما روى ان العامل لا ثواب فى عمله ، ما لم يعرف ولاية ولى الله وتكون اعماله
بدلالة ولى الله فإن التعبير بلسان لا ثواب فى عمله يشعر بقصور العمل
بالنسبة الى مرحلة القبول والمقربية ، لا من حيث فقده شرطية الايمان ، فهذا
واشباهه شاهد على ضعف القول بأن القربة المعتبرة فى العبادة «بمعنى الامتثال
والاتيان بالواجب بداعى امره.»
«فى اعتبار قصد
القربة فى المأمور به»
ثالثها : هل يمكن
اعتبارها بكل من المعنيين فى المأمور به شرعا او لا يمكن؟ قولان اقواهما الاول
لامكان تصور الشىء متعلقا للامر ، ثم يؤمر به ويبعث اليه مشروطا باتيانه مع التقرب
سواء كان
__________________
التقرب بالمعنى
الناشى عن اتيان العمل بداعى الامر ، كما اخترناه او كان هو نفس اتيان العمل بداعى
امره.
ان قلت : لا مجال
لاعتبار القربة فى متعلق الامر ، لاستلزامه الدور المحال وذلك لان القربة بمعنى
الامتثال بداعى الامر موقوفة على تحقق الامر سابقا ، اذ لو لم يكن امر يستحيل
اتيان العمل بداعى امره ، ولا ريب ان الامر موقوف على القربة ايضا لفرض اعتبارها
فى متعلقه فجاء الدور ، وهو جاء ايضا فى القربة بالمعنى الناشى عن دعوة الامر ، اذ
فرض انحصار سببها فى دعوة الامر.
قلت : القربة انما
تتوقف على صدور الامر خارجا ، لا تصورا لاستحالة التقرب بالعمل ما لم يكن مأمورا
به فعلا ، واما الامر بالعمل القربى فهو انما يتوقف على تصور الامر الداعى الى
العمل ، فاختلف طرفا التوقف وبطل الدور.
وربما يستشكل فيه
من وجه آخر اشار اليه فى الكفاية وهو انه «لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعى امرها
لعدم الامر بها فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعى الامر ولا يكاد يدعو
الامر الا الى ما تعلق به لا الى غيره» وببيان آخر ان دعوة الامر الخارجى موقوفة
على تعلقه بالعمل نفسه والمفروض انه تعلق بالعمل منضما الى القربة فكأن العمل
بنفسه خاليا عن امر فكيف يؤتى به بداعى امره؟
ويمكن الجواب عنه
بما افاده فى الكفاية بصورة الاعتراض قائلا : «ان قلت : نعم ولكن نفس الصلاة ايضا
صارت مأمورا بها بالامر بها مقيدة انتهى»
وقد يورد بما
اورده الماتن فى صورة الجواب قائلا : «ان ذات المقيد لا تكون مأمورا بها فإن الجزء
التحليلى العقلى لا يتصف
بالوجوب اصلا ،
فانه ليس إلّا وجودا واحدا واجبا بالوجوب النفسى كما ربما يأتى فى باب المقدمة
انتهى.»
وحاصله ان المقيد
هنا بلحاظ نفسه لا يعد إلا جزءا تحليليا لا خارجيا ، وما يقع فى حيز الامر هى
الاجزاء الخارجية التى يكون لكل جزء منها وجود منحاز بعضها عن بعض وليست الاجزاء
التحليلية كذلك.
هذا ولا يخفى ما
فيه اذ التفرقة بين الاجزاء التحليلية والخارجية بما ذكره غير ظاهر الوجه ، كيف
والكليات الطبيعية بأسرها متعلقة للاوامر مع انها متحدة مع التشخصات فى عالم
الخارج.
مضافا الى امكان
قيام المصلحة بشىء بسيط ذى حيثيّتين ويكون لكل منهما دخالة فى حصول المصلحة ، كما
جاز قيام المصلحة بالمركب الخارجى ويكون لكل واحد من اجزائها الخارجية دخالة فى
مصلحة المجموع واذا امكن قيام المصلحة بالمجموع ، استتبع ذلك تعلق الارادة
بالمجموع على وجه يكون جزء وحيثية منها واقعا فى حيز الارادة ، ويتعلق بكل منها
حصة من تلك الارادة المسماة بالارادة الضمنية ، فما المانع من قصد الامتثال بدعوة
هذا المقدار من الامر الضمنى المتعلق بالعمل المقيد بالقربة بناء على الشرطية ، او
المركب معها بناء على الجزئية؟
فإن قلت : دعوة
الامر الضمنى لا تكون الا بعد حصوله وهو لا يحصل إلّا بعد تمامية الاجزاء ، اذ مع
عدم لحوق بقية الاجزاء لم يكن فى البين امر حينئذ ، لفرض انتفاء الامر الاستقلالي
بهذا الجزء ، والامر الضمنى تبع تحقق الامر المنبسط على تمام الاجزاء ، فيفتقر
تحققه وحصوله على لحقوق بقية الاجزاء ، والمفروض ان الجزء الآخر لا يتحقق إلّا بعد
حصول الامر الضمنى للعمل ، اذ المفروض ان لا جزء
آخر الا التقرب
وهو يفتقر الى اتيان العمل بداعى امره فجاء الدور فى مرحلة الامتثال ، وهذا غير
الدور السابق اذ الاول يتعلق بمقام صدور الامر من المولى ، وهذا يتعلق بمقام
الامتثال.
قلت : لا نسلم
توقف داعوية الامر بالجزء على لحوق بقية الاجزاء ، بل انما يتوقف على العلم
بانطباق الواجب على المأتى به فى مقام الامتثال ، وهذا يستلزم العلم بلحوق بقية
الاجزاء ولا يتوقف على لحوق بقية الاجزاء ، فاذا كان يعلم بأنه يأتى بالقربة فله
الاتيان حينئذ بالعمل بداعى امره الضمنى الحاصل من تعلق الامر الاستقلالى بالعمل
المتقرب به ولا محذور فيه اصلا.
وان قلت : فى
تقريب الدور ، هكذا الامر الضمنى المتعلق بالعمل موقوف على الجزم بلحوق الجزء
الآخر الذى هو القربة ، والجزم بلحوق الجزء الآخر لا يتحقق إلّا مع الامر الضمنى
المتعلق بالعمل ، فيتوقف الامر الضمنى على نفسه.
قلت : الامر
الضمنى المتعلق بالعمل لا يتوقف على خصوص الجزم بلحوق الجزء الآخر ، بل على الجامع
بين هذا والجزم بوفاء العمل على المصلحة ، اذا اتى به بداعى امره.
فان قلت : وفائه
بالمصلحة لا يكون إلّا مع لحوق الجزء الآخر ، وحينئذ فيكون العلم بوفائه بالمصلحة
بعينه العلم بلحوق الجزء الآخر لا تغاير بينهما وحينئذ فيعود الدور.
قلت : هما
متغايران قطعا ضرورة ان العلم بأحد المتلازمين غير العلم بالآخر ، ومجرد تلازمهما
الخارجى غير قاض بالاتحاد كما لا يخفى. فلو سلم توقف الامر الضمنى على خصوص الجزم
بلحوق الجزء الآخر منعنا التوقف من الجانبين ، اذ الجزم بلحوق الجزء الآخر لا
يتوقف على تحقق الامر الضمنى بل يستلزمه ، وفرق بين بين
الاستلزام والتوقف
لا يقال : محذور
الدور من تقدم الشىء على نفسه متحقق هنا وان لم يكن دورا اصطلاحيا ، وذلك لانه اذا
كان الامر الاستقلالى قد تعلق بشىء ينحل بالتعمل العقلى على جزءين ، عمل وداعي
الامر فهناك امران ضمنيان تعلقا بكل واحد من هذين الجزءين التحليليين ، ومن
البديهى ان هذين الامرين الضمنيين فى رتبة واحدة ليس لاحدهما تقدم على الآخر ،
لكونهما معلولى علة واحدة التى هى الامر الاستقلالى ، واذا كان هذان الامران
الضمنيان فى رتبة واحدة ، فما يتقدم على احدهما لا بد وان يكون متقدما على الآخر ،
وحيث ان داعى الامر المقرون بالعمل جعل متعلقا لواحد من هذين الامرين الضمنيين
وموضوعا له ، فلا بد وان يكون له جهة تقدم طبعى على امره الضمنى المتعلق به ،
لتقدم الموضوع على حكمه طبعا واذا كان متقدما على امره الضمنى لزم من تلك تقدمه
على الامر الضمنى الآخر الذى فرض تعلقه بالعمل نفسه ، لتشارك الامرين فى الرتبة
فكان الامر الضمنى المتعلق بالعمل متأخرا عن داعى الامر ، والمفروض ان الامر
المتعلق بالعمل سبب لان يؤتى بالعمل بداعيه ، ضرورة استحالة وقوع العمل بداعى
الامر ما لم يكن ثمة امر متعلق بالعمل ، وحينئذ يجىء المحذور المشار اليه فى
السابق ، من تقدم الشىء على نفسه ، لان داعى الامر الذى هو التقرب مقدم على امره
الضمنى المتعلق به قطعا ، ومقتضى اتحاد الرتبة بين الامرين هو تقدمه على الامر
الضمنى الآخر المتعلق بالعمل ، واذا كان داعى الامر متقدما على الضمنى المتعلق
بالعمل ، كان مقدما على داعى الامر الذى سمعت انه مسبب عن الامر المتعلق بالعمل ،
فلزم من ذلك تقدم داعى الامر على نفسه ، وهو محال نشأ ذلك من اعتبار القربة فى
المامور به و
صيرورتها متعلقا
للامر فيكون اعتبارها فى المأمور به محالا ايضا.
لانه يقال : هذا
انما يتجه اذا لم يكن فرق وتغاير بين الداعوية فى الجانبين ، والفرق بينهما اوضح
من ان يخفى على المتأمل البصير ، لوضوح ان تأخر دعوة الامر المتعلق بالعمل انما هو
فى مقام الامتثال والوجود الخارجى ، اذ الامر ما لم يكن له وجود فى الخارج لا
يتفرع عليه الداعوية ولا يكون داعيا لاتيان العمل وهذا بخلاف الداعوية الواقعة
متعلقا للامر الضمنى الآخر فانها متقدمة على الامر بحسب التصور فإن الامر ما لم
يتصور الموضوع والمتعلق لا يتمكن من الامر به ، فصار داعى الامر بحسب التصور مقدما
على داعى الامر بحسب الخارج ، ولا بأس به بعد اختلاف المحل خارجا وذهنا.
فإن قلت : اى
فائدة فى الامر المتعلق بداعى الامر اذا لم يكن داعيا الى متعلقه؟
قلت : فائدة
اعلامك بأن الامر المتعلق بالعمل هو امر ضمنى لا استقلالى حتى يكون اذا اتيت
بالعمل تأتى به بداعى الامر الضمنى لا الاستقلالى.
ان قلت : ان كان
هذا غرض المولى فى امره ، لزم منه منافاة الغرض ، لان مثل هذا الامر اذا لوحظ بكلا
حيثيتيه لم يكن مستتبعا للعقوبة اذ هو من حيث تعلقه بالعمل توصلى لم يعتبر فيه
القربة ، ومن حيث تعلقه بالقربة ارشادى قصد به الاعلام والتنبيه ، على ان اللازم
فى مقام الامتثال قصد امتثال الامر الضمنى بالعمل دون الاستقلالى.
قلت : لا نسلم
الارشادية فيما يتعلق بالقربة فان مجرد كون الغرض الاعلام والتنبيه على اعتبار
ملاحظة الضمنية فى مقام الامتثال ، لا يستلزم الارشادية التى هى على خلاف ظاهر
الامر
الصادر من المولى
الواجب الاطاعة ، لامكان ان يكون ذلك الاعلام داعيا لصدور امر المولوى وهو يستتبع
العقوبة على مخالفته اذا تعلق بالعبادى.
وان قلت : الامر
الضمنى المتعلق بالقربة بمعنى داعى الامر كيف يصلح ان يكون داعيا الى متعلقه ، اذ
الامر حينئذ يكون داعيا على داعى الامر ولا معنى له.
قلت : قد تقرر فى
غير هذا الموضع ان داعى الداعى معنى متعقل وهو واقع فى الخارج فإن رجاء المثوبة
والفرار من العقوبة يدعو ان الى اتيان العمل بداعى امره فقد وقع داعى الامر مسببا
عنهما فكانا داعيين على حصول داعى الامر ، وهنا ايضا يكون الامر الضمنى المتعلق
بداعى الامر داعيا الى ان يؤتى بالعمل بداعى امره المتعلق به ضمنا
ان قلت : الامر
الضمنى المتعلق بذات العمل كاف فى دعوته الى العمل ، فلا حاجة معه الى التوصل الى
اتيانه بداعى امره ، الى توجه امر آخر ضمنى الى داعى الامر.
قلت : غير خفى ان
الامر المتعلق بالعمل اذا لم يقترن بامر آخر متعلق بداعى الامر ، فلربما كان ذلك منافيا
لغرض الامر ، اذ ربما يؤتى بالعمل بلا داعى الامر بل بداع نفسانى ، فيكون كسائر
التوصليات الواقعة فى حيز الامر ، فانه يجتزى بها اذا وقعت غير مقرونة بالقربة
وداعى الامر ، وحينئذ فلا مناص للمولى بعد محافظته على غرضه من تعليق امره بالعمل
القربى المنحل امرين ضمنيين.
ان قلت : اتيان
العمل بداعى الامر عبارة اخرى عن ارادته للعمل بدعوة الامر ، ولا شك ان الارادة
غير اختيارية وإلّا لافتقرت الى ارادة اخرى ، وهكذا حتى يتسلسل وهو محال ، واذا
كانت الارادة
غير اختيارية ،
امتنع تعلق الامر بها ، لان الامر انما يتعلق بالامور الاختيارية لا غيرها.
قلت : لا نسلم عدم
اختيارية الارادة ، ضرورة انه يمكن ان تنبعث عن مقدمات اختيارية بأن يتصور العاقبة
والفائدة المترتبة على ذلك العمل الذى لم يكن متعلق ارادته ، فاذا راى فيه فائدة
حسنة اراده واتى به ، واذا راى فيه مفسدة او مضرة اجتنبه وتحرز منه.
فان قلت : ان
المصلحة اذا كانت قائمة بالعمل بشرط صدوره عن داعى الامر ، فلا بد للمولى ان يلحظ
العمل او لا بما هو معلول للامر حتى يكون تحقق العمل فى عالم الخارج منبعثا عن ذلك
الامر الذى يريد ابرازه ، فهو بهذا النظر وهذا اللحاظ ينظر الى العمل معلولا للامر
ومتأخرا طبعا عن الامر ، واذا كان ملحوظا بهذا النحو يستحيل تعلق هذا الامر
الملحوظ بمثل هذا العمل ، لاستدعاء الامر بالشىء تقدم ذلك الشىء على حكمه الذى هو
الامر ، فلزم ان يكون شىء واحد متقدما على غيره فى الرتبة ومتأخرا عنه كذلك وهو
محال بلا اشكال ، فلا بد من تعدد الامر من جانب المولى ليكون احدهما موضوعا للآخر
فيأمر بالعمل او لا ساذجا من قيد القربة ، ثم يأمر ثانيا بإتيان ذاك العمل بداعى
الامر الاول ، فلا محيص من الالتزام بأمرين فى مقام الانشاء والبعث نحو العمل
بداعى الامر.
قلت : نعم لا يمكن
اندراج الامر الملحوظ داعيا على العمل فى الامر المتعلق بالعمل ، لما ذكرت من
اختلاف الرتبة ، إلّا انه يجوز الاقتناع بأمر واحد فى مقام البعث والداعوية
باعتبار تنقيح المناط للجزم بعدم مدخلية شخص الامر الآخر فى حصول الغرض والمصلحة
الباعثة على ذلك الامر ، وانما يحتاج الى امر آخر من حيث قصور البيان عن اداء
المقصود بما يشمل هذا الامر المتعلق بالعمل المقرون
بداعى الامر ،
فإذا كان مناط الامر الآخر متحققا فى هذا الامر الصادر ، جاز للحكيم الاكتفاء به
فى مقام الداعوية اتكالا على المناط الجارى فيه عقلا.
وبمثل هذا يتفصى
عن شبهة امتناع دليل شمول التصديق لخبر الواسطة فراجع محله.
فتلخص مما ذكرناه
انه يمكن اعتباره التقرب فى متعلق الامر ويترتب على ذلك جواز التمسك بالاطلاق
اللفظى لنفى اعتباره شرطا او شطرا ، كما يجوز التمسك باطلاق المقامى لنفى اعتباره
ايضا.
هذا كله اذا كان
اعتباره فى المأمور به بأمر واحد واما اذا كان بأمرين تعلق احدهما بذات الفعل
وثانيهما بإتيانه بداعى امره ، فمما ينبغى الجزم بصحته اذ لا محذور فيه اصلا كما
لا يخفى.
ان قلت : موافقة
الامر الاول ان لم يفتقر الى نية التقرب خرج المأمور به عن كونه عباديا وهو خلاف
المفروض ، وان افتقر اليها لغى الامر الثانى لقضاء العقل بلزوم مراعاة الفرض
واستيفائه وهو لا يكون إلّا باقتران العمل بنية التقرب.
قلت : هذا انما
يتجه لو علم عبادية المأمور به ، واما اذا لم يعلم ذلك وخلينا ونفس الامر الاول ،
اشكل الحال فى الحكم بعبادية المأمور به ، سيما واطلاق المقام قاض بالتوصلية بل
واطلاق اللفظ ايضا كما هو المختار عندنا خلافا للماتن ، ولا اقل من الرجوع الى
البراءة العقلية النافية لاعتبار امر زائد على ما هو الواقع فى حيز الامر ، فلا
مناص حينئذ للمولى الحكيم اذا كان من قصده مطلوبية الفعل بداعى التقرب ، من التوسل
الى اعلام العبد بذلك اتماما للحجة عليه وسدا لباب الاعتذار له فيأمره ثانيا بأن
يأتى بالعمل بداعى الامر
الاول.
«فى جريان اصالة
الاطلاق عند الشك فى اعتبار القربة»
وبالجملة لا بأس
باعتبار القربة فى المأمور به مطلقا سواء كان اداؤه بالامر الواحد او الامرين ،
وحينئذ اذا شك فى اعتبار القربة فى المطلوب وعدمه كان المرجع عندنا اصالة الاطلاق
، سواء بنى على ان اصالة الاطلاق اصلا وجوديا او عدميا مرجعه الى اصالة عدم
التقييد كما بنى عليه شيخنا الانصارى قده واما بناء على مختار الماتن الذاهب الى استحالة التقييد
وامتناع اعتبار داعى الامر فى المأمور به ، فلا يجوز الركون الى اصالة الاطلاق
إلّا اذا اعتبرت اصلا وجوديا متبعا فى مقام الشك والدوران بين الاطلاق وعدمه كما
هو الحق.
واما بناء على ما
اختاره شيخنا الانصارى ، من رجوع ذلك الى اصالة عدم التقييد لم يجز التمسك باصالة الاطلاق
لظهور ان مثل هذا الاصل لا يتأتى بناء على ذلك الا حيث يمكن التقييد وهو خلاف
المفروض
ولكنك قد عرفت ان
التحقيق اعتباره اصلا وجوديا لا عدميا ، فصح لنا التمسك باطلاق المادة ، على
التوصلية ضرورة ان التعبدية تقتضى ضيقا فى دائرة العمل المأمور به ، لانحصار دخالته
فى الغرض بوجه لا يشمل صورة فقد قيده لا على انه مقيد ، بل انه حصة خاصة تساوى
التقييد وذلك مناف لظاهر الاطلاق الواجب اتباعه بدليل بناء العقلاء.
__________________
«فى جريان البراءة عند الشك فى اعتبار القربة»
هذا كله الكلام
فيما يتعلق بالدليل الاجتهادى ، واما من حيث الدليل الفقاهتى والاصل العملى ، فهل
يرجع فيه الى اصالة الاشتغال او البراءة؟ فيه خلاف ينشأ من الخلاف المذكور فى
مسئلة الاقل والاكثر الارتباطيين ، فإن الاصحاب فى تلك المسألة على قولين ، قول
بالاشتغال وقول بالبراءة فمن قال فيها بالاشتغال قال به فى المقام ، ومن قال فيها
بالبراءة قال بها هنا ايضا.
وتفصيل ذلك ان
اعتبار القربة لما كان امرا وراء التكليف بنفس العمل ، كان التكليف بالعمل نفسه
امرا يقينيا لا شك ولا شبهة فيه ، وانما الشك فى اعتبار القربة زائدا على ذات
العمل ، فيدور الامر حينئذ بين الاقل والاكثر ، ويندرج فى تلك المسألة ، فمن ذهب
فيها الى الاشتغال استند الى العمل الاجمالى الدائر طرفاه بين الاقل والاكثر ،
فيلزم مراعاته باتيان الاكثر ومن ذهب فيها الى البراءة نظر الى انحلال العلم
الاجمالى الى العلم التفصيلى بالاقل ، والشك البدوى فى الاكثر ، وبنى فى المشكوك
على البراءة.
والحاصل ان مرجع
الخلاف فى المقام الى المسألة المعروفة فى الشك بين الاقل والاكثر الارتباطيين
وانها من قبيل الشك فى التكليف او المكلف به.
ان قلت : فرق بين
المقام ومسئلة الاقل والاكثر الارتباطيين «اذ لا مجال هاهنا الا لاصالة الاشتغال
ولو قيل باصالة البراءة فيما اذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، وذلك
لان الشك هاهنا
فى الخروج عن عهدة
التكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها فلا يكون العقاب مع الشك وعدم
احراز الخروج عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ، ضرورة انه بالعلم
بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتفق عدم الخروج
عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة.»
قلت : يرد عليه
اولا ان هذا الوجه من التقريب ان تم لم يكن له اختصاص بالمقام ، بل كان جاريا فى
مسئلة الاقل والاكثر الارتباطيين ايضا ، وذلك لان الاقل بعد ان كان معلوم الوجوب
وكان اليقين بالخروج عن عهدة التكليف به منحصرا فى اتيان الاكثر ، وجب فيه
الاحتياط بإتيان الاكثر والى هذا الوجه استند صاحب الفصول قده فى الحكم بالاشتغال
فى تلك المسألة.
وبالجملة لا يجتمع
الركون الى هذا الوجه هنا فى القول بالاشتغال مع القول بالبراءة ثمة فالتفصيل بين
المقامين غير سديد.
نعم يمكن التفصيل
بينهما لو كان مستند الاشتغال ثمة هو العلم الاجمالى المردد طرفاه بين الاقل
والاكثر ، اذ يمكن دعوى الانحلال فيه الى معلوم تفصيلى بالتكليف بالاقل ، وشك بدوى
فى التكليف بالاكثر ، فيرجع فيه الى البراءة وهذا الانحلال لا يتأتى هنا ، للعلم
بانتفاء التكليف عن الاكثر بناء على استحالة اعتبار القربة فى المأمور به ، فلا
مجال فيها الا الاشتغال بملاحظة احتمال اعتبارها فى طريق الامتثال الذى يحكم العقل
فيه بلزوم مراعاته بتحصيل اليقين بالفراغ عنه بمراعاة احتمال التكليف بالاكثر ،
إلّا ان هذا فى الحقيقة راجع الى الوجه الاول الذى قد عرفت اقتضائه الاشتغال فى
المقامين ،
__________________
لظهور ان العقل لا
يحكم بتحصيل اليقين بالفراغ عن التكليف الذى يحتمل اشتغال الذمة به ، بل عن
التكليف المعلوم ، والمفروض انه لا تكليف معلوم عندنا الا التكليف المتعلق بالاقل
وهو جار فى المقامين فالتفرقة بينهما غير مستقيمة.
وثانيا ان الشك فى
الاطاعة تارة ينشأ من الشك فى اتصاف الشىء بالواجبية ، واخرى من الشك فى اتيان
المعلوم اتصافه بالوجوب ، وهم العقل فى مسئلة قاعدة الاشتغال ليس إلّا تحصيل
المشكوك على النحو الثانى دون الاول ، ومسئلة الاقل والاكثر فى مقامنا هذا وفيما
يأتى ليس إلّا من قبيل الاول الذى لا تجرى فيه قاعدة الاشتغال ، فانه اذا اقتصر
على الاقل كان شاكا فى اتيانه بالواجب ، إلّا ان شكه ذلك ناش عن الشك فى اتصاف
المأتى به بصفة الوجوب لا عن الشك فى وجود الواجب المعلوم ، وما هذا شأنه لا يجرى
فيه قاعدة الاشتغال ، وتتمة الكلام يأتى إن شاء الله تعالى فى محلها.
هذا كله فى الكلام
فيما يتعلق بالبراءة العقلية ، واما البراءة النقلية ففى جريانها وعدمه خلاف ،
منشؤه الخلاف فى ان العلم الاجمالى هل هو علة تامة للتنجز او هو مقتض؟ فبناء على
الاول لا يجوز الترخيص فيه على الخلاف لانه ترخيص فى المعصية ، بخلافه على الثانى
اذ لا مانع منه الا شبهة تعارض الاصلين وهى ساقطة فى صورة الشك الدائر طرفاه بين
الاقل والاكثر ، اذ لا معارض للاصل الجارى فى طرف الاكثر بجريانه فى طرف الاقل لان
الاقل معلوم التكليف ، فلا يجرى الاصل فيه حتى يكون معارضا للاصل الجارى فى طرف
الاكثر.
ان قلت : كيف تجرى
البراءة هنا وهى انما تنفى التكليف ولا تكليف بالاكثر حسب الفرض ، لاستحالة البعث
نحو القربة مولويا لانه لغو يقبح صدوره عن الحكيم ، اذ الكلام مبنى على احتمال
اعتبار
القربة فى طريق
الامتثال الذى يحكم العقل فيه بالاشتغال ، واذا حكم العقل بالاشتغال لم يبق ثمة
مجال لحكم الشرع به مولويا ، فلا تكليف محتملا فى البين حتى ينفى ذلك بالبراءة.
قلت : ليس من شأن
البراءة نقليها وعقليها الا رفع استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المحتمل وهنا
كذلك اذ بلوغ التكليف الى مرتبة الفعلية المانعة عن مخالفته من ناحية تفويت القربة
، غير معلوم ، وانما هو محتمل مرفوع بالبراءة.
نعم لا يجوز
تفويته بترك الاقل رأسا لانه معلوم التنجز والفعلية من هذا الوجه قطعا. هذا بناء
على القول بامتناع تعلق الامر بالقربة بمعنى داعى الامر ، واما بناء على التحقيق
الذى قلناه من جواز تعلقه بها مولويا فلا اشكال فى صحة جريان البراءة عن محتمل
التكليف.
«الامر المطلق يحمل
على النفسى والعينى والتعيينى»
«المبحث السادس :
قضية اطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا عينيا يقينيا لكون كل واحد مما يقابلها يكون
فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته ، فاذا كان فى مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه
فالحكمة تقتضى كونه مطلقا ، وجب هناك شىء آخر او لا ، اتى بشىء آخر او لا ، اتى به
آخر او لا كما هو واضح ...» كوضوح الثمرة فيما بين كل واحد من الوجوه الثلاثة وبين
ما يقابلها من الغيرية ، والكفائية ، والتخييرية ، إلّا انه ربما يشكل الحال فيما
لا يقبل التكرار كالدفن مثلا لو شك فيه انه من قبيل الواجب الكفائى او العينى فانه
ربما يقال : لا ثمرة فيما بينهما لظهور ان الدفن اذا تحقق سقط التكليف ، ولا يبقى
مجال للامتثال من غير فرق بين العينية والكفائية ، فلو ورد
امر بالدفن وشك فى
انه عينى على جميع المكلفين او هو كفائى يسقط بقيام البعض ، كان حال الاول كالثانى
فى سقوط التكليف فيه بقيام البعض لارتفاع موضوع التكليف ، فلا يبقى مجال لامتثاله
على كلا الوجهين.
قلت : يمكن الفرق
بينهما بأنه على العينية يجب الاقدام والتحرك نحو الامتثال فى صورة احتمال قيام
الغير بالدفن ، لانه من قبيل الشك فى القدرة على الامتثال ، وهو مما يحكم العقل
فيه بلزوم مراعاته مهما امكن حتى يتبين العجز عنه ، وهذا بخلافه على الثانى لانه
من قبيل الشك فى التكليف اذ المفروض انه على الكفائية لا تكليف عليه الا مشروطا
بعدم قيام الغير بالمأمور به ، وهو شاك فى حصول الشرط المستلزم ذلك للشك فى
المشروط المنفى بالبراءة.
فظهر الفرق بين
العينية والكفائية فى هذا الصورة لكن ذلك انما يتجه حيث لا يكون فى البين اصل
موضوعى يقضى بعدم قيام الغير بالدفن وإلّا فلا فرق بينهما.
«فى الامر الواقع
عقيب الحظر»
المبحث السابع :
هل الامر الواقع عقيب الحظر او فى مقام توهمه باق على ظهوره فى الوجوب او هو ظاهر
فى الاباحة او هو مجمل غير ظاهر فى شىء من المعنيين؟ فيه خلاف اقربهما الاخير عند
شيخنا الاستاذ دام ظله ، وصاحب الكفاية.
ولا يبعد ظهوره فى
المعنى الثانى بشهادة التبادر العرفى ، وعلى القول بالاجمال يكون ذلك من باب
اقتران الكلام بما يصلح للقرينية على ارادة خلاف الظاهر ولم يجز التمسك به. إلّا
ان يقال : باعتبار
اصالة الحقيقة
تعبدا حتى فيما اذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه فى معناه الحقيقى كما عن
بعض الفحول.
ثم اعلم ان النهى
اما ان يكون تشريعيا او تحريميا كما هما محتملان فى حرمة عبادة الحائض ، فإن كان
النهى تشريعيا ثم استخلفه الامر فلا مجال حينئذ للاباحة اصلا ضرورة لزوم الرجحان
فى العبادة. نعم غاية الامر يلائم مع الاستحباب والوجوب.
واما لو كان النهى
تحريميا فهو يلائم مع جميع الاقوال ما لم يكن النهى عن العبادة ، ضرورة عدم
معقولية الإباحة فى العبادة ، وتظهر الثمرة بين الاقوال فى الفقه فى موارد متعددة
:
منها : ما يدل على
الامر بالقراءة فى الصلاة ، ثم النهى عن القراءة فى الجماعة ، ثم الامر بها فيها
لو لم تسمع الهمهمة. وموارد ظهور الثمرة كثيرة جدا فراجع وتأمل.
«فى المرة والتكرار»
المبحث الثامن :
هل الامر يدل على المرة ، او التكرار او لا يدل على شىء منهما ، بل لا دلالة فيه
الا على طلب الطبيعة؟ والمختار هو الاخير وفاقا للماتن وجماعة من المحققين وقبل
الخوض فى تحقيق الحق فى المسألة ينبغى تمهيد مقدمات :
الاولى : هل
المراد بالمرة او التكرار الدفعة والدفعات ، او
__________________
الفرد والافراد؟
احتمالان إلّا ان الظاهر من كلماتهم هو الاول.
الثانية : ربما
يتخيل اتحاد الخلاف هنا مع الخلاف المعروف فى تعلق الاوامر بالطبائع او الافراد ،
بناء على تفسير المرة والتكرار بالفرد والافراد ، ولكن ذلك خيال فاسد ، اذ المقصود
من الفرد والافراد على القول به فى هذا المقام ليس إلّا صرف الوجود الواحد
والوجودات المتعددة ، فى قبال القول الآخر المبتنى على تعلق الامر بالطبيعة ، وهذا
بخلاف البحث الآتي فى مسئلة تعلق الاوامر بالطبائع او الافراد اذ المنظور اليه
هناك هو خصوصية الفرد والافراد.
وتظهر الثمرة فيمن
قصد الامتثال بخصوصية الفرد فعلى المرة تكون الخصوصية خارجة عن المطلوب غير داخلة
فيه فقصد الامتثال فيها تشريع محرم ، بخلافه على القول بتعلق الامر بالفرد فان
الخصوصية حينئذ تكون مطلوبة ولا يكون قصد الامتثال فيها من التشريع المحرم.
الثالثة : هل
التكرار عند القائل به يراد به على نحو الارتباط الذى يتوقف الامتثال فيه على
الحاق بقية الافراد او الدفعات فلو اقتصر على فرد واحد او دفعة واحدة كان عاصيا
محضا غير ممتثل بالمرة ، او يراد به على نحو الاستقلال الذى يعد المقتصر فيه على
المرة مطيعا فيما اتى به وعاصيا فيما لم يأت به؟ احتمالان واذ قد عرفت ما تلوناه
عليك من المقدمات الثلث ، فنقول : مما يدل على المختار التبادر العرفى المحكم فى
باب الالفاظ فانه اذا قال المولى لعبده اضرب لا ينسبق منه المرة ولا التكرار ولا
يستفاد منه الا طلب طبيعة الضرب ، وما تراه من الاكتفاء بالمرة فى مقام الامتثال
فانما هو لحصول الامتثال بها فى الامر بالطبيعة كما لا يخفى.
ويمكن الاستدلال
للمختار ايضا بما فى الفصول : من انحلال صيغة الامر الى هيئة ومادة ولا دلالة فى
الهيئة الا على الطلب واما
المادة لو كان
فيها دلالة على مرة او تكرار لكان فى المصدر دلالة على احدهما ، ولا ريب ان
الاتفاق واقع على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلّا على الماهية على
ما حكاه السكاكى ، ولا يرد عليه ما فى الكتاب من ان كون المصدر كذلك لا يوجب
الاتفاق ، على ان مادة الصيغة لا تدل الا على الماهية ، ضرورة ان المصدر ليس مادة
لسائر المشتقات ، بل هو صيغة مثلها ، كيف وقد عرفت فى باب المشتق مباينة المصدر
وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فكيف بمعناه يكون مادة لها ، فعليه لا يمكن دعوى
اعتبار المرة او التكرار فى مادتها كما لا يخفى انتهى.
والوجه فى عدم
وروده ان المقصود من الاستشهاد بالمصدر استكشاف حال المادة المأخوذة فى ضمن الصيغة
، فانه لو كانت المرة او التكرار من معانى المادة المشتركة فى جميع الصيغ لما تخلف
ذلك فى المصدر ، فان ما يكون معنى للقدر المشترك بين جميع الصيغ ، لا يجوز تخلفه
فى واحد منها ، فلو تخلف فى بعضها كشف ذلك عن عدم كونه معنى لذلك القدر المشترك ،
فمن تخلف مثل هذه الدلالة فى المصدر يستدل على ان المرة والتكرار ليسا مدلولين ،
كما انهما ليسا مدلولين للصيغة ، فلا وقع حينئذ لما ذكر من الايراد.
ان قلت : لا وجه
لتخصيص مورد التخلف بالمصدر بل يشاركه الماضى والمضارع ، فإن ضرب ويضرب لا دلالة
فيهما على الاخبار بوقوع الضرب فيما مضى وفيما يأتى مرة واحدة ، فلو كان المقصود
من ذكر المصدر بيان مورد التخلف لما حسن الاختصار فى ذلك على خصوص المصدر.
__________________
قلت : ليس من
المستبعد عن القائل بدلالة صيغة الامر على المرة الذهاب الى دلالتهما عليها فى
الاخبار بوقوع الضرب كما يقتضيه استدلاله لمختاره فى صيغة الامر حيث انه استدل
للقول بالمرة بأن الصيغة لو لم يكن دالة على المرة لما اجتزى بالمرة الواحدة فى
مقام الامتثال ، فالاجتزاء بها دليل على دلالة صيغة الامر على المرة.
وبمثل هذا التقريب
يجرى الكلام فى صيغة الماضى والمضارع لصحة الاخبار عما مضى وما يأتى بوقوع الضرب
وان كان الواقع من الضرب مرة واحدة فيكون ذلك دلالة على المرة الواحدة فى مقام
الاخبار ، لكن لا تجرى مثل هذا الكلام فى المصدر ، لما سمعت من الاتفاق المعتضد
بالفهم العرفى على تمحضه للدلالة على الحدث خاصة ، فكان المصدر على هذا اظهر موارد
التخلف واولى من غيره بأن يتخذ شاهد الخلوص المادة عن الجهة الزائدة عن دلالتها
على الحدث ، ويصح الاستدلال به على المختار من غير ان يرد عليه ايراد الكتاب.
نعم يتجه ذلك
الايراد بناء على وحدة الوضع للمجموع المؤتلف من الهيئة والمادة فى المشتقات حتى
يكون وضعها وضعا عاما مع وحدة الموضوع ، ولعل ذلك الايراد الذى اورده الماتن قده
مبنى على ذلك القول كما هو مختار المصنف قده ، إلّا ان التحقيق خلافه وقد عرفت فى
بحث المشتق بما لا مزيد عليه ، ان للمشتق وضعين يتعلق احدهما بالهيئة والآخر
بالمادة فاذا لم تجد للهيئة فى نفسها دلالة الا على الطلب كما ان المادة لا دلالة
فيها الا على الحدث بشهادة التخلف فى المصدر ، كان ذلك برهانا جزميا على ان صيغة
الامر متمحضة للدلالة على طلب الطبيعة ، واذا كانت دالة على طلب الطبيعة فهل
الاقتصار فى مقام الامتثال على المرة او لا بد من التكرار؟ ظاهر القوم هو الاول
وهو مبنى على ان مدلول المطلق هو الحصة الشائعة فى افرادها على
سبيل التبادل كما
هو مختار المشهور فى بحث المطلق والمقيد فانه بناء على ذلك يتجه الاجتزاء بالمرة
لانطباق الطبيعة المطلوبة حينئذ على اول الوجود ، واما بناء على التحقيق الذى
اختاره سلطان المحققين ، من ان المطلق موضوع للماهية المهلة التى تقبل الانطباق
على القليل والكثير ، فلا يكون فيها حينئذ دلالة على الاجتزاء بالمرة كما كان ذلك
بناء على مذهب المشهور ، فيحتاج فى الاجتزاء بها الى الاستعانة بمقدمات الحكمة ،
وهى كما تجرى فى المتعلق الذى هو المادة ، كذلك تجرى فى الطلب الذى هو مدلول
الهيئة ، ومقتضى جريانها فى كل منهما التعاكس ، اذ هى ان جرت فى المتعلق دلت على
جواز الاقتصار بالمرة ، وان جرت فى الطلب دلت على التكرار ، اذ المرة تحديد لدائرة
الطلب يفتقر الى بيان من الحكيم ولا بيان.
وهذا بخلاف
جريانها فى المادة المتعلق بها الطلب ، اذ الماهية بما هى هى صالحة للانطباق على
اول الوجود وصادقة عليه فيجتزى بالمرة الواحدة فى انطباق المطلوب عليها ، فجاء
التنافى من ملاحظة اقتضاء القرينة العقلية الجارية فى جانبى الطلب والمطلوب.
فينقدح من ذلك
الاشكال فى كلامهم بأن القول بمطلوبية الطبيعة ، يقتضى الاجتزاء بالمرة ، بل
الاجمال الناشى من قضية تعاكس مقدمات الحكمة الجارية فى كل واحد من مدلولى الهيئة
والمادة يقتضى بالتوقف بالنظر الى الدليل الاجتهادى لا الجزم بمراعاة اطلاق المادة
، كما يقتضيه كلامهم هذا.
وربما يوجه كلامهم
ذلك بأن مراعاة اطلاق المادة ، اولى بالتقديم من جانب الهيئة ، اذ المادة فى
المعنى موضوع للحكم الطلبى وهو مقدم على حكمه طبعا ، فيختص جريان المقدمات فى
الموضوع نفسه قبل الحكم.
وفيه ان الموضوع
انما يقدم على حكمه فى مرحلة الثبوت دون الاثبات خاصة وهما فى هذه المرحلة على حد
سواء نسبة مقدمات الحكمة اليهما على السوية ، لا فرق فيها بالنسبة الى الحكم
وموضوعة ، بل قد يكون مراعاة الاطلاق فى جانب الحكم اولى بالتقديم من حيث انه علة
لحصول المطلوب فى عالم الخارج فيكون الطلب على هذا مقدما على متعلقه وموضوعه خارجا
، ومن ثم تراهم يعتبرون الاطلاق فى النهى بالنسبة الى جانب الطلب دون المطلوب ،
فيحكمون من اجل ذلك بدلالته على الاستمرار والدوام فانه لو لا اعتبار مقدمات
الحكمة فى جانب الطلب ، لكان يكفى فى سقوط النهى عصيانه بالمرة الاولى ولا يلزمه
العصيان لو خالف النهى مرة ثانية وثالثة وهكذا ، والتالى باطل بالضرورة.
والاولى فى بيان
الفارق بين الامر والنهى ان يقال : ان ارتكاز الذهن لما كان على إباء هذه الشريعة
عن التكليف الحرجى ، وكان فى تكرار الافعال والمداولة عليها حرج غالبا ، بخلاف
التروك صار ذلك مانعا عن مراعاة التقديم فى جانب الطلب الالزامى بالفعل دون الترك
، وهذا هو السر في الفرق بين الامر والنهى ، وان شئت قلت مقتضى الترتيب الطبيعى ،
ان يقدم الاطلاق الملحوظ بالنسبة الى جانب الطلب على الاطلاق الملحوظ ما لم يمنع
عن تقديمه ، مانع وقد حصل المانع فى جانب الامر بالحرج فى التزام المداومة على
تكرار الفعل فتأمل.
«فى ثمرة المسألة»
بقى الكلام : فى
ثمرة المسألة وهى لا تكاد تخفى على المتأمل لوضوح الفرق بين القول بالطبيعة
والتكرار فى الاجتزاء بالمرة الواحدة على الاول دون الثانى ، وبينه وبين القول
بالمرة فيما لو اريد منها الفرد واتى بالافراد دفعة ، فانه بناء على القول
بالطبيعة يقع الافراد بأسرها امتثالا واحدا لانطباق الطبيعة على الجميع دفعة واحدة
وهذا بخلافه على القول بالمرة فإن الامتثال انما يتحقق بواحد من تلك الافراد واما
لو اريد من المرة الدفعة ، فربما يشكل الفرق بين القول بالطبيعة والمرة فى مقام
الامتثال ، وقد تظهر الثمرة بينهما على القول بجواز الامتثال عقيب الامتثال فى
الدفعة الثانية ، فإن الامتثال يتكرر على القول بالطبيعة دون القول بالمرة.
ثم انه ربما تزيل
هذه المسألة بمسألة اخرى اختلف فيها كلمات القوم وهى مسئلة تعليق الامر بالشرط فهل
يستفاد منه التكرار عند تكرر الشرط او لا يستفاد؟ والاولى الحاق هذه المسألة
بالمفاهيم الشرطية لان القول بالتكرار فيها انما هو ناش عن استفادة تعليق الجزء
بالشرط بنحو الطبيعة السارية ، لا من حيث نفس الامر كما ان القول بعدمه ناش عن
استفادة التعليق بحدوث الشرط وحصوله اول مرة.
«فى الفور والتراخى»
«المبحث التاسع
الحق انه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخى ، نعم قضية اطلاقها جواز
التراخى والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما
، فلا بد فى التقييد من دلالة اخرى.»
بل ربما تكون
مقدمات الحكمة هنا اولى بالدلالة على الاطلاق من المسألة السابقة ، لما عرفت آنفا
من وجود المانع المزاحم للاطلاق فى جانب المادة ، بجريان المقدمات فى جانب الطلب
ايضا ، وانما رفعنا اليد عنها فى جانب الطلب بواسطة ارتكازية الذهن من مانعية
العسر والحرج عن توجه التكليف الالزامى نحو الافعال ، فكان ذلك مانعا عن فهم
الاطلاق فى جانب الطلب ، ومثل هذا لا ينافى فى المقام ، لعدم اقتضاء مقدمات الحكمة
هنا جريانها فى جانب الطلب ، فلا مقتضى من طرف الطلب للدلالة على الفورية ولا على
التراخى ، فيبقى اطلاق المادة بحاله من اقتضائه التوسعة فى مقام الامتثال فورا او
تراخيا ، وهذا هو عمدة الوجه فى القول المختار من ان الصيغة بنفسها لا تدل على فور
ولا تراخ.
وقد يستدل للمختار
بوجه آخر لا يخلو عن ضعف وحاصله ان الامر لو دل على الفورية ، لكان فيه دلالة على
الزمان الحالى وقد تقرر فى باب المشتق تجرد الصيغ المشتقة عن الدلالة على الزمان.
ويضعفه ان الفورية
عبارة اخرى عن المسارعة والتعجيل وهو غير الزمان الحالى بحسب الوجود وفرق بين كون
ذلك معنى للفورية وبين كونه ملازما لها.
«فيما استدل به للفورية»
وقد يستدل للفورية
بوجهين : احدهما بالدليل العقلى وهو يبتنى على انكار الواجب المعلق بما بين وجهه
فى مقدمة الواجب.
وحاصل ما ذكر فى
وجه انكاره ان الطلب ناش عن الارادة الفعلية الباعثة لتحريك العضلات نحو المراد
والمطلوب ، وتلك الارادة فى التكوينيات لا تفتقر الى توسيط ارادة الغير فى حصول
المراد ، بل المريد بنفسه يتكفل القيام بتحصيله من غير توسيط واستعانة بإرادة
الغير وفى الارادة التشريعية تفتقر الى الاستعانة بارادة الغير وتصير ارادة الغير
كالآلة فى تحقق المراد ، واذا كانت الارادة فعلية فلا بد وان يكون كل ما يترتب
عليها فعليا بفعلية تلك الارادة ، فلا بد حينئذ من استتباع الطلب فى عالم تحققه
لتحقق المطلوب ولا يكاد يتخلف عنه ولازم ذلك الفورية وسيأتى ما فيه فى محله إن شاء
الله تعالى.
ثانيها : بالدليل
النقلى وهو آيتا المسارعة والاستباق بتقريب ان الامر بظاهره يدل على الوجوب ومقتضى ذلك حينئذ
وجوب المسارعة الى الخيرات واسباب المغفرة.
وتوهم ان المسارعة
الى مثل ذلك مما يحكم بحسنه العقل ولا يبقى مجال المولوية فى الامر ، فلا بد حينئذ
من حمله على الارشاد وهو
__________________
يوجب سقوط
الاستدلال بالآيتين.
مدفوع بأن القدر
الذى يحكم العقل فيه بالحسن ليس هو مفاد الامر ، بل الامر دال على الحتم والالزام
الذى يقصر العقل عن ادراكه ، فلا مانع حينئذ من اعمال جهة المولوية فيه.
والجواب عن هذا
الوجه ان سوق الآيتين مساق الترغيب دون الحتم والالزام ، وكان مثل ذلك كالقرينة
الحافة بالكلام المانعة عن ظهور الامر فى ارادة معنى الوجوب.
«حول الاجزاء»
«الفصل الثالث
الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء فى الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض فى
تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغى تقديم امور :»
«فى مقدمات المسألة»
احدهما : هل
المراد من وجهه فى العنوان بيان المأمور به نفسه بعنوانه الاولى ، او بعنوانه
الثانوى الذى يلحقه بسبب تعلق الامر به ويصير من اجله متصفا بوصف المأمور به ، او
ان المراد منه النهج الذى ينبغى ان يؤتى به بقصد التقرب فى العبادة؟ احتمالات
استظهر الماتن منها الاخير لما يرد على الاحتمالين الاولين من الاشكال باستلزام
اعتبار التقييد بالوجه توضيحيا وهو خلاف الظاهر ، وتوضيحه ان على الاحتمال الاول
يكون المراد من الوجه عين المأمور به ، فكان التعبير بالمأمور به يغنى عن التقييد
بهذا القيد ، وهكذا على الاحتمال الثانى ،
بل مقتضاه الاجزاء
حتى مع خلو العمل عن التقرب بناء على عدم اعتبار القربة فى المأمور به ، وهو لا
يتم فى العبادات المفتقرة الى نية القربة.
نعم بناء على ان
المأمور به حصة من الطبيعة تكون توأما مع التقييد لا يرد الاشكال الاخير الذى
ذكرناه من اقتضاء العنوان الاجزاء حتى مع تجرد العبادة عن نية القربة ، لعدم
انفكاك المأمور به حينئذ عن الاقتران بالقرنية ، فلم يبق عليه الا اشكال اخذ القيد
توضيحيا الذى هو خلاف ظاهر التقييد ، فتعين الاحتمال الاخير الثالث.
ولا يجوز ان يراد
بهذا القيد الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب ، فانه مع عدم اعتباره عند المعظم وعدم
اعتباره عند من اعتبره الا فى خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ، لا وجه لاختصاصه
بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه
من الاحتمال الثالث كما لا يخفى.
ثانيها : ان
المراد من الاقتضاء فى المقام على الظاهر هو الاقتضاء بنحو العلية والتأثير الراجع
ذلك الى مرحلة الثبوت دون الاثبات.
ثالثها : ان
الاجزاء يراد به معناه اللغوى الذى هو الكفاية ، ويكون اختلافها من حيث سقوط التعبد
بالمأمور به ثانيا ، او سقوط القضاء ، اختلافا فيما يكتفى عنه لا اختلافا فى معنى
الاجزاء.
رابعها : ان الفرق
بين هذه المسألة ، ومسئلة المرة والتكرار مما لا يكاد يخفى لما عرفت فى المقدمة
الثانية من ان البحث هنا راجع الى مرحلة الثبوت دون الاثبات ، وهذا بخلاف مسئلة
المرة والتكرار فإن البحث فيها راجع الى مرحلة الاثبات دون الثبوت ، فكان البحث فى
مسئلة المرة والتكرار مآله الى تنقيح الصغرى للبحث فى هذه المسألة ، فانه بحسب
الترتيب الطبيعى يبحث اولا فى حال الصيغة ومقدار ما تدل عليه من المرة والتكرار ،
فاذا تنقح مدلولها واستفيد منها مراد
المتكلم وانه اراد
المرة او التكرار ، اتجه البحث حينئذ فى الاجزاء وعدمه ، كما انه يظهر من ذلك
الفرق بين هذه المسألة ومسئلة تبعية القضاء للاداء ، اذ المبحوث عنه هنا فى اعادة
المأمور به بعد اتيانه اولا وهذا بخلافه فى المسألة الاخرى فإن المبحوث عنه فيها
هو اتيانه بعد فواته فى وقته.
اذا عرفت هذه
الامور فتحقيق المقام يستدعى البحث والكلام فى موضعين :
«الاتيان بالمأمور به
دليل على الاجزاء»
«الاول : ان
الاتيان بالمامور به بالامر الواقعى بل بالامر الاضطرارى او الظاهرى ايضا يجزى عن
التعبد به ثانيا لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به
على وجهه لاقتضاء التعبد به ثانيا» من غير فرق فى ذلك بين ان يكون الاتيان
بالمامور به علة تامة لحصول الغرض او كان جزء العلة ، اما على الاول فواضح
لاستحالة بقاء الامر بعد امتثاله وحصول الغرض. واما على الثانى فلان اقتصار الحكيم
على البعث نحو هذا الجزء دليل على تكفله لضم بقية الاجزاء المتوقف عليها ترتب
الغرض بل ربما نقول : بأن اتيان المامور به لا ينفك عن ترتب الغرض الباعث الى
الامر فلو امر المولى عبده بإتيان الماء ليشربه واتى به العبد يترتب عليه الغرض
الداعى الى ذلك الامر ، اذ الغرض من ذلك الامر ليس الاسد باب العدم من طرف الاتيان
بالماء وقد حصل ذلك بالبديهة ، وعدم حصول الشرب مستند الى انعدام بقية المقدمات
التى لم يؤمر بها العبد ، وان شئت قلت رفع العطش بشرب الماء ليس هو غرض مترتب
على الامر المتوجه
الى العبد ، وانما هو غرض الاغراض بل الذى هو غرض من امر العبد هو القدرة على
تناول الماء وهذا حاصل بامتثال العبد.
نعم لو علم العبد
ان ذلك الغرض الاصلى المسمى بغرض الاغراض بعد لم يحصل توجه اليه امر آخر بإتيان
الماء وهكذا فكلما يمتثل ويأتى ويراق ذلك الماء ، يلزمه العود عقلا حتى يعلم بحصول
ذلك الغرض الاصلى الذى هو رفع العطش ، بل لو شك فى حصول الغرض واحتمل عدم حصوله
لزمه المعاودة فى الامتثال حتى يحصل له العلم بحصول الغرض المطلوب تحصيله بحكم
العقل ، ولعله الى هذا الوجه نظر عبد الجبار وصاحبه فيما يحكى عنهما من ذهابهما الى عدم الاجزاء.
وربما يقوى
كلامهما على القول بمقدمة الموصلة ، ضرورة ان مأتي به مقدمة لحصول الغرض فاذا بنى
على وجوب المقدمة الموصلة فلا يتحقق الامتثال الا بموافقة الامر المتعلق بالواجب
ولا يحرز الواجب الا بعد احراز ترتب الغاية عليه ، اذ مع احتمال عدم ترتب الغاية
لا يتيقن بموافقة الامر المعلوم توجهه اليه ، اذ من الجائز ان يكون المأتى به غير
ما هو المترتب عليه الغاية المطلوبة ، فيلزمه تكرار الامتثال حتى يتيقن معه حصول
الغرض هذا.
ويمكن التفصى عنه
بما مرت الاشارة اليه آنفا من ان اقتصار
__________________
الحكيم على محض
اتيان المأمور به من دون ضم شىء آخر اليه ولا الزامه بالمعاودة فى مقام الامتثال
دليل على اقتناعه بمجرد ذلك المأتى به اولا بلا حاجة الى تكرار وامتثال عقيب
امتثال ، فيكون ذلك دليلا انيا على تكفله لبقية المقدمات التى يتوقف عليها حصول
الغرض.
«الكلام فى الاجزاء
وعدمه بالفعل الاضطرارى ثبوتا»
«الموضع الثانى :
ففيه مقامان المقام الاول» فى الاجزاء بالفعل الاضطرارى عن الاختيارى اعادة او
قضاء وعدم الاجتزاء به كذلك.
ويقع الكلام فى
ذلك او لا : بالنسبة الى مرحلة الامكان وعالم الثبوت وثانيا : بالنسبة الى مرحلة
الاثبات والوقوع.
اما الكلام فى
الاول : فهو يتصور على انحاء تارة يكون الفعل الاضطرارى وافيا بتمام مصلحة
الاختيارى واخرى يكون وافيا ببعض المصلحة والبعض الآخر اما ان يكون ممكن التدارك
بعد طرو الاختيار او لا؟
فهذه محتملات ثلث
فى مرحلة الامكان قبل ملاحظة ادلة الوقوع ، وفى الكفاية ربع المحتملات بتقسيم
الاحتمال الثانى الى احتمالين من حيث ان الباقى الممكن التدارك اما ان يكون واجب
التدارك او مستحبة.
ويمكن منع
الاحتمال الثانى بأنه خلاف الفرض ، لان المصلحة الوجوبية اذا كان لازمة المراعاة
فكل ما يبقى منها شىء يكون لازم التحصيل ، وإلّا لم تكن تلك البقية من بقايا
المصلحة الوجوبية وحينئذ فلم يبق مجال لاحتمال بقاء بقية من المصلحة الغير اللازمة
المراعاة.
ان قلت : لا نحتمل
الاحتمال الاول ايضا من مرحلة الثبوت لان لازمه انقلاب الاضطرارى الى الاختيارى ،
وذلك لان المصلحة اذا كانت قائمة بالجامع بين فردى الاختيار والاضطرار بلا مزية
للاختيارى فى وفائه بالمصلحة التامة ، بل كانت المصلحة التامة ممكنة الاستيفاء بكل
من فردى الاختيارى والاضطرارى ، فليجز للمكلف حينئذ ان يصلى صلاته مع الطهارة المائية
والترابية من دون اعتبار ملاحظة الترتيب فيما بينهما وهو خلاف المفروض ، ضرورة ان
المتمكن من الماء لا يجوز له الصلاة مع التيمم.
قلت : ان قيام
المصلحة بالجامع لا يستلزم التساوى فى مقام الفردية لجواز ان يكون فردية كل فرد
منوطة بانتفاء فرد الآخر فيكون الجامع فى مقام التفرد طوليا لا عرضيا بمعنى انه لا
يتحقق للجامع فرد ثان إلّا بانتفاء الفرد الاول ، فلا يكون الصلاة متيمما فردا
للجامع الا حيث يتعذر الصلاة مع الوضوء.
وان قلت : لا موقع
للاحتمال الثانى ، اذ لا نتعقل وفاء كل من الاضطرارى والاختيارى بمقدار من المصلحة
الوجوبية ، ومع ذلك يبقى منها بقية تكون لازمة الاستيفاء ، ضرورة ان وفاء كل منهما
بالمقدار الملزم دليل على قيام المصلحة الملزمة بالجامع بينهما فمع استيفائها
بالفرد الاضطرارى ، فان بقى منها شىء لا بد وان تكون خارجة عن حد الالزام ووجوب
التحصيل ، لان المصلحة على هذا تكون قائمة بالجامع بين فردى الاختيار والاضطرار ،
فخصوصية الفرد الاختيارى تكون مشتملة على المصلحة الوجوبية وعلى زيادة غير لازمة
المراعاة.
قلت : من الجائز
ان يكون الطلب الوجوبى المتعلق بالفرد الاختيارى منحلا الى طلبين من باب تعدد
الطلب والمطلوب كما فى
الحج حيث انه قد
طلب الحج فورا فى السنة الاولى فاذا عصى ذلك بقى معه المصلحة الوجوبية بالنسبة الى
ذات الحج نفسه ، فيجب عليه الحج فى السنة الثانية وهكذا ، فينحل الطلب الوجوبى فى
مثل الحج الى طلبين طلب لنفس الحج ، وطلب آخر لفوريته ، فاذا فاتت الفورية بقيت المصلحة
الوجوبية فى نفس الحج بحالها ، فيلزم تحصيلها بإتيان الحج فى السنة الثانية وهكذا.
هذا كله ما يتعلق
بالاحتمالين الاولين ، واما الاحتمال الاخير فيختلف حاله بحسب النظر الى مرحلة
امكانه ، اذ لا يخلو اما ان يكون اتيان الفعل الاضطرارى علة لتفويت الفعل الاختيارى
فى زمانه واما لا يكون كذلك ، بل يكون منشأ عدم امكان تدارك الباقى فى ضمن الفرد
الاختيارى من جهة المضادة المتحققة فيما بين الفعلين ولازم الاول حرمة المبادرة
الى الفعل الاضطرارى ، لانه علة لحصول الحرام الذى هو تفويت ما هو لازم المراعاة ،
ومقتضى المضادة بناء الحكم على مسئلة الضد فإن قلنا فيها بالترتب كان مأمورا
بالصلاة فى زمان الاضطرار اذا كان بانيا على العصيان فى ترك الواجب فى زمان
الاختيار ، وإلّا حرم عليه الصلاة فى حال الاضطرار ولزمه الانتظار حتى يتضيق عليه
الوقت او يتبدل حاله الى حالة الاختيار ، فاذا كان عنده الماء وكان يعلم بطرو
الاختيار له فى الوقت فهل له اراقة ما عنده من الماء فى اول الوقت اعتمادا على
تمكنه من استعمال الماء فى آخر الوقت ، او ليس له ذلك؟ التحقيق يقتضى التفصيل بين
من كان عازما على ان يأتى بالصلاة مع تلف الماء وبين من لم يكن عازما على ذلك ،
فعلى الاول لا يجوز له اراقة الماء لانه مؤد الى تفويت الواجب وفى الثانى يجوز له
ذلك هذا.
وبقى الكلام فيما
يقتضيه الاحتمالات الثلاثة المزبورة من الاحكام
اما الاحتمال
الاول ، فمقتضاه الاجزاء قطعا ، اذ لا يبقى مجال للاعادة ولا للقضاء بعد استيفاء
تمام المصلحة.
ان قلت : هذا اذا
لم يكن صحة الفعل الاضطرارى مشروطة باستمرار الاضطرار الى آخر الوقت ، اذ لو كانت
مشروطة بذلك ثم تبدلت حالة الاضطرار الى حالة الاختيار ، تبين من ذلك عدم صحة
الفعل الاضطرارى وعدم وفائه بشىء من المصلحة فضلا عن تمامها.
قلت : لا بد
للمتنازعين فى الاجزاء وعدمه فى هذه المسألة ، من فرض الكلام فى غير صورة الاشتراط
باستمرار الاضطرار الى آخر الوقت ، اذ لا مجال للنزاع فى الاجزاء وعدمه مع هذا
الشرط ، ضرورة انه مع عدم الاستمرار يتبين انتفاء الامر الاضطرارى ، وان كان يتخيل
فى اول الامر تحققه ، فيكون حينئذ من الامر الخيالى الوهمى فيخرج بذلك عن فرض
الكلام.
واما الاحتمال
الثانى فظاهر ان قضية عدم الاجزاء لامكان تدارك الباقى من المصلحة اللازمة
المراعاة.
واما الاحتمال
الثالث فمقتضاه الاجزاء بمعنى سقوط الاعادة والقضاء لا صحة المأتى به فى زمان
الاضطرار اذ ذلك لا يتجه على اطلاقه لما سمعت آنفا من حرمة الفعل الاضطرارى اذا
كان علة لتفويت الباقى من المصلحة الوجوبية ، ومثله على تقدير الفوات للتضاد مع
عدم القول بالترتب كما لا يخفى.
«الكلام فى الاجزاء بالفعل الاضطرارى بالدليل وعدمه»
واما الكلام فى
الثانى : الذى هو مرحلة الوقوع والاثبات ، فربما يتمسك للاجزاء تارة بالدليل
الاجتهادى واخرى بالاصل العملى.
اما الدليل
الاجتهادى فهو اطلاق ما دل على شرطية التيمم فى حال الضرورة من الكتاب والسنة.
اما الكتاب : قوله
تعالى : ... (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.)
واما السنة : قوله
«ع» التراب احد الطهورين ويكفيك الصعيد عشر سنين فإن قضية الاطلاق فيه هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة او
القضاء.
واما الاصل العملى
: فهو اصالة البراءة الحاكم بعدم وجوب الاعادة والقضاء ، لكونه شكا فى التكليف.
ويرد عليه اما على
الاستدلال بالدليل الاجتهادى فبان الاجزاء المدعى استفادته من الاطلاقات ، اما ان
يكون بمناط الوفاء بتمام المصلحة او بمناط الوفاء ببعضها ويكون البعض الباقى غير
ممكن التدارك فإن كان بالمناط الاول يستلزم ذلك جواز اراقة الماء لمن كان قد حضر
عنده الماء وامكنه الصلاة مع الطهارة المائية ، اذ الفعل الاضطرارى حسب الفرض واف
بتمام المصلحة التى يقوم بها الفعل الاختيارى فيكون كالحاضر له ان يسافر حتى يصلى
قصرا ، ولا ريب فى بطلان اللازم فى مفروض البحث بالاجماع فاذا لم يكن الاضطرار
__________________
بسوء الاختيار
وافيا بتمام المصلحة ولم يكن قائما مقام الفعل الاختيارى فى تمام المصلحة ، جرى
ذلك فى الاضطرارى الغير الناشى عن سوء الاختيار ايضا بعدم القول بالفصل.
وببيان اوضح انما
يستفاد الاجزاء بالمناط الاول من الاطلاق باعتبار دلالته على بدلية التيمم عن
الوضوء من غير تقييد ببعض المراتب دون بعض ، اذ لا اشكال فى ان ذلك قاض بقيام
التيمم مقام الوضوء فى جميع مراتب مصلحته ، كما انه يستفاد من عدم تقييد الامر
بقيد الوجوب النفسى لدلالة اطلاقه عليه فكذلك هاهنا يستفاد من اطلاق البدلية قيام
البدل مقام المبدل فى تمام ما للمبدل من المصلحة ، وحينئذ نقول فى مقام الايراد
عليه ان الاجماع على حرمة الاراقة وعدم القوم بالفصل بين صورتى الاضطرار بسوء
الاختيار او بغيره ، مانع من التشبث بمثل هذا الاطلاق ، وان كان بالمناط الثانى
فانما ذاك بمعونة استفادته من اطلاق لسان الدليل الناطق بسقوط الاعادة والقضاء.
وبعبارة اخرى لسان
تيمموا له جهتا اطلاق : احدهما من حيث وفائه بتمام المصلحة وثانيهما من حيث سقوط
الاعادة والاجتزاء بالفعل الاضطرارى ، والاطلاق الاول قد عرفت فساده بالاجماع على
حرمة التفويت مع عدم القول بالفصل.
واما الاطلاق
الثانى فهو الذى يقتضى الاجزاء بمناط عدم امكان تدارك الباقى من المصلحة ، ولكنه
معارض باطلاق دليل الاختيار القاضى بلزوم مراعاة التكليف الاختيارى مهما امكن
فيشمل ذلك حال طرو الاختيار ، بعد زمان الاضطرار وبعد التعارض فيما بين الاطلاقين
وعدم المرجّح فى البين ، فيبقى الحكم من حيث الاجزاء وعدمه غير معلوم الحال ،
وتخرج الادلة الاجتهادية عن صلاحية
الاستدلال بها
للقول بالاجزاء.
ان قلت : اطلاق
دليل السقوط حاكم على دليل الاختيار لنظره اليه وتعرضه له وقد تقرر فى باب التعادل
والتراجيح تقديم الحاكم على المحكوم.
قلت : انما يقدم
الحاكم على المحكوم لو كان للحاكم قوة نظر الى المحكوم على وجه ولو لم يقدم عليه
لكان يبقى الكلام لغوا عاريا عن الفائدة ، مثلا لو قال الشارع اكرم العلماء ، ثم
ورد منه الاعلام بأن الفاسق ليس بعالم وفرض ان لم يكن للعالم اثر مجعول يمكن نفيه
سوى الحكم بوجوب اكرامه ، فحينئذ لا بد وان يقدم فى مثل هذا الدليل الثانى على
الاول ويحكم بعدم وجوب اكرام الفاسق من العلماء ، اذ لو لم يقدم عليه يبقى الكلام
بأن الفاسق ليس بعالم لغوا لا اثر له مجعول يمكن نفيه بحكم الشارع ، واما اذا كان
للعالم اثر آخر مجعول غير وجوب الإكرام يمكن تسليط النفى عليه كالاقتداء مثلا ، لم
يكن للدليل الثانى قوة نظر فى اطلاقه على وجه يلزم تقديمه على المحكوم ، اذ يبقى
الكلام مع عدم تقديمه عليه لغوا لجواز ان يكون نظر النفى فى الدليل الثانى الى
الاقتداء خاصة ، فلا يلزم من عدم تقديمه على المحكوم لغوية فى الدليل الثانى ، وما
نحن فيه من هذا القبيل ، لان الاضطرار لم يكن متمحضا لحيثية الاسقاط خاصة ، بل
لسانه يتكفل بيان الاسقاط والبدلية جميعا ، فاذا الغيت منه جهة الاسقاط بواسطة
التعارض بينه وبين دليل الاختيار لم يبق خاليا عن معنى لكى يلزم منه اللغوية ، بل
قيامه بالبدلية كاف فى خروجه عن اللغوية.
«التفصيل فى الاجزاء وعدمه بالفعل الاضطرارى باصل العملى»
واما ما يرد على
الاستدلال بالاصل العملى فنقول : ان قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) ، قضية تحتوى على موضوع ومحمول موضوعها غير الواجد للماء
محمولها التيمم بالصعيد ، ولكل من الموضوع والمحمول فى نفسه اطلاق غير اطلاق الآخر
اما اطلاق الموضوع ، فهو باعتبار عمومه لغير الواجد الناشى من سوء الاختيار او من
غير سوء الاختيار ، واما اطلاق المحمول فهو تارة من حيث دلالته على الوفاء ، بتمام
المصلحة القائمة فى المبدل ، واخرى من حيث دلالته على السقوط والاجتزاء عن التكليف
الاختيارى فاذا لوحظ اطلاق الموضوع مع اطلاق المحمول من وجه البدلية ، كان المتحصل
من ملاحظة مجموعى الاطلاقين ان غير الواجد بكلا قسميه الناشى من سوء الاختيار او
من غير سوء الاختيار يتيمم بدلا عن الطهارة المائية ويكون تيممه ذلك وافيا بتمام
مراتب مصلحة المبدل ، ولازم ذلك الاجزاء قطعا كما ان لازمه جواز الاراقة لمن كان
عنده الماء. ولا اشكال فى عدم جوازه بالاجماع فيستكشف ببركة هذا الاجماع عدم وفاء
الاضطرارى بتمام مراتب مصلحة الاختيارى ، وإلّا لجازت الاراقة.
غاية ما فى الباب
ان القدر المعلوم استكشافه من هذا الاجماع ، انما هو عدم الوفاء بتمام المصلحة فى
صورة يكون الاضطرارى بسوء الاختيار لا مطلقا.
اللهم إلّا ان
يدعى عدم الفصل بين اقسام الاضطرار ، فيكون ذلك اجماعا آخر قاضيا بمساوات الاضطرار
فى كلا قسمية ، وحينئذ
نقول : بعد فرض
تمامية مثل هذين الاجماعين لم يبق مجال لاحتمال الاجزاء بمناط الوفاء بتمام
المصلحة ، بل ينحصر احتماله فى تعذر استيفاء ما يبقى من المصلحة وحينئذ يكون الشك
فى الاجزاء وعدمه ، ناشيا عن الترديد فى الباقى من المصلحة ، هل يكون ذلك مما يمكن
استيفائه او لا يمكن؟ فيرجع ذلك الى الشك فى القدرة على تحصيل ما يلزم تحصيله من
المصلحة ، وكل شك رجع الى الشك فى القدرة وجب مراعاته حتى يتحقق له العجز عن تحصيل
الغرض ، ومقتضى ذلك عدم الاجزاء فى كل مورد شك فيه فى الاجزاء وعدمه ، سواء كان
يعلم المكلف بطرو الاختيار له بعد زمان الاضطرار ، او لم يكن يعلم بذلك شاكا فيه ،
او عالما باستدامة اضطراره الى آخر الوقت ، ثم تبين له الخلاف فى آخر الوقت ، هذا
ان تحقق اجماع آخر على عدم الفصل بين قسمى الاضطرار ، وإلّا فان لم يكن لنا الا
الاجماع على حرمة الاراقة المساوقة مع الاضطرار الناشى من سوء الاختيار ، فيبقى
الاضطرار الآخر يحتمل فيه الوفاء بتمام المصلحة او ببعضها وعلى الثانى يحتمل امكان
استيفائه فى زمان الاختيار وعدمه ، فهناك احتمالات ثلث ، ومحصلها احتمال قيام المصلحة
الكاملة بالجامع بين الاضطرارى والاختيارى ، ان كان الاضطرارى وافيا بتمام المصلحة
واحتمال قيامها فى خصوص الاختيارى المشكوك فيه القدرة على تحصيلها به فيكون ذلك من
باب الشك المردد بين التعيين والتخيير ، والقاعدة فى مثله الاحتياط بالاقتصار على
احتمال التعيين كما قرر فى محله ، ونتيجة ذلك عدم الاجزاء فى صورتين والاجزاء فى
صورة واحدة.
اما صورتا عدم
الاجزاء فذاك فيما لو اتفق للمكلف العلم بطرو الاختيار له فى آخر الوقت او كان
شاكا فى ذلك ، فان الحكم فى هاتين الصورتين عدم الاجزاء قضاء للعلم الاجمالى
الدائر طرفاه بين
التعيين والتخيير.
واما صورة الاجزاء
فانما هى فيما لو اتفق للمكلف العلم باستمرار اضطراره الى آخر الوقت ، ثم ينكشف
الامر على خلاف ما عمله ، فانه يحكم فيه بالاجزاء لاصالة البراءة اذ لا اثر لما
علمه بالاجمال بعد خروج احد طرفى المعلوم عن محل الابتلاء ، فانه لما علم باستمرار
اضطراره الى آخر الوقت لم يكن عنده علم اجمالى على النهج المزبور دائرا بين
التعيين والتخيير ، فإذا اتى بالفعل الاضطرارى ثم انكشف له الخطاء فى علمه حدث
عنده علم اجمالى فى تكليف يحتمل تعلقه بالجامع او بخصوص الاختيارى ، وحيث انه كان
آتيا بالفعل الاضطرارى فقد لغى احتمال تعلقه بالجامع ، ويبقى معه احتمال تعلقه
بخصوص الاختيارى خاصة وهو غير معتد به لاصالة البراءة.
ومن هذا البيان
ظهر لك الخدشة فى اطلاق القول بأن الاصل يقتضى البراءة من ايجاب الاعادة لكونه شكا
فى اصل التكليف كما وقع ذلك فى الكفاية بل ينحصر اقتضائه ذلك فى الصورة الاخيرة
خاصة وفيما عداه يقتضى الاشتغال ، اما لانه شك فى القدرة ، او لانه من الشك الدائر
بين التعيين والتخيير.
ان قلت : بعد الغض
عن الاجماع القائم على عدم الفصل بين اقسام الاضطرار ، يندرج الاضطرار بغير سوء
الاختيار فى اطلاق الآية موضوعا وحكما ، اذ المتحصل من ملاحظتهما ان غير الواجد
بغير سوء الاختيار يقوم تيممه مقام الطهارة المائية وقضية اطلاق الحكم بالبدلية
والقيام مقام المبدل ، هو وفاء البدل بتمام مراتب المصلحة المترتبة على المبدل ،
ولا يكون الاجماع القائم على حرمة اراقة الماء لمن عنده الماء ، صادا عن هذا
الاطلاق ، لانحصاره بالاضطرار الناشى عن غير سوء الاختيار حسب الفرض ، بعد البناء
على عدم
تمامية الاجماع
الثانى النافى للفصل بين قسمى الاضطرار ، وحينئذ يكون مثل هذا الدليل الاجتهادى
دالا باطلاقه على ان التيمم وافيا بتمام مراتب المصلحة الطهارة المائية ولازمه
الاجزاء وعدم انتهاء التوبة الى الشك فى التعيين والتخيير.
قلت : بعد تسليم
انحصار الاجماع بعدم جواز اراقة الماء لمن كان عنده ، لا يلزم ارتكاب التقييد فى
جانب الموضوع حتى يبقى الاطلاق فى طرف الحكم والمحمول بحاله قاضيا بوفاء التيمم بتمام
مراتب مصلحة الاختيارى ، بل يجوز تقييد الحكم به حتى يبقى الاطلاق فى طرف الموضوع
بحاله ويكون المتحصل من ذلك ان غير الواجد مطلقا سواء كان عدم وجدانه نشاء من سوء
الاختيار او من غير سوء الاختيار ، يتيمم ويقوم تيممه ذلك مقام الطهارة المائية فى
بعض مراتب مصلحتها ، ويكون سبب الحرمة المجمع عليها تعذر استيفاء ما يبقى من
المصلحة اللازمة لاستيفاء من غير اختصاص لذلك بما يكون اضطراره ذلك ناشيا عن سوء
الاختيار او من غير الاختيار ، وحيث انه لم يتعين ارتكاب التقييد فى خصوص واحد من
طرفى القضية موضوعا ومحمولا ، جاءت الاحتمالات الثلث المزبورة التى مرت الاشارة
اليها آنفا ، فإن التقييد ان كان فى طرف الموضوع جرى احتمالان احتمال الوفاء بتمام
المصلحة فى الاضطرار الغير الناشى عن سوء الاختيار ، واحتمال الوفاء ببعضها مع
امكان استيفاء البقية.
وان كان فى طرف
الحكم والمحمول جرى الاحتمال الاخير الذى هو تعذر استيفاء بقية المصلحة المطلوبة
فى الطهارة المائية ومع حصول هذه الاحتمالات الغير الملغاة بالآية الشريفة ، وظاهر
الدليل الاجتهادى تنحصر الوظيفة بالعمل بمقتضى الاصول العملية ، وهى تقتضى
الاشتغال الا فى صورة واحدة كما سمعت.
هذا كله ما يتعلق
بالاعادة واما القضاء فلما كان التكليف بالاضطرارى فى الوقت متيقن الحصول فإن وقع
شك فانما هو فى تكليف آخر المتعلق بالقضاء فى خارج الوقت فينفى بالبراءة.
ان قلت : مصلحة
الاختيارى لازمة الاستيفاء قطعا ، ولم يعلم استيفائها بما فعله فى الوقت لجواز عدم
وفاء الفعل الاضطرارى المأتى به فى الوقت إلّا ببعض المصلحة لا تمامها ، فلم يعلم
استيفائها حينئذ الا بالقضاء وذلك دليل عدم الاجزاء.
قلت : مصلحة
الاختيارى البالغة حد الالزام ، لم يعلم تحققها فى خارج الوقت ، وغاية ما افاده
دليل الاختيار بلوغ المصلحة فى ذلك الفعل الى درجة الالزام ما دام الوقت ، واما
اقتضائها الالزام فيما بعد الوقت فهو ايضا مشكوك منفى بالبراءة.
«الكلام فى اجزاء
الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى وعدمه»
«المقام الثانى فى
اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى وعدمه.
ويقع الكلام فيه
تارة فيما يتعلق بالاصول ، واخرى فيما يتعلق بالامارات.
اما الكلام فى
الاول فغير خفى ان الاصل ان كان اصل البراءة فغاية ما يقتضى مفاده ، رفع فعلية
التكليف بالجزئية المشكوكة ما دام الجهل والنسيان ، ولا يرتفع به الجزئية الواقعية
الدخيلة فى المصلحة فأدلة اعتبار الجزء تبقى بحالها دالة على لزوم مراعاته عند
التذكر ، فيجب حينئذ بمقتضى القائدة اعادة المنسى بعد التذكر إلّا ان يقوم دليل
خاص يدل على عدم لزوم الاعادة كما ورد ذلك فى باب الصلاة بحديث
لا تعاد .
وان كان اصل
الطهارة فالتحقيق فيه عدم الاجزاء ، لعموم دليل الواقع القاضى بلزوم موافقته عند
التذكر وظهور المخالفة ، فلو شك فى طهارة ماء وبنى على طهارته بقاعدة الطهارة
وتوضأ به وصلى ، كان معذورا فى زمان جهله فاذا انكشف له الخلاف ، تنجز فى حقه
التكليف الواقعى فلزمته الاعادة فى الوقت والقضاء فى خارجه ، اذ لا يستفاد من
القاعدة الا الامر بالمعاملة فى مشكوك الطهارة معاملة الظاهر.
وربما يقال ان هذا
لا يتأتى «فيما كان منه يجرى فى تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان
بلسان تحقق ما هو شرطه او شطره» كما هو كذلك فى «قاعدة الطهارة والحلية.»
اذ لا ريب فى
اقتضاء مثل ذلك الاجزاء بمناط الحكومة ، بتقريب ان دليل اعتبار الطهارة فى ماء
الوضوء مثلا اقتضى اعتبار الطهارة الواقعية فيه خاصة ، إلّا انه بلحاظ قاعدة
الطهارة ، لا بد من التزام التوسعة فى الطهارة المعتبرة فى ماء الوضوء فيكون
المتوضئ بالماء المحكوم بالطهارة عند الشك ، قد اتى بالوضوء على حسب ما شرط فيه
ببركة قاعدة الطهارة.
ونحوه الكلام فى
قاعدة الحلية «بل واستصحابهما فى وجه قوى ونحوها بالنسبة الى كل ما اشترط بالطهارة
والحلية فيجزى» ذلك الوضوء الذى دخل به فى الصلاة حتى بعد انكشاف الخلاف «فإن
دليله» الدال على البناء على طهارة الماء المتوضئ به «يكون حاكما على
__________________
دليل الاشتراط
ومبينا لدائرة الشرط وانه اعم من الطهارة الواقعية والظاهرية فانكشاف الخلاف فيه
لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة اليه يكون من قبيل ارتفاعه
من حين ارتفاع الجهل.»
ويرد عليه : ان
مدار الحكومة على ان يكون للحاكم جهة نظر الى المحكوم ، فيكون نسبته اليه كنسبة
الشارح المبين للمراد من محكومه ، ومن المعلوم انه ليس لقاعدة الطهارة نظر الى
غيره من سائر الموارد المشروطة بالطهارة الواقعية.
وقد يقال :
بالاجزاء فيه بمناط الورود دون الحكومة بتقريب ان مفاد القاعدة جعل حكم ظاهرى فى
رتبة الشك بالطهارة الواقعية فيستدل بقاعدة الطهارة حينئذ على اندراج التوضى بماء
مشكوك الطهارة فى عموم ما دل على شرع الحكم بالوضوء بالماء الطاهر بناء على
التعميم فى الظاهر وشموله للظاهر الواقعى والظاهرى.
ويرد عليه : ان
دليل الحكم باشتراط الوضوء بالماء الطاهر غير واف للدلالة على التعميم والشمول لما
يكون طاهرا ظاهرا وانما الظاهر المنسبق اليه منه فى نظر العرف هو اعتبار الطهارة
الواقعية فى ماء الوضوء لا الاعم منها ومن الطهارة الظاهرية.
هذا مع انا نجد
التنافى بين الطهارة والقذارة ، فاذا كان الشىء بحسب واقعه قذرا كيف يجعل له
الطهارة فى مرتبة الظاهر فإن الطهارة والقذارة من الاضداد المستحيل اجتماعهما على
موضوع واحد.
ولئن سلم الاجتماع
فى الاحكام التكليفية ظاهرا وواقعا فلا نسلمه فى الاحكام الوضعية ، فلا بد من
تنزيل القاعدة حينئذ على ما ذكرناه من الامر بالمعاملة فى شكوك الطهارة معاملة
الطاهر لا جعل الطهارة فى مرحلة الظاهر.
ولئن قلت : يمكن
الجمع بين الطهارة الظاهرية والقذارة الواقعية
باختلافهما بحسب
مرتبتى الشانية والفعلية فيراد من الظاهر فى لسان القاعدة ما يكون محكوما بالطهارة
الفعلية ، وهى لا تنافى القذارة الشأنية الثابتة للشىء بحسب الواقع.
قلت : هذا انما
يتجه فى غير ما يكون مغيا بالعلم بالقذارة ، لظهور الغاية فى تعلق العلم بالقذارة
الفعلية ، فيستفاد منه ان مصب القاعدة ، من بدو الكلام على التعرض لحكم ما يشك فى
قذارته الفعلية ، وانه محكوم بالطهارة إلّا اذا علمت قذارته الفعلية ، وحينئذ يجىء
التنافى بين الطهارة الفعلية والقذارة كذلك.
ولئن التزم بأن
القذارة تصير فعلية بالعلم ، حتى يكون المتحصل من القاعدة ان شكوك الطهارة محكوم
بالطهارة حتى يعلم قذارته فيصير بالعلم قذرا فعليا.
قلنا : هذا خلاف
ظاهر القضية ، لظهورها فى فعلية القذارة قبل تعلق العلم بها ، لا انه بالعلم تصير
القذارة فيها فعلية ، وليس ارتكاب خلاف الظاهر فيها من هذا الوجه باولى من تنزيلها
على الحكم العذرى والامر بالمعاملة فى مشكوك الطهارة معاملة الطاهر ، فما دام
جاهلا ولم يكن الواقع لديه مكشوفا ، له المعاملة فى المشكوك معاملة الطاهر ، فإذا
تبين الحال وظهر ان الواقع على القذارة ، بنى على قذارته وترتب عليه الحكم
بالقذارة من اول الامر ، فيلزمه اعادة الاعمال السابقة المبتنية على طهارته ، فلو
كان قد لاقى الثوب مشكوك الطهارة وبنى على طهارته بقاعدة الطهارة ثم ظهر الخلاف ،
كان اللازم تطهير كل ما لاقى الثواب فى زمان الجهل كما عليه العمل ، فلو كان مفاد
القاعدة جعل طهارة فى مرحلة الظاهر ، لم يجب تطهير ذلك الملاقى بعد ظهور الخلاف
وانكشاف الواقع لديه ، ولم اظن التزامه من احد ، وما ذاك إلّا لما عرفت من كون
القاعدة لا دلالة فيها الا
على الحكم العذرى
كما بيناه ولازمه عدم الاجتزاء بما وقع ولزوم الاعادة.
وان قلت : لا يرد
النقض بما ذكرت فى ملاقات الثوب لمشكوك الطهارة ولو قلنا بلزوم تطهيره بعد ارتفاع
الجهل ولا شهادة فيه على ما ترومه من العذرية ، اذ الطهارة الظاهرية المجعولة فى مرحلة
الشك لا تمانع القذارة الاقتضائية الثابتة للشىء لذاته فى نفس الامر والواقع ،
وحينئذ يكتسب الثوب من الماء نجاسة اقتضائية عند ملاقاته له فى زمان الشك ، وتلك
القذارة باقية على حالها حتى يعلم ، فتصير حينئذ فعلية بالنسبة الى الملاقى
والملاقى كليهما ويترتب على ذلك لزوم غسل الثوب فلا يستكشف حينئذ من بناء الاصحاب
على غسل الثوب ورود القاعدة لبيان الغدرية كما ذكرت.
قلت : هذا لا
يجديك فيما ترومه من القول بالاجزاء ، لظهور ان الاجتزاء بما وقع يكون مقصورا على
زمان الشك خاصة دون ما بعد العلم ، واما بعده فيلزم العمل على ما كان تقتضيه
الملاقاة فى زمان الجهل لتبدل حالة الاقتضاء الى حالة الفعلية ، فلو كان قد صلى مع
الطهارة المائية بحكم القاعدة القاضية بطهارة الماء المشكوك نجاسته ثم تبين الخلاف
وان الماء كان نجسا فى زمان الجهل به ، لزمه اعادة الصلاة من حين العلم بالقذارة لبلوغ
الاقتضاء الى مرتبة الفعلية ، فكانت الصلاة الى زمان العلم محكومة بالصحة وبعده
محكومة بالبطلان واذا بطلت وجب اعادتها قطعا.
وبالجملة ان بنى
على النجاسة الاقتضائية فى مشكوك الطهارة ، اتجه عليه الالتزام بعدم الاجزاء ولزوم
الاعادة ، وهو غير مرضى عند القائل بالجعل فى مؤدى القاعدة كما هو أوضح من ان يخفى
، وان لم يبن على ذلك اتجه عليه الاشكال المزبور من لزوم البناء على
طهارة الثوب بعد
انكشاف الخلاف وهو مما لا يلتزم به احد. هذا.
ويرد عليه ايضا ان
جعل الطهارة للشىء تابع لتحقق موضوعه فان كان هناك شىء بنى على طهارته بحسب جعل
الشارع وإلّا فلا ، مع انا نجدهم يحكمون بطهارة الشىء بعد انقضاء زمانه ، مثلا لو
تيقنت طهارة ماء وتوضأت به وصليت ثم تبدل يقينك فى طهارة الماء الى الشك السارى ،
فعلى القول بالجعل لا مجال للبناء على طهارة ذلك الماء المتوضى به لانتفاء موضوع
الطهارة بعد انقضاء زمان الوضوء بالماء ، لظهور ان الطهارة الحقيقية المجعولة فى
زمان الشك لا بد لها من محل تقوم فيه ، وهو فى مورد المثال هو الماء المتوضى به
وقد انعدم باستعماله فى الوضوء ، وهذا بخلافه على المختار من كونها حكما عذريا جعل
للشاك ما دام شاكا ، اذ يجوز الامر بالمعاملة معاملة الطاهر بعد انقضاء زمان
الوضوء ، حتى يترتب على ذلك الاجتزاء بما وقع منه فى زمان اليقين.
واما الكلام فى ما
يتعلق بالامارات فقد اختلف فيها انها معتبرة على وجه الطريقية او السببية ، وعلى
الاول فهل لسانها تنزيل المؤدى منزلة الواقع او ان لسانها تتميم الكشف؟ وتحقيق
الحق فيها وبيان الثمرة فى اختلاف كيفية النظر والدلالة موكول الى محله ولا يهمنا
فى «هذا» المقام إلّا ان نذكر ان الاصل ليس «بخلاف» الامارة ، بل هو مثله فى الحكم
بعدم الاجزاء وان اختلفا فى المفاد و «فيما» يقتضيه دليل اعتبارهما اذ الاصل اعتبر
وظيفة عملية فى مرتبة الشك ، ومن ثم «كان» الاصل متأخرا رتبة عن الامارة ، اذ
المستفاد «منها» اعتبار الطهارة «بلسان انه ما هو الشرط واقعا» لظهور ان مفاد هذا
النحو من اللسان ظهور الواقع تعبدا وانكشافه لدى المكلف تنزيلا ، ولا يبقى معه
مجال للشك الذى هو موضوع الاصل
لابتنائه على
الغاء الشك ، سيما على المختار من دلالة دليل التنزيل على تتميم الكشف «كما هو
لسان» دليل اعتبار «الامارات فانه لا يجزى ما يكون» مفاده ذلك «فإن دليل حجيته حيث
كان بلسان انه واجد لما هو شرطه الواقعى فبارتفاع الجهل ينكشف انه لم يكن كذلك ،
بل كان لشرطه فاقدا ، هذا على ما هو الاظهر الاقوى فى الطرق والامارات من ان
حجيتها ليست بنحو السببية ، واما بناء عليها وان العمل بسبب ادعاء امارة الى وجدان
شرطه او شطره» فان كان مفاد دليلها توسعة الواقع على ان يكون الفاقد مصداقا حقيقيا
للمأمور به فلا ريب فى انه على هذا الوجه «يصير حقيقة صحيحا» ويكون «كانه واجد له
مع كونه فاقده ، فيجزى» مطلقا وان كان مفاده بدلية الفاقد عن الواجد اجراء ذلك عن
الواقع «اذا كان الفاقد معه فى هذا الحال كالواجد فى كونه وافيا بتمام الغرض» ،
كما هو قضية اطلاق مفاد الامارة «ولا يجزى لو لم يكن كذلك» وحينئذ «فيجب الاتيان
بالواجد لاستيفاء الباقى ان وجب ، وإلّا لاستحب» على اشكال تقدم نظيره فى الامر
الاضطرارى «هذا مع امكان استيفائه وإلّا فلا مجال لاتيانه» الا مع الشك فى امكان
استيفائه فانه يلزمه الاعادة فى الوقت لكونه شكا فى القدرة على الامتثال وهو يوجب
الاحتياط «، كما عرفت» ذلك «فى الامر الاضطرارى.»
وان كان مفاده
اثبات حكم مستقل لموضوعه بلا نظر فى لسانه الى بدليته عن شىء ، او مصداقيته بطبيعة
اخرى ، فلا يقتضى مثله الاجزاء عن الواقع بعد انكشاف الخلاف الا مع فرض المضادة
بين المصلحتين ، «و» مع الشك «فلا» يكاد «يخفى» حكمه بعد ما سمعت منا مرارا من
لزوم مراعاة احتمال القدرة على الامتثال ، بل مقتضى اطلاق دليل الواقع هو لزوم
تدارك الواقع مهما امكن بلا انتهاء
النوبة الى الاصل
العملى ، ومن فروع المسألة ما لو تبدل راى المجتهد الى الحكم بمقتضى امارة اخرى
غير ما ادى اليه اجتهاده الاول ، فانه يلزمه العمل على موجب الاجتهاد الثانى وما
قامت عليه الامارة الثانية مراعاة لحجيتها الثابتة له بحسب اجتهاده الثانى ، ولا
يجتزى بما اتى به على وفق الامارة الاولى ، سواء بنى على ان حجيتها من باب
الطريقية او السببية وسواء انكشف له الخلاف بالقطع او بالظن المعتبر «لان قضية
اطلاق دليل الحجية» القائم على اعتبار الامارة الثانية «على هذا» التقدير من تبدل
الراى والاجتهاد هو انحصار الوظيفة فى العمل على الامارة الثانية وعلى مقتضى
الاجتهاد الثانى «والاجتزاء بموافقته» اذ كما لا يجوز بناء العمل على الاجتهاد
الاول بعد تغيره الى الاجتهاد الثانى كذلك لا يجوز الاجتزاء بما وقع موافقا
للاجتهاد الاول «ايضا».
«هذا فيما اذا
احرز ان الحجية بنحو الكشف والطريقية او بنحو الموضوعية والسببية ، واما اذا شك
ولم يحرز انها على اى الوجهين» فان كان لدليل الواقع اطلاق بنى عليه ولزمته
الاعادة وإلّا فان تردد الحال فيه بين الطريقية والسببية ، فإن كانت السببية
المحتملة على النحو الاول فلا يجب الاعادة وكان الحكم فيه الاجزاء ، لانه قبل ظهور
الخلاف كانت له حجة قائمة على عدم وجوب غير ما اتى به على حسب الامارة السابقة ،
وبعد ظهور الخلاف ينقدح له علم اجمالى بتكليف مردد بين التكليف الاول والثانى ،
وقد خرج الاول عن محل ابتلائه فيبطل اثر العلم بالنسبة الى التكليف الثانى فلا
يلزمه مراعاته بالاعادة ، لاصالة البراءة.
«واما اصالة عدم
الاتيان بما يسقط معه التكليف» التى بنى عليها فى الكفاية وقال : انها «مقتضية
للاعادة فى الوقت» فهى ساقطة عندنا
بعد ما سمعت من
اقتضاء اصالة البراءة عدم لزوم الاعادة والاجتزاء بما وقع على حسب ما أدّت اليه
الامارة قبل ظهور الخلاف.
وان كانت على النحو
الثانى فان كان يمكن استيفاء الباقى ، وجبت الاعادة ولا يجتزى بالمأتى به اولا اذ
على الطريقية لا يجتزى بما وقع ناقصا ، وعلى السببية لم يكن المأتى به وافيا بتمام
المصلحة وكان ممكن التدارك حسب الفرض فيجب اعادته لتدارك الباقى.
وان كان لا يمكن
استيفاء الباقى فالكلام فيه كما فى النحو الاول من عدم وجوب الاعادة ، لانه قبل
ظهور الخلاف كان له حجة على عدم وجوب الاعادة ، وبعد ظهور الخلاف حدث له علم
اجمالى مردد الاطراف بين ما وقع وبين ما لم يقع ، وفى مثله لا اثر للعلم الاجمالى
بالنسبة الى ما وقع فيرجع الامر حينئذ الى الشك فى وجوب العمل على ما لم يقع
والاصل فيه يقضى بالبراءة كما لا يخفى.
وان كان لم يعلم
حاله هل يمكن الاستيفاء او لا يمكن؟ كان ذلك شكا فى القدرة على الامتثال وقد مر
منا مرارا ان الشك فى القدرة يجب الاحتياط فيه بحكم العقل ، وان كانت بالنحو
الاخير لم يجب بالوجه الذى عرفته آنفا من الرجوع الى اصل البراءة.
هذا كله الكلام
فيما اذا كان احد طرفى الترديد احتمال الطريقية فان لم يحتمل ذلك وتردد الامر بين
اقسام السببية ، فان كان احد طرفى الترديد احتمال السببية بالنحو الاول كان الحكم
فيه الاجزاء وعدم لزوم الاعادة ، لانه مع فرض دوران الامر بين السببية على النحو
الاول وبينها على النحو الثانى يعلم بوجوب الجامع بين الناقص والكامل ، وانما الشك
فى وجوب ما يزيد على ذلك بنحو تعدد المطلوب ، ويجرى فيه البراءة ، ومع فرض الدوران
بينها على النحو الاول والنحو الاخير ، يجرى حديث العلم الاجمالى المزبور فانه
حين قيام الامارة
كانت له حجة على عدم وجوب الزائد وبعد ظهور الخلاف وانكشاف الواقع لديه يحدث له
العلم الاجمالى ، لوجوب احد الامرين عليه اما الجامع بين الناقص والكامل ، واما
خصوص الكامل ، فان كان الواجب هو الجامع فقد فرغ عنه بالعمل على مقتضى الامارة
القائمة على وجوب الناقص ، وان كان الواجب عليه خصوص الكامل ، فبعد لم يأت به ،
وكل مورد يكون العلم الاجمالى مرددا بين طرفين خرج احدهما عن محل الابتلاء دون
الآخر ، لم يكن للعلم الاجمالى تأثير بالنسبة الى الطرف الآخر المبتلى به.
وان لم يكن احد طرفى
الترديد احتمال السببية بالنحو الاول بل تردد الاحتمال بين السببية بالنحو الثانى
والنحو الثالث وجبت الاعادة ، اذ الواقع بعد لم يؤت به تماما وكما لا حسب الفرض ،
وما اتى به يحتمل قيامه بعض مراتب الواقع ان كانت السببية بالنحو الثانى ، ويحتمل
عدم قيامه مقامه ان كانت السببية بالنحو الثالث ، فهو يعلم بتوجه تكليف اليه واقعا
وبعد لم يخرج عن عهدته فيجب عليه مراعاته بالاعادة.
«حول مقدمة الواجب»
«فصل فى مقدمة
الواجب وقبل الخوض فى المقصود ينبغى رسم امور :»
«هل المسألة فرعية او
اصولية»
الاول : هل البحث
فى هذه المسألة بحث عن مسئلة فرعية ، او عن مسئلة اصولية ، او هى من مبادى الاحكام؟
وجوه يحتمل الاول نظرا
الى ان البحث عن
وجوب المقدمة وعدم وجوبها كالبحث عن وجوب السورة وعدم وجوبها ، لا حق لفعل المكلف
فيندرج فى المسائل الباحثة عن الاحكام المتعلقة بأفعال المكلفين ، ويحتمل الثانى
نظرا الى ان مرجع الخلاف وجوبها وعدم وجوبها الى الخلاف فى تحقق الملازمة بين وجوب
المقدمة ووجوب ذيها وعدم تحققها ، وهذا بحث عما يقع فى طريق الاستنباط فيكون مسئلة
اصولية ، ويحتمل الثالث نظرا الى ان وجوب المقدمة يعد من لوازم وجوب ذيها فيكون
مرتبطا بالاحكام ارتباط اللازم بملزومه ، ويكون حينئذ من المبادى الاحكامية.
وخير الوجوه
اوسطها ، لان الاحتمال الاول يفتقر الى ان يكون مسئلة المقدمة كسائر المسائل
الفرعية تحتوى على محمول ثابت لموضوعه بمنشإ خاص ، مثلا الصلاة واجبة مسئلة فرعية
تشتمل على موضوع هو الصلاة ومحمول هو الوجوب ومنشأ انتساب الوجوب اليها ، كونها
مما يترتب عليها الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، وهكذا سائر المسائل الفرعية ، لها
موضوعات خاصة ، ومحمولات خاصة ، واغراض خاصة ، وليست هى عناوين جامعة لمسائل
متعددة كما هو كذلك فى مسئلة المقدمة ، فإن البحث فيها عن الملازمة فى سريان الحكم
من ذى المقدمة اليها من غير اختصاص ذلك الحكم بالحكم الوجوبى ، ولا بالحكم
الاستحبابى ، وربما يختلف الحكمان بحسب اختلاف مراتبهما شدة وضعفا ، فكان التعبير
بالمقدمة فى كلامهم كالعنوان العام الحاكى عن موضوعات عديدة مختلفة الحقيقة ، محكومة
بأحكام مختلفة خصوصية ومناطا ، فهو كما لو قيل : فعل المكلف محكوم بأحد الاحكام
الخمسة فإن مثل هذا لا يليق بالمسائل الفرعية ، مع انه مهما امكن جعل المسألة عن
مسائل العلم المبحوث عنه لا وجه لجعله من مسائل
علم آخر كى تكون
استطراديا كما لا يخفى.
واما احتمال كونها
من المبادى الاحكامية ، فهو غير مناسب لعد المسألة فى كلماتهم فى طى مسائل الاصول
، فكان مثل هذا شاهدا على ان مسئلة المقدمة من جملة مسائل الاصول كما صرح به غير
واحد من الفحول.
هذا ما تحصلته من
كلام الاستاذ دام ظله فى مجلس البحث.
واقول : لم يذكر
الماتن صاحب الكفاية قده احتمال عد المسألة من مبادى الاحكام ، ولعله ناظر الى ان
المبادى على نظرهم وقضاء عليه فى اصطلاحاتهم فى كتب الاصول والمنطق ، هى المسائل
التى يتوقف عليها تصور الموضوع واجزائه وجزئياته ، او ما يتوقف الشروع فى ذلك
العلم عليها ، وهذا المعنى لا ينطبق على مسئلة المقدمة المبحوث عنها هنا ، او يكون
ناظرا الى انحصار البحث فى المقام عن حكم المقدمة او عن ملازمة حكمها لحكم ذى
المقدمة ولا احتمال ثالث متصور فى البين حتى يندرج ذلك فى مبادى الاحكام ، فإن كان
البحث فيه من قبيل الاول كانت المسألة باحثة عما يلحق فعل المكلف فتكون مسئلة
فرعية ، وان كان البحث ثمة عن الملازمة كانت المسألة تتعلق بما يقع فى طريق
الاستنباط فتكون مسئلة اصولية.
ثم ان ما ذكره مد
ظله فى خروج هذه المسألة عن المسائل الفرعية ، لم يعلم له معنى محصل لما تقرر
عندهم من ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات كما وقع ذلك فى كلمات الاوائل ، او
بتمايز الاغراض كما وقع ذلك فى كلمات الاواخر ، فامتياز المسألة الاصولية عن
المسائل الفرعية اما يكون بامتياز الموضوع او بامتياز الغرض لا بوحدة الموضوع
والمنشا ، فإن هذا خارج عن طريقتهم فيما
جعلوه مائزا بين
مسائل العلوم بعضها عن بعض.
«فى تقسيم المقدمة
الى داخلية وخارجية»
الثانى : ربما
تقسم المقدمة الى داخلية وخارجية وجعلوا الاول فى مقدمية الجزء للكل حيث ان
الاجزاء اذا اعتبرت لا بشرط كانت مقدمة ، واذا اعتبرت بشرط الاجتماع بعينها الكل ،
فيتوصل من المقدمة بهذا الاعتبار الى ذيها بالاعتبار الآخر ولا محذور فيه كما هو
ظاهر ، ولا يلزم من ذلك مقدمية الشىء لنفسه كما ربما يتوهم لاختلاف الاعتبار.
هذا ملخص ما يوجه
به القول بالمقدمة الداخلية ، ولكن للنظر فيه مجال لظهور ان الهيئة الاجتماعية وان
كانت تقتضى الاثنينية ، والاختلاف بين الشىء بلحاظ انفراده وبينه بلحاظ اجتماعه مع
غيره ، إلّا ان مناط وحدة الواجب ليس بذلك اللحاظ الاجتماعى ، كيف ولو كان ذلك هو
المناط فى وحدة الواجب لكان ينبغى الالتزام بوحدة الواجب عند اختلاف المصالح ،
وتعددها بحسب تعدد الاجزاء والتالى باطل قطعا ، فلو كان ثمة اشياء متلازمة الوجود
وكان لكل واحد منها مصلحة خاصة متعلقة به ، فينبغى البناء على ان مثل ذلك واجب
واحد ، وفساده ظاهر بالبداهة ، كما انه يلزم البناء على تعدد الواجبات فى الاجزاء
التى يترتب عليها غرض وحدانى ومصلحة واحدة ، اذا لم تعتبر مجتمعة بحسب الوجود الخارجى
وهذا باطل قطعا ، فلو لم يكن لاكرام العشرة الا مصلحة واحدة من دون اعتبار ترتيب
ولا موالاة بينها ، لزم البناء على تعدد الواجب بحسب تعدد العشرة ، وهذا مما تشهد
البداهة بفساده ، فمثل هذا اقوى شاهد على ان مدار الوحدة والتعدد فى
الواجب ليس على
وحدة الهيئة وتعددها فلم يبق إلّا ان يكون وجه توهم الاتحاد والتعدد هو وحدة
المصلحة وتعددها ، او وحدة اللحاظ وتعدده ، او وحدة الحكم وتعدده ، ولا يجوز ان
يكون الوجه فيه هو الاول لان وحدة المصلحة انما تعتبر فى المتكثرات بعد رعاية
المصلحة فهى منتزعة عن ملاحظة المصلحة بحسب تقررها الواقعى ، وظاهر ان ما ينتزع من
المتأخر فى الرتبة يستحيل اعتباره فيما هو متقدم عليه كذلك فوحدة المصلحة يمتنع
اعتبارها فى المتكثرات التى يترتب عليها المصلحة ، فما هو ذو المصلحة ليس إلّا
المتكثرات بما هى متكثرات لا بوحدتها الطارية عليها من ناحية المصلحة.
وهكذا الكلام فى
وحدتى اللحاظ والحكم ، فأنهما منتزعان من اللحاظ والحكم اللاحقين للمتكثرات بما
هما متكثرات ، ولا ريب ان الاشياء فى حال تكثرها ليست منشأ انتزاع الجزء والكل ،
إلّا اذا لوحظت واحدة بالمصلحة واللحاظ والحكم ، فقبل اعتبار الوحدة فيها لم يكن
ثمة كلية ولا جزئية وبعد اعتبارها فيها تنتزع الكلية والجزئية فى رتبة واحدة
لاتحاد المنشا فلا يكون حينئذ للجزئية تقدم على الكلية حتى يتحقق بذلك المقدمية.
ان قلت : هب ان
الواحدة الحكمية يستحيل اعتبارها فى موضوع الحكم ، ولكنه من الجائز اعتبار الوحدة
اللحاظية فى متعلق الحكم فيكون المتكثرات المتحددة باللحاظ موضوعا للحكم بالوجوب.
قلت : لم يعتبر
اللحاظ الا توطئة للحكم الوجوبى مثلا ولم يتعلق اللحاظ الا بالمتكثرات ، فكانت
المتكثرات بأنفسها وذواتها موضوعا للحكم الوجوبى.
وان شئت قلت ان
الحكم لا يتعلق بشىء الا بعد لحاظه فلم يكن يعتبر اللحاظ الا توطئة لورود الحكم
على ذلك الملحوظ فذلك الملحوظ
بعينه يكون محكوما
عليه ، وقد عرفت استحالة اعتبار الوحدة اللحاظية فى الملحوظ فلم يكن الملحوظ
محكوما عليه إلّا بما هو عليه المتكثرات من دون اعتبار وحدة فيه بالوحدة اللحاظية
او الحكمية ، ومن المعلوم ان المتكثرات قبل اعتبار الوحدة فيها عارية عن صفتى
الجزئية والكلية وبعد اعتبارها فيها ينتزع الكلية والجزئية عن منشأ واحد ، فلا
يكون فى البين تقدم لاحدهما على الآخر حتى يتأتى فيه اعتبار المقدمية للجزء على
الكل ، ويكون من المقدمة الداخلية فكونها مقدمة وكونها داخلية مما لا يجتمعان ،
ضرورة ان المقدمية يستدعى التقدم على ذى المقدمة وذو المقدمة حسب الفرض هو الكل
ومقدمته جزئه ، قد انتزع هذا العنوانان اى الجزئية والكلية من الوحدة الاعتبارية
الطارية على المتكثرات ، فيكونان فى رتبة واحدة لا تقدم لاحدهما على الآخر ، فقبل
اعتبار الوحدة لا جزء ولا كل وبعد اعتبارها لا مقدمية للجزء على الكل.
فتلخص مما ذكرناه
ان الوحدة التى هى منشأ انتزع الجزئية والكلية ، يمتنع اعتبارها فى المتكثرات الا
فى رتبة متأخرة عن ذواتها وبهذا الاعتبار لا تكون منشأ اعتبار المقدمية للجزء.
نعم لو جاز انتزاع
الكلية والجزئية فى الواجب عن وحدة الهيئة الاجتماعية ، امكن تصوير اجتماع الجزئية
مع صفة المقدمية ، لكن قد عرفت فيما مر ان ذلك غير جائز لاستلزام ذلك اتحاد الواجب
وتعدده بحسب وحدة الهيئة وتعددها وليس كذلك. ومن ثم يستحق على المخالفة عقوبات
متعددة على حسب تعدد المتكثرات التى هى ذوات مصالح متعددة ، وان كانت مجموعة تحت
هيئة واحدة كما انه لو قصد الامتثال بمجموعها كان مشرعا ، وهذا بخلاف ما لو كانت
المتكثرات ذات مصلحة واحدة وغرض واحد فانها تعد واجبا واحدا
وان لم تكن مجموعة
بهيئة واحدة ، ولئن سلم انتزاع الوحدة فى الواجب عن وحدة الهيئة ، قلنا : منع
تمامية القول بالمقدمية الداخلية على اطلاعه ، ومنع دخولها فى محل نزاع القوم ، اذ
الواجب ان فرض هو الاجزاء بشرط الانضمام فلا ريب ان الجزء على هذا الفرض ليس مقدمة
وإلّا واجبا غيريا ، بل هو واجب نفسى وتكون الهيئة واجبة غيرية لاعتبارها على هذا
الفرض شرطا فى تحقق الواجب ، وان فرض هو الهيئة بنفسها واجبة بالوجوب النفسى ،
وتكون الاجزاء حينئذ خارجة عن المأمور به واجبة بالواجب الغيرى ، وان فرض هو
الاجزاء مع الهيئة وهذا وان اجتمع فيه الجزئية مع المقدمة الداخلية إلّا انه يستحيل
اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيرى ، فلا تصلح ان تكون مورد نزاع القوم فى ترشح الوجوب
اليها من ذى المقدمة.
وتوضيح ذلك : ان
الاجزاء من حيث كونها علة لتحقق الهيئة تكون مقدمة لها ، ومن حيث تعلق الوجوب
النفسى بها مع الهيئة تكون داخلة فى الواجب ، إلّا ان مرتبة الوجوب النفسى لما
كانت متقدمة على الوجوب الغيرى فقد اتصفت الاجزاء او لا بالوجوب النفسى وامتنع
اتصافها ثانيا بالوجوب الغيرى لاستلزام ذلك اجتماع المثلين وهو كاجتماع الضدين
محال.
واحتمال حصول
التأكد باجتماع الوجوبين ، يدفعه ان التأكد لا يكون إلّا فيما يتوارد عليه صفة
الوجوب بنحو العرض كالعالمية والهاشمية مثلا لو كانا واجبين لا بنحو الترتب بنحو
العلية ، كما هو كذلك فى المقام حيث ان احد الوجوبين مترتب على الآخر ، لظهور ان
الوجوب الغيرى فى الاجزاء معلول للوجوب النفسى الطارى عليها منضمة الى الهيئة ،
فيكون بين الوجوبين تخللا بالفاء ، فيقال وجبت الاجزاء والهيئة نفسيا فوجبت
الاجزاء غيريا ، ويستحيل التأكد فى
مثل ذلك وحينئذ
تتمحض الاجزاء للوجوب النفسى ، ويبقى فيها ملاك الوجوب الغيرى. هذا حاصل ما استفيد
من كلام شيخنا الاستاذ دام ظله فى مجلس الدرس.
واقول : يمكن
الذهاب الى دعوى وحدة فى ضمن المتكثرات تكون مؤثرة لما يترتب على تلك المتكثرات من
الغرض الوحدانى ، والدليل عليه ما تقرر فى غير المقام من الواحد لا يصدر إلّا من
الواحد ، فوحدة الغرض والمصلحة فى المتكثرات ادل دليل على ان المؤثر فى حصولها ليس
إلّا جامع وحدانى متحقق فى ضمن تلك المتكثرات ، او هو خارج عنها يحصل بحصولها
كالطهارة الخارجة عن اجزاء الوضوء المحتوى على الغسلتين والمسحتين ، يترتب عليه
استباحة الدخول فى الصلاة بواسطة الطهارة المتحصلة من الوضوء.
لكنك قد عرفت فى
الصحيح والاعم بما لا مزيد عليه ، ان الصلاة ليست من قبيل الوضوء يتحصل منها
الجامع كما يتحصل من الوضوء بل نسبة الجامع اليها كنسبة الكل الى جزئه ، ومن ثم
كان مقتضى الاصل فى الصلاة عند الشك فى اعتبار شىء فيها هو البراءة ، بخلاف الوضوء
لان الشك فى اعتبار شىء فيه من باب الشك فى المحصل ومقتضى القاعدة فيه الاحتياط ،
فالجامع الصلاتى مندك فى ضمن المتكثرات ، نظير ما سمعت منافى تصوير المعانى
الحرفية على المختار ، من كونها موضوعة بالوضع العام والموضوع فيها عام ايضا.
«فى تقسيم المقدمة الى العقلية والشرعية والعادية»
فان كانت الملازمة
بين المقدمة وذيها عقلية كانت المقدمة عقلية ، وان كانت الملازمة شرعية كانت
المقدمة شرعية ، وان كانت الملازمة عادية كانت المقدمة عادية ، وليست هذه الاقسام
على نسق واحد فإن العقل فى المقدمات ليس إلّا واسطة فى اثبات الملازمة دون ثبوتها
، بل الواسطة فى الثبوت ليس إلّا ذات الشىء بما هو هو ، وهذا بخلاف المقدمتين
الاخيرتين ، فان الشرع والعادة واسطة فى ثبوتها دون الاثبات ، لظهور ان الملازمة
فى المقدمات الشرعية والعادية لا تتحقق الا بعد اعتبار الشرع مشروطية الصلاة
بالطهارة مثلا فى المقدمة الشرعية ، او اقتضاء العادة فى حصول العلم بالتعلم مثلا
فى المقدمة العادية ، فلو لا اعتبار مطلوبية الصلاة مقيدة بالطهارة ، وكذا تحصيل
العلم من طريق التعلم ، لما كان ثمة ملازمة بين الطهارة والصلاة ولا بين العلم
والتعلم.
«فى تقسيم المقدمة
الى الوجودية والوجوبية والصحة والعلمية»
ومنها تقسيمها الى
مقدمة وجودية ، ومقدمة وجوبية ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة علمية ، ولا يخفى ان مقدمة
الصحة لا تخرج عن المقدمتين الاولين ، لظهور ان القصور فى طرو الوجوب على الشىء
تارة يكون لقصور فى موضوعه وأخر لقصور فى حكمه ، فان كان من قبيل الاول كانت
المقدمة من المقدمة الوجودية كالطهارة بالنسبة
الى الصلاة ، فإن
وجود الصلاة الواجبة منوط بالطهارة ، وان كان من قبيل الثانى كانت المقدمة مقدمة
وجوبية كالوقت بالنسبة الى الصلاة فإن الصلاة الواقعة قبل الوقت لم يكن فيها قصور
باعتبار وجودها ، وانما القصور فى توجه الحكم نحوها فلا تكون واجبة قبل الوقت.
هذا ما افاده
شيخنا الاستاذ دام ظله فى مقدمة الصحة وكأنه يومئ فى كلامه هذا الى الاعتراض على
ما فى الكفاية من تخصيصه رجوع مقدمة الصحة الى مقدمة الوجود خاصة ، حيث قال الماتن
فى الكفاية :
«لا يخفى رجوع
مقدمة الصحة الى مقدمة الوجود ولو على القول بكون الاسامى موضوعة للاعم ، ضرورة ان
الكلام فى مقدمة الواجب لا فى مقدمة المسمى بأحدها كما لا يخفى» انتهى كلامه رفع
مقامه.
وهو عندى جيد متين
لا يرد عليه مقالة الاستاذ ، اذ حال الصلاة اذا وقعت قبل الوقت كحالها اذا وقعت من
غير طهارة ، لا توصف بالواجبية الا بعد الوقت فما يوقع قبل الوقت ليس هو الواجب
كما ان الواقع من غير طهارة لم يكن هو الواجب ، فالصلاة بصفة الواجبية لا تتحقق
الا بعد الوقت والطهارة فكل منهما مقدمة لوجود الواجب بصفة واجبيته.
اللهم إلّا ان
يكون نظر شيخنا الاستاذ الى ان الدخيل فى الواجب يختلف حاله ، تارة يكون دخالته فى
تحقق ذات الواجب المتصف بصفة الوجوب ، وذلك كالطهارة التى هى مقدمة الوجود فى
اصطلاحهم واخرى يكون دخالته فى لحوق صفة الوجوب للواجب ، وذلك كالوقت الذى هو
مقدمة وجوب الصلاة بمقتضى قوله «ع» اذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور .
__________________
وكيف كان فالامر
سهل.
واما المقدمة
العلمية فتارة يكون من قبيل الشبهة المحصورة ، لتوقف اجتناب النجس المعلوم تحققه
بين الاطراف ، على اجتناب الاطراف ، ومعلوم ان ذلك من الوجوب العقلى الثابت للعلم
الذى هو ذو المقدمة ولا يرتبط بمحل البحث ، واخرى يكون من قبيل الفحص الذى هو
مقدمة للتعلم فان كان التعلم واجبا نفسيا كما هو مختار صاحب المدارك قده كان الفحص مقدمة وجود لا مقدمة علمية ، وان كان واجبا
للغير كان الفحص مثله مقدمة لحصول العلم الذى هو ذو المقدمة فكان ذلك مقدمة وجود
ايضا ، وان كان اعتبر طريقا الى الواقع فيخرج ذلك عن المقدمة العلمية فى جميع
الفروض.
«فى تقسيم المقدمة
الى سبب وشرط وعدم المانع»
ومنها تقسيمها الى
سبب وشرط وعدم المانع ، وعرف السبب بأنه ما يلزم من وجوده الوجود ، وعرف الشرط
بأنه ما يلزم من عدمه العدم ، وعرف المانع بأنه ما يلزم من وجوده العدم.
وربما يستشكل فى
تعريف السبب بأنه غير جامع ، لعدم شموله للسبب المقرون مع المانع فانه لا يلزم من
وجوده الوجود ، ومن ثم قيده بعضهم بقيد لذاته تخلصا من هذا الاشكال ، ومع ذلك هو غير سالم من
الاشكال لانتقاضه بالجزء الاخير من العلة التامة فانه يلزم من وجوده الوجود ، مع
ان ذلك الجزء الاخير ربما لا يكون من قبيل الاسباب فلا يكون التعريف حينئذ مانعا.
__________________
والاولى ان يفرق
بين السبب وتالييه ، بأن السبب له دخالة فى مسببه بنحو التأثير ، بخلاف الشرط وعدم
المانع فإن دخالتهما فى المشروط وحصول الممنوع بنحو افاضة القابلية ، وصيرورة
الماهية بهما قابلا للتأثير من ناحية الاسباب.
ويظهر لك كمال
الفرق بينهما فى مثال النار واليبوسة والرطوبة المانعة عن تأثير النار فى احراق
الخشب فان النار سبب للتأثير فى الخشب دون الاخيرين ، فأنهما مما يتحقق بهما
قابلية التأثير من قبل النار لظهور ان النار هى المحرقة للخشب واليبوسة شرط فى
تأثير الخشب بالاحتراق من قبل النار كما ان الرطوبة مانعة عن تأثره بها ، فعدم
الرطوبة كاليبوسة له دخالة فى قبول الخشب للاحتراق.
والحاصل ان الاول
يحقق الاثر ويوجده فى الخارج والاخيرين محققان للقابلية فى الخشب.
وبهذا البيان
يندفع ما قد يورد على تعريف الشرط بأن منقوض بجزئه فانه يلزم من عدمه العدم ايضا ،
فيلزم من ذلك ان يلحق الجزء وجوب غيرى له ، ثم يلحقه وجوب آخر باعتبار ملاحظة
انضمامه مع الجزء الآخر ، ثم وجوب ثالث بملاحظة انضمامهما مع الجزء الثالث وهكذا ،
فيكون هناك وجوبات متركبة على جزء واحد وهذا محال بالضرورة.
وتوضيح الاندفاع
بأن يقال : ان مناط اعتبار الشرط هو افاضة القابلية وهذا المناط يقضى بلحوق وجوب
واحد للشرط بتمام اجزائه بوجوب واحد لكل واحد من تلك الاجزاء وجوب ضمنى لا وجوب
مستقل ، وكذلك فى السبب لما كان مناط الوجوب هو افاضة الوجود والتأثير فى المسبب
وهذا قائم فى السبب بمجموع اجزائه ، لا بكل جزء جزء ، ولازم ذلك ان يلحق بكل واحد
من الاجزاء وجوب ضمنى يتعلق به لا وجوب مستقل حتى يتأتى فيه اشكال اجتماع
الوجوبات على جزء
واحد.
ثم انه قد ظهر من
البيان المزبور الفرق بين السبب واخويه وعرفت ان دخالة الشرط وعدم المانع فى تحقق
المشروط ووجود الممنوع ليس بنحو التأثير كما هو كذلك فى السبب والمقتضيات ، بل
بنحو تصير الماهية بهما قابلة للوجود والتحقق ، ويكون ذلك هو الوجه فى تقدمهما على
ذى المقدمة.
وببيان آخر ان
الماهية لما كانت ذات اثر خاص ، وربما يكون ترتب الاثر عليها منوطا بتخصصها
بخصوصية خاصة ونحو خاص ، فان كانت الخصوصية منتزعة عن وجود شىء ، او كونها فى طرف
خاص ، سمى ذلك المنشا الانتزاع شرطا ، وان كانت منتزعة عن عدمه سمى ذلك المنشا
الانتزاع بالمانع ، فالمانع على هذا لا يكون له دخالة فى الممنوع إلّا باعتبار ان
قابلية الماهية للتأثر من قبل السبب منوط بعدمه لا بنحو التأثير ، ضرورة ان
الاعدام غير قابلة للتأثير ولا سنخية بين العدم والوجود ، كما انه ليس مناط
الدخالة هو المضادة لكمال المنافرة بين الضدين والنقيضين.
مضافا الى ان
الضدين فى رتبة واحدة ، فعدم احدهما فى رتبة وجود الآخر فلا يصلح مثله ان يكون
منشأ لتقدم عدم احدهما على وجود الآخر ، بل ليس منشؤه الا صيرورة الماهية به قابلة
للتأثر من قبل الاسباب والمقتضيات ، فكان تقدم الشرط وعدم المانع على المشروط
ووجود الممنوع من باب تقدم منشأ الانتزاع على الامر الانتزاعى دون المؤثر على
المتأثر ، وهذا فى المانع كالضرورى بعد ما عرفت من قيام البرهان الجزمى على استحالة
الدخالة التأثيرية فيه لامتناع تأثير الاعدام فى الوجودات.
«فى الشرط المتاخر»
واما الشرط فهو
وان امكن التشكيك فيه بأنه لم يقم ما يدل على امتناع دخالة التأثير فيه بالنسبة
الى مشروطه ، إلّا انه من الجائز ان يكون اعتباره فى المشروط بملاحظة كونه منشأ
انتزاع الخصوصية فى مشروطه ، فليحمل عليه كلما يرد من الشرع مشروطا بشرط متأخر
كالاجازة فى الفضولى والغسل الليلى فى المستحاضة ونحو ذلك مما ظاهره اعتبار
المتأخر شرطا فى صحة المتقدم.
فتلخص مما قررناه
ان الذى يستحيل تأخره عن المعلول ما يكون مؤثرا فيه نحو المقتضيات والاسباب لا ما
يكون بنحو يفيده قابلية التأثر والانفعال من قبل المقتضيات ، فلا يجب فى اجزاء
العلة بتمامها ان تكون مقارنة لمعلولها ، الا ما يكون دخالته فيه نحو التأثير دون
افاضة القابلية هذا.
وفى الكفاية لما
بنى على اعتبار التأثير فى تمام اجزاء العلة استشكل فيما ورد مما ظاهره الشرط
المتأخر او المتقدم ، وتخلص عنه بأن الشرط ان اعتبر شرطا للتكليف او الوضع فليست
شرطيته له الا بوجوده العلمى لا بوجوده الخارجى وما هو متأخر هو الوجود الخارجى
كما فى الشرط المقارن وهذا معنى قوله قده «فكما فى المقارن يكون لحاظه فى الحقيقة شرطا
كان فيهما كذلك فلا اشكال وكذا الحال فى شرائط الوضع مطلقا.» وفيه ان الوجود
العلمى ليس له دخالة فى تحقق المصلحة القائمة فى التكليف او الوضع ، وانما الدخيل
فيهما الوجود الخارجى المتأخر او المتقدم ، فليس العلم
بالنسبة اليهما
الا طريقا محضا ، ولا موضوعة له فيهما لظهور انتفاء التكليف مع انكشاف الخلاف وعدم
تحقق المعلوم من الشرط المتقدم او المتأخر.
ومما يشهد
للطريقية ان لو فرض امكان اجتماع العلم بتحقق الشرط فى الزمن المتأخر مع احتمال
عدم تحققه ، لم يكد ينقدح فى نفس الطالب ارادة متعلقة بالفعل باعثة للتحرك نحوه ،
وحينئذ اذا كانت المصلحة منوطة بالشرط المتأخر عاد المحذور بالنسبة الى المصلحة ،
حيث انها صارت مشروطة بشرط متأخر.
ولئن قلت : ان هذا
التكليف او الوضع يستعقبان الشرط المتأخر وهذا التعقب صفة مقارنة لهما وكفى بذلك
فى تصحيح القاعدة العقلية وعدم انخرامهما.
قلت : ان كانت هذه
الصفة صفة حقيقية ، فكيف تكون منتزعة عن المعدوم المتأخر ، وان كانت اعتبارية
فمنشأ انتزاعها ليس إلّا الوجود المتأخر ، واذا صلح انتزاعها عن المتأخر وجودا ،
فليكن الشرط هو الوجود المتأخر على حسب ما يقتضيه ظاهر دليل الشرط ، بلا حاجة الى
تمحل ارتكاب التأويل فيه بارجاع الشرط فيه الى صفة التعقب الذى هو خلاف ظاهر
الدليل ، اذ الداعى الى ذلك لم يكن إلّا ان المؤثر لا بد وان يكون مقارنا للمتأثر
، ومع فرض الصفة اعتبارية يمتنع تأثيرها فى الموصوف ، بل انما تكون الماهية بها
متكيفة بكيفية تقبل التأثير من قبل الاسباب والمقتضيات ولا اشكال فى ان هذا المعنى
لا ينحصر تحصله بالمقارنات ، بل يتحصل بالمتأخر الذى هو منشأ انتزاع الكيفية فى
الماهية المتقدمة ، وحينئذ يكون المتأخر هو الشرط للمأمورية كما يقتضيه ظاهر
الدليل ، «وليس مفاده إلّا ان يحصل لذات المأمورية بالاضافة اليه وجه وعنوان به
يكون حسنا
او متعلقا للغرض
بحيث لولاها لما كان كذلك ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه
والاعتبارات الناشئة عن الاضافات ، مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه ، والاضافة كما
تكون الى المقارن تكون الى المتأخر او المتقدم بلا تفاوت اصلا كما لا يخفى على
المتأمل.»
«فى الكشف الحقيقى»
ثم انه بعد ان
عرفت ان دخالة المتأخر ليس بنحو التأثير بل بنحو اعطاء القابلية وصيرورته منشأ
انتزاع الملكية فى السابق ، وثمرته الالتزام بترتب الآثار من حين صدور العقد وهذا
معنى الكشف عند القائلين به. وهل الكشف حقيقى او حكمى؟ المختار الاول ، خلافا
لشيخنا الانصارى قده حيث انه اختار الثانى نظرا الى ان للشرط دخلا فى المشروط بنحو
التأثير ، ويستحيل تأثر المتقدم من قبل المتأخر فلا بد من اعتبار الكشف حكميا لا
حقيقيا.
ولكنك قد عرفت بما
لا مزيد عليه ان دخالة الشروط فى مشروطاتها ليس إلّا من قبيل معطيات القابلية وهى
خفيفة المئونة لا تختص بالمقارنات ، بل تتأتى فى الشروط المتقدمة والمتأخرة ايضا.
وهل لا بد فى
الاجازة التى هى شرط فى صحة العقد ان تكون مقارنة لجعل الملكية ، او يجوز تقدم
الجعل عليها ايضا كتقدم المجعول فيستكشف من حين الاجازة تقدم الجعل على زمان
الاجازة سابقا عليها ومحققا من حين صدور العقد؟ الوجه ان ذلك جائز عقلا وان كان
غير واقع شرعا ، وستعرف الوجه فى عدم وقوعه إن شاء الله
__________________
تعالى شرعا.
ويشهد لعدم وقوعه
كذلك عدم التزام احد من الاصحاب بالبناء على التملك وترتب آثاره من حين صدور العقد
مع العلم بلحوق الاجازة ، بل يبقى الحال عندهم مراعى حتى تجيء الاجازة من المالك ،
فاذا جاءت الاجازة بنى على تملك المال من حين العقد وفائدته تملك نمائه الذى حصل
فى المال من حين العقد وقبل الاجازة ، فيكون الجعل على هذا مقارنا مع الاجازة ،
وان كان المجعول الذى هو الملكية متقدما عليها ، فلا يلزم من ذلك اللازم المزبور
من البناء على الملكية من حين صدور العقد حتى ينكر بأنه مما لم يلتزم به احد.
«فى فساد القول بأن
الشرط هو تعقب الاجازة»
ومنه يظهر فساد ما
التزم به الفصول وقال : بأن الشرط هو تعقب الاجازة. اذ لازمه الالتزام بالملكية من حين صدور العقد ، لتحقق
العقد مع شرطه الذى هو التعقب فيجب الوفاء به ، وهذا كما عرفت مما لم يلتزم به
احد.
مضافا الى ان
شرطية التعقب مما لا يفى به الادلة القائمة على شرطية الاجازة اذ ليس ذلك إلّا
قوله تبارك وتعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وظاهر ان مقتضاه ليس إلّا شرطية الرضا دون تعقب
__________________
العقد به كما زعمه
قده.
ان قلت : كما لم
تكن الادلة وافية بالدلالة على شرطية التعقب كذلك هى غير وافية بالدلالة على
اعتبار مقارنة الجعل للرضا ، فلم لا يجوز تقدم الجعل للرضا! فان اطلاق دليل شرطية
الرضا لا يقضى إلّا باعتبار نفسه من غير نظر الى تقدمه عليه او تأخره عنه ، او
مقارنته له ، فيستدل بإطلاقه على كفاية الرضا بجميع انحائه.
قلت : لا اشكال فى
كفايته ولو متأخرا إلّا انه ليس المتأخر الا متأخرا عن المجعول دون الجعل والسر فى
ذلك ان الجعل انما يتحقق بتمامية العقد وصدوره من اهله لظهور ان اوفوا بالعقود
معناه لزوم الوفاء بعقودكم ، كما ان التجارة فى الآية الكريمة يراد بها تجارتكم ،
ومعلوم ان هذه الاضافة لا تتحقق إلّا بالرضا والاجازة ، فمن حين حصول الاجازة
والرضا من المالك تحصل الاضافة وعندها يتنجز فى حقه الوفاء بعقده وتجارته ، فلا
تنجعل الملكية حينئذ الا من حين حصول اضافة العقد التجارة الى المالك نفسه ،
ونتيجة ذلك اقتران الجعل بالرضا ، فهذا برهان جزمى على التقارن بين الرضا والجعل ،
لكن المجعول لما كان امرا اعتباريا جاز تقدمه على المجعول وتصير الملكية السابقة
فى باب الاجازة مجعولة بالجعل المتأخر ، كما ان الملكية اللاحقة فى باب الوصية
تكون مجعولة بالجعل المتأخر ، وهذا هو الوجه فيما سمعته آنفا من عدم التزام احد
يترتب آثار الملكية للعالم بتعقب الاجازة كما هو لازم تقدم الجعل على الاجازة.
ان قلت : قد تقرر
فى باب المشتق ان المشتقات لا دلالة فيها على الزمان ، بل هى صادقة على ما يكون
متحققا قبل النسبة وبعدها وحينها فان الضارب فى جاء الضارب اذا لم يكن دالا الا
على اتصاف الذات بالضرب تلبسها به كما هو التحقيق الرشيق فى وضع المشتقات ، فلا
يكاد يستفاد منه
الا اقتران صفة الضاربية بزمان المجيء ، بل يجوز ان يكون ضاربا قبل المجيء وحينه
وبعده ، وكذلك المقام فان التراضى المأخوذ شرطا فى جعل الملكية لم تعتبر مقارنته
له خاصة ، بل يجوز مقارنته له وتأخره عنه وتقدمه عليه.
قلت : قد بينا
هناك ان وضع المشتق وان لم يكن يقتضى المقارنة ، بل مفاده اعم من ذلك ، إلّا ان
للهيئة الكلامية دلالة على اقتران زمان الجرى مع زمان النسبة الحكمية ما لم تقم
قرينة على خلافه ، ولازم ذلك اقتران زمان الرضا مع زمان تحقق عنوان اضافة العقد
الى المالك ، وهو حين الاجازة فيتحقق بها الاضافة القاضية بتحقق الجعل من حين تحقق
الاجازة.
فإن قلت : ظاهر
قوله تبارك وتعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) هو اعتبار تقدم الرضا على تحقق التجارة بمقتضى كلمة «عن»
الدالة على نشو التجارة عن التراضى ، وهو لا يكون إلّا بلحاظ تقدم الرضا على
التجارة.
قلت : كلمة «عن»
لا تقتضى الا التقدم ولا ينحصر ذلك فى التقدم الزمانى ، بل يتحقق التقدم فى التقدم
الرتبى ايضا وهو حاصل بين الرضا والتجارة وان لم يكن بينهما تقدم زمانى كما هو
ظاهر.
فتحصل من جميع ما
ذكرناه ان الاجازة لا يعتبر تقارنها الا مع جعل الملكية دون الملكية نفسها ، بل
يجوز تقدم الملكية المجعولة على الاجازة كما يجوز تقدمها على الجعل ايضا ، هذا كله
الكلام فى الاحكام الوضيعة.
واما الاحكام
التكليفية فيمتنع تقدمها على الانشاء فيما لو كانت مشروطة بالشرط المتأخر لاستحالة
انشاء وجوب السابق على زمان الانشاء ، ضرورة ان التكليف بعث العبد نحو المطلوب ،
ولا ريب ان
البعث يستحيل
اعتباره بالنسبة الى ما سبق من اليوم السابق الذى مضى وانقضى ، فان ورد شرط متأخر
فلا بد وان يكون متأخرا من الانشاء والوجوب المنشا معا ، فيكون المتقدم فى زمانه
تكليف وجوبى قد انشاء بإنشاء من حينه بملاحظة ما يلحقه من الشرط المتأخر حتى يصح
بذلك البعث نحو العمل فى الزمان المتقدم.
لا يقال : ينبغى
خروج الشرط المتأخر للمأمور به عن حريم النزاع لاستحالة ترشح الوجوب من المأمور به
اليه ، ضرورة ان المأمور به اذا كان متقدما على شرطه زمانا فعند اتيانه فى زمانه
يسقط التكليف المتعلق به واذا سقط تكليفه امتنع ترشح الوجوب منه الى مقدمته الآتية
، لان الترشح منه اليها فرع بقاء الطلب الوجوبى وقد فرض سقوطه بالامتثال.
لانه يقال : اما
فى عالم اللحاظ والتصور فليس ثمة مانع من سراية الوجوب الى ذلك الشرط المتأخر لان
الامر بعد ان علم بالتوقف جرت الملازمة بين وجوب المشروط ووجوب شرطه ، واما فى
عالم الخارج فقد عرفت ان دخالة الشرط المتأخر فيما سبقه من مشروطه ليس إلّا
بصيرورة الماهية به متكيفة بكيفية خاصة قابلة لان يفاض اليها التأثير من ناحية
السبب ، فاذا جاء المكلف بذات المشروط او لا لم يسقط عنه التكليف إلّا اذا اتى به
متخصصا بخصوصية الخاصة المعتبرة فيه شرعا ، وهى لا تحصل الا بإلحاقه بشرطه فذلك
التكليف المتعلق بالمشروط بالنحو الخاص يبعثه على اتيان الشرط لتحصيل الخصوصية وهو
ظاهر لا يكاد يخفى على المتأمل.
«حول تقسيمات الواجب»
«الامر الثالث فى
تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه الى المطلق والمشروط.»
وربما يستشكل فى
هذا التقسيم بأنه ينافى المعهود لديهم من اشتراط جميع التكاليف بالشرائط العامة من
البلوغ والعقل والقدرة والاختيار ، اذ عليه تكون الواجبات كلها مشروطة ، ولا يبقى
مجال لصيرورتها مطلقة حتى يتجه التقسيم المذكور.
ويدفعه ان التقسيم
ناظر الى مرتبة الخطاب دون التنجز ولا خطاب متوجه الى الطفل والمجنون ، اما غير
المميز منهما فلامتناع خطابهما اقتضاء فعلية ، واما المميز منهما فلرفع الخطاب
عنهما بنص الشارع ، واما القدرة والاختيار فهما كالعلم من شرائط التنجز دون
الاقتضاء ، فالخطاب الاقتضائى متحقق فى حق العاجز والجاهل وان لم يتنجز فى حقه
التكليف فعلا ، فصح لنا حينئذ تقسيم الواجبات بحسب مرتبة الخطاب الاقتضائى الى
واجب مطلق ومشروط بلا محذور فيه اصلا كما هو اوضح من ان يخفى.
ثم ان غرض الاقصى
من هذا التقسيم التنبيه على ان الذى هو محط النزاع ، ما يكون مقدمة للواجب المطلق
دون المشروط ، واما مقدمة المشروط فلا يجب من ناحية وجوب المشروط لامتناع ترشح الوجوب
الى المقدمة قبل حصول وجوب ذيها لاستحالة تقدم المعلوم على علته ، وحينئذ اذا اتفق
للشىء مقدمتان مقدمة وجوب ومقدمة وجود ، كالحج بالنسبة الى الاستطاعة التى هى
مقدمة وجوبها ، والى
الزاد والراحلة
اللتين هما مقدمة وجوده ، فلا تكون المقدمة الوجوبية واجبة ، بخلاف المقدمة
الوجودية فانها تبتنى على الخلاف.
«فى تقسيم الواجب الى
المعلق والمنجز»
ثم ان ظاهر
التعليق بالشرط ان يكون المعلق على الشرط هو مضمون ما يستفاد من صيغة الامر الذى
هو الطلب والبعث ، وقضيته انتفاء الوجوب مع عدم تحقق المعلق عليه ففى مثال ان جاءك
زيد فأكرمه يكون المعلق على المجيء وجوب الاكرام لا نفس الاكرام ، ومقتضى انتفاء
الوجوب عن الاكرام عند انتفاء المجيء خارجا ، وهذا مما لا يكاد يرتاب به احد.
وقد اعترف به
الماتن قده فى هذا المقام حيث قال : «الظاهر ان الواجب المشروط كما اشرنا اليه ان
نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط ، بحيث لا وجوب حقيقة ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط
كما هو ظاهر الخطاب التعليقى.» انتهى موضع الحاجة من كلامه قده.
ولا يخفى ان كلامه
هذا ينافى ما سبق منه فى المبحث السابق حيث جعل الشرط فى شرائط التكليف والوضع هو
الملحوظ بوجوده اللحاظى دون الخارجى ، وكيفما كان فالتحقيق الذى يساعد عليه النظر
الدقيق هو ما ذكره فى هذا المقام دون سابقه ، كما انه لا ينبغى انكار ظهور الجملة
الشرطية المتلوة بالامر فى تعليق الطلب بالشرط دون المطلوب ، لكن المنقول عن شيخنا
المرتضى قده الخروج عن هذا الظاهر بقرينتين لغوية وعقلية ، اما القرينة اللغوية
فهى ان المعنى الحرفى الذى هو مدلول للهيئة جزئى حقيقى بناء على مختاره فلا يكون
قابلا للتقييد اذ «لا اطلاق فى الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشا
بالهيئة ، حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه ، فكلما يحتمل رجوعه الى الطلب الذى
يدل عليه الهيئة فهو عند
التحقيق راجع الى
نفس المادة.»
ومقتضى هذا الوجه
انحصار استفادة القرينية ، فيما اذا كان الجزاء بصيغة الامر ، اما اذا كان بمادته
نحو ما لو قال المولى ان جاءك زيد فأنت مأمور باكرامه او يجب اكرامه ، فلا اقتضاء
فى مثله للخروج عن الظهور لان المواد قابلة للتقييد كما هو ظاهر.
واما القرينة
العقلية فهى ان الطلب تابع للعلم بالمصلحة ، ولا شك ان العلم بالمصلحة سابق على
تحقق الشرط خارجا ، فيكون الطلب سابقا عليه ايضا ، غاية ما فى الباب ان الطلب
يختلف بحسب اختلاف العلم بالمصلحة فان علم بها على نحو الاطلاق بأن كان الشىء
يحتوى على المصلحة على جميع التقادير والانحاء ، كان ذلك الشىء مطلوبا على الاطلاق
ويسمى بالواجب المطلق ، وان لم يكن يحتوى على المصلحة الا على تقدير دون تقدير كان
ذلك الشىء مطلوبا على تقدير خاص ، فالقصور حينئذ يكون فى ناحية المطلوب دون الطلب
، ومقتضى هذه القرينة اعم من مقتضى القرينة السابقة ، لظهور ان ما اقامه من الدليل
العقلى اللبى على امتحالة تعليق الطلب ، لا يفرق فيه بين انحاء التعبير المذكور فى
تالى الشرطية مادة وهيئة ، بخلافه على القرينة السابقة لما عرفت من اختصاصها
بالمنع على تقدير ورود العبارة فى تالى الشرطية بصيغة الامر لا مادته هذا حاصل ما
تحصلناه مما نقل الينا من كلام شيخنا الانصارى قده.
والجواب عنه اما
عن القرينة الاولى فبأنها مبنية على ان الحروف والهيئات موضوعة بالوضع العام
والموضوع له الخاص ، وهو خلاف التحقيق والمختار عندنا ، بل وضعها عام والموضوع له
عام ايضا
__________________
فلا بأس حينئذ
بطرو التقييد على مداليلها ، والى ذلك نظر الماتن فأجاب بما افاده من منع المبنى
نظرا الى «ان كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه فى الحروف يكون عاما كوضعها ،
وانما الخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء ، وانما الفرق بينهما انها وضعت لتستعمل
وتقصد بها المعنى بما هو هو ، والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هى آلة
وحالة لمعانى المتعلقات ، فلحاظ الالية كلحاظ الاستقلالية ، ليس من طوارى المعنى ،
بل من مشخصات الاستعمال كما لا يخفى على اولى الدراية والنهى ، فالطلب المفاد من
الهيئة المستعمل فيه مطلق قابل لان يقيد.»
لكن فى قوله هنا :
فلحاظ الالية كلحاظ الاستقلالية ، دلالة على ان لحاظ المعنى الحرفى تبعى وعلى نحو
الالية والمرآتية للغير وليس مقصودا فى نفسه وبحياله ، ولا ريب ان اللحاظ الالية
والتبعية فى اللحاظ يمنع عن التقييد ، اذ التقييد موقوف على تعلق القصد بالمعنى
على نحو الاستقلال ، وان كان المعنى فى ذاته تبعيا كما هو المختار عندنا فى معانى
الحروف ، فالتبعية عندنا انما هى فى الملحوظ وعند الماتن فى اللحاظ وكم من فرق
بينهما فانه على الاول لا يمتنع التقييد ، بخلافه فانه يستحيل تقييد المعنى الغير
المقصود باللحاظ الا تبعا لغيره كما هو ظاهر لا يكاد يخفى.
وقد اعترف الماتن
قده فى حاشيته على المكاسب عند قول شيخنا الانصارى فى خبر ابى ولاد ، نعم قيمة بغل
يوم خالفته حيث ذهب الشيخ الى ان المدار فى القيمة على يوم المخالفة ، على ان يكون
يوم مضافا الى البغل ثم اضيف المؤتلف من المضاف والمضاف اليه الى يوم المخالفة ،
فأورد عليه الماتن ثمة بأن ذلك يستدعى تقييدا فى ناحية الاضافة المتحصلة من قيمة
البغل وهى غير صالحة للتقييد ،
لان الاضافة
المستفادة من هيئة التركيب معنى حرفى غير ملحوظ بالاستقلال ، بل على نحو الالية
وهذا النحو من اللحاظ الآلي مما يستحيل اعتباره مقيدا بيوم المخالفة.
وبالجملة اذا
اعتبر المعنى ملحوظا باللحاظ الآلي كما هو مختار الماتن امتنع تقييده وبذلك يظهر
ما فى جوابه عن كلام شيخنا الانصارى قده فى هذا المقام.
نعم لا بأس على
تقييده على ما نختاره من كون التبعية فى المعانى الحرفية قد اعتبرت فى جانب
الملحوظ دون اللحاظ ، فجوابه او لا بما سمعت غير متجه على مبناه.
ثم قال الماتن : «مع
انا لو سلم انه فرد فانما يمنع عن التقييد لو انشاء اولا غير مقيد ، لا ما اذا
أنشأ من الاول مقيدا ، غاية الامر قد دل عليه بدالين وهو غير انشائه او لا ثم
تقييده ثانيا فافهم.»
اقول : ولعل قوله
: فأفهم اشارة الى عدم تمامية جوابه هذا ايضا كسابقه ، اذ الهيئة اذا كان تدل على
ان مفادها هو الطلب المنوط ، فذلك المعنى انما هو معنى للجزاء ، فتبقى الهيئة
الجملة الشرطية تدل على ان الجزاء المنوط بالشرط منوط بالشرط وهذا واضح الفساد كما
لا يخفى.
ثم ان الماتن بعد
ان ذكر ما سمعته من الجواب المتعلق بالقرينة الاولى ، اجاب عن القرينة الثانية بما
حاصله ان الطلب تابع للعلم بتحقق المصلحة فى الشىء الغير المزاحمة بالمفسدة ، واما
لو زوحمت بالمفسدة يستحيل تعلق الطلب بذلك الشىء ، بل ينتظر فى تعلقه به الى زوال
تلك المفسدة ، فقبل زوالها لا تكليف ولا طلب فاذا جاز
__________________
ذلك فى حد ذاته لم
يكن ممتنعا فى نفسه فعند ورود القضية الشرطية لا مانع من الاخذ بظاهرها والحكم
بإناطة الطلب بالشرط.
ويرد عليه اولا ان
الشرط ربما يكون بوجوده الخارجى منافيا للطلب ، كما فى التعليق بالنوم والموت نحو
قول الشاعر :
اذا مت فادفنى
مجاور حيدر
|
|
أبا شبر اعنى به
وشبير
|
ونحو ما اذا قال
المولى لعبده : اذا نمت كنس الدار وامثال ذلك ، وحينئذ يستحيل فى مثل هذه القضايا
اعتبار الطلب متأخرا عن تحقق الشرط اذ لا طلب بعد الموت والنوم ، فمثل هذا كاشف
جزمى على ان الطلب فى مثل هذه القضايا الشرطية سابق على زمان الشرط ولا مجاز فيها
قطعا ، لانها على حذو غيرها من القضايا الشرطية الغير المبتنية على رعاية عناية
وملاحظة علاقة كما لا يخفى على اولى الدراية.
وثانيا ان الانشاء
مقدمة من مقدمات حصول المراد ، ولا ريب ان مثل هذا الانشاء قد صدر عن ارادة
واختيار ، فكان مثل هذا الانشاء مرادا بارادة غيرية مقدمة لحصول المراد الذى هو
الاكرام فى فرض المثال ، ومن المعلوم الواضح استحالة انفكاك الارادة الغيرية عن
الارادة النفسية ، فلا بد وان يكون الاكرام مرادا عنه ارادة انشاء الطلب والارادة
المتعلقين بالاكرام.
وثالثا ان
الالتزام بتقييد الهيئة ليس فيه محافظة على ظهور الكلام المشتمل على التعليق ، اذ
الظاهر المستفاد من مجموع الكلام ليس إلّا اناطة الجزاء بمدلوله على الشرط نفسه لا
على ما يقارنه من عدم المفسدة كما هو مبنى كلام الماتن ، اذ على مبناه لا يكون
للاستطاعة التى هى شرط الوجوب دخالة فى تحقق الوجوب للحج وتعلق الطلب به بل الدخيل
فيه ليس إلّا ارتفاع مانع المفسدة.
ان قلت : كفى فى
دخالتها فيه توقف الوجوب على تحققها منضمة الى عدم المانع ، فهى بالنسبة الى وجوب
الحج كنسبة المقتضى الى مقتضاه لا يؤثر فيه الا بعد ارتفاع ما يقارنه من المانع.
قلت : ليست
الاستطاعة على هذا شرطا فى حصول الارادة ولا دخيلة فيها ، بل انما هى من قيود
الموضوع ويتعرف ذلك من أنا لو فرضنا انتفاء المفسدة من حين الانشاء فأنا نجد
الارادة والطلب متحققين ومع ذلك هما متعلقان بالحج بعد الاستطاعة ، فلو كانت
الاستطاعة شرطا فى تحقق الارادة لما تخلفت عنها فى هذا الفرض لعدم مانع عن تحققها
كما هو المفروض فهذا دليل على ان الاستطاعة لم تعتبر الا فى موضوع الحكم وفى متعلق
الطلب والارادة لا فى حصول الارادة نفسها كما هو ظاهر لا اظن ان يخفى.
ثم ان الماتن قده
بعد ما اختار مذهب المشهور من تعليق الطلب بالشرط قال : «هذا بناء على تبعية
الاحكام لمصالح فيها فى غاية الوضوح ، واما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد فى
المأمور بها والمنهى عنها فكذلك ، ضرورة ان التبعية كذلك انما تكون فى الاحكام
الواقعية بما هى واقعية لا بما هى فعلية فان المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز
كما فى موارد الاصول والامارات على خلافها» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد فى علو
مقامه.
اقول : فرق بين
المقام وما ذكره من موارد الاصول والامارات ، فان الاحكام بناء على تبعيتها لمصالح
فى المأمور به ، لا يرتفع فعليتها الا حيث تكون المصلحة فى موردها مزاحمة بالمفسدة
الاهم المانعة عن تنجز التكليفات الواقعية ، وليس المقام من هذا القبيل ، لظهور ان
الحج مثلا قبل الاستطاعة التى هى شرط التكليف بالحج ان اشتمل على مفسدة كان ذلك من
باب اشتمال الشىء على مفسدة
غير لازمة
المراعاة ، لانها مفسدة تترتب على الفعل اذا اتى به قبل وقته المقرر له وظاهر ان
مثل هذه المفسدة لا تصلح ان تكون رافعة لفعلية الخطاب قبل ، اذ لا مصادمة لمثل هذه
المفسدة لفعلية الطلب ، لعدم استتباعه الفعل الا فى زمانه المضروب له شرعا او على
الصفة المعتبرة فيه كذلك ، وهذا بخلاف موارد الاصول والامارات فان مقتضى المصلحة
فيها وان كان هو فعلية الطلب الباعث الى العمل من حين ورود الخطاب ، إلّا ان
ابتلاء المورد بما يزاحمه من المفسدة الاهم ، اوجب ارتفاع الفعلية عن ذلك المورد
وصار مرخصا فى تركه مثلا بعد ان كان مقتضى المصلحة فيه المنع عن تركه كما ورد ذلك
فى السواك.
فتلخص من جميع ما
مر ان كلام الشيخ اعلى الله مقامه سالم عن الايراد عليه بما فى الكفاية ، ومحصل
اختياره ان لا واجب عندنا الا واجب مطلق مردد بين منجز ومعلق ، فالتقسيم حينئذ
ثنائية لا ثلاثية كما ذهب اليه المشهور ، فان اقترن زمان الوجوب والواجب كان من
الواجب المنجز الحالى وان اختلفا كان من الواجب المعلق ، وفى قباله من وافقه
بتثنية القسمة إلّا انه احال المعلق وحصر التقسيم فى قسميه المشروط والمنجز
الحالى.
«فى ابطال ما افيد من
استحالة الواجب المعلق»
وحاصل ما افيد فى
تقريب المنع واستحالة الواجب المعلق وجهان :
احدهما : ان الارادة
التى هى ملاك الوجوب ليست إلّا ما توجب حركة العضلات نحو المراد وهى فى الارادة
التكوينية تبعث المريد على التحرك نحو المراد ، وفى الارادة التشريعية تبعث العبد
على
التحرك نحوه ، وهى
لا تكون الا مقارنة للعمل فما لم تكن مقارنة له لم تكن تلك الارادة منشأ انتزاع
الوجوب والطلب ، وحينئذ يستحيل تأخر الواجب عن الوجوب ، بل لا محيص من ان يكون
الوجوب والواجب مقارنين ، فان كان الواجب فعليا كان وجوبه كذلك ويصير الوجوب منجزا
حاليا ، وان كان استقباليا كان وجوبه كذلك وصار الوجوب مشروطا بشرطه الاستقبالى ،
فانحصرت القسمة فى القسمين الواجب المشروط والواجب المطلق الحالى ولازم ذلك انحصار
الواجبات فى الواجبات النفسية ، اذ الواجب الغيرى لو فرض تحققه يلازم انفكاك
الارادة عن المراد النفسى زمانا لحيلولة الواجب الغيرى بينهما.
قلت : هذا النزاع
يشبه ان يكون لفظيا اذ لا يتحاشى الفريقان فى ان لنا فى نفس الامر والواقع ارادة
ليست هى مقارنة للعمل وانما هى تقارن مقدماته ، فمن ذهب الى الواجب المعلق نظر الى
ان مثل هذه الارادة هى الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال ، فمتى تحققت وجب
موافقتها وهى باعتبار تعلقها بالمقدمات ارادة توصلية غيرية فتتصف المقدمات من
اجلها بالوجوب الغيرى وباعتبار تعلقها بذى المقدمة ارادة نفسية ويتصف ذو المقدمة
من اجلها بالوجوب النفسى.
ومن انكر الواجب
المعلق منع حكم العقل بوجوب امتثال مثل هذه الارادة وانما التزم بأن الواجب
امتثاله من الارادة ، هى الارادة المقارنة للعمل فيكون جميع المقدمات خارجة عن حيز
مثل هذه الارادة ولا تكون موصوفة بالوجوب الغيرى ، فلا وجوب الا ما يكون مقارنا
لنفس العمل المطلوب بنفسه ، فان كان قد حضر وقت العمل كان الوجوب منجزا ، وإلّا
كان الوجوب مشروطا لم يكن له تحقق الا عند حضور شرطه ووقته الذى هو يقارن وقت
العمل هذا.
ولكن الذى يقوى فى
النظر صحة القول الاول بشهادة الوجدان ، ويظهر ذلك فيما لو تماهل العبد المأمور
بشراء اللحم الموقوف على مقدمات حتى فات عليه بعض تلك المقدمات ، فلا اظن ان يرتاب
احد فى استحقاقه العقوبة على ترك الشراء ، فلو كان من قبيل الواجب المشروط لم يكن
يستحق على ذلك العقوبة ، بل له الاعتذار بأن الطلب المصحح للعقوبة على مخالفته لم
يكن قد توجه اليه الا بعد فوات بعض المقدمات المانع ذلك عن توجه التكليف اليه ،
ولا ريب فى بطلان التالى بالوجدان وشهادة العيان.
ثانيها : ان يردد
الواجب الاستقبالى بين ان يكون مطلوبا على وجه التقييد بالزمن المستقبل بحيث يكون
التكليف متوجها الى مجموع القيد والمقيد معا ، او يكون مطلوبا بذاته لا مع قيده ،
فعلى الاول يستحيل التكليف لان القيد غير مقدور لعدم التمكن من تحصيله فيستحيل
التكليف بالمركب من القيد والمقيد معا.
وعلى الثانى فان
كان الطلب كالمطلوب غير مقيد بشىء كان التكليف منجزا وهو خلاف المفروض ، وان كان
الطلب معلقا على حصول القيد كان ذلك من قبيل المشروط وهو عين المطلوب فلا واجب
معلق حينئذ.
وفيه ان الاستناد
الى هذا الوجه ان كان مبنيا على اعتبار مقارنة الارادة للمراد ، فقد عرفت ما فى
المبنى فى السابق بما لا مزيد عليه ، وان لم يبتن على ذلك واجتزى بالارادة
المقرونة مع المقدمات قلنا : اختيار تعلق الطلب بذات المقيد ولا محذور فيه اصلا ،
اذ الذات لم تكن مطلوبة إلّا بنحو تكون مقرونة مع القيد بنحو خروج القيد ودخول
التقييد فى المطلوب ، من غير ان يكون للذات اطلاق وتوسعة شاملة لصورة التجرد من
القيد.
ويظهر الفرق بين
هذا النحو من اعتبار الذات ، وبين اعتبارها مقيدة بنحو دخول القيد ، بأنه على فرض
خروج القيد جاز تعلق التكليف بالمقيد لامكانه فى زمانه ، فلا مانع من البعث نحوه
على ان يؤتى به فى وقته وزمانه بنحو الواجب المعلق ، وهذا بخلافه على فرض دخول
القيد ، فانه غير مقدور التحصيل مطلقا حتى فى زمانه فيستحيل تعلق التكليف به الا
مشروطا بحصول قيده لا مطلقا.
فقد انقدح انه ان
بنى على اعتبار مقارنة الارادة للعمل انحصرت القسمة فى الواجب الحالى والمشروط دون
المعلق ، وان لم يبن على ذلك انحصرت القسمة فى الواجب الحالى والمعلق دون المشروط
، فالقسمة لا تكون حينئذ الا ثنائية.
«فى دفع الاشكال عن
مبنى المشهور فى تثليث الاقسام»
ويبقى الاشكال على
المشهور فى بنائهم على تثليث الاقسام ، ولكن الاشكال عليهم بذلك يبتنى على ان يكون
دخالة القيد والمقدمة فى المطلوب بنحو واحد فى قسمى الواجب المشروط والمطلق ،
وانما الاختلاف بينهما فى ذات المقدمة ، فان كانت لازمة التحصيل كان ذلك الواجب من
قسم الواجب المطلق ، وان لم تكن لازمة التحصيل كان ذلك الواجب من قسم الواجب
المشروط ، فيتجه الاشكال عليهم حينئذ بما ذكر من انحصار القسمة فى قسمين وتكون
حينئذ ثنائية ، لا كما بنو عليه من كونها ثلاثية ، فان كانت المقدمة من غير
المقدور ، كالوقت ، او كانت مطلوبة ولكن لم يطلب حصولها من داعى الامر ، خرجت
المقدمة عن حيز الارادة وصار الواجب مشروطا على قول او معلقا على قول آخر ، وان
كانت مقدورة وكانت لازمة التحصيل
من داعى الامر كان
الواجب منجزا حاليا ، فلا تخرج الاقسام حينئذ عن امرين.
ويرد عليهم مضافا
الى ما سمعت من ان ذلك ينافى بنائهم الذى بنوا عليه من تثليث الاقسام انه يلزمهم
مع ذلك تعلق الحب والاشتياق بغير المقدور من المقدمات ، لان عدم القدرة لا يكون
مانعا الا عن تعلق الارادة بغير المقدور من المقدمات ، واما مباديها من الحب
والاشتياق فلا مانع من تعلقها بالمقدمات وهو على خلاف الوجدان ، فأنا نجد المقدمات
فى الواجبات المشروطة خارجة عن حيز الارادة بمباديها ، فإن الاستطاعة وكذا الوقت
ليسا محبوبين ، كما انهما ليسا بمرادين ولا مبعوث اليهما فى ظاهر التكليف هذا ما
تحصل من كلام شيخنا الاستاذ.
ويمكن الخدشة فيه
بأن الاشكال على من ثلث القسمة ان كان بملاحظة ما بنى عليه من اتحاد الدخالة فى
القيود فذلك لم يقع فى صريح كلامه حتى يورد عليه بما ذكر ، ولعله يرى اختلاف
الدخالة كما يراه استادنا العلامة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى.
ولو سلم ابتناء
كلامه على ذلك فأقصى ما يمكن الاشكال عليه بأن ذلك على خلاف ما هو المشاهد من
مرحلة التقييد ، اذ التقييد تارة يكون تقييدا فى صفة الاحتياج ، واخرى فى وجود
المحتاج اليه كما يأتى توضيحه قريبا اما مع تسليم اتحاد الدخالة واعتبار وحدة
التقييد فلا مجال للاشكال عليه ببطلان تثليث القسمة ، لظهور انه نحن نجد المقدمات
الواقعة فى حيز الارادة على انحاء ، اذ ربما يراد حصولها من داعى الارادة كما فى
مقدمات الواجب المطلق ، وهى على ضربين ، فان كانت المقدمة مقدمة لواجب متوقع
الحصول فى الزمان الآتي كانت مقدمة للواجب المعلق ، وان كانت مقدمة لواجب منجز
حالى ، كانت مقدمة
لواجب منجز ، وربما يراد حصولها من غير داعى الارادة وان كانت مطلوبة الحصول ،
إلّا ان مطلوبيتها ينحصر بوقوعها من غير دعوة الارادة كمن حضر عنده ضيف فى وقت
مضيق ، وكان يكره المضيف حضوره عنده فى مثل هذا الحال ، فان خروج الضيف عن داره فى
مثل ذلك كان مرادا له قطعا ، إلّا انه لا يرضى بأن يكون خروجه عنه بداعى ارادته
خوفا من العار وانما يريد خروجه عنه بغير داعى ارادته ، بل بسائر الدواعى الخارجية
غير دعوة ارادته ، فان كانت المقدمة بهذا النحو كانت مقدمة لواجب مشروط.
والحاصل انه يمكن
تعقل كون القسمة ثلاثية مع فرض الاتحاد فى الدخل فلا مجال للاشكال على من ثلث
القسمة بمنع صحة التقسيم كذلك على هذا الفرض ، وانما يتجه الاشكال عليه بمنع
الاتحاد فى الدخل لو كان قد صرح فى كلامه بكيفية الاتحاد فى الدخالة ، ولم نقف على
تصريح بذلك فى الكلمات فلا موقع حينئذ للاشكال عليه بوجه من الوجوه اصلا كما هو
اظهر من ان يخفى.
ومنه يتبين لك ما
فى الايراد عليه باستلزام اعتبار الاتحاد محبوبية المقدمات الغير المقدورة وان لم
تكن مرادة لابتناء الايراد عليه بذلك على ان يكون اختيار الخصم غير ما يختاره هو
مد ظله من الاختلاف فى كيفية القيود فى دخالتها فى المطلوب ولم يعلم ذلك ، ولعلهما
متوافقان فى المبنى.
على ان دخول
المقدمات الغير المقدورة تحت مبادى الارادة انما هو حيث تتقدم الارادة على تلك
المقدمات لا مطلقا ، فلا يرد الاشكال على تقدير تسليم وروده الا على شيخنا
الانصارى قده الذى
بنى على رجوع
الواجبات المشروطة كلها الى الواجبات المعلقة ، اما على مبنى قول الآخر الذى ارجع المعلقات الى الواجبات
المشروطة بواسطة اعتبار مقارنة الارادة للعمل المطلوب بما بيناه آنفا ، فهو فى
فسحة من هذا الاشكال ، لعدم سبق الارادة على حصول المقدمات الغير المقدورة ، حتى
يستشكل عليه بأن السبق يقتضى تعلق الارادة بتلك المقدمات ، وبعد تعذره بخروج
المقدمات عن المقدورية يرتفع عنها فعلية الارادة ، ويبقى فى المقدمة ما لا ينافيه
الخروج عن المقدورية من مبادى الارادة التى هى الحب والاشتياق والرغبة والميل وذلك
اظهر من ان يخفى.
«التحقيق فى تثليث
القسمة»
وكيف كان فتحقيق
القول فى محل البحث والكلام على وجه يرتفع عنه الاشكال ويصح به تثليث القسمة بلا
محذور فيه ولا ارتياب يبتنى على مقدمتين :
الاولى : ان يقال
: ان اختلاف القيود والمقدمات فى المطلوب المعتبر حصوله من بعدها على نحوين فان
اعتبر القيد دخيلا فى الاتصاف بالمصلحة ، كان ذلك مقدمة للواجب المشروط وسمى مقدمة
الاحتياج كالمرض بالنسبة الى الاسهال مثلا فان الاسهال لا يصير صلاحا ولا يوصف به
الا بعد حصول المرض.
وان اعتبر دخيلا
فى ترتب الاسهال وحصوله ، كان ذلك مقدمة للواجب المطلق وسمى مقدمة الوجود المحتاج
اليه كشرب السقمونيا ، والفارق بين المقدمتين باعتبار الارادة ان المقدمة الاولى
خارجة
__________________
عن الارادة
بمباديها ، لظهور ان مثل هذه المقدمة لا تكون متعلقة للارادة فى نظر العقلاء ، فلا
يتطلب المرض لكن يتحقق به صلاح الاسهال ولا يشتاق اليه ولا يكون محبوبا لديهم إلّا
اذا كان ذلك وسيلة لتحصيل مطلوب آخر اهم لديهم من دفع المرض ، وربما كان يتطلبه
تخلصا من الوقوع فيما هو اعظم منه مفسدة ومضرة عليه ، كمن كان يرى عنده المرض سببا
للاعتذار عن الدخول فى زمرة الخارجين لقتال ابى عبد الله الحسين روحى له الفداء
فحينئذ يكون المرض محبوبا لديه ، وربما تكون مثل تلك المقدمة مطلوبة بنفسها لا
للغير كما نجده فى ان الانسان يحب ان يولد له مع انه اذا ولد له يلزمه القيام
بوظائف التكليف المتوجه الى الآباء من الانفاق على ابنائهم بالاكل ، والشرب
والكسوة ، وسائر ما يحتاجون اليه فى تعيشهم ، ولكن مثل هذا ليس إلّا اتفاقيا غير
دائمى فى مثل هذه المقدمات الاحتياجية.
نعم هو دائمى فى
المقدمة التى تكون معتبرة فى ترتب الغرض المطلوب كشرب المسهل والمنضج فى المثال
فانه اذا اتفق الابتلاء بالمرض فلا يكاد ينفك ذلك عن ارادة شرب السمقونيا والمنضج
، فمثل هذه المقدمات تكون مطلوبة للمريض بعد ابتلائه بالمرض ، ومرادة له قطعا بلا
ريب واشكال ولا ينفك عن كونها مرادة له ، فصح بهذا تثليث القسمة حيث ان القيد ان
كان من قيود الاحتياج خرج عن حيز الارادة وكان الواجب من قبيل الواجب المشروط ،
وان كان من القيود التى يترتب عليها وجود المحتاج اليه كان الواجب من قبيل الواجب
المطلق ، فإن كانت تلك القيود سابقة على زمان الفعل كان من قسم الواجب المعلق ،
وان كانت مقترنة معه كان من قسم الواجب المنجز فتمت القسمة ثلاثية مشروط ، والواجب
المعلق بقسميه ، فمثل هذا نتيجة مبنى المختار من اختلاف الدخل ، ومن نتائجه ايضا
خروج
قيود الاحتياج عن
الارادة بمباديها من الحب وغيره كما يساعد عليه الوجدان السليم ، ومن نتائجه ايضا
استحالة اعتبار مثل هذه القيود الاحتياجية فى الموضوع ، لان الموضوع متعلق الحكم
ومورد تعلق الارادة به ، وقد عرفت ان قيود الاحتياج بأسرها خارجة عن حيز الارادة
فيكون الحكم قد تعلق بذات الموضوع الذى هو توأم مع القيد على وجه خروج القيد
والتقيد عنه فأفهم واغتنم.
«فى تعلق الامر
بالطبيعة»
المقدمة الثانية :
ان الطبيعة اذا لوحظت فى عالم التصور تارة تلحظ مقيدة باللحاظ الذهنى وهو المسمى
باعتبار التحلية بالحاء المهملة اى اعتبار حلول الطبيعة فى الذهن ، واخرى مجردة عن
ذلك اللحاظ وان كانت متحققة فى الذهن وهو المسمى باعتبار التخلية بالخاء المعجمة
اى اعتبار خلوها عن الوجود الذهنى وعلى الثانى فأما ان ترى الطبيعة بهذا اللحاظ
غير ما بإزائها من الوجود الخارجى على وجه ترى الاثنينية بينها ، واما ان ترى عينه
بالنظر الا الى المرآتى وقد تقرر فى بحث تعلق الاوامر بالطبائع او الافراد ان
التحقيق تعلقها بالطبائع على النحو الا حيز كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى فى
محله.
وعليه فكل ما يقع
فى حيز الامر يكون هو الطبيعة الحاكية عما فى الخارج بنحو الاتحاد معه وليس الامر
متعلقا بالوجود الخارجى لظهور ان الشىء بعد وجوده لا يتعلق به الطلب وإلّا لزم
تحصيل الحاصل وهو محال كما انه ليس الخارج بمعزل عن مرام الطالب ، فلا يكون
الطبيعة بما هى طبيعة مطلوبة كما هو مقتضى الصورة الاولى من
صورتى التخلية
بالخاء المعجمة وكما تكون الطبيعة بهذا الاعتبار الا حيز مطلوبة ، فكذلك ما انيط
به الطلب من شرط الاستطاعة مثلا فى الحج لم يكن ملحوظا الا بهذا النحو من اللحاظ
وليس الشرط الا طبيعة الاستطاعة الملحوظ بانها عين ما بإزائها من الاستطاعة
الخارجية.
وبهذا يتضح لك
اندفاع الاشكال المتوهم ايراده على القول بتعلق الامر بالطبيعة ، من ان الامر
بالشىء تابع لاشتمال ذلك الشىء على المصلحة الغير المزاحمة بالمانع ، وما هو مشتمل
على المصلحة ليس إلّا الوجود الخارجى دون المتصور فلا يصح تعلق التكليف بالطبيعة
المتصورة.
توضيح الاندفاع ان
الاتحاد المفروض حصوله بين الطبيعة مع مرئيها من الخارجيات ، يقتضى سراية وصف كل
منهما الى الآخر ، فالمصلحة وان كانت قائمة بالخارجيات ، إلّا انه يوصف بها
الطبيعة الحاكية لها بواسطة ما بينهما من الاتحاد المرائي كما ان الحكم وان كان
متعلقة الطبيعة ، إلّا انه يسرى الى الخارجيات ، فيوصف الموجود الخارجى بعد وجوده
بالواجبية لما بينهما من الاتحاد ، هذا حال الطبيعة اذا تعلق بها الحكم.
وكذا اذا وقعت
شرطا له كالاستطاعة فان الاستطاعة ليست بوجودها الخارجى شرطا ، بل بوجودها الذهنى
متحدة مع الاستطاعة الخارجية ، فإن الحاكم يرى الاستطاعة فى ظرف وجودها مؤثرة فى
اتصاف الحج بالمصلحة فيحكم بوجوب الحج عند حصول الاستطاعة ، فمثل هذه الاستطاعة
الحاصلة عنده وكانت مسوغة لحكمه بوجوب الحج ليست هى إلّا الطبيعة بما هى حاكية عما
يتحقق فى الخارج من الاستطاعة ، ولا ريب فى حصول هذه الطبيعة عنده وملحوظة لديه ،
واذا كانت ملحوظة
عنده وحاضرة لديه فقد حصل الشرط وصح تعلق الارادة والحكم فعلا بلا حاجة الى انتظار
حصول الاستطاعة الخارجية.
هذا حاصل ما
استفيد من كلام شيخنا الاستاذ دام ظله من بيانه الذى بينه فى هذه المقدمة الثانية.
اقول : ليت شعرى
اذا كان الشرط هو الاستطاعة بما هى مرات لما فى الخارج وكانت الاستطاعة بحسب
الخارج متوقعة الحصول فتكون الاستطاعة الذهنية بمنزلة الاستطاعة الخارجية لا يكون
لها اثر ولا تأثير فى الحكم الا تقديريا ، فيكون للحاكم علم بأنه يحكم على تقدير
حصول الاستطاعة ولا فعلية له حين التصور ولحاظ الشرط كما هو حاصل ما افاده مد ظله
ثانيا فى بيانه الآخر حيث قال : ان القضية الشرطية اذا كان مشتملة على مقدم وتال
نحو القضية فى قولك : اذا كان الشمس طالعة كان النهار موجودا ، فهناك ملازمة بين
المقدم والتالى ولازم هو وجود النهار وملزوم هو طلوع الشمس ، ويختلف تعلق العلم فى
اطراف هذه القضية فإن تعلق بالملازمة كان العلم كمعلومه غير معلقين بشىء وان تعلق
بالتالى المنوط حصوله بحصول المقدم كان العلم فعلى الحصول قد تعلق بما هو منوط
بحصول المقدم ، إلّا ان هذا الفرض يستحيل تحققه الا فى صورة يعلم بحصول المقدم ،
اما مع العلم بعدم حصوله فلا يمكن تحقق العلم بوجود التالى المنوط بحصول الشرط ،
لان الإناطة انما هى على واقع الشرط لا على فرضه ، ومع العلم بعدم تحقق الشرط لا
يكون الشرط الا فرضيا لا واقعيا ، وظاهر ان الشرط ليس إلّا الواقعى دون الفرضى ،
فاذا علم بانتفائه واقعا فقد علم بانتفاء الجزاء كذلك ، وان تعلق علم منوط بحصول
الشرط بوجود التالى ، كان العلم منوطا بخلاف معلومه وهذا
النحو يمكن فرضه
فى صورتى العلم بتحقق الملزوم والعلم بعدم تحققه ، فإن علم بوجود الملزوم صح
الاخبار بنحو الجملة الحملية بوجود النهار كما انه يصح تشكيل القضية بنحو الجملة
الشرطية بنحو اناطة العلم بالشرط ، وهذا بخلافه على فرض العلم بانتفاء الملزوم
فانه لا يجوز فى القضية إلّا بنحو الشرطية دون الحملية.
هذا حاصل تصوير
تعلق العلم بأطراف القضية ولما كانت الارادة تابعة للعلم بالمصلحة لا لواقع
المصلحة كان كيفية تعلقها بالمراد على نحو العلم ، ففى مورد العلم بتحقق الملزوم ،
كانت الارادة متعلقه باللازم بنحوين كالعلم على جهة التعليق وعدمه ، وهذا بخلاف ما
لو علم بانتفائه فانها لا تتعلق الارادة باللازم إلّا بنحو التعليق ، ويكون
متعلقها الذات المعراة عن التعليق وان لم يكن لها اطلاق يستمل حالة التجرد عن
التعليق فى الارادة.
فتحصل ان العلم
اذا تعلق بمدلول الشرطية يكون على نحوين معلق وغير معلق ، والثانى فى صورة تعلقه
بالملازمة او تعلقه بالتالى فى ظرف القطع بتحقق الملزوم ، والاول يمكن فرضه فى
صورة القطع بالملزوم ايضا ويتعين فرضه فى صورة القطع بعدم تحققه ، هذا حال العلم
باعتبار تعلقه بالمعلوم ، وعلى حذوه الارادة بل ومباديها من الاشتياق والرغبة
والميل ايضا كذلك فانها تابعة للعلم بالمصلحة لا للمصلحة نفسها كما هو ظاهر ،
فيجرى فى الارادة ومباديها التعليق وعدمه كما كان يجرى فى العلم نفسه طابق النعل
بالنعل والقذة بالقذة.
«المختار فى واجب
المشروط»
واذ قد تحققت ما
ذكرناه من المقدمتين فنقول : ان الواجب المشروط ما يكون مقدمته مقدمة احتياج يكون
مفادها التأثير فى صيرورة الشىء ذا مصلحة ، ومثل هذه المقدمة تكون خارجة عن حيز
الارادة والاشتياق كما مرت الاشارة اليه آنفا ، إلّا اذا كان فى البين مطلوب آخر
يتوصل بالمقدمة اليه ، وهو ليس إلّا من باب الاتفاق لا دائميا ، ولكن الاصحاب لما
بنوا على اتحاد الدخل وان تأثير المقدمات طرا ، انما هو فى ترتب المحتاج اليه ،
اشكل عليهم الحال فى المقدمات الغير المقدورة اذ هى وان خرجت عن حيز الارادة
بواسطة عدم القدرة إلّا انه تبقى داخلة فى حيز الاشتياق وساير مباديها ، لعدم
منافاتها لفرض الخروج عن القدرة ، ومن البديهى بطلان اللازم لما نجده فى مقدمات
الواجب المشروط انها ليست متعلقة للارادة بمباديها كما يساعده ظاهر القضية الشرطية
، كما ان ظاهرها ايضا ان موضوع الحكم ومتعلق الارادة هو الموضوع نفسه ، وبناء على
مقالة القوم يكون المتعلق فى الارادة هو الموضوع مع صفة التقييد ، وفى مباديها مع
القيد ايضا لما سمعت ان عدم القدرة فى القيد انما يقتضى خروج القيد وحده عن متعلق
الارادة ويبقى التقييد داخلا فى متعلقها كما انه يبقى القيد والتقييد داخلين فى
متعلق المبادى لعدم مانعية الغير المقدورية ، فى تعلق مبادى الارادة به.
والسر فى لزوم ذلك
على القوم ان اعتبار وحدة الدخل فى القيود يقتضى صيرورتها دخيلة فى ترتب المحتاج
اليه فتكون من قيود
الموضوع الذى هو
متعلق الحكم بمباديه ، ولا يجوز ان تكون عندهم دخيلة فى الاتصاف بالصلاح ، لان ذلك
مؤد الى القول بانتفاء الواجب المطلق وانكاره رأسا ، ولم يظهر فيهم من يقول بذلك ،
اذ هم ما بين ناف للواجب المشروط وما بين ناف للواجب المعلق ، واما الواجب المنجز
الذى هو قسم من اقسام الواجب المطلق فلم ينكره منهم احد.
وبالجملة فهذا
اشكال آخر يلزم القوم على مبناهم ونحن فى فسحة منه بعد ما بنينا عليه من اختلاف
القيود فى الدخل بواسطة رجوع بعضها الى الاتصاف وبعضها الآخر الى وجود المتصف.
«فى وجوب تحصيل
المقدمات المفوتة»
ومن نتائج قولنا
ومختارنا وجوب تحصيل المقدمات المفوتة ، والواجبات المشروطة اذا كانت تلك المقدمات
متقدمة على شرط الوجوب ، لان الارادة المنوطة بحصوله المعلق عليه متحققة وهى تقضى
بوجوب تحصيل المقدمات المطلقة بالاضافة الى هذا الواجب المشروط ، اذ العقل انما
يمنع من سراية الوجوب الى المقدمات الوجوبية فى الواجب المشروط دون ما يكون مقدمة
من مقدمات وجوده ، فمن علم بحصول الاستطاعة فيما بعد وكان حجة يتوقف على تحصيل
مقدمة من قبل حصول الاستطاعة ، وجب تحصيلها من قبل تحقق الاستطاعة.
ولا يرد ما قيل ان
الوجوب لا يترشح الى المقدمة الا بعد تحققه وحصوله ، وهو لا يحصل إلّا بعد حصول
الاستطاعة فكيف يترشح الى المقدمة السابقة على حصول الاستطاعة وجوب من قبل الوجوب
الذى هو مترتب على الاستطاعة.
لان ذلك انما يرد
على فرض توقف الوجوب على الاستطاعة الخارجية ، وليس كذلك بل هو معلق على فرض
الاستطاعة بنحو المرات والطريقية الى ما يتحقق فى الخارج من الاستطاعة ، فالحاكم
اذا علم انطباق هذه الصورة المرئية فى نظره على ما فى الخارج بأن علم ان الاستطاعة
تتحقق فى الخارج ، كان له انشاء حكمه بنحوين بنحو التعليق المعبر عنه بالجملة
الشرطية نحو ان استطعت فحج وبدون التعليق نحو حج ، ولا ريب ان مثل هذا الحكم سابق
على حصول الاستطاعة الخارجية وهو مستتبع لترشح الوجوب الى مقدمات الوجود السابقة
على الاستطاعة.
نعم اذا علم بعدم
تحقق الاستطاعة فلا وجه لسراية الوجوب الى مثل تلك المقدمات ، لان مطلوبيتها
توصلية ، لحصول المطلوب النفسى ، وبعد العلم بعدم حصوله يرتفع الطلب الغيرى عن
المقدمات بالبديهة والضرورة.
نعم لو كان الشرط
الفرضى قد اعتبر موضوعا للحكم المترتب عليه لا آليا وطريقا الى ما بازائه فى
الخارج ، اتجه البناء على لزوم تحصيل المقدمات مطلقا حتى مع العلم بعدم تحققه فى
الخارج ، لان الشرط فى الحقيقة لم يعتبر الا فرضه لا واقعيته وقد حصل فرضه فيترتب
الحكم عليه ويجب تحصيل الواجب بمقدماته نحو ان كنت مولاك فافعل كذا بناء على ان
المقصود منه افرضنى مولاك وافعل كذا ، ولا بأس بذكر المثال الذى مثل به الاستاذ
دام ظله وان كان عجميا «اگر عقلت منم بگذر از اين كار».
وكيف كان فقد ظهر
لك ان فعليه الارادة هى الباعثة على ترشح الوجوب للمقدمات الوجودية سواء كانت تلك
المقدمات سابقة على شرط الوجوب او متأخرة عنه ، غاية ما فى الباب ان اعتبار الشرط
ان كان فرضيا من
دون لحاظة آلة لما فى الخارج وجب تحصيل مقدماته مطلقا ، وان كان آلة ومرآة لما فى
الخارج كان اللازم تحصيل مقدماته فى صورة العلم بتحقق الشرط.
«التهافت فى كلام بعض
المعاصرين»
ومن الغريب ما وقع
من فضلاء العصر من انكاره الواجب المعلق ومع ذلك قال بما قلناه وذهبنا اليه ، من
امكان تحقق الارادة المنوطة بالشرط لعدم خلوه عن التهافت ، لان الارادة ان امكن
فعليتها مع كونها منوطة بشىء ولم يكن يعتبر مقارنتها مع العمل ، فلا مجال معه
لانكار الواجب المعلق ، وان كان يعتبر مقارنتها مع العمل وكان يستحيل اناطتها بشىء
مع كونها فعلية ، فلا مجال لاختياره فعلية الارادة فى الواجب المشروط ، وان شئت
مزيد اطلاع على مرامه فراجع درره الفوائد.
وبالجملة فقد
انقدح ان من نتائج المختار الذى اخترناه فى الواجب المشروط ، عدم ورود الاشكال
علينا فى المقدمات المفوتة الواجب تحصيلها قبل حصول شرط الاستطاعة.
__________________
«فى عدم لزوم تأسيس
الواجب المعلق على مسلكنا فى المشروط»
ومن نتائجه ايضا
عدم الالتجاء الى تأسيس الواجب المعلق الذى اسسه من اسسه تخلصا مما يلزمه من
الاشكال بالنسبة الى بعض الموارد التى قد تسالموا على وجوب تحصيل مقدمته السابقة
على زمان الوجوب كالغسل فى الليل مقدمة للصيام فى الغد ، مع ان زمان الوجوب
والواجب فى النهار لا فى الليل ، فأشكل عليهم الحال حيث ان الغسل مقدمة سابقة على
الصيام فى النهار ولا يجب الصيام الا فى زمانه ، فكيف تجب مقدمته السابقة على زمان
الوجوب فالتجئوا الى تأسيس الواجب التعليقى وفسروه بما اختلف فيه زمانا الوجوب
والواجب وهو فى المثال يكون زمان الوجوب فى الليل وزمان الواجب فى النهار فاختلف
بذلك الزمانان فصححوا بذلك اتصاف الغسل بالوجوب.
هذا وقد ظهر لك من
البيان المزبور انا فى غنية عن ارتكاب مثل هذا الالتزام ، لما عرفت من ان الواجب
المشروط يسرى وجوبه الى غير شرط الوجوبى من سائر مقدماته الوجودية.
ان قلت : ان
الطهارة المائية من المقدمات الوجودية ، ولا ريب فى انه اذا علم المكلف قبل الوقت
عدم تمكنه من تحصيل الماء بعد الوقت لم يجب الوضوء عليه قبل الوقت ، فلو كان يجب
تحصيل المقدمات المفوتة لوجب تحصيل مثل هذه الطهارة المائية قبل الوقت ، والمفروض
خلافه كما هو المتسالم بينهم.
قلت : منشأ ذلك
قوله «ع» اذا دخل الوقت وجب الصلاة
والطهور الظاهر فى ان زمان ابتداء وجوب الطهارة من بعد دخول الوقت
، فهو نص ورد على خلاف القاعدة يجب التعبد به.
فان قلت : مقتضى
ذلك عدم اتصاف الطهارة المأتى بها قبل الوقت بالمقدمية فلا يجتزى بها ، لاستباحة
الدخول فى الصلاة من غير فرق بين اتيانه بها بقصد التوصل بها الى ما يأتى به من
الصلاة فى الوقت ، وبين اتيانه بها لغاية اخرى غير الصلاة مما تكون مشروطة
بالطهارة كمس كتابة القرآن مثلا ، مع انه مما لم يلتزم به احد من الاصحاب.
لا يقال : لم يدل
الخبر الا على زمان الوجوب من بعد دخول الوقت لا ان ابتداء المقدمية من ذلك الحين.
لانا نقول : لا بد
وان يكون زمان ابتداء المقدمية من ذلك الحين ايضا ، اذ لو اكتفى فى تحقق المقدمية
بمطلق الطهارة ولو كانت مأتيا بها قبل الوقت ، لسرى الوجوب اليها من ذى المقدمة ،
لما عرفت من ان وجوب كل مشروط فعلى غير منوط بتحقق الشرط خارجا ، بل بتحققه ذهنا
مفروض الوجود خارجا على نحو المرآتية لما فى الخارج وهو حاصل بهذا المعنى لدى
الحاكم قبل زمان تحقق الشرط فى عالم الخارج ، واذا كان الوجوب حاصلا ومتحققا من
حين الانشاء وفرض ان الطهارة مقدمة وجودية بالنسبة الى الصلاة ، فلا بد حينئذ بحكم
العقل من ترشح الوجوب اليها من ذى المقدمة ولو كانت قبل الوقت ، ومن المعلوم بالنص
والفتوى ان الوضوء غير واجب قبل دخول الوقت ، ومن ثم جاز تفويته قبل دخول الوقت
اذا علم المكلف انه لم يتمكن من الوضوء من بعد دخول الوقت ، وذلك لا يكون إلّا حيث
__________________
يكون ابتداء
المقدمية من بعد دخول الوقت ايضا.
قلت : نعم هو كما
ذكرت لا مقدمية للصلاة فى مثل تلك الوضوءات المأتى بها قبل الوقت لاجل غاية اخرى
غير الصلاة ، بل المقدمة فيه هو الطهارة الباقية من بعد دخول الوقت ، اى ما يبقى
من تلك الطهارة الى ما بعد الوقت هو المقدمة لا الطهارة من حين حصولها ، بل
المقدمية للصلاة قائمة فى بقية الطهارة المقارنة لزمان الصلاة.
ولا يتوهم انه
يلزم على ذلك حفظ الطهارة بعد حصولها قبل الوقت. اذ ذلك انما يلزم لو كانت مقدمية
ما يبقى من الطهارة من بعد الوقت معتبرة على جهة الاطلاق وليس كذلك ، بل هى مقدمة
على تقدير تحققها فيه من باب الاتفاق ، بقرينة ما تسالموا عليه من جواز تفويت
الطهارة المائية قبل الوقت ، فان مثل ذلك انما يكون على تقدير ان تكون المقدمية
فيما يبقى من الطهارة ، انما هو اذا لم يكن متحققا بداعى الامر الصلاتى بل بداعى
آخر غيره.
وبالجملة اذا لوحظ
الاجماع المتسالم عليه على ما حكى شيخنا العلامة مد ظله من جواز تفويت الطهارة
المائية قبل الوقت ، مع قوله «ع» لا صلاة إلّا بطهور يثبت ان للصلاة مقدمتين طهارة حادثة بعد الوقت ، وطهارة
باقية من الوضوء الحاصل قبل الوقت واما الطهارة المتحصلة من الوضوء المأتى به قبل
الوقت ، لم تكن مقدمة لها شرعا فلا تكون متصفة بالوجوب من قبل الصلاة ، ولا يلزم
المحافظة عليها ولا تحصيلها قبل دخول الوقت.
ويمكن ان يقال :
ان المفهوم من قوله «ع» اذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ، هو انتفاء المقدمية عن
الطهارة اذا اتى بها قبل
__________________
الوقت فى الجملة ،
والمتيقن منه انتفائها لو اتى بها بداع الامر الصلاتى اما اذا اتى بها بداع غيره
كانت مقدمة بمقتضى اطلاق قوله «ع» لا صلاة إلّا بطهور.
اللهم إلّا ان
يمنع الاطلاق فى ظاهر القضية وليس ببعيد اذ لا يستفاد منها الا توقف الصلاة على
الطهارة اما ان المتوقف عليه من الطهارة هل هو الطهارة على جميع التقادير التى
يفرض تحققها فيه من كونها قبل الوقت وبعده ، او خصوص ما اذا وقعت بعد الوقت خاصة
دون ما قبله؟ فهو مما لا يدل عليه ظاهر الحصر كما لا يخفى ، اذ لا عموم فى طرف
الايجاب ولا اطلاق ، الا حيث يجوز وروده لبيان التعميم وهو غير معلوم من حال
المتكلم لا يدل عليه ظاهر كلامه.
والحاصل ان نتيجة
المختار وفائدته تظهر فى المقدمات المفوتة فى غير الطهارة فانه على مختارنا يجب
تحصيلها واما على مختار القوم فيشكل ذلك بعد كون بنائهم على تعليق الحكم فى
الشرطية على واقع الشرط وتحققه فى مرحلة الخارج ، لاداء ذلك الى جواز التفويت فى
غير ما قام الدليل الخاص على جوازه نحو الطهارة كما عرفت بما لا مزيد عليه
والمفروض انهم لا يلتزمون بجواز تفويتها ، ومن ثم تخلص بعضهم عن ذلك بتأسيسه
الواجب المعلق فقال : لما كان زمان الوجوب سابقا على زمان الواجب اقتضى ذلك صحة
اتصاف المقدمات السابقة على زمان الواجب بالواجبية ، وتخلص بتأسيسه الواجب النفسى
التهيئي ، فذهب الى ان المقدمة السابقة واجبة بالوجوب النفسى التهيئي ، فقسم
الواجب الى غيرى وهو الذى تكون الارادة فيه بمبدئها غيرية ، والى نفسى غير تهيئى
وهو الذى تكون الارادة فيه بمبدئها نفسية ، والى نفسى تهيئى وهو الذى تكون الارادة
فيه نفسية ومباديها غيرية.
ويرد على الاخير
بأن الارادة ان اعتبرت مقارنة للعمل فقد خرجت المقدمات بأجمعها عن حيز الارادة ما
كان منها قبل الوقت او بعده وانحصر الواجب فى الواجب النفسى الغير التهيئي ، وان لم
يعتبر مقارنتها له كانت المقدمات بأجمعها متصفة بالوجوب الغيرى من دون تفصيل فيها
بين ما كان منها قبل الوقت او بعده هذا.
«فى عدم مرجعية
البراءة فى مورد الشك على مسلكنا»
وبقى فى المقام
شىء وهو انك بعد ما عرفت الفرق فى الواجب المشروط بين مسلكنا ومسلك القوم وظهر لك
ان فعلية الوجوب فى الواجب المشروط على مختارنا لا ينوط بالوجود الخارجى ، بخلافه
على اختيار القوم فلو شك فى واجب انه من قبيل المشروط او المطلق فبناء على مسلكنا
يجب تحصيل مقدمته الوجودية قبل تحقق شرطه الوجوبى لتنجز الوجوب بناء عليه ، فيترشح
ذلك الى مقدمته الوجودية سواء كان من قسم الواجب المطلق او المشروط.
واما على مختار
القوم فالمرجع فيه اصالة البراءة للشك فى اطلاق الوجوب ، فلعله من قسم المشروط
فبناء على مذهبهم لا يتنجز وجوبه الا بعد حصول شرطه خارجا ، وهو بعد غير متحقق
فيشك فى مقدمته الوجودية انها هل هى لازمة التحصيل على ان تكون مقدمة للواجب
المطلق او غير لازمة التحصيل اذا كان مقدمة للواجب المشروط؟ وما كان هذا شأنه يرجع
فيه الى البراءة ، لكن ذلك ينبغى فرضه فى مورد لم يتحقق الشرط خارجا اما اذا كان
متحققا فلا ينبغى الاشكال فى وجوب تلك المقدمة على كلا المسلكين ، لتنجز الوجوب
على اى تقدير ، مطلقا كان الواجب او مشروطا ، بنى على اناطة
الوجوب فى المشروط
على الوجود الخارجى للشرط ، او لم يبن على ذلك ، ومن هذا يظهر لك الحال فيما لو شك
فى الواجب وتردد امره بين ان يكون منجزا او معلقا او مشروطا ، فانه على فرض تحقق الشرط
المحتمل اعتباره شرطا فى الوجوب لا ينبغى الارتياب فى لزوم تحصيل مقدمته ، لتنجز
الوجوب فيه على جميع التقادير ، واما مع فرض عدم تحققه كان المرجع فيه البراءة على
مختار القوم ، لاحتمال كونه من قبيل المشروط الذى لم يتحقق شرطه خارجا ومقتضى ذلك
عدم تنجز وجوبه ، واما على مختارنا فقد عرفت ان حاله كما لو فرض تحقق المحتمل
شرطيته فانه يجب تحصيل مقدمته.
«فى النفسى والغيرى»
«ومنها تقسيمه الى»
الواجب «النفسى والغيرى» وعرف الواجب بما كان ايجابه لنفسه لا للتوصل به الى غيره
، والغيرى بالعكس من ذلك ومعنى الوجوب هو اللزوم وللابدية وهو مأخوذ من الوجوب فى
التكوينيات فى قبال الامتناع فيها ، فكانه لما كان الشىء اذا حصلت علته التامة وجب
وجوده فى الخارج تكوينا فكان لازم الوجود ، فكذلك اذا وجد مقتضيه فانه بمنزلة ما
لو وجدت علته التامة ادعاء لا حقيقة فعند ورود الامر الشرعى يكون الشىء قد وجد
مقتضيه وبقى تحققه مفتقرا الى ضم اختيار العبد الطاعة والامتثال ، إلّا انه لمكان
حكم العقل بوجوب الموافقة والانقياد لامر المولى كان ذلك الشىء بمنزلة الشىء الذى
تمت اجزاء علته ادعاء وتنزيلا وسمى بذلك واجبا شرعا.
فظهر من هذا ان
الوجوب منتزع عن مرتبة اظهار الارادة لا عن نفس الارادة ، لظهور ان العقل لا يحكم
بوجوب الامتثال والاطاعة الا
من بروز الارادة
للعبد وانكشافها لديه بالبيان النقلى او العقلى ، فان ظهرت بنحو التوصل الى واجب
آخر كان ذلك الوجوب وجوبا غيريا ، وإلّا كان الوجوب نفسيا.
«وهم ودفع»
ومن هذا البيان
ظهر لك اندفاع الاشكال عن تعريف الواجب النفسى بأنه لا ينطبق على جل الواجبات
النفسية المعهودة فى شرعنا مما اصطلح القوم عليها بأنها واجبات نفسية كالصلاة
والصيام وغيرهما ، بل وجل الواجبات العرفية الصادرة من الموالى الى عبيدهم نحو
اسقنى او اشتر اللحم او غير ذلك مما يكون الغرض من الامر به التوصل الى فائدة اخرى
وغرض آخر مترتب على حصول المطلوب فى الخارج ، فان الواجب فى امثال ذلك مما قصد به
التوصل الى شىء آخر يكون ذلك هو المطلوب حقيقتا ، ففى الشرعيات يكون ذلك المطلوب
الحقيقى هو المعرفة كما يقضى به الآية الشريفة : وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون
اى ليعرفون كما ورد فى التفسير .
وفى العرفيات يكون
ذلك المطلوب هو استراحة النفس ، فلم يبق حينئذ مما يكون ينطبق عليه تعريف الواجب
النفسى الا ما يكون بصورة التكليف بالمعرفة نفسها فى التكاليف الشرعية او باستراحة
النفس فى التكاليف العرفية وهذا اقل قليل.
توضيح الاندفاع ان
الواجب النفسى هو ما لا يكون ابراز الطلب
__________________
فيه بنحو التوصل
الى واجب آخر غيره وهذه الامثلة المذكورة كلها من هذا الباب ، لان المترتب عليها
ليس إلّا من قبيل الفائدة والغاية المترتبة على الشىء من دون ان تكون هى متعلقة
للطلب والوجوب ، ومجرد كونها مطلوبة ومرادة لبا لا يقتضى ان يكون «الواجب» من
اجلها بحسب الواقع «وفى» نفس الامر و «الحقيقة واجبا غيريا» كما بنى عليه الماتن
قده وعلله بأنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما «لما دعى الى ايجاب ذى الفائدة ،»
وكأنه نظر الى ان مناط الغيرية بمطلوبية الشىء توصلا الى وجود شىء آخر سواء كان
ذلك الشىء الآخر واجبا او فائدة فمن ثم اشكل الحال عليه فى امثال تلك الواجبات.
لكن ذلك خلاف
التحقيق لما عرفت من ان الوجوب النفسى والغيرى ينتزعان عن مرتبة التحميل وابراز
الارادة وهذا غير جار فيما مر من الواجبات المزبورة ، اذ لم يقصد بها الا التوصل
الى وجود آخر هى الفائدة لا واجب آخر ، وفرق بينهما فحينئذ تخرج عن تعريف الواجب
الغيرى وتندرج فى تعريف الواجب النفسى ويصح التقسيم والتعريف ولا يرد عليهما محذور
ولا اشكال اصلا كما هو اوضح من ان يخفى.
وقد يجاب عن ذلك
بما فى المتن من ان تلك الواجبات انما وجبت نفسا لطرو عنوان حسن عليها زائدا على
ما فيها من المقدمية للغير ، بخلاف غيرها من الواجبات الغيرية فانها متمحضة للغيرية
والمقدمية.
ويرد عليه اولا
بما نجده فى العرفيات من قولهم : اسقنى الذى لم يكن فيه مصلحة سوى التوصل الى رفع
العطش واستراحة النفس ومع ذلك يعد عندهم من الواجبات النفسية ومن ثم كان يعاقب على
مخالفتها.
وثانيا بالاوامر
الشرعية المتعلقة بالعبادات النفسية كالصلاة والصيام ونحوهما ، فانه على مختاره
قده فى قصد القربة لا بد وان
تكون معتبرة فى
الغرض لا فى المأمور به ، ولا ريب ان اعتبارها فى الغرض يقضى بكون الصلاة بصورتها
مطلوبة للتوصل الى حصول ذلك الغرض ، فيكون فيها جهة توصلية الى غرض يفتقر تحققه
الى ضم نية التقرب الى العمل ، فلو كان مع ما فيها من المقدمية قد اشتملت على جهة
محسنة اقتضت مطلوبيتها نفسا ، ولكان يلزم على تقدير المخالفة ان يترتب على ترك
الصلاة عقوبتان احدهما : على تفويت الغرض الاصلى اللازم تحصيله والاخرى : على ترك
صورة الصلاة
المشتملة على
الجهة المحسنة ، وهذا واضح البطلان ، لوضوح استلزام المخالفة فيها عقوبة واحدة ليس
إلّا.
نعم لو بنى على
اعتبار القربة فى المأمور به ، اندفع عنه هذا الاعتراض اذ لا يكون ثمة جهة موجبة
للعقوبة الا مخالفة المأمور به المتضمن للقربة ، لاشتماله على جهة محسنة توجب
العقوبة على تفويتها ، واما الفائدة المترتبة عليه فلا دليل يدل على استحقاق
العقوبة على تفويتها ، لان الفوائد لا تستتبع العقوبة على تفويتها إلّا اذا كانت
لازمة التحصيل ، ولا يعلم كونها لازمة التحصيل إلّا اذا كان للقربة دخالة فى
حصولها فانه لما كانت القربة لازمة التحصيل قطعا وفرض اعتبارها فى الغرض كان ذلك
الغرض فائدة لازمة التحصيل لاعتبار ما هو لازم التحصيل فيه ، اما اذا لم تعتبر فيه
فجاز ان تكون تلك الغاية من الفوائد المترتبة على الشىء الغير اللازمة التحصيل ،
لا من الاغراض الواجب تحصيلها ، واذا لم يكن يعلم حال تلك الفائدة انها لازمة
التحصيل او غير لازمته ، وشك فى ذلك لم يجب مراعاتها ولا يستحق العقوبة على
تفويتها.
«فى ترتب المثوبة
والعقوبة على موافقة الوجوبات الغيرية ومخالفتها»
ثم ان الغرض
الاقصى من هذا التقسيم التعرض الى الثمرة المترتبة على القول بوجوب المقدمة وعدم
وجوبها فمن قال بوجوب المقدمة قال باستحقاق العقوبة على تركها ، ومن لم يقل
بوجوبها لم يقل باستحقاق العقوبة على تركها.
وقيل : لا ملازمة
بين القول بوجوبها والقول باستحقاق العقوبة على تركها ، لاختصاص الاستحقاق فى
مخالفة الواجبات النفسية دون الغيرية ، وهذا غير مرضى عندنا لان مناط الاستحقاق فى
العقوبات والمثوبات على الطغيان والانقياد كما تقرر ذلك فى بحث التجرى ولا ريب فى
حصول الطغيان من حين ترك المقدمة.
ان قلت : اذا كان
ترك المقدمة موجبا لاستحقاق العقوبة لزم من ذلك تعدد العقوبة فى ترك الواجب الواحد
النفسى ، اذا كان ذا مقدمات شتى وبطلان اللازم اظهر من ان يخفى.
قلت : وحدة
العقوبة وتعددها تابع لوحدة الغرض المقصود وتعدده ، واذا كان الواجب النفسى واحدا
ذا مقدمات لم يكن ثمة الا غرض واحد مترتب على ذلك الواجب النفسى وان تعددت مقدماته
فلا يكون تركها مستتبعا الا لعقوبة واحدة لا ازيد.
فان قلت : اذا كان
وحدة العقوبة تابع لوحدة الغرض ، لزم منه وحدة العقوبة على من لم يأت بشىء من
الواجبات الشريعة بالمرة ، لانها كلها متحدة فى الغرض وهى المعرفة بمقتضى الآية
الشريفة المزبورة المفسرة بالمعرفة.
قلت : ليس فى
الآية الشريفة دلالة على اشتراك العبادات فى غرض وحدانى هى المعرفة ، اذ لم تجعل
المعرفة غرضا باعثا للامر بالعبادات ، بل جعلت غرضا باعثا لخلق الانس والجن وهو
امر آخر غير امرهم بالعبادات.
ولئن سلم انها
غاية وغرض للاوامر العبادية ، لكن لا نسلم دلالة الآية الشريفة الا على ان المعرفة
فى الجملة غرض باعث على التكليف بالعبادات ، وحينئذ فمن الجائز ان يكون كل مرتبة
من المعرفة غرضا باعثا على كل واحد من تلك التكاليف فيكون الغرض من التكليف
بالوضوء مثلا مرتبة من المعرفة غير المرتبة التى هى غرض من التكليف بالصلاة ،
وحينئذ يكون للعبادات اغراض عديدة تشترك فى جامع المعرفة او تكميل النفس او غير
ذلك ، فلو فرض ترك العبادات بأجمعها كانت هناك عقوبات متعددة بحسب تعدد ما ترك من
العبادات.
والحاصل ان
الوجدان شاهد صدق على دوران العقوبة وجودا وعدما مدار تحصيل الغرض وعدم تحصيله ،
كما ان وحدتها وتعددها دائر ان مدار وحدة الغرض وتعدده ، فأنظر الى العبد اذا امر
بإتيان الماء وكان يعلم بتضرر المولى لو شرب من ذلك الماء لكونه مسموما ، لم يجز
له الاتيان بذلك الماء ولو جاء به استحق العقوبة بذلك ، وان كان مأمورا بسقى
المولى من ذلك الماء من باب الخطاء والاشتباه بتخيل المولى ان ذلك الماء يرفع
عطشه.
وكذا اذا اتفق
غفلة المولى عن اضطرام النار وكان ولده فى معرض الاحتراق فيها ، فانه يجب على
العبد حفظ ولد المولى عن الاحتراق وان لم يكن مأمورا ومخاطبا بحفظه عنها ، فان مثل
هذا مما يدل على اناطة الثواب والعقاب بموافقة الغرض ومخالفته لا بموافقة الارادة
وعدم موافقتها ، إلّا اذا كان تحقق الارادة من المولى ملازما
لحصول الغرض كما
فى ارادة الشارع ، واما فى ارادة غيره فهو ان احتمل فيه الخطاء والاشتباه إلّا ان
الارادة قد جعلت فى انظار العقلاء طريقا الى الغرض فيجب اتباعها ولا يعذر العبد فى
مخالفتها اذا اتفق مصادفتها للواقع ، ومن ثم تراهم يذمون العبد فى مخالفتها عند
احتماله خطاء مولاه ولا يقبلون منه الاعتذار باحتماله خطاء الطريق وعدم مصادفة
الطريق للواقع.
وبهذا ربما يندفع
الاشكال فى الاوامر العرفية ، بأن مدار المثوبة والعقوبة اذا كان على تحصيل الغرض
وعدم تحصيله فلا بد للعبد من تعرف الحال عنده فى وجوب اتباع امر مولاه ، فلربما لا
يكون امتثاله محصلا لغرضه ، ولا طريق له الى معرفة ذلك الا من طريق الارادة الدالة
من طريق الإنّ.
على لو لم يكن
المأمور به محصلا لغرضه لما امره به ، اذ لا يصدر الامر بالشىء من العاقل إلّا اذا
كان ذلك الشىء محصلا لغرضه ، وحينئذ فيستظهر المستشكل ويقول : لا دلالة فى الامر
والارادة الا على ان الامر معتقد لحصول غرضه بما يأمره به ، ولا طريقية لاعتقاد
القاطع الا للقاطع نفسه دون غيره ، فلا حجية فى قطع المولى للعبد المأمور ، ولا
ينسد به احتمال الخطاء فى اعتقاد مولاه ، واذا لم ينسد عند العبد باب احتمال
الخطاء بدليل عقلى ولا نقلى ، لم يحسن للمولى مؤاخذة عبده لو خالف امره ولم يوافقه
فيما امره به هذا.
ولكنك قد عرفت
آنفا ان سلوك الطريق الى تعرف الغرض المقصود فى الاوامر العرفية ينحصر عند العقلاء
فى اتباع ارادة المولى ولعله لغلبة المطابقة للواقع ، فالارادة طريق عقلائى لترتب
الغرض المقصود على موافقتها فهى كالظواهر طريق عقلائى لاستكشاف المتكلمين يجب
اتباعها ما لم يردع عنه الشارع فاذا
خالف العبد ولم
يسلك الطريق واتفق مصادفته للواقع لم يكن معذورا فى المخالفة كما لا يخفى.
ثم انك بعد ما
عرفت منا اختيار ترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الوجوبات الغيرية ومخالفتها ،
ظهر لك اندفاع الاشكال المذكور فى عبادية الطهارات الثلث ، حيث انه قد استشكل فى
عباديتها باعتبار افتقارها الى نية التقرب ولا قربية فى امتثال الاوامر الغيرية ،
بناء على عدم ترتب المثوبة والعقوبة على موافقتها ومخالفتها.
وقد عرفت منا فساد
المبنى بما لا مزيد عليه وان المختار عندنا مساواة الواجبات الغيرية مع الواجبات
النفسية ، لحصول الانقياد والتسليم فى موافقتها والتجرى والطغيان فى مخالفتها كما
فى الواجبات النفسية من غير فرق فى ذلك بينهما اصلا ، وهذا هو المناط والمدار فى
ترتب المثوبة والعقوبة على التكاليف نفسيها وغيريها.
وقد اجيب عن
الاشكال بغير ما ذكرناه بعد الالتزام باختصاص الثواب والعذاب ، بموافقة الواجبات
النفسية ومخالفتها ، فمن ذلك ما اجاب به الماتن قده بقوله : «ان المقدمة فيها
بنفسها مستحبة وعبادة ، وغايتها انما تكون متوقفة على احدى هذه العبادات فلا بد ان
يؤتى بها عبادة ، وإلّا فلم يؤت بما هو مقدمة لها ، فقصد القربة فيها انما هو لاجل
كونها فى نفسها امورا عبادية ومستحبات نفسية ، لا لكونها مطلوبات غيرية والاكتفاء
بقصد امرها الغيرى فانما هو لاجل انه لا يدعو إلّا الى ما هو كذلك فى نفسه ، حيث
انه لا يدعو إلّا الى ما هو المقدمة فافهم.»
ولعل قوله فأفهم
اشارة الى مناقشة يمكن ايرادها على كلامه هذا ، وهى ان الواقع فيما يأتى به عامة
المتشرعة من الطهارات الثلث
انهم لم يقصدوا
فيها الا امتثال الامر الغيرى من غير ان يجعل ذلك وسيلة الى ما هو المقدمة ، ولا
اتخذ فى مقاصدهم عنوانا مشيرا الى المقدمة ولا الى المحبوب النفسى ، فلا مناص
بمقتضى جوابه قده الا من الالتزام ببطلان عبادتهم وهذا مما لا يكاد يلتزم به من هو
دونه فضلا عنه قده ومن ذلك يظهر ما فى الجواب الثانى المنقول عن غيره و «ملخصه ان
الحركات الخاصة ، ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها من العنوان الذى يكون
بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلا بد فى اتيانها بذاك العنوان من قصد امرها
، لكونه لا يدعو إلّا الى ما هو الموقوف عليه فيكون عنوانا اجماليا ومرآة لها
فإتيان الطهارات عبادة واطاعة لامرها ، ليس لاجل ان امرها المقدمى يقضى بالاتيان
كذلك بل انما كان لاجل احراز نفس العنوان الذى يكون بذلك العنوان موقوفا عليها.»
واجاب عنه الماتن
قده بوجهين احدهما : «ان ذلك لا يقتضى الاتيان بها كذلك لامكان الاشارة الى
عناوينها التى تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ولو بقصد امرها وصفا لا
غاية وداعيا ، بل كان الداعى الى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا
آخر.»
وثانيهما : على
تقدير تسليم انحصار الاتيان بها محصلة لما هو المقصود منها على اتيانها بنحو
الداعوية عن الامر الغيرى ، إلّا ان ذلك «غير واف بدفع الاشكال بترتب المثوبة
عليها كما لا يخفى.» لان الامر الغيرى لا يترتب على موافقته ثواب حسب الفرض فكيف
يكون داعويته مصححة للتقرب بالعمل المأمور به.
ويرد على جوابه
الثانى بأنه فيما يكون عباديته قائمة بذاته كالخضوع ، فانه لا يفتقر فى عباديته
قصد جهته المحسنة له سوى
تحقق عنوان الخضوع
، فاذا اتى بالشىء عن داعى الامر الغير وتحقق به العنوان الذاتى المحقق لعبادية
الشىء ، كفى ذلك فى ترتب المثوبة عليه بلا حاجة الى قصد الجهة المحسنة له اجمالا
ولا تفضيلا ، فلا يرد اشكال حينئذ كما هو ظاهر.
واجيب : عن اصل
الاشكال بما حاصله ان الغرض المقصود من الصلاة كما يتوقف على فعل الصلاة واتيانها
بداعى الامر النفسى كذلك هو يتوقف على اتيان الطهارة بداعى امرها الغيرى.
وهذا الجواب بحسب
نظرى القاصر لا مساس له بالاشكال ، لابتناء الاشكال على عدم صلاحية الامر الغيرى
للمقربية فى العمل وانه لا يتحقق به عباديته ، فكيف ينوى به التقرب وظاهر ان هذا
المحذور لا يندفع بما ذكر فى هذا الجواب ، من افتقار الغرض فى ترتبه على الصلاة
الى اتيانها نفسها بقصد امرها النفسى واتيان مقدماتها بقصد امرها الغيرى فتأمل
جيدا.
«فى ان الواجب مطلق
المقدمة او ما قصد بها التوصل او خصوص الموصلة»
«الامر الرابع لا
شبهة فى ان وجوب المقدمة بناء على الملازمة يتبع فى الاطلاق والاشتراط وجوب ذى
المقدمة.» وقد يتوهم من كلام صاحب المعالم طاب ثراه خلافه ، حيث انه اعتبر فى وجوب
المقدمة ارادتها فلا يجب عنده الا بعد تحقق الارادة من المريد.
ويدفعه ان الارادة
اذا تحققت كانت هى الباعثة لتحقق المراد ،
__________________
ولزم من ذلك لغوية
الايجاب من الحكيم ، لان الغرض من انشاء الوجوب ليس إلّا احداث الداعى الى حصول
المراد وبعد انقداح الارادة يتحقق الداعى الى حصوله بها فيلغو إيجابه بعدها.
بل قد يقال
باستحالة تخلف المراد بعدها ، فيكون المراد لازم الحصول حينئذ ممتنع التخلف فيخرج
بذلك عن صلاحيته لتعلق التكليف به كما هو واضح ، فاشتراط وجوبها بالارادة فى غاية
السقوط ولا بد من ارتكاب التأويل فى كلام المعالم لو كانت عبارته ظاهرة فى ذلك ،
ولا يبعد تنزيلها على ان الارادة من قيود الواجب كما ربما يغرى ذلك الى شيخنا
الانصارى طاب ثراه.
وكيف كان فقد وقع
الخلاف بينهم فى ان الواجب ذات المقدمة او مع قصد الايصال الى ذيها سواء ترتب
عليها ذوها ام لا او مع قيد الايصال سواء قصد بها الايصال ام لا؟ اقوال اقربها لدى
النظر هو القول الاول اما عدم اعتبار قصد التوصل فلقضاء الوجدان به ، ألا ترى فى
الخطابات العرفية لو قال المولى لعبده جئنى بالماء ومعلوم ان ليس قصده فى امره هذا
الا الغيرية والتوصل الى استراحة النفس ، فلو جاء العبد بالماء وقصد به امتثال
ارادته والانقياد لامره ذلك كان ممدوحا لدى العقلاء وعد عندهم ممتثلا لامر مولاه ،
فدل ذلك على ان قصد التوصل ليس معتبرا فى الواجب المقدمى وجودا ولا امتثالا.
وينقدح لك الاشكال
فيما ذكره الماتن قده فى قوله «نعم انما اعتبر ذلك فى الامتثال» لما عرفت من ان
الامتثال بالمقدمة لا يفتقر فى تحققه الى قصد التوصل الى الواجب ، كما انها لا
تفتقر فى وقوعها على صفة الواجبية الى ذلك ايضا.
لا يقال : فرق بين
ما ذكرت من المثال العرفى ، وما نحن فيه ، اذ الواقع فى المثال بروز الطلب فيه
بصورة الواجب النفسى ، وان
كان هو فى نفس
الامر والواقع غيريا ، وهذا بخلاف المقام لكون الواجب فيه مقدميا ظاهرا وواقعا.
لانه يقال : لا
عبرة بمقام الاظهار وبروز الارادة الا لكون ابرازها طريقا عاديا لبيان واقع
الارادة من غير ان يكون لمقام ابرازها موضوعية فى ترتب المثوبة والعقوبة ، لظهور
ان المثوبات والعقوبات تابعان لواقع الارادة لا لمقام اظهارها ، وهذا لا ينافى ما
تقدم فى المبحث السابق من النفسية والغيرية مدار الابراز ومرتبة التحميل ، لان ذلك
لم يكن إلّا بملاحظة ما جرى عليه اصطلاح القوم فى تقسيمهم الواجبات الى نفسية
وغيرية فالواجب النفسى فى الاصطلاح ما برزت فيه الارادة لا بنحو التوصل الى واجب
آخر وبعكسه الواجب الغيرى ، وكلامنا هنا فى تعرف حال الثواب والعقاب بحسب نفس
الامر والواقع وظاهر انهما يدوران مدار موافقة الارادة وعدمها لا مدار كيفية
الارادة نفسية وغيرية بشهادة تساوى الحال بحسب انظار العقلاء فى ترتب المثوبة على
الارادات الغيرية كترتبها على ارادات النفسية ، كما انه لا يتفاوت الحال عندهم فى
ذلك بالنسبة الى صدق الامتثال وحسن الانقياد هذا كله فى غير المقدمة المحرمة.
واما المقدمة
المحرمة فان لم تكن منحصرة بقيت على حرمتها ولم يتصف بصفة الوجوب ، لانه لما كانت
المقدمة المحرمة تشترك مع المقدمة المباحة فى مناط المقدمية علم ان الواجب هو
الجامع المشترك فيما بينهما ، ولزم بحكم العقل صرف الوجوب فى الجامع الى فرده
المباح دون المحرم ، وان كانت منحصرة كما لو انحصر انقاذ
الغريق او اطفاء
الحريق بالتصرف فى ملك الغير وجب مراعات الاهم من مصلحتى الوجوب والتحريم ، فان
كانت مصلحة الوجوب اهم كانت المقدمة واجبة ، وان كانت مصلحة التحريم اهم بقيت
المقدمة على ما هى
عليها من التحريم وسقط الوجوب عن ذى المقدمة لتعذر امتثاله.
ولبعض الاعلام هنا
تفصيل فى المقدمة المحرمة المنحصرة ، فذهب الى وجوبها بقصد الايصال خاصة فلو لم
يقصد بها الايصال كانت باقية على حكمها السابق من الحرمة ، مع كونه قائلا بوجوب
المقدمة بذاتها اى مطلقا فى غير المقدمة المحرمة.
ولعل نظره فى ذلك
الى ان الاذن فى المبغوض من جهة المزاحمة ، انما هو من الضرورة التى تتقدر بقدرها
، وحيث تدفع الضرورة بالاذن فى الغصب المقصود به الانقاذ او الاطفاء ، فلا وجه
للاذن فى قسم آخر وهو الغصب الغير المقصود به ذلك.
وفيه ان قدر
الضرورة فى المقدمة المحرمة تعم صورتى قصد التوصل وعدمه لان ملاك المقدمية اذا كان
قائما بذات المقدمة ، وفرض مغلوبية مصلحة التحريم فيها بالاضافة الى مصلحة الوجوب
سقط اعتبار الحرمة فى المقدمة بالمرة وتمحضت لصفة الوجوب «فيقع الفعل المقدمى على
صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات التوصلية لا على حكمه السابق
الثابت له لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلى المنجز عليه فيقع الدخول فى ملك
الغير واجبا اذا كان مقدمة لانقاذ غريق او اطفاء حريق واجب فعلى لا حراما وان لم
يلتفت الى التوقف والمقدمية.»
ان قلت : لا ريب
فى ان المقدمة المحرمة يتصور وقوعها فى الخارج على نحوين بقصد الايصال وبغير قصد
الايصال ، والاثر يستند الى الجامع المشترك بين ما قصد فيها الايصال وما لم يقصد
فيها ذلك كما فى الجامع المشترك بين المقدمة الحرامة والمباحة على ما تقرر آنفا.
وقد عرفت فيما سبق ان العقل فى مثل ذلك يحكم
بصرف الوجوب
المقدمى الى ناحية المقدمة المباحة ، وهنا ايضا كذلك فان العقل يصرف الوجوب
المقدمى الى صورة اتيان المقدمة المحرمة بقصد الايصال لا بغير قصده.
قلت : ليس المقام
من قبيل ما سبق اذ المقام من باب الاقل والاكثر ، فإن المقدمة المقصود بها الايصال
اعتبر فيها حيثية الايصال وهو امر زائد على ذات المقدمة وكلما يكون من هذا الباب
فالوجوب انما يترشح من ذى المقدمة الى ذات الحصة لا الى الجامع حتى يتجه فيه دعوى
حكم العقل بصرف الوجوب الى خصوص المقدمة المقصود فيها الايصال كما قلناه فى الجامع
المشترك بين المقدمتين المباحة والمحرمة.
«واما عدم اعتبار
ترتب ذى المقدمة عليها فى وقوعها على صفة الوجوب» فلان الترتب صفة منتزعة من حصول
ذى المقدمة من بعد مقدمته ، ولا ريب ان ذلك متأخر طبعا عن حصول ذى المقدمة فهو
متأخر عن المقدمة ايضا كذلك ، لان ذا المقدمة غاية للمقدمة فهو متأخر عنها ومقتضى
ذلك ان يكون المتأخر عن ذى المقدمة المتأخر عن المقدمة ، متأخرا عن المقدمة ايضا ،
واذا كانت هذه الصفة متأخرة عن الغاية رتبة يستحيل اعتبارها فى المقدمة المغياة
بذى المقدمة ، لان رتبة المغيى سابقة على رتبة الغاية وما يترتب عليها ، ويمتنع
اعتبار المتأخر رتبة فيما هو مقدم عليه فى الرتبة.
هذا اذا كانت صفة
الترتب معتبرة فى الواجب كما هو صريح كلام صاحب الفصول قده على ما حكى عنه واما لو اريد اعتبارها فى الوجوب كما توهم ذلك من كلام
المعالم قده فى قصد التوصل
__________________
فذلك اوضح فسادا
عن الاول من وجهين :
احدهما : ان
اعتبار الترتب فى حكم الوجوب معناه انه عند ترتب ذى المقدمة على مقدمته تجب
المقدمة ولا ريب انه عند ترتب ذى المقدمة يسقط الوجوب عن ذى المقدمة لاصالة تحصيل
الحاصل فلا معنى للبعث نحو مقدمته.
ثانيها : ان ايجاب
المقدمة لا يكون إلّا حيث يتمكن العبد من مخالفته عصيانا ، وظاهر ان المقام ليس من
ذلك القبيل ، لان مخالفته انما تتحقق بعدم اتيانه بالمقدمة ، ومن المعلوم انه مع
عدم فعله المقدمة لم يتحقق الترتب الذى هو شرط الوجوب حسب الفرض واذا لم يحصل شرط
الوجوب لم تكن المقدمة واجبة ، واذا لم تكن واجبة لم يكن فى تركها عصيان.
فتحصل من جميع ما
سبق ان قيد الايصال او قصد الايصال لم يؤخذ فى المقدمة ، وانما هى معراة عن
القيدين كما لا يخفى.
لكن ذلك لا يستدعى
اطلاقا فيها ، لما عرفت منا غير مرة ان موضوع الحكم لا يكاد يكون له سعة اطلاق
يشمل حال نقيض الحكم ، وفى المقام لما كان المترشح الى المقدمة من ذيها ليس إلّا
ارادة ضمنية مقتضية لحفظ وجود ذى المقدمة من قبل المحافظة على وجود المقومة فى حال
يتحقق به وجود ذى المقدمة وهو لا يكون إلّا فى ظرف تعلق الارادة بحفظ وجود ذيها من
جميع الوجوه الساد لجميع انحاء انعدامه.
وبعبارة اخرى لم
تتعلق الارادة بالمقدمة الا تبعا لارادة ذيها ، وانما تعلقت الارادة بذيها من جهة
مراعاة حفظ وجوده الساد لجميع انحاء عدمه ، فكانت المقدمة متعلقة للارادة من جهة
ان من وجودها ينسد باب من ابواب انعدام ذيها ، فإرادة ذى المقدمة ومطلوبية
وجوده على الوجه
الاتم ، اقتضت تعلق ارادة بالمقدمة على نحو انبساط الارادة المتعلقة بالكل على كل
واحد من اجزائه ، فكل ارادة اذا قيست الى كل جزء كانت ارادة ضمنية. وهنا ايضا كذلك
اذ الارادة الباعثة لوجود ذى المقدمة اقتضت ارادة تبعية لما يتحقق به ذلك الوجود ،
وتلك الارادة لا تكون الا فى ظرف حصول الارادة لباقى المقدمات التى يتحصل بها ذو
المقدمة ، فهى ارادة ضمنية ويستحيل الاطلاق فى موضوعها على وجه يشمل حال عدمها كما
انه يستحيل تقييده بقيد الانضمام ، لان الانضمام اعتبار منتزع من وحدة الارادة
المتعلقة بالمتكثرات فهو متأخر طبعا عن الارادة وما هو متأخر طبعا عنها يستحيل
اعتباره فى موضوعها ومتعلقها كما لا يخفى.
وقد انقدح بذلك
انه لا تقييد ولا اطلاق فى المقدمة بل هى حصة تكون تواما مع ترتب ذى المقدمة عليها
، فمع عدم ترتبه عليها لا تكون مطلوبة لقصور فى حكمها ، لا لتقييدها بقيد الترتب
كما زعمه صاحب الفصول قده فافهم واغتنم.
فإن قلت : اطلاق
الارادة المتعلقة بالمقدمة تابع لاطلاق الغرض المقصود منها ، وظاهر انه «ليس الغرض
من المقدمة الا حصول ما لولاه لما امكن حصول ذى المقدمة ، ضرورة انه لا يكاد يكون
الغرض الا ما يترتب عليه من فائدته واثره ولا يترتب على المقدمة الا ذلك ولا تفاوت
فيه بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه اصلا وانه لا محالة يترتب عليها.»
وببيان آخر أن
انعدام ذى المقدمة يتحقق بانعدام كل واحد من مقدماته ، ففى التحليل يكون انعدام
واحد من المقدمات علة تامة لانعدام ذى المقدمة ، فاذا اريد ايجاد ذى المقدمة فلا
بد من سد هذه الاعدام وتبديلها بالوجودات ، فيكون كل وجود من واحد من المقدمات
فيه اقتضاء لوجود
ذى المقدمة ، فاذا اريد ايجاد ذى المقدمة لا بد ان يبدأ اولا بايجاد واحد فواحد من
مقدماته فأى مقدمة اذا اوجدها فقد سد بابا من ابواب انعدام ذى المقدمة من ناحية
تلك المقدمة التى اوجدها ، وهذا الانسداد من ناحية عدم هذه المقدمة التى اوجدها هو
الغرض المقصود من ايجاد هذه المقدمة ، ومن المعلوم ان هذا الغرض لا ينحصر امره
بصورة انسداد بقية الابواب من ناحية بقية المقدمات ، كما انه يستحيل ان يكون
انسداد باب انعدامه من ناحية غير هذه المقدمة غرضا لما اوجده من المقدمة ، بل ليس
الغرض المترتب على ما اوجده من المقدمة الاسد باب انعدام ذى المقدمة من ناحية هذه
المقدمة ، واذا كان هذا هو الغرض المقصود من ايجاد هذه المقدمة ، وكان ذلك يعم
صورتى تحقق بقية المقدمات وعدم تحققها كانت المقدمة مطلوبة بحسب ما لها من الغرض
سعة واطلاقا ، ومقتضى ذلك ان تكون مطلوبة مطلقا ترتب عليها ذو المقدمة ام لم
يترتب.
قلت : الغرض
المقصود وان لم يكن مختصا بصورة الترتب بل يعم كلتا صورتى الترتب وعدمه ، إلّا ان
الغرض لم يكن على اطلاقه تحت الطلب ، والارادة ، بل المطلوب منها ما كان يترتب
عليها ذو المقدمة ، وذلك لا يكون إلّا فى فرض اصطحاب المقدمة المأتى بها لبقية
المقدمات.
والسر فى ذلك هو
ان المقدمات ليست مستقلة بالارادة وانما يتعلق بها الارادة والطلب بملاحظة تعلق
الارادة بذى المقدمة ، ولا ريب ان ارادة ذى المقدمة لم تكن الا لحفظ وجوده بالنحو
التام المستتبع لارادة المقدمات كلها بنحو الاجتماع لكى يتحقق بذلك الوجود المطلق
المقصود من تعلق الارادة بذى المقدمة وظاهر ان
مثل هذه الارادة
اذا تعلقت بالمقدمات كانت ملازمة لترتب ذى المقدمة عليها ، ضرورة ان كل مقدمة تحت
ارادة ضمنية منبعثة عن تعلق الارادة بايجاد ذى المقدمة.
وربما يستدل للقول
بإطلاق الارادة فى المقدمة من غير فرق بين صورتى الترتب وعدمه «بأنه لو كان معتبرا
فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب
عليها بحيث لا يبقى فى البين الا طلبه وايجابه ، كما اذا لم يكن هذه بمقدمة او
كانت حاصلة من الاول قبل ايجابه ، مع ان الطلب لا يكاد يسقط إلّا بالموافقة او
العصيان والمخالفة ، او بارتفاع موضوع التكليف كما فى سقوط الامر بالكفن او الدفن
بسبب غرق الميت احيانا او حرقه ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير
الموافقة.»
والجواب عنه ان
المراد بسقوط الطلب ان كان هو سقوطه عن مرتبة الفعلية بإتيان ذات المقدمة من غير
ترتب ، فلا نسلم سقوطه كذلك ما لم يترتب عليها ذو المقدمة قطعا ، لما عرفت من ان
تعلق الطلب بالمقدمات من شئون تعلقه بذى المقدمة ، وليس هو طلبا استقلاليا بل هو
نظير الطلب المتعلق بأجزاء المركب ضمنى ينوط سقوطه عن مرتبة الفعلية بإلحاق بقية
الاجزاء واستكمال تمام المركب ، وان كان هو سقوطه عن مرتبة البعث والتحريك فذلك
مسلم لاستحالة البعث والتحريك نحو الحاصل فانه من تحصيل الحاصل ، إلّا انه من
المعلوم ان عدم صلاحية الامر للتحريك لا يدل على ان المأمور به هو المقدمة على جهة
الاطلاق لجواز ان يكون ذلك من قبيل اجزاء المركب الذى لا يبقى معه الامر محركا عند
تحقق بعض اجزائه الا مع الحاق بقية الاجزاء وضمها مع ما اتى به من الاجزاء من دون
ان يسقط
بذلك عن مرتبة
الفعلية ، ولعمرى هذا واضح لا سترة عليه اصلا كما لا يكاد يخفى.
«حول الثمرة فى
المسألة على القولين»
ثم ان الثمرة تظهر
فيما لو اذن المالك لمن يتوضأ بمائه ومن حوضه ان لا يتوضأ به الا وان يصلى بذلك
الوضوء ، فعلى القول المختار لو توضأ ولم يصل كان وضوئه باطلا لانه منهى عن هذا
الوضوء الذى لم يستعقبه صلاة ، بخلافه على القول بإطلاق الوجوب المقدمى فان وضوئه
ذلك صحيح على الاطلاق سواء تعقبه صلاة بذلك الوضوء ام لا.
وكذا تظهر الثمرة
فيمن سلك الارض المغصوبة بلا داعى الانقاذ ولا ترتب عليه ذلك من بعد سلوكه فانه على
المختار يكون سلوكه ذلك محرما ومعاقبا عليه ، بخلافه على القول الآخر هذا.
ولمانع ان يمنع
الثمرة فى ذلك لان اطلاق المقدمية ليس علة تامة للاتصاف بالوجوب حتى يكون ذلك
قاضيا بوجوب المقدمة على اطلاقها سواء ترتب عليها ذو المقدمة او لم يترتب عليها
كما هو مقتضى ما ذكر فى بيان الثمرة بل هو مقتض لا يؤثر إلّا حيث لا يكون فى المحل
مانع التحريم كما هو متحقق فى المقدمة المحرمة فينحصر الوجوب فيها حينئذ بتقدير
الترتب خاصة على كلا القولين ، وينتفى بذلك الثمرة بينهما فالاولى بناء الثرة
بينهما على العلية التامة إلّا ان القول بالعلية التامة مما لم يذهب اليه احد ممن
اعلم ، فالخلاف فى اعتبار الترتب وعدمه فى المقدمة على هذا يكون عديم الثمرة ،
لابتناء اثر الفرق فيما بين القولين على مبنى غير صحيح عند الفريقين.
بل ربما يدعى فى
المثالين استحالة صدور النهى من المالك على سبيل الحقيقة لاوله الى طلب الشىء بعد
وجوده وهذا محال بالبديهة لانه من تحصيل الحاصل.
وبيان ذلك ان قصر
الرخصة فى التوضى فى مثال الوضوء وسلوك الارض فى مثال الارض المغصوبة بصورة ترتب
ذى المقدمة على مقدمته ، معناه انحصار مورد الاذن فيهما بفرض ترتب ذى المقدمة على
المقدمة ، ولازمه انحصار ترشح الوجوب من ذى المقدمة الى المقدمة بخصوص المقدمة
التى يترتب عليها ذو المقدمة ، فلا يجب الوضوء حينئذ إلّا اذا كان يؤتى بالصلاة من
بعده ، وكذلك الحال فى سلوك الارض المغصوبة فانه لا يترشح الوجوب من الانقاذ
الواجب الا الى السلوك الذى يترتب عليه الانقاذ ، واما ما عدى ذلك من صورتى الوضوء
الغير المستعقب للصلاة ، وسلوك الارض الغير المترتب عليه الانقاذ فهما باقيان تحت
المنع والحرمة ، وحينئذ نقول وجوب الوضوء فى فرض المثال يتوقف على المكنة والاقتدار
عليه ، ولا يقتدر عليه إلّا اذا لم يكن ممنوعا عنه قبل المالك ، لان العذر الشرعى
كالعذر العقلى مانع عن تعلق التكليف بالممنوع عنه ، ولا يكون الوضوء جائزا غير
ممنوع عنه ، إلّا اذا تعقبه الصلاة بمقتضى قصر الرخصة والاذن فى الوضوء بذلك ،
وظاهر ان فرض ترتب الصلاة ووقوعها فى الخارج موقوف على الوضوء لكونه مقدمة وشرطا
فى الصلاة ، فصار وجوب الوضوء يتوقف على وجوده بوسائط وهذا هو المحال المدعى لزومه
فى المثال ، لظهور توقف وجوب الوضوء على التمكن منه ، والتمكن من الوضوء يتوقف على
جوازه ، وجوازه يتوقف على ترتب الصلاة عليه ، وترتب الصلاة عليه يتوقف على الوضوء
نفسه لانه شرط فى الصلاة ، وحينئذ يكون المتحصل من ذلك انه اذا وجد
الوضوء وجب ،
وبطلان هذا اوضح من ان يخفى على ذى مسكة هذا.
ولكن الانصاف عدم
ورود هذا المحذور من الاشكال على ما ذكر من المثال بناء على المقدمة الموصلة ، لمنع
توقف الاقتدار على الوضوء ، على جوازه ، بل على العلم بجوازه ، وفرق بين الجواز
الواقعى والعلم به فربما لا يكون الشىء جائزا فى الواقع ، ومع ذلك لو اتى به
باعتقاد جوازه كان العمل صحيحا ، كما هو كذلك فى فرض الوضوء ضرورة ان صحته وعدم
صحته يدور ان فى المثال على العلم برخصة المالك واذنه فى التوضى من مائه وعدم
العلم بذلك ، فاذا علم المتوضى بأنه يوقع الصلاة ويأتى بها من بعد الوضوء كفى ذلك
فى صحة وضوئه ، لعدم اخلاله بالقربة سواء ترتب عليه اتيان الصلاة او لم يترتب عليه
ذلك ، واذا صح منه الوضوء بطل القول بتوقف الاقتدار عليه بعدم المانع عنه ، واذا
بطلت هذه المقدمة المذكورة فى تقريب الاشكال ، يندفع الاشكال بحذافيره ، اذ لم
ينته الامر فى فرض المثال الى توقف وجوب الوضوء على وجود الوضوء حتى يكون ذلك من
تحصيل الحاصل.
نعم انما يتجه
الاشكال لو بنى توقف الاقتدار على الوضوء على الجواز الواقعى وعدم المنع عنه كذلك
، وهو فى حيز المنع ، فالاولى قصر الاشكال فى المثال على ما تقدم من ابتناء الفرق
بين القولين فى الثمرة على القول بعلية الاطلاق فى المقدمية للحكم بالوجوب وهو مما
لم يقل به احد من الفريقين ، وذلك يستلزم انتفاء الثمرة فيما بينهما كما لا يخفى.
ويمكن ان يقال :
بظهور الثمرة بينهما فى انه على القول بالمقدمة الموصلة لو سلك الارض المغصوبة
بغير داعى الانقاذ ، كان عاصيا فى المقدمة وذيها ، ان لم ينقذ الغريق ، ومتجريا
فيهما ان
انقذه من بعد
سلوكه الارض بغير داعى الانقاذ ، واما على القول الآخر فليس عليه الا حرمة التجرى
فى ذى المقدمة ان اتى به وإلّا كان عاصيا فيه حسب.
ونقل عن صاحب
الفصول قده انه قال : بظهور الثمرة بين القولين فى مسئلة الضد فانه على القول
بالمقدمة الموصلة تصح الصلاة لو ترك الازالة واتى بالصلاة ، اذ المقدمة المأمور
بها للتوصل الى الازالة بناء على ذلك القول ليست هى إلّا ترك الصلاة التى يتوصل به
الى الازالة ، وظاهر ان مريد الصلاة لا يتوصل بتركها الى الازالة فلا تكون مثل هذه
الصلاة مما امر بتركها حتى تكون محرمة بناء على حرمة الضد ، بخلافه على القول
الآخر فان الصلاة بما هى صلاة ضد لتركها الذى هو مقدمة للازالة ، فيجب الترك على
الاطلاق ومقتضاه حرمة الصلاة وبطلانها ، لانها نقيض او ضد للمأمور به ، والامر
بالشىء يقتضى النهى عن ضده العام.
واجيب عن الفصول
بعدم الفرق بين القولين فى اقتضاء الامر بترك الصلاة مقدمة للازالة ، حرمة الصلاة
حتى على القول بالمقدمة الموصلة ، لان ارتفاع ترك الصلاة المتوصل به الى الازالة
يتحقق تارة بفعل الصلاة واخرى بتركها بغير الايصال فيكون اتيان الصلاة من احد
مصداقى النقيض للمقدمة الموصلة ، فتكون الصلاة حينئذ محرمة لانطباق عنوان المحرم
عليها لو بنى على المقدمية المطلقة.
«غاية الامر ان ما
هو النقيض فى مطلق الترك ، انما ينحصر مصداقه فى الفعل فقط واما النقيض للترك
الخاص فله فردان وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده كما لا يخفى.»
__________________
وتنظر الماتن قده
فى هذا الجواب قائلا بالفرق بين المبنيين بأنه على القول بالمقدمة الموصلة لا يكون
الفعل الا من المقارنات الاتفاقية لما هو النقيض للمقدمة ، ولا يتسرى الحكم من احد
المتلازمين الى الآخر فضلا عما يقارنه اتفاقا ، وهذا بخلافه على القول بالمقدمة
المطلقة فإن الفعل بنفسه يعد معاندا للترك المطلق ومنافيا له لا ملازما لمعانده
ومنافيه ، «فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما لكنه متحد معه عينا
وخارجا ، واذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا.»
وقد يتراءى فى
بادئ النظر ان هذه الدعوى منه قده فى بيان الفرق مصادرة لكونها دعوى عارية عن
الشاهد.
ويمكن الاستشهاد
للفرق بأنه على المقدمة الموصلة يكون الواجب مقيدا ولا ريب ان ترك المقيد يتحقق
بأمرين ، ولا يجوز ان يكون الامر ان بأنفسها نقيضين لذلك الواجب المقيد اذ الواحد
لا يناقضه الا شىء واحد لا اشياء ، فلا بد حينئذ من التزام جامع فى البين يكون ذلك
هو النقيض ، ولما كان ذلك الجامع يستحيل كونه جامعا بين الوجود والعدم امتنع
اعتباره جامعا بين وجود الصلاة وتركها الغير الموصل ، فلا بد من انطباق الجامع فى
طرف الوجود على امر يكون ملازما لوجود الصلاة ، فيكون ذلك الامر هو المبغوض ويكون
وجود الصلاة مقارنا له ولا يتسرى اليه المبغوضية جزما.
وهذا بخلافه على
القول بالمقدمة المطلقة ، لظهور ان نقيض العدم المطلق هو الوجود المطلق فاذا كان
العدم على اطلاقه محبوبا كان الوجود مبغوضا للمولى ، فأمتنع التقرب به اليه
ومقتضاه حينئذ هو البطلان كما هو ظاهر.
هذا غاية ما يمكن
ان يوجه به الفرق المدعى فى كلام الماتن إلّا
انه مع ذلك لا
يخلو عن اشكال لامكان الخدشة فيه بأن هذا الوجه من الفرق انما يتم لو كان معروض
الوجوب بناء على المقدمة الموصلة امرا واحدا ، إلّا أنّك قد عرفت منافى بعض
المباحث المتقدمة ان ما كان متصفا بالوجوب فى المقيدات والمركبات ليس إلّا
المتكثرات وانما جاءت الوحدة من قبل الحكم وحينئذ يكون نقيض كل واحد من تلك
المتكثرات شيئا غير نقيض الآخر ، فلم يختلف طرفا التناقض وحدة وكثرة ، بل كان كل
منهما على وصف التكثر ، فنقيض ترك الصلاة ايجادها كما ان نقيض قيد الايصال عدم
الايصال ، ومقتضى الملازمة بين محبوبية الشىء ومبغوضية نقيضه هو صيرورة الوجود
وعدم الايصال كليهما مبغوضين ، إلّا انه لمكان ضمنية الوجوب فى جانب الترك المقدمى
كان المبغوض من النقيض منطبقا على اول الوجود منه وهو يتحقق بإيجاد الصلاة ، لكونه
مقدما فى الرتبة على نقيض القيد ، كما ان المقيد الذى هو الترك كان مقدما فى
الرتبة على قيده الذى هو الايصال.
وبالجملة انحصار
المبغوضية فى طرف النقيض بخصوص الترك ليس من جهة انحصار النقيض فى وجود الصلاة ،
بل انما ذلك من جهة انحصار انطباق المبغوض من النقيض على ما يتحقق فى اول الوجود ،
ولا يكون ذلك الذى هو اول الوجود فى مورد البحث الا نفس اتيان الصلاة ، لا عدم
الايصال الذى هو نقيض قيد الايصال المعتبر فى الترك المقدمى.
فتلخص مما قررناه
ان كلام الفصول قده فيما ذكره من الثمرة غير جيد ، وان ما اورد عليه من عدم الفرق
بين القولين وارد عليه ، وان انتصار الماتن قده له بما ذكره من وجه الفرق غير متجه
، ولعله الى ما ذكرناه نظر الماتن فى قوله «فتدبر جيدا» ولكنه بعيد لان لفظة
جيدا مانع عن جعل
ما سمعت منا وجها للتدبر كما لا يخفى.
«فى الاصلى والتبعى»
«ومنها تقسيمه الى
الاصلى والتبعى» والملحوظ فى هذا التقسيم هو مرحلة التحميل وابراز الارادة لا ذات
الارادة نفسها لانها دائما ابدا تبعية لكون التقسيم ناظرا الى الواجب الغيرى خاصة
لا مطلق الواجب نفسيا كان او غيريا.
على ان يكون
الواجب النفسى من قسم الاصلى والواجب الغيرى من قسم التبعى ، وإلّا لكان ذلك
اصطلاحا آخر فى تسمية الواجب النفسى اصليا والغيرى تبعيا ولم يكن يناسب جعله
تقسيما مستقلا برأسه فى قبال التقسيم الى النفسى والغيرى ، كما انه ليس الملحوظ فى
هذا التقسيم كيفية لحاظ الموضوع بنحو الاصالة والتعبية حتى يكون الحكم بالاصلى
والتبعى دائرا مدار كيفية النظر الى موضوعه ، فإن كان اصليا كان الحكم مثله اصليا
، وان كان تبعيا كان الحكم كذلك ، لما تجد من الاختلاف فيما بين لحاظ الموضوع
وحكمه ، فربما يلحظ الموضوع بالاصالة ومع ذلك يكون حكمه تبعيا كما فى مقدمات
الواجب فان المولى قد يلحظ مقدمات مطلوبة إلّا انه يخص حكمه فى مرحلة التحميل بذات
الواجب النفسى المطلوب دون مقدماته فان المقدمات حينئذ تكون محكومة بالوجوب تبعا
لذى المقدمة ومع ذلك كانت ملحوظة للحاكم بالاصالة والنظر الاستقلالى ، وقد ينعكس
الحال فيكون الموضوع ملحوظا بالتبع ومع ذلك يكون حكمه اصليا كما فى المتلازمات فان
الحاكم عند تصوره احد المتلازمين يلتفت الى ملازمه تبعا إلّا انه فى مرحلة التحميل
ومقام التكليف يحكم
بالاستقلال على كل
منهما بحكم مستقل فيكون الحاكم على هذا اصليا وموضوعه ملحوظا بالتبع.
فاتضح مما ذكرناه
ان مدار الاصلية والتبعية ليس على لب الارادة ولا على تبعية الموضوع فى عالم
اللحاظ ، بل المدار فى ذلك باعتبار مرحلة التحميل وابراز الارادة ، فان ابرز
المولى خطابه المتضمن للتكليف بنحو الاستقلال كان ذلك التكليف اصليا وإلّا كان
تبعيا.
ويجرى التقسيم
بكلا قسميه فى الواجبات الغيرية والنفسية فان الواجبات الغيرية كما يجوز استقلالها
بالخطاب ، فتكون واجبة بالاصالة ، وعدمه فتكون واجبة بالتبع ، كذلك الواجبات
النفسية يجوز استقلالها بالخطاب كما هو كذلك فى غالب الواجبات النفسية ، ويجوز
تبعيتها فى الخطاب والحكم كما فى المتلازمات اذا قصر الحاكم خطابه على احد المتلازمين
، فإن الحكم فى الملازم الآخر لا يكون إلّا تبعيا لا اصليا بناء على جواز الحكم
على المتلازمين بحكمين ، فانقدح بذلك ان فرض التبعية فى الواجبات النفسية لا يكون
إلّا فى المتلازمات دون غيرها.
ثم ليعلم ان غرض
المقصود من ذكر هذا التقسيم فى كلمات القوم هو بيان حال المقدمات الغير الملتفت
اليها فى نظر الحاكم ، فانه ربما يستشكل فى ترشح الوجوب عليها من ذى المقدمة اذ
الحكم على الشىء بالوجوب يتوقف على الالتفات الى ذلك الشىء فما لم يلتفت اليه كيف
يجوز الحكم عليه بأنه واجب ، فأرادوا بذكر هذا النحو من التقسيم دفع هذا التوهم
والتنبيه على ان لنا فى الواجبات ما لا يجب الالتفات اليه فى مقام الحكم عليه
بالوجوب وهو الواجب التبعى ، فلا منافات بين الحكم بوجوب المقدمة وعدم الالتفات
اليها ، لظهور
ان الالتفات الى
الملازمة فى نظر الحاكم كاف فى ايجاب المقدمة بحسب الارتكاز وان لم يكن ملتفتا
اليها ، بل ولو كان قاطعا بعدم توقف الواجب النفسى عليها اشتباها وخطاء ،
«فى بيان ثمرة
المسألة»
«تذنيب :» فى بيان
ثمرة المسألة ومعلوم ان ثمرة المسألة الاصولية لا بد وان تكون واقعة فى طريق
الاستنباط صغرى او كبرى ، فاذا بنى على وجوب المقدمة تنقح عندنا قياس مؤتلف من
صغرى هى ان الوضوء مثلا مقدمة للصلاة الواجبة ، وكبرى هى ان كل مقدمة الواجب واجبة
، فينتج من ذلك الوضوء واجب ، وغير خفى على الخبير ان المقصود من الواجب المترشح
الى المقدمة ليس هو الوجوب العقلى الذى هو بمعنى اللابدية ، لان ذلك مما يحكم به
العقل بديهة فيمتنع ان يكون محط الانظار والخلاف بين الاعلام ، بل ليس هو إلّا
بمعنى الوجوب الشرعى ، فيستنتج حينئذ من القياس المؤلف من المسألة الاصولية وغيرها
حكم فرعى هو ان الوضوء واجب شرعا فاذا وجب شرعا صح التقرب به بناء على المختار من
جواز التقرب بالواجبات الغيرية ، وكان مورد استحقاق المثوبة على موافقته والعقوبة
على مخالفته ، وتحقق بمثل هذا الوجوب عبادية الطهارات الثلث وصلح البعث نحو
المقدمة بمثل ذلك الوجوب لمن لم يعلم بالمقدمية ، او علم بها ولم يعلم بوجوب ذى
المقدمة فان الطلب الغيرى المتعلق بالمقدمة اصالة او تبعا يصلح للداعوية والبعث
نحو المقدمة على هذا الفرض ، واما لو فرض علمه بالمقدمية ووجوب ذى المقدمة ، امتنع
اقتضاء مثل ذلك الوجوب تحريكا وبعثا لاتيان المقدمة ، لتحقق الدعوة عليها
بحكم العقل من باب
الابدية ، إلّا انه مع ذلك لا يلغو الايجاب فيها اصالة او تبعا لانه يزداد به
التوسعة فى كيفية التقرب والامتثال ، لظهور انه مع ايجاب المقدمة بالوجوب الشرعى ،
يتمكن العبد فى مقام الاطاعة والامتثال ان ينوى التقرب الى الله تعالى فى اتيانه
بالمقدمة بموافقته لارادة الشارع الغيرية المتعلقة بالمقدمة علاوة على تقربه فيها
بنية التوصل ، فلا يخلو تعلق التكليف بها حينئذ عن فائدة وهى التوسعة فى كيفية
الاطاعة فى المقدمات المباحة بالذات الواجبة بالعرض ، بل وفى محرماتها ايضا منحصرة
كانت او غير منحصرة ، اذ على فرض تنجز الوجوب وفعليته فى ذى المقدمة لو بنى على
وجوب المقدمة ترشح الوجوب الى المقدمة بخصوصيتها ان كانت منحصرة ، والى الجامع
المشترك بينها وبين المقدمة المباحة ان لم يكن منحصرة ، فانه كما يجوز له التقرب
فى المقدمة انقياد ـ الحكم العقل باللابدية توصلا الى ذى المقدمة كذلك يجوز له
التقرب فيها انقياد الحكم الشرع بوجوبها غيريا ، إلّا ان تحقق الاطاعة والامتثال
فى غير صورة الانحصار يبتنى على القول بجواز اجتماع الامر والنهى ، وإلّا فلو بنى
على الامتناع وعدم جواز الاجتماع انحصر الوجوب فى المقدمة المباحة خاصة.
واما بناء على
الجواز فالوجوب يترشح الى الجامع المشترك بين المقدمتين مباحة ومحرمة فيكون ذلك
بالنسبة الى المقدمة المحرمة من قبيل الصلاة فى الدار المغصوبة ، فان الصلاة
بخصوصيتها فى المكان الغصبى محرمة ، وهى بجامعها الصلاتى تكون واجبة فينوى بها
التقرب باعتبار جامعها المشترك بين المحرم من افرادها وغيره ، كما هنا فإن المقدمة
المحرمة باعتبار ما لها من الخصوصية الغصبية مثلا محرمة ، وهى باعتبار ما لها من
الجامع القائم بها المشترك
بين المحرم من
افرادها وغيره تكون واجبة ، فينوى بها التقرب باعتبار ذلك الجامع ولا بأس به بناء
على القول بجواز الاجتماع ، وليس الجامع فيها هو عنوان المقدمية لكى يرد عليه ما
فى المتن من «ان الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة لا بعنوان المقدمة فيكون على
الملازمة من باب النهى فى العبادة والمعاملة» انتهى.
لان عنوان
المقدمية منتزع عن الشىء بعد اتصافه بشأنية الايصال ، فيستحيل استناد التأثير الى
ما هو متأخر عن شأنية الايصال الذى هو عنوان المقدمية ، لان استناد التأثير الى
ذات المقدمة هو العلة والسبب فى اتصاف الذات بالمقدمية ، فتكون المقدمية على هذا
التقدير معلولة لصلاحية التأثير القائم بذات المقدمة.
وان شئت قلت : ان
صلاحية التأثير القائمة بذات المقدمة هى منشأ انتزاع المقدمية عن ذات المقدمة
فحينئذ يكون المقدمية صفة متأخرة رتبة عن صلاحية التأثير والايصال الى ذى المقدمة
، ويمتنع استناد التأثير الى صفة متأخرة عن اعتبار التأثير نفسه ، فلا بد من
استناده الى جهة اخرى قائمة بذات المقدمة غير عنوان المقدمية ، فاذا كانت المقدمة
منحصرة فى فرد واحد امكن ان يكون لخصوصية ذلك الفرد دخل فى الايصال واستناد الاثر.
واما اذا لم تكن
منحصرة فى فرد واحد بل كانت ذات فردين احدهما فرد مباح والآخر محرم ، فلا بد ان
يكون المؤثر فى حصول ذى المقدمة هو معنى جامع بين الفردين غير عنوان المقدمية ،
فإن قلنا بجواز الاجتماع الامر والنهى كان له ان يأتى بالمقدمة المحرمة بقصد
التقرب بذلك الجامع كما فى الصلاة فى الدار المغصوبة.
ان قلت : «لا يكاد
يلزم الاجتماع اصلا لاختصاص الوجوب بغير المحرم فى غير صورة الانحصار به.»
قلت : ان كان
المقصود من اختصاص الوجوب بغير المحرم ، هو ارشاد العقل تعيينا الى التوصل بالفرد
المباح فهو مسلم ، إلّا ان ذلك لا يخرج الفرد المحرم عن الفردية لذلك العنوان
الجامع المشترك بين الفردين ، وان كان المقصود منه خروج الفرد المحرم عن الفردية
لذلك العنوان الجامع ، ففيه منع واضح لا يكاد يخفى ، واذا كان الفرد المحرم باقيا
على فرديته كان من قبيل الصلاة فى الدار المغصوبة لو اختار المكلف امتثال الامر
المتعلق بكليه فى ضمن ذلك الفرد الحرام ، جاء فيه الكلام المقرر فى مسئلة الاجتماع
الامر والنهى واتجه القول بالاجتزاء بذلك الفرد الحرام بناء على جواز الاجتماع
وبالجملة ليس
المقام الا من موارد المسألة المبحوث عنها فى اجتماع الامر والنهى ويجىء فيه
الكلام المقرر ثمة ، وتظهر ثمرة القول بوجوب المقدمة فيه بما بيناه آنفا من زيادة
التوسعة فى مقام الامتثال والطاعة.
ومنه يعلم ما فى
المتن من «ان الاجتماع وعدمه لا دخل له بالتوصل بالمقدمة المحرمة وعدمه اصلا.» الى
آخر كلامه المذكور فى ايراده الثالث.
اذ الغرض المقصود
من ذكر هذه الثمرة ما عرفت من زيادة التوسعة فى طريق الامتثال وكيفية التقرب ،
فانه على القول بوجوب المقدمة يتمكن المكلف فى مقام امتثاله بالمقدمة ان يأتى بها
بداعى الارادة المتعلقة بها ، كما يتمكن من امتثاله بها مع قصد التوصل الى المحبوب
النفسى الذى هو ذو المقدمة ، او مع قصد تحصيل الغرض المترتب على حصول ذى المقدمة.
اللهم إلّا ان
يكون نظره قده فى كلامه هذا الى ان مثل ذلك لا يصلح ان يكون ثمرة بحيالها يمتاز
بها مسئلة اجتماع الامر والنهى
عن غيرها ، فإن
التوسعة فى كيفية الامتثال يتحقق فى كل مقدمة ترشح اليها الوجوب الشرعى سواء كان
من موارد اجتماع الامر والنهى او من غيرها ، فتفريع اجتماع الامر والنهى على القول
بوجوب المقدمة غير جيد ، وكيف كان فالامر سهل بعد تحقق الثمرة وترتبها على القول
بوجوب المقدمة بما عرفته آنفا بما لا مزيد عليه.
نعم ما ذكره قده
فى هذا المقام من ظهور الثمرة فى بر النذر بإتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب
وغير ذلك من الثمرات المنقولة فى الكفاية ، غير خال عن النظر سيما فى النذر ، فإن
تطبيق الحكم الفرعى الكلى على بعض مصاديقه ليس يعد ثمرة لمسألة اصولية فلو نذر ان
يأتى بواجب شرعى لزمه الوفاء بنذره ، فاذا بنى على وجوب المقدمة تحقق فرد للواجب
الشرعى وهو المقدمة فانطبق عليه الوجوب الشرعى الذى لزمه اتيانه ، وليس مثل هذا من
ثمرات المسألة الاصولية اذ ليس ذلك من قبيل الحكم الفرعى الكلى الذى مهدت
لاستنباطه المسألة الاصولية ، بل هو مورد شخصى انطبق عليه ما هو واجب يلزمه اتيانه
بالنذر. والحاصل ان هذا ونظائره لا ينبغى جعله ثمرة من ثمرات المسائل الاصولية.
واما الكلام فى
بقية الثمرات فيظهر من مراجعة الكفاية فلا نطيل الكلام فيما يرد عليها من الاشكال
والاختلال.
«فى تأسيس الاصل فى
المسألة»
«بقى الكلام» فى
تأسيس الاصل فى المسألة وينبغى ان يعلم انه لا مجرى للاصل فى المقدمة الا على فرض
الشك فى وجوبها ، ولا يشك فى وجوبها الا على فرض الشك فى تحقق الملازمة بين وجوبها
ووجوب ذى المقدمة ، واذا شك فى الملازمة فقد حصل القطع والجزم بانتفاء الدلالة
الالتزامية ، لان الدلالة لا تتحقق الا بعد العلم بالملازمة فمع عدم العلم
بالملازمة تنتفى الدلالة جزما ، نظير الشك فى حجية الظن فانه مساوق للقطع بعدم
حجيته ، وحينئذ مع الجزم بعدم الوجوب لا يبقى مجال للتمسك بالاصل حتى يتجه فى ذلك
ما افاده الماتن قده من ان «نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم حيث يكون حادثا
بحدوث وجوب ذى المقدمة فالاصل عدم وجوبه». انتهى
ولئن سلم تبعية
الدلالة الالتزامية لواقع الملازمة لا للعلم بها ، امكن الخدشة فى جريانه بأن مفاد
الاصل ليس إلّا نفى الوجوب فى الظاهر دون الواقع ، ومن البين المعلوم عند البصير
انه على فرض الملازمة الواقعية يمتنع انتفاء الوجوب ظاهرا عن المقدمة بعد تنجز
الوجوب وفعليته بالنسبة الى ذى المقدمة ، كما هو المفروض لامتناع التفكيك بين
الوجوبين.
ودعوى جواز
التفكيك بينهما فى مرحلة الفعلية كما بنى عليه الماتن ، كلام لا نفهم محصله بعد ان
كان وجوب المقدمة بطبعه تبع وجوب ذيها.
ولئن سلم جواز
التفكيك بينهما فى مرتبة الفعلية نقول ان من المقرر فى غير هذا المقام ان جريان
الاصول يتبع الاثر العملى وان مآلها فى باب الاستصحاب الى الامر بالمعاملة فى زمان
الشك معاملة اليقين السابق ، ولا ريب انه مع لزوم الاتيان بالمقدمة من باب
اللابدية بحكم العقل لا يبقى فى البين اثر عملى يترتب على البناء على عدم وجوب
المقدمة.
اللهم إلّا ان
يقال : انه يكفى فى الاثر العملى عدم برء النذر بها مع استصحاب عدم وجوبها هذا.
والمسألة بعد
محتاجة الى تجديد نظر وتأمل.
«نقل الاقوال فى
الملازمة وعدمها والمختار منها»
واذ قد عرفت ما
تلوناه عليك ، فأعلم ان القوم فى القول بالملازمة بين وجوب المقدمة وذى المقدمة
على اقوال :
فقائل منهم
بالملازمة مطلقا وهو الاقرب وقائل بعدمها كذلك ، ومفصل بين الشرط الشرعى فكالاول
وغيره فكالثانى ، ومفصل آخر بين السبب فكالاول وغيره فكالثانى.
لنا شهادة الوجدان
وهو من اعظم البرهان ، على ان القصد والارادة اذا تعلقا بشىء لزمه تبعية ارادة
مقدماته بالضرورة ، أفلا تنظر فى نظائر المقام التى تردد بصورة التكليف الصادر من
غير الشارع نحو الامر بالسقى وشراء اللحم ونحوهما مما تعلقت ارادة المولى بها ،
ومع ذلك هى فى نفس الامر والواقع ليست إلّا ارادات غيرية برزت فى عالم التكليف
بصورة الارادة النفسية ، فلو لا انها مرادة بسبب تعلق الارادة بما يترتب عليها من
الاغراض
والمقاصد من رفع
العطش وسد الرمق ، لما كان فى التكليف بها مجال ، فمثل ذلك كاشف عن انجبال النفوس
كلية على ان الشىء اذا كان مرادا للطالب كانت مقدماته مطلوبة بالتبع ، هذا مع ان
حال الارادة التشريعية كحال الارادة التكوينية ، فكما ان فى الارادة التكوينية اذا
تعلق القصد بإيجاد شىء يتشاغل اولا فى تحصيل مقدماته ، فكلما يوقعه من تلك
المقدمات يوقعها عن قصد وارادة ، فكذلك فى الارادة التشريعية اذا تعلقت ارادة
المولى بإيجاد شىء على يد عبده وباختياره فانما يريده ويريد مقدماته المتوصل بها
اليه ايضا بالارادة المولوية كما فى ذى المقدمة.
وقد انقدح بذلك
ضعف التفصيل بين انحاء المقدمات بنحو السببية او غيرها والشرط الشرعى وغيره لعدم
فرق الوجدان بينها كما هو ظاهر لا يكاد يخفى.
ولا حجة فيما احتج
به ابو الحسن البصرى للمدعى وان كان مدعاه حقا ، إلّا ان دليله غير واف بالدلالة
على مدعاه كما يعرف ذلك من مراجعة الكفاية.
واما ما احتج به
المفصل بين السبب وغيره ، بأن المسبب لما لم يكن مقدورا إلّا بسببه ، انصرف
التكليف الى سببه لانه المقدور دون مسببه ، ففيه ان المسبب تارة يكون وجوده مستندا
الى السبب وحده ويكون السبب تمام العلة فى وجود ذلك المسبب كجز الرقبة الذى هو
تمام العلة للقتل بحسب العادة ، واخرى لا يكون كذلك بل يستند وجود المسبب اليه
والى غيره نحو القاء الخشب فى النار فانه ليس تمام العلة للاحتراق بل الاحتراق
يستند الى النار والالقاء معا بل وعدم المانع نحو الرطوبة ، فان كان من قبيل الاول
كان المسبب بتمام مراتب وجوده مقدورا للمكلف بالواسطة وجاز تعلق التكليف به ، وان
كان
من قبيل الثانى
كان المسبب مقدورا للمكلف من ناحية ما يقدر عليه من الالقاء دون تأثير النار فى
الخشب ، فالتكليف وان كان بحسب ظاهره متوجها الى الاحراق والاحتراق بتمام مراتب
وجوده ، إلّا ان المطلوب من المكلف ليس إلّا ما يتأتى من قبله من الالقاء دون ما
يتأتى من قبل النار.
واما المقدمة
الحرام والمكروه ففى اتصافهما بالحرمة او الكراهة لو ترتب عليهما الحرام والمكروه
او لا؟ وجهان او قولان مختار الماتن هو الثانى والاقرب هو الاول ، وينبغى ان يعلم
اولا ان محل النزاع والخلاف ليس فى المقدمة التى هى جزء اخير للعلة التامة ، اذ لا
يكاد يشك فى اتصافهما بالحرمة او الكراهة عند الفريقين ، كما انه من المعلوم البين
عند كل احد انه لا بأس بالمقدمة التى لم يترتب عليها الحرام او المكروه اذا لم
يقصد بها التوصل اليهما ، واما اذا قصد بها التوصل اليهما فليس عليه لا حرمة
التجرى مع عدم ترتب الحرام او المكروه على تلك المقدمة ، فان ترتبا عليها يجىء
فيها الخلاف فى ترشح الحرمة او الكراهة اليها فانقدح مما ذكرناه ان مورد الخلاف
بين الفريقين فى ترشح الحرمة او الكراهة من ذى المقدمة الى المقدمة ، انما هو فى
المقدمة التى ترتب عليها الحرام او المكروه غير الجزء الاخير من العلة التامة ،
سواء قصد بها الايصال الى ذى المقدمة او لم يقصد ذلك.
وتظهر ثمرة الخلاف
فيمن توضأ بماء مباح وصار يتقاطر منه الماء المستعمل فى وضوئه على الاناء الغصبى
او الارض المغصوبة ، فانه بناء على المختار يبطل الوضوء مع تمكنه من حبس القطرات
المتقاطرة من اعضائه ، ولو بوضع كفه تحت وجهه لجمع القطرات التى تتقاطر من وجهه
مثلا ، فان وضوئه ذلك بأجمعه مقدمة للتصرف فى الاناء
المغصوب فيترشح
اليه الحرمة من ذى المقدمة ويختل بها القربة المعتبرة فى صحة الوضوء.
واما بناء على
القول الآخر فلا يبطل وضوئه وان حرم عليه ارسال الماء المتقاطر من اعضائه الى
الاناء الغصبى ، لان الحرمة على ذلك القول لا تسرى الا الى الجزء الاخير الذى هو
عدم حبس القطرات المتقاطرة على الاناء الغصبى ، فيبقى الوضوء على حكمه الرجحانى
المصحح للتقرب به.
وكيف كان فقد احتج
الماتن قده لما اختاره بأن باب الاختيار بعد لم ينسد على المكلف لو اتى بالمقدمة
لانه «يتمكن معها من ترك الحرام او المكروه اختيارا كما كان متمكنا قبل اتيانها ،
فلا دخل لها اصلا فى حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام او المكروه ، فلم يترشح من
طلبه طلب ترك مقدمتهما.»
ويدفعه ان المناط
فى سراية الحرمة ليس هو عدم التمكن من ترك الحرام حتى يدور الحكم بحرمة المقدمة
مداره ، بل المناط هو الدخالة وهى قائمة فى تمام المقدمات لا بخصوص جزء الاخير
الذى «لا يتمكن معه من الترك المطلوب» ولا محالة ان ما له الدخالة فى تحقق الحرام
او المكروه «يكون مطلوب الترك ويترشح من طلب تركهما» طلب ترك لا «ترك خصوص» مثل «هذه
المقدمة.»
إلّا ان حال هذه
المقدمات فى اتصافها بالحرمة كحال مقدمات الواجب فى اتصافها بالوجوب وقد عرفت ان
اتصاف الواجب بالوجوب ضمنى ، فكذلك هذه المقدمات لا تتصف بالحرمة الا ضمنا لا
استقلالا ، اذ لا جهة لحرمة المقدمات الا حرمة ذيها ، وظاهر ان الحرام لم يكن
محرما إلّا اذا اتى به تماما وكمالا بالوجود المطلق الساد لجميع الابواب المتصور
فيها انعدامه من قبل انعدام واحد من مقدماته
فوجوده المطلق
المتوقف على وجود المقدمات هو المبغوض ، فيترشح منه المبغوضية الى جميع المقدمات
على حسب ما هو متوقف عليها ، فيلحق كل مقدمة من تلك المقدمات حرمة ومبغوضية ضمنية
على نحو ما سمعته فى مقدمات الواجب المطلق فتأمل جيدا.
«حول اقتضاء الامر
النهى عن ضده»
«فصل الامر بالشىء
هل يقتضى النهى عن ضده او لا؟ فيه اقوال» وتحقيق الحق فيه ان الضد ان كان ضدا خاصا
فلا دلالة فى الامر بالشىء على النهى عنه ، فلو امر بإزالة النجاسة عن المسجد لم
يدل ذلك على النهى عن الصلاة ، وان كان ضدا عاما كان للامر بالشىء دلالة على النهى
عنه التزاما ، بل كان الامر بالشىء عين النهى عنه بوجه كما سيأتى بيانه إن شاء
الله تعالى.
«الكلام فى الضد
الخاص»
ولنقدم البحث اولا
فى الضد الخاص ثم نتبعه بالبحث عن الضد العام ، فنقول مستعينا بالله ومتوكلا عليه
فى كل الامور.
اعلم ان ما يتوهم
منه الاستدلال على الدلالة على النهى عن الضد الخاص احد الامرين : احدهما مقدمية
ترك الصلاة لفعل الازالة مثلا. ثانيهما استلزام فعل الازالة لترك الصلاة.
والتقريب فى الاول
ان وجود احد الضدين مانع عن وجود الآخر ، ومعلوم ان عدم المانع شرط لوجود الممنوع
، ولما كان بين الصلاة والازالة مضادة كان وجود الصلاة مانعا عن وجود الازالة فكان
ترك
الصلاة شرطا لوجود
الازالة ، واذا كان ترك الصلاة شرطا لوجود الازالة كان مقدمة وجودية لتحققها فاذا
وجبت الازالة كما هو المفروض لاهميتها من الصلاة ، كان ترك الصلاة واجبا ايضا لكونه
مقدمة وشرطا فى تحقق الازالة ، وقد عرفت فى المبحث السابق اختيار تبعية المقدمة
لذيها فى الوجوب فاذا وجب ترك الصلاة كان فعل الصلاة محرما وهو عين المدعى.
ويمكن الواجب عنه
عن وجوه.
الاول : انا لا
نسلم اقتضاء المضادة بين الشيئين مقدمية ترك احدهما لوجود الآخر ، اذ ذلك من شئون
التمانع بين الشيئين دون التضاد وفرق بين الضد والمانع ، فان الضد ما زاحم ضده فى
الوجود والمانع ما زاحم المقتضى فى التأثير ، فمثل الهواء يزاحم الضياء فى تأثيره
فى الإضاءة فهو يسمى عندهم مانعا ، ومثل السواد يزاحم البياض فى وجوده ويسمى عندهم
بالضد ، ومورد البحث من قبيل الثانى فلا يكون عدمه شرطا فى وجود الضد الآخر.
الثانى : انه يلزم
من مقدمية ترك الصلاة لوجود الازالة تقدم الشىء على نفسه وهو محال ، بيان الملازمة
انه من المتسالم عليه بينهم ان كل شىء كان مقدما على شىء آخر فى الرتبة ، كان نقيض
ذلك الشىء مقدما على الشىء الآخر كذلك ، كما انه اذا كان شيء متاخرا عن شىء آخر
رتبة كان نقيضه متأخرا عن ذلك الشىء الآخر كذلك ، فرتبة العلة لما كانت مقدمة على
رتبة المعلول ، كان رتبة نقيضها مقدمة على رتبة المعلول ايضا وحينئذ نقول : هنا ان
ترك الصلاة اذا كان شرطا فى تحقق الازالة كان رتبة مقدما على الازالة وعلى ترك
الازالة ايضا لتوافق النقيضين فى الرتبة حسب الفرض.
ثم نقول : ان ترك
الازالة ينبغى ان يكون شرطا فى تحقق الصلاة
ايضا لان الازالة
ضد للصلاة كما ان الصلاة ضد لها ، وقد اعترف المستدل بأن ترك كل ضد شرط لوجود الضد
الآخر ، واذا كان ترك الازالة شرطا لوجود الصلاة كان ذلك الترك مقدما على وجود
الصلاة وعلى تركها ايضا بمقتضى ما عرفت من توافق النقيضين فى الرتبة ، وحينئذ يكون
ترك الازالة مقدما على ترك الصلاة الذى كان «اى ترك الصلاة» متقدما عليه «اى على
ترك الازالة» بمقتضى شرطيته لوجود الازالة ، وهذا بعينه تقدم الشىء على نفسه
لاقتضائه تقدم ترك الازالة على ترك الازالة وهو محال.
الثالث : انه يلزم
على ذلك مقدمية الازالة لترك الصلاة اذ المانع بوجوده علة تامة لانتفاء الممنوع ،
فكانت الازالة على هذا اولى بالمقدمية من ترك الصلاة ، وحينئذ نقول : فعل الازالة
يتوقف على ترك الصلاة لان ترك الصلاة شرطا فى وجود الازالة وترك الصلاة يتوقف على
فعل الازالة ، لان فعل الازالة علة تامة وسبب لترك الصلاة ، فتوقف الشىء على ما
يتوقف عليه وهو الدور المحال.
وهو ناش من البناء
على مقدمية ترك الصلاة لفعل الازالة فكان ذلك باطلا لاستلزامه المحال وما يستلزم
منه المحال فهو محال.
ولا يرد عليه ما
قيل : من ان ترك الصلاة لم يستند الى وجود الازالة بل الى الصارف الذى هو عدم
ارادة الصلاة.
لانا نقول فى
جوابه : انا نقيم البرهان الجزمى على استناده اليها ايضا كاستنادها الى الصارف ،
فان الصلاة لو اريد ايجادها توقف ايجادها على ارادة هى المقتضى لوجودها وانتفاء
المانع الذى بزعم المستدل ينطبق على ترك الازالة ، فكانت ارادة الصلاة مع عدم
الازالة مجموعا علة واحدة لتحقق الصلاة ، ومعلوم ان انتفاء المعلول الذى هو الصلاة
يكفى فيه انتفاء جزء واحد من اجزاء علته
المركبة ، فيكون
انتفاء كل واحد من أجزاء علته علة تامة لانتفاء المعلول ، فاذا انتفت ارادة الصلاة
كفى ذلك فى انتفاء الصلاة ، كما انه مع فرض حصول ارادة الصلاة لو انتفى ترك
الازالة بأن تحققت الازالة المانعة عن الصلاة انتفت الصلاة ايضا ، فأما اذا انتفى
كل واحد منهما استند ترك الصلاة اليهما معا ، لان العلتين اذا اجتمعتا معا استند
التأثير اليهما ، لا الى احدهما المعين لبطلان الترجيح بلا مرجح ، ولا الغير
المعين لامتناع التأثير من واحد مبهم واقعا وفى نفس الامر ، فلا محيص حينئذ عند تحقق
الازالة وعدم تحقق ارادة الصلاة من ان يكون عدم الصلاة مستندا الى كليهما معا لا
الى خصوص الصارف ، واذا كان مستندا الى وجود الازالة يجىء فيه محذور الدور من غير
فرق فى ذلك بين انتهاء الارادة الى شخص واحد او الى شخصين كما «اذا كان كل منهما
متعلقا لارادة شخص فأراد مثلا احد الشخصين حركة شىء واراد الآخر سكونه» ، بل ورود
الاشكال ولزوم الدور المحال فى الصورة الثانية اظهر منه فى الصورة الاولى ، لان
المقتضى لكل منهما حينئذ يكون «موجودا فالعدم لا محالة يكون فعلا مستند الى وجود
المانع» لا اليه مع الصارف كما كان كذلك فى الصورة الاولى.
اللهم إلّا ان
يمنع الفرق بينهما فيدعى «هاهنا ايضا» اشتراك الصارف معه فى التأثير ، غاية ما فى
الباب ان الصارف هنا هو عدم «قدرة المغلوب منهما فى ارادته وهى» اى القدرة فى
الارادة مما لا بد منه فى وجود المراد «فلا يكاد يكون» يتحقق المراد «بمجرد»
الارادة بدون قدرته على انفاذ «ها» لا «الى وجود الضد» خاصة.
ان قلت : كيف يكون
التأثير مستندا اليهما ، والحال ان الاثر يستند الى اسبق العلتين كما فى فرض مثال
الحركة «لكون» المانع هنا «مسبوقا
بعدم قدرته» على
انفاذ ارادته فيستند الترك فى فرض المثال الى الصارف الذى هو عدم القدرة خاصة لا
اليه مع وجود الضد.
قلت : من الواضح
ان عدم القدرة على انفاذ ارادته انما يكون علة لعدم حصول المراد فى زمانه خاصة لا
فيما بعده من الزمان ، فلو لم يكن قادرا على الحركة فيما قبل الظهر كان ذلك علة
لانتفاء الحركة فى ذلك الزمان الذى هو قبل الظهر ، فأما بعده فيفتقر عدم الحركة
الى بقاء عدم قدرته على ايجاد الحركة فى ذلك الحين الذى هو من بعد الظهر ، لظهور
انه لو تجددت له القدرة فيما بعد الظهر لتحققت الحركة منه ، واذا كانت العلة فى
عدم الحركة فيما بعد الظهر انتفاء القدرة عليها فى ذلك الحين ، وفرض اقتران العلة
فى زمانها التأثيرى مع الضد الخاص ، كان الاثر فى عدم تحقق المراد مستندا اليهما
لا الى عدم القدرة خاصة.
فتلخص من جميع ما
قدمناه ان احد الضدين يتوقف فى وجوده على ترك الضد الآخر اذا اخذ الترك شرطا
ومقدمة لوجود الضد الآخر ، كما بنى عليه المستدل ، وترك الضد الآخر يتوقف على وجود
الضد المشروط اما توقفا استقلاليا او منضما مع الصارف توقف المعلول على علته او
جزء علته ، فلزم من ذلك التوقف الفعلى من الجانبين واقتضى ذلك تقدم الشىء على نفسه
وهو محال.
ولئن سلم ان لا
فعلية فى التوقف الحاصل بين الطرفين وهما الازالة وترك الصلاة ، إلّا ان ملاك
المحالية متحقق اما بما سمعته منا آنفا فى الوجه الثانى ، او لما ذكره الماتن قده
فى الكفاية وحاصله انه اذا كان الضد المشروط مما يصح ان يستند اليه ترك ضده الآخر
دل ذلك على رتبة الضد المشروط مقدمة على ترك الضد الآخر وقد فرض ان ترك الضد الآخر
كان شرطا مقدما على فعل الضد ، فكان
فعل الضد الذى هو
الازالة مقدما على ترك الصلاة الذى هو مقدم على الازالة فلزم من ذلك تقدم الازالة
على نفسها وهو بديهى البطلان. هذا كله الكلام فى التقريب الاول.
واما الكلام فى
التقريب الثانى فمحصله ان فعل الازالة يستلزم ترك الصلاة ويمتنع اختلاف المتلازمين
فى الحكم ، فإذا كان الملزوم واجبا كما هو كذلك فى فرض مثال الازالة ، كان لازمه
الذى هو ترك الصلاة واجبا كذلك ، واذا وجب ترك الصلاة فقد حرم فعلها وكانت الصلاة
منهيا عنها وهو المطلوب.
ويرد عليه ما فى
المتن من ان امتناع اختلاف المتلازمين فى الحكم لا يقضى بلزوم توافقهما فى الحكم ،
فمن الجائز ان يكون اللازم غير محكوم بحكم اصلا. وتوهم عدم خلو الواقعة عن الحكم
مندفع بأن ذلك «انما يكون بحسب الحكم الواقعى لا الفعلى فلا حرمة للضد من هذه
الجهة ايضا ، بل على ما هو عليه لو لا الابتلاء بهذه المضاة للواجب الفعلى من
الحكم الواقعى.»
«الكلام فى الضد
العام»
بقى الكلام فى
الضد العام وهو بمعنى الترك ، ومعلوم ان محبوبية كل شىء تستلزم مبغوضية ما يناقضه
، فمن اراد الازالة حتما لم يكن مريدا لتركها وكان تركها مبغوضا لديه ولا ينبغى ان
يكون فى ذلك خلاف بين الاعلام.
وانما الخلاف
بينهم على تقديره فى دعوى العينية بينهما او التلازم. والتحقيق فى ذلك ان النهى عن
الشىء ان كان بمعنى الزجر عنه كان الامر بالشىء والنهى عن نقيضه العام متحدين
انشاء خاصة
لا مفهوما ، فانه
اذا أنشأ الطالب طلبه وقال افعل فقد افاد فى كلامه ذلك ارادته للمطلوب ، وبغضه عن
نقيضه وزجره عنه فهما مفهومان متحصلان من انشاء واحد. وان كان بمعنى طلب الترك كان
الامر بالشىء عين النهى عن ضده العام إنشاء ومفهوما لان طلب الايجاد بعينه طلب ترك
تركه.
«حول الترتب» «فى
معنى الواجب التخييرى»
ثم ليعلم انه من
البديهى ان الوجود نقيض العدم ، فاذا تعلقت ارادة المولى بوجود شىء وجب تحصيل
المقتضى للوجود وازاحة موانعه ومزاحماته من الاضداد الوجودية ، ولا ريب فى ان
ارتفاع الوجود وتبدله الى العدم يكفى فيه ارتفاع بعض اجزاء علته ، فيكون عدم
الوجود تارة بانتفاء مقتضيه واخرى بوجود ما يمنع عن وجوده او التشاغل بما يزاحمه
فى الوجود من سائر اضداده ، فلو فرض للشىء ضدان احدهما ذو صلاح يساوى صلاحه صلاح
الضد المطلوب لم يجز للحكيم تخصيص طلبه بضد واحد معين ، بل يكون الضدان عنده سواء
فى متعلق ارادته وطلبه ، ويتحصل من ذلك التخيير فيجوز للمأمور فى مقام الامتثال
اختيار احدهما وترك الآخر ، اذ ليس للمولى الحكيم فى مثل ذلك الا ايجاب تخييرى
متحصل من تعلق امريه بالضدين المتساويين فى المصلحة ، فلا يلزم العبد بحكم العقل
الا امتثال احد الامرين ، ومعنى التخيير فى الواجب على ما افاده المحقق العلامة
صاحب الحاشية اعلى الله مقامه هو طلب الشىء مع المنع من بعض
انحاء تروكه
فأنك قد عرفت ان
ترك الشىء تارة يستند الى عدم مقتضى الوجود واخرى الى وجود المانع او المزاحم لذلك
الشىء فى وجوده ، وهاهنا لما كان الضد يشترك مع ضده فيما له من الصلاح ومقداره لم
يكن بأس فى ترك المأمور به من جهة التشاغل بضده كما ان ترك الضد لا بأس به اذا كان
متسببا عن التشاغل بالمأمور به المضاد له فيكون المتحصل من مجموع الامرين على هذا
مطلوبية المتمم للوجود لا تمام الوجود.
وتوضيحه : ان تمام
الوجود ما يكون طاردا لجميع الاعدام حتى ما يكون انعدامه من قبل التشاغل بالضد
المساوى وليس هذا مطلوب المولى ، بل مطلوبه ليس إلّا حفظ الوجود فى ظرف عدم
التشاغل بالضد المساوى له ، ماله الى انى لا اريد انعدام المطلوب من قبل انتفاء
مقتضيه ، او من قبل التشاغل بضد آخر غير الضد المساوى له فى المصلحة ، فيكون هذا
فى المعنى تبعيضا فى مطلوبية الوجود ، فلو ترك العبد الضدين كان يستحق حينئذ عقا
بين لتحقق شرط كل من التكليفين ولا ضير فيه اصلا.
وتوهم ان العقوبة
على المخالفة تدور مدار القدرة على الموافقة ، والفرض انتفاء قدرته على امتثال
الامرين معا بل لا قدرة له الا على امتثال احدهما.
مدفوع بمنع توقف
استحقاق العقوبة فى المخالفة على القدرة على خصوص الامتثال ، بل على القدرة عليه
او على رفع التكليف عنه بوجه من الوجوه المقبولة لدى الشارع ، بشهادة ما نجده فى
الكافر
__________________
المكلف بالقضاء مع
انه لا يسعه امتثال التكليف لا فى حال كفره لان صحة الاعمال مشروط بالاسلام ، ولا
فى حال اسلامه لان الاسلام يجب ما قبله ، مع انه لو مات كافرا يستحق العقوبة على
مخالفة التكليف بالقضاء وليس ذلك إلّا لكونه متمكنا من رفع التكليف عن نفسه
بإسلامه الموجب للامتنان عليه بارتفاع التكليف بالقضاء عنه ، وفى المقام كذلك فان
المأمور به ان يأتى بأحد الضدين لكى يسقط عنه التكليف بالضد الآخر ، ومع ذلك قد
تماهل حتى ترك الضدين معا فلم تمتثل التكليف ولا عمل ما يؤدى الى سقوط عنه ، وقد
كان يسعه امتثال احد تكليفيه واسقاط الآخر عنه بوجه مقبول عند الشارع ، فأستحق
بذلك عقوبتين على ما فوت على نفسه من التكليفين اللذين توجها اليه ، وهو متمكن من
الخروج عن عهد تهما بامتثال احدهما واسقاط الآخر ولم يفعل ذلك فان العقل لا يستقبح
عقاب مثل هذا العبد بعقوبتين.
ولا ينتقض علينا
بالواجبات التخييرية فى غير المقام كخصال الكفارة المستتبعة للعقوبة الواحدة ، اذ
لا فرق بين المقام وسائر المقامات ، لتعدد الغرض هنا بخلافه فى الكفارة وقد ذكرنا
فى مطاوى كلماتنا فى المباحث السابقة ان تعدد العقوبة ووحدتها تابعة لوحدة الغرض
وتعدده ، وهنا لما كان الغرض متعددا على حسب تعدد التكليف استاهل العبد فى عصيانه
عقوبتين ، واما اذا اطاع استحق بذلك مثوبة واحدة لانه لم تمتثل الا تكليفا واحدا ،
لتعذر امتثاله التكليفين معا من جهة المزاحمة والتضاد ، ولو لا المزاحمة بينهما
لكان يلزمه مراعاة التكليفين معا ، إلّا انه لمكان التنافى الحاصل بينهما من جهة
التضاد والمزاحمة ، حكم العقل بسقوط المقدار الذى يجىء منه التنافى فى التكليف وهو
التكليف بالضد فى حال التشاغل بالضد الآخر المساوى له فى المصلحة ، فيسقط ذلك
المقدار
ويبقى التكليف بكل
من الضدين ناقصا اريد منه المحافظة على الوجود من قبل عدم المقتضى او التشاغل
بسائر الاضداد ، فيكون فى البين تكليفان ناقصان قصد فى كل منهما البعث نحو المطلوب
فى ظرف عدم التشاغل بعديله ، ولا نجد فى العقل ما يمنعه ويحيله.
فبطل بذلك القول
بأنا لا نتعقل الزاما مشوبا بالترخيص ، ولعل القول بذلك نشأ من مقايسة الارادة
التشريعية بالارادة التكوينية المستحيل فيها تعلق ارادتين فعليتين بشيئين متضادين
، وبطلان المقايسة اوضح من ان يخفى كما لا يخفى ، لظهور كمال الفرق بين الارادتين
فان الارادة التكوينية علة تامة لحصول المراد فى الخارج ، والعلة التامة يستحيل
تعلقها بشيئين متضادين ، اذا العلة التامة تستلزم وجود المعلوم باللابدية فاذا
تعلقت بالمتضادين استتبع ذلك اجتماع المتضادين فى عالم الخارج وهو محال بالضرورة.
وهذا بخلاف
الارادة التشريعية والتكاليف الشرعية فانما هى مقتضيات لحصول المراد فى الخارج اذ
لا يكون لها التأثير الفعلى الا بمعونة حكم العقل بلزوم الاطاعة والامتثال فاذا
تعذر امتثال التكليف جازت المخالفة لقبح التكليف بما لا يطاق فان تعذر امتثاله من
جميع الوجوه سقط التكليف رأسا وان تعذر امتثاله من وجه سقط التكليف من ذلك الوجه
وبقى اقتضاء ذلك التكليف من غير ذلك الوجه بحاله يلزم مراعاته بحكم العقل فيتولد
من ذلك تكليف ناقص اريد منه البعث نحو المطلوب من غير ناحية المتعذر فيه امتثاله.
وبالجملة الفرق
واضح كمال الوضوح بل كالشمس فى رابعة النهار وكالنار على المنار بين الارادة التشريعية
والتكوينية فانه فى الاول يجوز اجتماع ارادتين وتكليفين ناقصين بضدين ، بخلافه فى
الثانى.
«الاقوال فى التخييرى»
فتلخص مما قررناه
وبيناه ان معنى التخيير فى المقام وغيره هو طلب الفعل مع المنع من بعض انحاء تروكه
وقيل : فى التخيير اقوال أخر لا بأس بذكرها وذكر ما فيها ثم نعود الى محل الكلام
والبحث إن شاء الله تعالى.
منها : ان الواجب
فى الواجب التخييرى هو الجامع بين الافراد والتكليف فيه متحد لا تعدد فيه.
وفيه ان الافراد
فى التخييرى ربما لا تكون من سنخ واحد اذ قد يتفق فرد منها وجودى والآخر عدمى ،
وظاهر انه لا جامع بين الوجودى والعدمى فكيف يسوغ اعتبار الجامع بين مثل هذه
الافراد ولكن يجوز اعتبار الجامع فى غير المقام كما فى خصال الكفارة لكن يكفينا
مورد واحد لا يمكن فيه تصوير الجامع نقضا على الماتن قده.
ومنها : ان الواجب
فى الواجب التخييرى احد الافراد بلا تعيين فيه فيكون ترك كل منهما منهيا عنه فى
حال ترك بقية الافراد.
وفيه ان المقصود
والغرض من التكليف ان كان هو المحافظة على وجود المأمور به بقول مطلق بنحو الطلب
التام الحافظ للوجود الطارد لجميع اضداده ، فقد عرفت ان هذا مما يستحيل صدوره من
الحكيم العالم بامتناع اجتماع المتضادين فى عالم الخارج ، وان كان المقصود منه
المحافظة على الوجود من غير ناحية الضد المساوى كان ذلك طلبا ناقصا ورجع الى ما
قلناه ونعم الوفاق.
ومنها : ان
استحالة تعلق التكليفين المطلقين بالمتضادين
يستدعى سقوط
احدهما عن الاعتبار وبقاء الآخر على اعتباره بلا تعيين وامتياز فى الباقى منهما عن
الساقط.
وفيه ان بقاء
الباقى بلا خصوصية مستحيل عقلا ضرورة ان الشىء ما لم يتشخص لم يوجد فوجوده الخارجى
يستلزم التشخص الخارجى عقلا.
نعم يمكن ملاحظة
الشىء بلا خصوصية فى عالم الذهن فمن ثم كان الذهن اوسع ساحة من الخارج يرتسم فيه
الكليات والجزئيات ، بخلاف الخارج فانه لا يكون إلّا ظرفا للجزئيات خاصة دون
الكليات.
ومن ذلك يظهر لك
بطلان النقض على ما ذكرناه بالحجّتين المتعارضين على مختار الماتن قده فى غير هذا
المقام حيث بنى فيهما على اعتبار احدهما بلا تعيين فى نفى احتمال الثالث الخارج عن
مفاد الحجتين بالمعنى المطابقى ، اذ فيه او لا ضعف المبنى على ما هو التحقيق عندنا
فان انتفاء الاحتمال الثالث يستند الى مجموع الحجتين لا الى احدهما ، فان مانع
التعارض انما يصادم اعتبار المدلول المطابقى دون الالتزامى ، فيبقى المدلول
الالتزامى فى كل منهما بحاله معتبرا لا يسوغ رفع اليد عنه ، فلو ورد مثلا دليل
معتبر دل بمدلوله المطابقى على ان الجائى ليس إلّا زيد لا غيره ، وورد فى قباله
دليل آخر معتبر مثله دل بمدلوله المطابقى ان الجائى عمرو لا غيره ، فتعارض
الدليلان بالنسبة الى مجيء زيد وعمرو الذى هو مدلول المطابقى لهما ، فسقطا عن
الاعتبار بالنسبة الى هذه الدلالة المطابقية ، وتبقى الدلالة الالتزامية المستفادة
منهما على نفى مجيء بكر بحالها معتبرة فيحكم بمقتضاها من الحكم بعدم مجىء بكر ، اذ
لا تعارض بينهما بالنسبة الى هذه الدلالة الالتزامية مشمولة لادلة اعتبار الدلالات
بلا معارض لها فى البين.
وثانيا بيان
الفارق بين مسئلة الحجية وما نحن فيه ، فان الحجية من قبيل الاحكام اللاحقة للشىء
باعتبار اللحاظ الذهنى ، وما نحن فيه تكليف خارجى صادر من المولى باعث على ايجاد
متعلقه خارجا ، وقد عرفت ان الذهن اوسع ساحة من الخارج فيجوز فى الملحوظ الذهنى ان
يعرى عن الخصوصيات المشخصة له ، بخلافه فى الموجود الخارجى فإن عرائه عن الخصوصيات
والمشخصات الخارجية مستحيل بالضرورة.
فتلخص من جميع ما
ذكرناه ان الاقوال المذكورة فى الواجب التخييرى كلها على غير المنهج الصواب ، الا
ما سمعته منافى سابق الكلام من ان مآل الوجوب التخييرى الى التكليف الناقص.
«الترتب فيما اذا كان
الامران مضيقين»
ولنعد الى مفروض
البحث ومورد النزاع فنقول : مستعينا بالله بالله تعالى توضيحا لما قدمناه وتشييدا
لما بيناه لا بأس بتعلق تكليفين ناقضين بضدين اللذين لهما ثالث نحو القيام والقعود
لجواز الخلو عنهما بالتلبس بالنوم ، فانه يجوز الامر بهما بالنحو الذى عرفته من
التعليق على عدم الآخر ، فيراد القيام اذا لم يتشاغل بالقعود وكذلك القعود انما
يراد فى ظرف عدم التشاغل بالقيام ، ولا نجد فى العقل ما يمنع عن ذلك الا ما يتخيل
من امتناع التكليف بالضدين ، وهو خيال فاسد جدا ، لان المحذور فى التكليف بالضدين
ليس إلّا عدم مطلوبية الجمع بينهما فى مقام الامتثال ولا يلزم ذلك فيما اذا كان
التكليف تكليفا ناقصا قد علق مطلوبية كل منهما على فرض عدم اتيان الآخر ، او يتخيل
ان التكليف بالضدين مآله الى الامر بالشىء والنهى عنه و
هو محال.
ويدفعه : ان ذلك
انما يتأتى فى الامر المطلق الحافظ لوجود المأمور به من جميع الوجوه والانحاء ،
ضرورة ان مطلوبية الشىء بقول مطلق يضاده مطلوبية ضده فلو تعلق طلب آخر بإيجاد ضده
كان مفاده بمقتضى الدلالة الالتزامية النهى عن ايجاد ذلك الشىء الذى كان مطلوبا او
لا ، ولا يجىء هذا المحذور فى التكليف الناقص ومنشؤه سقوط الدلالة الالتزامية
بالنسبة الى ضده العديل له فى المطلوبية ففى فرض المثال المتقدم اذا كان حاصل
التكليف انى اطلب القيام اذا لم تقعد ، واطلب القعود اذا لم تقم ، لم يكن بأس بمثل
هذا التكليف ويكون مفاده النهى عن التلبس بالنوم.
نعم لو كان الضدان
ضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون بناء على عدم خلو الانسان من الاكوان
امتنع التكليف بهما تكليفا تاما وناقصا ، اما التكليف التام فواضح ، واما التكليف
الناقص فلانه مع فرض عدم تلبسه بأحد الضدين يكون تلبسه بالضد الآخر ضروريا يمتنع
تخلفه عنه ، فلا يجوز التكليف به حينئذ وإلّا لكان ذلك تحصيلا للحاصل ، فإن حال
هذين الضدين حال النقيضين يمتنع خلو المكلف عنهما فمع فرض عدم التلبس بأحدهما يكون
تلبسه بالآخر ضروريا واجب الوجود بالغير لا يسوغ معه التكليف به.
هذا كله الكلام فى
الضدين المتساويين فى المزية والاهتمام ، اما اذا كان احدهما اهم من الآخر نحو
الازالة بالنسبة الى الصلاة حيث ان ازالة النجاسة عن المسجد اهم فى نظر الشارع من
الصلاة فى سعة الوقت فلا ينبغى الارتياب فى لزوم مراعاة الاهم منهما ، اذ التكليف
بالاهم لا بد وان يكون مطلقا طاردا لكل ما يضاد الازالة حتى الضد الصلاتى ، فيكون
العدول عنها الى التلبس بالصلاة عصيانا
معاقبا عليه ،
إلّا انه لا ينافى ذلك تعلق الامر بالصلاة فى حال ترك الازالة ، اذ المانع عن تعلق
التكليف بالضدين لم يكن الا استلزامه الجمع بين الضدين الممتنع صدوره من المأمور ،
وهو غير لازم فى مثل هذا النحو من التكليف بالصلاة المعلق مطلوبيتها على عدم فعل
الازالة ، وإلّا استلزمه الامر بالشىء والنهى عنه الممتنع صدوره من الامر وهو كذلك
غير لازم فى المقام بعد ان كان التكليف بأحدهما مشروطا بانتفاء الآخر ، وانما يلزم
هذا المحذور لو كان الامر بالصلاة كالامر بالازالة اريد منه المحافظة على الصلاة
بقول مطلق ، لكنه ليس كذلك بل مفاده الطلب الناقص لا اقتضاء فيه للاتيان بالصلاة ،
الا حيث لم يؤت بالازالة وهذا النحو من التكليف لا ضير فى اجتماعه مع الامر التام
المطلق المتعلق بالمأمور به من احد الضدين ، فيكون ترك الصلاة منهيا عنه من وجه
وغير منهى عنه من وجه آخر ، فان كان تركها ناشيا من ضحك او اكل وامثال ذلك مما
يضاد الصلاة غير الازالة كان ذلك الترك منهيا عنه ، وان كان ناشيا عن فعل الازالة
لم يكن منهيا عنه وهذا معنى الطلب الناقص.
ان قلت : كيف يكون
النهى متعلقا بترك دون ترك وليس ترك الصلاة الا نقيض لوجود الصلاة وليس للشىء الا
نقيض واحد وعدم فارد ، فإن كانت الصلاة مطلوبة كان تركها مبغوضا ومنهيا عنه ولا
يكون مرخصا فيه ، واذا كان تركها منهيا عنه امتنع معه ورود الامر بالازالة المضادة
للصلاة.
قلت : عدم الصلاة
ونقيضها كما ذكرت لا تعدد فيه ، وانما المتعدد فى المقام اضافة العدم الى جهاته
فتارة عدم الصلاة يتحقق من ناحية التشاغل بالازالة واخرى من ناحية التشاغل بالاكل
وسائر المنافيات للصلاة ، فالمبغوض والمنهى عنه هو تركها من الوجه الثانى دون
الاول المضاد مع
فعل الازالة ، فهو نظير البيت المتقوم بأربعة جدران ينعدم بانعدام واحد منها ،
فعدمه من ناحية انعدام جدار الشرق اذا لم يكن مبغوضا جاز الترخيص فى ترك حفظه من
تلك الناحية ، فلو امر بتعمير الدار كان معناه الامر بإتمام عمارتها لا تمام
عمارتها ، ويكون محصل الامر انه اذا تعمر الجدار الشرقى وجب تعمير بقية الجدران ،
واما اذا لم يعتمر لم يجب عليك تكلف التعمير اصلا ، ولا بأس لك فى ترك بنائها
فيكون على هذا جانب من الدار تحت الرخصة واختيار العبد فى تعميره وعدم تعميره ،
وهو الجانب الشرقى منه ، كما كان عدم الصلاة من ناحية فعل الازالة تحت الرخصة
فيجوز للعبد ان لا يأتى بالصلاة ولا يستعمرها من ناحية ترك الازالة ، بل يشتغل
بالازالة ويترك الصلاة ، وفى المثال يجوز له ترك تعمير الدار من ناحية الجانب
الشرقى ، فيترك التشاغل بتعمير ذلك الجانب لكى يسقط عنه التكليف بإلحاق بقية
الجدران ، واذا جاز ان يكون عدم الشىء من وجه تحت الرخصة ، فليجز ان يكون مطلوبا
من ناحية الامر بالضد الاهم ، اذ لا مانع منه بمقتضى العقل والبديهة كما هو اوضح
من ان يخفى ، فتأمل فى المقام فانه دقيق وو بذلك حقيق.
وببيان آخر ان المحالية
ليست إلّا من جهة التكليف بما لا يطاق ، وهو انما يكون حيث يتنجز على المكلف
التكليفان المتعلقان بالضدين معا ، وذلك انما يتأتى لو كان كل تكليف يقتضى حفظ
متعلقه بقول مطلق ، فانه حينئذ يجىء التدافع بين امتثال التكليفين ، لظهور ان
موافقة التكليف المتعلق بأحدهما يمانع موافقة التكليف المتعلق بالآخر ، واما اذا
كان احد التكليفين مشروطا باتّفاق عدم موافقة التكليف الآخر ، لم يكن فيه بأس كما
فى فرض مثال الصلاة ، فإن تعلق
التكليف بها منوط
بعدم موافقة التكليف بالازالة ولا ضير فيه اذ التكليف بالازالة لا يدافع التكليف
الصلاتى ، بل مقتضاه ارتفاع موضوع التكليف الصلاتى فانه لو وافق التكليف المتعلق
بالازالة لم يتوجه اليه التكليف المتعلق بالصلاة حتى يلزم موافقته ويجىء محذور
المحال فلا تدافع بين الاطاعة فى كل من التكليفين.
نعم اذا جاء
بالصلاة وترك الازالة توجه اليه تكليفان احدهما مطلق بلسان ازل والآخر مشروط بلسان
ان لم تزل فصل ولا تنافى بينهما.
والقول بأن
المشروط بعد حصول شرطه يكون مطلقا ، فيكون ثمة تكليفان مطلقان توجها الى المكلف
ويمتنع امتثالهما معا اذا كانا متعلقين بالضدين.
مدفوع بأن التكليف
بالصلاة دائما ابدا مشروط باتّفاق مخالفة الامر بالازالة فهو تكليف مشروط حدوثا
وبقاء ، فلو عدل عن الصلاة مع سعة الوقت لامتثال الامر بالازالة جاز له ذلك وارتفع
عنه التكليف بالصلاة ، لا ان التكليف بالصلاة يبقى عليه ويتدافع مع التكليف
بالازالة. هذا احسن ما قيل او يمكن ان يقال فى تصحيح القول بالترتب.
«نقل دليل المحقق
الفشاركى فى الترتب»
واحتج له بوجه آخر
مرحوم السيد السند محمد الفشاركى استاذ شيخنا العلامة ، وهو ان الامر بالازالة
يستتبع حكم العقل بوجوب الموافقة فإذا تحققت المخالفة بالعصيان كانت تلك المخالفة
مسببة عن داعى الشهوة النفسانية وهى فى رتبة حكم العقل بالموافقة ، كل منهما يقتضى
خلاف ما تقتضيه الآخر ، فكان داعى الشهوة فى عرض
داعى العقل ،
العقل يدعو الى الطاعة والشهوة تدعو الى ارتكاب المعصية فكانا فى عرض واحد فإذا
رتب الشارع الامر بالصلاة على ما تقضيه الشهوة من المعصية فى ترك الازالة ، كان
ذلك الامر بالصلاة فى رتبة متأخرة عن الامر بالازالة ، واذا اختلفت الرتبة ارتفع
المحذور المتوهم فى تعلق الامرين بالمتضادين من تأتى المطاردة بين مقتضى الامرين.
وان شئت قلت : ان
الامر بالازالة ارادة تشريعية من الشارع تعلقت بإيجاد الازالة ، فهى على سمة العلة
بالنسبة الى تحقق الازالة ، اذ الارادات التشريعية كالارادات التكوينية متقدمة على
مراداتها بالعلية ، وان اختلفا من حيث كون الارادة التشريعية تحسب مقتضيات لا تؤثر
فى المراد الا بعد انتفاء المانع ، بخلاف الارادات التكوينية فانها علل تامة فى
حصول المراد كما قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وحيث كان الامر بالازالة المعبر عنه بالارادة التشريعية فى
رتبة العلة والعلة انما يكون لها التأثير ما دامت هى فى رتبتها المتقدمة على
معلولها ، واما فى رتبة المعلول فتنعزل عن التأثير ، اذ رتبة المعلول صقع وجود
الاثر دون التأثير ، ولا ريب ان نقيض المعلول فى رتبة المعلول ، فاذا كان وجود
الازالة معلول الارادة التشريعية كان ذلك الوجود فى رتبة متأخرة عن الارادة ونقيضه
الذى هو عدم الازالة فى رتبة وجود الازالة نفسها ، لا فى رتبة عدم الارادة
التشريعية ، فاذا ورد من الشارع الحكيم امر بالصلاة مشروطا بعدم الازالة كان ذلك
الامر الصلاتى متأخرا عن امر الازالة برتبتين ، فاختلفت الرتبة فيما بين الامرين
ولم تحصل المطاردة فيما
__________________
بينهما.
ويفترق هذا التقريب
عما سبق من تقريب رفع الاشكال بما سمعت من ان التكليف بالمهم تكليف ناقص ، فى انه
على التقريب السابق لا يفتقر التخلص عن الشبهة والاشكال بالالتزام بتعدد الرتبة فى
الامرين بل تندفع الشبهة حتى مع فرض كونهما فى عرض واحد ورتبة فاردة ، إلّا ان
النقصان من احدهما او كليهما كاف فى دفع الاشكال ، بخلافه على هذا التقريب فانه
مبنى على اختلاف الرتبة فيما بينهما هذا.
ولكن الانصاف ان
التقريب الاخير باختلاف الرتبة لا يجدى فى التخلص عن وصمة الاشكال ، اذ العقل لم
ينعزل عن حكمه باللابدية فى الامتثال فى حال الانقياد الى دعوة النفس ، وان كان
منعزلا عن التأثير فى التحريك ، اذ الشهوة النفسانية ليست جابرة للعبد حتى يتحقق
العجز لديه ما دام بصدد الانقياد اليها فى مخالفة الامر ، ومتى لم يتحقق العجز لم
ينقطع حكم العقل بالزامه بالموافقة للامر بالازالة ، فاذا كان حكمه بعد باقيا فى
حال ترك الازالة عن داعى الشهوة ، كيف يجوز معه ان يحكم ثانيا بلزوم الطاعة فى
موافقة الامر بالصلاة.
فانحصر مدفع
الاشكال بالتقريب الاول الذى اسسه شيخنا الاستاذ دام ظله على رءوس العباد وهو
العمدة فى الحجة على جواز الترتب.
هذا كله اذا كان
الامر الثانى قد ورد قبل سقوط الامر الاول ، اما اذا ورد بعده فلا اشكال فى جوازه
، فلو امر بالصوم فى يوم الخميس واذا عصى فلم يصم يوم الخميس جازان يؤمر بالكفارة
فى يوم الجمعة ولا محذور فيه ، اذ ليس فى هذا الفرض اجتماع امرين فى زمان واحد ،
بل الامر الثانى ورد فى زمان سقوط الامر الاول ، واما اذا فرض
ان العبد عاجز عن
صيام يومين فلا ريب فى عدم جواز امره بصيامهما معا بالامر المطلق فلا يجوز ان يؤمر
بصوم يوم الخميس والجمعة اذ لم يكن قادرا على صيامهما ، هذا اذا كان الامر
بصيامهما مطلقا اما اذا كان الثانى منهما مشروطا بشرط يعلم تحققه ، نحو ان يقول
المولى صم يوم الخميس وان جاءك زيد يوم الجمعة فصم يوم السبب ، وكان المولى يعلم
بمجيء زيد فى يوم الجمعة مع فرض عجز العبد عن ان يصوم اليومين ، ففى مثل هذا الفرض
ينبغى الالتزام بعدم جواز الامر بصيام اليومين كما بنى عليه القوم ، وليس محاليته
الا من جهة توافق الرتبة بين الامرين لتحقق الاختلاف الزمانى بين الصومين حسب
الفرض.
فيظهر من التسالم
على الجواز فى المثال الاول وعدمه فى المثال الثانى ان مدار الجواز والعدم على
اتحاد الرتبة واختلافها ، فإذا كان الامران فى رتبة واحدة يستحيل التكليف بالضدين
معا ، واذا كانا فى رتبتين جاز وما نحن فيه الثانى ، فليبن على جوازه كما بنى على
جوازه فى المثال الاول.
ومن هذا كله ظهر
لك الحال كمال الظهور فيما ذكره الماتن قده من انه «يكفى الطرد من طرف الامر
بالاهم فانه على هذا الحال يكون طارد الطلب الضد.»
توضيح ما فيه ان
الامر يستحيل ان يكون له سعة اطلاق يعم حالة عصيانه لما عرفت من ان الامر علة
لتحقق المأمور به والعلة ليست فى رتبة المعلول ، وكما لا تكون فى رتبة المعلول لا
تكون فى رتبة نقيضه ، لاتحاد النقيضين فى الرتبة فلا يكون رتبة المخالفة والعصيان
بترك الازالة من جملة مراتب الامر بالازالة ، بل رتبة عدم الازالة متأخرة عن رتبة
الامر بها ، وقد كان الامر بالمهم الذى هو الصلاة
منوطا بالعصيان فى
ترك الازالة حسب الفرض ، فكيف يتوافق الامر بالازالة مع الامر بالصلاة فى الرتبة
حتى يجىء التطارد بينهما هذا.
ويمكن الذب عن ذلك
بما قدمناه من ان العقل الحاكم باللابدية فى امتثال الامر بالاهم بعد باق على حكمه
حال العصيان بالمخالفة ، لان متابعة الشهوة وهوى النفس فى ترك الازالة ليست جابرة
للعبد فى عصيانه بترك الازالة ، فيبقى العقل حال العصيان على حكمه باللابدية فى
الموافقة ، ويكون حكمه بذلك فعليا واذا حكم بذلك بالحكم الفعلى يستحل حكمه ثانيا
بلابدية امتثال الامر بالصلاة ، لمحذور التضاد.
وخلاصة الكلام ان
العمدة فى الاحتجاج للقول بالترتب ما مرت الاشارة اليه آنفا من قصور الامر بالصلاة
عن اقتضائه للمحافظة على وجودها بقول مطلق الطارد لجميع الاضداد حتى الازالة ، بل قد
رخص فى تركها عند الاتيان بالازالة وكفى بذلك رافعا لاستحالة الامر بالضدين ، هذا
تمام الكلام فيما اذا كان الامران المتعلقان بالاهم والمهم مضيقين.
«الترتب فيما اذا كان
الامران موسعين»
واما اذا كانا
موسعين فهل يجوز بقاء الامرين على ما هما عليه من الاطلاق ، او لا بد من التصرف فى
احدهما فيما اذا كان احدهما اهم ، وفيهما اذا كانا متساويين فى المصلحة واشتركا من
حيث لزوم المراعاة؟
التحقيق يقتضى
الثانى لان التوسعة انما تقتضى بالتخيير فى افراد الجامع المأمور به فى مجموع
الوقت ، فمن امر بصلاة الظهرين مثلا من اول الزوال الى الغروب كان له ترك الجامع
فى ضمن الشخص
الاول المأتى به
فى الجزء الاول من الوقت والعدول الى الفرد الآخر فى الجزء الثانى من الوقت ،
فيجوز له ترك الصلاة فى الجزء الاول من الوقت اذا كان يأتى بها فى الجزء الثانى من
الوقت ، فالطلب من ناحية ترك الفرد الاول واتيان الفرد الثانى ناقص لا يقتضى
المحافظة على وجود متعلقه على الاطلاق.
نعم هو من ناحية
التلبس بغير هذه الصلاة اليومية باق على اطلاقه ، فلو اتفقت له صلاة آيات موسع
وقتها فى وقت صلاة اليومية ، كان التكليف بصلاة اليومية بإطلاقه مانعا عن التشاغل
بصلاة الآيات ، وهكذا الحال فى صلاة الآيات فان مقتضى اطلاق التكليف بها ان لا
يسوغ للمكلف العدول عنها الى صلاة اليومية ، وان جاز ترك امتثال فرد منها فى الوقت
الاول اذا كان يأتى بفرد منها فى الوقت الثانى ، اذ لا مزاحمة بين افراد كل من
الصلاتين وانما المزاحمة بين كل من الصلاتين اليومية والآيات الموسع وقتهما ، فان
التكليف بكل منهما بمقتضى اطلاقه يدافع التكليف بالآخر ، فيجىء التنافى من مقتضى
الاطلاقين ، فلا بد من رفع اليد عن كل من الاطلاقين بالنسبة الى كل من الصلاتين
كما رفع عن كل منهما بالنسبة الى كل من افرادهما الطولية ونتيجة ذلك تخيير فى
تخيير ، فللمكلف ترك صلاة اليومية فى الجزء الاول من وجهين ، اما بداعى اتيان تلك
الصلاة فى الجزء الثانى من الوقت ، او بداعى اختيار صلاة الآيات وهكذا الحال فى
صلاة الآيات.
ثم ان هذا الذى
ذكرناه فى الامرين الموسعين لا يتفاوت الحال فيه بين ان يساوى المطلوب فيهما فى
المزية والفائدة ، او كان احدهما اهم من الآخر ، اذ الاهمية لا اعتداد بها فى
المقام ولا تقتضى لزوم مراعاة جانب الاهم ، لوضوح ان مراعاة الاهم انما يلزم
اعتبارها
مقدمة على المهم
اذا كان يفوت الاهم مع مراعاة المهم ، ولا يلزم ذلك فى الموسعين اذ المكلف فى فسحة
من الوقت ، اذ يمكنه الجمع بين مراعاة الامرين لو ترك الاهم فى اول الوقت واشتغل
بالمهم ثم اتى بالاهم فى الجزء الثانى من الوقت. هذا اذا كان وقت المأمور به فى كل
من الامرين موسعا.
«الترتب فيما اذا كان
احد الامرين مضيقا والآخر موسعا»
اما اذا كان
احدهما مضيقا والآخر موسعا فلا ريب فى لزوم مراعاة المضيق مقدما على الواجب الموسع
، فان عصى ولم يؤت بالمضيق فى وقته بنى على الخلاف المتقدم ، فان قلنا بالترتب
تعلق امر بالموسع فى زمان المضيق وإلّا كان ذلك الفرد المزاحم للمضيق فى وقته
خارجا عن حيز الطلب ولا يكون مأمورا به ، وهل يجوز الاتيان به بداعى الامر بعد
البناء على خروجه عن حيز الطلب والامر؟ قال الماتن قده «يمكن ان يقال انه حيث كان
الامر بها على حاله وان صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من افرادها من تحتها امكن
ان يؤتى بما زوحم منها بداعى ذاك الامر فانه وان كان خارجا عن تحتها بما هى مأمور
بها ، إلّا انه لما كان وافيا بغرضها كالباقى تحتها كان عقلا مثله فى الاتيان به
فى مقام الامتثال والاتيان به بداعى ذلك الامر بلا تفاوت فى نظره بينهما اصلا ،
ودعوى ان الامر لا يكاد يدعو الا الى ما هو من افراد الطبيعة المأمور بها ، وما
زوحم منها بالاهم وان كان من افراد الطبيعة لكنه ليس من افرادها بما هى مأمور بها
، فاسدة فانه انما يوجب ذلك اذا كان خروجه عنها بما هى كذلك تخصيصا لا مزاحمة فانه
معها وان كان لا يعمها الطبيعة المأمور بها ، إلّا انه ليس لقصور فيه ، بل لعدم
امكان تعلق الامر
بما يعمه عقلا ، وعلى كل حال فالعقل لا يرى تفاوتا فى مقام الامتثال واطاعة الامر
بها بين هذا الفرد وسائر الافراد اصلا ، هذا على القول بكون الاوامر متعلقه
بالطبائع واما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك وان كان جريانه عليه اخفى كما لا
يخفى فتامل.»
انتهى كلامه رفع
مقامه.
ولعل التأمل فى
آخر كلامه ناظر الى ان المعتبر من الداعوية فى اوامر العبادات ان يكون الامر داعيا
فاعليا وباعثا محركيا نحو العمل ، وهذا انما يكون اذا تعلق الامر بما يؤتى به من
العمل ، فأما اذا لم يتعلق به بل كان متحد المناط مع بقية الافراد الواقعة فى حيز
الامر لم يكن لذلك الامر المتعلق ببقية الافراد صلاحية الداعوية للفرد الغير
المتعلق به.
نعم لو كان
المعتبر فى داعوية الامر المتعلق بالعبادات بمعنى العلة الغائية ، اتجه كلامه قده
فان الفرد المزاحم بالمضيق وان لم يتعلق به الامر وكان خارجا عن حيز الطلب إلّا
انه من الممكن ان يؤتى به لغاية سقوط الامر عن بقية الافراد ، إلّا ان هذا المعنى
لم يعتبر فى داعوية الاوامر المتعلقة بالعبادات ، لظهور ان هذا المعنى قد يتفق مع
العصيان كما فى فرض المقام وهذا لا يجوز ان يكون غرضا فى الاوامر العبادية فتأمل
جيدا.
«فى الامر مع العلم
بانتفاء شرطه»
«فصل» هل الامر
بالشىء مع علم الامر بانتفاء شرطه جائز او لا؟ فيه خلاف وينبغى ان يعلم اولا ان
محل الكلام ليس فى شرط الامر ضرورة اول النزاع فيه حينئذ الى ان المعلول هل يتحقق
من دون علته او لا؟ وهذا مما لا يكاد يتفوه بجوازه ذو فطنة وشعور كما انه ليس
الكلام ومحل النزاع بينهم فى شرط المأمور به الذى لم تنتف القدرة بانتفائه كما فى
الطهارة فإن التكليف بالصلاة حال انتفائها مما لا يكاد يشك فى جوازه ذو مسكة.
نعم يمكن ان يقع
النزاع بينهم فى انتفاء شرط المأمور به اذا انتفت القدرة بانتفائه ، ويبتنى النزاع
فيه على ان الطلب هل هو عين الارادة او غيرها ، فإن كان عينها لم يجز وان غيرها
جاز وقد تقدم الكلام فيه مفصلا فى بابه وذكرنا ثمة ما اريد من الطلب عند اهل القول
بالمغايرة ، وبينا هناك ما فى توجيه الماتن قده مقالة القوم القائلين بالمغايرة
حيث وجه كلامهم ثمة بأن الطلب عندهم هو الانشاء القولى وهو غير الارادة النفسانية
، واما القائل بالاتحاد فقد اراد من الطلب فى كلامه هو الارادة النفسانية ، فرجع
النزاع بين الفريقين لفظيا.
لكنك قد عرفت ثمة
ان هذا توجيه فى كلامهم بما لا يرتضون به ، اذ الطلب عند القائلين بالمغايرة يرونه
واجب الامتثال بحكم العقل ، ويجوز تعلقه بالمحال ، وظاهر ان الطلب ان كان بمعنى
الانشاء ليس بواجب الامتثال فكونه موضوعا لهذين الحكمين دليل على ان المراد به
عندهم معنى يغاير الانشاء القولى وقد تقدم توضيحه فى محله فلا
نطيل بالاعادة.
واما ما ذكره
الماتن قده هنا فى قوله : «لو كان المراد من لفظ الامر ببعض مراتبه ومن ضميره
الراجع اليه بعض مراتبه الأخر ، بأن يكون النزاع فى ان امر الامر يجوز انشاء مع
علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليته ، وبعبارة اخرى كان النزاع فى جواز انشائه مع
العلم بعدم بلوغه الى المرتبة الفعلية لعدم شرطه لكان جائزا.»
فهو خلاف الظاهر
والمسألة بعد وضوحها عندنا بالقول بعدم الجواز مستغنية عن اطالة الكلام فيها ازيد
من هذا المقدار.
«فى ان الحكم متعلق
بالطبائع»
«فصل الحق ان
الاوامر والنواهى تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد.» كما هو مقتضى ظاهر الهيئة
الامرية فى مثل اقم الصلاة وصم وحج وامثال ذلك من الموارد التكليفية ، اذ هى تشتمل
على هيئة دالة على البعث فى الاوامر وعلى الزجر فى النواهى وعلى مادة موضوعة
للطبيعة ، فاعتبار الخصوصية الفردية امر زائد على مفاد اللفظ محتاج الى قرينة ،
واقصى ما يتمسك به القائل بالتعلق بالافراد دعواه استحالة امتثال الطبيعة لتعذر
ايجادها فى الخارج ، فيكون ذلك قرنية عقلية على تعلق الاوامر والنواهى بالافراد
وهى دعوى فاسدة جدا ، لاتحاد الطبيعة مع الفرد فى الخارج ، اذ الفرد الخارجى يحتوى
على الطبيعة والخصوصية فاذا جيء بالفرد جيء بالطبيعة المطلوبة وزيادة الخصوصية
فحصل الامتثال.
ومما يشهد لخروج
الخصوصيات الفردية عن متعلق الاوامر ، مراجعة الوجدان ، فانه اعظم شاهد وبرهان فى
عدم تعلق غرضه
بالخصوصية الفردية
، فأنظر الى من اراد الماء ليشر به ويرفع به عطشه لم يتعلق له غرض بخصوصية ماء دون
ماء اذا كانت المياه كلها مشتركة فى تحصيل غرضه ، ولعمرى هذا اوضح من ان يكون مورد
النزاع بين الاعلام.
وقد انقدح مما
قررناه ان الفرد ليس خارجا عن متعلق الامر بتمام مراتب وجوده ، بل انما خرج عنه
باعتبار ما له من الخصوصية دون ما له من حصة الطبيعة المنضمة الى تلك الخصوصية ،
فان لكل فرد من افراد الطبيعة حصة من الطبيعة فتشترك الافراد كلها فى وجود الطبيعة
بما لها من الحصص المتقومة بها الافراد منضمة مع الخصوصيات المتباينة بالذات ، وان
اشتركت فى جامع عرضى واحد مثل الشىء ، وهذا هو الفارق بين الخصوصيات والحصص
الفردية ، فإن الخصوصيات قد عرفت انها متباينة الذات لا يمكن اعتبارها مندرجة فى
جامع ذاتى منتزع من حدودها الشخصية ، بخلاف الحصص فانها تشترك فى جامع ذاتى يحتوى
على حدودها الذاتية التى هى الجنس والفصل.
وكان شيخنا
الاستاذ دام ظله يقول : ان اختلاف الحصص ليس إلّا بالمرتبة وان العقل اذا لاحظ
الفرد انتزع منه امورا ثلث طبيعة ، وحصة منها ، وخصوصية زائدة عليها ، وهذه الامور
فى نظر العقل ولحاظه محدودة ممتاز بعضها من بعض إلّا انها فى عالم الخارج متحدة مع
الفرد بوجود واحد ، فاذا تعلق الامر بالطبيعة فإن اعتبرت الطبيعة سارية فى تمام
الافراد لا محالة يسرى الحكم الى تلك الحصص الفردية المنبسطة على تمام الافراد ولا
نزاع فيه من احد ، اذا الطبيعة على هذا المنوال كالعام المستوعب تمام افراده وان
افترقت عنه من وجه سراية الحكم الى الخصوصية ايضا فى العام دونها.
ويظهر اثر الفرق
بين سراية الحكم الى الخصوصية وعدم
سرايته اليها فيمن
قصد امتثال الامر بخصوصية الفرد فانه فى العام يكون ممتثلا مطيعا ، وفى المطلق
يكون مشرعا عاصيا ، وكيف كان فلا ريب فى سراية الحكم الى الحصة الفردية مع اعتبار
الطبيعة سارية فى تمام الافراد.
واما اذا لم تعتبر
كذلك بل اخذت لا بشرط بوجه الاطلاق على وجه يكتفى فى امتثالها باول الوجود فهل
يسرى الحكم الى الحصة الفردية او لا؟ فيه خلاف قيل بعدم السراية نظرا الى ان
المأتى به فى مقام الامتثال وجود محقق للطبيعة المأمور بها واذا تحققت الطبيعة
المأمور بها سقط الامر ولم يبق ثمة مجال السراية الحكم الى الحصة الفردية.
هذا اذا اتى
بالفرد واما اذا لم يؤت به كان بعد على اختيار العبد يجوز له اختياره فيكون هو
المنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ، ويجوز له اختيار غيره من الافراد فلا يكون ذلك
الفرد مورد انطباق الطبيعة المأمور بها بل انما هى منطبقة على غيره فكل فرد اذا
اعتبر فى نفسه ، لا تراه يلزم انطباق الطبيعة عليه ، بل يحتمل فيه ذلك ومن المعلوم
ان الفرد ما لم يحرز فيه انه اول الوجود ، لا يتجه البناء فيه على سراية الحكم
اليه بل يبقى الحكم واقفا على الطبيعة لا يتعداها الى فردها اصلا لا باعتبار ما له
من الحصة ولا باعتبار الخصوصية.
نعم يكون الفرد
مقدمة لسقوط الحكم عن الطبيعة ولا يكون هو مورد امتثاله ، ولعل نظر المحق القمى
قده الى هذا المعنى من المقدمية لا الى ما تعطيه ظاهر عبارته من كون الفرد مقدمة
للطبيعة لكمال ضعف هذا المعنى الظاهرى على وجه لا يليق بالجاهل
فضلا عن الفاضل ،
__________________
ضرورة ان المقدمية
تستدعى المغايرة الحدية بين المقدمة وذيها ولا مغايرة بين الفرد وكلية كما هو اوضح
من ان يخفى فتأمل فى المقام فانه من مزال الاقدام ثم ان هذا الوجه من الدليل الذى
اقيم على عدم سراية الحكم من الطبيعة الى فردها ، ان تم صلح ان يكون وجها ودليلا
للقول بجواز اجتماع الامر والنهى ، لتعدد الطبيعة المأمور بها والمنهى عنها حسب
الفرض والفرد الذى هو مجمع الطبيعتين يمتنع سراية الحكم اليه من الطبعتين بمقتضى
هذا الدليل فلم يلزم بناء على هذا محذور المحالية من اجتماع الحكمين المتضادين فى
محل واحد كما سيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى فى محله فأنتظر له. والجواب عن الحجة
والدليل يتضح بعد تمهيد مقدمتين :
إحداهما ان
الماهية فى مقام الحكم لم تلحظ امرا فى قبال الافراد الخارجية ، بل متحدة معها
اتحاد المرآة ، مع المرئى على وجه ترى الماهية والافراد خارجية ، وان كان يقطع
بعدم تحققها فى الخارج فلو قيل : شريك البارى ممتنع لم يكن الحكم بالامتناع معلقا
على الماهية بما هى ماهية ، بل بملاحظة اتحادها مع الافراد الخارجية الزعمية التى
يحسب الناظر بنظره الآلي العبورى انها خارجية حقيقة وان كان له جزم يقينى بعدم
تحقق ما بازاء هذه الصور الملحوظة ، ولا ريب فى ان الطبيعة فى ذلك اللحاظ الآلي لا
ترى فى حيال الخارج بل عينه واذا كانت بهذا النحو واقعة فى حيز الحكم فكل ما يتوجه
اليها من الحكم يكون متوجها الى ما تتحد هى معه من الافراد ، ومعلوم ان اتحادها مع
الحصة الفردية دون الخصوصية ، فيتمحض سراية الحكم الى الحصة خاصة دون الخصوصية.
ثانيهما : ان لنا
فى مقام لحاظ الافراد نحوين من اللحاظ ، تارة تلحظ مقرونة بعضها مع بعض ولا ريب
انه مع هذا اللحاظ لا يجوز ان
يكون واحد من
الافراد مورد انطباق الطبيعة المأمور بها بالامر الذى يكتفى فى امتثاله بأول
الوجود ، واخرى تلحظ منفردا بعضها عن بعض بحيث يلحظ هذا الفرد فى حال عدم الفرد
الآخر ، وهكذا الفرد الآخر يلحظ فى حال عدم ذاك الفرد ، ولا ريب ان كل فرد بهذا
اللحاظ ، يكون مورد انطباق الطبيعة المأمور بها بذاك النحو من الامر ، ولا مانع
حينئذ من سراية الامر اليها على هذا الوجه ، فيكون كل فرد مطلوبا اذا لم يكن
مسبوقا بفرد آخر ، واما اذا كان مسبوقا فلا يكون هو المطلوب بل المطلوب الفرد
السابق.
واذا تمهدت لك
هاتان المقدمتان اتضح لك الجواب ، فان شبهة المانع كانت هى تخيل السراية الى
الافراد الخارجية الثابتة فى الخارج حقيقة ، وليس كذلك بل الى الافراد الخارجية
الزعمية التى ترى محققة الوجود فى الخارج ، وقد لا يتفق لها تحقق فيه الى الابد
كما فى الكفار والعصاة.
وقد انقدح لك بذلك
امكان تعقل انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد قبل ايجاده ، فيكون كل فرد ملونا
بلون الحكم فى حال دون حال ، ويمنع من تركه فى حال دون حال ، لانه لا يجوز تركه فى
حال ترك بقية الافراد ويجوز تركه اذا اتى بأحد من بقية الافراد ، فيكون الفرد على
هذا واجبا تخييريا شرعيا يطلب فعله ويمنع عن بعض انحاء تروكه ، هذا تمام الكلام
فيما يتعلق بالطبيعة وافرادها. وقد عرفت ان التحقيق حسب ، ما يساعد عليه النظر
الدقيق تعلق الحكم بالطبيعة دون الافراد ، وان سرى الحكم من الطبيعة الى الحصة
الفردية.
ويبقى الكلام فى
شىء آخر هو مورد نزاع آخر بين القوم وهو ان الحكم يتعلق بالطبيعة او بوجودها؟
وقد يتراءى فى بدو
النظر ان هذا النزاع بعينه النزاع السابق ،
لكنه غيره ويباينه
، وذلك لان النزاع السابق كان مآله الى ملاحظة الطبيعة مع فردها الخارجى الزعمى ،
وهذا النزاع مآله الى ملاحظة الطبيعة مع فردها الخارجى الحقيقى ، فمن قال هناك
بتعلق الامر بالطبيعة يتأتى فى حقه الخلاف هنا ، اذ له القوم بعبورية الطلب الى
الخارجى الحقيقى ، وله منع ذلك كما ان من يقول هناك بتعلق الاوامر بالافراد يتأتى
فى حقه الخلاف هنا ، اذ له القول بعبور الطلب من الصورية الفردية الى الخارج الحقيقى
، وله منع ذلك.
ومن هذا البيان
يظهر لك مورد البحث فى المقام ، وكيفية البحث فان مورد البحث ليس هو فى تعلق الطلب
بالماهية فى قبال الوجود ، اذ هى بهذا الوجه ليست إلّا هى لا يجوز ان تكون مطلوبة
، كما انه ليس موردها الوجود الخارجى الحقيقى ، لاستحالة البعث نحو الشىء بعد
وجوده ، بل البحث بينهم قد وقع فى الماهية بلحاظ ترى عين الايجاد الذى هو المعنى
المصدرى دون الوجود الذى هو يساوق معنى اسم المصدر ، فاذا رؤى الشىء بنحو يخرج من
كتم العدم الى الوجود ، كانت الماهية منظور اليها تبعا والطلب يتعلق بالماهية
الملحوظة بهذا اللحاظ فيقع بينهم فى ان الطلب بعد ما تعلق بالماهية الخارجية بحسب
النظر واللحاظ فهل يقف عليها او يعبر منها الى الخارج الحقيقى الذى هو بإزاء
الماهية التى يراها خارجية ، التحقيق يقتضى المصير الى القول الاول من وجهين :
احدهما : ان الطلب
من الكيفيات النفسانية قائم بالنفس وله تعلق بالمطلوب ، فهو يفتقر الى طرفين ولا
يتقوم بنفسه ، ونحن نجد الطالب ربما يطلب الشىء ولم يحصل مطلوبه فى الخارج ، فلو
كان للوجود الخارجى الحقيقى دخالة فى متعلق الطلب ، لاستحال تحقق الطلب بلا موافقة
المطلوب لما فى الخارج والفرض تحقق الطلب
قطعا ، فوجوده
وتحققه دليل جزمى على عدم تقوم شىء من طرفى الطلب بالوجود الخارجى الحقيقى.
وبعبارة اخرى لو
كان الطلب يعبر من الصورة الذهنية الى الخارجيات ، لكان يلزم موافقة الطلب دائما
ابدا وامتنعت المعصية ، والتالى باطل بالبديهة فالمقدم مثله ، فكان حال الطلب حال
القطع حيث ان القطع يتعلق بالصورة الخارجية التى يراها القاطع موافقة للواقع
ويحسبها موجودة فى الخارج على وجه لا يلتفت الى خطائه فى قطعه هذا جهلا مركبا ،
فلو كان يعبر قطعه من الصورة الملحوظة فى نظره الى الواقع الحقيقى ، لكان يلزم
المطابقة فى قطعه دائما ابدا وليس كذلك كما هو اظهر من ان يخفى. فيستشهد بذلك على
ان القطع فى تعلقه بالصورة واقف عليها لا يعبر الى الخارج الحقيقى ، ومثله الطلب
على هذا المنوال غير ان القاطع لا يحتمل الخطاء فى قطعه ، والطالب يحتمل المخالفة
فى تحصيل مطلوبه وعدم الوصول الى مرامه ومقصوده.
ثانيها : ان
للوجود الخارجى المنظور اليه فى عالم التصور نحوين من اللحاظ ، اذ هو باعتبار اخذه
فى متعلق الارادة يلحظ فى رتبة سابقة عليها فيقول : اريد الصلاة ، وباعتبار وقوعه
معلول الارادة يلحظ فى رتبة لاحقة عن الارادة فيوجدها ويقول : صليت ، وان شئت هكذا
نقول اردت الصلاة فصليت ، فأنك ترى للصلاة فى عالم اللحاظ صورتين إحداهما قبل
الفاء والاخرى بعدها وليس بإزاء الصورة الاولى شىء فى الخارج حتى يمكن عبور الطلب
اليه ، وما له ما بإزاء فى الخارج انما هو الصورة الثانية وهى فى رتبة المعلول
للارادة لا يجوز ان يكون ما بإزائها مأخوذا فى موضوع الارادة وهو ظاهر لا اظن ان
يخفى.
«تنبيهان»
الاول : انه فرق
فى الفصول بين الامر والطلب فجعل متعلق الامر الماهية ومتعلق الطلب الايجاد
الخارجى قال قده : ثم اعلم انا نفرق بين ما تعلق به الامر اعنى مفاد اللفظ باعتبار
الهيئة وبين ما تعلق به الطلب فالامر عندنا لا يتعلق إلّا بالطبيعة من حيث هى ...
الى ان قال : واما الطلب فلا يتعلق إلّا بالفرد وهو الايجاد الخارجى الذى هو عين
الوجود الخارجى بحسب الذات ، وان غايره بحسب الاعتبار انتهى موضوع الحاجة من كلامه
زيد فى علو مقامه .
وتبعه الماتن قده فى
ذلك فقال فى جملة كلام له : «فانقدح بذلك ان المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون
الافراد ، انها بوجودها السعى بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود متعلقة للطلب لا
انها بما هى هى كانت متعلقة له ، كما ربما يتوهم بأنها كذلك ليست إلّا هى نعم هى
كذلك تكون متعلقة للامر فانه طلب الوجود فأفهم.»
وهذا منهما محل
نظر ومنع فان التحقيق الذى يساعد عليه النظر الدقيق ان الطلب كالامر لا يتعلق إلّا
بالماهية وان هيئة الامر لا تدل الا على الطلب وانما يستفاد الايجاد من اعتبار
الماهية بعينها الايجاد الخارجى ، ولعل نظرهما فى ما بنيا عليه الى اعتبار الماهية
فى قبال الخارج ، فالتجئا بذلك الى اقحام الايجاد فيما بين الطلب والماهية
واعتباره فى مدلول هيئة الامر متعلقا للطلب دون
__________________
الامر ويلزمهما
على ذلك الفرق بين قول الطالب : صل وبين قوله : اوجد الصلاة ، اذ على التعبير
الثانى لا معنى لاعتبار الايجاد فى مدلول هيئة الامر لاداء الى طلب ايجاد ايجاد
الصلاة وهو لغو وهذيان ، مع انه امر بالمحال ، وان جردت هذه الصنعة بخصوصها عن
معنى الايجاد وتمحضت للدلالة على الطلب كان ذلك مجازا فى القول ، وليس فى اللفظ ما
يدل على مجازيته ولا فيه خروج عن مقتضى وضع اللفظ ، وإلّا لاحتيج فى ذلك الى رعاية
علاقة وعناية فى مقام الاستعمال وليس فى الكلام منها عين ولا اثر ، هذا مضافا الى
ان الايجاد لو كان مأخوذا فى مدلول هيئة الامر ، فان عنى به معنى يقابل المنشأ لزم
اعتبار ايجاد آخر يضاف اليه ، وان عنى به ما هو المرآة لمنشئه فليعتبر ذلك فى
الماهية من اول الامر ويستغنى بذلك عن ارتكاب تكلف اعتبار الوجود فى مدلول الهيئة
ولعله قده لاجل ما ذكرناه ذيل كلامه بفافهم.
«فى تثليث القسمة فى
الاوصاف»
الثانى : ان مريد
الاتحاد بين الشيئين توجب سريان الصفة من احدهما الى الآخر كما نرى ذلك فى الضياء
اذا كان موضوعا وراء زجاجة خضراء او حمراء ، فانه يكتسب ذلك الضياء عند استنارته
لون الخضرة والحمرة ، فلا ترى الضياء الا اخضر او احمر ، ومن ذلك الالفاظ اذا كانت
تحكى عن معان قبيحة فأنك تجد النفس تستكره سماع اللفظ كما تستكره النظر الى معناه
، وفى قباله الالفاظ الحاكية عن معان حسنة جميلة ، فانك ترى النفس تستلذ بسماع
اللفظ كما تستلذ بالنظر الى معناه خارجا ، ومن ذلك متعلقات الاوامر فان
المطلوبية فى
الحقيقة صفة لاحقة للصور الحاكية عن الخارجيات إلّا انه يصح اتصاف الخارج
بالمطلوبية ايضا ومنشؤه الاتحاد اللحاظى بين المرآة والمرئى ، وليس توصيف الخارج
بالمطلوبية مبنيا على المسامحة بل ذلك توصيف حقيقى ، وان كان منشائه الاتحاد
المرآتى بين الصورة المتعلقة للطلب وبين ما بازائها من الخارجيات ، اذ ربما يكون
دائرة التوصيف اوسع من دائرة العروض ، مثل التجارة فان عروضها على التاجر لا يكون
إلّا حيث يتلبس بحرفة التجارة ، إلّا ان توصيفه بالتاجرية لا يبتنى على ذلك فانه
يقال للانسان تاجر وان كان نائما غير متشاغل بالتجارة وقس على ذلك المجتهد والقاضى
وامثال ذلك.
والقول : بأن
المراد من المبدإ هنا ملكة التجارة والاجتهاد وغيره ولم تنفك عنه الملكة.
شطط من الكلام
وإلّا لكان يجوز اطلاق التاجر لصاحب الملكة وان لم يكن قد زاول التجارة فى شىء من
عمره وكان يتشاغل فى طلب العلم فى تمام عمره والتالى باطل قطعا فالمقدم مثله.
والحاصل انه انا
نجد بالوجدان والعيان توسعة حقيقية للتوصيف دون العروض فكان بحق علينا تثليث
القسمة فى الاوصاف ونقول : ان منها ما يكون ظرف عروضها واتصافها الذهن خاصة وذلك
مثل النوعية والجنسية فأنهما انما يلحقان الماهية وصفا وعروضا باعتبار لحاظها فى
الذهن ، ومنها ما يكون ظرف عروضها واتصافها الخارج خاصة وذلك مثل الحرارة والبرودة
فأنهما انما يعرضان الشىء بعد وجوده فى الخارج ولا يوصف بهما الا الموجود الخارجى
، ومنها ما يكون طرف عروضها الذهن وظرف اتصافها الخارج ، وذلك مثل الطلب والعلم
اللذين هما منشأ انتزاع المطلوبية المعلومية ، فان
هذين الوصفين ظرف
عروضها الذهن وانما الخارج ظرف الاتصاف بهما ، فبطل بذلك قول من الحقهما بالقسم
الاول من الاوصاف التى يكون ظرف عروضها واتصافها الذهن خاصة فتدبر جيدا.
«فى عدم بقاء الجواز
بعد نسخ الوجوب»
فصل : اذا نسخ
الوجوب فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الاعم اعنى ما يقابل الحرام ويجتمع مع
المكروه ولا بالمعنى الاخص اعنى الاباحة وما يقابل الاحكام الاربعة الباقية ، اذ
لا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ عليه بوجه من وجوه الدلالة اما المطابقة فظاهر.
واما التضمن فلان الجواز وان كان جزء من معنى الوجوب إلّا انه بعد ارتفاع الوجوب
بالناسخ يستحيل بقاء المعنى الاعم ، ضرورة ان بقاء الجنس بلا فصل محال والمعنى
الاخص ليس جزءا من معنى الوجوب على انه يفتقر الى فصل ينضم الى جنسه الذى هو
الجواز بالمعنى الاعم وليس فى البين ما يدل على ذلك الفصل. واما الالتزام فهو
يفتقر الى الملازمة العقلية او العرفية بين النسخ وبقاء الجواز وهى منتفية قطعا
ومن ثم لو صرح المولى بالحرمة بعد نسخه الوجوب لم يكن مناقضا فى ظاهر كلامه هذا
حال الدليل الاجتهادى.
واما الاصل العملى
فليس منه ما يدل على بقاء الجواز إلّا الاستصحاب وهو انما يكون له الدلالة على ذلك
حيث يكون معتبرا وهو غير معتبر فى مثل المقام الذى يكون الشك فى البقاء ناشيا عن
الشك فى حدوث فرد كلى مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، إلّا اذا كان الحادث المشكوك
يعد فى نظر العرف من المراتب الضعيفة للمرتفع نحو الحمرة الضعيفة بالنسبة الى
المرتبة القوية منها وليس
المقام من ذلك
القبيل ، لان التضاد بين الاحكام كالنار على المنار وكالشمس فى رابعة النهار فتأمل
جيدا.
«الكلام فى الوجوب
التخييرى والتحقيق فيه»
«فصل اذا تعلق
الامر بأحد الشيئين او الاشياء ففى وجوب كل واحد على التخيير بمعنى عدم جواز تركه
الا الى بدل ، او وجوب الواحد لا بعينه ، او وجوب كل منهما مع السقوط بفعل احدهما
، او وجوب المعين عند الله تعالى اقوال» وقد تقدم فى مسئلة الضد شطر من الكلام
المتعلق بهذه المسألة وقد عرفت تحقيق الحق هناك وبينا ثمة ان الوجوب التخييرى هو
طلب الفعل مع المنع عن بعض انحاء تروكه.
ثم ليعلم ان طرفى
التخيير اما ان يكونا متواطيين او يكونا من قبيل المشكك المختلفين قلة وكثرة ،
فالأول نحو التخيير بين افراد الانسان فان لكل فرد حصة من الطبيعة غير الحصة
الاخرى الموجودة فى ضمن الفرد الآخر بالمغايرة الحيثية والمرتبة وان توافقا ذاتا.
والثانى مثل التخيير
بين القصير من الخط وطويله ، ونحو التخيير بين التسبيحة الواحدة والثلث وقد يكون
التخيير بين المتباينات كالتخيير فى خصال الكفارة.
فهذه اقسام ثلاثة
للتخيير ولا ريب فى جواز التخيير بأقسامه الثلث بنحو الارشاد العقلى ولكن وقع
النزاع بينهم فى تصوير الالزام بنحو التخيير فيما يكون الطرفان فيه من الاقل
والاكثر ، فقيل : بإمكانه وقيل : بامتناعه وينبغى التفصيل بين الصور المفروضة فى
الاقل والاكثر ، فان الاكثر قد يعتبر بشرط لا بمعنى اشتراطه بعدم انضمامه الى ما
يزيد عليه نحو التسبيحات الاربعة الموظفة فى الركعة
الاخيرتين فانه لا
يجوز للمصلى ان يزيد على ثلث مرات بعنوان الجزئية وفى مثله يجوز الامر بإيراد
التسبيحة مخيرا بين المرة والثلث ولا مانع منه ، اذ المانع المتوهم فى المقام ليس
إلّا ان الاقل لا بد من تحصيله ولا يجوز تركه قطعا فإذا حصلت انطبقت الطبيعة
المطلوبة عليه وحصل الغرض ومقتضاه سقوط الامر والتكليف فلا يبقى حينئذ مجال
للتكليف بالاكثر بنحو التعيين ولا بنحو التخيير ، وهذا المانع لا يتأتى فى مثل هذا
الفرض الذى اخذ فيه الاكثر مشروطا بعدم انضمام ما يزيد عليه ، اذ الاقل والاكثر لم
يخير بينهما إلّا باعتبار حديهما من القلة والكثرة فليست ذات الاقل تحت الطلب
التخييرى بل بما هى محدودة بحد القلة ، فتمام الغرض انما يترتب على الاقل إذا اتحد
بحد القلة ، واما قبل ذلك فليس لذات الاقل الا جزء من الغرض اقتضى الالزام به
تعيينا فهو امر ضمنى تعيينى متعلق بذات الاقل المندكة فى ضمن المحدود بواحد من حدى
القلة والكثرة ، فيكون للامر جنبين جنب تعيينى بملاحظة مطلوبية ذات الاقل على كل
من التقديرين وجنب تخييرى بملاحظة عدم لزوم مراعاة خصوص الحد الأقلّي لجواز العدول
عنه الى حد الاكثر.
فإن قلت : لا مناص
للمكلف من اختيار احد الحدين بعد التزامه بالمحافظة على ذات الاقل فلا يجوز ان
يتعلق امر والزام تخييرى باختيار احد الحدين لان مفاد الوجوب التخييرى على ما تقدم
هو طلب الفعل مع المنع عن بعض انحاء تروكه ، ومن المستحيل تعدد التروك فى طرفى
الاقل والاكثر حتى يمنع عن بعضها ويرخص فى بعضها ، اذ ترك الاقل المحدود بحد القلة
واحد لا تعدد فيه كما ان ترك الاكثر بحد الكثرة لا تعدد فيه ايضا ، فلا يجوز ان
يمنع عن ترك الاقل عند ترك الاكثر ، لان ارتكاب الاقل بحده يكون حينئذ ضروريا بعد
الالتزام
بالمحافظة على ذات
الاقل كما ان ارتكاب الاكثر بحده يكون حينئذ ضروريا بعد ترك الاقل بحده والالتزام
بالمحافظة على ذات الاقل.
وبالجملة ينحل
الواجب التخييرى الى وجوب احد الابدال عند ترك البديل الآخر ، ومثاله فى خصال
الكفارة انه يجب عليك الصيام اذا تركت العتق والاطعام وهذا انما يجوز اذا لم يكن
المأتى به لازم التحصيل عند ترك البديل الآخر فى مسئلة الصيام فى خصال الكفارة
واما اذا كان لازم التحصيل وضرورى التحقق عند اختيار ترك البديل الآخر فظاهر عدم
جواز الامر به الزاما مولويا تخييرا ولا تعيينا.
نعم يجوز ذلك
ارشادا كما فى التخيير بين المتناقضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما.
قلت : ليس الامر
هنا كما فى المتناقضين كما توهمت فان للاقل بحده تركين تركا فى ضمن اختيار الاكثر
المجرد عن ضميمة الزيادة ، وتركا فى ضمن اختياره مع الزيادة فمن لم يأت بالتسبيحة
الواحدة تارة يختار الثلث ، واخرى يختار الاربع والممنوع عنه من هذين التركين هو
الترك الثانى دون الاول وكذا فى جانب الاكثر فإن تركه يتحقق فى ضمن اختيار الاقل
بحده ويتحقق فى ضمن اختيار ما يزيد على الاكثر بأن يكرر التسبيحات اربع مرات
والممنوع عنه من التركين هو الترك الثانى دون الاول وهذا بعينه الواجب التخييرى.
ولا ينبغى توهم
تصوير ترك ثالث لكل من الاقل والاكثر يكون ممنوعا عنه ايضا وهو ترك الواجب بالمرة
وعدم الاتيان به رأسا ، فإن هذا المعنى من الترك وان كان متصورا إلّا انه ليس
ممنوعا عنه بمقتضى الوجوب التخييرى بل بمقتضى الوجوب التعيينى الضمنى المتحصل من
الوجوب التخييرى ، لما قدمناه من ان ذات الاقل المندكة فى كل من الحدين مطلوبة على
كلا التقديرين من اختيار الاقل او
الاكثر ، فلا يجوز
المخالفة فى تركها لادائه الى عصيان الامر التعيينى الضمنى دون التخييرى وان حصلت
المخالفة للامر التخييرى ايضا بالتبع.
لا يقال : على هذا
يلزم تعدد العقاب فى ترك الاقل بذاته لمخالفة التكليفين التعيينى والتخييرى ، لا
يلتزم به قائل.
فانه يقال : قد
عرفت منا فيما تقدم ان مناط العقوبة وحدة وتعددا على وحدة الغرض وتعدده ولا تعدد
فى الغرض فى مثل هذا النحو من التخيير وإلّا لتعلق بذات الاقل امر تعيينى مستقل
وهو خلاف الفرض اذ المفروض فى البين ليس إلّا امرا واحدا عن غرض واحد تعلق
بالمأمور به بأحد حديه.
فتلخص مما قررناه
ان التخيير الالزامى جائز بين الاقل والاكثر اذ اعتبر الاكثر مشروطا بشرط تجرده عن
ضميمة الزيادة.
واما اذا اعتبر
مشروطا بعدم الزيادة فى لحوق صفة الوجوب بمعنى عدم اتصاف ما يزيد عليه بصفة الوجوب
وان لم يكن ممنوعا إلّا ان الزائد يكون خارجا عن حيز الحكم الوجوبى فلا يجوز فى
مثل ذلك التخيير الالزامى مرددا بين الاقل والاكثر ، اذ لا يكون للاقل من بعد
المحافظة على ذاته الا ترك واحد وهو الترك المستتبع لاتيان الاكثر ، وكذا الاكثر
لا ترك له بعد المحافظة عن ذات الاقل الا ترك واحد وهو الترك المستتبع لاتيان
الاقل بحده ، ومثله فى عدم جواز التخيير مولويا اذ اعتبر الاكثر بشرط لا بمعنى
ثالث ، وهو ان يكون الزائد موصوفا بصفة الوجوب استقلالا فكل ما يأتى به من الزيادة
يكون واجبا استقلاليا ، فيكون هناك وجوبات متعددة بتعدد ما يختاره من الزيادات
فهذا التخيير بين الاقل والاكثر اذا اعتبر الاكثر بهذين النحوين من الاعتبارين
الاخيرين ، لا يجوز ان يكون بنحو الالزام و
البعث المولوى على
ارتكاب احد الطرفين اذا لم يؤت بعديله.
نعم يكون ذات
الاقل مطلوبا تعيينيا بالطلب الاستقلالى فيحرم عليه تركه بترك كلا الطرفين بل
يلزمه الامتثال فى ضمن احد الحدين مخيرا بينهما بالتخيير الارشادى العقلى لان
الاقل والاكثر على هذا من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يجوز التخيير بينهما
الا على سبيل الارشاد ، ومثله الحال فى المتناقضين بل امتناعه فى الضدين
والمتناقضين اولى منه فى ما نحن فيه اذ ما نحن فيه من الاقل والاكثر يجوز خلو
المكلف عنهما دون مثل المتناقضين والضدين اللذين لا ثالث لهما لاستحالة انفكاك
الانسان عنهما فلا يجوز تكليفه بنحو التخيير ويلزم بإتيان الحركة عند ترك السكون
او بالعكس اذ الحركة ضرورية الحصول عند ترك السكون وبالعكس وهذا واضح لا ينبغى
الارتياب فيه من ذى مسكة ان لم يكن اعتبر احدهما تعبديا وإلّا فذلك يختلف بحسب
المبانى والمسالك ، فعلى القول بصحة اعتبار القربة فى المأمور به يجوز من المولى
الالزام باختيار العمل القربى اذا ترك نقيضه او ضده اذ ليس العمل القربى حينئذ
لازم الحصول عند ترك النقيض حتى يمتنع الالزام به فلو كانت الحركة مثلا قد اعتبر
فيها التقرب جازان يقول المولى الحكيم : ان تركت السكون يلزم الحركة متقربا ولا
بأس به اصلا ، بل مآل هذا حينئذ الى الضدين اللذين لهما ثالث لامكان الخلو عنهما
بالتلبس بالحركة الخالية عن نية التقرب.
وعلى مختار الماتن
قده يشكل القول بجواز التخيير الالزامى فى ذلك اذ المطلوب على مختاره هو العمل
نفسه وانما القربة قد اعتبرت فى طريق الامتثال فيكون المتعلق للطلب الالزامى ساذجا
معرى عن القيد ، باقيا على اطلاقه ، ومن المعلوم بل البديهى استحالة التكليف بمثل
هذا النحو من العمل عند ترك نقيضه لما عرفت من عدم مناص
للمكلف عن مثل هذا
العمل بعد ترك نقيضه فيستحيل البعث نحوه الزاما مولويا ولا بأس به ارشادا.
واما على ما
اخترناه فى القربة من خروجها عن المأمور به مع كون العمل المأمور به ليس معتبرا
الا على وجه الاهمال بنحو يكون تواما مع القربة ، فربما يتوهم فيه جواز التخيير
مولويا لتخصص العمل حينئذ فما هو المأمور به حصة غير الحصة الاخرى الغير المتعلق
بها الامر فيصح ان يقال : ان تركت النقيض فاختر الحصة التى هى توأم مع القربة دون
الحصة الاخرى.
وفيه : ان باب
العمل هنا مع القربة باب الاقل والاكثر فيكون العمل متعلقا للامر على كل حال وانما
الشك فى اعتبار شىء آخر دخيلا فى حصول الغرض ، فهو انما يفترق عن سائر موارد الاقل
والاكثر بأنه فى سائر الموارد يكون الزائد على تقدير اعتباره مأخوذا فى المأمور به
على وجه الشرطية او الشطرية ، وهنا ليس يحتمل اعتباره فى المأمور به وانما المحتمل
اعتباره فى الغرض ، ومن ثم قلنا فى محله ان المرجع لدى الشك فى اعتبار القربة فى
المأمور به ، هو البراءة دون الاشتغال فلو كان مآله الى الترديد بين الحصتين كان
ذلك ترديدا بين امرين متباينين لا يجوز معه الرجوع الى البراءة ، بل كان المحكم
فيه قاعدة الاشتغال.
إلّا انه لا يخفى
على الخبير ان الشك فى اعتبار القربة وعدمه ليس من قبيل الشك الدائر بين
المتباينين بل الاقل والاكثر ، وحينئذ نقول هنا ان تعلق الطلب التخييرى بالعمل
القربى معناه اذا تركت النقيض يلزمك الاتيان بالعمل القربى ولا ريب ان العمل
القربى قد فرض اعتباره مهملا لا مطلقا ولا مقيدا وكما لا ينفك المكلف عن اختيار
العمل المطلق بعد اختياره ترك النقيض كذلك لا ينفك عن
اختيار العمل
المهمل بعد اختياره ترك النقيض فيستحيل البعث نحوه.
فتلخص انه نحن
والماتن قده فى القول باستحالة تعلق الطلب التخييرى بالعمل العبادى اذا كان عدلا
لنقيضه او ضده المنحصر بلا ثالث فى البين ، وان اختلفنا فى كيفية اعتبار العمل لدى
تعلق الامر العبادى به مطلقا على راى الماتن قده ومهملا على المختار فتأمل فيما
ذكرنا فانه دقيق وبذلك حقيق كما لا يخفى.
واحتمال ان الطلب
التخييرى لا يدعو الى اتيان العمل على تقدير ترك نقيضه بل الى ضم القربة اليه ومثل
هذا جائز فى العقل وليس فيه محذور.
يدفعه ان هذا فى
المعنى يرجع الى جواز تعلق الامر بالقربة وفيه كلام بين الاعلام وقد حققناه بما لا
مزيد عليه فى مسئلة اصالة التعبدية او التوصلية ان شئت فراجع.
ان قلت : قد ذكره
شيخنا الانصارى قده فى باب المخالفة الالتزامية ما يكون الامر دائرا بين الوجوب
والتحريم اذا لم يكن احدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال فان هذا التذييل بما اذا لم يكن احدهما المعين تعبديا
يعتبر فيه قصد الامتثال ، قاض بأنه مع فرض اعتباره قصد الامتثال فى احدهما المعين
لا تكون المخالفة فيه مخالفة التزامية بل مخالفة قطعية للتكليف المعلوم الدائر
امره بين وجوب الفعل تعبديا او حرمة الترك ومقتضى ذلك جواز التخيير فى مرحلة التكليف
بين الاتيان بالشىء بنحو التقرب وبين تركه ، فيظهر منه قده بهذا البيان انه يرى
جواز التخيير الزاما بين الفعل والترك اذا كان احدهما عباديا يعتبر فيه قصد
الامتثال ، وهو لا يرى اعتبار
__________________
القربة فى المأمور
به على ما هو المعروف من مذهبه ويدل عليه كلامه فى رسائله.
قلت : المخالفة
القطعية للتكليف المعلوم لا تستلزم التخيير الالزامى فى مرحلة ثبوت التكليف فى نفس
الامر والواقع بل يجوز ان يكون التكليف فى واقعه تكليفا تعيينيا الزاما بواحد
يجهله المكلف فى ظاهر الحال فيحتمل فيه ان يكون تكليفا الزاميا بخصوص الفعل على
وجه القربة ، ويحتمل فيه ان يكون تكليفا الزاميا بخصوص الترك توصليا ، فدور ان
الامر فى مقام الامتثال بين اختيار الفعل بقصد الامتثال او تركه لا بقصد الامتثال
شيء ، والتخيير الزامى بين الفعل القربى وتركه شيء آخر فلا مساس لهذا الكلام منه
قده فى ذلك الباب بما نحن فيه.
وقد انقدح لك مما
تقدم من الكلام ان التخيير ان كان بين النقيضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما ،
فهو تخيير ارشادى ومنه التخيير بين الاقل والاكثر اذا اعتبر الاكثر مشروطا بشرط لا
بالمعنيين الاخيرين ، وان لم يكن بين النقيضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما فهو
تخيير مولوى ومنه التخيير بين الاقل والاكثر اذا اعتبر الاكثر بشرط لا بالمعنى
الاول.
نقول : هنا علاوة
عما تقدم ، ان التخيير المولوى تارة يكون فى مسئلة فرعية كالتخيير فى خصال الكفارة
، واخرى يكون فى مسئلة اصولية كالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، فانه بأيهما اخذ
من باب التسليم وسعه ، وكان ذلك المأخوذ حجة على المكلف يلزمه العمل بمقتضاه
ايجابا او تحريما ، فهو نظير التخيير بين المجتهدين المتساويين فى الاجتهاد
والاعلمية والاورعية لا يجوز للمقلد العمل بقول احدهما الا بعد اختيار احدهما
المعين للتقليد ، فيشترط فى
تنجز التكليف عليه
فى العمل بمقتضى احد الخبرين او قول احد المجتهدين اختيار الاخذ بواحد منهما وهذا
لا يفترق الحال فيه بين القول بالتخيير الابتدائى او الاستمرارى ، اما الاول فظاهر
اذ لا يلزمه الالتزام باستمرار العمل على طبق احدهما الا من بعد البناء فى اول
الامر على اختيار واحد منهما على التعيين ، واما على الثانى فهو وان جاز له العمل
دائما ابدا بكل من الخبرين او القولين إلّا ان ذلك مشروط بمسبوقية العمل باختيار
الاخذ بالمعلول به من احد الخبرين او القولين وهذا الشرط مفقود فى التخيير الفرعى
كما فى خصال الكفارة كما لا يخفى.
وتظهر الثمرة
بينهما فى مقام القصد ونية الامتثال ففى التخيير الاصولى يقصد الامتثال التعيينى
بما اخذه من احد الخبرين او القولين ، وفى التخيير الفرعى يقصد الامتثال التخييرى.
اذا عرفت ما
تلوناه عليك يظهر لك ان فى عبارة الماتن قده مواقع للنظر منها قوله : «والتحقيق ان
يقال : انه ان كان الامر بأحد الشيئين بملاك انه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد
منهما بحيث اذا اتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا يسقط به الامر ، كان الواجب
فى الحقيقة هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ،
وذلك لوضوح ان الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما
جامع فى البين لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول ، وعليه فجعلها متعلقين
للخطاب الشرعى لبيان ان الواجب هو الجامع بين الاثنين.»
انتهى موضع الحاجة
من كلامه زيد فى علو مقامه.
فإن البناء على
التخيير العقلى فى مثل هذا الفرض المذكور فى كلامه قده ، يبتنى على القول بعدم
سراية الطلب الى الافراد ، وقد
عرفت فى مبحث تعلق
الاوامر بالطبائع ان التحقيق عندنا هو القول بالسراية ، وعليه فالتخيير شرعى لا
عقلى كما مر توضيحه بما لا مزيد عليه.
ومنها قوله «وان
كان بملاك انه يكون فى كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض فى الآخر
بإتيانه كان واحد واجبا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه الا
الى الآخر وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما» انتهى فإن قوله
اخيرا والعقاب على تركهما ان اراد به تعدد العقاب على تركهما فهو لما سبق منه قده
فى مسئلة الضد حيث انه قده انكر التعدد فى ذلك المبحث وقال : لا اظن ان يلتزم
القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق فى صورة مخالفة الامرين من العقوبتين
ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد انتهى.
فإن هذا الكلام
منه اعتراف بدوران العقوبة وحدة ، وتعددا مدار القدرة على الامتثال وعدم القدرة
عليه ، ولا ريب ان القدرة على استيفاء الغرضين بامتثال التكليف متعذرة فى المقام
كما هى متعذرة فى مسئلة الترتب ، وان اراد به وحدة العقاب على تركهما اتجه النظر
عليه بما سبق غير مرة من تبعية العقوبة فى الوحدة والتعدد لوحدة الغرض وتعدده اذا
كان قادرا على امتثال التكليف او اسقاطه عنه بوجه غير ممنوع عنه شرطا.
ومنها قوله
بالتخيير بين الاقل والاكثر مع اعتبار الاقل بشرط لا كما صرح به فى بعض كلماته
قائلا : بأنه «لا يكاد يترتب الغرض على الاقل فى ضمن الاكثر وانما يترتب عليه بشرط
عدم الانضمام ومعه كان مترتبا على الاكثر بالتمام» انتهى فانه ان اراد بالتخيير
هنا ما يعم التخيير الارشادى فهذا مناف لما صدر به عنوان المسألة
فى كلامه بأنه اذا
تعلق الامر بأحد الشيئين او الاشياء ، ضرورة ان التخيير الارشادى لا يكون ناشيا عن
تعلق الامر بأحد الشيئين او الاشياء.
ان قلت : لا يختص
الامر بالمولوى بل يجوز ان يكون امرا ارشاديا يفيد التخيير الارشادى.
قلت : انما يريد
بالامر فى صدر كلامه الامر المولوى خاصة بقرينة التفريع عليه بقوله : ففى وجوب كل
واحد على التخيير الخ فان الوجوب لا يتأتى إلّا من قبل الاوامر المولوية دون
الارشادية ، وان اراد بالتخير هنا التخيير المختص بالمولوى اتجه عليه النظر بأن
هذا النحو من التخيير المولوى لا يجوز فى الاقل والاكثر الا فى بعض الصور فكان
ينبغى له التفصيل بينهما ولا يطلق الكلام فيها كما يقتضيه عبارته.
وكيف كان فالامر
سهل بعد ما اتضح لك حقيقة الحال بما بيناه آنفا فتأمل فيه جيدا.
«الكلام فى الواجب
الكفائى»
«فصل فى الواجب
الكفائى» وهو قريب من الواجب التخييرى انما يطلب فيه الفعل على تقدير دون تقدير
وانما يفترقان فى ان التخيير فى الواجب التخييرى واقع بين اشياء كلها متعلقات
للامر وفى الواجب الكفائى واقع بين اشخاص المكلفين ، فأيهم اتى بالمأمور به سقط
التكليف عن الباقين ومنشأ سقوطه عنهم تارة لعجزهم عن الامتثال من غيرهم ، واخرى
لارتفاع الموضوع المحقق لتعلق التكليف بهم كما فى تغسيل الميت فانه لو غسله واحد
ارتفع موضوع وجوب
تغسيله عن الباقين
، فلا يبقى حينئذ مجال لتكليفهم بالتغسيل ثانيا وثالثة ، لقيام الغرض بالجامع الذى
يتحقق من امتثال احدهم فيرتفع بذلك مقتضى التكليف عن الباقين ، وثالثة لاشتراط
الامتثال من احدهم بعدم امتثال غيره ، وفرق بين هذه الصورة الاخيرة وما قبلها فانه
على الصورة الاخيرة تمتنع امتثال الجميع دفعة واحدة بخلافه على الصورة المتقدمة
كما هو ظاهر لا يخفى. وفى الصورة الاخيرة يجوز اعتبار عدم امتثال الغير شرطا فى
الواجب كما يجوز اعتباره شرطا فى الوجوب ، فينبغى النظر فى الدليل.
وتظهر الثمرة بين
الاعتبارين فى صورة الشك فى قيام الغير بالمأمور به ، فان كان عدم امتثال الغير
شرطا فى الوجوب بنى على البراءة عن التكليف المشكوك لعدم احراز شرطه ما لم يكن فى
البين اصل موضوعى يتنقح به عدم صدور الامتثال وإلّا فيلزمه القيام بأداء المأمور
به لتمامية الحجة عليه.
وان كان ذلك العدم
شرطا للواجب لزمه القيام بأداء المأمور به والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، لانه
يشك فى سقوطه عنه بقيام الغير به وليس شاكا فى اصل التكليف ، فيفترق الاعتبار ان
من هذا الوجه ، إلّا ان هذا الفارق مبنى على الفرض والتقدير اذ قلما يتفق مورد لا
يجرى فيه اصل موضوعى يتنقح به الشرط المترتب عليه التكليف ، واما لو شك فى قيام
الغير بالمأمور به على الصور الثلاثة المقدمة فالحكم فيها كما فى الصورة الاخيرة
لو كان الشرط فيها شرطا للواجب يجب الاحتياط ومراعاة الامتثال حتى يعلم بقيام
الغير بالمأمور به ، لانه شاك فى القدرة على الامتثال والعقل حاكم فى مثله بلزوم
الاحتياط حتى يحصل له اليقين بالعجز.
«فى الواجب الموقت»
فصل لا يجوز الامر
بشىء فى وقت يقصر منه إلّا اذا كان الوقت وقتا مضروبا لبعض المطلوب ومن هذا الباب
من صلى فى آخر الوقت ولم يدرك من الوقت الا مقدار ركعة فانه يجب عليه الاقتصار
بالواجبات فى هذه الركعة ويجوز له الاطالة فى سائر الركعات.
واما الامر به فى
وقت يساويه او يفضل عنه فجائز عقلا كما هو واقع شرعا ، فمن الاول الامر بالصيام من
طلوع الفجر ، الى الليل ، ومن الثانى صلاة اليومية فانها مضروبة فى اوقات موسعة.
وتعليل الامتناع
فى الثانى بأنه مؤد الى ترك الواجب ، كلام شعرى لا يصغى اليه.
ولا يهمنا البحث
فى ان الوقت شرط الوجوب او شرط الواجب بعد ان كان الوقت امرا غير اختيارى الحصول
ولا ينوط تحققه باختيار العبد فإن حضر الوقت لزمه اداء التكليف وإلّا فلا.
نعم انما يجدى ذلك
لو كان يمكن عادة رد الوقت او تعجيله قبل او انه ، والمفروض خلافه ، وما صدر عن
مولانا امير المؤمنين صلوات الله عليه بمقتضى النقل بأنه رد الشمس كما ردها سليمان
(ع) فانما ذلك كان معجزة منه عليه الصلاة والسلام.
إلّا انه ربما قيل
بأن فيه ايماء الى شرطية الوقت للواجب دون الوجوب ، اذ لو كان الوقت شرطا للوجوب
لكان التكليف ساقطا عنه (ع) بخروج الوقت فاهتمامه بالمحافظة على الوقت بحسب ما
يمكنه (ع) من رد الشمس دال على ان الوقت شرط للواجب اذ هو الذى يجب
المحافظة عليه دون
شرط الوجوب هذا.
ولقائل ان يمنع
الدلالة والايماء بذلك على شرطية الواجب لجواز ان يكون ذلك منه عليهالسلام شوقا الى العبادة فكان يحب ادراج نفسه فى موضوع التكليف
فرد الشمس لكى يتوجه عليه التكليف الادائى وقد يستأنس لذلك بما روى عنه عليهالسلام انه قال : الجلسة فى الجامع خير لى من الجلسة فى الجنة لان
الجنة فيها رضا نفسى والجامع فيه رضا ربى .
ثم انهم اختلفوا
فى دلالة الامر الادائى على وجوب القضاء فى خارج الوقت وعدم الدلالة عليه ، ويبتنى
النزاع فى ذلك على ان المستفاد من الامر بالشىء فى وقت هل هو تعدد المطلوب على ان
يكون الشىء فى نفسه مطلوبا ويكون خصوصية الوقت مطلوبا آخر يلزمه مراعاته مهما امكن
، فان فات بقى التكليف بالشىء فى نفسه على حاله يجب امتثاله والخروج عن عهدته فى
خارج الوقت ، او ان المستفاد منه مطلوب واحد يبقى مع بقاء الوقت بفواته وهذا هو
المختار.
ثم انه اذا قام
دليل على القضاء فهل يكون له الدلالة على تعدد المطلوب او لا؟ فيه خلاف وتظهر
الثمرة فيمن يفوت كثيرا من الصلوات اليومية ولم يعلم كميتها ، وذلك فى بعض الصور
المتصورة فى هذا الفرض ، فان هذا الفرض يمكن فرضه بفروض اربعة ، لان الجاهل بمقدار
الفوائت تارة يكون منشأ جهله الجهل بزمان البلوغ ، واخرى يكون منشأ الجهل الجهل
بالمقدار الفائت وان علم تاريخ زمان بلوغه وعلى كلا التقديرين اما ان يكون تمام
شكه قد حدث من هذا الحين واما ان يكون شكه فى هذا الحين مسبوقا بشك فى الوقت وغفل
عنه
__________________
فلم يراعه فى وقته
حتى مضى عليه برهة من الزمان على هذا المنوال لا زال يشك فى الوقت ويغفل عن مراعاة
شكه فى ذلك الحين. فهذه صور اربعة :
الصورة الاولى ان
يعلم تاريخ بلوغه ويشك فى كمية الفائت ويكون شكه مسبوقا بشك آخر فى الوقت.
الصورة الثانية
بعينها الصورة الاولى إلّا ان شكه بتمامه يكون حادثا فى خارج الوقت. الصورة
الثالثة ان يجهل تاريخ بلوغه ويكون شكه مسبوقا بشك آخر. الصورة الرابعة بعينها
الصورة الثالثة إلّا ان شكه بتمامه يكون حادثا فى خارج الوقت.
اما الصورة الاولى
: فحكمها يختلف على القولين فان قلنا بتعدد المطلوب لزمه الاحتياط فيما يشك فى
فواته ، لان التكليف به محرز ، والخروج عن عهدته غير معلوم ، وليس له التمسك بما
دل على عدم الاعتداد بالشك بعد خروج الوقت ، لانصرافه الى ما يكون الشك بتمامه
حادثا بعد خروج الوقت وليس الشك فى هذه الصورة من ذلك القبيل ، وان قلنا بوحدة
المطلوب لم يجب عليه القضاء لانه يشك فى التكليف بالقضاء والاصل فيه البراءة كما
لا يخفى.
واما بقية الصور
فالحكم فيه البراءة عن القضاء على كلا القولين ، وذلك اما فى الصورة الثانية فلانه
من الشك بعد خروج الوقت فيعمه الدليل الدال على عدم الاعتداد به ، واما فى الصورة
الثالثة فلانه يشك فى تكليفه بأزيد مما يعمله من قدر الفوائت ، فلا يلزمه الاقضاء
ما تيقن فواته ، واما فى الصورة الرابعة فلانه من الشك بعد خروج الوقت الملغى بحكم
الشارع هذا ، ولكن لم اجد من فصل بين هذه الصورة فى الحكم بالبراءة عن قضاء ما
يحتمل فواته ، فمن قال فيها بالبراءة قال بها مطلقا فى جميع الصور فمن اجل ذلك
تصدى شيخنا
الاستاذ دام ظله العالى لتطبيق القول باطلاق البراءة على مقتضى القواعد ، قال :
فيما افاده فى مجلس البحث انه بناء على تعدد المطلوب المدلول عليه بدليل القضاء لا
يندرج الفرد القضائى من الصلاة تحت المأمور به فى الوقت الا حيث يكون الصلاة فى
خارج الوقت من الافراد العرضية للمأمور به ، فلو كانت فرديتها للمأمور به منوطة
بالعصيان او فوات المأمور به ، لم تكن الصلاة فى خارج الوقت من افراد المأمور به
ويستحيل اندراجه فى الحكم المتعلق بالمأمور به فإن ورد تكليف بالقضاء كان تكليفا
مستقلا متعلقا بالصلاة ولا يكون ذلك التكليف القضائى دالا على تعدد المطلوب فى
الاوامر الادائى ، وحينئذ اذا شك فى مقدار الفائت من حين زمان البلوغ الى زمان
الشك كان مآل الشك فى ذلك الى الشك فى التكليف بالقضاء ، والمرجع فيه البراءة
فلحقت هذه الصورة بغيرها من الصور البقية فى الحكم بالبراءة واتجه بذلك اطلاق
القول بالبراءة.
اقول : فرض الكلام
فيما اذا استكشفنا من دليل القضاء تعدد المطلوب فى الامر الادائى ، غاية ما فى
الباب ان ما يترتب على عصيان الامر الادائى ، يستحيل ان يكون مشمولا للامر المتعلق
بالطبيعة الصلاتية كما هو المفروض من انحلال الامر الادائى الى امر بطبيعة الصلاة
وامر آخر بخصوصية اعتبار الوقت ، فلا يكون فى ترتب القضاء على عصيان الامر الادائى
دلالة على لزوم خروجه عن حيز الامر الاول بتمام حيثياته حتى الحيثية التى تعلق
الامر فيها بالطبيعة الصلاتية فالفرق بين الصورة الاولى وبقية الصور على ما سمعته
اولا جيد متين ، واطلاق كلامهم بالبراءة لا بد وان ينزل على غير هذه الصورة او
يبتنى قولهم بالبراءة فيها على القول بعدم استفادة التعدد المطلوب من دليل القضاء
فتأمل.
«فى الامر بالامر»
«فصل» هل الامر
بالامر بالشىء امر بذلك الشىء او لا؟ وجهان من جواز اشتمال الامر الثانى على مصلحة
فى صدوره من الامر الثانى من غير ان يكون فى العمل المأمور به بالامر الثانى
المصلحة ، فلا يكون فى الامر الاول دلالة على الامر بذلك الشىء اصلا اذ لا دلالة
للعام على الخاص.
ومن ان الامر
الثانى فى نظر العرف يرى وسيلة لسراية المطلوبية الى العمل ، فهو نظير ما لو امر
المولى عبده بتناول الماء ، فانه يستفاد منه ان المقصود الاصلى فى الطلب هو شربه
الماء لرفع عطشه اذ المنساق من تعلق الطلب بمناولة الماء التوصل به الى رفع العطش
بالشرب لا غيره من سائر الاستعمالات ، وهكذا المقام.
«فى ورود الامر بشىء
بعد الامر به وقبل امتثاله»
فصل : اذا ورد امر
بشىء بعد الامر به وقبل امتثاله فهل يوجب تكرار ذلك الشىء او تأكيد الامر الاول
والبعث الحاصل به؟ الحق اجمال الكلام من هذا الوجه لتعارض اقتضاء المادة والهيئة ،
فإن المادة بمقتضى اتحادها فى الصيغتين تقضى بالتأكيد ، والهيئة باعتبار اقتضائها
البعث فى المقامين تقضى بتوارد التحميلين على الطبيعة ، ولازم ذلك التقييد فى
الطبيعة بالمرة الاولى فى الامر الاول ، وبالمرة الثانية فى الامر الثانى فيحصل من
ذلك الاجمال فى
المراد والمرجع
فيه اصالة البراءة عن وجوب التكرار فتدبر.
«حول النواهى»
«المقصد الثانى فى
النواهى فصل» : اختلفوا فى النهى هل اريد منه طلب الترك او طلب الكف؟ وعمدة نظر
القول الاول ومستنده الى ان النهى نفى فى المعنى فلا دلالة فيه الا على الترك الذى
هو مساوق لمعنى النفى ، ونظر القول الثانى الى ان الترك وان كان موافقا لظاهر
اللفظ ، إلّا ان امتناع تحققه من المكلف باختياره صار قرينة عقلية على كون المطلوب
منه الكف الذى هو امر وجودى وداخل تحت القدرة ، وسندهم على الامتناع ان العدم
الازلى سابق على القدرة فلا يجوز ان يكون من آثار القدرة ومترتبا عليها. ورد بأن
الممتنع على المكلف هو العدم الازلى وليس هو المطلوب بالنهى بالضرورة بل المطلوب
فيه الاستمرار على العدم وابقائه وعدم قلبه الى الوجود وهذا جائز مقدور بالضرورة.
اقول : هذا النزاع
بين الفريقين يبتنى على اعتبار الماهية المنهى عنها امرا فى قبال الوجود الخارجى
وهذا خلاف التحقيق عندنا كما تقدم الكلام فيه فى مبحث تعلق الاوامر بالطبائع ، بل
لم تعتبر فى حيز الامر والنهى إلّا بعنوان الحاكى عن الايجاد الخارجى متحدة معه
اتحاد المراءة مع المرئى ، وعليه فيكون مفاد النهى هو الزجر عن الايجاد كما ان
مفاد الامر هو البعث اليه ، ومعه لا حاجة الى تكلف البحث عن حال الترك انه مقدور
او غير مقدور ، لا نافى غنية عنه بعد ما سمعت من كون المتعلق فى الامر والنهى هو
الوجود والايجاد وهو مقدور بالبديهة ولا نزاع فيه من احد.
«فى دلالة النهى على
التكرار والدوام وعدم دلالته عليه»
ثم ليعلم انه قد
وقع النزاع بينهم فى دلالة النهى على التكرار والدوام وعدم دلالته عليه. ونظر
القول بالدلالة الى ان النهى يقتضى المنع من ادخال الماهية فى الوجود وهو لا يتحقق
إلّا بالامتناع من ادخال كل فرد فيه. ويرد عليه ان التكرار المدعى هو التكرار الذى
يستتبع العصيانات المتكررة ، ومثل هذا التكرار انما يستتبع عصيانا واحدا اذ
العصيان نقيض الطاعة وقد كانت الطاعة موقوفة على ترك الطبيعة والانزجار عن ايجادها
بالمرة ، فيكون العصيان فى عدم الانزجار عنها بهذا النحو وهو انما يحصل بالمخالفة
مرة واحدة ولازمه سقوط العصيان فى حقه بعد العصيان الاول ولا يكاد يلتزم به احد فى
النواهى النفسية لما هو المعلوم من ضرورة المذهب ان الزانى يتكرر فى حقه العصيان
بتكرار الزنا ، بل لا يكاد يخطر بالبال من احد الا انفهام السريان فى النهى
المستلزم لتكرار العصيان ، وظاهر ان مجرد النهى عن الطبيعة لا يقتضى السريان فى
مدلول النهى فهذا التقريب من الاستدلال غير مطابق للدعوى.
نعم يتم فى
النواهى الغيرية التى يسقط النهى فيها بالمخالفة بالمرة الاولى خاصة ، فمن احدث فى
صلاته انتقض وضوئه وبطلت صلاته ، فلو احدث ثانيا لم يكن لحدثه الثانى اثر فى
الانتقاض ، اذ لا معنى لانتقاض المنتقض ، بل هو تحصيل الحاصل ولا يكاد يصدر النهى
عن الحاصل من المولى الحكيم.
والاحسن فى تقريب
الاستدلال للمدعى ان يقال : ان لكل من
مدلول الامر
والنهى صيغة ومادة ، ومقتضى اطلاق الهيئة فى كل منهما سريان البعث فى الاوامر
والزجر فى النواهى الى تمام الافراد ولازم ذلك تعدد الطلب فى كل منهما ، وقضية
التعدد فى الطلب تعدد العصيان فى المخالفة ، ومقتضى ذلك ان يكون الامر كالنهى فى
الدلالة على الدوام والتكرار ، إلّا انه منع عن ذلك فى الاوامر لاستلزام التكرار
فيها الحرج المنفى فى الشريعة فيكون ارتكازية انتفاء الحرج فى الشريعة مانعا عن
انسباق التكرار من اطلاق الهيئة فى الاوامر خاصة ، دون النواهى اذ لا حرج فى
الاستمرار على الترك فيها.
وربما يعارض الاطلاق
فى جانب الهيئة بإطلاق المادة القاضى بمطلوبية الانتهاء عن صرف الوجود ، ومرجعه
الى نهى واحد متعلق بطبيعة المنهى عنه ، وهو وان استلزام الاستمرار فى الانتهاء
عنها فى مقام الامتثال ، والاطاعة ، إلّا انه فى جانب العصيان لا يكون إلّا عصيان
واحد بالمخالفة بصرف الوجود ، ولا ترجيح لاحد الاطلاقين على الآخر. ويمكن ترجيح
الاطلاق فى جانب الهيئة بان الهيئة ترى فى عالم الاعتبار علة لحصول المادة فى عالم
الخارج والعلة مقدمة على المعلول رتبة ، فانه يرى المعلول فى مقام الاستفادة من
الكلام تابعا للعلة ، فيكون اطلاق العلة هو المتبع دون اطلاق المادة فأفهم واغتنم.
«القول فى جواز
اجتماع الامر والنهى او امتناعه»
«فصل اختلفوا فى
جواز اجتماع الامر والنهى فى واحد وامتناعه على اقوال ثالثها جوازه عقلا وامتناعه
عرفا ، وقبل الخوض فى المقصود يقدم امور :»
«الاول : المراد
بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجا تحت
عنوانين بأحدهما
كان موردا وبالآخر للنهى وان كان كليا مقولا على كثيرين كالصلاة فى المغصوب.» فإن
الصلاة فى المغصوب بهذا العنوان كلى تندرج تحت الكون الصلاتى المأمور به ، والكون
الغصبى المنهى عنه كما يندرج الكون الشخص تحت كل من العنوانين ، ويجرى النزاع فيه
كما يجرى فى الشخصى ، فإن اطلاق الادلة الآتية يشمل الفرضين بلا فرق بينهما ، كما
ان اطلاق كلمات الاصحاب رضوان الله عليهم فى تحرير محل البحث شامل لهما ايضا وانما
ذكر الواحد فى صدر المبحث احترازا عن مثل «السجود لله تعالى والسجود للضم» الغير
المجتمعين وجودا وان كانا مجتمعين مفهوما وليس المقصود من ذلك الاحتراز عن «الواحد
الجنسى او النوعى كالحركة والسكون الكليين المعنونين بالصلاتيّة والغصبية» لانطباق
كل من المأمور به والمنهى عنه على هذه الصلاة التى هى مجمع العنوانين فان ما تشتمل
عليه من الحركات والسكنات يندرج فى مسمى الصلاة المأمور به وفى مسمى الغصب المنهى
عنه ، ومن ذلك يظهر لك الاشكال فى ما وقع فى المعالم وكذا فى الفصول والقوانين من تخصيص محل البحث فى الواحد الشخصى دون الجنسى او النوعى
، فان ذلك تخصيص بلا مخصص بعد اشتراكهما فى مشمولية الادلة واطلاق الكلمات.
__________________
«فى التمايز بين
المسألتين»
الثانى : الفرق
بين هذه المسألة وما يأتى من مسئلة النهى فى العبادات ، ان الكلام فى هذه المسألة
ناظر الى حيثية التزاحم فى المقتضيات وفى المسألة الآتية الى التعارض بين الادلة ،
فمن قال هنا بالامتناع وبنى على تقديم جانب النهى فانما يحكم بفساد العبادة لتأثير
مقتضى الفساد فيها ، وغلبته على مقتضى الصحة وهذا يختلف بحسب العلم والجهل ، فمن
علم بغصبية المكان وصلى فيه بطلت صلاته لتعذر تمشى نية التقرب منه فى صلاته مع هذا
الحال سواء كان علمه مطابقا للواقع او مخالفا له ، كما انه اذا جهل ذلك وصلى فيه
صحت صلاته اذا لم يكن قد اخل بنية التقرب ، فكان التأثير فى الغصبية على هذا منوطا
بالعلم والجهل ، اذ ليست مانعيتها الا فى الاخلال بنية التقرب وهذا انما يتأتى مع
العلم والالتفات دون الجهل والغفلة ، وهذا بخلاف الصحة والبطلان فى المسألة الآتية
، اذ القائل فيها بالفساد يرى تقديم النهى على عموم بملاك التخصيص ومعلوم ان باب
التخصيص يمنع عن وجود المقتضى للصحة ، فلو صلى فى الدار الغصبى كانت صلاته باطلة ،
لعدم مقتضى الصحة فيها واقعا لا فى مرحلة الامتثال كما هو محط البحث فى هذه
المسألة ، ولا يفرق الحال فيه بين صورتى العلم والجهل كما ان القائل بعدم دلالة
النهى فيها على الفساد لا يتفاوت الحال عنده بين صورتى العلم والجهل ، فكم فرق بين
المسألتين؟.
ومن ذلك ينقدح لك
الاشكال فيما ذكر هنا من وجوه الفرق
المذكورة فى كلام
بعضهم منهم الماتن قده حيث تمايز بين المسألتين باختلاف جهة البحث باعتبار ان
النزاع هنا قد وقع «فى سراية كل من الامر والنهى الى متعلق الآخر لاتحاد متعلقيها
وجودا وعدم سرايته لتعددهما وجها ، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فى المسألة
الاخرى فإن البحث فيها فى ان النهى فى العبادة يوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجه
اليها.»
وقد عرفت ما فيه
من الاشكال لابتنائه على اتحاد المناط فى الحكم بالفساد فى المقامين حتى يكون
البحث فى هذه المسألة مما يتنقح به الصغرى للكبرى المبحوث عنها فى تلك المسألة.
ومنهم صاحب
القوانين المحقق القمى طاب ثراه حيث تمايز بين المسألتين بأن محل البحث والكلام فى
هذه المسألة ما يكون بين المأمور به والمنهى عنه عموم من وجه ، وفى المسألة الآتية
ما يكون بين المأمور به والمنهى عنه عموم وخصوص مطلق. صرح بذلك فى المقدمة الثالثة التى مهدها فى المسألة الآتية
، وكأنه اخذ ذلك مما اشتهر فى تمثيلهم هنا بالصلاة والغصب ، وهناك بالصلاة والصلاة
فى الدار الغصبية.
ويشكل ذلك بمثل ما
لو ورد اكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، فان النسبة بينهما بالعموم من وجه ومثله
خارج عن محط البحث والنزاع لاتحاد المتعلق فى المأمور به والمنهى عنه ، كما انه لو
ورد صل ولا تغصب فى صلاتك ، كان ذلك داخلا فى المتنازع فيه هذه المسألة ، والتمثيل
بهذا المثال للعموم والخصوص المطلق اولى مما مثل به صاحب الفصول ره بما لو امره
بالحركة ونهاه عن التدانى الى موضع
__________________
مخصوص فتحرك اليه اذ العموم والخصوص والمطلق المشمول للمتنازع فيه فى هذه
المسألة ما يكون عموما وخصوصا مطلقا باعتبار الاتحاد فى الوجود الخارجى كما عرفته
فيما ذكرناه من المثال ، وفى مثاله العموم والخصوص بينهما موردى لا وجودى ، لظهور
ان التدانى من البيت ناش عن الحركة الخارجية لا عينها ومتحد معها فى الخارج فمثاله
اجنبى عن الممثل.
ومنهم صاحب الفصول
قده حيث تمايز بين المسألتين باعتبار اتحاد الحقيقة فى المسألة الآتية واختلافها
هنا ويتجه عليه مضافا الى ما سمعته منا من اختلاف المسألتين عن غير هذا الوجه
وعدم ارتباط إحداهما بالاخرى ، الاشكال بما ذكره الماتن قده من «ان مجرد تعدد
الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات ، لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك
اختلاف الجهات ومعه لا حاجة اصلا الى تعددها ، بل لا بد من عقد مسألتين مع وحدة
الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها وعقد مسئلة واحدة فى صورة العكس.» اللهم إلّا ان
يذب عنه بأنه ربما يكون الفصول ناظرا الى انه لا يتوهم احد عدم سراية النهى مع فرض
اتحاد الحقيقة حتى يجىء النزاع فيه ، وانما يجىء النزاع ويكون مورد احتمال السراية
وعدمها مع فرض الاختلاف فى الحقيقة ، فهو والماتن يتوافقان فى ان محط البحث وموضع
النزاع فى هذه المسألة هو السراية وعدمها إلّا انه لا يرى صاحب الفصول موقعا لهذا
النزاع الا مع فرض اختلاف الحقيقة ، اذ لا يحتمل عاقل عدم السراية فى صورة اتحاد الحقيقة
، فلا يكون على هذا مخالفا للماتن قده فى مبناه ويندفع عنه اشكاله حينئذ فأفهم
وتأمل.
__________________
«فى اعتبار المندوحة
وعدم اعتبارها فى محل النزاع»
الثالث : اشترط
بعضهم فى محل النزاع ان يكون للمكلف مندوحة فى الامتثال بأن لم يحضر مصداق الكلى
فى الفرد الذى هو مجمع العنوانين.
واورد عليه الماتن
بما حاصله ان المنظور اليه فى هذه المسألة هو التكليف المحال لا التكليف بالمحال
وفرق بينهما ، اذ الاول ينشأ من اجتماع حكمين المتضادين على محل واحد ، فمن قال
بالجواز بنى على تعدد المحل والموضوع بتعدد الجهة ، ومن قال بالامتناع بنى على عدم
كفاية التعدد فى الجهة فى رفع غائلة المحذور ولا فرق فى ذلك بين وجود المندوحة
وعدم وجودها ، واما التكليف بالمحال فيفترق الحال فيه بين وجود المندوحة وعدمها ،
اذ التكليف بالمحال محصله التكليف بغير المقدور ولا يكون الشىء غير مقدور الا مع
فرض عدم المندوحة ، فهذا الشرط انما يتجه لو كان المحذور المنظور اليه فى نزاعهم
فى هذه المسألة هو التكليف بالمحال ، وليس كذلك بل المنظور اليه فى كلماتهم هو
التكليف المحال الذى لا يفترق الحال فيه بين وجود المندوحة وعدمها كما لا يخفى.
نعم القائل
بالجواز لا بد له من اعتبار المندوحة اذ بدونها يكون التكليف تكليفا بالمحال ،
ويكون ذلك مانعا عن التكليف فلا يكون التكليف به جائزا هذا.
واقول : انما يتجه
اعتبار المندوحة واشتراطها بناء على القول بالجواز اذا بنى على عدم سراية الطلب من
الطبيعة الى افرادها اذ
حينئذ يصح الشرط
المذكور ، اذ مع عدم المندوحة يستحيل التكليف بالجامع لتعذر امتثاله من غير طريق
الفرد الغصبى والفرد الغصبى مردوع عنه بحكم العقل فرارا عن مخالفة النهى عن الغصب
، فيكون امتثال التكليف بالصلاة على هذا التقدير غير مقدور عليه بوجه من الوجوه.
واما على تقدير
المندوحة فيمكن امتثاله فى غير الفرد الذى هو مجمع العنوانين وحينئذ لم يكن بأس فى
التكليف بالجامع ويكون التكليف به جائزا.
واما اذا قلنا
بالسراية كما هو المختار ، فلا وجه لهذا الشرط على القول بالجواز ، فضلا على القول
بالامتناع لما تقدم من ان لازم السراية تعلق وجوب تخييرى فى الافراد المنحل الى
طلب كل فرد مع المنع عن تركه حال ترك بقية الافراد ، فهذا الفرد الذى يكون مجمعا
للعنوانين يكون منهيا عن تركه عند ترك بقية الافراد ومعناه لزوم ايجاده عند ترك
بقية الافراد والفرض انه منهى عنه ايضا ، لكونه تحت النهى الشرعى ايضا بمقتضى ما
سمعت منافى النهى من اقتضائه السراية الى تمام افراد متعلقه تقديما لمراعاة جانب
الهيئة على جانب المادة وتحكيما له اياه ، ويستحيل البعث الى ايجاد شيء مع النهى
بالبديهة.
فلا بد حينئذ من
تقييد الطبيعة المأمور بها بغير هذا الفرد فيكون هذا الفرد خارجا عن حيز الامر ،
فحينئذ ان اكتفينا فى الصحة بمجرد المحبوبية الذاتية ولم نقل بكون العبادة محتاجا
الى الامر الفعلى كما قال به شيخنا البهائى قده على ما حكى عنه صحت الصلاة
__________________
سواء كان للمكلف
مندوحة او لم يكن له مندوحة ، وان لم نكتف بذلك واعتبرنا الداعوية عن الامر والبعث
الفعلى بطلت هذه الصلاة سواء كان هناك مندوحة او لم تكن.
نعم يمكن القول
بصحة الصلاة بناء على مختار الماتن الذاهب الى جواز ان يكون الامر داعيا الى غير
متعلقه كما تقدم منه اختيار ذلك فى مسئلة الضد ، إلّا انه تقدم هناك الخدشة منا
فيما اختاره بأن الداعوية المعتبرة فى صحة العبادة ما تكون بنحو العلة الفاعلية
دون العلة الغائية ، والمتصور من الداعوية فى الفرد الخارج عن حيز الامر انما هو
ما يكون بنحو الغاية التى لا تكاد تجدى فى صحة العبادة فتأمل فى المقام فانه من
مزال اقدام الاعلام.
ثم انه ربما يتوهم
جواز صدور العمل هنا عن داعوية الامر بالعلة الفاعلية بناء على القول بالترتب ،
حيث انه يجوز للمولى النهى عن التصرف الغصبى فى هذه الدار المغصوبة ، وان تصرف
فليكن تصرفه بنحو الصلاة كما لو قال المولى لعبده : لا تلق نفسك عن الشاهق وان
ألقيت فألقها على بطنك لا على ظهرك كما مثل بذلك شيخنا الاستاذ دام ظله فيكون
الامر بالصلاة على هذا مرتبا على النهى عن التصرف الغصبى وهو جائز عند القائل
بالترتب كما لا يخفى.
ويدفعه ان مسئلة
الترتب تبتنى على اختلاف الرتبة كما تقدم ذلك فى مسئلة الضد وهنا لم تختلف الرتبة
بين الامر والنهى وانما هما فى عرض واحد ، فلا يلزم من القول بالترتب فى تلك
المسألة القول بجواز الامر هنا بشيء مع فرض النهى عن ذلك الشىء فى رتبة واحدة كما
لا يخفى وذلك ظاهر فتأمل فيه.
«الرابع انه ربما يتوهم
تارة ان النزاع فى الجواز والامتناع يبتنى على القول بتعلق الاحكام بالطبائع واما
الامتناع على
القول بتعلقها
بالافراد ، فلا يكاد يخفى ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصى ولو كان ذا وجهين
على هذا القول ، واخرى ان القول بالجواز مبنى على القول بالطبائع لتعدد متعلق
الامر والنهى ذاتا عليه وان اتحدا وجودا والقول بالامتناع على القول بالافراد
لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا وكونه فردا واحدا.»
واجاب عنه الماتن
قده بما حاصله ان محط نظر القولين جوازا وامتناعا ليس إلّا على تعدد الجهة وانه هل
هو مجد فى توارد الحكمين المختلفين على شىء واحد او لا يجدى ، فبناء القول بالجواز
على الاول ، وبناء القول بالامتناع على الثانى ، لا على القول بالطبائع او الافراد
، اذ من البين «ان تعدد الوجه ان كان يجدى بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود
والايجاد لكان يجدى ولو على القول بالافراد فان الموجود الخارجى الموجه بوجهين
يكون فردا لكل من الطبيعتين فيكون مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد ، فكما لا يضر
وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين ، لا يضر بكون المجمع الاثنين بما هو مصداق وفرد لكل
من الطبيعتين ، وإلّا لما كان يجدى اصلا حتى على القول بالطبائع كما لا يخفى لوحدة
الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا.»
«فى اختلاف الجهات
التى يبتنى القول بالجواز عليه»
ثم انه بعد ما
عرفت من بناء القول بالجواز على كفاية تعدد الجهة فى اجتماع الامر والنهى ، فينبغى
النظر فى الجهات المتعددة التى يمكن ابتناء القول بالجواز عليه ، وتهذيب القول فى
ذلك ان من الجهات ما يكون اختلافها بالاجمال والتفصيل نحو اختلاف الانسان فى تصوره
بالانسانية التى هى مرآة اجمالية حاكية عن حقيقته وتصوره بالحيوانية والناطقية
التى هى مرأة تفصيلية لحقيقته ومثل هذا
الاختلاف لا يكاد
يجدى مصححا للقول بالجواز عند القائل به ، لحكاية الصورتين عن منشإ واحد متحد
الذات متغاير المفهوم.
ومنها ما يكون
اختلافها بحسب الاعتبار واللحاظ كاعتبار الشىء الواحد لا بشرط او بشرط لا ، فان
اعتبر لا بشرط كان ذلك من قبيل الجنس والفصل يصح حملهما على ذلك الشىء وان اعتبر
بشرط لا كان ذلك من قبيل الهيولى والصورة ، فيمتنع حملهما على ذلك الشىء.
وتوضيح المقال بأن
يقال : ان اللحاظ اذا تعلق بقطعة من الذات فان اعتبرت متباينة للقطعة الآخر منها
كانت القطعتان متباينتى اللحاظ وامتنع بذلك الحمل ، فلا يجوز حمل كل منهما على
مجموع الذات ولا حمل احدهما على الآخر ، واذا تعلق بها باعتبار ما لها من الجهة
المشتركة بينهما وبين صاحبها من الذاتية ، كانت بعينها الكل فكان يجوز حمل كل من
الملحوظين على الآخر كما يجوز حمل كل منهما على تمام الذات ، فكأنك لاحظت الذات
بتمامها من ناحية جزئها ، فكانت الذات بهذه الملاحظة متحدة مع جزئها فساغ الحمل
بهذا الاعتبار ، ومثل هذا الاختلاف كالاختلاف بالنحو المتقدم ، ليس إلّا اختلاف
اعتبارى مفهومى لا يجدى القول بالجواز ، اذ لا يكون إلّا حاكيا عن منشإ واحد لا
اختلاف فيه اصلا كما لا يخفى.
ومنها ما يكون
اختلافها اختلافا بالمنشإ إلّا ان الجهتين لا يجوز اعتبارهما جهتين تقييديين كى
يصلحان لورود الحكمين عليهما لكونهما من الصفات الاعتبارية التى لا واقع لها الا
بمنشإ انتزاعها كالملكية والزوجية ، فلو امر بإيجاد مملوك زيد ونهى عن ايجاد زوج
هند لم يكن مثل هذا التغاير بين العنوانين يجدى مصححا للقول بالجواز ، ضرورة انه
لا تصلح الزوجية ولا الملكية لتعلق الحكمين عليهما بنحو تعلقهما بسائر الطبائع
المقررة فى نفس الامر والواقع
اذ لا واقع لهما
إلّا بالجعل وهو انما اعتبر فى فرض المثال جهة تعليلية لا تقييدية.
وربما يتوهم ان
الوجه فى خروج مثله عن محط نظر القائل بالجواز هو اتحاد المتعلق فيه كاتحاده فى
قولك اكرم العلماء ولا تكرم الفساق فان مثل هذا المثال لم يختلف فيه المتعلق ، فلا
يتجه فيه القول بالجواز بناء على اعتبار تعدد الجهة ، وهنا قد وقع المتعلق فى مثال
المملوكية والزوجية متحدا كما فى الاكرام اذ المطلوب فيه الايجاد وجودا وعدما.
ولكنك خبير بأنه
توهم فاسد اذ الجهة فى مثال الاكرام لا بد وان تكون متحدة لا يسرى فيها الاختلاف
الواقع فيما بين العلماء والفساق الى الاكرام الذى هو متعلق الامر والنهى لاختلاف
مقوليتهما من حيث ان الاكرام من مقولة الفعل ، والعلم والفسق من مقولة الكيف ،
وهذا بخلاف ما فرضناه من المثال اذ الايجاد المضاف الى الزوج والمملوك بعينه
وجودهما لا يختلفان إلّا بالاعتبار فما يلحق الوجود من الاختلاف يكون لاحقا
للايجاد وذلك ظاهر لا اظن ان يخفى عليك.
ومنها ما يكون
اختلافها بالمنشإ والاعتبار وتكون من المحمولات بالضميمة التى لها ما بحذاء فى
الخارج لا من خارجات المحمول التى ليس لها ما بازاء فى الخارج كما فى مثال الزوجية
والمملوكية ، وذلك مثل الحلو وإلّا بيض ومثله انما يجدى الاختلاف فيه بهذا الوجه ،
اذا لم يجتمع الوصفان فى مجمع واحد مشترك بينهما كالسكر وهو انما يكون كذلك لو
قلنا بتجرد المشتق عن اعتبار الذات وقلنا ببساطته وعدم تركبه من الذات والمبدإ ،
وإلّا فبناء على التركب لم يكن الجهتان بتمامهما متغايرتين حتى يكاد يجدى القائل
بالجواز ، بل على البساطة لا يكاد يجديه ايضا بناء على ما قدمناه فى باب المشتق من
ابتناء
الحمل فيها على
ملاحظة المشتق وجهة وعنوانا للذات بنحو النظر الآلي المرآتي ، اذ هو بناء على ذلك
يكون حاكيا عن الذات وهى مشتركة بين الوصفين.
نعم لو قلنا ان
مصحح الحمل فى المشتقات هو اعتبارها لا بشرط يتجه التغاير بين الوصفين بتمام
الجهات والحيثيات ، والكلام فى ذلك قد تقدم فى بحث المشتق بما لا مزيد عليه ان شئت
فراجع.
ومنها ما يكون
الاختلاف فيما بينها بنحو اختلاف الجنسية والفصلية والنوعية والشخصية ، فان كلا
منها يحكى عما لا يحكى عنه الآخر ومثل هذا الاختلاف هو الذى ينبغى ان يكون المتيقن
فى كلام القائل بالجواز المجتزى بتعدد الجهة. إلّا ان المعروف فى المثال المضروب
فى كلامهم هنا هو الصلاة والغصب وقد اختلف الانظار فى بيان معناهما :
فقيل : هى الخضوع
الذى هو امر معنوى متولد من الاكوان الخاصة المقصودة ، وعلى هذا لا تكون الصلاة فى
عرض الغصب ، بل هما طوليان لانتزاع الغصبية من الكون المتحد مع الافعال الخاصة
المترتب عليها الخضوع.
وقيل : ان الصلاة
هى الاوضاع الخاصة من الركوع والسجود وغير ذلك والغصب هو الكون فى مكان لا يرضى به
صاحبه وعلى هذا يكون الغصب والصلاة متغايرين مصداقا مجتمعين فى الوجود.
وقيل : ان الصلاة
هى الكون الخاص والغصب هو الكينونة فى مكان لا يرضى به صاحبه وهذا نظير سابقه فى
التغاير المصداقى.
وقيل : ان الصلاة
هى كون خاص والغصب ايضا كون خاص فيشتركان على هذا فى الكون ويفترقان بالخصوصية
فيكون تمايزهما بتمايز الاضافة فباعتبار اضافة الكون الى ما لها من هيئات الركوعية
والسجودية
والموالات والترتيب ونحو ذلك يمتاز به الصلاة عن الغصب ، وباعتبار اضافة الكون الى
المكان الذى لا يرضى به صاحبه يمتاز به الغصب عن الصلاة ، وليست هاتان الاضافتان
من قبيل الاعتبارات التى لا واقع لها الا بمنشإ انتزاعها كما سمعته فى الملكية
والزوجية ، ضرورة ان الهيئات الوضعية فى الحركات الصلاتية متحققة الوجود فى عالم
الخارج ولا ينحصر واقعيتها باللحاظ الذهنى كما فى الاعتباريات المحضة ، وكذلك
الاضافة الى مكان لا يرضى به مالكه متحققة الوجود سواء كان هناك لاحظ او لم يكن ،
فيجوز حينئذ ان تكون هاتان الاضافتان متعلقين للاحكام ويصح اعتبارهما جهتين
تقييديتين.
ولا يبعد القول
بصحة قول الاخير ، وربما يستأنس لذلك فى الصلاة بما اشترطوه فى بعض الاوضاع
الصلاتية كالقيام مثلا من اعتبار الاستقلال فيه ، فلا يجتزى بالقيام لو كان بنحو
الاستناد على الحائط او العصاء فمثل هذا يقرب اعتبارا لكون من مفهوم الصلاة كما ان
الغصب على ما هو المتبادر منه ليس إلّا التصرف فيما لا يرضى به صاحبه ولا ريب ان
هذا المعنى يتضمن الكون ايضا كالصلاة فأشترك الغصب والصلاة بناء على ذلك فى جزء ،
هو الكون وانفرد كل منهما عن الآخر بإضافة خاصة مختصة به ، وليس فى العقل ما يحيل
ذلك الاشتراك بين المفهومين فى جزء ذاتى بينهما حتى يتخذ ذلك قرينة عقلية على
الخروج عن المتفاهم العرفى كما لا يخفى.
فإن قلت : اشتراك
عنوانى الصلاة والغصب فى مقولة الفعل يستلزم اجتماع الفعلين فى فعل واحد يكون ذلك
مجمعا للعنوانين وهو محال ، لاستحالة اتحاد الفعلين فى فعل واحد ، فلا محيص من
الالتزام بالمغايرة بينهما والاختلاف فى المقولة ، فتكون الصلاة على هذا من مقولة
الفعل ، والغصب من مقولة الاين وهى الكينونة
فى المكان الغصبى
كما قال المحقق السبزوارى فى منظومته :
هيئة كون الشىء
فى المكان
|
|
اين متى الهيئة
فى الزمان
|
قلت : لم يعلم
معنى محصل لدعوى استحالة اجتماع الفعلين واتحادهما فى فعل واحد ، فإن اريد من ذلك
امتناع اجتماع الفعلين المتمايزين خارجا فى فعل واحد شخصى ، فهو حق إلّا انه لا
مساس له بالمدعى ومحل البحث اصلا كما لا يخفى ، فإن المدعى انطباق عنوانين كليين
على مصداق واحد سواء كان العنوانان من مقولة واحدة او مقولتين. وان اريد من ذلك
امتناع انتزاع عنوانين متفقى المقولة من منشإ واحد وانه يستحيل انطباق عنوانين
متوافقى الذات والحقيقة على مصداق واحد ، فهو واضح الضعف اذ كما يجوز فى المجمع ان
يكون حاويا لجامعين مختلفى المقولة بالفعل والوضع ، كذلك يجوز فيه ان يكون حاويا
لجامعين متفقى الحقيقة متغايرى الحد كأن يكون كل واحد من المفهومين محدودا بحد
يغاير الحد الآخر ، فينطبق العنوانان بما هما عليه من التمايز الحدى على ذلك الجمع
، فيكون المجمع على هذا واجدا للحدين ومثاله ان نفرض انتزاع جامع انسانى مضيق
الدائرة على وجه لا يكون له سعة انطباق على ازيد من فردين معينين من الانسان هما
زيد وعمرو ، ثم ننتزع جامع آخر انسانى محدود بحد آخر متضيق الدائرة على وجه لا
يكون له سعة انطباق على ازيد من فردين معينين من الانسان ايضا وهما زيد وبكر خاصة
فأشترك العنوانان فى زيد ، فاذا انطبقا عليه لم يكن بينهما تمايز فيه الا بالحد لا
بالحقيقة والماهية لكونهما متوافقين فى الحقيقة الانسانية ، وانما تمايزا بالحد
خاصة ، فهذا ممكن لا يأباه العقل
__________________
ولم يقم برهان على
استحالته ، فلم يبق لنا ما يتبين به معنى المراد من عنوانى الغصب والصلاة الا
الوضع ومتفاهم العرف وهو انما يقضى بما سمعته آنفا من ان الصلاة كون مشوب بوضع خاص
وكذلك الغصب فاشتركا حينئذ فى جزء ذاتى هو الكون ، وافترقا باختلاف نحوى الوضع
فيهما كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام
فى بيان الصور المفروضة فى تعدد الجهات ، وقد عرفت ان اختلافها بالاجمال والتفصيل
او باعتبار اللابشرط وبشرط لا ، او بنحو الزوجية والملكية ، لا يكاد يجدى فى القول
بجواز الاجتماع الا المجدى من تعدد الجهة ما يكون تعددها مفهوما وبمنشإ الاعتبار
ويكون اعتبار الجهة فى الموضوع بنحو الجهة التقييدية دون التعليلية ولم يجتمع هذان
الشرطان فيما ذكرناه من هذه الصور الثلث لاتحاد المنشا فى الصورتين الاولين
واعتبار الجهة جهة تعليلية فى الصورة الثالثة.
وربما يقال :
بكفاية القول بتعدد المفهوم وحده فى القول بالجواز ، لان الاحكام انما تتعلق
بالصور ولا تتعدى الى الخارجيات ، فلا يضر فيها وحدة المنشا وبهذا الوجه وبما نقول
بجواز الحكم بالوجوب الغيرى فى اجزاء المركب اذا لوحظت مستقلة بحيالها ، والوجوب
النفسى اذا لوحظت فى ضمن الكل لاختلاف الصورة فى مرحلة اللحاظ والتصور ، فاذا
اختلفت الصورة جاز فيها اختلاف الحكم المتعلق بها وان اتحدت فى المنشا ، اذ المدار
فى لحوق الاحكام لموضوعاتها على الملحوظات الذهنية دون الخارجية بناء على ما هو
التحقيق من عدم سراية الاحكام الى الخارجيات ، فأذن لا مانع من توارد الحكمين
المتضادين او متماثلين على صورتين ذهنيتين اذا كانا متحدتين منشأ فضلا عما اذا
كانا مختلفين بالمنشإ ، فجاز فى صورتى
الاختلاف بالاجمال
والتفصيل او اللابشرط وبشرط لا ، ان يجتمع فيهما الامر والنهى.
نعم يمتنع
اجتماعهما فى الصورة الثالثة لما سمعت من اعتبار الجهة فيها تعليلية لا يمكن تعلق
الحكم بها ، فإن تعلق حكم فلا بد من البناء على تعلقه بالخارج وما فى الخارج واحد
لا تعدد فيه هذا.
ولكن يتجه على ما
ذكر من القول بالجواز فى الصورتين الاوليين بأن الصورة فيهما وان اختلفت بالمفهوم
إلّا انها بما هى حاكية عما فى الخارج ترى عين الخارج المتحد فيتسرى الاتحاد
والوحدة الى الصورة الحاكية ايضا بالتبع ، ويكون ذلك مانعا عن توارد الحكمين على
تلك الصورة المرئية واحدا بالنظر العبورى المرآتي ، ومن ذلك يظهر لك بطلان القول
بجواز اجتماع الوجوب الغيرى والنفسى فى اجزاء المركب.
فالتحقيق حسب ما
يؤدى اليه النظر الدقيق خروج الصورتين الاوليين كالصورة الثالثة عن مورد اعتبار
تعدد الجهة فى كلام القائل بالجواز ، واما بقية الصور فربما يمنع تعقل الاجتماع
فيما يشترك فيه الجهتان فى جزء واحد كما فى مثال الغصب والصلاة بناء على المختار
من اعتبار الكون جزء لكل منهما وكما فى مثال الحلو وإلّا بيض بناء على اعتبار
الذات جزءا من مفهوم المشق ، وصورة الشبهة ان اختلاف الحكمين بالوجوب والحرمة
يستدعى تعدد الموضوع فاذا اشترك الموضوعان فى جزء واحد ذاتى كان ذلك الجزء مركبا
لمجموعى الحكمين ، وهو مستحيل لامتناع اجتماع المتضادين فى محل واحد.
وبعبارة اخرى :
لما كان الغصب عبارة عن الكون المقيد بالكينونة فى محل لا يرضى به صاحبه والصلاة
عبارة عن الكون المقيد بنحو خاص عن الركوع والسجود وغير ذلك من أجزائها الخارجية ،
فاذا
كانت الصلاة واجبة
كانت بتمام اجزاء مفهومها تحت الحكم الوجوبى فيلحق الكون طرف من الوجوب يسمى
بالوجوب الضمنى وكذلك الغصب اذا كان حراما كان بتمام اجزاء مفهومه تحت حكم الحرمة
، فيلحق الكون طرف من الحرمة يسمى بالحرمة الضمنية فاجتمع فى الكون الواحد وجوب
وحرمة ضمنيان وهو محال ، فلا بد فى مورد الاجتماع والتصادق من الالتزام بارتفاع
واحد من الحكمين الضمنيين واذا ارتفع الحكم الضمنى عن الكون لزم منه ارتفاعه ايضا
عن الخصوصية ، ضرورة ان بقاء الحكم على ضمنيته فى جانب الخصوصية ، يلازم بقاء
الحكم بتمامه وهو مستحيل بعد ارتفاع ضمنيته عن الكون المفروض جزئيته للصلاة ،
لاستحالة بقاء الكل بعد ارتفاع جزئه.
نعم يجوز استقلال
الخصوصية بحكم استقلالى اذا قام الدليل عليه والمفروض خلافه ، اذ لا دليل يدل على
وجوب الخصوصية الصلاتية الا الامر بالصلاة المنبسط على تمام اجزاء مفهومها وذلك
الامر لما استحال اجتماعه مع النهى عن الغصب فى مورد الاجتماع والتصادق ، فلا بد
من الحكم بسقوط الوجوب الضمنى عن الكون وذلك يستلزم سقوطه عن الخصوصية الصلاتية
ايضا فتكون الصلاة بتمام اجزاء مفهومها خالية عن الحكم الوجوبى ضمنا واستقلالا ،
اما الضمنى فلما عرفته واما الاستقلالى فلعدم الدليل عليه.
قلت : الدليل على
الوجوب الاستقلالى موجود لظهور ان المصلحة الالزامية القائمة فى الصلاة باقية فيها
لم يرفعها تزاحم الحكمين فى الكون المتحقق فى المجمع وتلك المصلحة قد منع عن
فعليتها المزاحمة بالنسبة الى جزء الكون الخاصة ، فتبقى المصلحة فى الاضافة الى
الخصوصية بحالها غير مزاحمة بشىء فيلزم مراعاتها فى جانب الخصوصية ، فان كانت
مفسدة الحرمة فى الكون الذى هو
ذو الخصوصية غالبة
على مصلحة الوجوب ، تحصل ثمة فى الخصوصية الصلاتية وجوب مرتب على الحرمة وصار
المحصل ان الكون فى الدار الغصبية محرم منهى عنه ، فلو عصى ذلك النهى وكان فى
الدار وجب ان يكون فيها بنحو الخصوصية الصلاتية ، ولا بأس به وكان الوجوب على هذا
الوجه لاحقا للخصوصية الصلاتية خاصة دل عليها حكم العقل بلزوم مراعاة المصلحة
بالقدر الممكن ، غاية ما فى الباب يجىء الاشكال فى نية القربة وهى مسئلة فرعية
فقهية ، تبتنى على المستفاد من لسان الدليل الدال على اعتبار القربة فى العبادات ،
فإن دل على اعتبار نية التقرب بتمام العمل بجميع اجزائه امتنعت الصحة فى هذا الفرض
، لتعذر التقرب فيه بغلبة مفسدة النهى ، وان لم يدل على ذلك واجتزى فى مقام التقرب
بالعمل العبادى بقصد التقرب بالخصوصية الصلاتية خاصة ، صحت هذه الصلاة وتعلق
الوجوب فيها بخصوصية الصلاتية وان كانت هى بخصوصية الغصبية محرمة ، واتجه بذلك
القول باجتماع حكمى الوجوب والحرمة فى الصلاة فى الدار الغصبية باعتبار ما لها من
الجهتين فتامل.
ثم ليعلم ان نسبة
المكان الى صاحبه بالرضا والكراهة ليست من الاعتباريات المحضة التى لا وعاء لها
الا الذهن ، كما ربما يستفاد ذلك من عبارة المتن فى المقدمة الثانية التى مهدها
الماتن قده لمختاره حيث مثل لهذا السنخ من الاعتباريات المحضة بالملكية والزوجية
والحرية والرقية ، فأدرج الغصبية فى جملة الامثلة التى اوردها للاعتباريات المحضة.
وفيه منع ظاهر لا
اظن عدم اطلاعك عليه ، لكمال الفرق بين الغصبية والملكية والزوجية ، لانا نجد
بالعيان ان الملكية او الزوجية مثلا منوطة بالجعل وبعد الجعل ليس لها وجود فى
الخارج ، فإذا ورد امر
بالملكية فان اريد
به طلب تحصيلها كان مفاده طلب جعلها ، وان اريد به طلب ابقاءها كان مفاده طلب
ايجاد المملوك المجعول ملكيته ، فلا بد من صرف الطلب فى الاعتباريات المحضة الى
غيرها مما له وجود خارجى من نفس الجعل او ايجاد المجعول ، اذ الاعتبارات المحضة
ليس لها ما بحذاء فى الخارج حتى يجوز تعلق الاحكام بها لتحصيل ايجادها فى الخارج ،
ومن ثم تراها متوقفة فى عالم التحقق على اللحاظ والاعتبار الذهنى فلو لم يكن فى
العالم لاحظ للملكية والزوجية لم يكن لهما تحقق اصلا كما لا يخفى ، وهذا بخلاف
المغصوبية فانها منتزعة من نسبة المكان الى كراهة صاحبه للجلوس والكون فيه فهو
نظير نسبة الفوقية المنتزعة من علو شيء بحيث لو لم يكن احدهما اعلى من الآخر
لانتزع الفوقية ، ولا يفتقر تحققها على لحاظ لاحظ بل لو لم يكن فى العالم لاحظ
اصلا وكان احد الشيئين اعلى من الآخر تحققت الفوقية ، وإلّا فلا وكذلك المغصوب فان
الغصبية منتزعة من نسبة المكان المملوك الى عدم رضاء مالكه ، للكون فيه ، ولا ريب
ان الكراهة والرضا من الامور الواقعية التى لها حظ من الوجود ، كما لا ريب فى تغير
النسبة بتغير المنسوب اليه لظهور ان نسبة المكان الى الرضا غير نسبته الى الكراهة
ولا يتوقف حصول مثل هذه النسبة على اللحاظ بل هى متأصلة ومتحققة فى خارجها سواء
كان هناك لاحظ او لم يكن فلا ينبغى الحاق الغصبية بالملكية كما صنعه الماتن قده ،
وحينئذ جاز فى مثل الغصب والصلاة ان يكونا متعلقين للاحكام باعتبار ما لهما من
المصالح والمفاسد ، إلّا ان مفسدة الغصب لما كانت اولى بالمراعاة فى نظر الشارع
لكون الغصب راجعا الى حق الناس دون الصلاة ، وجب تقدم جانب النهى فكانت مصلحة
الصلاة على هذا مغلوبة فى جانب مفسدة الغصب إلّا ان
المزاحمة بينهما
لم تكن الا فيما يشتركان فيه من جزء الكون ، واما الكيفية والخصوصية اللاحقة له
باعتبار الاضافة الى عدم رضاء المالك او باعتبار افعال الصلاة فلا مزاحمة للحكمين
فيما بينهما لاختلاف الموضوع فيهما حينئذ ، فتكون الصلاة فى الدار الغصبية ذات
جهتين غصبية وصلاتية ، وهى باعتبار ما لها من الكون المنسوب الى عدم رضاء المالك
مبغوضة وباعتبار الصلاتية محبوبة ، فان اتى بها بملاحظة ما لها من رجحان الصلاتية
كانت صحيحة ان اجتزينا فى العبادة بنية التقرب فى مجرد الخصوصية.
فتلخص مما قررناه
ان البناء على الجواز عند معتبر تعدد الجهة ، لا يكون إلّا حيث تختلف الجهات
بالمنشإ ، اما بتمامه كما فى الجنس والفصل ، او ببعضه كما فى المشتقات بناء على
اعتبار الذات فى مفهومها ، وكما فى مثال الغصب والصلاة بناء على ما هو التحقيق من
اعتبار الكون فى مفهومهما ، ولا ينقدح فيما ذكر اتحاد الوجود الخارجى فى الجنس
والفصل ، اذ ذلك انما يمنع عن تعلق الامر والارادة الفعلية بالشىء الواحد ذى
الجهتين المتلازمتين ، اما المحبوبية والمبغوضية ، فلا ضير فى تعلقهما بالشيء
الواحد باعتبار ما له من الجهات المتعددة المختلفة ، وان كانت متلازمة الوجود ، بل
قد نقول بجواز توارد الامر والنهى على المتلازمات فى الوجود بنحو الترتب ، كما مرت
الاشارة اليه آنفا ، فينهى عن ايجاد الجنس اولا فى ضمن اى نوع ، ثم يرد امر آخر
مرتب على ذلك النهى ويقول المولى ان عصيتنى وخالفت امرى فليكن ما تأتيه من الجنس
الحيوانى فى ضمن نوع الانسان المتميز من غيره من الانواع بالناطقية ، وبالجملة لا
ينبغى الارتياب فى جواز الاجتماع بهذا المعنى فى ذى الجهات.
«فى ذكر وجه آخر
للقول بالجواز غير تعدد الجهة»
وهناك وجه آخر
للقول بالجواز يبتنى على القول بعدم السراية ، وهذا الوجه غير اعتبار تعدد الجهات
ويفارقه مفارقة العامين من وجه ، فانه على اعتبار تعدد الجهة ، لا ينحصر الخلاف فى
الجواز وعدمه على خصوص فرض اعتبار الطبيعة ، سارية ، او خصوص فرض اعتبارها غير
سارية ، بل يجرى الخلاف على كلا التقديرين فهو عام من هذا الوجه ، وله جهة خصوص من
وجه لا بدية الاختلاف فى المتعلق ، اذ على فرض اتحاده لا يكون فى البين مغايرة
جهتية حتى يتأتى فيه القول بالجواز المبنى على تعدد الجهة حسب الفرض ، فيكون مثل
اكرم العلماء ولا تكرم الفساق خارجا عن محل النزاع بناء على هذا الفرض ، واما بناء
على السراية وعدمها فيجوز فيه اتحاد المتعلق ويجرى فيه النزاع ، فيكون عمومه
باعتبار شموله لصورتى اتحاد المتعلق واختلافه ، وله جهة خصوص من حيث لزوم اعتبار
الطبيعة فيه غير سارية فى تمام الافراد ، بل على ان تكون مأخوذة بنحو يجتزى فى
تحققها بصرف الوجود ، اذ على اعتبارها سارية لا بد من القول بسراية الحكم الى
الافراد فلا يتأتى فيه الخلاف بالجواز والامتناع ، لابتناء القول بالجواز على هذا
الفرض ، على عدم السراية وهذا لا يكون إلّا فيما اعتبرت الطبيعة مطلقة غير سارية
فى تمام افرادها ، لما عرفت من اتفاق الفريقين على القول بسراية الحكم من الطبيعة
الى افرادها فى الطبائع السارية.
ومن الغريب ما وقع
من بعض الاعلام على ما حكى عنه من القول
بعدم السراية فيما
اذا اعتبرت الطبيعة سارية فى تمام الافراد ، وبالجملة يمكن بناء الخلاف هنا على
الخلاف المتقدم فى تعلق الاوامر بالطبائع فمن قال : هناك بسراية الطلب من الطبيعة
الى الفرد قال : هنا بالامتناع ، ومن قال : هناك بعدم السراية قال : هنا بالجواز
بل قد نترقى ونقول : وبالجملة يمكن بناء الخلاف هنا على المتقدم فى تعلق الاوامر
بالطبائع فمن قال : هناك بسراية الطلب من الطبيعة الى الفرد قال : هنا بالامتناع ،
ومن قال : هناك بعدم السراية قال : هنا بالجواز بل قد نترقى ولم يكن متعدد العنوان
إلّا انه لا ريب فى كونه حاملا للطبيعة ومشتملا عليها مع زيادة قيد التشخص
والخصوصية الخارجية ، ضرورة ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، ومعلوم ان الشىء ربما
يختلف بالحيثيات ، فيكون من حيث ما له الطبيعة محبوبا ، ومن حيث اشتماله على
الخصوصية مبغوضا ، اذ ليس من المستبعد ولا من الممتنع العقلى ان يكون هناك مصلحة
قائمة بالطبيعة ، ومفسدة قائمة بالخصوصية الشخصية ولا يمتنع اجتماع المحبوبية
والمبغوضية فى الشىء الواحد من وجهين ، لا تزاحم بين المفسدة والمصلحة فى عالم
المحبوبية والمبغوضية ، قبل بلوغ مرتبته الى درجة البعث والارادة الفعلية
المستتبعة للوجود والايجاد.
نعم اذا بلغت
مرتبتهما الى مرتبة البعث والارادة يجيء التزاحم بين المفسدة والمصلحة فى عالم
التأثير فى الوجود والايجاد ، فلا بد من استعلام الغالب منهما وتمييزه عن المغلوب
عنهما ، فان كانت المفسدة غالبة اختصت بالتأثير ولازم ذلك مبغوضية الافراد كلها
لان النهى سار فى تمام الافراد على ما بيناه وحققناه فى مبحث تعلق الاوامر
بالطبائع ، ولا يتصور فى هذا الفرض اجتماع الامر والنهى ، وكذا اذا كانا متساويين
لانتهاء الحال فيه الى التخيير ، فلا يكون فى
البين امر ولا نهى
، واما اذا كانت مفسدة النهى مغلوبة فى جانب المصلحة القائمة بالطبيعة ، كان
التأثير حينئذ للطبيعة إلّا ان تأثيرها لا يكون إلّا بمقدار ما يقتضيه الامر من
البعث والطلب وهو انما يقتضى البعث نحو الطبيعة ، ومعلوم ان مطلوبية الطبيعة لا
بشرط يستتبع الطلب التخييرى بالنسبة الى الافراد فكل فرد يكون تحت الالزام عند ترك
بقية الافراد وتحت الرخصة عند الاتيان بفرد آخر من بقية الافراد وهكذا ، والوجه
فيه ظاهر فان الطبيعة اذا كانت هى المطلوبة دون الخصوصيات الشخصية فكل ترك من تروك
الافراد اذا كان يستلزم ترك الطبيعة ، يكون مبغوضا ، وذلك لا يكون إلّا عند
الاقتصار على فرد واحد منها ، فان ذلك الفرد الواحد المقتصر عليه لو ترك تنتفى
الطبيعة بتركه فيكون ترك ذلك الفرد مع هذا الحال مبغوضا ، اما اذا كان تركه مقترنا
مع اتيانه ببقية الافراد ، فلا يكون مثل هذا الترك مبغوضا ، لعدم انتفاء الطبيعة
بتركه ، فيكون المتحصل من ذلك ان الفرد مطلوب بما له من حد الطبيعة وليس بمطلوب
بما له من الحد الشخصى ، فكل ترك يكون مؤديا الى ترك الحد الاول الموجب لانتفاء
الطبيعة وعدم تحققها فى الخارج يكون مبغوضا وهو انما يكون حيث يترك الفرد بلا بدل
له من سائر الافراد ، وكل ترك لا يكون فيه الا ترك الحد الشخصى خاصة ، لم يكن فيه
بأس ، اذ لا رجحان فى الخصوصية ، فتركها حينئذ وعدم تركها على السواء ، فتكون
الخصوصية على هذا التقدير مباحة ، وان كانت الطبيعة المتحصلة فيها واجبة ، وهذا هو
معنى الواجب التخييرى ، فاذا جاز اجتماع الوجوب والاباحة فى واحد شخصى باعتبار
حديه ، فليجز اجتماع الوجوب والاباحة كذلك ، ضرورة ان الاحكام لخمسة كلها متضادة ،
ولا اختصاص لذلك بالوجوب والحرمة كما لا يخفى. فلربما تكون
الخصوصية ذات
مفسدة وهى كما قلناه اذا كانت مغلوبة فى جانب المصلحة فانما ينعزل تأثيرها بالنسبة
الى مرتبة الزجر خاصة دون مرتبة المبغوضية ، فيكون المجمع مبغوضا وان لم يتنجز فيه
النهى بل قد نقول بتنجز النهى فيه ، وان كانت مفسدته مغلوبة فى جانب المصلحة ، فان
الطلب البعثى الناشى عن المصلحة الغالبة متعلق بالطبيعة لا بشرط ، فيجتزى فى
امتثاله بتحصيل الطبيعة فى ضمن واحد من افرادها ، مخيرا بين الفرد المجمع وغيره ،
واما الزجر الناشى عن المفسدة المغلوبة فهو متعلق بالطبيعة السارية فى تمام
الافراد ، لما تقدم فى بحث تعلق الاوامر بالطبائع من بيان الفرق بين الامر والنهى
، وعليه. يكون نسبة المنهى عنه الى المأمور به نسبة المهم المضيق الى الموسع الاهم
لظهور ان الطبيعة المأمور بها لم تكن مطلوبة التحصيل فى تمام الافراد ، بل فى
الجملة فيجتزى فى امتثالها فى فرد واحد ، ولو كان غير المجمع وهذا بخلاف الطبيعة
المنهى عنها فإن المطلوب الانتهاء وعنها وتركها رأسا ، فكان المكلف فى سعة من حيث
امتثال الامر ، اذ يمكنه امتثاله فى غير الفرد المجمع ، بخلاف النهى فانه يلزمه امتثاله
بترك ايجاد المنهى عنه فى تمام الافراد حتى الفرد المجمع ، وقد تقرر فى المباحث
السابقة انه يرجح المضيق وان كان مهما على الموسع وان كان اهم ، فلا بد فى عالم
الفعلية من الالتزام بصرف البعث الى غير الفرد المجمع ، فلا يكون هذا الفرد المجمع
الا منهيا عنه ويكون خارجا عن حيز المأمور به ، ولا يتعلق به الامر إلّا اذا تركت
ما عداه من الافراد ، فانه لا بأس فى تعلق الامر به حينئذ بناء على المختار من
القول بالترتب ، فيكون قد اجتمع فيه الامر والنهى بما لها من المرتبة البعثية ،
ويكون الفرد المجمع على هذا بحده النوعى مأمورا
به ، وبحده الشخصى
منهيا عنه ، واما بناء على منع الترتب ، فلا يكون الفرد المجمع الا مورد اجتماع
المحبوبية والمبغوضية دون الامر والنهى والحاصل ان القول بجواز اجتماع الامر
والنهى لا ينحصر مبناه بالقول بعدم السراية بل يتأتى ايضا بناء على السراية والقول
بالترتب ، واما المحبوبية والمبغوضية فيجوز اجتماعها فى شىء واحد ، سواء قلنا
بالترتب او لم نقل به ، لعدم ابتناء المحبوبية والمبغوضية على مقدورية متعلقهما
حتى نحتاج فى تصحيح اجتماعهما فى الشىء الواحد الى الترتب كما هو كذلك فى متعلق
الامر والنهى.
«فى العبادات المكروهة»
ومما تقدم من
البيان يظهر لك الحال فى النواهى المتعلقة بالعبادات المكروهة ، فانها باقية على
ظاهرها من الحزازة ولا يلزم صرفها الى اقلية الثواب. وهذا واضح فيما له بدل منها ،
فان الممنوع عن تركه منها ما يكون فى تركه ترك الطبيعة وهو الترك لا الى بدل ،
والحائز الترك هو الترك الذى لا يستتبع ترك الطبيعة وهو الترك الى بدل ، فمثل هذا
الترك اذا كان جائزا لم يمتنع فيه ان يكون راجحا فيختلف بذلك متعلق الوجوب
والكراهة ، فالواجب هو الطبيعة والمكروه هو الخصوصية ، وتقول ان ترك الطبيعة مرجوح
وترك الخصوصية راجح ، وبهذا الوجه نقول بالجمع بين الرجحان والمرجوحية فيما لا بدل
له من العبادات المكروهة كصوم يوم عاشورا ، فان الصوم فى نفسه راجح وان كان ايقاعه
فى ذلك اليوم مرجوحا ، وعليه فيكون النهى المتعلق به ، راجعا الى ايقاعه فى ذلك
الزمان لا الى الصوم الموقع فيه ، بمعنى ان النهى ليس متوجها الى المجموع الملتئم
واضافته الى
الزمان المخصوص بل الى خصوصية الاضافة المعبر عنه بالاين.
«المختار فى المسألة»
هذا تمام الكلام
فى مقدمات المقصود ، وقد ظهر منها المختار المقصود بيانه فى هذه المسألة ، فانك قد
عرفت جواز الجمع بين المحبوبية والمبغوضية فى الشىء الواحد باعتبارين جهة او حدا.
نعم لا نتحاشى عن
القول باستحالة الجمع بين البعث والزجر فى الشىء الواحد بناء على القول بالسراية
اما بناء على عدمه فلا مانع من اجتماعهما ايضا ، وخلاصة الكلام وفذلكة المرام فى
تنقيح المقام ، ان الخلاف فى جواز اجتماع الامر والنهى وامتناعه ، ان كان بمناط
تعدد الجهة فلا ينبغى الشك فى امتناعه لو اريد من الامر والنهى مرتبة البعث والزجر
من غير تفاوت بين جميع الفروض المفروضة فى تعدد الجهة ، كما انه لا ينبغى الشك فى
امتناعه فى مرتبة المحبوبية والمبغوضية ، اذا اختلفا جهة واتحدا منشأ ، ولا ينبغى
الشك ايضا فى جواز الاجتماع لو اختلفا من الوجهين جهة ومنشأ نحو اختلاف الجنس
والفعل ، واما اذا اختلفا جهة واتحدا فى بعض المنشا كما فى مثال الغصب والصلاة
بناء على انهما يتفقان فى جزء هو الكون ، ويختلفان بنحوي الاضافة فقد عرفت ، جواز اجتماع
الامر والنهى فى الجهة التى يختلفان فيها ، دون ما يتحدان فيه من جزء الكون ، سواء
كان المثال من قبيل صل ولا تغصب مما تكون النسبة بين العنوانين بالعموم من وجه ،
او من قبيل صل ولا تغصب فى هذه الصلاة مما يكون النسبة بينهما بالعموم والخصوص
المطلق ، واما بناء على اختلافهما بتمام
المنشا على ان
يكون كل من الغصب والصلاة من مقولة مستقلة ، فلا ريب فى جواز تخالفهما بتمام
المنشا فى الرجحانية والمرجوحية كما لا ريب فى عدم جواز تخالفهما فى ذلك لو اتحدا
فى حقيقة الكون ، واختلفا بالاعتبار كما هو ظاهر الكفاية ، حيث ادرج الغصبية فى
مثال الاعتباريات المحضة التى ليس لها ما بازاء فى الخارج نحو الملكية ، فانه على
هذا المبنى يستحيل تخالفهما فى الرجحانية والمرجوحية اذ هما من حيث الكون واحد
يمتنع اتصافه بالضدين ، ومن حيث الاختلاف بالوجه الاعتبارى يمتنع اختلافهما
رجحانية ومرجوحية ، اذ المتصف بهما ما له حظ من الوجود ، والاعتباريات المحضة لا
حظ لها من الوجود ، فاذا لم يكن لهما حظ من الوجود ، لم يكن تتحمل المصالح
والمفاسد ، حتى يترتب على ذلك الاتصاف بالرجحانية والمرجوحية فان المصالح والمفاسد
انما تقوم بالخارجيات لا بالاعتباريات المحضة هذا.
ولكن الاشكال كله
فى صحة المبنى فان الغصبية ليست كالملكية من الاعتباريات المحضة الغير الموجودة فى
الخارج ، فان الغصب ينتزع من نسبة الكون فى المكان الى عدم رضاء المالك ، ومعلوم
ان هذا لا يتقوم امره باللحاظ كما هو كذلك فى الاعتباريات بل له فى نفسه واقعية
كان هناك لاحظ او لم يكن ، ومجرد كون الرضاء وعدمه من الامور الباطنية الغير
المحسوسة بالعيان لا يصير الغصبية من سنخ الاعتباريات ، هذا لو كان الخلاف فى
الجواز والامتناع بمناط تعدد الجهة وعدمه ، ولا يبعدان يكون خلافهم فى ذلك مبتنيا
على هذا المناط لا غيره ، اذ لم يوجد لغيره فى كلامهم عين ولا اثر ، إلّا ان مرجع
النزاع فى ذلك الى النزاع فى الصغرى ، اى ان الجهتين هل يختلفان بالمنشإ او هما
متعدان فيه؟ فمن بنى على الاختلاف قال :
فى المسألة
بالجواز ، ومن بنى على الاتحاد قال فيها بالامتناع. واما ان كان الخلاف فى المسألة
مبتنيا على الخلاف فى السراية وعدمها ، فقد عرفت ان القائل بالجواز يقول به ، حتى
مع فرض اتحاد العنوان الواقع متعلقا للامر والنهى ، كما فى مثال اكرم العلماء ولا
تكرم الفساق فى العامين من وجه ، او اكرم العالم ولا تكرم العالم الفاسق فى العام
والخاص المطلق ، كما انه قائل بالجواز حتى فى مرتبة البعث والزجر ، ولا يختص قوله
ذلك فى مرتبة المحبوبية والمبغوضية ، كما كان ذلك بناء على اعتبار تعدد الجهة
والوجه فى ذلك ظاهر ، لان القول بالجواز بناء على اعتبار تعدد الجهة ، ناظر الى
اختلاف المتعلق ، فلا يجرى مع فرض اتحاده كما انه ناظر الى اجتماع الجهتين فى وجود
واحد ، ومعلوم ان الوجود الواحد لا يجوز ان يكون مورد البحث والزجر معا.
واما بناء على
الخلاف فى السراية وعدمها ، فمن يقول بالجواز يبتنى قوله ذلك على القول بعدم
السراية ، وظاهر انه مع عدمها يجوز توارد البعث والزجر على امرين مختلفين بالاضافة
، وان اتحدا فى المضاف كما فى مثال اكرام العلماء وعدم اكرام الفساق ، بل يمكن
البناء على جواز الاجتماع فى المحبوبية والمبغوضية فى متحد العنوان بناء على القول
بالسراية ايضا ، اذ لا يمتنع اختلاف الوجود الواحد فى المحبوبية والمبغوضية باعتبار
اختلاف حديه بالبيان المتقدم فلا نطيل بالاعادة ، فيكون هذا العالم الفاسق الخارجى
محبوب الاكرام لعلمه ، ومبغوضه لفسقه ولا ضير فيه اصلا ، اذ ليس مرتبة المحبوبية
والمبغوضية بالغة حد البعث والزجر اللذين يمتنع فرض اجتماعها على وجود واحد.
نعم يمكن قصد
التقرب فى ذلك الوجود بما له من الجهة المحبوبة ،
فلو كان ذلك
المأمور به من العبادات صحت العبادة مع قصد التقرب بتلك الجهة لا بتمام جهات ذلك
الوجود ، إلّا ان ذلك يبتنى على الاجتزاء بمثل هذا التقرب فى بعض جهات الوجود ،
والظاهر تسالمهم على خلافه ، فأنهم يعتبرون التقرب فى الوجود الواحد بتمام حدوده
وجهاته فالثمرة عديمة فى العبادات.
نعم هى ظاهرة فى
التوصليات الغير المفتقرة الى نية التقرب ، لكن لا مطلقا بل اذا كانت المصلحة فيها
غالبة على المفسدة ، واما اذا انعكس الامر فكانت المصلحة مغلوبة فى جانب المفسدة
فقد عرفت ان حكمه حكم المضيق الذى زوحم بالموسع يجب فيه مراعاة النهى وامتثاله
مقدما على الامر الموسع.
«فى ان اجتماع الامر
والنهى من باب التزاحم دون التعارض»
«بقى فى المقام
امور :» الاول : ان الخلاف فى هذه المسألة مفروض فيما يجوز فيه تحقق المقتضى
والملاك فى الامر والنهى ، وبذلك يفترق المقام عن مسئلة التعارض ، فانه على
التعارض لا يكون المقتضى للحكم موجودا الا فى واحد منهما ، او كان يحتمل انتفائه
عن احدهما حتى يتأتى فيه احتمال الصدق والكذب فى كل من الدليلين ، فيلتمس المرجح
الذى يستعلم به الصادق منهما ويمتاز به عن الكاذب ، وهذا بخلاف المقام فان الكلام
مفروض فيما يكون مقتضى الحكم الوجوبى الذى هو المصلحة ، ومقتضى الحكم التحريمى
الذى هو المفسدة ، كلاهما مجتمعين فى المجمع الذى يتصادق فيه العنوانان المتعلقان
للامر والنهى ، كما فيما مثلوا به من الصلاة والغصب ، فان الصلاة فى الدار المغصوبة
التى هى مجمع العنوانين ،
قد اشتملت على
مصلحة صلاتية ومفسدة غصبية ، ويقع التزاحم بينهما ، ويتأتى فيه الخلاف فى جواز
الاجتماع بين الحكمين وعدمه ، وقد عرفت ان القول بالجواز هو المختار ، اذا كان
المقصود من ذلك اجتماعهما من حيث المحبوبية والمبغوضية دون مرتبة الفعلية بعثا
وزجرا ، إلّا بناء على عدم السراية ، فانه يجوز بناء عليه الذهاب الى اجتماعهما فى
مرتبة الفعلية بعثا وزجرا ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله فراجع.
وانما الكلام هنا
فى بيان ما يستعلم به المورد الذى يقع فيه التزاحم بين الملاكين ، ويمتاز به عن
مورد التعارض فنقول وبالله نستعين فانه خير معين : ان علم بطريق يقينى باجتماع
الملاكين فى مجمع واحد ، بنى على ان ذلك من مورد التزاحم ويجىء فيه الخلاف المذكور
فى مسئلة اجتماع الامر والنهى ، وان علم بعدم تحقق ازيد من ملاك واحد فيه ، كان
ذلك من مسئلة التعارض ويجرى عليه احكامه ، وان لم يعلم بشيء من ذلك امكن استعلام
الحال من ظاهر الدليل القائم على الحكمين ، فان قوله (ص) صل ، كما يدل بالمطابقة
على وجوب الصلاة ، يدل بالالتزام على قيام المصلحة فى متعلق الحكم بلا اختصاص لها
فى قيامها بمورد دون مورد كما هو قضية الاطلاق ، وكذا قوله (ع) لا تغصب كما يدل
بالمطابقة على حرمة الغصب ، يدل بالالتزام على ان فيه مفسدة قائمة به لا تختص بحال
دون حال ، كما هو قضية اطلاق المقال ، فاذا اتفق اجتماع العنوانين وتصادقهما على
مصداق واحد ووجود فارد ، جاء التزاحم بين الملاكين وجرى فيه الخلاف المحرر فى
المسألة ، لكن يختص هذا النحو من الاستظهار فى مختلفى العنوان لا متحده ، فلو ورد
صل فى دليل وورد فى دليل آخر لا تصل ، كان ذلك من باب التعارض لا محالة ، لاستحالة
اشتمال
العنوان الواحد
على مصلحة ومفسدة يترتب عليهما الحكمان المختلفان وجوبا وتحريما ، فلا بد من ان
يكون احد الحكمين واردا بلا ملاك ومنشإ يقتضيه فيكون غير مطابق للواقع ، فيلتمس
الترجيح لاحد الدليلين حتى يتشخص الحجة الفعلية منهما المطلوب تصديقه ويميز به عن
غير الحجة كذلك ، وقد يتفق فى مختلفى العنوان ما تكون هناك قرينة عقلية قاضية ،
بأن الحكمين لم ينشأ الا عن ملاك واحد ، كما اذا فرض دلالة احد الدليلين على
الوجوب ودلالة الآخر على عدم الوجوب بشرط ان يكون دلالتهما على ذلك بالمطابقة دون
الالتزام ، مثلا لو فرض قيام دليل دل بمنطوقه على وجوب الصلاة ، وقام دليل آخر دل
بمنطوقه على عدم وجوب الغصب ، كان قضية الدليل الاول تحقق ما يقتضى الوجوب فى
المجمع ، وقضية الدليل الثانى انتفاء مقتضيه فى ذلك المجمع ، ومن المستحيل ان يكون
فى شىء واحد مقتضى الوجوب وعدم مقتضيه لاستحالة اجتماع النقيضين ، فلا بد من ان
يكون احد الدليلين صادقا فى مؤداه دون الآخر ، فيقع التعارض بينهما ويلتمس الترجيح
ويخرج عن مسئلة اجتماع الامر والنهى. والنكتة فى التقييد بالمطابقة دون الالتزام
فى مورد الفرض ، هو الاحتراز عن معارضة تورد هنا ، فيقال : ان الاختلاف فى الدلالة
على الوجوب وعدمه ، جار فى مثال المختلفين بالحكم الوجوبى والتحريمى ايضا لان دليل
التحريم كما هو دال على حرمة متعلقه ، كذلك هو دال على عدم وجوبه ايضا فيجيء فيه
الكلام المذكور فى تقريب التعارض ايضا. ويدفعه الفرق بين المقامين ، فان الدليل
القائم على الحرمة وان دل بالالتزام على انتفاء الوجوب ، إلّا ان دلالته عليه من
جهة اشتمال المتعلق على ما يزاحم الوجوب فى مورد يتصادق فيه العنوانان ، وذلك
المزاحم هو المفسدة القاضية بالتحريم ، لا لخلوه عن مقتضى
الوجوب.
فتلخص مما قررناه
ان ظاهر الدليل قاض بالبناء على المزاحمة ، الا فيما تقوم القرينة على خلافه ، وقد
قامت القرينة على الخلاف فى مقامين :
احدهما : فى متحد
العنوان والآخر : فى مختلفه ، واختلاف الحكم مطابقة بالوجوب وعدمه على اشكال فى
الثانى ، لا مكان منع دلالة دليل النافى للوجوب على انتفاء مقتضيه ، بل يجوز ان
يكون انتفاء الوجوب فى ذلك العنوان مستندا الى حصول ما يقتضى انتفائه ، كما قد
يتفق ذلك فى بعض المستحبات التى هى بحسب الاقتضاء الاولى ، ينبغى ان يكون من
الواجبات ، نحو التمسوك بالمسواك ، إلّا ان مصلحة التسهيل تكون مانعة عن الالزام
به ، فتضمن الدليل نفى الوجوب الاعم ، من كون المتعلق مشتملا على ما يقتضى عدم
الوجوب او لا يكون مشتملا عليه ، ولا دلالة للعام على الخاص كما لا يخفى ، ولا
يكون من باب التعارض الا على تقدير الثانى المفروض فيه دلالة الدليل على عدم تحقق
مقتضى الوجوب ، والدلالة على ذلك ممنوعة فتأمل.
اللهم إلّا ان
يدعى استظهاره من الدليل كما ادعاه شيخنا العلامة دام ظله وفيه نظر هذا.
وقد ذكر الماتن قده
فى الامر التاسع ما ملخصه ان الحكمين اذا كانا فعليين كانا من باب التزاحم على
القول بالجواز ، لثبوت المقتضى للحكم كليهما ، واما على القول بالامتناع يكون من
باب التعارض ، اذ بناء عليه يمتنع بقاء الحكمين على فعليتهما ، واذا لم يبقيا على
الفعلية فلا يكون فى البين ما يدل على وجود المقتضى لكل منهما ، اذ كما يجوز
ارتفاع الفعلية من الحكم بحصول المانع عن فعليته بعد وجود مقتضيه ، كذلك يجوز ان
يكون ارتفاعه لانتفاء مقتضيه.
اقول : اما ما بنى
عليه من لا بدية القول بالتزاحم بناء على القول بالجواز ، ففيه ان القائل بالجواز
لم يقل به باعتبار مرتبة الفعلية لاستحالته على وجه لا يكاد يخفى ذلك على فاضل
فضلا عن عالم ، وانما ذهب الى الجواز باعتبار مرتبة المحبوبية والمبغوضية ،
والرجحان والمرجوحية. نعم يجوز القول بالجواز بلحاظ الفعلية بناء على القول بعدم
السراية ، لكن ذلك خلاف مختار الماتن قده.
وربما يتخيل من
قوله بالتخيير العقلى فى افراد الطبيعة المأمور بها ، اختياره القول بعدم السراية
، وإلّا لكان التخيير بينهما شرعيا ، إلّا انه خيال فاسد جدا ، اذ ذلك تخيير عقلى
بلحاظ الخصوصيات الشخصية ، دون ما تنضم اليه من الحصص الفردية ، فان الحصص الفردية
محكومة بحكم الطبيعة ، ويسرى اليها الحكم بفعليته من جامع الطبيعة ما لم تكن ذلك
الحكم مزاحما بحكم آخر فعلى مثله كما فى مثل المقام ، فإن الحكمين الفعليين ايجابا
وتحريما ، يستحيل تواردهما بما لها من الفعلية على مورد التصادق ، وما هو المجمع
لمتعلقى الحكمين ، واذا ارتفعت الفعلية ، لم يبق ما يدل على وجود المقتضى للحكمين
، حتى يكون ذلك من باب التزاحم فتدبر.
واما ما بنى عليه
من التعارض على القول بالامتناع ، ففيه ان ظاهر الدليل يقتضى فى مثله بالبناء على
المزاحمة دون المعارضة ، لان مانع التضاد بين الحكمين انما منع من تنجزهما فى
مرتبة البعث والزجر ، فهذه قرينة عقلية قاضية بتعذر الفعلية والتنجز فى الحكمين ،
فيقتصر عليها فى مقدار قرينيتها ويبقى ظهور الدليل فى قيام المصلحة والملاك فى
المتعلق بحاله لا يصادمه شيء يدل على خلافه ولا ينثلم ظهوره بتلك القرينة الفعلية
المنفصلة ، فيكون المجمع المنطبق عليه العنوانان قد اشتمل على مصلحة ومفسدة ، وهما
متزاحمان فيه لا
متعارضان وهو ظاهر لا اظن ان يخفى على طلبة.
«حكم صلاة الغافل
والجاهل والناسى فى الدار المغصوبة»
«الامر الثانى :»
لا خلاف بينهم فى صحة الصلاة فى الدار المغصوبة مع الغفلة عن الموضوع ، او اعتقاد
الخلاف جهلا مركبا ، وكذلك الحال فى نسيان الحكم او جهله عن قصور لا تقصير ،
والوجه فيه امكان التقرب بالصلاة مع هذا الحال ، ولو برجاء محبوبيتها ورجحانها
بمغلوبية مفسدتها فى جنب المصلحة ، او بنية التوصل بها الى الغرض ، او اعتقاد
المطلوبية فى الجهل المركب.
وربما يعارض ذلك
بمن صلى قبل الوقت بزعم دخول الوقت ، فان صلاته باطلة قطعا ، من غير خلاف بينهم فى
ذلك ، وهو كمعتقد الخلاف فى مفروض المقام ، لا فرق بينهما من حيث الجهل المركب ،
فلا يتجه التفكيك بين المقامين بالحكم بالصحة فى الجاهل بالغصبية او ناسيها كما هو
مفروض المقام ، وبالحكم بالبطلان فيمن صلى قبل الوقت.
ويدفعه ان الفرق
بينهما ترتب الغرض هنا على الصلاة ، اذا اتى بها برجاء المحبوبية او اعتقاد
المطلوبية فان هذا المقدار ، كاف فى حصول القربة المعتبرة فى العبادة ، وهذا بخلاف
غيرها من الشرائط المعتبرة فى العبادة ، فان الغرض المطلوب من تلك العبادة ، لا
يحصل إلّا مع تحقق ذلك الشرط واقعا ، ولا يكفى فيها احتمال التحقق او اعتقاد تحققه
جهلا مركبا.
والحاصل انه فرق
واضح بين القربة وغيرها من الشرائط ، فان غيرها يعتبر تحققه واقعا ، بخلاف القربة
فانها اوسع دائرة من غيرها
من الشرائط ، لانه
يكفى فيها اتيان العبادة برجاء المحبوبية او اعتقاد الخلاف المطلوبية هذا.
وربما يوجه الصحة
فيما فرض من الغفلة او اعتقاد الخلاف او نسيان الحكم او جهله ، بأن الغفلة لما
كانت مانعة عن فعلية الحكم ، فلم يكن فى البين ما يزاحم المصلحة فى تأثيرها
بالارادة ، فكانت الصلاة على هذا ممحضة للارادة والطلب ، فيجوز التقرب بامتثال
امرها ، وتكون صحيحة ، وهكذا الحال فى نسيان الحكم والجهل المركب به ، واوضح من
ذلك نسيان الموضوع ، لانتفاء القدرة معه على امتثال النهى ، فيسقط التكليف النهيي
بالعجز ، وتبقى المصلحة على تأثيرها فى التكليف الصلاتى.
ويرد على هذا
الوجه ان المصلحة لما كانت فى العالم الواقع ونفس الامر ، مغلوبة فى جنب المفسدة ،
تمحض العمل للمبغوضية والكراهة فى نفس الامر والواقع ، فلم يحرز تعلق الارادة
بالصلاة فى مرتبة الفعلية فضلا عن مرتبة التنجز ، ويمتنع التقرب فيها بنحو امتثال
الامر الجزمى ، بل بنحو المتقدم من رجاء المحبوبية ، او التوصل به الى الغرض
فتأمل.
«الكلام فى الاضطرار»
«الامر الثالث» :
اذا اضطر الى الكون فى مكان غصبى وقد حل وقت الصلاة عليه ، فتارة يكون اضطراره
بغير سوء اختياره ، واخرى بسوء اختياره وعلى كلا التقديرين ، اما ان يكون المغصوب
الارض خاصة دون الفضاء ، واما ان يكون الامر بالعكس ، واما ان يكون المغصوب الارض
والفضاء كليهما ، وعلى جميع التقادير اما ان
يستمر الاضطرار
فيه الى آخر الوقت ، او لا يكون مستمرا كذلك ، فإن الاضطرار بغير سوء الاختيار
وكانت الارض هى المغصوبة دون الفضاء ، فليس له ترك الصلاة ، ضرورة ان الصلاة لا
تترك بحال ، فهى اولى بالمراعاة من الغصب لكن يجب الاقتصار فيها على المقدار
الواجب ، مما يلزم ايجاده ، فلو تمكن من الصلاة قائما على رجل واحدة ، تعين عليه
ذلك مما لم يستلزم عسرا ، والا صلى على رجليه ، وهكذا يتنزل من الاقل تصرفا فى
الدار المغصوبة الى الاكثر منه وليس له اختيار الصلاة المستوفاة لتمام ما يلزم
مراعاته فى حال الاختيار ، إلّا اذا لم تكن اضطراره مستمرا الى آخر الوقت ، فانه
يلزمه على هذا التقدير ، انتظار الساعة التى يتخلص فيها عن الغصب حتى يؤدى الصلاة
فيها على الوجه الاختيارى ، وان كان المغصوب هو الفضا دون الارض ، صلى صلاته على
وجه الاختيار اذ لا يتفاوت التصرف باختلاف المفروضة فى الصلاة قياما وقعودا
واضطجاعا ، اذ لا بد من مشغولية مقدار من الفضاء بقدر جسده ، وهو لا يختلف بين
انحاء الحالات والكيفيات ، فمن يكون قائما على قدميه يشغل من الفضاء بمقدار جلوسه
لو جلس ، لان القعود يأخذ من جوانب الجالس بمقدار ما يأخذ القيام من جانب العلو
والارتفاع وهكذا فى سائر الحالات ، وهذا مما لا يخفى على المعتبر المتفطن ، واذا
كان ذلك كذلك فمتى تضيق عليه الوقت ولم يكن له مندوحة من التخلص من الغصب ، جاز له
الصلاة الاختيارية ، ومثله الحال مع سعة الوقت لو علم باستمرار اضطراره الى آخر
الوقت ، فانه يجوز له الصلاة فى اول الوقت بصلاة مستوفاة الافعال ولا ضير فيه ، بل
يجوز له ذلك حتى مع فرض علمه بعدم استمرار الاضطرار الى آخر الوقت ، لان الصلاة
بعد ان كانت مطلوبة فى هذا الحال ولم يكن يتفاوت الحال عليه فى
اختلاف اوضاع
الصلاتية ، ولم تكن كيفية الصلاة بما هى كيفية لها تفتقر الى كون زائد على ما
يقتضيه اصل الكون الغصبى ، لم يكن بأس فى التقرب بالصلاة ، إلّا ان تقربه ذلك انما
يكون بالكيفية الصلاتية لا بالكون الغصبى ، لاشتماله على المفسدة المانعة عن
صلاحية التقرب به ولا ضير هنا فى التقرب بإتمام العمل لا تمامه ، اذ لم يقم اجماع
على اعتبار التقرب بالتمام الا فى حالة الاختيار دون الاضطرار فتأمل.
فتحصل انه على هذا
الفرض من غصبية الفضاء خاصة لا يتفاوت الحال بين صورتى استمرار الاضطرار الى آخر
الوقت وعدمه.
وان كان المغصوب
الارض والفضاء معا صلى صلاته مع الركوع دون السجود ، لانه فى السجود يلزم التصرف
الكثير الذى يزيد على القدر اللازم من الكون الغصبى ، وكذا يأتى ببقية الافعال
الصلاتية غير السجود ، لما عرفت من عدم استلزامه التصرف فى الارض والفضاء بما يزيد
على ترك الاتيان بتلك الافعال ، لو لم نقل بأن نفس القراءة والركوع تصرف زائد على
ما يقتضيه اصل الكون ، وكيف كان فبناء على العدم يسقط ما كان مقدمة لغيره كالهوى
الى السجود بسقوط ذى المقدمة ، لظهور سقوط الطلب الغيرى عند تعذر الغير مطلقا ،
فيصلى صلاة مستوفاة الافعال لا ينقض منها شيئا من افعالها الا السجود ومقدماته سوغ
ذلك له الاضطرار لكن بشرط استمراره الى آخر الوقت ، اما مع عدم استمراره كذلك فلا
يسوغ له الصلاة حتى ترتفع عنه الضرورة ويأتى بها غير ناقصة كما هى مطلوبة منه ،
لان الاضطرار عن الصلاة الاختيارية ، لا يكون إلّا على تقدير استيعاب العذر الوقت
بتمامه فلا يسوغ له التنزل الى الصلاة الاضطرارية مع التمكن من الاختيارية فى بعض
اجزاء الوقت ، كما لا يسوغ له ذلك ايضا لو كان
يمكنه الخروج من
تلك الارض المغصوبة على وجه كان يسعه الصلاة فى خارج الارض قبل خروج الوقت كما لا
يخفى ، اما اذا ضاق عليه الوقت صلى وهو اخذ بالخروج ويلزمه الجمع بين الصلاة
والخروج ، لكن يجب ان يقتصر فى صلاته على الافعال الغير المؤدية الى المكث الذى
يزيد على اصل الخروج ، هذا كله الكلام فى الاضطرار الغير الناشى عن سوء الاختيار ،
واما ما كان منه ناشيا عن سوء الاختيار فلا ينبغى الارتياب فى استحقاقه العقوبة
على الدخول ، وعلى كل تصرف يحصل منه فى ذلك المكان ولا تصح منه العبادة الا ما
تكون اهم فى نظر الشارع من الغصب كالصلاة ، فانها مقدمة على الغصب لكن بالنحو
الغير الكامل ، فيأتى بكيفية صلاة الغريق مقتصرا فيها على الاشارة للركوع والسجود
، اذ القدر الثابت من الدليل هو اهمية الصلاة بمعناها الجامع بين الافراد من الغصب
دون الفرد الاختيارى.
اللهم إلّا ان
يقوم دليل خاص يقضى بلزوم مراعاة الافعال الاختيارية فيها مع هذا الحال ، والفرض
خلافه.
بل قد يقال :
باستحالة الجمع بين حرمة الغصب وجواز استيفاء الافعال الصلاتية ، اذ لو كانت
الصلاة الاختيارية فى نظر الشارع اهم من الغصب لكان يجوز ارتكاب الغصب والدخول فى
المكان الغصبى مقدمة للصلاة ، لان المهم يسقط حكمه بمعارضته مع الاهم ، فيجوز بناء
على ذلك الدخول فى المكان الغصبى لغرض ايقاع الصلاة فيه ، وبطلان اللازم دليل على
بطلان الملزوم هذا.
ولكن التحقيق ان
الاهمية لا تستلزم جواز الدخول فى المكان الغصبى ، اذ ترك الصلاة فى ذلك المكان
تارة يكون بترك الدخول فيه واخرى بترك التشاغل بالصلاة بعد الدخول فيه ، ويجوز
التفكيك بين التركين فى المحبوبية والمبغوضية ، فيكون ترك الصلاة فى ذلك
المكان من ناحية
ترك الدخول فيه محبوبا ، فيكون دخوله فيه ولو لغاية الصلاة فيه منهيا عنه ومعاقبا
عليه ، إلّا ان ترك الصلاة فيه من غير هذا الوجه يكون مبغوضا ومنهيا عنه ، فلا
يجوز له بعد الدخول فى ذلك المكان ان يترك الصلاة فيه ، بل يلزمه الصلاة فيه رعاية
لما فيها من المصلحة التى هى اهم واولى بالمراعاة من التشاغل بغير الصلاة من سائر
الافعال والحركات ، وهذا غير مستحيل بنظر العقل السليم لو قال دليل يدل على اهمية
الصلاة الاختيارية على غيرها من الحركات الغصبية إلّا ان الشأن كله فى قيامه ، ولم
نقف بعد الى الآن على ما يدل على ذلك الا قوله (ع) : الصلاة لا تترك بحال وهو انما يمنع عن تركها بما هى صلاة لا بما هى صلاة اختيارية
، فيلزمه اختيار ادنى افراد الصلاة الاضطرارية ، وهى التى تكون بالاشارة والايماء
نحو صلاة الغريق ، رعاية للجمع بين النهى عن الغصب والنهى عن ترك الصلاة بحال هذا.
وقد ذكر هنا وجه
آخر فى جواز اختيار الفرد الاختيارى من الصلاة من بعد الدخول ، وتقريبه ان المنافى
للتقرب فى العمل العبادى ، ليس إلّا مبعديته عن ساحة القرب الى حضرته تبارك وتعالى
، ولا يكون ذلك فى المنهى عنه الا حيث يكون متعلق النهى مقدور الترك للمكلف ، واما
اذا اضطر الى ارتكابه يسقط عنه النهى ولم يكن مبعدا قطعا ، ومعلوم ان القدرة على
الشىء تارة تكون مطلقة فيكون الشيء مقدور الترك والايجاد من جميع الوجوه واخرى لم
تكن مطلقة بل قدرة على الشيء من وجه دون وجه والتكليف تبع القدرة ، فان كانت مطلقة
كان مطلقا وإلّا كان مقيدا بقيد القدرة ، وفى مفروض الكلام ليست
__________________
القدرة على ترك
الغصب الا من وجه ترك الدخول ، واما من غيره فهو مضطر الى الغصب فليس عليه الا
التكليف بترك الدخول ، وقد سقط هذا التكليف بعصيانه فى اختيار الدخول ، وليس عليه
تكليف آخر بحثه على ترك الصلاة فى ذلك المكان حتى يكون ذلك مبعدا له ومانعا عن
التقرب له فى صلاته فله حينئذ ان يأتى بالصلاة بقصد التقرب بها الى الله تعالى وقد
اختار هذا الوجه شيخنا الاستاذ مد ظله.
ويمكن الخدشة فيه
بأن المبعدية تتبع تنجز التكليف ، ويكفى فى تنجزه قدرته على امتثال النهى بترك
الدخول وان سقط عنه الخطاب بعد الدخول لتعذر الخروج عليه حسب الفرض ، إلّا ان اثر
النهى من العقوبة والمبعدية له باق عليه ما دام فى ذلك المكان ، فكل فعل يفعله فى
ذلك المكان يجرى عليه حكم المعصية والمخالفة للتكاليف المنجزة ولا يجديه امتناع
التخلص عن الغصب بعد اختياره الدخول بسوء الاختيار ، فإن الامتناع بالاختيار لا
ينافى الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا فتامل.
ثم ان ما سمعته من
الكلام المتعلق بالصلاة فى ذلك المكان ، قد كان مفروضا فيمن لا يستطيع الخروج عنه
فلا ريب فى وجوب الخروج عليه ، وهل حركته للخروج تعد مقدمة له او هو نفسه؟ ويتضح
لك الحال فى تحقيقه من تحقيق الحال فى الغصب ، فان كان هو من مقولة الاين اى الكون
الشاغل للمحل ، كان الخروج بعينه الحركة ، اذ هى عبارة عن تبدل الاكوان والخروج
ليس الا كون الجسم فى مكان بعد كونه فى مكان آخر ، وان كان الغصب من مقولة الفعل
اى اشغال المحل فى قبال افراغه ، كان الخروج غير الحركة وكانت الحركة مقدمة له لان
الحركة سبب لافراغ المحل الغصبى عن الجسم واشغال غيره به ، وبالحركة يتحقق الاشغال
والافراغ ، ولا يتفاوت الحال فى ذلك بين
انحاء الحركة ،
فانها تختلف سرعة وبطوءا ، طولا وقصرا ، فإن المقدمية تجرى فى مجموع الحركة
المترتب عليها الخروج ، سواء فرض الرجل واقفا شفير المكان الغصبى ، او بعيدا عنه
بمقدار يفتقر تحقق الخروج عنه الى طى مقدار من المسافة ، فان الفرضين يشتركان فى
المقدمية او الاتحاد على الوجهين.
والحاصل ان الغصب
والتخلص عنه بالخروج من واد واحد ، فان كان الغصب من مقولة الاين كان الخروج كذلك
، وكانت الحركة التى هى عبارة عن تبدل الاكوان متحدة مع الخروج ، اذ ليس الخروج
الا كون الجسم فى مكان بعد كونه فى مكان آخر وهو بعينه الحركة ، وان كان الغصب من
مقولة الفعل اى اشغال المحل الغصبى كان الخروج افراغه واشتغال غيره ، وتكون الحركة
على هذا امرا مغايرا للخروج ، لان تبدل الاكوان الذى هو معنى الحركة ليس بعينه
الافراغ والاشغال ، بل انما هى سبب لهما فتكون حينئذ مقدمة للخروج ، وكيفما كان لا
بد له من الخروج وهذه الحركة المحققة للخروج واجبة عليه عقلا ، اما بمناط المقدمية
او ارتكابا لأقل القبيحين ، وهذا لا اشكال فيه وانما الاشكال فى ان هذه الحركة
محبوبة او ليست كذلك؟.
وتظهر الثمرة فيما
لو اراد الصلاة فى حال الخروج ، فانه بناء على محبوبية مثل هذه الحركة الخروجية
يجوز له الصلاة تامة الافعال بمقدار لا يؤدى الى المكث الذى يزيد على اصل الخروج ،
وهو لا يسع زيادة على صلاة الغريق فلا محصل لهذه الثمرة الا عدم التزاحم فى صورة
المحبوبية ، وبناء على عدمها لا بد له من الاقتصار على صلاة الغريق كما تقدم.
وربما يوجه القول
بالمحبوبية بأن المحرم هو الاختيارى وليس مثل هذا الكون فى هذا الحال اختياريا اذ
لا يستطيع تركه فى هذا
الحال ، وانما كان
له تركه بترك الدخول وقد عصى بدخوله ، فما يقع منه بعد ذلك من الكون والحركة فى
ذلك المكان ، لا يكون مبغوضا ولا مبعدا له ، فيجوز ان يكيفه بكيفية الصلاة ، ويكون
ذلك الفعل منه محبوبا كما تقدم شرحه.
والحاصل ان البناء
على مبغوضية مثل هذه الحركة بعد العصيان بالدخول يبتنى على عدم التفكيك فى التروك
وقد ذكرنا آنفا امكان القول بالتفكيك ، فيكون الفعل من وجه مقدورا على تركه لا من
وجه آخر ، فاذا عصى النهى من الوجه المقدور على امتثاله ، لم يبق له تأثير من غير
ذلك الوجه المتعذر عليه امتثاله ، ولا يكون ذلك الفعل من غير ذلك الوجه مبغوضا ،
حتى يمتنع طرو المحبوبية عليه ، فصح لنا دعوى جواز التقرب بهذه الاكوان والحركات
الواقعة من بعد الدخول لو أتى بها فى ضمن الصلاة المطلوبة ، اذ لا يمكن تركها بعد
اختيار الدخول ، ومال شيخنا الاستاذ مد ظله الى هذا الوجه ، وفيه نظر يظهر لك مما
قدمناه فلا نطيل بالاعادة. نعم لا دخل للتوبة فى جواز الصلاة ، لو تاب وندم عن
الغصب جاز له صلاة المختار فى حال الخروج بنحو لا يستلزم المكث الطويل الذى يزيد
على اصل الخروج فتدبر.
«تنبيهان»
«الاول» : انه لا
ترجيح للنهى فى نفسه على الامر عند المزاحمة بناء على الامتناع ، وان كان ذلك قولا
معروفا عند المانعين ولعله فى خصوص مثال الغصب والصلاة ، بملاحظة ان الغصب من حقوق
الناس المقدم على مثل الصلاة التى هى من حقوق الله تعالى ، بل قد يقال
بخروج الغصب والصلاة
عن باب المزاحمة لكون المطلوب فى الصلاة صرف الوجود ، لا بنحو السريان فى جميع
الافراد ، فمع سعة الوقت والتمكن من الصلاة فى غير المكان الغصبى لا يكون حينئذ
تزاحم بين الصلاة والغصب ، بل الغصب فيه لازم المراعاة فى جميع موارد انطباقه فليس
له اختيار الصلاة فى المكان الغصبى ، ولقد دريت الوجه والعلة فى ذلك فى المباحث
السابقة ونشير اليه هنا ايضا جديدا ، فانه من المعلوم ان المهم حيث يكون مضيقا هو
اولى بالمراعاة من الموسع وان كان اهم فى رعاية المصلحة ويحكم بذلك الحكم العقلى
البديهى ، لان رعاية المضيق مع هذا الحال جمع بين المهم والاهم جميعا ، فلو راعى
الموسع فاته المضيق ولم يمكنه تداركه ، بخلاف العكس.
نعم اذا كانا
كلاهما مضيقين ، كما لو اتفق انحصار الوقت الصلاتى فى آخر الوقت ولم يمكن ايقاع
الصلاة فى غير المكان الغصبى ، فانه حينئذ يجىء التزاحم بين المأمور به والمنهى عنه
، وكذا اذا اتفق ان امر بالصلاة بوجه السريان فى تمام الافراد المفروضة فيما بين
الزوال والغروب ، فكان الامر الصلاتى على هذا من قبيل النهى عن الغصب ساريا فى
تمام الافراد فانه يأتى فيه التزاحم ايضا.
وبالجملة :
التزاحم المبتنى عليه الكلام فى هذا المقام لا يتأتى فيما يكون الامر فيه موسعا
وكان المطلوب فيه الطبيعة بنحو صرف الوجود ، فان قرع سمعك فى مثال الغصب والصلاة
انه من امثلة اجتماع الامر والنهى ، فانما هو على فرض الطبيعة فى جانب الامر ، كما
فى جانب النهى من قبيل الطبيعة السارية ، لكن فى مثال الغصب والصلاة لا بد من
امتثال الامر الصلاتى عند المزاحمة ، لان الصلاة لا تترك بحال إلّا انه يلزمه
امتثاله فى فرد لا يستتبع التصرف بالحركات والسكنات الصلاتية ، ومقتضاه سقوط
الافعال الصلاتية وانحصار
الوظيفة بالنحو
الذى يصليه الغريق ، وعلى اى حال مثال الغصب والصلاة فيه مزية الترجيح للنهى من
حيث كون متعلقه حق الناس فيترك من اجله افعال الصلاتية ، وانما الشأن فى غير هذا
المثال ، فهل هناك دليل يدل على ان الترجيح للنهى حيثما كان ، حتى يكون ذلك
كالقاعدة التى لا تخرج عنها بغير مخصص؟
وقد ذكروا فى وجه
الترجيح جملة من الامور الموهونة طوينا عن ذكرها اكتفاء بما فى المتن ، ومن الغريب
استدلالهم لترجيح النهى ، بأن دلالة الامر على الاستيعاب اطلاقى يفتقر الى تمامية
مقدمات الحكمة ، ودلالة النهى عليه وضعى لا يكاد يفتقر الى ذلك ، فيصلح ان يكون
بوضعه بيانا لما اريد من الامر بتقييد اطلاقه بغير مورد الغصب ، وفيه ان هذا
التقريب انما يناسب التعارض دون التزاحم فلا مساس له بهذه المسألة المبتنية على
المزاحمة ، على ان الحكم بترجيح النهى للوضع على الامر الاطلاقى ليس مسلما على
اطلاقه ، بل المدار فى التقديم ، على اقوى الظهورين كما سيجيء فى محله إن شاء الله
تعالى. وهذه الاقوائية لا تختص بالنهى ، بل قد يكون الامر فى دلالته على الاستيعاب
اظهر من النهى.
ويحكى عن بعض
الكتب الاستدلالية الاستدلال للترجيح ، بما ورد عنهم (ع) ما اجتمع الحلال والحرام
الا وغلب الحرام الحلال ، بتقريب ان المغالبة بين الحرام والحلال ، لا تكون الا
حيث يكون للحلية مقتض فى قبال مقتضى الحرمة ، فينحصر مفاد الرواية بمورد المزاحمة
خاصة ، فتكون نصا فى حكم هذه المسألة.
إلّا ان الذى يتجه
على هذا الاستدلال عدم الوقوف على الرواية
فيما يحضرنى من
كتب الاحاديث ولم اجد فى كلمات الاوائل من اخذ هذه الرواية مستمسكا
لتقديم النهى ، وهذا موهن آخر لها.
مضافا الى ان فى
بعض الاخبار ما يعارض هذه الرواية بلسان ما حرم حرام حلالا قط وبغير هذا اللسان فى بعض آخر منها فتأمل.
«الثانى» : انك قد
عرفت الفرق بين ابتناء الخلاف فى المسألة ، على كفاية تعدد الجهة ، وبين ابتنائه
الى القول بسراية الطلب الى الافراد والقول بعدم السراية ، وان مثال اكرم العلماء
ولا تكرم الفساق انما يدخل فى عنوان النزاع الثانى ، اعنى القول بالسراية دون
الاول ، والمعروف تحرير النزاع بينهم بالوجه الاول ، فلا وجه لما فى الكفاية من
اندراج هذا المثال فى محل النزاع المذكور فى كلمات القوم فأفهم وتأمل.
«فى اقتضاء النهى
الفساد وعدمه»
«فصل» : النهى عن
الشيء هل يقتضى الفساد ام لا؟ فيه خلاف وينبغى ان يعلم اولا الفرق الواضح بين
اقتضاء الفساد المتنازع فيه فى هذه المسألة ، وبين اقتضائه فى المسألة السابقة اعنى
اجتماع الامر والنهى ، اذ الفساد هنا باعتبار خروج المنهى عنه عن المأمور به فهو
من باب التعارض دون التزاحم كما فى المسألة السابقة ، وتظهر
__________________
الثمرة فيمن نسى
وصلى فى المكان الغصبى ، فانه على التزاحم لا بأس بتلك الصلاة وتكون الصلاة صحيحة
، بخلافه على التعارض ويستعلم الحال من القرائن الحالية او المقالية ، وقد تقدم فى
المسألة السابقة بعض الكلام فيما يتميز به التعارض عن التزاحم فى بعض الامثلة ،
فلا وجه لما وقع فى بعض الكتب كما فى الكفاية من جعل البحث عن المسألة السابقة من
صغريات البحث فى هذه المسألة فلا تغفل.
«التحقيق فى معنى
الصحة»
ثم ان الصحة
معناها التمامية ومفهومها واحد ، وهى من الامور الاعتبارية الغير المتأصلة فى
الوجود فهى من المعقولات الثانية كالملكية المنتزعة عن الاضافة الخاصة الناشية عن
الجعل الشرعى ، وهنا كذلك فان الصحة بمعنى التمامية ، منتزعة عن حقيقة التمامية
المنتزعة عن موافقة الامر او اسقاط القضاء ، فهاهنا امور ثلاثة مفهوم وحقيقة ومنشأ
انتزاع ، وهذا هو الفارق بين الامور الاعتبارية ، والامور المتأصلة ، فإن الامور
المتأصلة ليس لها وراء منشأ انتزاعها ، الا حقائقها المتأصلة فى الوجود ، وهذا
بخلاف الامور الاعتبارية فان الجعل هو منشأ انتزاع الحقيقة ، ثم من بعد انتزاع
الحقيقة ينتزع العقل مفهوما واحدا منطبقا على تلك الحقيقة وهما يشتركان فى اتحاد
الحقيقة المنتزعة عن منشأها ، ولا يكون اختلاف المناشئ موجبا لاختلاف الحقيقة ،
لخروج المنشأ بواقعه عن الحقيقة المنتزعة ، ومن ثم لم يكن ترادف بين الحقيقة ومنشأ
انتزاعها ، وبهذا يبطل القول باختلاف حقيقة الصحة باختلاف منشأ انتزاعها كما ذهب
اليه الماتن على خلاف المنقول عن التقريرات.
«المختار فى المسألة»
واذ دريت ذلك
فأعلم الحق ان النهى النفسى المولوى اذا تعلق بالعبادة ، دل على فسادها ، ان
استفيد منه المبغوضية النفسية واقعا ولو بالقرنية لا من ظاهر الكلام ، لغلبة ارادة
المبغوضية الغيرية من النواهى الواردة بصورة النهى النفسى ، كما فى النهى عن شرب
الخمر مثلا ، فإن ظاهره يدل على الحرمة النفسية ، وفى عالم اللب والواقع انما كان
مبغوضا ، لانه وسيلة الى العداوة واثارة الشحناء كما نطقت به الآية المباركة «انما
يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله
وعن الصلاة فهل انتم منتهون » فلا يجوز الاخذ بظاهر النهى فى النفسية والاستدلال به على
المبغوضية النفسية ، بل انما يستفاد ذلك من القرنية ، فاذا اتفق هناك ما يدل على
مبغوضية المنهى عنه فى نفسه ، لزم من ذلك الحكم بفساد العبادة لو أتى بها حتى مع
الجهل والنسيان كما هو المراد من الفساد فى هذا المبحث ، وجه الملازمة ان
المبغوضية لا تتحقق الا حيث يخلو المبغوض عن المصلحة ، واذا خلا عن المصلحة لم يبق
فى البين ملاك الصحة فى تلك العبادة ، نعم لو لم تقم قرينة دالة على مبغوضية
المنهى عنه نفسا ، امتنع الحكم بفساد العبادة من مجرد تعلق النهى بها لجواز ان
تكون مبغوضيتها الواقعية غيرية ، وهى لا تنافى قيام المصلحة فى ذات العبادة فى
نفسها ، ويتحقق بذلك ملاك الصحة لو أتى بها مع الغفلة عن النهى المتعلق بها. نعم
اذا التفت الى ذلك النهى المتعلق بها ، فلا محيص من الحكم بفسادها إلّا ان هذا
فساد ناش من
__________________
المبعدية المنافية
لنية التقرب ، وليس هو فساد ناش من انتفاء المصلحة فى العبادة ، والمنظور اليه فى
هذا المبحث هو الفساد الثانى دون الاول ، وان كان قد وقع فى بعض كلمات الاواخر ما
يظهر منه اندراج الفساد بالمعنى الاول فى محل الكلام فى هذه المسألة ايضا ، إلّا
ان ذلك اشتباه وخلط بين المسألتين.
وبالجملة النهى
النفسى المولوى المتعلق بالعبادة لا يدل على فسادها ، الا مع قيام قرينة تقضى
بالمبغوضية النفسية فى ذلك المنهى عنه ، واما النهى الارشادى فقد يراد منه دفع
توهم الوجوب ، وقد يراد منه دفع توهم المشروعية ، وقد يراد منه الارشاد الى فساد
العبادة ، ولا كلام فى الصورة الثالثة ، وهى تارة تكون بلسان لا تتكتف فى الصلاة
الدال على ان التكتف مانع عن صحة الصلاة ، واخرى بلسان لا تصل متكتفا الدال على
اختلال الصلاة المقرونة بالتكتف ، واما الصورة الاولى فليس فيها لسان نفس
المشروعية ، فلو قام دليل دال على مشروعية مثل تلك العبادة ، لم يكن بمنطوقه
معارضا لهذا النهى ، بل مقتضى الجمع بينهما ان تكون تلك العبادة مسنونة غير واجبة.
نعم اذا لم يقم ما
يدل على مشروعية تلك العبادة كان التعبد بها تشريعا محرما وهذا بخلافه على الصورة
الثانية فان صريح منطوق النهى يقضى بعدم مشروعية تلك العبادة المنهى عنها ، فهو
بمدلوله المطابقى يعد معارضا لما يدل على المشروعية لو فرض قيام الدليل عليها فى
رواية اخرى ، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا اذا اختلف الدليلان فى الحكم بالمشروعية
نفيا واثباتا ، فكان النافى ينفى فعلية المشروعية والمثبت يثبتها اقتضاء إلّا
بالفعل فتكون العبادة على هذا الوجه لها اقتضاء المشروعية ، وان لم تكن مشروعة
بالفعل. فتطهر الثمرة فيمن صلى جاهلا بالنهى فإن تلك العبادة تكون صحيحة ، اذ لا
اثر
لما تعلق بها من
النهى لفرض غفلته عنه او جهله به فلا يصلح النهى فيه مع هذا الحال ان يكون مانعا
عن صحة التقرب بتلك العبادة الواحدة لملاك الصحة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن فى
البين ما يدل على المشروعية الاقتضائية ، فان العبادة على هذا تكون فاقدة لملاك
الصحة ، فلا تصح فى حال الجهل والنسيان فضلا عن حال الالتفات.
هذا كله بيان حال
النهى المتعلق بالعبادة نفسها ، اما اذا تعلق بجزئها او شرطها او وصفها ، ففيه
تفصيل فإن كان من قبيل الاول اى المتعلق بجزء العبادة يجىء فيه الصور المفروضة فى
النهى المتعلق بالعبادة ويعرف حكمها بالمقايسة ، فان كان النهى عن الجزء مولويا ،
كشف ذلك عن اشتمال الجزء على مفسدة قائمة فيه نفسه ، فيستدل بذلك على انتفاء
المصلحة فيه وخلوه عن ملاك الصحة ، ومقتضاه فساد العبادة المقرونة بذلك الجزء لو
أتى بها كذلك ، من غير فرق بين حالتى العلم والجهل.
وان كان النهى
ارشاديا اريد منه دفع احتمال توهم الوجوب ، فلا بأس بالعبادة المشتملة على ذلك
الجزء اذا ساعد الدليل على مشروعيته ، وعلى هذا القياس يختلف الحكم بالنحو المزبور
فى الفرض السابق.
واما ان كان النهى
من قبيل الثانى اى المتعلق بشرط العبادة ، فهو كما اذا تعلق بجزئها لا فرق بينهما
، الا فى ان النهى عن الشرط لا يقتضى إلّا ان يكون فى ذلك الشرط مفسدة غيرية ،
بخلاف النهى عن الجزء فانه يقتضى اشتمال الجزء على مفسدة نفسية ، والسر فى ذلك ان
النهى عن الشرط نهى غيرى ، فيكشف عن مفسدة غيرية ، بخلاف النهى عن الجزء فانه نهى
نفسى وهو انما يكشف عن مفسدة نفسية واذا اختلفا فيما يكشفان عنه من المفسدة كانا
مختلفين من
اجل ذلك فى الحكم
، فكان النهى عن الجزء قاضيا بفساد العبادة مطلقا لخلوه عن ملاك الصحة ، بخلاف
النهى عن الشرط فانه غير مانع عن قيام المصلحة النفسية فيه التى تصح بها العبادة
فى الجملة ، ولو حال الغفلة والنسيان كما هو ظاهر.
وان كان النهى من
قبيل الثالث اى النهى المتعلق بصفة العبادة كالنهى عن الجهر فى القراءة ، فمثل هذا
العنوان حاك عن جهة غير متحدة مع القراءة ، فكل من الجهر عنوان له بحذاء خارجى لا
ينطبق احدهما على الآخر ، فهما متحدان وجودا لا موجودا ، فاذا كان فى الجهر مفسدة
قائمة به كان ذلك غير مرتبط بعالم القراءة ، فتكون الحرمة على هذا الوجه مختصة
بالجهر ولا تتعدى الى القراءة ، فلو قرء بالجهر كانت قراءته صحيحة ، وان كان عاصيا
فى جهره بها.
اللهم إلّا ان
يفهم الارشادية من امثال هذه النواهى المتعلقة بصفات العبادة ، حتى يكون ظاهر
النهى فيها دالا على مانعية الوصف المنهى عنه عن صحة الموصوف ، وقاضيا بفساد
العبادة المقرونة بتلك الصفة ، ولا يبعد ان يكون مثل هذه الاستفادة غالبية فى
النواهى المتعلقة بأوصاف العبادة ، إلّا ان تقوم قرينة صارفة عنه ، كما ربما يدعى
قيامها فى مثل النهى فى لا تغصب فى هذه الصلاة ، فان ارتكازية الحرمة التكليفية فى
الغصب تدافع الظهور الثانوى فى النهى المتعلق بصفة العبادة وتصرفه الى معنى الحرمة
التكليفية فى الغصب حال الصلاة دون المانعية فتأمل .
__________________
«الكلام فى النهى
المتعلق بالمعاملات»
هذا كله الكلام فى
النهى المتعلق بالعبادات ، واما ما تعلق منه بالمعاملات ، فلا ريب ان المنصرف من
النهى فيها هو المعنى الارشادى فيراد من ذلك النهى بيان انتفاء المشروعية عن تلك
المعاملة وهذا ظهور ثانوى للنهى المتعلق بالمعاملة ، فلو كان فى البين ما يدل
بعمومه على شرعية ذلك المنهى عنه وجب تخصيصه بذلك النهى.
نعم ان قام ما يدل
على ارادة المولوية فى ذلك المنهى ، لم يكن لذلك النهى دلالة على الفساد بل قيل
بدلالته على الصحة ، كما يعزى ذلك الى بعض نظرا الى ان المولوية فى النهى تستدعى
القدرة على الامتثال وعلى العصيان بالمخالفة ، ومعلوم ان الاقتدار على طرفى
المعاملة وجودا وعدما ، لا يكون إلّا على تقدير صحتها وإلّا لم تحسب تلك المعاملة
معاملة فى الحقيقة لو كانت فاسدة.
وبعبارة اوضح ان
النهى عن المعاملة الكذائية ، يئول الى النهى عن التسبب الى الانتقال بالسبب الخاص
، فلو لا ان يكون التسبب الى ذلك الانتقال بذلك السبب اختياريا مقدورا للمكلف لما
ساغ النهى فى حقه قطعا ولعمرى هذا ظاهر بين لا سترة عليه اصلا كما لا يخفى ، بل قد
يستظهر منه الصحة حتى فيما يتعلق منه بالعبادة ايضا ، وانما يكون ذلك فى العبادات
الذاتية التى لا يتوقف صحتها فى مرحلة العبادة الى التقرب المحقق لعبادية العبادة
، وانما التقرب يعتبر فى غير العبادات الذاتية ، فلا ريب ان الخضوع الى الله جل
شأنه بأى نحو وقع يعد عبادة له تبارك وتعالى ، وان كان هو محرما لو وقع بخصوصية
خاصة كالتكتف مثلا
، فيكون مثل هذه العبادة صحيحة فى مرحلة التعبد والعبادة ، وان كانت فاسدة فى مرحلة
التقرب الى حضرة الحق جل وعزّ فتأمل جيدا.
«البحث حول المفاهيم»
«المقصد الثالث فى
المفاهيم مقدمة :» ان اللفظ ان دل على المعنى بالملازمة ، فان كانت دلالته عليه
تفتقر الى تأمل وتدقيق نظر فى ذلك المعنى ، ولا يكون الانتقال اليه من الملزوم
سهلا وامرا واضحا بينا ، كانت تلك الدلالة من الدلالة الالتزامية الغير البينة ،
وان لم تفتقر الا الى نظر تفصيلى بالملازمة ولا يكون الالتفات الى اللازم من بعد
الالتفات الى الملازمة بتلك المثابة من الخفاء الذى يحتاج فيه الى نظر تفصيلى آخر
يتعلق باللازم ، كانت تلك الدلالة من الدلالة الالتزامية التى هى من البين بالمعنى
الاعم ، وان سهل الحال فى الانتقال بجميع مباديه الذى هو الالتفات الى الملازمة
والانتقال الى اللازم ، كانت تلك الدلالة من الدلالة الالتزامية البين بالمعنى
الاخص.
ثم ليعلم ان
القضية شرطيها وحمليها ، لها ظهور فى اختصاص الموضوع بما لها من الحكم التى تتضمنه
، ومن ثم اشتهر بينهم القول بالتنافى بين ظاهرى الدليلين الوارد احدهما بلسان
المطلق والآخر بلسان المقيد ، مع العلم بوحدة المطلوب كما فى اعتق رقبة ، واعتق
رقبة مؤمنة ، لاقتضاء الاول اختصاص الرقبة بما هى رقبة فى حكم العتق ، والثانى بما
هى مؤمنة ، فالتجئوا من هذه الجهة الى الجمع بينهما بجمل المطلق على المقيد ، ولو
لا دلالة القضية بظاهرها على اختصاص الموضوع
بالحكم ، لما جاء
التنافى ، ولما كان فى الجمع بينهما خروج عن ظاهر المطلق ترجيحا لا ظهرية المقيد
لجواز ان يكون الموضوع اضيق دائرة من حكمه ، او يكون اوسع فهذا اقوى شاهد على ظهور
القضية فى نفسها باختصاص الموضوع بذلك الحكم المذكور فيها ، غاية ما فى الباب ان
حكمها شخصى متساوى المقدار مع موضوعه ، ولا ينافى ذلك ان يثبت مثل هذا الحكم
الشخصى لموضوع آخر ففى مثال ضرب زيد ، يكون لظاهر القضية دلالة على اختصاص شخص هذا
الحكم فى زيد ، ولا ينافى ذلك ان يثبت لعمرو ضرب شخصى نظير ما ثبت لزيد وليس
الثابت لعمرو بعين ما ثبت لزيد بل مثله ، والفرق بين المثلية والعينية على ذوى
البصائر.
والحاصل ان هذا
المقدار من استفادة اختصاص الموضوع بشخص الحكم المذكور فى القضية ، مما لا اشكال
فيه ولا شبهة يعتريه ، وانما الاشكال كله فى ان هذه القضية هل تدل على اختصاص
الموضوع بالحكم بتمام مراتب الحكم المطلق المستلزم لانحصار الحكم فى جميع مراتبه
ووجوده فى زيد ، حتى يمتنع بظاهر اللفظ ان يثبت الحكم لغير زيد من الموضوعات
الخارجية؟ او تدل على اختصاص الموضوع بالحكم فى الجملة اى بمطلق الحكم الصادق على
الشخصى منه بنحو القضية المهملة التى لا يمتنع انطباقها على واحد شخصى؟ ولازم ذلك
انتفاء المفهوم والقول بعدم دلالة القضية عليه ، وهذا هو المراد من قولهم : ان
القضية هل تدل على اختصاص سنخ الحكم بالموضوع او شخصه؟ فان المراد من السنخ هو
الدلالة على الحكم المطلق دون مطلق الحكم الذى هو فى معنى القضية المهملة التى هى
فى قوة الجزئية والشخصية ، كما ان المراد من شخص الحكم هو الدلالة على انتساب شخص
الحكم الى ذلك الموضوع فى تلك القضية ،
فتكون القضية على
هذا قضية شخصية وبحكمها المهملة الدالة على انتساب مطلق ، فاذا كان للقضية ظهور او
قرينة تقتضى الدلالة على انتساب سنخ الحكم الى موضوعه كان لتلك القضية مفهوم ،
وذلك المفهوم اما ان يكون مفهوم لقب او مفهوم غاية او مفهوم شرط او مفهوم صفة.
وربما يحتوى
الكلام على تلك المفاهيم كلها بالقرينة او بظاهر اللفظ ، كما لو قيل : ان جاءك زيد
العالم فاكرمه الى يوم الجمعة مثلا ، فان مثل هذا الكلام يشتمل على لقب وصفة وشرط
وغاية ، فإذا دل الكلام بظاهره او بمعونة قرينة على ان الحكم المنتسب الى زيد
العالم المعلق حكمه على المجيء المغيى ذلك الحكم بيوم الجمعة ، يراد منه سنخه فإن
اريد السنخية بالقياس الى تمام المذكورات ، كان له مفاهيم اربعة فيكون مفاد الكلام
انتفاء وجوب الاكرام عن زيد من بعد يوم الجمعة وانتفائه عن غير زيد مطلقا ، كما
انه لو اريد السنخية من الحكم باعتبار انتسابه الى بعضها خاصة ، كان لذلك الكلام
دلالة مفهومية بذلك الاعتبار خاصة.
ثم ان الجزاء فى
القضية الشرطية تارة يكون بمادته دالا على الوجوب كما فى يجب فى نحو ان جاءك زيد
يجب اكرامه ، واخرى يكون بهيئته دالا عليه كما فى اكرم فى قول المولى لعبده ان
جاءك زيد فأكرمه ، فان كان من قبيل الاول فلا اشكال فى تعليق الجزاء على الشرط ،
وان كان من قبيل الثانى ، فربما يستشكل فى التعليق فى بدو النظر فانه اذا قيل ان
جاءك زيد فاكرمه استفيد منه وجوب الاكرام معلقا على المجيء ، ولا اشكال فى استفادة
ذلك منه بمقتضى المتفاهم العرفى ، إلّا ان تطبيقه على الصناعة العلمى وقواعده غير
ظاهر بناء على ما ذكروه فى المعانى الحرفية من انها غير مستقلة
بالمفهومية ،
وانها آلة لتعرف حال الغير ، فان التعليق انما يقتضى الاستقلال بالمفهومية ، فانه
ما لم يكن الذهن متوجها الى اعتبار التعليق وارتباط شيء بشيء لا يمكن تحقق الربط
والارتباط فى الجمل الكلامية ، فلا بد للمتكلم من ان يكون ناظرا الى التعليق
ويلحظه قبل الاستعمال وقبل ايراد الكلام بصورة الجملة الشرطية ، وهذا ينافى اعتبار
الوجوب معنى حرفيا بالنحو الذى ذكروه فى شرح المعنى الحرفى وبيانه.
ويمكن التفصى عن الاشكال
المذكور بمنع اعتبار الالية فى المعانى الحرفية ، اما بالقول المختار فيها من
كونها من سنخ الاضافات والنسب ، وهى فى مدلول الهيئة الامرية يراد بها معنى
الارسال الى جانب المادة فيراد من مثال اكرم معنى يشاكل الارسال الخارجى الى
الاكرام ويكون هذا المعنى هو المقصود فى هيئة الامر ، وهو يلازم الطلب القائم بنفس
الطالب المتعلق بالمطلوب ، وحينئذ يكون التعليق فى ظاهر الجملة الشرطية راجعا الى
ذلك الطلب المستفاد بالالتزام ، وهو معنى خارج عن المدلول المطابقى للهيئة الامرية
، او يكون راجعا الى المدلول المطابقى الذى هو معنى الارسال ، وهو معنى مطلق يقبل
التقييد الجائى من ناحية التعليق فى القضية الشرطية.
واما بالقول الغير
المختار فأنهم مختلفون فى معناه فقد قيل انها معان تلحظ تبعا للذات وان كانت
مستقلة باللحاظ وبناء عليه لا مانع فيها من التعليق المؤدى الى تقييد المعنى الحرفى
، فانها على هذا القول كالقول المختار يمكن تقييدها.
وقيل : ان المعنى
الحرفى موضوع بالوضع العام والموضوع له ، خاص ، والخصوصية لاحقه لا من قبل الانشاء
فجاز فى المنشأ اعتبار الكلية والاطلاق القابل للتقييد من قبل التعليق بالشرط.
وقيل : انها معان
تلحظ آلة للغير وعليه يبتنى الاشكال المذكور ، إلّا ان مبناه على اتحاد زمان
التعليق واللحاظ الآلي ، وليس كذلك بل يلحظ المعنى الجزائى معلقا على الشرط ، ثم
يستعمل اللفظ فى ذلك الملحوظ بنحو الالية فيكون التعليق ملحوظا قبل اللحاظ
الاستعمالى المحقق للمعنى الحرفى.
وقيل : ان المعنى
جزئى انشاء ومنشأ ويشكل الحال على هذا القول الاخير ، إلّا انه ضعيف غير واضح
المأخذ ولم يتحقق قائله ، وان عزى ذلك الى شيخنا الانصارى قده على ما يظهر من كلام
بعض افاضل مقررى بحثه فتحصل مما قررناه ان الاشكال على التعليق فى ظاهر الامر
غير وارد على جميع الاقوال غير القول الاخير فتدبر جيدا.
«فى مفهوم الشرط»
فصل : «الجملة
الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام
ام لا؟ فيه خلاف بين الاعلام» ولقد دريت ان البحث والخلاف بين القوم فى القول
بالدلالة على المفهوم والقول بالعدم ، يرجع الى الاختلاف فيما يستفاد من المحمول
او الجزاء المذكور فى تلك القضية ، فهل يدل بظاهره على السنخية او الشخصية؟ لا
فيما يستفاد من الشرط من الدلالة على العلية التامة المنحصرة وعدم الدلالة عليها
كما ذكر فى الكفاية ، فان الشرط بالنسبة الى الجزاء فى الشرطيات ، كنسبة الموضوع
الى محموله فى
__________________
الحمليات ،
يشتركان فى دلالة القضية فيهما على انحصار المتقدم موضوعا او شرطا فى المحمول او
الجزاء ، وانما الشك والتشكيك فيما يستفاد من ذلك الجزاء او المحمول من السنخية او
الشخصية ، فمن ذهب الى السنخية قال بالمفهوم ، ومن ذهب الى الشخصية او الاهمال لم
يقل بالمفهوم.
وكيف كان فهل
الجملة الشرطية تدل على الانتفاء عند الانتفاء او لا؟ فيه خلاف والذى يظهر من كلام
شيخنا الاستاذ دام ظله الميل الى القول بعدم الدلالة ، اذ الجملة لو خليت ونفسها
ولم يلحظ معها القرائن الحالية او المقالية ، لم يكد يستفاد منها غير التعليق
والترتب بين الجزاء والشرط ، وما يتراءى فى كثير منها من الدلالة على ذلك فانما
ينشأ ذلك من انضمام القرائن الخفية فى الكلام على وجه تؤدى الى اللبس والاشتباه فى
ذلك التبادر ، فيتخيل السامع انه قد استفاد المفهوم من حاق اللفظ ، وليس هو كذلك ،
وربما يكون لكيفية التعبير بحسب جوهر الصوت وطريقة التكلم دخالة فى الاستفادة
المذكورة ، وربما يكون لاطلاق الحكم قرينية على ذلك ، فتكون مقدمات الحكمة
الارتكازية هى الباعثة على الدلالة على المفهوم ، اما باستفادة العلية المنحصرة فى
الشرط كما بنى عليه الماتن قده الخلاف فى المسألة ، او باستفادة السنخية من الحكم
الجزائى كما بنينا عليه الخلاف فيها.
وقد ذكر فى تقريب
الاستفادة المذكورة بمعونة الاطلاق وجوه فلنذكرها ونذكر الصحيح منها والسقيم ،
وليعلم اولا قبل الشروع فى تعداد الوجوه المذكورة ، انا والماتن قده متوافقان على
ان الجملة الشرطية لا دلالة فيها على انحصار العلية فى الشرط ، ولكن الماتن بنى
على اختصاص الشرطية بظهورها فى الدلالة على محض الملازمة
بين الشرط والجزاء
، ونحن نقول : انها تدل على امرين على الملازمة كما قاله الماتن قده ، وعلى الترتب
ايضا علاوة على الملازمة ، والشاهد على ذلك فهم العرف ولا اظن بالماتن قده ولا
غيره انكار الدلالة على ذلك ، وان لم يقع التصريح به فى عبارته هنا ، إلّا انه
يعترف فى غير المقام هو وغيره بأن الجملة الشرطية لها دلالة على اناطة الجزاء
بالشرط ، وهو بعينه الترتب الذى نقوله.
«فى ذكر وجوه التمسك
بالاطلاق فى الباب»
اذا عرفت ذلك
فنقول وبالله نستعين قد ذكر للتمسك بالاطلاق وجوه :
«منها :» اطلاق
الملازمة فان الملازمة ذات مراتب كالطلب وهى تختلف بحسب الملزومات قلة وكثرة وسعة
وضيقا ، فلو كان للازم الواحد ملزومات كثيرة ، كانت الملازمة بمرتبة غيرها لو كانت
له ملزومات قليلة وظاهر الاطلاق يقتضى انحصار تمام المراتب المفروضة ، لتلك
الملازمة فى خصوص تلك الملازمة الواقعة بين شخص ذلك الجزاء والشرط ، ومعلوم انه
يلزم من ذلك انحصار الملزوم فى ذلك الشرط المذكور ، فى تلك الجملة ، فاذا انتفى
ذلك الملزوم المساوى انتفى ذلك الجزاء المساوى له ، وبهذا البيان يظهر لك اندفاع
الاشكال فى التمسك باطلاق الملازمة بما ذكره الماتن قده من ان انحاء اللزوم
والترتب كلها محتاجة الى بيان ، فلا يكون فى عدم بيان نحو خاص دلالة على الانحصار.
وتوضيح المقال بأن
يقال ، فى اندفاع الاشكال : ان المحتاج الى البيان الخصوصية الخاصة من مرتبة
اللزوم واما المرتبة الوافية
بتمام المراتب ،
فانما يدل عليها عناية البيان فى مقام التعبير والكلام ، بل ترك البيان وعدم
التعرض لخصوصية المرتبة النازلة من تلك الملازمة ، دليل على ان المتكلم قد اراد
المرتبة العليا منها نظير الطلب اذا ذكر بصيغته مع التجرد عن بيان حد من حدوده ،
فانه يستدل باطلاقه على ان المتكلم طالب بتمام مراتب الطلب ، وهذا معنى مساوق
للوجوب ، واما الاشكال فى ذلك بأن دلالة الهيئة الشرطية على الملازمة بنحو الدلالة
الحرفية ، والمعنى الحرفى لا يقبل الاطلاق والتقييد ، لكونه ملحوظا آلة وتبعا
للغير ، والاطلاق والتقييد يستدعيان الاستقلال فى اللحاظ ، فقد عرفت الجواب عنه
آنفا بما لا مزيد عليه ، وتبين لك ان الاطلاق والتقييد يعتبران فى المعنى قبل الاستعمال
آليا على ذلك المعنى الملحوظ مطلقا او مقيدا وهذا جائز لا محذور فيه اصلا كما لا
يخفى.
«ومنها :» اطلاق
الشرط «بتقريب انه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده ، ضرورة انه لو قارنه او سبقه
الآخر لما اثر وحده وقضية اطلاقه انه يؤثر كذلك مطلقا ، وفيه» اولا «انه لا يكاد
تنكر الدلالة على المفهوم مع اطلاقه كذلك ، إلّا انه من المعلوم ندرة تحققه لو لم
نقل بعدم اتفاقه.»
وثانيا : انه من
الجائز ان يكون للجزاء علتان متضادتان فى عالم الوجود ، مثلا تأثر الحاسة يتسبب عن
الحرارة والبرودة ، وهما لا يجتمعان فى شيء واحد ، وفى هذا الفرض يصح اسناد التأثر
الى احدى العلتين على نحو الاطلاق فيقال : ان الحرارة اذا ماست الحاسة تأثرت
الحاسة بتلك الحرارة مطلقا ، ولا يصح القول بانتفاء التأثر عند انتفاء ملامسة
الحرارة ، لانه يجوز حصول التأثر من ملامسة البرودة.
«ومنها :» اطلاق
الجزاء بتقريب ان الجزاء بإطلاقه يدل على انه
حيثما يوجد ويتحقق
تأثر الحاسة فلا يكون ذلك التأثر الا من الحرارة ، اذا كان الشرط فى الجملة هو
حصول الحرارة ، فإن مثل هذا الجزاء يدل على انتفاء التأثر بغير الحرارة وهو بعينه
المفهوم المدعى.
ويرد عليه الايراد
الاول المذكور فى تقريب اطلاق الشرط ، ولا يرد عليه الايراد الثانى ، بل قد يقال :
بعدم تمامية هذا التمسك بالاطلاق فى ناحية الجزاء اصلا ، اذ المفروض ان الحكم
الجزائى قد ذكر معلقا على شرطه ، فلا يدل الا على انه اذا اتفق وجود الحرارة
وملامستها للحاسة تتأثر الحاسة به ، وليس فيه دلالة على انه مهما يتحقق التأثر
بالحاسة يكون استناده الى الحرارة حتى يدل ذلك على المفهوم كما هو ظاهر.
و «منها :» اطلاق
الشرط بتقريب آخر غير ما ذكر سابقا ، فان الجزاء لو لم ينحصر شرطه فى خصوص الشرط
المذكور فى القضية ، لافتقر الكلام الى زيادة كلمة «او» لكى تنضم الى الشرط
المذكور فتجرد الكلام عنها دليل على انحصار الشرط فى ذلك الشرط المذكور فى الكلام
، فلو قال المولى : ان جاءك زيد فأكرمه ، فلو لم تكن العلة فى وجوب اكرامه منحصرة
فى المجيء لقال المولى مثلا : ان جاءك زيد او سلم عليك فأكرمه ، فحيث لم يقيد الشرط
بهذا التقييد ولم يضم اليه هذه الضميمة ، دل ظاهر الكلام بإطلاقه على انحصار العلة
فى المجيء.
واجاب الماتن قده
عنه فى الكفاية بأن تعدد الشرط واتحاده ، لا يوجب اختلافا فى ناحية الشرط ، فإن
الشرط «واحدا كان او متعددا كان نحوه واحدا ودخله فى الشرط بنحو واحد ، لا يتفاوت
الحال فيه ثبوتا كى يتفاوت عند الاطلاق اثباتا ، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون
له عدل ، لاحتياج ما له العدل الى زيادة مئونة وهو ذكره
بمثل «او كذا»
واحتياج ما اذا كان الشرط متعددا الى ذلك ، انما يكون لبيان التعدد لا لبيان نحو
الشرطية فنسبة اطلاق الشرط اليه لا يختلف ، كان هناك شرط آخر ام لا ، حيث كان
مسوقا لبيان شرطيته بلا اهمال ولا اجمال بخلاف اطلاق الامر ، فانه لو لم يكن لبيان
خصوص الوجوب النفسى ، فلا محالة يكون فى مقام الاهمال او الاجمال تأمل تعرف.»
ويمكن الذب عن ذلك
بأن الشرط اذا لم يكن له عديل مثله كان الجزاء ينتفى بانتفائه مطلقا ، كان غيره
موجودا لو لم يكن موجودا ، ففى المثال المتقدم يكون انتفاء المجيء يترتب عليه
انتفاء وجوب الاكرام ، سواء كان انتفاء المجيء مقارنا لانتفاء السلام او لا ،
فانتفاء المجيء المقارن لعدم السلام ، وانتفاء المقارن لوجود السلام ، سيان فى
ترتب انتفاء الوجوب ، فيكون المجيء على هذا بجميع حدود وجوده شرطا لذلك الجزاء كما
يقتضيه ظاهر الاطلاق ، واما اذا كان للشرط عديل يشاركه فى الشرطية ، فانما ينتفى
الجزاء بانتفائه فى الجملة لا مطلقا ، وذلك فى الانتفاء المقارن ، لعدم ذلك العديل
لا مع وجوده ، فلا يكون للشرط بتمام حدود وجوده دخالة فى الشرطية ، وهذا خلاف ظاهر
الاطلاق ، ومحصله ان فرض وجود العديل يمنع استناد التأثير الى خصوصية الشرط ، بل
الى الجامع وهو مناف لظاهر القضية المشتملة على التعليق بالشرط بما له من الخصوصية
الشخصية.
فتحصل من جميع ما
تقدم ان الصحيح من هذه الوجوه الاربعة ، هو الاول والوجه الرابع ، والسقيم منها هو
الوجه الثانى والثالث تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.
وقد استدل بعض من
منكرى المفهوم بأية التحصن «لا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا» لما هو المعلوم بالضرورة من
__________________
حرمة الاكراه على
البغاء فى غير حال ارادة التحصن.
واجيب عنه : بوجوه
امتنها ما قيل من خروج الآية لبيان تحقق الموضوع ، اذ الاكراه على الزنا والبغاء
لا يكون إلّا عند ارادة التحصن ، فعند عدم ارادته يستحيل تحقق الاكراه حتى يترتب
عليه الحكم بالحرمة ، فانتفاء حرمة الاكراه عند عدم ارادة التحصن ، انما هو لعدم
موضوع الحرمة الذى هو الاكراه وانتفاء الحرمة لذلك ليس منافيا للضرورة ، لوضوح ان
كل حكم من الاحكام يستدعى موضوعا يثبت له ذلك الحكم ، فهو من قبيل العرض الذى لا يوجد
إلّا فى موضوع فمع عدم الموضوع وانتفائه يجب انتفاء المحمول اللاحق له ، وهذا هو
اللوازم العقلية وهو خارج عن المفهوم المصطلح المستفاد من دلالة الالفاظ.
«فى ان انتفاء كل
محمول عند انتفاء موضوعه عقلى»
«بقى فى المقام
امور ينبغى التنبيه عليها الاول :» انك قد دريت ان انتفاء كل محمول عند انتفاء
موضوعه عقلى لا بد منه ولا يرتبط ذلك بالمفهوم المبحوث عنه اصلا ، بل يقوم به
القائل بالمفهوم وغيره ، وهذا ظاهر لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه ، ومن ثم تراهم
متسالمون «على» القول «بالانتفاء عند الانتفاء فى باب الوصايا والاوقاف والنذور
والايمان ،» لانه «اذا صار شىء وقفا على احد او اوصى به او نذر له الى غير ذلك ،
لا يقبل ان يصير وقفا على غيره او وصية او نذرا له» بلا ريب «و» لا اشكال ، «اذ
انتفاء شخص النذر او الوصية عن غير مورد المتعلق قد عرفت انه عقلى مطلقا ، ولو قيل
: بعدم المفهوم فى مورد صالح له.»
وعمدة الوجه فى
ذلك ان الخلاف فى المفهوم وعدمه ، يبتنى على
ان المعلق فى
الجزاء هو السنخ او الشخص ، فمن قال : بالمفهوم قال : بالاول ومن لم يقل : به قال
: بالثانى ، ولكن باب الوصايا وما يشاكلها من الاوقات والنذور والايمان ، لم يعلق
فيها سنخ الملكية والوقفية بل الشخص ، وقد اعترف به الجميع وقد علمت ان تعليق
الشخص بشىء يتبع تحقق ذلك الشىء ، فما دام باقيا يلحقه شخص حكمه من الملكية
والوقفية فإذا انتفى وجب انتفاء ذلك الحكم الشخصى التابع لبقاء موضوعه ، فلا ينبغى
الاشكال على منكرى المفهوم بالنقض عليهم بمثل هذه الابواب التى لا بد فيها من
انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، لان التعليق فيها شخصى عند الفريقين والانتفاء فيها
عقلى خارج عن مداليل الالفاظ.
ومن هنا يظهر لك
صحة ما مر منا فى ابتناء الخلاف على السنخية والشخصية ، لا على العلية المنحصرة وعدمها
كما بنى عليه الماتن قده فلا تغفل ، ضرورة انه لو كان الوجه فى انكار المفهوم
انكار انحصار العلية فى الشرط كما زعمه الماتن قده ، لم يرتفع الاشكال عن منكرى
المفهوم بما سمعته من النقض المذكور اذ الملكية الموصى بها لزيد يجوز ان يكون قد
انشأت بسنخها لا بشخص خاص ومنها والسنخ من قبيل الكلى القابل للانطباق على كثيرين
ولم يكن فى الموضوع ما يدل على انحصاره بتلك الملكية حسب الفرض المبنى عليه انكار
المفهوم ، فيستحيل الاشكال على منكرى المفهوم بذلك كما لا يخفى.
والحاصل انه ان
كان مبنى انكار المفهوم على انكار العلية المنحصرة ، فتخلصهم عن الاشكال بالنقض
المزبور لا يكون إلّا بالالتزام باستفادة العلية المنحصرة فى تلك النقوض ، وهذا
الالتزام منهم فى غاية السخافة جدا وان هى الا دعوى بلا بينة وبرهان ، لوضوح عدم
ما يدل على انحصار الملكية فى زيد اذا اوصى له بملكية الدار ، وان
كان مبنى انكار
المفهوم على انكار تعليق السنخ فى القضايا الشرطية ، بل المعلق فيها هو شخص الحكم
لا سنخه ، امكن لهم التقضى عن النقض المزبور بما سمعت آنفا ، بأن شخص الحكم لما
كان فى القضايا الشرطية ثابتا لموضوع ولم يكن ينتفى الموضوع فيها بانتفاء الشرط ،
فكان ذلك الحكم الشخصى باقيا بحاله عند انتفاء الشرط ، فلا يكون فى الشرطية دلالة
على الانتفاء عند الانتفاء. واما فى موارد النقض لما كان الموضوع ينتفى ، فلا بد
فيها من انتفاء ذلك الحكم الشخصى لتبعية الحكم الشخصى لموضوعه ، فيكون بهذا الوجه
يفترق النقوض عن محل البحث.
«فى ان السنخ بمنزلة
الكلى»
«الثانى» : ان
السنخ الذى يراد تعليقه فى الجملة الشرطية وكذا فى غيرها من الجمل التى يكون لها
مفهوم كمفهوم الغاية ، او مفهوم الوصف ، او مفهوم اللقب ، بمنزلة الكلى بل هو
عبارة اخرى عنه ، ومعلوم ان الكلى وكل معنى عام تارة ينحصر افراده فى الخارج فى
فرد واحد ، واخرى لا ينحصر فى ذلك بل يكون له افراد كثيرة ، فمثل ان وجد زيد
فأكرمه قضية شرطية اريد منها وجوب تعليق وجوب اكرام زيد بوجوده ، ومعلوم ان
الاكرام المضاف الى زيد ، لا يتحقق إلّا عند وجود زيد ، فوجوب هذا الاكرام الكذائى
لو اريد به سنخه ، كان فرده منحصرا فى فرض وجود زيد ، ولا يكون له فرض آخر غيره ،
ومع ذلك لا ينافى ارادة السنخية فيه كما هو ظاهر.
نعم اذا لم يعتبر
اضافة الاكرام الى زيد ، وكان المعلق على وجود زيد كلى وجوب الاكرام ، كان ذلك
المعنى العام ذا افراد ، ولم يكن
ينحصر فى خصوص فرد
واحد ، إلّا ان ذلك لا يكون من باب مفهوم الشرط بل من باب مفهوم اللقب ، وهو غير
معتبر عند المحققين والفارق بين اعتبارى المفهوم ، انه على اعتبار مفهوم الشرط
تكون الاضافة الى خصوص زيد مرعية فى الجزاء ، ويكون الجزاء هو وجوب اكرام زيد
ويكون هذا هو المعلق على الشرط ، وهذا بخلافه على اعتبار مفهوم اللقب ، فان وجوب
الاكرام بناء عليه معرى عن قيد الاضافة الى زيد ، وانما وجوب الاكرام يكون منوطا
بالشرط ، وهو مع قيد الاناطة بشرط يكون محمولا على زيد فيكون المنسوب الى زيد هو
وجوب الاكرام المنوط بشرطه ، فيستفاد منه عند القائلين بمفهوم اللقب انتفاء وجوب
اكرام عمرو.
واما بناء على
اعتبار مفهوم الشرط ورعاية الاضافة الى زيد ، فيكون المفهوم انتفاء وجوب اكرام زيد
عند انتفاء وجوده ، وهذا مساوق للشرطية الواردة لتحقق الموضوع كما فى ان رزقت ولدا
فأختنه ، فتدل على المفهوم اذا كان المراد منها تعليق سنخ الحكم ، فتكون نظير
الشرطية فى قوله تبارك وتعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الدالة بمفهومها على انتفاء وجوب التبين عند عدم مجيء
الفاسق بالنباء ، فان عدم التبين هنا لعدم ما يتبين عنه ، فينحصر مورد التبين عن
نباء الفاسق بفرض تحققه ووجوده ، فلا يكون للتبين فرد آخر غير فرض وجود ذلك النبإ
، ومع ذلك لم تخرج القضية عن كونها شرطية ذات مفهوم اصطلاحى ، ومن ثم ترى شيخنا
العلامة الانصارى قده لما ذكر الآية المباركة فى بحث خبر الواحد ، بنى على انها
قضية شرطية لها مفهوم سلبى قد حكم فيه بعدم التبين عن نباء
__________________
الفاسق اذا لم يجئ
الفاسق به وهذا لا يكون إلّا باعتبار ارادة السنخية فى ناحية الجزاء
، لما تقرر عنده وعند غيره من ابتناء الدلالة المفهومية فى ذوات المفهوم على ارادة
السنخية فى ناحية الجزاء ، وبالجملة المقصودان ارادة السنخية من الجزاء وغيره لا
ينافى انحصاره فى فرد واحد ، فكم قد وقع فى كلماتهم ما يدل عليه ، منها ما سمعت
آنفا فى كلام شيخنا العلامة قده فى آية النبإ فراجع كلامه فى ذلك المبحث لكى يتضح
لك المطلب ، ومنها ما وقع من الماتن قده هنا فى الامر الثانى فى مسئلة خفاء
الجدران والاذان والاقامة ، فانه من المعلوم ان الوجوب المعلق على كل منهما واحد
فى الشريعة غير متعدد وان تكررت القضية فى لسان الشرع فلا يراد من قوله (ع) اذا
خفى الاذان فقصر ومن قوله (ع) اذا خفى الجدران فقصر الا وجوب التقصير من غير تكرار فيه ، فمثل هذا ان كان له
مفهوم اصطلاحى ، فلا بد من تنزيل الجزاء فيه على ارادة السنخ ، والمفروض انحصار
فرده فى وجوب واحد لا اكثر بقرينة الاجماع ، وهذا كلام الماتن قده فى الامر الثانى
ينادى بأن له مفهوم اصطلاحى فلاحظه لكى تزداد بصيرة وايمانا بما ذكرناه.
ومنها : ما ذكره
الماتن قده ايضا فى مفهوم الغاية فانه قد مثل لما له مفهوم الغاية بأمثلة وذكر
منها قوله (ع) : كل شىء لك حلال حتى تعلم انه حرام وقوله (ع) : كل شىء طاهر حتى تعلم انه
__________________
قذر ومن الواضح ان الحكم الظاهرى بالحلية والطهارة ، ينحصر
مورده بفرض الشك ، ويستحيل تناوله لصورة العلم بهما ومع ذلك قال فى مثل ذلك
بالدلالة المفهومية.
ومنها ما ذكره قده
ايضا فى باب الاستصحاب حيث استدل على اعتباره بأخبار وعد منها خبرى الحل والطهارة
المزبورين ، وبنى فيهما على الدلالة المفهومية ، فمن الغريب بعد هذا كله ما يظهر
من الماتن فى تعليقته على كلام شيخنا الانصارى قدسسرهما المذكور فى آية النبإ ، حيث اعترض عليه بأن القضية المسوقة
لبيان تحقق الموضوع لا مفهوم لها ، وما يتراءى فيها من انتفاء التبين عند انتفاء
تحقق البناء فانما ذلك من لوازم الحكم الشخصى الذى لا بد من ارتفاعه بارتفاع
موضوعه ، ثم ذكر بعد ذلك تقريب الدلالة بالمفهوم بما حاصله ، ان اعتبار المفهوم فى
القضية يبتنى على تجرد التبين الواقع جزءا فى الآية عن حيثية اضافته الى نباء
الفاسق ، رعاية للسنخية المطلوب اعتبارها فى جزاء الشرطية ، واذا انتفى التبين
بسنخه عند انتفاء نباء الفاسق ، افادت القضية بمفهومها انتفاء التبين عن نباء
العادل ، وإلّا لما كان التبين منتفيا بسنخه ، وهو كما ترى مقتضاه التنافى بين
اعتبار السنخية فى الجزاء واعتبار اضافته الى الموضوع المذكور فى القضية ، وهذا لا
يكون إلّا بناء على انكار اعتبار السنخية فيما ينحصر فرد الجزاء بواحد خارجى .
__________________
وفيه مع منافاته
لما سمعت منه فيما تقدم ، ان اعتبارها بمكان من الامكان كما هو واضح لاهل البرهان.
«اشكال وجواب»
«الثالث :» قد
يستشكل فى اعتبار السنخية فى مدلول الهيئة الجزائية ، بناء على جزئية المعنى
الانشائى على حد غيره من المعانى الحرفية ، اذ السنخية من سنخ الكليات التى هى
تباين الجزئيات ، فكيف يسوغ اعتبارها فيما يعتبر فيه الجزئية ، بل قد يستشكل فى
اعتبارها ايضا بناء على عدم اعتبار الخصوصية والجزئية فى المعانى الحرفية
والانشائية كما اختاره الماتن قده اذ الانشاء من قبيل الايجاد ، فهو من باب العلة
الباعثة على وجود المعلول ومعلوم ان خصوصية العلة وان لم تتسر الى معلولها ، إلّا
انها لا تستتبع الا تحقق المعلول على حسب اقتضائها بلا سعة فى دائرة المعلول ،
لاستحالة اقتضاء العلة تحقق المعلول بأزيد مما لها من الاقتضاء الذاتى ، فلا بد من
لحوق المعلول ضيقا بتضيق علته على وجه يستحيل معه اعتبار السنخية فى ذلك المعلول ،
ولا يقاس باب العلل بباب الاخبارات التى يجوز فيها الاخبار عن معنى عام ، اذ
الاخبارات من شأنها الحكاية عن الواقع ، ولا يجب فى الواقع المحكى بها ان يكون
متخصصا بخصوصية الحاكى ، ألا ترى جواز توارد الحكايات المتكثرة عن محكى واحد ، فلو
كانت خصوصية الحاكى تستدعى جزئية المحكى ، لكان فى مثل ذلك محكيات متكثرة على حسب
تكثر حاكيها ، وليس كذلك قطعا ، فيكون هذا اقوى شاهد على ان باب الحكاية اوسع من
باب العلة ، فما ظنه الماتن قده من عدم ورود الاشكال عليه ، وانه قد استراح منه
على مختاره ، فى غير محله.
وتمحل شيخنا
المرتضى قده على ما حكى عنه فى التقريرات فى التفصى عن هذا الاشكال ، بأن استفادة
ارتفاع مطلق الوجوب عند ارتفاع الشرط ، ليس ذلك من باب اعتبار السنخية فى ناحية
الجزاء ، بل لانفهام العلية من الجملة الشرطية ، فان الشرط اذا كان علة لشخص
الوجوب ، فارتفاع شخص الوجوب عند ارتفاع علته دليل على ارتفاع سنخ الوجوب ايضا وكأنه اخذ ذلك من وحدة المناط ، وهو كما ترى التزام
بالاشكال وتمحل فى الجواب.
فالصواب فى ذلك ان
يجاب بأن الانشاء على نحوين ، تارة لا يكون لمنشئه واقع يستعلم تحققه من طريق
الانشاء بل الانشاء يكون تمام العلة لوجوده ، كما فى انشاء الملكية بصيغة بعت مثلا
، واخرى يكون لمنشئه واقع كشف عنه الانشاء بطريق الإنّ ، لا بطريق الحكاية كما فى
موارد الطلب ، فان الطلب المنشا بصيغة اضرب مثلا وان لم يكن محكيا بالصيغة ، إلّا
ان له واقعا من الطلب القائم بنفس الطالب ، كشف عنه ذلك الانشاء بمعونة مقدمات أخر
، وذلك الامر الواقعى هو مورد حكم العقل بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية لا هذا
المنشا بالصيغة.
ومن ثم لو كان
المتكلم فى مقام السخرية والاستهزاء ، وانشاء الطلب بصيغة ، لم يجب اتباعه فى ذلك
الطلب ، فيكون هذا النحو من الانشاء مشوبا بالاخبار باعتبار استعلام واقع مجهول
منه عند تحققه وذلك الواقع ليس معلولا للانشاء حتى يتضيق بتضيقه ، بل مستعلما منه
، فهو نحو الواقع المجهول المستعلم من الاخبار ، وان فارقه فى كيفية الاستعلام من
حيث ان الاستعلام فى الاخبار بنحو الحكاية ، وفى الطلب بنحو الاستدلال الإنّي الذى
هو العلم من المعلول بالعلة كما قرر فى محله فأفهم واغتنم.
__________________
«فى ان الشرط فى خفاء
الاذان والجدران
هو الجامع المحدود
بما بين الشرطين»
«الرابع :» من
الامور التى قلنا ينبغى التنبيه عليها هو انه قد مرت الاشارة الى ان الجزاء فى اذا
خفى الاذان فقصر واذا خفى الجدران فقصر واحد لا تعدد فيه بالاجماع على الظاهر ،
وعليه فلا بد من رفع اليد عن ظهور الشرط فى استقلاله بالعلية المنحصرة وذلك انما
يكون بأحد أمرين ، اما برفع اليد عن ظهوره بالاستقلال فيكون الشرط على هذا مجموع
الامرين من خفاء الاذان والجدران ، واما برفع اليد عن ظهوره فى انحصار العلية بما
ذكر من الشرط الواقع فى كل من القضيتين ، ولكن الواجب على التصرف الثانى ان يقتصر
فى رفع اليد عن ظهوره فى الانحصار بمقدار ما دعت الضرورة اليه لا مطلقا ، فإن
الضرورات تتقدر بقدرها ، لان الجملة الشرطية فى كل منهما لو خليت ونفسها تدل على
ان ليس ثمة علة وراء الشرط المذكور فى تلك الجملة ، وبعد ورود الجملة الثانية يحكم
بأن العلة فى ترتب الجزاء احد الامرين ، وبملاحظة دليل ان الواحد لا يصدر إلّا من
الواحد ، يستعلم ان المؤثر فى ذلك الجزاء الواحد هو الجامع بين الامرين لا الجامع
الأعم منهما ، اذ لا دليل يقتضيه لا من العقل ولا من النقل ، بل المحافظة عن ظهور
الكلام يقضى بالاقتصار فى رفع اليد عن ظهور الشرطية فى انتفاء علية ما سوى الشرط
على الحكم بعلية الجامع بين الشرطين خاصة ، وانتفاء العلية عن غيره ، ولعل هذا هو
الا وفق بالجمع بين مراعاة الحكم العقلى وبين مراعاة قواعد اللفظ ،
فيؤخذ بظاهر اللفظ
النافى لعلية ما سوى الشرطين ، ويؤخذ بحكم العقل بأن الواحد لا يصدر إلّا من
الواحد ، ويرفع اليد عن ظهور كل من الشرطيتين فى نفى علية الشرط الآخر المذكور فى
القضية الاخرى.
لا يقال : اذا
رفعت اليد عن ظهور الشرطية فى دخل خصوصية الشرط المذكور فيها ، فمن اين يبقى لك
ظهور فى نفى دخالة غير الشرطين ، اذ هذا النفى انما جاء من لزوم رعاية الخصوصية فى
الشرط ، فاذا لغيت هذه الخصوصية بورود الشرطية الثانية ، فقد انتفى الدليل النافى
لعلية غير الشرطين وكان نسبة الشرطين الى الجزاء كنسبة غيرهما اليه لا مدخلية لهما
فى ترتبه عليهما ، وانما الدخيل فى ترتب الجزاء هو الجامع ولم يقم ما يدل على ان
ذلك الجامع ، لا بد وان يكون ما يجمعهما خاصة كما زعمت ، بل يجوز فيه ان يكون
جامعا يعمهما وغيرهما فما المزيل لهذا الاحتمال؟
لانا نقول :
المزيل لهذا الاحتمال ظهور الشرطية فى دخالة الخصوصية فى كل من الشرطين المذكورين
فى الشرطيتين غاية ما هناك انا رفعنا اليد عن حجية كل من ظهوريهما ، فى عدم مدخلية
الشرط الآخر المذكور فى كل من القضيتين ، ولم ترفع اليد عن الظهور ، بل الظهور
فيهما باق بحاله ، وهو بعد على دلالته على نفى دخالة جميع الاغيار ، الا انا لم
تعتبر هذا السلب الكلى المستفاد من الظهور الا فيما عد الشرطين المذكورين فى
الشرطيتين ، ويلغى اعتباره بالنسبة الى خصوص الشرطين ، فالتفكيك انما هو فى الحجية
دون الظهور.
وبالجملة التصرف
بالنحو الثانى اقرب الى النظر ، واليه يرجع قول الماتن قده «اما بتخصيص مفهوم كل
منهما بمنطوق الآخر فيقال :
بانتفاء وجوب
القصر عند انتفاء الشرطين.» كما انه الى ما سمعت فى الاعتراض بلا يقال يرجع قوله :
«واما برفع اليد عن المفهوم فيهما ، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شىء آخر فى
الجزاء.» لكنك قد عرفت وهنه آنفا ، كما ان القول بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق
الآخر لا يخلو عن تسامح ، اذ ليس المفهوم الا لازم الكلام ، وليس هو بنفسه قضية
مستقلة حتى يجىء فيها ارتكاب التخصيص ، بل انما هو تبع المنطوق فالتصرف اولا
وبالذات انما يلحق المنطوق ، فاذا لحقه ذلك التصرف نظر الى مقدار ما يلزمه من
المفهوم والامر سهل بعد وضوح المقصود.
واما قوله : «واما
بتقييد اطلاق الشرط فى كل منهما بالآخر ، فيكون الشرط هو خفاء الاذان والجدران معا
، فاذا خفيا وجب القصر ، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ، ولو خفى احدهما.» فهو ناظر
الى الوجه الاول من التصرف برفع اليد عن ظهور الشرط فى الاستقلال بالعلية لكنه
احتمال بعيد جدا.
فتلخص من جميع ما
قررناه ان امر التصرف فى الشرطية لا يخرج عن الوجهين المتقدمين ، ومقتضاهما احتمال
الشرطية لاحد من امور ثلث : اما ان يكون الشرط هو الجامع المحدود بما بين الشرطين
، او الغير المحدود بذلك ، او يكون الشرط هو مجموع الشرطين ، وقد عرفت ان الاحتمال
الاول منها هو الاقرب.
واما الاحتمال
الرابع الذى ذكره الماتن قده بقوله : «واما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما ،
بأن يكون تعدد الشرط قرينة على ان الشرط فى كل منهما ليس بعنوانه الخاص ، بل بما
هو مصداق لما يعمهما من العنوان.»
فلم نعرف مأخذه ،
اذ التصرف فى الشرطية قد عرفت دورانه
بين احد امرين بلا
ثالث لهما فى البين ، فكل منهما يستتبع لازما من مدلول القضية ، ومدلولها لا يخرج
عن الاحتمالات الثلث ، بل ربما يكون هذا الاحتمال الرابع الذى ذكره بعينه الاحتمال
الثانى الذى استضعفناه ، وقلنا ان الجامع لا يجوز ان يكون معنى عاما يعم الشرطين
وغيرهما ، ولعل نظره قده الى شىء لم يخطر ببالنا ، وعليك بالتأمل فلعلك تقف على
توجيه العبارة والله اعلم.
«فى تداخل الاسباب
والمسببات»
«الامر الخامس :»
انه اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء ، فتارة يكون الجزاء متحد العنوان ، واخرى متعددة
، وعلى الاول ، فاما ان يقبل التكرار واما ان لا يقبله ، وقد تقدم الكلام فيما لا
يقبل التكرار من متحد العنوان بما لا مزيد عليه ولا احب تكراره ، واما اذا كان
يقبل التكرار من متحده فيجيء فيه الكلام الذى سمعته فى متحد العنوان من وجوه
التصرف فى ناحية الشرط ، ويزيد عليه بالتصرف فى ناحية الجزاء ، لو اغمض النظر عن
التصرف فى ناحية الشرط ، ولا بد من الخروج عن ظاهر الكلام فى كل من التصرفين ، اما
فى التصرف فى ناحية الشرط فلاقتضاء ظاهر الشرط رعاية الخصوصية المأخوذة فيه ، واذا
تصرفنا فيه بالغاء خصوصيته ، فقد اخذنا الشرط الجامع بين ما يذكر من الشروط فى تلك
الجملة ، وهو خلاف الظاهر ، كما انه فى التصرف فى ناحية الجزاء لا بد من ، رفع
اليد عن ظاهر اطلاقه الدال على الطلب المطلق والبناء على ارادة مطلق الطلب بوجه
الاهمال بلا اعتبار خصوصية فيه ، او البناء على ارادة طلب شخصى محدود بالخصوصية
الخاصة.
وثمرة الفرق بين
الاهمال واعتبار الخصوصية تظهر عند توارد الطلبين على العنوان الواحد ، فعلى
الاهمال يزداد الطلب قوة ، ويتأكد ، ويكون المطلوب امرا واحدا بطلب اكيد بخلافه
على اعتبار الخصوصية الشخصية ، فانه يستحيل توارد الطلبين الشخصين على امر واحد ،
إلّا بتكرار ذلك المطلوب مرتين ، فيكون كل طلب شخصى من ذينك الطلبين متعلقا بفرد
واحد من افراد ذلك العنوان الواحد الجزائى ، فلو قال المولى : ان افطرت فكفر وان
ظاهرت فكفر ، فعلى الاهمال لا يلزمه إلّا كفارة واحدة لو جمع بين الافطار والظهار
بخلافه على اعتبار الخصوصية.
فان قلت : كيف
يكون فى الطلب اهمال ، وهل هو الا كيفية نفسانية لها تقرر خارجى فى نفس الطالب ،
والشىء ما لم يتشخص لم يوجد؟
قلت : ذلك الطلب
النفسانى وان لم يعر عن الخصوصية ، إلّا ان اعتباره فى عالم الانشاء مختلف فقد
يعتبر منشأ بمرتبة غير ملحوظ فيها الخصوصية الخارجية ، وقد يعتبر منشأ مع الخصوصية
، فالاهمال وعدمه ملحوظان فى الطلب المنشأ بالصيغة لا بما له من التقرر الخارجى ،
وحينئذ لو لم يعتبر الطلب متخصصا بالخصوصية الخارجية ، جاز اجتماعه مع مثله فى
متعلق واحد ، ويحصل بذلك التأكد ، فيجتزى بالخروج عن العهدة بكفارة واحدة لو افطر
وظاهر.
نعم لو افطر وكفر
ثم ظاهر ، وجب عليه كفارة اخرى ، لانتفاء التأكد فى هذا الفرض فيستقل كل من
الشرطين بالتأثير ، ولعله الى هذا الوجه نظر القائل بالتفصيل بين صورتى تخلل
الشرطين بالامتثال وعدمه ، كما ان القول باطلاق التداخل ناظر الى اعتبار الشرط ،
وهو الجامع ، فاذا تحقق فرد واحد منه فقد حصل ذلك الجامع ذو التأثير ، فلا اثر لما
يوجد من افراده بعد وجود الفرد الاول مطلقا ،
سواء تعاقبت
الافراد او تخللها امتثال فيما بينها ، اذا لمؤثر فى التكليف ليس إلّا الجامع
المعتبر بنحو صرف الطبيعة دون الطبيعة السارية ، وقد تحققت الطبيعة الكذائية بالفرد
الاول منها واستعقبت تكليفا ، فاذا امتثل ذلك التكليف سقط الطلب ولا يبقى مجال
لبقائه عند حدوث بقية الافراد.
واما القول بعدم
التداخل مطلقا ، فهو ناظر الى ان كل شرط يستدعى طلبا شخصيا ، فيكون هناك طلبات
شخصية متكثرة بتكثر الشروط ، فيجب الخروج عن عهدتها بالتكرار ، وهل تكثر الطلبات
الشخصية فى ناحية الجزء فرع عن تكثر متعلقاتها ، او الامر بالعكس فيكون تكثر
المتعلقات فرعا عن تكثر ما يتعلق بها من الطلبات الشخصية؟ وجهان مبنيان على ان
الجزاء حقيقة هو الطلب المتعلق بالمطلوب ، او هو المطلوب نفسه وانما جعل الطلب
جزءا فى ظاهر القضية الشرطية ثانيا وبالعرض ، وتظهر الثمرة فى الجزاء المختلف
عنوانه نحو ان جاءك زيد فأكرم عالما ، وان جاءك عمرو فأكرم هاشميا ، فانه على
الاول يجب الالتزام بعدم التداخل فى مجمع العنوانين عند تحقيق الشرطين ، فلو جاء
زيد وعمرو لا يجتزى باكرام العالم الهاشمى مرة واحدة ، بل لا بد من تعدد الاكرام
مرتين بخلافه على الثانى ، فانه يجتزى فيه بإكرامه مرة واحدة ، والسر فى ذلك ان
تكثر الشروط ، يستدعى تكثر الجزاء ، اذ الشرط فيه سمة العلية وتعدد العلل المؤثرة
يستتبع تعدد المعلول قطعا ، فإذا كان المتأثر من ناحية الشرط هو الطلب الجزائى ،
لزم تكرره على حسب تكرر الشروط ، واذا اشخاص الطلب ، لزم التكرار فى متعلقاتها
لاستحالة توارد اشخاص الطلب على امر واحد ، فلا محيص من القول بعدم التداخل فى
مختلف العنوان ومتعددة فضلا عن متحده ، وهذا بخلاف ما لو كان
المتأثر من ناحية
الشرط هو متعلق الطلب اذ ذلك انما يستدعى تكرره بالوجود اذا لم يكن متعدد العنوان
، وإلّا فتعدد العنوان واختلافه يغنى عن تعدد الوجود.
وبعبارة اخرى تعدد
الاسباب يستدعى تعدد المسبب ، فاذا كان الجزاء المفروض مسببيته عن الشرط متحد
العنوان ، فلا بد من صرف التعدد فيه الى عالم وجوده وتحققه فى الخارج ، واما اذا
كان متعدد العنوان ، فلا ضرورة فى البين تدعوا الى الالتزام بتعدد الوجود ، بل كان
تعدد العنوان كافيا فى تكثر المتأثرات من قبل تلك الشروط المتكثرة.
«فى الملازمة بين
الشرط ومتعلق الحكم الجزائى»
فالمهم تحقق الحال
فى بيان المتأثر من ناحية الشرط ، هل هو الطلب الجزائى او متعلقه؟
فنقول : وبالله
تعالى نستعين ، التحقيق يقضى بالثانى ، اذ الملازمة بين المقدم والتالى فى القضايا
التكوينية ، والقضايا التشريعية على حد سواء ، لا يفترقان الا فى ان الملازمة فى
الاولى حقيقية ، وفى الثانية ادعائية ، فلو قال القائل : ان طلعت الشمس كان النهار
موجودا ، افاد ذلك ملازمة خارجية بين طلوع الشمس ووجود النهار ، لا بين طلوعها ،
والحكم بوجود النهار كما هو ظاهر بين جدا ، وانما جيء بالحكم المذكور اعلاما
بالملازمة الخارجية بلا ان يكون له موضوعية ودخالة فى طرفى الملازمة.
وعلى هذا المنوال
الملازمة المعتبرة فى القضايا الشرطية التشريعية نحو ما لو قال المولى : ان جاءك
زيد فاكرمه فان المولى
لما كان يرى فى
اكرام زيد مصلحة عند مجيئه ، فكان هناك مقتض لاكرامه عند المجيء ، فنزل ذلك عنده
بمنزلة العلة التامة المستوجبة لحصول الاكرام ، من بعد المجيء ، فادعى الملازمة
بينهما ، واستعمل الوجوب فى ناحية الجزاء مدعيا بأن المجيء يوجب الاكرام ، كما ان
طلوع الشمس يوجب وجود النهار ، فكان مأخوذ الوجوب فى القضايا التشريعية هو الوجوب
الملحوظ فى القضايا التكوينية ، ويشتركان فى انهما يذكران فى القضية اللفظية تبعا
، للملازمة الملحوظة فى الخارج حقيقة فى القضايا التكوينية وادعاء فى القضايا
التشريعية ، فالاصيل بالملازمة ليس إلّا الخارج ، وانما الانشاء اللفظى يتفرع عليه
، ومعلوم ان الخارج عرى من الحكم ، فلا معنى لاعتبار الملازمة بين الشرط والحكم
الجزائى ، بل بينه وبين متعلق الحكم ، وحينئذ ان كان فى الشرط تكثر وتعدد ، فهو
انما يستدعى تعدد المتعلق فان كان المتعلق متحد العنوان ، انحصر تعدده بتعدد
الوجود ، فلا يخرج عن عهدة التكليف إلّا بتكرار الامتثال مرتين وان كان متعدد
العنوان ، كان لكل شرط تأثير فى حصول عنوان من تلك العناوين ، ولم يلزم التكرر فى
عالم الوجود ، فيجتزى بامتثال التكاليف لو جمع بين العناوين بوجود واحد.
لا يقال : المتأثر
من قبل الشرط وجود المعنون لا العنوان نفسه ، فلا بد من تكرر الوجود على حسب تكرر
الشروط لانا نقول : نمنع ذلك بل المتأثر هو العنوان نفسه ، وان كان الحاصل
للعناوين وجودا واحدا ، فكما جاز فى مجمع العنوانين الصلاتى والغصبى ان يكون مؤثرا
فى امرين مصلحة ومفسدة ، فكذلك يجوز تأثر الجمع بشرطين كل يستدعى عنوانا غير ما
يستدعيه الآخر ، وان كان العنوانان مجتمعين فى وجود واحد.
ومما ذكرناه ينقدح
لك وجه القول المنسوب الى المشهور فى تفصيلهم بين متحد العنوان الجزائى ، فاختاروا
فيه القول بعدم التداخل مطلقا ، وبين مختلفه فاختاروا فيه القول بالتداخل مطلقا ،
واما لو قلنا بأن تكثر المتعلق فى ناحية الجزاء تابع لتكثر الطلب المتعلق به فلا يتجه
التفصيل المزبور ، بل يلزمهم القول بعدم التداخل فى مختلف العنوان ايضا بناء على
جواز الاجتماع ، فلا ضير فى الحكم بالتداخل فكان ينبغى لهم التفصيل بحسب اختلاف
النظر الواقع فى مسئلة اجتماع الامر والنهى ، وهم لم يفصلوا بذلك التفصيل ، فينبئ
ذلك عن ان نظرهم فى التفصيل المذكور الى ما ذكرناه من الوجه ، وهو الأوجه فى النظر
بل لا يكاد يتم الوجه الآخر بمقتضى الصناعة ايضا ، اذ الجملة الشرطية اذا كانت
ظاهرة فى اطلاق الطلب الجزائى ، ولكن رعاية الخصوصية فى الشروط المتعددة ادى الى
رفع اليد عن ظاهر الاطلاق ، فما الدليل على اعتبار خصوصية فى الطلب ، حتى يستتبع
ذلك تعدد المتعلق ، فلم لا يكون الملحوظ الطلب على وجه الاهمال ، بل اعتبار
الخصوصية الشخصية يحتاج الى قرينة تدل على ذلك ، وهى مفقودة ، فيجب بحكم العقل بعد
التنزل عن الاطلاق ، ان يؤخذ بمقتضى الاهمال حتى يثبت رعاية الخصوصية فى الطلب ،
ومعلوم ان مقتضى الاهمال فى الطلب ان يحكم بالتفصيل بين صورتى تخلل الامتثال ، فلا
تداخل ، وعدمه فيتداخل ، لا القول بعدم التداخل مطلقا.
فان قلت : لا دليل
على رفع اليد عن الطلب فى ناحية الجزاء ، فلم لا يرفع اليد عن ظهور الشرط فى
اعتبار الخصوصية ، ويكون الشرط هو الجامع دون افراده الخاصة ، لا اقل من احتمال
ذلك فلا يبقى مجال معه للحكم بلا بدية رفع اليد عن اطلاق الطلب فى ناحية الجزاء بل
يحتمل الامران.
قلت : ظاهر الجملة
الشرطية على ترتب الجزاء على المشروط ، فهو يرى تبعا للشرط وفى الرتبة المتأخرة
عنه ، فيكون الجزاء فى دلالته على معناه الاطلاقى متفرعا على شرطه ، فإن لم يكن فى
الشرط ما يدل على خلاف ظاهره الاطلاقى فقد تمت دلالته الاطلاقية ، ومعلوم ان
الخصوصية الشرطية ، تقتضى التعدد فى ناحية الطلب الجزائى بناء على ان الجزاء هو
الطلب ، لا متعلقه ، إلّا ان الشأن كله فى ذلك التعدد المعتبر فى ناحية الطلب
الجزائى هل هو تعدد مرتبة او خصوصية؟ فان كان تعدد مرتبة لم يلزم فيه تعدد المتعلق
، بل يتأكد الطلب فى مورد الاجتماع بناء على امتناع اجتماع الامر والنهى ، واما
بناء على جواز الاجتماع فيجتمع الحكمان من غير تأكد بخلافه على تعدد الخصوصية.
والحاصل ان اعتبار
الاطلاق فى ناحية الجزاء ، لا يكون إلّا بعد تمامية مقدمات الحكمة ، وهى لا يكاد
تتم بعد ظهور الجملة فى اعتبار الخصوصية فى الشرط ، اذ ظهور اعتبار الخصوصية فى
الشرط ظهور تنجيزى ، وظهور الجزاء فى الاطلاق ظهور تعليقى ، والتأثير دائما ابدا
يستند الى المقتضى التنجيزى دون التعليقى.
فالعمدة حينئذ فى
تقريب الاستدلال للقوم بعدم التداخل فى متحد العنوان ، والقول بالتداخل فى متعددة
، هو ما ذكرناه من ادعاء الملازمة بين الشرط ومتعلق الحكم الجزائى ، لا بينه وبين
الحكم الجزائى ، وهذا القول هو المختار عندنا.
وقيل : بالتفصيل
بين ما يكون الشرط فيه متحد الجنس فيختار فيه التداخل وبين ما يكون فيه مختلف
الجنس فيختار فيه عدم التداخل ، وعزى هذا التفصيل الى الحلى قدسسره صاحب السرائر ولعله
__________________
ناظر الى ان الشرط
ليس إلّا الماهية المعتبرة بنحو صرف الوجود وهى ان تحققت بالمرة الاولى ترتب عليها
الجزاء ولا يتكرر الجزاء بتكرر الشرط ، لانعزال الماهية بعد المرة الاولى عن
التأثير ، فلا يترتب على الوجودات المتكررة تكرر الحكم الجزائى حتى يلزم فيه تعدد
الامتثال.
نعم اذا كان الشرط
مختلف الجنس يجب تكرر الجزاء بحسب تكرر الاجناس المختلفة ، لان كل جنس قد وقع شرطا
لجزائه ، فكان يجب رعايته اذ كل شرط له تأثير فى ترتب الحكم الجزائى عليه ، فلو
قال المولى ان ظاهرت فكفر ، وان افطرت فكفر وجب التكرار فى الكفارة لو جمع بين
الظهار والافطار ، وهنا لا ينافى اعتبار الماهية فى ناحية الشرط صرف الوجود ، اذ
اعتبار صرف الوجود فى كل شرط لا يقتضى الاجتزاء بكفارة الظهار عن كفارة الافطار ،
وانما يقتضى الاجتزاء بالكفارة الواحدة عن تكررها لو كرر فى الافطار او فى الظهار.
فانقدح مما ذكرنا
ان عمدة الوجه فى هذا التفصيل اعتبار طبيعة الشرط بنحو صرف الوجود ، وهذا ان تم
كان لما ذكر من التفصيل وجه ، وفيه نظر اذ المنساق من اطلاق كل شرط يذكر فى الجملة
الشرطية هو العلية وهى ظاهرة فى علية الطبيعة السارية فى تمام الافراد ، فكل فرد
يوجد من افراد الطبيعة تتحقق العلة وهى تستتبع تحقق المعلول من غير فرق بين متحد
الجنس ومختلفه فتأمل جيدا.
«تذنيب» : هل حكم
العلل المختلفة فى قضايا متكثرة حكم الشروط المتعددة فى وجوب تكرر المعلول فيها
على حسب تكرر العلة ، او يكون تلك العلل عللا لامر واحد فلا يلزم تكرره؟ احتمالان
الظاهر هو الاول ، فلو قال : الشارع صل اربع ركعات نافلة بعد المغرب وذكر
علة ، ثم امر
ثانيا بصلاة ركعتين للوصية وعلل بعلة اخرى ، ثم امر ثالثا بصلاة الغفيلة وعلل علة
ثالثة ، فهل يتداخل صلوتا الوصية والغفيلة مع نافلة المغرب حتى يجتزى فى اداء
الوظائف كلها بأربع ركعات بعد المغرب ، او يفتقر العمل بالوظيفة الاستحبابية الى
التكرر؟
اختار بعض متأخرى
المتأخرين فى مصباحه القول بالتداخل والذى يقوى فى النظر هو عدم التداخل ، لجريان المناط الذى
ذكرناه فى الشرط بعينه فى هذا المقام فتأمل.
«فى مفهوم الوصف»
«فصل :» اختلفوا
فى دلالة الوصف على انتفاء الحكم بانتفائه ، فقائل بالدلالة ، وقائل بعدمها ، وهو
الاقرب ، لعدم انفهام ذلك منه ، سيما فى غير المعتمد منه على الموصوف ، وليس للخصم
الا استشعار العلية منه ، وهو غير الظهور الذى عليه مدار اعتبار الدلالة كما لا
يخفى ، على اولى الدراية ، وقد يكتنف الكلام بقرائن تقتضى الدلالة على ذلك كما فهم
من قوله (ص) : اختلاف امتى رحمة ، حتى احتيج الى السؤال عن انه اذا كان اختلافهم
رحمة فاتفاقهم عذاب؟ اذ خروج الكلام مخرج الرحمة والنقمة ، هو الذى ادى الى
انفهام الانتفاء عند الانتفاء ، وربما يتفق غالبا مثل هذا الانفهام فى الاوصاف
التى تذكر فى الحدود المبنية على ذكر القيود الاحترازية ، فالمدار حينئذ ليس إلّا
على القرينة لا على ظهور الوصف فى نفى الحكم بانتفائه ، اذ لا ظهور له فى نفسه كما
هو ظاهر لا اظن ان يخفى
__________________
عليك.
ثم انك عرفت فيما
سبق ان اعتبار المفهوم فى موارد اعتباره ليس إلّا بالغاء جهة اضافة الحكم الى ذلك
الذى يعتبر مفهومه مع المحافظة على بقية الخصوصيات ، فمن قال بمفهوم الوصف يلزمه
المحافظة على خصوصيات الحكم غير خصوصية انتسابه الى الوصف ، فمفهوم الوصف فى قوله (ع)
فى الغنم السائمة زكاة ليس إلّا انتفاء الزكاة عن معلوفة الغنم لا عن معلوفة الا
بل كما هو المغرى الى الشافعى فتدبر جيدا.
«فى مفهوم الغاية»
«فصل :» فى مفهوم
الغاية ، وقد اختلفوا فيه على قولين ، وقد عرفت ان القول بالمفهوم يبتنى على ان
يكون المغيى فى القضية سنخ الحكم لا شخصه ولم يثبت عندنا ذلك ، والمتيقن منها خروج
ما بعد الغاية عن شخص الحكم ، وهل الغاية فيها قيد للموضوع او للمحمول ، او للحكم؟
احتمالات اقربها الاخير الا فيما قامت القرينة فيه على الخلاف كما فى غاية الاماكن
، نحو سر من البصرة الى الكوفة ، فان الغاية فى مثله لا تصلح ان تكون غاية لغير
السير ، بخلافه فى قول الشارع ، لو قال : يجب الصيام الى الليل ، فانه يحتمل فيه
انتهاء الصوم الواجب الى الليل ، فتكون الغاية حينئذ قيدا للموضوع ، كما يحتمل فيه
انتهاء الوجوب الى الليل فتكون الغاية حينئذ قيدا للمحمول ، ويحتمل ثالثا ان تكون
الغاية قيدا للحكم بانتساب الاتمام الى الصيام فتأمل.
__________________
«فى مفهوم الاستثناء»
«فصل : لا شبهة فى
دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلبا وايجابا بالمستثنى منه ، ولا يعم المستثنى
ولذلك يكون الاستثناء من النفى اثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، وذلك للانسباق عند
الاطلاق قطعا» كما انه لا شبهة فى دلالته على الاخراج لا على تقيد المستثنى منه
وتعنونه به كما هو كذلك فى باب الاطلاق والتقييد ، فان التقييد يقضى بتعنون المقيد
بعنوان القيد ، فيخرج المطلق بالتقييد عن كونه تمام الموضوع ويصير جزء الموضوع ،
فإن الرقبة قبل التقييد كانت تمام الموضوع للحكم بوجوب الاعتاق وبعد التقييد ، يصير
تمام الموضوع ، الرقبة المؤمنة ، فيخرج الرقبة بذلك عن كونها تمام الموضوع ، فتصير
جزءا من الموضوع وهذا بخلاف الاستثناء لكونه اخراجا ، والاخراج بمنزلة انفقاد ذلك
الامر المخرج ، وهو لا يقتضى تعنون المخرج عنه بعنوان ، كما كان ذلك كذلك فى
الاطلاق والتقييد ، وتظهر الثمرة فى صحة جريان الاستصحاب فى الرقبة المشكوكة
ايمانها ، اذا كانت مسبوقة بالايمان ، فإن الموضوع قد احرز جزء منه بالوجدان
والجزء الآخر بالاستصحاب ، ولا يصح جريانه فى باب الاستثناء ، فلو قيل : اكرم
العلماء الا الفساق منهم وشك فى فسق زيد العالم لم يجز التمسك باستصحاب عدم فسقه
لو كان مسبوقا بعدم الفسق ، اذ عدم الفسق لا ينقح اندراج زيد فى المستثنى منه ،
إلّا بناء
على اعتبار الاصل
المثبت ، ولم يثبت اعتباره عندنا ودعوى ان اندراجه فيه لا يستدعى إلّا احراز
عالميته وهو معلوم حسب الفرض ، مدفوعة جدا بأن التمسك بعالميته فى الحكم باندراجه
فى مصاديق المستثنى منه ، تمسك بالعام فى الشبهة المصداقية ، وهو غير جائز على
لتحقيق الذى عليه اهله.
فإن قلت : ان
الوجه فى عدم جواز التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية ليس إلّا تعنون المستثنى منه
بما عدا المستثنى ، فاذا لم يتعنون به كما هو المفروض ، فما المانع من التمسك
بالعام فى المصداق المشكوك فسقه بعد احراز عالميته؟.
قلت : المانع من
التمسك به لا ينحصر بما ذكرت كما توهمت ، بل هناك مانع آخر نذكره ونرسمه فى باب
العموم والخصوص إن شاء الله تعالى فانتظر له.
ثم ان للحصر ادوات
أخر لا يهمنا البحث عنها بعد ان كانت مذكورة فى الكفاية فراجعها فان فيها الكفاية
، واما مفهوم اللقب والعدد فلا سبيل الى القول به الا مع القرينة فتأمل جيدا.
«حول العام والخاص»
«المقصد الرابع فى
العام والخاص :»
«فى تعريف العام
واقسامه»
«فصل : قد عرف
العام بتعاريف» والظاهر عدم الاحتياج اليها ، لانه لا يترتب عليها ما يترتب على
تعريف غيره من الالفاظ المصطلحة بين الاصوليين ، من كون التعريف ضابطا لجزئيات
محدوده وموجبا
لمعرفة الافراد
وتميزها عن ما عداها ، حيث ان معرفة الالفاظ الدالة عليه معلومة ومحصورة بنفسها ،
من غير حاجة الى ضابط الجزئيات افراد محدوده ، ومع الشك فيها لا يجدينا بيان
الضابط برفع الشك ، بل يبقى على حاله من الشك فى الافادة وعدم الافادة.
هذا كله مع وضوح
معنى العام المتعارف عند الاصولى ، وحينئذ فلا حاجة ولا مقصود لهم الا بيان جامع
بالنسبة الى الموارد المعلومة المحصورة ، وهو غير فائدة مهمة ، فيا ليتهم لم
يتعرضوا لذكر هذه التعاريف التى لا فائدة فيها غير تضييع العمر الشريف ، فان لم
تقنع بما ذكرناه فالعام يدل على استيعاب الافراد بخصوصياتها ، وهذا هو الفارق بينه
وبين اعتبار الطبيعة سارية فى تمام الافراد ، لخروج الخصوصيات عن حيز اللحاظ فى
الطبيعة السارية ، بخلافه فى العموم ، وتظهر الثمرة فيما لو نوى الامتثال
بالخصوصية الفردية ، فعلى العموم يكون ممتثلا بخلافه على الطبيعة السارية ، فانه
يكون مشرعا وممتثلا او غير ممتثل بناء على الخلاف فيه وتحقيقه فى محله.
ثم ان مختار الماتن
قده ان اختلاف اقسام العام بالاستغراق والبدلية والمجموعية ، ناش من اختلاف كيفية
تعلق الاحكام به ووافقه شيخنا الاستاذ دام ظله فى الاستغراقية وتاليه دون الاخير ،
اذ العموم البدلى فى قبال الاستيعاب العرضى ، وهما عنده من المعانى الواقعية التى
تكون فى عالم تصورها ، غير محتاجة الى تحقق شىء آخر من الجهات الخارجية من حكم او
مصلحة او غير ذلك ، فاذا لوحظ الحكم فى الاستيعاب العرضى : انقسم الى قسمين
استغراقى ومجموعى ، فيكون تقابل العموم البدلى للاستغراقى والمجموعى ، بلحاظ
تقابله مع المقسم المنقسم اليهما لا بلحاظ تقابله معهما.
ثم ليعلم ان من
جملة ادوات العموم كلمة كل وتمام وما شاكلهما ،
وهى تدل على
الاحاطة والشمول ولا يستفاد منها التكرار بحسب الوجود الا بمعونة القرائن المقامية
، ومن ثم تراها غير دالة على التكرار الوجودى فى مثل اكلت السمك كله ، ولا فى اكلت
كل جزء من هذه السمكة ، بل الاول يراد منه استيعاب الطبيعة محضا بلا اعتبار تكرر
فى الاكل ، كما انه فى الثانى يراد منه التكرار الاعتبارى قطعا ، نعم فى مثل قولك
اكلت كل سمكة يراد منه التكرار الوجودى ، اى تكرر الاكل بحسب افراد السمك ، إلّا
ان هذا المعنى ليس إلّا من خصوصية المثال لا بسبب الوضع ، وإلّا لكان اللفظ مشتركا
وهو بعيد للغاية ، بل الظاهر ان اللفظ مشترك معنوى قد وضع لمعنى عام ، والظاهر ان
معناه من سنخ المقادير التى يقدر بها الشىء ، فكلمة كل من قبيل النصف والربع من
المقادير التى تلحق الشىء ، فاذا انتسب الحكم الى الشىء المحدود بواحد من تلك
المقادير ، استفيد منه استيعاب الحكم لتمام المنسوب اليه المقدر بواحد منها نصفا
كان او ربعا او كلا ، وليس مفاد كل معنى يغاير المقدار كما ربما يتوهم ذلك من كثير
من العبائر ، ومن هنا يتبين ان دلالتها على العموم والإحاطة ، ليس إلّا بملاحظة ما
عرفت من انتساب الحكم الى موضوعه القاضى بموافقته معه ، بلا زيارة ولا نقيصة ،
وليست الاحاطة بما هى احاطة مدلولا لكلمة كل لا مفهومها ، لعدم تبادر المفهوم ،
ولا مصداقها ، لان مصداق الاحاطة من سنخ الاضافات التى تحسب من المعانى الحرفية ،
فلا تصلح ان تكون مدلولا للاسم الذى هو كلمة كل كما هو واضح.
ومن هنا ينقدح
الاشكال فى تعريف العموم ، بأنه ما دل على الاحاطة ، لا دائه الى خروج مثل كلمة كل
عن العموم ، لعدم وضعها للاحاطة التى هى من الاضافات والنسب التى هى من مداليل
الحروف
دون الاسماء ، ولو
عممت الدلالة فى التعريف الى الدلالة الالتزامية كان ذلك اوقع فى الاشكال ، لان
الدلالة الالتزامية مهجورة فى التعاريف فلا بد حينئذ من تعريف العموم بما يساوق
مفاد كل ، حتى لا يلزم منه خروج كل ونحوها من ادوات العموم ، والامر سهل بعد ان
كان المقصود فى امثال هذه التعاريف شرح الاسم ، لا بيان الحقيقة.
«فيما يمتاز به ادوات
العموم بعضها عن بعض»
وانما المهم صرف
النظر الى ما يمتاز به ادوات العموم بعضها عن بعض ، فنقول : وبالله تعالى نستعين ،
فانه خير معين ، ان المتكثرات فى عالم الخارج ، تارة تلحظ منضمة بعضها الى بعض ،
واخرى تكون معراة عن هذا اللحاظ ، فإن كانت ملحوظة بالانضمام ، كانت مفاد جميع ،
فيكون مدلول جميع ، تمام الافراد الملحوظة بنحو الانضمام ، ومن ثم تراها لا تضاف
الا الى الجماعة ، نحو جميع الناس ، ولا يقال : جميع انسان ، بخلاف كل ، فان
مفادها تمام الافراد المعراة عن خصوصية الانضمام ، فلذا يصح اضافتها الى انسان ،
على ان يكون المقصود من كلمة الانسان ، الطبيعة الانسانية الملغى فيها اعتبار
الانضمام فيما ينطبق عليه من الافراد المتكثرة ، فيكون مفاد ، كل اعم موردا من
مفاد ، جميع ، كما ان مفاد ، اى ، اوسع دائرة من كل ، لجواز استعمالها فى العموم
البدلى ، فتقول : اكرم رجلا اى رجل ، ولا يجوز استعمال الكل فيه ، بل لا بد من
استعمالها فى العموم الشمولى خاصة ، ولا يجوز استعمالها فى العموم البدلى.
واما الفرق بين
كلمتى «الجميع والمجموع» ، فهو الذى تراه بوجد انك من الفرق بينهما ، بتبادر
العموم الاستغراقى فى الكلمة
الاولى ، والعموم
المجموعى فى الكلمة الثانية ، وسر الفرق بذلك ان كلمة «جميع» من الصفات المشبهة
التى هى بمنزلة اسم الفاعل تدل على تلبس الذات بالمبدإ من قبل الذات نفسها ، فان
ضاربا يدل على تلبس الذات بالضرب من قبل نفسه ، فيكون تلبس الذات فى مدلول «جميع»
بالاستيعاب من قبل الذات نفسها ، فيلغى فيها اعتبار الاستيعاب من قبل الغير الذى
هو الحكم او المصلحة ، كما هو معتبر فى مدلول كلمة «مجموع» اذ هذه الكلمة ككلمة
مضروب تدل على تلبس الذات بالمبدإ من قبل الغير ، فيكون استفادة الاستيعاب فى كلمة
«مجموع» بملاحظة طرو الاستيعاب على الذات ، بملاحظة التكثر فى الافراد المندرجة
تحت جامع واحد ، غير ملاحظة الانضمام الذاتى القائم فى نفس مدلول الكلمة ، بل
بملاحظة وحدتها فى الحكم الخارج عن المدلول ، والامر سهل بعد وضوح الفرق بينهما
بحسب التبادر والانسباق الذهنى.
«فيما يفيد العموم
بالوضع او بالاطلاق»
«فصل :» للعموم
صيغة تخصه ككل وما يراد فها من الالفاظ المختصة بالعموم وضعا ، واستعمالها فى
الخصوص بالقرينة فى بعض المقامات ، غير ضائر لانه مجاز وبابه واسع ، وهل النكرة
الواقعة فى سياق النفى او النهى من تلك الالفاظ المختصة بالعموم وضعا او لا وانما
يستفاد العموم منها بالاطلاق وبمقدمات الحكمة؟ الاقرب هو الاول للتبادر الذى هو
المعيار فى استعلام الاوضاع ، المعانى الحقيقية فتأمل.
والذى قواه شيخنا
الاستاذ فى بحثه هو الثانى ، قال : لان مفاد
النكرة ليس إلّا
المعنى الاطلاقى ، والمختار فى المطلق هو ما يختاره سلطان العلماء ، من كونه
موضوعا للطبيعة المهملة التى تقبل التقييد والاطلاق ، ومعلوم ان انتفاء المعنى
الاهمالى لا يستفاد منه الا انتفاء الطبيعة فى الجملة على وجه يحتمل انتفائها
بانتفاء المعنى المساوق للتقييد ، او المعنى المساوق للاطلاق ، فيفتقر الدلالة على
المعنى الثانى ، الى قرينة حالية او مقالية.
نعم لو بنينا فى
المطلق على انه موضوع للمعنى الاطلاقى كما عليه المشهور ، كان للقول بالدلالة
العمومية هنا وضعا مجال ، إلّا انه خلاف التحقيق كما ستعرفه إن شاء الله تعالى فى
باب المطلق والمقيد.
واما المفرد
المحلى باللام ، فقد قيل : بأنه يدل على العموم بالوضع ، والأقرب خلافه ، لعدم
التبادر ، ومن ثم تجد استعماله بغير معنى العموم ، غير محتاج فيه الى علاقة ، او
رعاية عناية ، وليس فيه خروج عن ظاهر اللفظ.
واما الجمع المحلى
باللام ، فيقوى فيه الدلالة على العموم بالوضع لا بالقرينة ومقدمات الحكمة ،
والحجة على ذلك بعد التبادر ، قول أئمة اللغة والعربية ، على ما حكى عنهم ، فان
كلامهم متبع فى الاوضاع اللغوية ، والذى يظهر من شيخنا الاستاذ ، بل صريح كلامه فى
مجلس البحث ، هو منع دلالته الوضعية على العموم ، وفيه اشكال بل منع والله اعلم.
«فى حجية العام
المخصص»
«فصل :» العام حجة
فيما بقى من افراده بعد خروج الخارج منه بنحو التقييد والتخصيص ، فمن الاول ما كان
بنحو التوصيف نحو اكرم العلماء العدول ، ومن الثانى ما كان بنحو الاستثناء ،
والاخراج نحو اكرم العلماء الا الفساق منهم ، والفرق ان الاول يتغير به العنوان
السابق على التوصيف ، فان العالم قبل التوصيف كان تمام الموضوع وبعده يكون جزء
الموضوع ، وهذا بخلاف الاستثناء ، فان العالم باق على ما كان عليه ، من انه تمام
الموضوع من غير ان يكون للاستثناء جهة تأثير فى تغيير عنوانه ، وعليه يبتنى
الاشكال :
بأن مقتضى
الاستثناء اجتماع الحكمين المتناقضين على الفرد الخارج فلو قال القائل : جاء القوم
الا زيدا ، كان زيد محكوما بالمجيء وعدمه ، وهذا تناقض.
ويدفعه : ان ظاهر
العام وان كان قاضيا باندراج الأفراد كلها تحت العام وصيرورتها محكومة بحكمه ،
إلّا ان ذلك على جهة الاقتضاء منوط بعدم منع المانع ، والاستثناء مانع وهو انما
يمنع عن اندراج خصوص الخارج لا غيره ، فيبقى غيره على اقتضاء الظهور الوضعى مستقرا
بالنسبة الى بقية الافراد ويكون حجة فيها ، فوزان اللفظ فى دلالته على الافراد ، وزان
المرآة الحاكية عن متكثرات ، فانها بطبعها ولحاظ نفسها ، تقتضى الحكاية عن جميع
المتكثرات ما لم يمنع عن الحكاية مانع ، فاذا حصل مانع كان ذلك مانعا عن الحكاية
بمقدار منعه ، فيبقى البقية على ما تقتضيه طبيعة المرآة فى
حكايتها لها.
واما الجواب عن
الاشكال ، بأن الاستثناء ، ان كان متصلا ، فهو انما يقتضى تضييقا فى دائرة المدخول
، ويكون الاستغراق على حسب تضييق المدخول ، فلم تخرج الاداة عن وضعها المقرر لها
فى استيعاب تمام افراد ما يراد من مدخولها ، وان كان منفصلا ، كان ذلك تضييقا فى
حجية العام ، وان كان الاستعمال اوسع دائرة من الحجية.
ففيه : ان التضييق
يبتنى على ان يكون وزان الاستثناء وزان التقييد ، وقد عرفت الفرق بينهما كما ان
التضييق من حيث الحجية بدون الاستعمال مما يأباه العرف فى محاوراتهم ، فهو مستبعد
جدا.
واجيب عن الاشكال
بأن الباقى اقرب المجازات. وفيه ان ذلك يبتنى على ان يكون للاستثناء قرينة فى خروج
الخارج ودخول البقية وهو محل نظر بل منع كما لا يخفى.
بقى شىء وهو ان
المدار الحجية فى باب الالفاظ ، على الظهور المستقر المنعقد للكلام المسكوت عليه
فى مقام البيان ، كما جرى عليه بناء العقلاء فأنهم بنوا على اتباع الظهور التصديقى
، اى الظهور المقرون بظهور حال المتكلم فى بيان مرامه ومراده ، لا مطلق الظهور
الاعم من ذلك ، ومما لم يكن المتكلم فى ذلك الحال ، كالكلام الصادر منه فى حالتى
الغفلة والنوم مثلا ، ولا يشترط فى اعتبار الظهور ، احتفاف الكلام بما يوجب الظن
الشخصى بالمراد ، ولا تجرده عما يوجب الظن على الخلاف ، بل مجرد الظهور وكونه فى
مقام البيان ، كاف فى الحجية وان لم يتحقق فيه الامران ، لاستقرار البناء عليه
كذلك ، كما انه لا يشترط فى حجية الظهور اللفظى ، استعمال اللفظ فى المعنى ،
بالمعنى الذى عرفته فى بحث المشترك الذى هو فناء اللفظ فى معناه على وجه ، يكون
تعلق اللحاظ باللفظ آليا باللحاظ الحرفى ، بل
لو جيء باللفظ
دليلا على المعنى بنحو دلالة العلامة على ذيها ، كان ذلك اللفظ حجة على المخاطب فى
لزوم رعايته والحركة على طبقه ، فكان دائرة حجيته اوسع من دائرة الاستعمال وعليه
فلا داعى لارتكاب الفرق فى هذا المقام ، بين الارادة الاستعمالية والارادة الجدية
، كما بنى عليه الماتن فى الكفاية ، ولا لارتكاب المجازية فى الباقى كما بنى عليه
شيخنا العلامة على ما حكى عنه بعض افاضل مقررى بحثه اذ ذلك انما هو مبنى على التلازم بين الظهور والاستعمال ،
وهو اى التلازم ، مما لم يقم عليه دليل بينة ، ولا برهان نيرة فلا تغفل.
«فى تخصيص العام
بمخصص مجمل متصل»
«فصل :» اذا تخصص
العام بمخصص مجمل ، فان دار امره بين الاقل والاكثر ، وكان التخصيص بالمتصل ، فقد
سقط العام عن الاعتبار بالنسبة الى خصوص المشتبه ولم يكن حجة فيه ، وكذا ان دار
امره بين المتباينين ، وربما يتخيل الفرق بين القسمين فيحكم بسقوطه عن الاعتبار فى
الاول دون الثانى ، وبيانه مع توضيح بالمثال ، ان نفرض لفظ زيد موضوع لزيد بن عمرو
وزيد بن خالد كل منهما بوضع مستقل ، ووضع ثالثا لهما معا بوضع مستقل ، فكان لفظ
زيد بهذا الوضع الاخير بمنزلة لفظة التثنية يدل على متعدد ، فلو قيل : اكرم
العلماء الا زيدا جاء فى الخارج احتمالات ثلث ، احتمال خروج زيد بن عمرو خاصة ،
واحتمال خروج الآخر كذلك ، واحتمال خروجهما معا ، فيكون خروج احدهما يقينيا ، وان
لم يكن معلوم العنوان تفصيلا ،
__________________
إلّا انه بعنوانه
الاجمالى متيقن الخروج ، فيسقط اعتبار العام بالنسبة الى المشكوك كسقوط اعتباره
بالنسبة الى المعلوم ، اذ خروج المشكوك لم يكن بتخصيص زائدا على واحد ، بل التخصيص
الواحد الذى يعطيه الاستثناء المذكور فى الكلام يتكفل اخراجهما معا لو كانا خارجين
، فخروج الزائد على الواحد ، تخصيص محتمل ناش من اجمال لفظ زيد المحتمل على واحد
او اثنين ، وهذا بخلاف المتباينين كما فى مفروض المثال لو لم يكن هناك وضع ثالث
وتردد الخارج فيه بين احد الزيدين ، فان الزائد على المتيقن خروجه من احدهما لو
كان خارجا فانما هو خارج بتخصيص آخر واستثناء مستقل ، وهو امر محتمل منفى بأصالة
العموم ، وذلك الواحد المحتمل خروجه ، وان لم يكن معلوما بعنوانه التفصيلى ، إلّا
انه معلوم بعنوانه الاجمالى ، وهو احدهما فيكون العام حينئذ حجة فى احدهما دون
الآخر المتيقن خروجه بعنوانه الاجمالى.
فإن قلت : لا يكاد
تظهر الثمرة فى القول باعتبار العموم بالنسبة الى ذلك الغير المعلوم تفصيلا ، لعدم
امتيازه فى الخارج ، حتى يلزم على المكلف مراعاة التكليف فيه بوجوب اكرامه بمقتضى
العموم.
قلت : تظهر الثمرة
فيه فى مورد العلم الاجمالى لو اشتبه الحال فيه وتردد زيد فى عالم الخارج بين زيد
بن عمرو وابن خالد ، فانه يجب حينئذ مراعاة التكليف المعلوم بالاجمال ، ولا يخرج
عن العهدة الا بإكرامهما معا ، لو قيل : باعتبار اصالة العموم بالنسبة الى المشكوك
، دون المعلوم خروجه ، ولا يجب ذلك لو قيل : بعدم اعتباره فيه ، كما فى المعلوم
خروجه هذا.
ولكن دقيق النظر
قاض بمساواة القسمين ، واشتراكهما فى عدم الاعتبار ، من غير فرق بين صورتى دوران
الخارج بين المتباينين
او بين الاقل
والاكثر ، لظهور ان العام لا يكون حجة إلّا باعتبار حكايته لما يندرج تحته من
الافراد بعناوينها التفصيلية ، دون الاجمالية ، فالملحوظ فى العام ليس إلّا ذوات
الافراد واشخاصها ، دون طوريه من العناوين ، فاذا جاء التخصيص فقد اختل ذلك الظهور
وانسد باب تلك الحكاية ، فلم يبق فيه ملاك الحجية بالنسبة الى الفرد المشكوك.
وان شئت قلت ان
اعتبار العام تابع الطريقة المألوفة بين ارباب المحاورة والتفاهم العرفى ، المستقر
عليه بناء العقلاء ، وهو انما يقضى بحجية العام فيما يحكيه من اشخاص الافراد
بخصوصياتها الشخصية ، دون ما لها من سائر العناوين ولا اقل من الشك فى اعتباره من
ذلك الوجه ، وهو كاف فى سقوط اعتباره بالنسبة الى المشكوك ، فيشترك حكمه مع العام
المخصص بمجمل مردد بين المتباينين ، ولا فرق فى ذلك فيهما بين الشبهة المفهومية
والمصداقية هذا ملخص الكلام فيما يكون المخصص متصلا.
«فى تخصيص العام
بمخصص مجمل منفصل»
واما اذا كان
منفصلا ، فان دار بين الاقل والاكثر ، فى الشبهة المفهومية ، كان المتيقن خروجه
معلوم التخصيص ، وما عداه محكوم بحكم العام ، اذ هو حجة فى جميع افراده ، الا
الفرد المعلوم خروجه ، وبهذا يفترق المقام عن المخصص المتصل ، لاختلال الظهور فيه
دون المقام ، فكان العام حجة فيما له من الظهور الشامل لما يحتمل خروجه من غير
المتيقن خروجه بالتخصيص.
نعم اذا كان
المخصص دائرا بين المتباينين فى الشبهة المفهومية ، سقط اعتبار العام فى كل منهما
، اذ الواحد المردد بينهما لما علم
خروجه عن حكم
العام ، فقد سقط اعتباره فيه ، وحيث لم يعلم ذلك الخارج وتردد الامر فيه بين فردين
متباينين ، ولم يكن اندراج احدهما بعينه فى العام ، وخروج الآخر اولى من العكس ،
كان العام ملغى الاعتبار فى كل منهما ، وكان المرجع فيهما الاصول العملية دون
العموم.
«منشأ القولين فى
التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية»
واذا دار الامر بين
الاقل والاكثر فى الشبهة المصداقية ، فهل يجوز التمسك بالعام فى المصداق المشتبه
المحتمل خروجه منه او لا؟ فيه خلاف ، وقبل الخوض فى تحقيق الحق وبيان المختار فى
هذه المسألة ، لا بد من التنبيه على مقدار اعتبار العام فنقول وبالله نستعين : لو
ورد اكرم العلماء ، ثم ورد فى دليل آخر لا تكرم النحويين منهم ، واشتبه الحال فى
زيد العالم ، هل هو من النحويين او من غيرهم؟ فقد يتمسك بالعموم للحكم بوجوب
اكرامه نظرا الى ان اندراجه فى العلماء قطعى ، وخروجه عن حكمهم لكونه نحويا غير
معلوم ، فيكون ذلك شكا فى التخصيص زائدا على ما يعلم تخصيصه من معلوم الخروج ،
فيرجع فيه الى اصالة العموم القاضية بوجوب اكرامه.
لا يقال : الشك
المتعلق بزيد تارة يكون من جهة الشبهة الحكمية ، واخرى من جهة الشبهة الموضوعة ،
فأما الجهة الاولى ، فذلك الشك الناشى من جهة احتمال مطابقة الحكم العمومى للواقع
وعدم مطابقته له ، واما الجهة الثانية فذلك الشك الناشى من جهة تردد الحال فى زيد
، هل هو من النحويين او من غيرهم ، واصالة العموم انما ترفع الشك من الجهة الاولى
دون الثانية ، والوجه فيه ان وظيفة الشرع ، ليس
إلّا بيان الحكم
دون الموضوع وانما على المكلف تشخيص موضوع التكليف ، فيكون العام من حيثية الموضوع
مسكوتا عنه ، ويبقى زيد على اجماله مردد الحال بين كونه نحويا او غيره ، فلا يكون
العام دليلا ، على انه غير نحوى حتى يجب اكرامه.
لانه يقال : لا
يلزم احراز كونه غير نحوى فى الحكم بوجوب اكرامه ، بل عالميته كافية فى اندراجه فى
مصاديق العام ، المفروض انحصار عنوانه فى العالمية ، وزيد عالم حسب الفرض فيجب
اكرامه ، فان العام حجة فى جميع ما يندرج فيه وكان يصدق عليه عنوانه ، والمفروض ان
المصداق المشتبه المتحمل اندراجه فى المخصص ، معلوم الاندراج فى عنوان العام ،
فيجرى عليه حكمه حتى تقوم الحجة على الخلاف ، وهى لم تقم إلّا بالنسبة الى من علم
خروجه ، ممن ثبتت نحويته بعلم او علمى ، وليس زيد كذلك.
ولئن سلم اعتبار
احراز كونه غير نحوى ، قلنا : يمكن احراز ذلك فى زيد بأصالة العموم ، وظهور العام
فى استيعاب حكمه لجميع ما يندرج تحته من الافراد ، وهو يستلزم ان لا يكون زيد
نحويا ، فيكون قد احرز فى زيد كونه غير نحوى بأمارية الظهور الذى هو حجة فى اثبات
اللوازم ، وقولك : ان الشارع ليس من وظيفته الا بيان الاحكام دون الموضوعات. مندفع
بأن الشارع له جعل الا مادة معتبرة فى تشخيص الموضوعات ، كما نراه اعتبر البينة
واليد والسوق ، دليلا على تشخيص الموضوع ، فليكن الظهور من قبيل تلك الامارة ، فلو
بنى على اعتبار الظهور وجرى عليه بناء العقلاء فى اتباعه لرفع الشبهة من كلتا
الجهتين ، لم يكن فيما ذكره المعترض ما يمنع اعتباره من الجهة الثانية ، إلّا ان
الشأن كله فى تنقيح هذه الجهة من اعتبار الظهور ، وستسمع الكلام فيه انشأ الله
تعالى.
والى هذا نظر
القائل بجواز التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية ، وتحصل منه ان نظره فى ذلك الى
احد امرين ، اما اعتبار العام فى غير ما يعلم خروجه من افراد الخاص فيندرج فيه
المشكوك ، واما اعتباره فى غير عنوان الخاص ، وقد احرزت الغيرية بامارية ظهور
العام على ما عرفت ، وليس لخصمه الا منع اعتباره من الوجهين ، اما منع اعتباره من
الوجه الثانى ، فلعله لم يثبت عنده بناء من العقلاء ، على اتباع الظهور واما ريته
، على ان زيدا غير نحوى حتى يجب اكرامه ، واما منع اعتباره من الوجه الاول ، فلانه
من المحقق فى غير المقام ان الالفاظ موضوعة للمعانى النفس الامرية ، فدليل الخاص
يكون حجة على خروج من كان نحويا فى الواقع ونفس الامر علم به المكلف او لم يعلم به
، فهو يوجب قصر الحجية فى العام على ما عدا الخاص ، فيكون المتبع من ظهور العام فى
المثال المذكور ، هو العالم الغير النحوى ، ولم يحرز هذا العنوان فى زيد المشكوك
نحويته ، فيسقط اعتبار العام فيه.
ولا ينتقض ذلك
بالشبهة المفهومية المرددة بين الاقل والاكثر التى قد عرفت انحصار الخارج فيها
بالمتيقن خروجه واعتبار العام فيها بالنسبة الى المشكوك.
للفرق الواضح
بينها وبين المقام ، اذ الخاص فيها حجة فى المتيقن خروجه دون غيره ، لاجماله ،
بخلافه فى المقام لتبين مفهومه حسب الفرض ، فالخاص يكون حجة فى مفهومه ، وان تردد
مصداقه بين الاقل والاكثر.
ولا يذهب عليك ان
المراد من الحجة فى محل البحث ، ما يندفع بها احتمال الخلاف تعبدا ، لا مصحح
العقوبة ، كما فى باب البراءة والاحتياط ، ومن ثم ترى القوم يقولون بالبراءة فى
الشبهات
الموضوعية ، لعدم
تمامية الحجة التى توجب العقوبة على مخالفتها ، اذ العقوبة لا تتسجل على العبد
بالمخالفة ، الا بعد انسداد باب الاعتذار عليه من جميع الجهات ، فمتى امكنه
الاعتذار من جهة من تلك الجهات ، كان العبد مأمونا من العقوبة ، فلو قال المولى :
لا تشرب الخمر ، وشك فى خمرية مائع ، كان ذلك مجرى للبراءة ، لقبح العقاب بلا بيان
، هذا بخلاف المقام ، فان لفظ الخاص حجة فى بيان معناه ، فهو حجة اخرى فى قبال
العام يصادمه فى مقتضاه ولا يبقى معه مجال الركون الى العام بالنسبة الى المعنى
الخاص ، فزيد ولو كان معلوم العالمية ، إلّا ان حجية العام مقصورة على غير صنف
النحويين من العلماء ، وحيث ان زيدا ممن يشك فى نحويته ، لم يلزم الاخذ بمقتضى العام
فى الحكم بوجوب اكرامه ، كما انه لو كان حكم الخاص حرمة اكرامه ، كان ذلك مجرى
البراءة من الحكم بحرمة اكرامه ايضا لعدم تمامية الحجة بالحكم بحرمة اكرامه ، كعدم
تمامية الحجة بالحكم بوجوب اكرامه.
والحاصل ان المهم
فى المقام بيان حال الدليل الاجتهادى ، فهل هو حجة فى تمام الافراد المندرجة تحت
ظهوره الا من يعلم خروجه عنه ، او ان حجيته مقصورة على بعض الافراد التى يعلم
اندراجها فيه ، دون المشكوك اندراجها فيه؟ والثانى هو الاوفق بمقتضى القواعد.
نعم لو كان الظهور
الاستغراقى المستفاد من القضية العامة ، امارة على تشخيص حال زيد من كونه غير نحوى
، امكن القول بجواز التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية ، إلّا ان اثبات أماريته
على ذلك الوجه فى غاية الاشكال ، هذا كله فى بيان نظر الفريقين.
«التحقيق فى التمسك
بالعام فى الشبهة المصداقية»
والتحقيق فى
المسألة الذى يقتضيه النظر الدقيق ، وبالتأمل حقيق ، هو التفصيل بين ما لو كان
الباقى من افراد العام بعد التخصيص ، معلوم الحكم بأنه يجب اكرامه ، وبين ما لو لم
يكن معلوم الحكم بأنه يجب اكرامه ، فان كان من قبيل الاول كان العام حجة فى الفرد
المشكوك نحويته ، وذلك لان العام قد صدرت من الشارع لتشريع الحكم حسب الفرض ، فاذا
لم يكن يتكفل رفع الشك من حيث الموضوع ، كان صدوره لغوا من الحكيم ، لان المفروض
ان الحكم بوجوب اكرام الغير النحوى من العلماء قطعى ، لا مجال للتعبد فيه بوجوب
تصديقه فينحصر مورد التعبد فى رفع الشبهة الموضوعية عن زيد المشكوك نحويته ، فيكون
اندراجه فى العام وتناول العام له ، امارة على كونه غير نحوى.
وان كان من قبيل
الثانى ، لم يكن العام حجة فيه ، اذ التعبد بكونه غير نحوى ، فرع ترتب الاثر
الشرعى على هذا العنوان ، وليس الاثر هنا الا الحكم بوجوب اكرامه ، فلا بد من
تقديم الحكم بوجوب اكرام غير النحوى من العلماء ، ولا سبيل الى هذا الحكم ، الا
بمعونة التعبد بتصديقه بعد وروده من قبل الشارع ، واذا تعبدنا الشارع بتصديقه
بدليل شرعى ، امتنع فى ذلك الدليل التعبد الشرعى ، ان يكون شاملا لما هو مترتب على
ذلك الحكم الذى شرعه ذلك الدليل الشرعى.
وبالجملة من شأن
العموم ان يكون شاملا لما يندرج فيه ، من الافراد الغير المتوقف صحة شموله له على
ذلك الحكم المتعلق بالعام ، فاذا توقف على ذلك ، امتنع فى ذلك الفرد ، ان يكون
مشمولا لذلك
الدليل العام ، بل
يفتقر بيان حكمه الى دليل آخر ، وهو مفقود ، فصدق الظهور ، وابن على مطابقته
للواقع من حيث الشبهة الحكمية ، يفيد وجوب اكرام غير النحوى من العلماء ، وبعد
التعبد بهذا الحكم ، يتجه التعبد بالظهور فى تشخيص حال زيد بأنه من غير النحويين ،
ويستحيل ان يكون دليل واحد ، يتكفل الامر بالتعبد بتصديق الظهور من الوجهين ، كما
هو ظاهر لا يخفى.
فتحصل مما سبق ان
الحكم اذا كان قطعيا فى طرف المستثنى منه ، كان العام حجة فى الشبهة المصداقية.
ثم نقول : نلحق
بذلك فى حجيته فيها ايضا ، ما اذا كان الحكم قطعيا فى طرف المستثنى خاصة ، كان علم
ان النحوى لا يجب اكرامه ، إلّا ان اكرام غيره من العلماء كان مشكوكا ، ففى مثل
ذلك يجب اتباع العام ، فيمن شك فى نحويته من العلماء اذ العام لما كان مورد التعبد
بالعمل على مقتضى ظهوره ، لكونه مشكوك المطابقة للواقع وكان صالحا لان يكون مشمولا
لدليل التعبد بتصديق ظهوره ، فهو مع ملاحظة دليل تعبده يقتضى حكمين ، حكما واقعيا ،
وهو الذى يستفاد منه بمقتضى ظهوره ، ويكون ذلك مؤداه ، وحكما ظاهريا وهو الذى
يستفاد من دليل التعبد بالعمل على ظاهره ، فيجب على المخاطب اكرام كل عالم نحويا
كان او غيره ، إلّا ان الجزم بعدم وجوب اكرام النحويين ، منع من التعبد بظهوره فى
وجوب اكرام النحويين ، فانحصر التعبد بذلك الظهور فى غيرهم من العلماء ، وزيد لما
كان عالما حسب الفرض ، فكان مشمولا لحكم العام فيجب اكرامه حتى يعلم خروجه عن حكمه
، ولا يعلم خروجه عنه حتى يعلم اندراجه فى النحويين ، ولم يعلم ذلك كما لا يخفى.
فان قلت : زيد
العالم اذا كان محتمل النحوية وغيرها ، وكان
محكوما بحكم العام
ظاهرا وتعبدا ، امتنع الحكم عليه بعدم وجوب الاكرام ، لبطلان اجتماع الحكمين
المتناقضين ، ومن الواضح ان زيدا اذا كان نحويا فى الواقع ، لا يجب اكرامه بمقتضى
حكم الخاص المقطوع به ، فيلزم من اندراج زيد فى عموم حكم العلماء ، ان يكون زيد
النحوى واقعا يجب اكرامه ، بمقتضى التعبد بحكم العام ، ولا يجب اكرامه بمقتضى حكم
الخاص المقطوع به ، وهذا محال وممتنع بالبديهة ، فلا مناص من بطلان احد الحكمين ،
ولا سبيل الى بطلان حكم الخاص ، لكونه قطعيا حسب الفرض ، فلا بد وان يكون الباطل
منهما ، الحكم الظاهرى الذى يقتضيه دليل التعبد بالاخذ بظهور العام ، فيتمحض زيد
للحكم بعدم وجوب اكرامه ، ويخرج عن عموم حكم العلماء كما هو واضح.
قلت : قد تقرر فى
غير المقام جواز الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، سواء كانت متباينة او
متماثلة ، وعليه فلا بأس باجتماع الحكمين المتناقضين فى زيد ، اذا كان عالما نحويا
فإن الحكم بوجوب اكرامه ليس إلّا حكم ظاهرى قضى به دليل التعبد بظهور العام ، وهو
لا ينافى عدم وجوب اكرامه واقعا لكونه نحويا فى الواقع ، نعم ما ذكرت من تنافى بين
الحكمين انما يكون ممنوعا عنه لو كان الحكمان فى رتبة واحدة ، كأن يكونا فى رتبة
الظاهرية او الواقعية ، لا فيما اذا كانا فى رتبتين ظاهرية وواقعية ، ومن هنا
ينقدح لك الوجه فيما قلناه فى صدر الكلام ، من تقييد اعتبار العام بالنسبة الى
الشبهة المصداقية ، بما اذا كان الخاص قطعيا ، اذ لو كان الخاص غير قطعى كالعام ،
يجىء التنافى بين الحكمين فى رتبة واحدة ، وهى رتبة الظاهرية ، بتقريب ان زيدا
العالم اذا كان يشك فى نحويته ، يكون مورد التعبد بحكمى العام والخاص معا ، فيقال
: زيد لو كان نحويا
لا يجب اكرامه
ظاهرا ، بمقتضى التعبد بحكم الخاص الغير المعلوم مطابقته للواقع حسب الفرض ، ولو
لم يكن نحويا يجب اكرامه ظاهرا ايضا بمقتضى التعبد بحكم العام ، فيجيء من ذلك
توارد الحكمين المتنافيين على زيد ، واجتماعهما فيه مع اتحاد الرتبة ، وهو محال
بالبديهة ، فيسقط اعتبار كل من العام والخاص فيه ، لبطلان الترجيح بلا مرجح ،
وحينئذ لا يكون العام حجة فى المصداق المشتبه ، وهذا هو الوجه الفارق بين صورتى
كون حكم الخاص قطعيا او غير قطعى.
وبالجملة : اذا
كان الخاص مقطوع الحكم لم يكن له ، الا حكم واقعى كان مقطوع الانطباق على زيد ، لو
كان زيد نحويا بالجزم واليقين ، ومحتمل الانطباق عليه لو كان يشك فى نحويته ،
ومفروض المقام ان زيدا مشكوك النحوية فيحتمل انطباق الحكم السلبى عليه ، فيكون
محكوما بعدم وجوب الاكرام ، وعلى تقدير انطباقه عليه لم يكن ذلك الا حكما واقعيا
لا ظاهريا ، اذ ليس الخاص مورد التعبد حتى يكون حكمه حكما ظاهريا ، وظاهر ان الحكم
الواقعى لا ينافى الحكم الظاهرى بوجوب اكرامه ، وهذا بخلاف ما اذا كان الخاص غير
مقطوع الحكم ، وكان مورد التعبد به ، فلا ريب ان الحكم بعدم وجوب اكرامه يكون
ظاهريا ، وهو مناف لحكم العام الذى مفاده وجوب اكرامه ظاهرا.
فإن قلت : اذا كان
الخاص مقطوع الحكم ، وكان انطباقه على زيد محتملا ، كان مجال للتعبد بحكم الخاص ،
كما كان مجال لذلك فيما لو لم يكن كذلك ، اى لم يكن حكم الخاص مقطوعا به ، فإن كان
الثانى محكوما بحكم ظاهرى كان الاول مثله ، فما وجه الفرق بينهما والقول بأن حكم
الخاص فى الاول واقعى وفى الثانى ظاهرى؟
قلت : الوجه فى
ذلك اختلاف الشبهة فى المقامين ، اذ الشبهة فى مقطوع الحكم ليست إلّا موضوعية ولا
دليل على انطباق عنوان
الموضوع ، على ما
يشك انطباقه عليه ، حتى يتسرى الحكم المقطوع اليه ، وهذا بخلاف الشبهة فى غير
مقطوع الحكم فانها شبهة من جهتين ، من جهة الموضوع والحكم ، ولا ريب ان التعبد
بحكم الخاص تقتضى بالبناء على مطابقة حكمه للواقع ، وهذا البناء ظاهرى ينافى
البناء على مطابقة حكم العام للواقع ، فيما يحتمل انطباق كل من الحكمين عليه ،
كزيد العالم اذا احتمل فيه النحوية وعدمها ، فان المتحصل من الحكمين ، يكون مفاده
ان زيدا العالم لو كان نحويا واقعا يجب اكرامه بمقتضى التعبد بحكم العام ، ولا يجب
اكرامه لو كان نحويا واقعا بمقتضى التعبد بحكم الخاص ، وهذا تناقض محال نشأ من
التعبد بحكمى الخاص والعام فى الشبهة الحكمية ، بعد الفراغ عن ثبوت اعتبار العام
فى الفرد الذى يشك انطباق عنوانه عليه ، فلا بد من رفع اليد عن احد التعبدين ،
وحيث لا مرجح يسقط كل منهما عن الاعتبار فى الفرد المحتمل نحويته وغير نحويته وهذا
بخلافه فى مقطوع الحكم ، فان الجهة التى تحتمل التعبد فيه ، ليست إلّا حيثية
اشتباه الموضوع ، ولا دليل على التعبد بالخاص من هذه الجهة ، فيتعرى عن جهة التعبد
من حيثيتى الحكم والموضوع ، اما الحكم فلكونه قطعيا ، واما الموضوع فلعدم دليل على
التعبد به من هذا الوجه ، فاذا انطبق حكم الخاص على زيد المحتمل نحويته لم ينطبق
عليه إلّا بما له من الحكم الواقعى ، بخلاف ذلك فى غير مقطوع الحكم ، فان فيه جهة
تعبد من حيث الحكم ، فاذا انطبق على زيد المحتمل نحويته ، انطبق عليه بما له من
الحكم الظاهرى بالتعبد ، بمقتضاه والبناء على مطابقته للواقع ويتأتى فيه المنافاة
للحكم الظاهرى الثابت للعام ، ويجىء فيه محذور التناقض ، بخلافه فى مقطوع الحكم
فانه ليس إلّا اختلاف بين الحكم الظاهرى والواقعى ، وهو جائز كما قرر فى غير
المقام.
فتلخص مما قررناه
وحققناه ، ان العام حجة فى الشبهة المصداقية فى صورتين ، إحداهما : فيما يكون
الحكم المتعلق بالباقى من افراد العام ، قطعيا من الخارج ، دون الحكم المتعلق
بالخاص ، وثانيهما : بالعكس من ذلك بأن يكون الحكم المتعلق بالخاص قطعيا كذلك ، اى
بمقدمات خارجية ، دون الباقى من افراد العام ، وقد تبين لك مما سمعت فى تقريب
الاستدلال ، ان الصورة الاولى مبنية على ان يكون المتكلم فى بيان رفع الاشتباه
الموضوعى كما يقتضيه ظاهر حال الخطاب الشرعى الوارد فى بيان التشريع والتعبدية ،
فانه لا مجال للتعبد فى الحكم حينئذ ، لكونه قطعيا حسب الفرض ، فلا بد من صرف
التعبد الى حيثية رفع اشتباه الموضوع ، وهذا بخلافه فى الصورة الثانية فإن
الاشتباه فيه من جهتى الحكم والموضوع معا على خلاف الخاص ، فانه مقطوع الحكم دون
الموضوع وقطعية حكمه ، كانت مانعة عن التعبد فى الحكم ، ولم يقم برهان يقتضى
اعتباره فى رفع اشتباه الموضوع ، فيبقى الموضوع المشتبه بحاله مندرجا فى افراد
العام ، لانطباق عنوانه عليه جزما ويكون محكوما بحكمه اخذا بظاهر العموم ، ولا
يختص هذا الوجه من التقريب المذكور للصورة الثانية بما يكون المخصص فيه لبيا ، بل
يجرى فى كل مقطوع الحكم سواء كان مخصصا لبيا او لفظيا ، فتخصيص الماتن قده ذلك
باللبى منه غير ظاهر الوجه ، ولعله لغلبة القطعية فى اللبى وندرتها فى اللفظى
فتفطن.
«ايقاظ»
ورد فى الاخبار عن
الائمة عليهم صلوات الله الملك الجبار ، ان حد يأس المرأة خمسون سنة ، كما فى
رواية وفى رواية اخرى ان حد يأسها ستون سنة وفى رواية ثالثة اذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة
إلّا ان تكون امرأة من قريش فكانت الاخبار فى تحديد اليأس على طوائف ثلث ، طائفتان
منها مطلقتان ، وطائفة ثالثة مفصلة بين القرشية وغيرها ، فجمعوا بينها بحمل المطلق
منها على التفصيل المذكور فى الرواية الثالثة ، والحكم ظاهر فى معلومة الانتساب ،
اما اذا كانت مجهولة وشك فى قرشيتها وعدم قرشيتها فمقتضى ما سمعته من الكلام
المتقدم فى حكم الشبهة المصداقية عدم الحاقها بإحداهما ، لسقوط اعتبار كل من ظهورى
العام والخاص فى المصداق المشتبه ، فيما لم يكن احداهما مقطوع الحكم كما فى
المقام.
وحاول الماتن
الحاقها بغير القرشية بمعونة «الاصل الموضوعى» فحكم عليها «بحكم العام ، وان لم
يجز التمسك به بلا كلام» بتقريب «ان اصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش ،
يجدى فى تنقيح انها ممن لا تحيض الا الى خمسين ، لان المرأة التى لا تكون بينها
وبين قريش انتساب ، ايضا باقية تحت ما دل على ان المرأة انما ترى
__________________
الحمرة الى خمسين
، والخارج عن تحته هى القرشية» ثم قال : «فتأمل تعرف.»
ولعله اشار
بالتأمل الى امكان تطرق المناقشة فيما ذكره من التقريب ، بأنه غير واف بالدعوى ،
إلّا اذا كان المنظور اليه فى العام تعميم الحكم لحالات الافراد علاوة على ما له
من العموم الافرادى ، فيكون له عموما افرادى واحوالى ، وليس الحال فى المثال
المذكور على هذا المنوال ، لاختصاص عمومه باستيعاب الافراد دون الاحوال.
وتوضيحه : ان
الانتساب الى قريش لم يذكر فى طرف المستثنى الا عنوانا مشيرا الى الخارج من افراد
العام ، اذ لا يمكن تعريفه الا بهذا العنوان ، ومن ثم جرى نسق التعبير فى لسان
الرواية بقوله (ع) الا امرأة من قريش بصورة الاخراج الفردى دون الاحوالى ، وإلّا
لقال : الا فى حالة انتسابها الى قريش ، وحينئذ يكون الباقى فى العام سائر الافراد
مع الغض والسكوت عن التعرض لحالها ، من كونها غير منسوبة الى قريش ، فلا يكون هذا
العنوان متعلق حكم العام ، فلا يكاد يجدى فى تنقيحه الاصل الموضوعى ، اذ هو انما
يقضى باندراج مجراه فى متعلق الحكم ، فيختص جريانه فى صورة يكون الحالة المتنقحة
به من متعلقات حكم العام ، وهو على خلاف الفرض ، اذ لا عموم احوالى فى المثال
المذكور ، فلا وجه لتسرية الحكم المذكور فى القضية الى تلك الحالة كما رامه الماتن
فى تقريبه.
نعم يمكن ان يقال
: بجواز التمسك بالاستصحاب فى نفى حكم الخاص ، اذ الخاص لما كان محكوما بأحكام
الحيض كان الواجب فى ترتيب تلك الاحكام ، احراز عنوانه ، من كون المراءة امرأة من
قريش اى منسوبة الى قريش ، وهو غير محرز ، بل استصحاب عدم الانتساب الازلى جار فيه
ايضا ، ويكفى فى جريان مثل هذا الاستصحاب ، ترتب
الاثر الشرعى على
نقيض المستصحب ، فعدم الانتساب الى قريش وان لم يكن موضوع اثر شرعى إلّا انه لمكان
ان الانتساب الى قريش ، موضوع الحكم الشرعى ، جاز استصحاب نقيضه.
ان قلت : لا حكم
شرعى فى الازل قبل وجود المراءة فكيف يصح جريان الاستصحاب فى شىء ، لا يكون له ولا
لنقيضه حكم شرعى فى الزمن السابق.
قلت : من المقرر
المبرهن عليه فى باب الاستصحاب ، انه يكفى فى جريانه فى ذلك الشىء ، اذا كان
لبقائه اثر شرعى كما فى المثال المذكور ، فإن الاثر يترتب على بقاء صفة عدم
الانتساب الى قريش الى حين وجود المرأة.
فان قلت : ان
الانتساب مما يتقوم بطرفين وقد كان فى السابق معدوما لعدم المنسوب اليه ، وفى
اللاحق معدوما لعدم المنسوب فتغايرت القضية المتيقنة والمشكوكة ، ومن المقرر فى
محله ان شرط جريان الاستصحاب فى شىء اتحاد القضيتين.
قلت : ليس مثل هذا
الاختلاف اختلافا فى القضية ، بل القضية السلبية واحدة ، وانما الاختلاف فى
اسبابها ، اذ العدم الازلى بنفسه وشخصه ، مستمر بحكم الاستصحاب الى زمان الشك ،
وان اختلف السبب فى دوامه واستمراره ، وان هو الا كالخيمة المنصوبة على الدوام مع
اختلاف فى اعمدتها المنصوبة عليها فلو حصل تغيير وتبادل فى تلك الا عمدة ، لم يكن
يقع اختلاف فى الخيمة كما لا يخفى.
فإن قلت :
الانتساب وجودا وعدما يفتقر الى موضوع يشار اليه ، فيقال : هذه المرأة منسوبة الى
قريش ، او ليست منسوبة اليه ، ومن الواضح ان هذه المرأة لم تكن فى الازل ، حتى يصح
ان يشار اليها بأنها ، ليست منسوبة اليه.
قلت : ذات المنسوب
اليه وماهيته لها تقرر فى الواقع قبل وجودها ، فمن ثم يقال : الذات موجودة ومعدومة
، وموضوع الاثر هى الذات ، فيتجه الاشارة اليها بأنها غير منسوبة الى قريش فى
الازل ، وهى بهذا الحال وهذا الوصف يصح فيها جريان الاستصحاب باستصحاب عدم
الانتساب اليه الى زمان الشك ، ويكون المقصود بذلك نفى الاحكام المترتبة على عنوان
الخاص ، لا ترتيب احكام العام ، إلّا اذا كان حكم العام نقيضا لحكم الخاص ، فانه
يمكن التمسك بالاستصحاب المذكور ، لترتيب كل من حكمى الايجابى والسلبى ، اذ نفى
تشريع احدهما بعينه تشريع الآخر ، كما ان تشريع احدهما بعينه نفى تشريع الآخر ،
فلو قال : المولى : يجب اكرام العلماء ثم استثنى الفساق منهم بدليل منفصل فقال :
لا يجب اكرام الفساق من العلماء وشك فى فسق زيد العالم ، فلو استصحب عدم فسقه
الازلى ، كان عدم وجوب اكرامه غير مجعول فى حقه ، وهو بعينه جعل الوجوب فى حقه ،
وكذا لو فرض المثال بالعكس من ذلك فقال : لا يجب اكرام العلماء ثم قال : يجب اكرام
العدول منهم ، فانه لو استصحب عدم عدالة زيد العالم المشكوك عدالته ، فقد افاد
انتفاء وجوب اكرامه على حسب ما افاده حكم العام.
واما اذا كان
اختلاف الحكمين بالتضاد دون التناقض ، فلا يكاد يجدى الاصل الا فى ترتيب ما يقتضيه
من الحكم المترتب على الخاص ، من دون تعرض له الى نفى حكم العام او اثباته ، اذ
استفادة ذلك من الاصل المذكور مبنى على القول باعتبار الاصولى المثبتة ، ولا نقول
به.
فتلخص مما ذكرناه
انا والماتن قده متوافقان عملا فى الاحكام المتناقضة ، دون الاحكام المتضادة ، اذ
الماتن يقول : بانسحاب حكم العام الى المشكوك مطلقا ونحن نقول : باشتراك حكم
المشكوك مع سائر الافراد المندرجة تحت الباقى من الافراد فى المتناقضين ، ركونا
الى الاصل العملى
، لا على انه مندرج فيها ومشمول لحكمها ، حتى يكون ذلك من باب التمسك بالدليل
الاجتهادى فى اثبات حكم المشكوك ، بل من باب التمسك بالاصل العملى فى اثبات حكمه ،
فيكون ذلك اختلافيا ، علميا لا عمليا.
واما الاحكام
المتضادة فلا يتأتى فيها ، الا الركون الى الاستصحاب فى نفى حكم الخاص ، لا اثبات
ضده من الحكم المتعلق بالعام ، فالاختلاف بيننا وبينه فيها علمى وعملى كما هو ظاهر
فافهم وتأمل فانه دقيق وبذلك حقيق.
«وهم وازاحة»
«ربما يظهر عن
بعضهم التمسك بالعمومات ، فيما اذا شك فى صحة الوضوء او الغسل بمائع مضاف ،
فيستكشف صحته بعموم مثل .. اوفوا بالنذور فيما اذا وقع متعلقا للنذر بأن يقال :
وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر ، للعموم وكلما يجب الوفاء به لا محالة يكون
صحيحا ، للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به.»
ويدفعه الفرق بين
العموم والاطلاق ، فان العام بعد التخصيص لا يتغير عنوانه عما هو عليه قبل طرو
التخصيص عليه ، فانه كان قبل التخصيص معنونا بعنوان يكون ذلك العنوان تمام الموضوع
لحكمه ، وهو باق على ذلك الحال بعد التخصيص ، فلو قال المولى : اكرم العلماء ثم
جاء دليل آخر افاد تخصيصه بإخراج فساق العلماء ، كان الباقى تحت العام افراد
العلماء بما هم علماء ، لا بعنوان كونهم علماء غير فاسقين ، او علماء عدولا مثلا ،
فتكون العالمية تمام الموضوع للحكم بوجوب الاكرام ، وهى باقية على ما كانت عليه
قبل التخصيص ،
فان التخصيص لم
يكن الا من قبيل انعدام جملة من افراد العام ، فلو مات من العلماء فرد او فردان ،
فهل ترى تغيرا فى عنوان العام؟ كلا بل العام هو بعنوانه باق وهو بذلك العنوان
موضوع الحكم بوجوب الاكرام فافهم.
فلو وقع شك او
ترديد فى خروج فرد من افراده بعد التخصيص ، كان مجال للتمسك باندراجه فى افراد
العام ، بانطباق عنوانه عليه ، وترتب عليه حكمه المتعلق به بذلك العنوان ، فزيد
العالم لو شك فى فسقه لم يكن يخرج بذلك الشك عن كونه مصداقا من مصاديق العلماء ،
لانطباق عنوان العالمية عليه بالجزم واليقين ، وقد كان هذا العنوان بعينه موضوع
الحكم بوجوب الاكرام ولم يتغير عما هو عليه بعد التخصيص ، فليجب اكرامه حتى تقوم
الحجة على خلافه ، ولعله الى ذلك نظر القائل بجواز التمسك بالعام فى الشبهة
المصداقية ، ونحن الآن لسنا بصدد تأييده وتشييده ، فان التحقيق عندنا كما عرفت هو
التفصيل المزبور ، وانما المقصود فى المقام التنبيه على ان العام بعنوانه محفوظ
وباق على ما هو عليه قبل التخصيص وبعده ، وهذا بخلاف المطلق فإن الرقبة قبل التقييد
، كانت هى الموضوع للحكم بوجوب الاعتاق ، وهى بهذا العنوان تمام الموضوع قبل ورود
دليل التقييد ، واما بعده فيتغير العنوان وتصير الرقبة جزء الموضوع ، لا تمامه ،
بل تمامه هو الرقبة المؤمنة ، وتحقيقه سيجيء إن شاء الله تعالى فى باب المطلق
والمقيد فانتظر له.
واذ قد تبين لك
الفرق بين العموم والاطلاق ، ظهر لك الحال فى التوهم المزبور ، وانه على خلاف
التحقيق ، فان دليل الوفاء بالنذور بمنزلة المطلق قاض بوجوب الوفاء به ، بعنوان
النذرية ، فلما جاء دليل التقييد وافاد تقييده بالرجحان ، خرج النذر بذلك عن كونه
تمام
الموضوع للحكم
بوجوب الوفاء به ، وصار جزء الموضوع ، فلا يجوز التمسك بعنوان النذر وحده ، للحكم
بوجوب الوفاء ، ما لم يحرز انضمامه الى قيد الرجحان ، ويبطل بذلك قول المتوهم وجب
الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر ، اذ ليس النذر بعنوانه تمام موضوع الحكم بوجوب
الوفاء بل مقيدا بالرجحان ولا رجحان فى الوضوء كذلك ، اى بمائع مضاف.
ومن هذا البيان
يظهر لك عدم الفرق فى العنوان بين كونه من العناوين الاولية ، او الثانوية ، فما
وقع فى الكفاية من رد المتوهم «بأنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة
لا حكام العناوين الثانوية ، فيما شك من غير جهة تخصيصها ، اذا اخذ فى موضوعاتها
احد الاحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الاولية» مخدوش فيه ، لظهوره فى تسليم
جواز التمسك بالعنوان الاولى لو كان ذلك من قبيل المطلق ، ومقتضاه جواز التمسك
بالاطلاق فى الشبهة المصداقية ، لو كان العنوان من العناوين الاولية ، وهو شيء لم
يقل به احد ولا يساعد عليه دليل ، ولعمرى لا يكاد ينقضى تعجبى كيف صدر هذا من مثله
، إلّا ان الخطاء والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان ، عصمنا الله تعالى من زلل
الاقدام والاقلام ، فى كل ورطة ومقام بمحمد سيد الانام ، وآله مصابيح الظلام.
وكيف كان فلو شك
فى ايمان رقبة ، لم يجز الحكم ، بوجوب اعتاقها ، تمسكا بالاطلاق.
وربما يكون نظر
الماتن قده فيما ذكره من البيان الظاهر فى التفصيل بين العناوين الاولية والثانوية
، الى الرد على وجه المماشاة مع المتوهم فى ظاهر كلامه ، حيث يظهر منه ان المثال
الذى ذكره من قبيل العموم ، وليس كذلك ، بل هو من قبيل الاطلاق ، فكان الماتن قده
بنى جوابه على
التسليم وفرض المثال من امثلة العموم ، ثم قال بالفرق بين العناوين الاولية
والثانوية.
«فى دوران الامر بين
التخصيص والتخصص»
«بقى شىء لو لم
يشك فى حكم زيد وقد علم بأنه غير واجب الاكرام ، ولكن شك فى كونه من العلماء حتى
يجىء فيه ارتكاب التخصيص لو قال المولى : اكرم العلماء ، او ليس هو من العلماء حتى
يكون خروجه تخصصيا لا تخصيصيا ، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم فى الحكم بأنه جاهل
غير مندرج فى افراد العلماء ، او لا يجوز؟ فيه اشكال ينشأ ، من ان المتيقن من بناء
العقلاء فى اتباع ظهور العام ، ما يجوز به حكمه بالنسبة الى معلوم الفردية ومشكوك
الحكم ، دون العكس ، ومن الوقوف على كثير من الموارد التى تمسك العلماء فيها ،
بأصالة العموم لما هو مفروض الكلام.
منها : تمسكهم فى
اثبات وضع الصلاة للصحيح ، بقوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فانه لو لا وضع اسم الصلاة للصحيح ، يلزم ارتكاب التخصيص
فى هذا العموم ، واصالة العموم تنفيه فافهم.
ومنها : تمسكهم
لطهارة ماء الاستنجاء المعلوم جواز شربه ، بعموم ما دل على محظورية شرب الماء
المتنجس فانه لو لا طهارة ماء الاستنجاء ، للزم ارتكاب التخصيص فى ذلك العموم ،
وهو على خلاف الاصل فتأمل.
__________________
ومنها : تمسكهم فى
باب الزكاة ، لكونها متعلقة بالذمة لا بالعين ، بأنه من المعلوم المتسالم عليه ان اختيار
التعيين فيها للمالك فلو لا تعلقها بالذمة ، لكان ذلك تخصيصا فى عموم سلطنة الناس
على اموالهم ، وهو خلاف الظاهر ، الى غير ذلك من الموارد التى عدد شيخنا الاستاذ
الاكبر دام ظله فى مجلس الدرس ، ولم يحضرنى منها غير ما تلوته عليك ، ولعلك تقف
الى ازيد من ذلك ، اذا تتبعت ، ولكنك خبير بأن كلها قابل للخدشة فيها فيعين الوجه
الاول ، ولم يسعنى المجال فعلا لذكر الخدشات فيه وسنذكره فيما بعد فى الهامش
فلاحظ.
«فى جواز العمل
بالعام قبل الفحص»
«فصل :» هل يجوز
العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فيه خلاف ، والقول الفصل فى هذا الفصل ، ان
ينظر فى العام ، فان كان فى معرض التخصيص لم يجز العمل به قبل الفحص ، وان لم يكن
فى معرضه ، فإن كان العام من العمومات التى علم اجمالا بطرو التخصيص عليها ،
كالعمومات المتداولة فيما بأيدينا ، وجب الفحص بمقدار يخرج العام عن احد اطراف
المعلوم بالاجمال ، بمعنى انا نعلم ان لنا عمومات ، لو تفحصنا عن مخصصها ، لعثرنا
عليه ، فيلزم الفحص حتى يعلم حال ذلك العام ، فإن كان من اطراف المعلوم كذلك وكان
له مخصص لوقفنا عليه ، خرج ذلك العام عن اطراف المعلوم بالاجمال ، ولم يبق فيه
إلّا احتمال تخصيصه باحتمال بدوى تنفيه اصالة العموم ، «واما اذا لم يكن العام
كذلك» اى فى معرض التخصيص
__________________
«كما هو الحال فى
غالب العمومات الواقعة فى السنة اهل المحاورة ، فلا شبهة فى ان السيرة على العمل
به بلا فحص عن المخصص كما لا يخفى.»
«فى الخطابات
الشفاهية»
«فصل :» اختلفوا
فى اختصاص الحاضرين بخطاب المشافهة ، او عدم اختصاصهم به؟ بل يشترك معهم الغائبون
والمعدومون؟
وينبغى اولا ان
يعلم ان نحو الخطاب فى الكلام مختلف ، فتارة يكون بنحو يا زيد يجب على المسافرين
كذا وعلى الحاضرين كذا ، ومثل هذا الحكم المستفاد من هذا الكلام يعم الحاضرين
وغيرهم من الغائبين والمعدومين بلا نزاع فيه من احد ، واخرى يكون بنحو المواجهة مع
الغير بأداة الخطاب ، بنحو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) ويجب عليكم كذا ، وافعل كذا ، ونحو ذلك مما يفيد بظاهره
اختصاص الحكم المستفاد منه ، بالمواجهة بالكلام ، ومثل هذا كثير فى لسان الآيات
والاخبار ، فيقع فى مثله النزاع المذكور ، لكن مثله وان كان لا يكاد ينكر ظهوره فى
اختصاص الحكم بالحاضرين فى مجلس التخاطب ، بل من توجه اليه ذلك الخطاب من بين
الحاضرين ، إلّا ان بناء الاصحاب رضوان الله تعالى عليهم فى جميع ابواب الفقه ،
على الغاء الخصوصية ، ولا يبعد ان يكون هذا البناء جاريا فى المحاورات العرفية
ايضا ، فيكون للكلام حينئذ ظهور ثانوى فى صيرورة الحكم المستفاد منه ، كالقاعدة
المضروبة الجارية فى حق الحاضرين وغيرهم من الغائبين
__________________
والمعدومين.
وثالثة يكون من
قبيل يا ايها الذين آمنوا ، ويا ايها الناس ونحو ذلك مما اشتمل الكلام فيه على
كلمتين ، كل منهما ظاهرة فى غير ما عليه الاخرى ، فان كلمة «يا» اى حرف النداء ،
ظاهرة فى حضور المنادى بها ، بخلاف كلمتى الذين آمنوا ، والناس فانهما يعمان
الحاضرين وغيرهم ، فيقع النزاع فى الاخذ باى واحد من هذين الظهورين حتى يرتكب
التصرف فى الظهور الآخر ، ويرفع اليد عنه بقرينة غيره ، والوجه فيه انه كسائر
الخطابات التى يلغى فيها الخصوصيات المكتنفة بالكلام ، فيكون الحكم المستفاد من
ذلك الكلام ، غير مختص بالحاضرين ، بل يعمهم وغيرهم من الغائبين والمعدومين وربما
يستشكل فى تعميم الحكم الى المعدومين ، بأن الحكم اذا كان الزاميا وتكليفا فعليا ،
امتنع فيه التعميم الى المعدومين ، اذ المعدوم الذى لم يكن شيئا مذكورا ، يمتنع
تكليفه بمضمون الخطاب ، فإن نسبة المكلف «بالفتح» الى التكليف كنسبة المكلف به
اليه ، فكما يمتنع التكليف ، بشرب اللبن ، اذا لم يكن فى الخارج لبن يشرب ، كذلك
يمتنع تكليف المعدوم الغير الموجود فى الخارج.
ويدفعه : ان
الممتنع من التكليف ما يكون تعلقه بالمكلفين بنحو الفعلية ، لا ما يكون بنحو
التعليق وفرض الوجود فان الخصوصية ، اذا كانت ملغاة فى ظاهر الكلام ، بالظهور
الثانوى ، كان التكليف مأخوذا بنحو التعليق وفرض وجود المكلفين ، فهو فى قوة القول
بأن الذى يوجد من المكلفين ويتأهل التكليف ، يكون مكلفا بمضمون ذلك الكلام فهو
نظير واجب المشروط بالنظر الى المكلف به.
وبالجملة العمدة
فى الحكم بالتعميم الى الغائبين والمعدومين ، هو الذى سمعته من دعوى انعقاد ظهور
ثانوى فى خطاب الشارع ،
بل وغيره على
الغاء الخصوصية المتراءاة من ظاهر الخطاب القاضى فى بدو النظر باختصاص الحكم
بالحاضرين ، فالمختار عندنا فى هذه المسألة هو القول بالتعميم وعدم اختصاص
الحاضرين بالحكم الذى يتضمنه خطاب المشافهة.
وربما يحتج
للمختار فيها بوجوه أخر غير ما ذكرناه.
الاول : ان
المخاطبة تفتقر الى موجود حاضر فى مجلس التخاطب ، ولكن لا يلزم فى ذلك الموجود ان
يكون موجودا حقيقيا ، بل اعم من ذلك ومن الموجود بالوجود التنزيلى ، فالمعدومون
يفرض وجودهم اولا وينزلون منزلة الموجودين الحاضرين ، فيلقى اليهم الكلام ، كما
يلقى الى الحاضرين بالحقيقة ، فيكون الخطاب متوجها الى ما يعم الحاضرين وغيرهم من
الغائبين والمعدومين.
وفيه : ان ذلك مما
يكذبه الوجدان الحر السليم ، كما لا يخفى على الخبير المطلع على المكالمات العرفية
، فأنك تريهم لا يخاطبون الا من حضر لديهم فى مجلس التخاطب بالحضور الحقيقى دون
الادعائى والتنزيلى.
الثانى : ان كلمة «يا»
فى النداء ، موضوعة للخطاب الايقاعى الانشائى ، وهو لا تختص بالحاضرين ، بل يعمهم
وغيرهم.
وفيه : انه كسابقه
مخدوش فيه ، بأنه لو سلم ذلك فانما هو بالوضع الاولى ، وظاهر اللفظ على اختصاصه
بالخطاب الحقيقى ، وهو يستدعى حضور المخاطبين فى مجلس الخطاب كما هو ظاهر بين.
الثالث : ان ظاهر
أداة الخطاب وان كان على اختصاصه بالحاضرين ، إلّا ان ذلك لم يكن تقييدا فى مصلحة
الحكم ، حتى يتوهم منه القول باختصاص مصلحة الحكم بالحاضرين فى مجلس الخطاب ، بل
دائرة المصلحة اوسع من دائرة الحكم ، كما يكشف عنه اطلاق
المادة ، اى متعلق
الحكم والتكليف ، اذ التكليف بالشىء وان كان يعتبر فيه القدرة على ذلك الشىء ،
إلّا ان التقييد بذلك ليس إلّا من ناحية العقل الحاكم بقبح التكليف بغير المقدور ،
فاذا امتنع حصول المكلف به لجهة من الجهات ، اما من ناحية الشىء المكلف به بتعذره
، او من ناحية المكلف بانعدامه ، فقد بطل التكليف ، إلّا ان بطلانه بالتعذر والعجز
، لا يوجب سقوطه رأسا ، بل يدور مدار القدرة وعدمها ، فاذا كان الشىء ممتنع الحصول
من اول الامر ، ثم صار مقدورا ، جرى الحكم بحاله ، لتحقق ملاكه ، اذ اعتبار القدرة
عقلا غير اعتبارها شرعا ، فإن اعتبارها العقلى ، لا يمنع من تحقق الملاك والمصلحة
فى غير المقدور ، بخلافه فى القدرة المعتبرة فى لسان الشارع ، فانها تقتضى اختصاص
المصلحة بها ، ولا يتعدى الى حالة العجز ، ومن ثم ترى المحققين يذهبون فى الضد
المزاحم بالاهم الى صحته لو كان من قبيل العبادات ، فلو ترك الازالة واشتغل
بالصلاة صحت صلاته ، لتحقق ملاك الصحة فيها ، ولو كانت مزاحمة بالاهم ، اذ مثل هذه
التزاحم انما يرفع فعلية التكليف بالمهم ، ولا يرفع واقعه عنه فالتكليف الواقعى
بحسب اطلاقه يعم القادر والعاجز ، إلّا ان فعليته منوطة بالقدرة عقلا ، وهذا هو
المراد من اطلاق المادة ، فانه لما ذكر الكلام غير مقيد بالقدرة ، يكون ذلك دليلا
على ان مناط الحكم وملاكه ، يعم حالتى القدرة والعجز ، فلو قال المولى : اقم
الصلاة ، كان ذلك دليلا على ان الصلاة فى حد نفسها ذات مصلحة هى متحققة فيها ،
سواء كانت مقدورة او غير مقدورة ، وهذا لا ينافى اعتبار القدرة عقلا فى صحة
التكليف بها.
والحاصل انه فرق
بين ان يقول الشارع ويجىء التقييد بالقدرة من ناحية العقل ، وبين ان يقول : اقم
الصلاة ان كنت قادرا ، فانه على الاول تكون الصلاة ذات مصلحة فى حالتى العجز
والقدرة ، بخلافه
على الثانى فانه
يختص اشتمالها على المصلحة بحال القدرة خاصة.
ومنه ينقدح لك
الحال فيما نحن فيه ، فإن الخطاب وان كان بحكم العقل مختصا بالحاضرين ، إلّا ان
المولى لم يؤخذ ذلك قيدا فى متعلق حكمه ، فكان التقييد بالقدرة شىء يقتضيه العقل
دون الشرع ، بل المنظور اليه فى الخطاب الذى يتضمن التكليف هو مطلق المكلفين ، حاضرين
كانوا او غائبين او معدومين.
وفيه : انا لا
نتعقل الاطلاق فى ناحية المادة الواقعة فى حيز الحكم ، بعد اعتبار الحكم متضيقا
بحال القدرة اذ لا بد من الموازنة والمساواة بين الحكم وموضوعه ، لا بمعنى تقييد
الموضوع بحكمه ، اذ ذلك مستحيل بعد فرض اختلافهما بالرتبة ، بل بمعنى ان يكون
الموضوع والمتعلق على حد الحكم ، لا يزيد عليه ولا ينقص ، وانما يكون باعتباره حصة
هى توأم مع الحكم ، وهكذا الحال بالنسبة الى من توجه الحكم اليه ، وكان مخاطبا
بالكلام ، فانه لا بد وان يكون على حذو التكليف والحكم المتلقى من ذلك الكلام ، فان
كان الحكم عاما كان المكلف به كذلك ، وان كان خاصا كان المكلف به كذلك ، فلا معنى
للتفكيك بينهما ، بدعوى التضييق فى جانب الحكم واختصاصه بالحاضرين ، والقول بعمومه
ملاكا وعدم اختصاصه بهم.
ولئن سلم وقلنا
بذلك فى جانب المطلوب ، فلا نسلمه فى جانب المطلوب منه المكلف ، بمقتضى ذلك الحكم
، اذ غاية ما يمكن ان يقال فى وجه الاطلاق فى ناحية المطلوب ، ان التقييد بالقدرة
، تارة يكون من قبيل التقييد المتصل بالكلام ، كما لو كان ذلك القيد ارتكازيا فى
الاذهان لا يكاد يخفى على السامع ، اذا سمع الكلام وخوطب به ، واخرى يكون من قبيل
القيد المنفصل عن الكلام ، كما اذا فرض اختفاء القيد على وجه ، لا يلتقت اليه ،
الا بعد التأمل وتدقيق النظر ، فإن كان من قبيل
الاول ، لم يكن
ثمة اطلاق فى الحكم ولا فى متعلقه ، بخلاف الثانى فانه يمكن فيه دعوى الاطلاق وسعة
المادة ، على وجه لا يكون لها اختصاص بالقادرين ، بل المصلحة فيها تعم القادر الذى
توجه اليه التكليف والعاجز الذى لم يتوجه اليه.
وربما يتفق مثل
ذلك فى الموارد المأخوذة فى حيز الاحكام والتكاليف ، فيكون لها اطلاق مادى ، واما
بالنظر الى المكلفين ، فلا يكون الا من قبيل الصورة الاولى التى لا يكون الكلام
فيها اطلاق بوجه من الوجوه ، فالتزام الاطلاق فيها من ذلك الوجه بعيد غايته ،
لظهور انه عند سماع اللفظ ينتقل الذهن سريعا الى اعتبار الحضور فى المخاطب الملقى
اليه الكلام ، فلا يتجه فيه دعوى الاطلاق من ناحية المكلفين ، على نحو دعوى اطلاق
المادة فلا تغفل.
«فى ثمرة تعميم خطاب
المشافهة»
«فصل :» ربما قيل
بظهور الثمرة فى هذا النزاع ، بأنه على القول بالتعميم يكون ظهور الكتاب حجة
للمعدومين ، كما هو حجة للمشافهين ، وعلى القول الآخر يختص حجيته بالمشافهين ، ورد
ذلك بأن التحقيق حجية الظواهر لكل حتى من لم يكن مقصودا بالافهام ، وعليه فلا
يتفاوت الحال بين القولين ، فلا ثمرة فى النزاع المذكور ، اذ بناء عليه لو قيل : باختصاص
الخطاب للمشافهين ، لا يلزم اختصاص حجية الظواهر بهم ، اذ الحجية اوسع دائرة من
الخطاب كما هو المختار.
وربما قيل : بظهور
الثمرة بأنه على التعميم يصح التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية ، بخلافه على
القول الآخر ، وانما يحتاج تسرية الحكم الى المعدومين الى التمسك بقاعدة الاشتراك
، وهى
لا تكاد تجدى الا
فى رفع احتمال دخل خصوصية اشخاص المخاطبين ، لا رفع احتمال دخل الصفات العرضية
التى يختلف بها صنف المكلفين وحدة وتعددا.
ويرد عليه : اولا
ان هذا ليس شيئا آخر وراء النزاع فى حجية الظواهر بالنسبة الى خصوص المقصودين
بالافهام ، او الى الاعم من ذلك ، وقد عرفت التحقيق فى ذلك وان المختار فيه حجيته
بالنسبة الى كل احد حتى الغير المقصودين بالافهام ، وعليه يجوز التمسك بالاطلاق فى
حق المعدومين ايضا ، لحجية الظاهر بالنسبة اليهم ، واطلاقات القرآن الكريم نحو من
الظهور ، فليكن حجة لغير المقصودين بالافهام من غير المشافهين.
وثانيا : بعد
التسليم والقول بمغايرة النزاع المذكور هنا للنزاع المعروف فى حجية الظواهر ، يمكن
منع الثمرة بدعوى ان التمسك بالاطلاق جائز فى حق المعدومين ، حتى على القول
باختصاص الخطاب للمشافهين ، اذا لاختصاص انما يمنع من التمسك بالاطلاق فى حق
المعدوم ، اذا كان المقصود منه التمسك به لتشخيص حكمه وتعيين وظيفته ، اما اذا كان
المقصود منه التمسك به لتعيين وظيفة المشافهين ومعرفة ما يلزمهم من التكليف ، حتى
يتسرى منهم الى نفسه بقاعدة الاشتراك ، لم يكن فى ذلك التمسك بذاك الاطلاق مانع
ولا محذور ، وحينئذ تبطل الثمرة المذكورة اذ التمسك بالاطلاق جائز على كلا القولين
، قلنا باختصاص الخطاب بالمشافهين ، او لم نقل بذلك ، غاية ما فى الباب انه على
القول بالاختصاص انما يتمسك به لا ثبات حكم المشافهين ، ويتسرى منهم الى المعدومين
، بقاعدة الاشتراك ، وعلى القول الآخر يتمسك به لاثبات حكم المعدومين من اول
الوهلة ، من غير حاجة الى توسيط قاعدة الاشتراك ، ومجرد
افتقار النتيجة
العملية الى مقدمتين على قول ، والى مقدمة واحدة على القول الآخر ، لا يكاد يصلح
ان يكون ثمرة لمثل هذا النزاع المحرر فى هذا الباب.
فإن قلت : فرق بين
بين توسيط قاعدة الاشتراك فى التمسك بالاطلاق ، وعدم توسيطها ، اذ على الاول لو
اتفق هناك صفة لازمة للمشافهين دون المعدومين ، لم يجز التمسك به فى تعيين حكم
المشافهين ، اذ لا يلزم من عدم تقييد الحكم المتعلق بالمشافهين ، بالصفة اللازمة ،
نقض غرض اصلا ، حتى يكون فى عدم التقييد دلالة على اطلاق الحكم فى حق المشافهين كى
يتسرى منهم الى المعدومين ، ويحكم بالاطلاق فى حق المعدومين ، بخلافه على الثانى ،
فان الصفة لما كانت تفارق المعدومين ، كما هو المفروض ، فلو كانت دخيلة فى حكم
المتوجه اليهم بلسان المخاطبة معهم ، لكان فى تجرد الحكم عنها وعدم تقييده بها ،
نقض غرض يلزم على المولى لو لم يقيد الحكم بها ، فيصح التمسك بالاطلاق فى حقهم.
وبالجملة تظهر ثمرة
الفرق بين المسلكين ، فى الصفات اللازمة الغير المنفكة عن المشافهين خاصة ، فانه
يجوز للمعدومين ، التمسك ، بإطلاق الخطاب على التعميم ، ولا يجوز لهم التمسك به
على القول بالاختصاص ، وكفى بذلك ثمرة للنزاع المذكور.
قلت : هذا انما
يتجه لو كان المقصود من مخاطبة المشافهين ، ليس إلّا بيان تكليفهم خاصة ، اما لو
كان المقصود من ذلك بيان تكليفهم ، ليكون ذلك التكليف تمهيدا لتكليف غيرهم بما
كلفوا به ، حتى يتساوى المشافهون وغيرهم فى التكليف ، فاللازم على المولى ان يذكر
القيد اللازم ، دفعا لتوهم الاطلاق بالنسبة الى المعدومين ان يذكر القيد اللازم ،
دفعا لتوهم الاطلاق بالنسبة الى المعدومين ،
فإذا ما ذكره ، دل
ذلك على عدم دخالة القيد فى الحكم المذكور ، وان كان هو لازم الحصول بالنسبة الى
المشافهين ، ومعلوم ان ظاهر حال الشارع المبعوث الى عامة المكلفين ، يقتضى التعميم
وعدم اختصاص البيان والغرض من التكليف بالمشافهين ، فلو جيء بالتكليف وذكر الحكم
فى كلامه مطلقا ، كان ذلك حجة على اطلاق الحكم فى حق المشافهين ويتسرى منهم الى
المعدومين بذلك النحو ، فيكون الحكم على اطلاقه بالنسبة الى المعدومين ايضا.
فانقدح بذلك صحة التمسك بالاطلاق على كل من القولين ، ولم يظهر فى النزاع المذكور
ثمرة علمية فأفهم واغتنم وكن من الشاكرين.
«فى تعقب العام بضمير
يرجع الى بعض افراده»
«فصل : هل تعقب
العام بضمير يرجع الى بعض افراده ، يوجب تخصيصه به ، او لا؟ فيه خلاف.»
وينبغى ان يعلم
اولا ، ان تحرير محل النزاع بهذا الوجه غير سديد ، اذ الضمير الواقع فى تلو العام
، انما يكون من توابع العام وملحقا به ، فيكون من قبيل اقتران العام بما يصلح
لتخصيصه ، فيخرج بذلك عن ظهوره فى العموم ويصير من المجملات.
اللهم إلّا ان
يقال : بأصالة العموم تعبدا ، وهو على خلاف التحقيق ، وحينئذ لا يبقى مجال للنزاع
المذكور ، اذ هو فرع ظهور العام على عمومه ، وعدم خروجه عنه الى الاجمال.
فالاولى تحرير محل
النزاع بما لو كان فى الكلام عام ، ثم تعقب ذلك الكلام ، كلام آخر مشتمل على ذلك
العام الاول بلفظه ، ولكن اللفظ الثانى يتعقبه ضمير يرجع الى بعض افراده ، ويقطع
من
الخارج بأن المراد
من العامين واحد ، فيقع النزاع حينئذ على ان اللفظ لما كان فى كلام مستقل ، كان
باقيا على ظهوره ، ويكون حجة فى مدلوله ، إلّا ان العام الثانى لما كان متعقبا
بضمير يرجع الى بعض افراده ، فهل يكون مثل هذا موجبا لتخصيص العام الاول الذى كان
ظاهرا فى العموم او لا؟ والتحقيق بقاء العام الاول الذى كان ظاهرا فى العموم ، على
ظهوره ، ولا يكاد يسرى الاجمال من العام الثانى اليه ، لكونهما واقعين فى كلامين
مستقلين ، حسب الفرض فلا تعلق لاحدهما بالآخر ، حتى يتأتى فيه احتمال السراية
فافهم وتأمل.
«فى جواز تخصيص العام
بالمفهوم المخالف»
«فصل :» اذا ورد
عام كقوله (ع) : خلق الله «تعالى» الماء طهورا لا ينجسه شىء ، الا ما غير لونه او
طعمه او ريحه ثم ورد بعده خاص دال بمفهوم المخالفة على اختصاص الحكم
ببعض الافراد ، كقوله عليهالسلام : اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شىء فانه يدل بمفهوم الشرط على انفعال الماء الذى لم يبلغ قدر
كرّ ، فهل يكون مثل هذا الخاص مخصصا للعام او لا؟ فيه خلاف.
وتحقيق القول فى
ذلك ، ان العام والخاص ، اما ان يكونا فى كلام واحد او فى كلامين ، وعلى كل من
التقديرين اما ان يكون دلالتهما على العموم والخصوص بالوضع معا ، او بالاطلاق كذلك
، او مختلفين ، فهذه ثمانية صور ، فان كانت الدلالة من كل منهما بالوضع ، وكانا
__________________
فى كلام واحد فقد
تزاحم الظهوران ، فإن تساويا فى الظهور كان الكلام مجمل الدلالة من الوجه الذى
اختلفا فيه ، وان كان احدهما اظهر من الآخر ، كان المتبع ذلك الاظهر دلالة ، وكذلك
ان كانت الدلالة من كل منهما بالاطلاق ، فإن تساويا فى الدلالة الاطلاقية ، كان
الكلام مجمل الدلالة ، لسقوط مقدمات الحكمة عن احد الاطلاقين بلا معين فى البين ،
فيقع الاجمال فى ذلك الكلام ، وان اختلفا فى الاظهرية دلالة وعدمها ، كان المتبع
ذلك الأظهر كما عرفت فى الاول.
واما لو كان دلالة
احدهما بالوضع ، ودلالة الآخر بالاطلاق ، فلا بد من الاخذ بما له الدلالة الدلالة
الوضعية ، لان دلالته على المراد تنجيزية ، ودلالة المطلق عليه تعليقية ، منوطة
بعدم ورود بيان يدل على خلاف الاطلاق ، ومعلوم ان الدلالة الوضعية ، تصلح لان تكون
بيانا ودليلا ، على خلاف الاطلاق ، فلا يبقى معها مجال للتمسك بالاطلاق ، سواء كان
الاطلاق فى جانب العام او فى جانب المفهوم.
وان كانا فى
كلامين ، فان كان المتكلم بالمطلق فى صدد بيان تمام مرامه بكلامه ذلك المشتمل على
المطلق ، وبكلام آخر ، جرى فيه الكلام المذكور فيما لو كانا فى كلام واحد ، وان
كان بصدد بيان تمام مرامه بخصوص ذلك الكلام المشتمل على ذلك المطلق فقط ، يجىء
التعارض بين الظهورين الواقعين فى كلامين ، سواء كانا وضعيين ، او اطلاقيين ، او
مختلفين ، لاستقرار الظهور ، وجاء بعد ذلك ظهور على خلافه ، كان اللازم الموازنة
بين الظهورين ، ثم اتباع الاظهر منهما ان كان ، وإلّا كان الكلامان بمنزلة الكلام
الواحد المجمل الدلالة بالنسبة الى ما يختلفان فيه فقط فتأمل.
«فى الاستثناء
المتعقب للجمل»
«فصل :» اذا تعقب
الاستثناء جملا متعددة ، فلم يشك احد من الاصحاب فى رجوعه الى الجملة الاخيرة ،
وانما اختلفوا فى تعين رجوعه اليها خاصة ، بلا ضم ضميمة سائر الجمل اليها ، او
اشتراك البقية معها فى رجوعه اليها ايضا؟ وظاهر عبارة الاستثناء الواقعة فى كلامهم
، وكذا تسالمهم على رجوع الاستثناء الى الجملة الاخيرة ، هو كون النزاع ومحل
الخلاف بينهم فى الاستثناء المتصل خاصة ، دون المنفصل ، اذ لم يعهد التعبير من
الاخراج بكلام آخر منفصل عن الكلام الاول ، بعبارة الاستثناء ، كما انه لا ينبغى
الجزم بلحوق الاستدراك الى الجملة الاخيرة ، لو كان ذلك بكلام منفصل ، لظهور ان
نسبة ذلك الاستدراك المنفصل عن الكلام المشتمل على الجمل المتعددة ، الى جميع
الجمل على السوية ، وليس للاخيرة منها مزية على ما قبلها فى الرجوع اليها ، فلو
قال المولى : اكرم العلماء واكرم الشرفاء ، ثم قال فى كلام آخر ، لا تكرم الفساق
منهم ، لم يتعين فى الفاسق ان يكون مخرجا عن الشرفاء ، وليس هو متيقن الخروج منهم
، بل كما يحتمل خروجه منهم بالخصوص كذلك يحتمل خروجه من الظرفاء او العلماء ، او
من جميعهم.
وكيف كان فربما
يستشكل فى رجوع الاستثناء الى الجميع ، لو كان الاستثناء متصلا بالكلام ، كما هو
محل كلامهم فيه ، وذلك لان كلمة الا التى هى أداة الاستثناء ، موضوعة للاخراج
بالوضع العام ، والموضوع له خاص ، فيكون كل من الاخراجات المفروضة فى ذلك
الاستثناء المتعقب
للجمل المتعددة ، معنى مستقل بحياله لكلمة الا ، فلو بنى على رجوع الاستثناء الى
كل الجمل ، لزم منه استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة ، وهو باطل جدا كما لا
يخفى.
ويدفعه : ان
الاخراج من الجميع يعد معنى واحدا لاداة الاستثناء لا معانى عديدة حتى يتأتى فيه
الاشكال المذكور ، لظهور ان خصوصيات الاخراج ، انما تختلف باختلاف كيفياته ، فإن
لوحظ المخرج والمخرج منه متكثرات انضمامية ، كان ذلك معنى واحدا من معانى الا ،
وان لوحظا متكثرات انفرادية ، كان ذلك معنى آخر ، فيكون اختلاف هذين النحوين من
الاخراج كاختلاف اعتبار العموم مجموعيا او استقلاليا ، ومن ثم لم يتوهم احد فى مثل
أداة العموم ، لو استعملت فى استيعاب تلك المتكثرات بأحد النحوين ، ان يكون
استعمالها فى ذلك من استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة ، وحينئذ اذا اعتبر
الاخراج بأحد النحوين واستعمل لفظ «الا» فى احد المعينين ، كان ذلك استعمال اللفظ
فى معنى واحد لا معان عديدة.
نعم لو فرض
استعمال كلمة «الا» فى الاخراج بكل من الاعتبارين ، الانضمامي والاستقلالى معا ،
كان ذلك من استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة ، واتجه الاشكال ، إلّا ان ذلك
خلاف المفروض ، ولا يكاد يقتضيه رجوع الاستثناء الى كل الجمل هذا ، مضافا الى
امكان منع المبنى فى وضع الاداة ، اذ هى كسائر الادوات الحرفية موضوعة بالوضع
العام والموضوع له عام ، كما حققناه واخترناه فى وضع الحروف وفاقا للماتن ، وان
كنا متخالفين فى كيفية اعتبار ذلك المعنى العام ، اذ هو على نظر الماتن قده يراه
مفهوما منعزلا عن الخصوصيات ، منطبقا عليها انطباق الكلى على جزئياته ، وعلى مسكنا
نراه مفهوما مندكا فى ضمن الخصوصيات ملحوظا معها تبعا ، كما اقمنا البرهان
عليه وأوضحناه فى
محله بما لا مزيد عليه ان شئت فراجع المقام هناك.
وعلى اى حال ، لو
استعمل الحرف فى مثل ذلك المعنى العام ، لم يكن للمستعمل فيه ولا له ، مساس
بالخصوصيات المتكثرة ، حتى يجىء فيه احتمال الشبهة والاشكال ، اذ الخصوصيات
المتكثرة انما هى مرادة ومدلول عليها بدال آخر غير دلالة اللفظ الحرفى ، فلا موقع
للاشكال المذكور من حيث الامكان ، على جميع الاقوال والانظار اصلا ، ولعمرى هذا
أوضح من ان يخفى.
نعم ربما يقع
الاشكال فى موضع البحث ، من حيث الوقوع ، فيتردد الحال فى رجوعه الى غير الاخيرة
من الجمل المتقدمة ، والتحقيق انه لا دليل يدل على رجوعه الى غير الاخيرة ، إلّا
ان ذلك لا يقتضى بقاء العمومات على ظاهرها من العموم ، حتى يصلح التمسك بها
بالنسبة الى مورد الاستثناء «فلا يكون» غير الاخيرة من الجمل «ظاهرا فى العموم ،
لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه ، فلا بد فى مورد الاستثناء فيه من الرجوع الى
الاصول» العلمية ، إلّا اذا اختلف كيفية الدلالة ، فكانت العمومات السابقة ، تدل
على العموم بالوضع ، وكان المستثنى دالا على استيعاب افراده بالاطلاق وبمعونة
مقدمات الحكمة ، كما لو قال المولى : اكرم كل عالم واكرم كل شريف واكرم كل ظريف ،
الا الفاسق ، فانه لا ريب فى انه يجب فى مثل ذلك الاعتماد على ما تقتضيه العمومات
السابقة ، من وجوب اكرام جميع العلماء والشرفاء ، من غير استثناء الفاسق منهم ،
اخذا بظهورهما فى العموم ، ولا يكون تعقبهما بمثل هذا الاستثناء ، موجبا لا
جمالهما فى مورد الاستثناء ، لما عرفت آنفا من ان الدلالة الاطلاقية ، دلالة
تعليقية منوطة بعدم ورود ما يصلح ان يكون بيانا على خلاف الاطلاق ، والعام فى
المثال المذكور صالح للبيانية ، لان دلالته على العموم دلالة
تنجيزية مستندة
الى الوضع ، فتكون هذه الدلالة لازمة المراعاة بلا تعليق ، ولا اناطة على شىء ،
فيرفع بها اليد عما يقتضيه اطلاق المستثنى ، كما انه لو كان فرض المثال بالعكس مما
ذكر ، فكان دلالة العمومات السابقة على العموم بالاطلاق ، ودلالة المستثنى عليه
بالوضع ، كان اللازم مراعاة الدلالة الوضعية فى جانب المستثنى ، فيكون المتحصل من
ذلك البناء على خروج الفاسق من جميع العمومات المتقدمة.
واما لو فرض دلالة
كل من المستثنى وما قبله بالاطلاق ، فان كان فى احد الاطلاقين ، قوة ظهور مرجح على
الاطلاق الآخر ، اخذ به وعمل بمقتضاه ، وإلّا كان الكلام مجمل الدلالة بالنظر الى
مورد الاستثناء فتفطن.
«فى تخصيص الكتاب
بالخبر الواحد»
فصل : اختلفوا فى
جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، على قولين ، ونظر المانع الى ان الخبر طنى
والكتاب قطعى ، والاول لا يقاوم الثانى.
وفيه ان الخبر وان
كان ظنى السند ، إلّا انه قطعى الدلالة ، كما ان الكتاب يكون بالعكس من ذلك ، فكان
كل منها ظنيا من وجه ، وقطعيا من وجه آخر ، وان شئت قلت : ان المزاحمة بين الخبر
والكتاب انما هى باعتبار دلالتيهما ، ومعلوم ان دلالة الخبر حسب المفروض اقوى من
دلالة الكتاب ، فلنقدم دلالة الخبر على دلالة الكتاب ، فيكون الخبر بهذا الاعتبار
مخصصا لظاهر الكتاب.
وربما يتوهم المنع
بالنظر الى ما ورد فى كثير من الاخبار ، من
طرح المخالف
للكتاب ، او انه زخرف او انه لم يقله عليهمالسلام الى غير ذلك مما يدل على هذا المعنى .
وفيه : ان اللازم
فى مثل هذه الاخبار ، حملها على المخالفة بنحو التباين خاصة ، لا ما كان بنحو
العموم والخصوص المطلق ، لظهور ان صدور المخالف كذلك واقع فى كلماتهم عليهمالسلام كثيرا ، ولا يكاد يشك فيه احد ، كما ان ظاهر لسان الاخبار
الناطقة بطرح المخالف ، آب عن التخصيص جدا ، وكذلك التقييد ، فلا مساغ فيها للقول
بأنها مخصصة بغير ما علم صدوره منهم ، فلا محيص من تنزيل المخالفة فيها على ما
يكون مخالفة تباينية ، لا مخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق ، وعليه لا يكون فى
مثل هذه الاخبار ، دلالة على منع تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، فلم يبق شىء فى
البين مما يحتمل مانعيته عن تخصيصه به ، غير دعوى ان كلا من عموم الكتاب وسند الخبر
، يفتقر الى دليل يدل على اعتباره ، وليس اعتبار الخبر بأولى من اعتبار عموم
الكتاب ، فدليل التعبد بظاهر عموم الكتاب ، كدليل التعبد بسند الخبر متساويان لا
ترجيح لاحدهما على الآخر ، وليس تقديم احدهما على الآخر بأولى من العكس.
وفيه : ان هذه
الدعوى لا تختص بمحل النزاع ، بل هى جارية فى كل خاص تعبدى قيس الى عام آخر ، سواء
كان ذلك العام من عمومات الكتاب او من غيرها ، وقد بينا فى غير المقام ان الخاص
مقدم على العام بقوة دلالته ، لا بما قيل : من ان «الخبر بدلالته وسنده ، صالح
للقرينة على التصرف» فى العام ، بخلاف العكس لعدم صلاحية العام لرفع اليد عن دليل
اعتبار الخبر ، اذ يتجه عليه ان القرينة انما تكون
__________________
حيث يكون اعتبار
العام معلقا على عدم ورود الخاص فى قباله ، حتى يكون النسبة بينهما نسبة الورود او
لا اقل من الحكومة ، وليس كذلك كما اوضحناه فى بحث التعارض والترجيح ان شئت فراجع
، بل النسبة بينهما نسبة التعارض ، وانما يؤخذ بالخاص ويقدم على العام بمناط اقوى
الحجتين ، وترجيحا له على العام بحكم العقل بلزوم مراعاة الاقوى من الدليلين ،
ومعلوم ان الاقوائية فى جانب الخاص دون العام فتأمل.
وتوهم اقوائية
الكتاب من حيث السند ، قد عرفت اندفاعه آنفا بما بيناه ، من كون المزاحمة
والمعارضة المفروضة بين العام والخاص ، لم تكن إلّا بلحاظ الدلالة ، وهى فى جانب
الخاص اقوى منها فى جانب العام ، فيجب مراعاتها فى الخاص بترجيحه على العام.
«فى دوران الامر بين
التخصيص والنسخ»
«فصل :» اذا ورد
عام وخاص متخالفان حكما ، فهل يكون الخاص مخصصا للعام ، او ناسخا لحكمه ، او
منسوخا بالعام؟ فيه كلام ، وربما يفصل «بأن الخاص ان كان مقارنا مع العام ، او
واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له ، وان كان
بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا.»
اقول : هذا
التفصيل يبتنى على مقدمتين غير مسلمتين عندنا.
إحداهما : قبح
تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يصلح الخاص الوارد بعد حضور زمان العمل ، ان
يكون مخصصا للعام ، وإلّا لزم
__________________
تأخير البيان عن
وقت الحاجة ، وهى نقض غرض ، وقبيح لا يصدر عن عاقل فضلا عن الحكيم تعالى.
وفيه : ان مثل هذا
التأخير لا بأس به ، اذا كان هناك مصلحة ، تقتضى اخفاء الواقع وبقاء المكلف على
ظاهر تكليفه ، من التمسك بظاهر العام ، الى ان يرتفع عنه المانع ويبين له التكليف
الواقعى بالخاص ، وليس ذلك بعزيز فكم ، وكم له نظير فيها! قد اقتضت الحكمة الالهية
بقاء العباد على جهلهم بالواقعيات ، لمصالح خفية لا يعلم بها الا علام الغيوب ،
فأنظر الى اصالة الحل والطهارة قد ضربتا قاعدتين للمكلفين يعملون بهما حتى يتبين
لهما واقع الواقعة بالعلم او العملى ، وليس عليهم تفحص وان امكنهم ذلك ، بل ربما
يعاتب على التفحص كما فى الخبر ، ومن الجائز فى العموم والخصوص ان يكونا من هذا
القبيل ، بأن يكون هناك مصلحة تدعو الى العمل بظاهر العموم برهة من الزمان ، ثم
بعد ذلك يذكر الخاص ، ويكون العمل عليه ، ولعل التوهم نشاء من اختلاط تأخير البيان
عن وقت حاجة المولى ، لبيان مرامه ومقصوده ، وتأخيره عن وقت حاجة المكلف للعمل ، فان
التأخير فى الصورة الاولى قبيح ، لمنافاته الغرض ، دون الثانى.
ثانيهما : ان
النسخ رفع للحكم الفعلى الثابت فى الواقعة المنسوخة ، فلا يصلح الخاص الوارد قبل
حضور وقت العمل بالعام الا وان يكون مخصصا ، لامتناع النسخ مع هذا الفرض المفروض
فى هذه المقدمة.
وفيه : ان النسخ
فى الاحكام ، كالبداء فى التكوينيات ، اذ كما يجوز ان يظهر الله تعالى لنبيه وقوع
شىء فى عالم التكوين لمصلحة ، ثم يظهر له خلافه كذلك ، يجوز ان يظهر له الحكم
المشروط بشىء ، ثم يظهر له بعد ذلك خلافه قبل تحقق شرطه ، فيكون ذلك نسخا لحكم
غير فعلى ، بناء
على ما اختاره المشهور فى الواجب المشروط ، من ان الحكم فيه غير حاصل قبل حصول
شرطه ، فيكون الشرط بوجوده الخارجى سابقا على فعلية الحكم ، واما بناء على ما
اخترناه من ان الحكم فيه فعلى وان الارادة متحققة فعلا بنحو الاناطة كما اوضحناه
فى محله ، فالنسخ فيه نسخ لحكم فعلى ، واوضح منه نسخ الحكم فى الواجب التعليقى ،
فان الحكم فيه فعلى بلا اشكال ولا خلاف ، فلا مانع حينئذ من نسخه قبل حضور وقت
العمل به.
وقد انقدح لك بما
ذكرنا ان كلا من التخصيص والنسخ ، محتمل فى الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل
بالعام ، او قبله ومثل ذلك ما لو ورد العام «بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فانه كما
يحتمل ان يكون الخاص مخصصا للعام يحتمل ان يكون العام ناسخا له.»
نعم فيما يكون
الخاص مقرونا بالعام ، لا يحتمل النسخ فى ذلك الخاص ، بل يتعين فيه التخصيص ، اذ
لا معنى لبيان حكم المنسوخ ، ويكون نسخه مقرونا بذلك البيان ، لافتقار النسخ الى
امد يمضى على الحكم المنسوخ مجردا عن بيان الناسخ ، حتى يكون فى ذكر المنسوخ بذلك
الحال مصلحة داعية الى ذكره بذلك الحال ، فاذا لم يذكر المنسوخ الا مقرونا بالناسخ
، كان ذلك فى قوة ذكر الناسخ وحده بلا ضم المنسوخ اليه ، ويكون ذكر المنسوخ وضمه
الى الناسخ مستقبحا ومستهجنا فى نظر العقل والعقلاء وهذا ظاهر لا يكاد يرتاب فيه
ذو مسكة.
فتلخص مما ذكرنا
ان ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام وبعد حضوره ، سيان فى احتماله التخصيص
والنسخ ، ما لم يكن الخاص مقرونا بالعام ، فانه لا يحتمل فيه الا التخصيص ، وكذلك
يحتمل الامر ان فيما لو ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، واذ
احتمل الامران فى
غالب الموارد ، بل فى جميعها التى يكون الخاص واردا بكلام منفصل عن العام ، فلا
وجه للقول بالتخصيص واعتبار رعايته مقدما على النسخ ، الا ما قيل : من ان التخصيص
اشيع من النسخ ، وهو ضعيف لابتناء ذلك على امتياز موارد التخصيص عن موارد النسخ ،
وهذا انما يكون بعد تمامية المقدمتين المزبورتين ، وقد بينا بطلانهما ، فلم يبق
بعد ذلك الا «الرجوع الى الاصول العملية.»
ويمكن ترجيح
التخصيص على النسخ بوجه آخر غير ما ذكروه ، من اشيعية الاول من الثانى ، وذلك بأن
يقال : انا نجد فرقا بينهما فيما لو اتفق خروج اكثر الافراد من العام ، فانه يرى
مستهجنا فى الكلام ، بخلافه فى النسخ فانه لو اتفق فيه خروج اكثر الأزمان لم يكن
مستهجنا ، وذلك ظاهر فى مثال اكرم العلماء ثم يخرج منه اكثر افراد العلماء حتى
يبقى منه فرد او فردان ، فانه يكون اكرم العلماء حينئذ فى قوة اكرم زيدا ، او اكرم
زيدا وعمروا ، ويكون قد عبر عن ذلك بعبارة العموم ، وهو مستهجن جدا ، وهذا بخلاف
فرض النسخ فى مثال اكرم زيدا دائما ثم ينسخ هذا الحكم بعد يوم او يومين ، فانه لا
يرى فيه استهجان ، واستنكار عرفى ، وسر الفرق فى ذلك يبتنى على تمهيد مقدمة :
وهى انك قد عرفت
فى بعض المباحث السابقة ، ان المتكلم ربما يلقى كلامه الى المخاطب من دون ان يكون
له فيه ارادة معنى ، ولم يكن له غرض فيه ، إلّا ان يتلقاه المخاطب على ما له من
الظهور ، ويتبع ظهوره من غير ان يستعمله المتكلم فى معناه ، وربما يذكر اللفظ
ويستعمله فى غير معناه الحقيقى ، بل فى معناه المجازى ، ومثل هذا يكون تصرفا فى
دلالة اللفظ ، وفيه يتحقق الاستهجان العرفى ، لو ذكر اللفظ الاستغراقى واراد به
واحدا او اثنين من افراده ، وربما يلقى
المتكلم الى
مخاطبه كلاما ، لم يكن له فيه اذعان وتصديق بمقتضاه ، وانما غرضه تصديق المخاطب به
، كما يكون ذلك فى الاخبار الكاذبة ، فإن صدرت ممن لا يجوز عليه الكذب القبيح ،
كان ذلك اخبارا بخلاف الواقع ، لمصلحة من تقية او امتحان ، او غير ذلك ، ومنه
الاخبار المحمولة على التقية ، ويسمى ذلك عندهم بالتصرف فى الجهة ، فإن ظاهر
المتكلم فى كلامه ان يكون بصدد بيان الواقع لا خلافه ، فإذا ظهر من قرينة انه قد
اخبر المخاطب بخلاف الواقع ، لم يكن قد ارتكب المجازية فى كلامه ، لان كلامه ذلك
لم يجز عن محله الذى وضعت له الفاظه ، وانما وقع التصرف فى جهة الكلام ، وما توجه
اليه من بيان الواقع الذى يقتضيه ظاهر حال المتكلم ، ومثل هذا لا يكون مستهجنا فى
الانظار ، ومنه النسخ ، والشاهد على كونه من هذا القبيل ، مادريت من عدم استهجان
النسخ فى نظر العقل والعقلاء ، ولو كان الخارج بالنسخ من بقية الازمنة اكثر من
الداخل.
وربما يذكر الكلام
بقصد اعلام المخاطب ، بمعتقد المتكلم ، غاية ما فى الباب ان كان معتقده مطابقا
للواقع كان صدقا واخبارا يقينيا. وان كان مخالفا له كان كذبا وجهلا مركبا.
وبعد هذا نقول :
اذا دار الامر بين التخصيص والنسخ ، كان ذلك راجعا الى دوران الامر بين التصرف فى
الدلالة او التصرف فى الجهة ، فاللازم ان يبحث عن ان اى التصرفين يكون مقدما على
الآخر عند الترديد؟ والمعروف تقديم التصرف فى الدلالة على التصرف فى الجهة ، بل
هذا متسالم عليه فيما بينهم لا يكاد يظهر منهم مخالف فيه ، وان اختلفوا فى وجهه ،
من كون التخصيص اشيع من النسخ ، لكنك قد عرفت ان ذلك يبتنى على مبنى غير مسلم
عندنا ، فمن ثم عدل بعضهم عن هذا الوجه الى وجه آخر وقال : ان اصالة الجهة
مرعية فى الكلام
الصادر من كل متكلم ، كما ان اصالة الظهور مرعية فى الالفاظ الظاهرة فى معانيها ،
فاذا دار الامر بين رفع اليد عن إحداهما ، كان رفع اليد عن الاصل الثانى متعينا ،
وذلك لان التعبد بالظهور يبتنى على الفراغ من التعبد بأصالة الجهة ، بل والسند
ايضا ، لوضوح ان الجهة والسند اذا لم يكونا معتبرين ، لم يكن وجه للتعبد بالظهور ،
اذ لا معنى للاخذ بالظهور فى الكلام الذى لم يثبت صدوره عن الامام (ع) ، او صدر
صدوره عنه (ع) لكنه لم يثبت صدوره لبيان حكم الواقعى ، فيكون اعتبار الدلالة بعد
الفراغ عن اعتبار السند والجهة ، فعند الدوران بينهما ، لا بد من رعاية الجهة
والسند اولا ، ثم يراعى الدلالة ثانيا ، وحيث انه لم يكن الجمع بينهما ، كان
اعتبار اصالة الجهة مقدما على اعتبار اصالة الظهور ، اذ لا معنى للتعبد بظهور
الكلام الذى لم يثبت اعتبار جهته او صدوره ، فاذا روعى حال الجهة ، وبنى على ان
الكلام صدر لبيان الواقع ، امتنع فيه حمل الخاص على كونه ناسخا للعموم ، بل لا بد
وان يكون محمولا على انه مخصص للعام لا ناسخ له هذا.
ويرد على هذا
الوجه ان المقصود من اعتبار كل من الجهة والصدور والدلالة ، هو العمل بمقتضى ما
يتلقاه المخاطب من المتكلم ، ومعلوم ان هذه الجهات نسبتها الى العمل على السوية ،
كنسبة الاجزاء التركيبية الى المركب المؤتلف منها ، ليس لبعضها تقدم على البعض
الآخر ، فلا وجه لرعاية الجهة والصدور قبل الدلالة ومقدما عليها ، كما هو مبنى
الوجه المذكور ، فلا بد من سد ثغور الدليل من الجهات الثلث ، حتى ينتهى الحال الى
العمل ومقام الامتثال ، ألا ترى ان المركب لو انفقد منه بعض اجزائه ، لا يكاد يجدى
الباقى من اجزائه فى الاثر المترتب على المركب بتمام اجزائه ، وهاهنا لو لم تتم
الدلالة ، لم يكد
يجدى اعتبار الجهة
ولا الصدور فى الغاية المطلوبة من ذلك الخبر ، اذ العمل بمقتضاه على ما ينبغى وكما
هو صادر لبيانه وعلى حسب ظاهره ، موقوف على تمامية الجهات الثلث ، فاذا اختل واحد
منها ، لم يكد يترتب عليه ذلك العمل المطلوب منه والمرغوب اليه ، فالقول بلزوم
رعاية بعض الجهات على بعض آخر منها ، استنادا الى هذا الوجه كالاستناد الى سابقه ،
غير وجيه.
مضافا الى ان
الوجه المذكور لو سلم تماميته ، فانما يتم فى الدليل الواحد لو تعارض فيه جهتا
الدلالة والجهة ، لا فى الدليلين كما هو مفروض المقام.
فالتحقيق الذى
يساعد عليه النظر الدقيق ان يقال : فى وجه تقديم رعاية التخصيص على النسخ ، ان
الخاص ان كان مقدما على العام ، فأصالة العموم فى ناحية العام ، انما تجرى اذا لم
يكن فى البين ما يكون حجة اقوى على خلاف العموم ، والمفروض ان الخاص اقوى دلالة من
العام ، فلو بنى على التخصيص ، كان ذلك تخصصا فى اعتبار العموم ، لا تخصيصا ،
بخلاف ما لو بنى على النسخ واعتبر العام ناسخا للخاص ، فانه يكون ذلك تخصيصا فى
اصالة الجهة الجارية فى ناحية الخاص ، ومعلوم انه يجب البناء على التخصص اذا دار
الامر بينه وبين التخصيص.
وان كان الخاص
متأخرا عن العام ، فان ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، لزم فيه البناء على
التخصيص دون النسخ ، لابتناء النسخ على اعتبار اصالة الجهة فى ناحية العام ، وهى
غير معتبرة فيه قبل حضور وقت العمل به ، لعدم ترتب اثر شرعى على ذلك ، ما لم يجئ
وقت العمل.
وان ورد بعد حضور
وقت العمل بالعام ، كان اللازم فيه معاملة
النسخ ، لان اصالة
الجهة فى ناحية العموم جارية الى حين ورود الخاص بلا معارض ولا مزاحم ، ومن بعد
وروده لا بد من بناء العمل على مفاد الخاص على كل من تقديرى التخصيص والنسخ ،
فيكون ذلك فى المعنى تبعيضا فى جهة العام ، اذ هو قبل ورود الخاص محكوم عليه ،
بأنه قد صدر لبيان حكم الواقعى المنتهى امده الى حين ورود الخاص ، ويكون حكمه
بالنسبة الى بقية الازمنة المتأخرة عن زمان ورود الخاص ، صادرا على غير جهة بيان
الواقع ، بلحاظ فرد الخاص الخارج عنه ، ويكون المتحصل من ذلك ، انا متوافقون مع
القوم فى البناء على التخصيص ، او النسخ ، فى الموارد التى بنوا فيها على احدهما ،
إلّا ان اختلافنا معهم ، انما هو فى مدرك الحكم ، حيث ان مدركه عندنا اعتبار اصالة
الجهة فى العام فى الجملة ، بالنظر الى الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ،
وعدم اعتبارها فيه بالنظر الى الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل به ، ومدركه عندهم
امتناع التخصيص فى الاول وامتناع الآخر فى الآخر «اى النسخ فى الثانى» بناء منهم
على المقدمتين اللتين قد فرغنا عن بطلانهما فتأمل.
ثم ليعلم ان الخاص
الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ، تارة يكون دالا على محكومية الخاص بحكمه من
حين صدور حكمه مع السكوت عن حكمه قبل ذلك ، وهذا هو الذى انه قد عرفت بحكم الناسخ
يجب فيه بناء العمل على الخاص من حينه خاصة ، واخرى يكون دالا على محكوميته بحكمه
من الازل ، اى من قبل صدوره الذى ، هو زمان العمل بالعام ، وفى هذه الصورة تقع
المعارضة بين الخاص والعام من حين صدور العام ، وحيث ان الخاص اقوى دلالة من العام
، وجب تخصيص العام به ، ولزم بناء العمل على التخصيص دون النسخ.
لا يقال : كيف يكون
للخاص دلالة على توسعة فى حكمه من الازل
وهو صادر بعد حين؟
ألا ترى الى المنشئات الوضعية فى باب المعاملات كالملكية والحرية وامثال ذلك ،
انما تقتضى حصول مضامينها من حين حصول الانشاء ، وجريان الصيغة الانشائية ، لا ما
قبل ذلك كما هو ظاهر.
لانه يقال : نعم
ما ذكرت جيد متين ، إلّا انه فرق بين المقام ومقام الانشاء الوضعى ، فان المقام من
قبيل الحكاية التى يحكيها الراوى عن الامام (ع) او المروى عنه عن الواقع ، وفى
مثله يجوز الاعلام بكون الشىء محرما ، مثلا من بدو الامر الى ختمه ، فيصادف ذلك
زمان العام من حين صدوره ، ويقع التعارض بينه وبين العام فى جميع ازمنته قبلا
وبعدا ، وهذا بخلاف غير هذا المقام الذى يكون انشاء الملكية فيه ، ويكون حكما
وضعيا ، فانه انما يترتب الاثر من حين الانشاء ، ضرورة انه يستحيل تقدم المنشا على
انشائه لانه كتقدم المعلول على علته.
هذا كله فيما علم
تاريخ الخاص ، واما اذا كان مجهول التاريخ ، واحتمل وروده قبل العام وبعده ، وعلى
تقدير الثانى يحتمل وروده من قبل حضور وقت العمل بالعام ، ويحتمل وروده بعده ، فإن
كان الخاص دالا على تقدم حكمه ازلا بنى فيه على التخصيص ، اذ لا يخرج واقع امره عن
واحد من الفروض المحتملة فيه ، والحكم فى جميعها البناء على التخصيص دون النسخ ،
واما اذا كان الخاص غير ناظر الى الازلية فيجيء فيه احتمال النسخ ، اذا كان واردا
بعد حضور وقت العمل بالعام ، واحتمال التخصيص ، اذا كان واردا قبل حضور وقت العمل
بالعام ، او قبل ورود العام ، وحيث لا معين لاحد الاحتمالين ، كان الواجب الرجوع
الى الاصول العملية فأفهم واغتنم ، والحمد لله.
«حول المطلق والمقيد»
«المقصد الخامس فى
المطلق والمقيد ، والمجمل والمبين.»
«فى تعريف المطلق
والفرق بين المذهبين فيه»
«فصل : عرف المطلق
بأنه ما دل على شايع فى جنسه». والظاهر ان المراد من الجنس فى هذا التعريف بمعنى
السنخ الذى يعم الصنف والنوع ، ولا يختص بإصلاح اهل الميزان والمعقول ، كما ان
المراد من الشيوع فيه ، احتمال انطباقه على القليل والكثير من افراده ، وهل هذا
الشيوع معتبر فى حقيقة معناه وضعا ، او هو مستفاد منه بالقرينة العقلية المسماة
بمقدمات الحكمة؟ فيه خلاف ذهب المشهور الى الاول وذهب سلطان العلماء الى الثانى وتوضيح الكلام فى هذا النزاع ، ان يعلم ان الماهية
المتعقلة فى عالم الذهن ، لا بد وان تكون محدودة بحد هو اما حد التجرد عن التقييد
، او حد التقييد ، فمثل رقبة ان لوحظت بما هى رقبة بلا اعتبارها سارية فى تمام
الافراد او بعضها ، كانت محدودة بحد التجرد المعبر عنه باصطلاح شيخنا العلامة دام
علاه بالماهية الفاقدة ، وهذه الماهية المحدودة ، بمنزلة الفرد الخارجى المحدود
بحدود الشخصية ، فكما ان الفرد خارجى يكون مصداقا عن كلية المعرى عن قيد التشخص ،
كذلك الماهية المحدودة ، تكون مصداقا من كليها الغير المحدود بواحد من حدى التجرد
والتقييد ،
__________________
وبعبارة اخرى من
حدى الفقدان والوجدان ، فكما ان زيدا فرد ومصداق من الانسان الكلى فكذلك الرقبة
الملحوظة مجردة او مقيدة بقيد السريان او الايمان ، هى مصداق من الرقبة المهملة
الغير الملحوظة بواحد من لحاظى التجرد والتقييد ، فهما من هذا الوجه يتساويان
ويتشاركان ، وان كانا يفترقان من ان زيدا جزئى حقيقى لا يكاد ينطبق على القليل
والكثير ، بخلاف الرقبة ، فانها تقبل الانطباق على القليل والكثير سواء اعتبرتها
مجردة او مقيدة بالايمان ، ومن ثم دخلت الرقبة بهذا الاعتبار وهذا اللحاظ فى
المعقولات الاولية ، بخلاف زيد فانه فرد خارجى موجود فى الخارج ، ومتشخص بخصوصية
الخارجية ، فلا يكون من المعقولات ، بل من الموجودات الخارجية.
نعم الانسان الذى
يكون زيد مصداقا له وفردا منه ، يندرج فى المعقولات ، وهو من المعقولات الاولية ،
كما ان الرقبة الملحوظة مجردة عن القيدين ، تندرج فى المعقولات الاولية ، وهذه
الرقبة بهذا الاعتبار وهذا اللحاظ هى التى صارت معركة للآراء ومحلا للخلاف بين
المشهور والسلطان ، فذهب المشهور الى انها هى المعنى الموضوع له ، وذهب السلطان
الى ان الموضوع له هو الماهية المهملة الغير المقرونة بلحاظ التجرد او التقييد ،
وان كانت لا تنفك فى الذهن عن احد اللحاظين ، إلّا ان كلا من اللحاظين انما هو من
لوازم وجودها الذهنى ، ولا يكون داخلا فى حقيقة المعنى ، ويتفرع على ذلك النزاع ان
الرقبة المؤمنة التى هى مقيدة بقيد الايمان ، لو استعملت فى الكلام كانت مجازا عند
المشهور ، لخروجها عن الشيوع الى خلافه ، وحقيقة على مذهب سلطان العلماء ، لانها
فرد من افراد الماهية المهملة المسماة فى اصطلاحهم باللابشرط المقسمى ، فى قبال
الماهية اللابشرط
القسمى ، وهى الماهية الملحوظة مجردة عن قيدى السريان والايمان ، فيكون محصل
الخلاف بين الفريقين ان المطلق عند المشهور موضوع للماهية اللابشرط القسمى ، وعند
السلطان موضوع للماهية اللابشرط المقسمى ، والماهية بالاعتبار الاول فرد من افراد
الماهية بالاعتبار الثانى ، وليس لها بالاعتبار الثانى وجود مستقل فى وعاء الذهن ،
وانما هو محفوظ فى ضمن وجودها بالاعتبار الاول ، او بقيد الايمان ، فالرقبة
المجردة والرقبة المقيدة بالايمان كلاهما حافظان للرقبة المهملة ، وهى المعنى
الموضوع له على راى السلطان ، فلم تخرج الرقبة المؤمنة عنده ، عن كونها فردا من
افراد المعنى الحقيقى ، ولا يكون استعمال اللفظ فى ذلك المعنى المقيد ، الا من باب
استعمال اللفظ فى معناه الحقيقى المتحقق فى ضمن فرد من افراده ، بنحو تعدد الدال
والمدلول ، ومعلوم ان مثل هذا الاستعمال يكون استعمالا حقيقيا لا مجازيا ، كما هو
لازم قول المشهور ، لظهور ان المقيد يغاير المجرد الذى يراه المشهور هو المعنى
الموضوع له ، فلو استعمل اللفظ فى المعنى المقيد ، كان اللفظ خارجا عن معناه
الحقيقى ومتجوزا به عن معناه الاصلى ، فيكون اللفظ مجازا فى الاصطلاح ، لا حقيقة
كما يقول السلطان قده.
فإن قلت : كيف
يجوز ان يكون الموضوع له هو المعنى الاهمالى ، كما يراه السلطان؟ وكيف يكون ذلك
معنى جامعا ومفهوما مشتركا بين الماهية المجردة والمقيدة؟ وليس ذلك إلّا جمعا بين
اعتبارى الوجدان والفقدان؟ وهل هذا الا بعينه التناقض المحال؟
قلت : قد اشرنا
آنفا الى اندفاع هذه الشبهة ، وبطلانها بما بيناه من ان الماهية الموضوع لها اللفظ
، معنى محفوظ فى ضمن كل من قسمى المجرد والمقيد ، وليس لها فى عالم الذهن وجود
مستقل
بحياله ، حتى يكون
ذلك جمعا بين النقيضين.
فإن قلت : كيف لا
يكون لها وجود استقلالى فى عالم الذهن والتصور ، وهى معنى قد وضع اللفظ بحذائها ،
فان الواضع اذا اراد الوضع ، لا بد له من تصور المعنى اولا ، ثم من بعده يضع اللفظ
له ، ومعلوم ان المعنى المتصور والملحوظ قبل الوضع ، هو معنى مستقل بحياله ، لخروج
القيود عنه فى ذلك اللحاظ وتجرده عنها ، فيكون المعنى الموضوع له ، عاريا عن قيدى
الوجدان والفقدان ، وصالحا لانطباقه على كل من الواجد والفاقد ، ولا يكون ذلك إلّا
اذا فرض اشتراك المعنى بين المتناقضين وكان جامعا بينهما وهو محال.
قلت : انما يفتقر
الوضع الى تصور المعنى الموضوع له اولا ، هذا التصور تارة يكون استقلاليا ، واخرى
تبعيا ، ولا يجب فيه ان يكون استقلاليا خاصة ، وما نحن فيه من قبيل الثانى الذى هو
التصور التبعى ، فإن الماهية لدى الوضع اذا حضرت فى الذهن وتصورها الواضع ، لم تكن
خارجة عن احد الامرين ، اذ هى اما ان تكون مجردة عن قيد ، او مقيدة به ، إلّا ان
اللفظ لم يوضع الا للماهية المحفوظة فى ضمن المجرد والمقيد ، فالماهية باعتبار
الوضع معراة عن كل من قيدى التجرد والتقييد ، وان كانت باعتبار اللحاظ غير خارجة عن
احدهما فلا تغفل.
فإن قلت : المطلق
اذا كان عبارة اخرى عن الماهية المعروضة لواحد من قيدى الوجدان والفقدان ، كان من
المعقولات الثانية التى لا تحقق لها فى الخارج ، فلا يجوز التمسك به فى مقام
الامتثال للحكم بالاجتزاء بالقليل والكثير.
نعم هذا حسن على
مذهب المشهور ، الذاهبين الى ان المطلق هو الماهية المجردة عن التقييد بالايمان او
قيد السريان ، فانه بهذا
المعنى يقبل
الانطباق على القليل والكثير ، لكونه من المعقولات الاولية فهو كالانسان الكلى
الذى يجوز انطباقه على الواحد والكثيرين من الافراد الخارجية ، لا ككلية الانسان
التى هى من المعقولات الثانوية التى يستحيل صدقها على الخارجيات.
قلت : لا تنافى
بين ان يكون المطلق هو ذلك المعنى المعروض ، لقيد التجرد الذى يرى غير قيده ،
ويكون هو وقيده اثنين ومتعددين فى عالم الذهن ، وبين ان يكون موضوع حكم العقل
بالامتثال ، هو ذلك المعنى المجرد الذى يرى مع قيده شيئا واحدا ، وهذا المعنى
الثانى من المعقولات الاولية كالانسان الكلى ، يجوز انطباقه على القليل والكثير من
الافراد الخارجية ، وهذا المعنى هو الذى يرومه السلطان ، حيث انه يستدل عليه
بمقدمات الحكمة ، فمقدمات الحكمة تكون قرينة عقلية على تعيين المراد من مصداق
المطلق ، اذ المطلق على مذهبه محفوظ فى ضمن كل من المجرد والمقيد ، ولا يختص
بالمجرد كما يراه المشهور ، فاذا جيء بلفظ الرقبة معرى عن قيدى الايمان والسريان ،
لزم بحكم العقل ان يكون المعنى المتصور فى لحاظ المتكلم ، هو المعنى المجرد المتحد
مع قيده كاتحاد الماهية مع التشخصات الخارجية ، لانسلاب الاثنينية فيما بينهما.
والحاصل : ان
الماهية المجردة انما تكون من المعقولات الثانية ، اذا انحلت الى شيئين وكانت
منحازة عن قيد التجرد ، فانها بهذا الوجه وهذا اللحاظ يستحيل انطباقها على
الخارجيات ، اذ ما فى الخارج ليس إلّا الواحد بلا اثنينية ، واما اذا لوحظت متحدة
مع قيد التجرد وكانت واحدة ، فقد اندرجت فى المعقولات الاولية التى يجوز انطباقها
على القليل والكثير ، وهذه الماهية بهذا النحو من اللحاظ والوجود الذهنى ، انما
تثبت بمعونة مقدمات الحكمة ، وبالجملة
الماهية المهملة
لا تكون لها وجود فى الذهن ، الا بحد وذلك الحد إما ان يكون هو التجرد او التقييد
، وليس شأن مقدمات الحكمة إلّا اثبات تحديدها بالحد الاول ، وهى بهذا الحد من
المعقولات الاولية التى يجوز انطباقها على الخارجيات ، فيكون استفادة التحديد بحد
التجرد من القرينة العقلية على مذهب السلطان ، ومن الوضع على مذهب المشهور.
«التحقيق فى بعض
الالفاظ التى يطلق عليها المطلق»
واذ تبين لك الفرق
بين المذهبين بما لا مزيد عليه ، فأعلم ان المختار عندنا قول السلطان ، بشهادة
التبادر والوجدان ، ولنذكر لك «: ما وضع له بعض الالفاظ التى يطلق عليها المطلق ،
او غيرها مما يناسب المقام فمنها اسم الجنس كانسان ، ورجل ، وفرس ، وحيوان ، سواد
، وبياض ، الى غير ذلك من اسماء الكليات من الجواهر والاعراض ، بل العرضيات ،
ومنها علم الجنس كأسامة والمشهور بين اهل العربية ، انه موضوع للطبيعة ، لا بما هى
بل بما هى متعينة بالتعين الذهنى ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة
التعريف.»
وعمدة الاشكال فيه
: ان هذا التعيين مما لا يكاد يستفاد من اسامة ، بل لا يستفاد منه الا ما يستفاد
من اسد ، والظاهر ان الذى الجأهم الى ذلك ما رأوا فيه ، من جريان احكام المعرفة
عليه ، وفى دلالة ذلك على ما ذكروه من اعتبار التعيين فى المعنى ، نظر ، لظهور ان
مثل ذلك فى الاحكام ، يبتنى على الورود والسماع ، وليس له منشأ غير ذلك ، وما
تراهم يذكرونه من بعض التعليلات النحوية فى كتبهم ، انما هى استحسانات ونكات
ذكروها بعد الوقوع. «فالتحقيق انه موضوع
لصرف المعنى ، بلا
لحاظ شىء معه اصلا كاسم الجنس والتعريف معه لفظى ، كما هو الحال فى التأنيث
اللفظى.»
وربما يشكل عليه
مضافا الى ما سمعت بأن اعتبار التعيين الذهنى فيه ، ينافى انطباقه على الخارجيات
فى مثل هذا اسامة مقبلا ، لامتناع انطباق المعهود الذهنى بما هو حاضر فى الذهن على
الخارجيات ، الا بتجريده عن خصوصيته الذهنية ، هذا نحو من «التصرف فى المحمول
بإرادة نفس المعنى بدون قيده» وهو «تعسف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة
عليه.»
وربما يمكن التفصى
عن هذا الاشكال الثانى ، بأنه مبنى على ان يكون خصوصية العهدية الذهنية قد اخذت
قيدا دخيلا فى معنى علم الجنس ، وليس كذلك بل انما هى اخذت مرآة لتعريف حال ذلك
المعنى الذى وضع له علم الجنس ، فيكون فيها اشارة وتنبيه ، على ان معناه ليس
الطبيعة بما هى هى ، بل بما هى حصة منها على وجه تكون مساوقة لتلك الخصوصية
الذهنية ، بنحو خروج القيد والتقييد ، كما سمعت نظيره فى المعانى الحرفية ، وهذا
معنى لا يكاد يمنعه العقل ولا يحيل انطباقه على الخارجيات ، فلو ادعاه مدع وذهب
اليه ذاهب لم يرد عليه شىء غير المطالبة بالبرهان على وقوعه ، وليس ، فليس.
«فى المفرد المعرف»
«ومنها المفرد
المعرف باللام» ويجىء فى المعرف بلام الجنس منه الكلام المذكور فى علم الجنس ويزيد
عليه بأن البناء على معرفية اللام فيه للجنس يؤدى الى اجتماع تعريفين على معرف
واحد فى قولك هذا الانسان نوع ، مشيرا الى الطبيعة النوعية ، فلا بد وان
تكون اللام فيه «للتزيين
كما فى لفظ الحسن ، والحسين عليهماالسلام.»
ولعلك تقول لا
يجوز فى اسم الاشارة ، إلّا ان يشار به الى محسوس خارجى لا ما يكون من قبيل
المعانى الغير المحسوسة بالعيان ، ولكنك غفلت عن ان ذلك واقع فى كلماتهم تنزيلا
منزلة المحسوس ، كما يقال : ضربنى زيد وهالنى هذا الضرب.
فان قلت : انسلاخ
التعريف عن اللام ، ليس بأولى من القول بانسلاخه عن اسم الإشارة.
قلت : اسم الاشارة
كاد ان يكون نصا فى التعريف ، فارتكاب التأويل فيه مستبعد جدا فلا يصار اليه بخلاف
اللام.
ومنها : الجمع
المحلى باللام وهل دلالته على العموم والاستغراق بالوضع او بالاطلاق؟ فيه خلاف بين
الماتن قده وغيره ، وقد تقدم الكلام فيه فى بحث العموم وعرفت ثمة انه انما يدل على
العموم بالوضع ، لا بالاطلاق وفاقا للمعظم وخلافا للماتن ، ووافق شيخنا الاستاذ
دام علاه فى ذلك الماتن ، وهل هذه الدلالة الاستغراقية ناشية من دلالته على
التعيين «حيث لا تعيين الا بمرتبة المستغرقة لجميع الافراد» او هى مستندة الى وضعه
كذلك لا الى دلالة اللام على الاشارة الى المعين ليكون به التعريف؟» فيه وجهان.
«فى النكرة»
«ومنها النكرة مثل
رجل ، فى جاء رجل من اقصى المدينة او فى جئنى برجل.»
وينبغى اولا ان
يعلم ان مفهوم الواحد والوحدة ، يغاير مفهوم النكرة المبحوث عنها ، من وجوه :
احدها : ان النكرة
تقيدت فيها الطبيعة بالخصوصية الخارجية ، وحيث لا تحديد لتلك الخصوصية الا بكونها
واحدة لا عشرة مثلا ، كان لفظة النكرة مترددة بين كثيرين ، وليس ذلك من باب انطباق
مفهومها على كثيرين حتى تندرج فى قسم الكليات ، كما هو شأن مفهوم الوحدة والواحد ،
اذ الواحد مفهوم يصلح انطباقه على فرد ، كما يصلح انطباقه على افراد ، إلّا ان
انطباقه على الافراد ، ليس إلّا بلحاظ آحادها ، لا بلحاظ تشكلها بالهيئة الاجتماعية
، فمثل العشرة ان اعتبرتها مؤتلفة من مجموع اعداد خاصة ، لم يصح انطباق مفهوم
الواحد على اعدادها ، وان اعتبرتها مؤتلفة من آحاد كل واحد منها واحد ، كان مفهوم
الواحد ينطبق على آحادها ، وهذا بخلاف النكرة فإن النكرة جزئى حقيقى لتقومها
بالخصوصية الخارجية التى يستحيل انطباقها على كثيرين ، ولعل هذا هو السر فى ان
جعلوا النكرة من قسم الجزئى واسم الجنس من قبيل الكلى.
ثانيها : ان
الواحد مفهوم كالانسان ينطبق على افراده قليلة
__________________
وكثيرة ، بخلاف
النكرة ، فانه ينحصر فى القليل ، لتخصصه بالخصوصية الخارجية التى لا تتعدى عن
موردها الخاص الخارجى ، فلو قيل اكرم واحدا واتفق للمخاطب اكرامه آحادا ، كان كل
واحد منها مورد الامتثال ، وتحقق الامتثال باكرام الجميع ، بخلاف ما لو قال اكرم
رجلا ، فانه لو اكرم رجالا لم يعد ممتثلا الا فى اكرام احدهم لا جميعهم.
ثالثها : ان
الخصوصيات الخارجية نحو الزيدية والبكرية مثلا ، خارجة عن حيز الطلب فى اكرم واحدا
بخلافه فى اكرم رجلا ، فهذه الوجوه الثلث هى الوجوه الفارقة بين النكرة واسم الجنس
، وان كانا يتشاركان فى صحة جريان مقدمات الحكمة فيهما ، اذ النكرة وان لم يكن لها
سعة انطباق على متكثرات افرادية ، إلّا ان ورودها بغير اقتران بحالة خاصة ، ولا
شرط خاص ، يقضى بإطلاق الحكم وعدم اختصاصه بما يتوهم اختصاصه فيه.
ثم ان ما تراه من
الفرق بين مثالى النكرة فى جاء رجل وجئنى برجل ، انما هو ناش من الفرق فى الكلام
الاخبارى والانشائى ، لما هو المعلوم من ان الاخبار يحكى عن واقع معلوم ، بخلاف
الانشاء ، فانه طلب تعلق بالمطلوب الذى لا تعين فيه فى عالم الخارج ، بل هو مردد
بين افراد كثيرة ، فالفرق بين النكرتين عرضى ناش عن الخصوصية الكلامية ، لا ذاتى ،
منشؤه اختلاف الحقيقة والمفهوم فلا تغفل.
«فى استفادة السريان
من المطلق بمقدمات الحكمة»
«فصل :» المطلق
كما تقدم لا دلالة له الا على الماهية المبهمة ، فيحتاج استفادة الشيوع والسريان
منه الى قرينة حالية او مقالية ، وقد يستفاد ذلك من قرينة عقلية ، بملاحظة ان
المتكلم اذا كان فى مقام بيان تمام مراده ، ولم يقم ما يدل على تعيين مراده ، مع
انتفاء قدر المتيقن فى مقام التخاطب ، فلا بد وان يكون مراده الماهية الشائعة فى
جميع الافراد ، وهذا حكم عقلى يحكم به العقل حكما جزميا ، اذا كانت المقدمات الثلث
كلها جزمية ، وإلّا كان حكما ظنيا معتبرا ، لاستناده الى ظهور حال او مقال.
وربما يستشكل فى
اطلاق القول بأن المقدمات ، اذا كانت جزمية كان الشيوع فى الماهية جزميا كذلك ،
لجواز التفكيك بين واقع المراد وبين ما يلقى الى المخاطب ، ليكون حجة فى حقه يعمل
به حتى يرد دليل على خلافه ، فإن ما يتلقاه المخاطب من المتكلم انما يكون حجة له ،
وعليه اذا لم تقم حجة اقوى على خلافه ، فاذا ظفر بالمقيد ينكشف لديه حال واقع
المراد ، وانه على خلاف ما القى اليه من الكلام الذى كان حجة على الاطلاق عنده قبل
الظفر بالمقيد ، فجاز حينئذ تخلف الحجة عن الواقع ، ولم يكن يستفاد من المقدمات
الثلث ، الا صحة الاحتجاج بالكلام على الاطلاق.
فان كانت المقدمات
الثلث كلها جزمية ، كانت حجية الاطلاق المستنتجة منها جزمية ، سواء وافقت الحجة
للمراد الواقعى او خالفته ، وان كانت المقدمات كلها او بعضها ظنية ، كانت حجية
الاطلاق
المستنتجة منها
ظنية ايضا ، فمقام الحجية مقام ، ومقام الواقع مقام آخر.
ولقد اشار الماتن
قده الى هذا بقوله «ان المراد بكونه فى مقام بيان تمام مراده ، مجرد بيان ذلك
واظهاره وافهامه ، ولو لم يكن عن جد ، بل قاعدة وقانونا ، لتكون حجة فيما لم يكن
حجة اقوى على خلافه ، لا البيان فى قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا
يكون الظفر بالمقيد ، ولو كان مخالفا كاشفا عن عدم كون المتكلم فى مقام البيان ،
ولذا لا ينثلم به اطلاقه وصحة التمسك به اصلا فتأمل جيدا.»
ولعله اشار بأمره
بالتأمل اخيرا الى امكان الخدشة فيما ذكره ، بأن كونه فى مقام بيان تمام مراده ،
اذا كان مقطوعا به ومعلوما على وجه الجزم واليقين ، كان ذلك دليلا جزميا ، على ان
الحكم فى واقع الامر على الاطلاق ، فاذا ورد مقيد على خلافه ، لزم طرحه او تأويله
، ولا يكون من باب تعارض الحجتين ، حتى يلتمس الاقوى منهما ، بل من باب تعارض
الحجة واللاحجة ، والسر فى ذلك ان حجية الاطلاق ليس إلّا بكشفه عن مرام المولى
الذى تكلم بالمطلق ، وليست حجيته منوطة بقصد الحجية ، حتى يتوهم التفكيك بين
الحجية والكاشفية عن واقع الارادة ، بل ليست الحجية ، إلّا باعتبار كاشفية الاطلاق
، عن واقع الإرادة ، فاذا كانت مقدمات الكاشفية يقينية مجزوما بها ، كانت الكاشفية
جزمية ايضا ، وإلّا فلا ، فحينئذ لا وجه للتفكيك ، وما تراهم من التزامهم بالتقييد
بعد الظفر بالمقيد ، فانما ذلك من جهة عدم احراز المقدمات على وجه اليقين ، بل
بأصل عقلائى ، وهو انما يركن اليه اذا لم يظفر بالمقيد وبعد الظفر به يجب اتباعه ،
ورفع اليد عن مقتضى الاصل فيكون الظفر به كاشفا عن عدم كون المتكلم فى مقام
البيان.
«فى اقسام الاطلاق»
«بقى هنا امور
ينبغى التنبيه عليها»
«الاول :» ان
الاطلاق يختلف حاله تارة يكون اللفظ مطلقا من وجه دون وجه ، واخرى يكون مطلقا من
جميع الجهات ، فإن المتكلم تارة يكون نظره فى اطلاق اللفظ من حيث الافراد خاصة ،
واخرى من حيث الحالات كذلك ، وثالثة من حيث الموارد كذلك ، ورابعة من حيث الاسباب
كذلك ، وخامسة من حيث الجهات كلها ، ومقتضى الاصل هو الاخير ، ما لم يكن فى الكلام
ما يدل على انصراف النظر الى جهة واحدة منها ، وإلّا فالمتبع اطلاقه من تلك الجهة
لا غيرها ، ويبقى اللفظ مهملا من غير تلك الجهة ، فلا يجوز التمسك بإطلاقه من غير
تلك المنظور اليها ، وبهذا يفترق الحال بين قولى المشهور وسلطان العلماء ، اذ على
قول المشهور لا يجوز التفكيك فى الاطلاق من حيث الجهات ، لاستناد الاطلاق عندهم
الى الوضع دون القرينة العقلية ، بخلافه على مذهب السلطان فإن الاطلاق عنده مستند
الى القرينة ، وهى تختلف بحسب نظر المتكلم ، فربما يكون نظره الى الاطلاق الافرادى
خاصة ، فيكون اللفظ حجة فيه خاصة دون غيره من الاطلاق الاحوالى ، مثلا لو ورد سؤر
الهرة لا بأس به كان ذلك دليلا على طهارة سؤرها من كل هرة ، ولكن لا يدل
ذلك على طهارة سؤرها ولو كان فمها متلوة بالدم ، حينما تأكل من الشىء الذى بقيته
يسمى
__________________
سؤرا ، لان
الرواية وان كان ناظرة الى الاطلاق من حيث الافراد ، إلّا انها لم يكن لها نظر الى
الاطلاق الاحوالى ، فلا يجوز التمسك بها لهذا الوجه من الاطلاق نعم لو اتفق ان
حالات الافراد غالبا لا ينفك عنها الافراد ، يسرى الحكم من الافراد الى الحالات
ايضا ، ويشتركان فى حكم الاطلاق الافرادى ، كما فى مثالنا هذا ، لو شك فى ان زوال
عين النجاسة عن فم الهرة مطهر لفمها او لا؟ فانه يجوز البناء على مطهريته ، اخذا
بهذا الاطلاق الافرادى المفروض تحققه فى هذه الرواية ، لان مثل هذه الحالة فى
الهرة غالبية لا تنفك عنها ، الا نادرا ، فانها لا تزال تأكل الفأر والطيور ويتلوث
فمها بالدم ثم يزول عينه عن فمها ، فلو لا ان يكون زواله مطهرا لفمها ، لكان
الاطلاق فى نفى البأس عن سؤر الهرة ، منزلا على النادر ، من افراد الهرة التى لا
تأكل الفار والطيور ، وهذا قلما يتفق فى افراد الهرة ، فلا بد فرارا عن تنزيل
الاطلاق على النادر من افراده ، من ان يرتكب التعميم فى نفى البأس ، من غير فرق
بين الافراد والحالات فتأمل حقه.
«فى عدم افادة
الاطلاق عما كان القيد من لوازم الافراد»
«الثانى» : قد
عرفت ان الحمل على الاطلاق ، يفتقر الى امور : منها انتفاء ما يدل على تعيين
المراد بذكر القيد ، كمؤمنة فى اعتق رقبة مؤمنة ، فانه اذا ذكر اللفظ خاليا عن مثل
هذا القيد ، وجيء بالرقبة مجردة عن قيد الايمان ، وكان المتكلم فى مقام البيان ،
كان ذلك حجة على اطلاق الحكم فى الرقبة ، من غير فرق بين كونها مؤمنة او كافرة ،
لكن هذا انما يتجه لو لم يكن القيد من لوازم الافراد المحكومة بالحكم ، وإلّا فلو
كانت الافراد لا تنفك عن ذلك القيد ولو عادة ،
لم يكن فى تجرد
اللفظ عن ذكر القيد ، دلالة على اطلاق الحكم وشموله لصورتى وجود القيد وفقده ، فلو
كان زيد من عادته الوضوء فى جميع اوقاته ولا تنفك عن الطهارة عادة ، وامر بالصلاة
اذا دخل المسجد ، لم يكن فى مثل ذلك الامر الخالى عن اشتراط الطهارة ، دلالة على
اطلاق الحكم ، ولا يجوز التمسك به للقول بجواز الصلاة فى المسجد بلا طهارة ، ومن
هذا الباب الاحكام المتعلقة بالمشافهين لو قيل باختصاص الخطاب بهم ، فانه لا يجوز
الاخذ باطلاقها حتى يحكم بانسحابها الى الغائبين ، بدليل اشتراك التكليف بينهم ،
اذ من الجائز ان يكون ذلك الحكم مشروطا بشىء لا ينفك عن المشافهين ، مثل تشرفهم
بحضور الامام عليهالسلام ، او كونهم فى زمانه «ع» ، وانما لم يذكر ذلك الشرط معتبرا
فى الحكم للاستغناء عن ذكره بملازمتهم له «ع» او كونهم فى زمان الحضور ، مثل ما
ورد فى اخبار الترجيح من الامر بالارجاء حتى تلق امامك فتدبر جيدا.
«وهم ودفع»
«الثالث :» قد
ذكرنا فى صدر المبحث ان من شرائط التمسك بالاطلاق ، انتفاء تحقق القدر المتيقن فى
مقام التخاطب ، وربما يستشكل فى اطلاق هذا الشرط ، فيقال : ان المتكلم تارة يكون
فى مقام بيان تمام مرامه بما يورده من الكلام المشتمل على المطلق ، او مع غير ذلك
الكلام ولم يكن له غرض فى تفطن المخاطب والتفاته الى ان ذلك الشىء المفهوم من
الكلام هو تمام مرامه ، واخرى يكون
__________________
فى بيان تمام
مرامه فى خصوص ما يورده ويذكره من الكلام المشتمل على المطلق ، ولم يكن له غرض فى
تفطن المخاطب الى ان ذلك هو تمام مرامه ، وثالثة يكون فى مقام بيان تمام مرامه
بخصوص ما يذكره من الكلام المشتمل على المطلق ، ويكون قد تعلق غرضه بأن يتفطن
المخاطب ، ويلتفت الى ان ذلك هو تمام مرامه ، ولا يتم هذا الشرط الا على الفرض
المذكور فى الصورة الثانية ، اذ على الفرض الاول لم يعتبر فى القدر المتيقن المانع
من التمسك بالاطلاق ، ان يكون متيقنا فى مقام التخاطب ، بل كل متيقن ثبت تيقنه من
حاق حقيقة الكلام ، او من خارجه يكون قادحا فى الاخذ بالاطلاق ، اذ لا يلزم منه
منافاة للغرض لو كان ذلك المتيقن تمام مراد المتكلم ، فلو كان للكلام مثل هذا
المتيقن الذى اقتضاه ظاهر الخطاب او غيره لم يجز البناء على اطلاق الحكم فى مثل
ذلك الكلام ، فلا يتجه فيه اعتبار التيقن فى مقام التخاطب كما هو مبنى الشرط
المذكور ، كما انه على الفرض الاخير لا يكون وجود المتيقن ، مانعا عن التمسك
بالاطلاق ، ولو كان ذلك المتيقن متيقنا فى مقام التخاطب ، اذ لو كان تمام المراد
واقعا هو ذلك المتيقن ومع ذلك لم ينبه المخاطب بأنه تمام مراده ، لكان ذلك منافيا
لغرضه ، فلا بد وان يستكشف عن عدم التنبيه والاعلام ، بأن الحكم مطلق لا يختص
بالقدر المتيقن الثابت تيقنه من ظاهر الخطاب ، او من غيره ، هذا حاصل ما يمكن
ايراده فى المقام اشكالا على الشرط المذكور.
وفيه : ان الشرط
المذكور انما اعتبر فى الكلام الخالى عن قرينة دالة على واحدة من الفروض المزبورة
، فانه اذا خلى الكلام عن القرينة ، كان الاصل فيه البناء على الاطلاق بالنحو
المفروض فى الصورة الثانية خاصة ، اذ على الفرض الاول يكون الكلام غير واف بتمام
المرام ، وهذا امر
لا يساعده ظاهر الحال فى كل متكلم يبرز مقاصده بكلامه ، فإن ظاهر حاله يقتضى ان
يكون كلامه ذلك وافيا بمقاصده التى تعلق غرضه ببيانها ، وان لا يكون له غرض إلّا
بأن يبين مرامه بما يورده من الكلام ، لا به او بغير ذلك الكلام ، كما انه على
الفرض الاخير يكون لاعلام المخاطب وتنبيه على ان المفهوم من الكلام هو تمام مرامه
، دخل فى الغرض المقصود فى ذلك الكلام ، وهذا مما يندر اتفاقه ، اذ قلما يتفق توقف
المصلحة على ذلك ، فلم يبق إلّا ان يكون غرض المتكلم بيان مرامه بالنحو المفروض فى
الصورة الثانية ، وعليه جرى بناء العقلاء فيما يتلقونه من المطلقات ، فكان ذلك
اصلا عقلائيا متبعا فى موارد الشك ، وهذا النحو من البيان يقدح فيه وجود المتيقن
المستفاد من مقام التخاطب ، فاتجه بذلك الاشتراط المذكور ولم يرد على اطلاقه محذور
فافهم.
«فى تعارض العام
والاطلاق»
«الرابع :» انه قد
يذكر فى الكلمات ان العام مقدم على الاطلاق عند التعارض ، وعللوه بأن العام يدل
على العموم بالوضع ، والاطلاق بمقدمات الحكمة ، وهى لا تجرى بأسرها فى المطلق اذا
كان فى قباله العام ، لانثلام بعض هذه المقدمات على هذا الفرض ، لما دريت من ان من
جملة المقدمات انتفاء ما يدل على التعيين والتقييد ، والعام بوضعه صالح للتقييد
لكونه دليلا تنجيزيا على مؤداه غير معلق على شىء ، بخلاف المطلق فان دلالته على
الاطلاق منوط على عدم ورود البيان على خلافه ، والعام صالح للبيانية على الخلاف
جدا.
وفيه : انه غير
تام على اطلاقه ، اذ هو انما يتم لو كان المتكلم فى
مقام بيان مرامه
بما يورده من الكلام الاطلاقى ، او غيره ، فانه على هذا التقدير لو ورد عام فى
قبال المطلق ، كان من باب تعارض المقتضى التنجيزى الذى هو العام ، والمقتضى
التعليقى الذى هو المطلق ، دائما ابدا يكون المقتضى التنجيزى هو المتقدم على
التعليقى ، اما اذا فرض كون المتكلم فى مقام بيان مرامه بخصوص الكلام الاطلاقى لا
غيره ، فاللازم مراعاة اقوى الظهورين ، لاستقرار ظهور المطلق بانقطاع الكلام عليه
، غير مقترن بما يدل على تقييده ، ويكون حينئذ كالعام مقتضيا تنجيزيا ، فهو والعام
على حد سواء من هذه الجهة ، فإن كانت مقدمات الاطلاق كلها او بعضها ظنية كان
الاطلاق دليلا ظنيا معتبرا دالا على اطلاق الحكم ، فإن ساوى العام فى دلالته تعارض
الدليلان والتمس المرجح السندى او الجهتى ان كان ، وإلّا بنى على التخيير ، وان
كان فى احدهما اقوائية ظهور من الآخر ، ارتكب التأويل فى الظاهر منهما لا محالة
بقرينة الاظهر.
وان كان مقدمات
الاطلاق كلها قطعية ، كان اطلاق اللفظ دليلا قطعيا على اطلاق الحكم ولزم ارتكاب
التأويل فيما يخالفه ، نصا كان او ظاهرا عاما او خاصا ، وان لم يكن التأويل فيه
يطرح ، لان الظنى لا يعارض القطعى حسب الفرض.
«فى قادحية الانصراف
فى التمسك بالاطلاق»
«الخامس :» انه قد
ينصرف المطلق الى بعض افراده ، فيكون ذلك قادحا فى التمسك بإطلاقه ، إلّا ان ذلك
فى غير الانصراف البدوى ، فان للانصراف مراتب ثلث ، اذ هو تارة يكون على وجه غير
ثابت ويكون زائلا بالتأمل ، وهذا يسمى فى اصطلاحهم بالانصراف
البدوى ، ومثله لا
يمنع التمسك بظاهر الاطلاق ، واخرى يكون على وجه مؤد الى تيقن بعض افراده فى
الارادة ويقع التشكيك فى ارادة غيره من بقية الافراد ويسمى هذا بالمضر الاجمالى ،
لادائه الى الاجمال وخروج اللفظ عن صلاحية التمسك بإطلاقه ، وان كان حجة فى القدر
المتيقن بلا كلام ، وثالثة ان يكون على وجه مؤد الى تعين فرد من افراده فى الارادة
، وهذا هو المسمى بمبين العدم ، اذ فيه بيان لعدم ارادة غير ذلك الفرد المنصرف
اليه اللفظ ، ومنشأ الاختلاف فى هذا النحو من الانصرافات ، اختلاف مراتب الاستعمال
، فانه ربما يغلب استعمال اللفظ فى شىء حتى يكون ثمة انس بين اللفظ وذلك المستعمل
فيه ، فهو فى اول درجته ، ينصرف اللفظ الى المستعمل فيه بالانصراف البدوى ، وفى
الدرجة الثانية ينصرف اللفظ اليه مع التشكيك فى ارادة غيره ، وفى الدرجة الثالثة
ينصرف اللفظ اليه مع تعين ارادته ، ولا اظن ان يخفى عليك الفرق بين الاول
والاخيرين عملا ، لظهور ان بناء العمل فى الاول على الاطلاق ، بخلافه على الاخيرين
، فإن بناء العمل فيهما على المنصرف اليه متعينا كان او متيقنا.
وربما يفترقان عند
المعارضة فإن المطلق المنصرف بالانصراف المضر الاجمالى لو عارضه مطلق آخر يوافقه
فى الحكم الاثباتى مع كشف وحدة المطلوب ، وجب الاخذ بظاهر الثانى ، لانه بظاهره
حجة على غير المتيقن ، وليس فى المطلق الاول ، دلالة على عدم ارادة غير المتيقن من
افراده ، فيكون ذلك من قبيل تعارض الحجة واللاحجة ، وهذا بخلافه فى المطلق المبين
العدم ، اذ هو حجة على عدم ارادة غير المنصرف اليه اللفظ ، فلو ورد فى قباله مطلق
آخر لا انصراف فيه الى فرد من افراده ، كان ذلك من باب تعارض الحجتين ، فيلتمس
الاظهر منهما
دلالة فتفطن.
«تتمة مهمة»
وهى انه ربما يختص
الانصراف بحالة دون حالة ، فيكون المطلق عند التمكن منصرفا الى فرد ومع العجز الى
فرد آخر تارة ، ولا انصراف معه فيه الى فرد من افراده اخرى ، فلو قال المولى اكرم
العالم ، وكان هناك عالم مشهور انصرف اللفظ اليه مع التمكن من اكرامه ، واما مع
العجز ، وعدم التمكن من اكرامه ، فلو كان عالم مشهور دونه هناك ، انصرف اللفظ اليه
، وان لم يكن فحينئذ يكون بقية الافراد كلها متساوية الاندراج تحت المطلق ، ليس
لبعضها مزية على البعض الآخر ، وربما يختلف الانصرافات بحسب اختلاف الحالات ، ففى
حالة الاختيار ينصرف اللفظ الى شىء غير ما ينصرف اليه فى حالة الاضطرار ، ومن هذا
الباب ضرب اليدين على التراب فى التيمم ، فانه ينصرف الى ضرب باطن الكفين مع
الاختيار ، ومع التعذر ينصرف الى ضرب الظاهر منهما ، وهكذا الحال فى المسح بباطن
الكف فى حال الاختيار ، وبظاهره فى الاضطرار ، وبهذا الوجه اجبنا فى مبحث الوضوء
عمن قال بسقوط المسح عند التعذر من الباطن ان شئت فراجع وتأمل.
«فى ان حمل اللفظ على
الاطلاق يختلف باختلاف الموارد»
«السادس» : انه لا
ينبغى الارتياب فى ان نتيجة مقدمات الحكمة ، ليست إلّا حمل اللفظ على ما هو
المتعين بالذات ، وهذا يختلف بحسب اختلاف الموارد ، فإن كان اللفظ معرى عن قرينة
تقتضى صرفه عن معناه الاطلاقى الى غيره ، بنى على انه مستعمل وحجة فى ذلك المعنى
الاطلاقى ، كرقبة
اذا ورد فى كلام لم يقترن بقرينة تخرجها عن اطلاق الماهية فإن اقترن بقرينة تقتضى
صرفه الى الشياع وسريان الماهية فى افرادها ، فاللازم اتباع القرينة والبناء على
سراية الماهية فى الافراد ، إلّا ان قدر السراية وكميتها ، لم يكن محدودا فى كلام
الحكيم ، فلزم تنزيل ذلك القدر وتلك الكمية على المتعين الذاتى ، وليس هو إلّا
البناء على شيوعها فى جميع الافراد ، كما انه لو دلت القرينة على اعتبار خصوصية فى
شيوع الماهية ، ولم تكن تلك الخصوصية مبينة فى كلام الحكيم ، لزم البناء فى مثل
ذلك على العموم البدلى.
وبالجملة كل ما
تقوم عليه القرينة يؤخذ به بمقدار ما قامت عليه القرينة ويحكم فيما زاد عليه بلزوم
الاخذ بما تقتضيه مقدمات الحكمة ، وهى قد تقتضى الشيوع والعموم الاستيعابى او
البدلى كما قد عرفته ، وقد تقتضى التعين والاختصاص فى فرد معين ، كما فى الطلب
المنقدح فى نفس المولى ، فانه موجود خارجى يلزم فيه التعين والتشخص الخارجى ، فلا
يخرج واقعه عن كونه اما طلبا ندبيا او حتميا ، إلّا ان الندب لما كان مرتبة ناقصة
من الطلب ، افتقر البناء عليه ، الى بيان ، فمع عدمه يؤخذ بالمرتبة العلياء منه ،
وهى الطلب الحتمى الوجوبى لكونه هو المتعين بالذات ، وكذلك لو شك فى ذلك الطلب
الحتمى ، انه تعيينى او تخييرى ، عينى او كفائى وجب البناء مع عدم القرينة على انه
تعيينى عينى ، لكونه المرتبة العلياء المتعينة بالذات فافهم واغتنم والحمد لله.
«فى حمل المطلق على
المقيد»
«فصل :» اذا ورد
مطلق ومقيد ، فأما ان يتوافقا فى الحكم ، فيكونان مثبتين او منفيين ، او يتخالفا
فيه؟ فإن توافقا فيه كما ورد اعتق رقبة
ثم ورد اعتق رقبة
مؤمنة ، فان كانا فى كلام واحد وبنى على استفادة الوجوب من صيغة الامر بالوضع ،
كان المتبع ظاهر الامر الدال على الوجوب ، فيقيد به الاطلاق ، اذ هو انما يعتبر
حيث لا يرد فى قباله البيان على خلافه ، فهو انما يكون حجة على الاطلاق ، حيث لا
يكون هناك حجة على خلافه ، وظاهر الامر فى المقام حجة على الخلاف ، بناء على انه
دال بالوضع على الوجوب ، واما بناء على دلالته عليه بالاطلاق لا بالوضع او كان
المطلق والمقيد واردين فى كلامين ، فاللازم اتباع الاظهر منهما فى دلالته على
مؤداه «والمشهور فيهما الحمل والتقييد ،» وهو على اطلاقه منظور فيه ، اذ لو احرز
المناط والملاك فى كل منهما ، وبنى على ان الاطلاق فى اعتق رقبة ناش عن ملاك هو
موجود فى عتق الكافرة ايضا ، فلا وجه للحكم بالتقييد على القول بجواز اجتماع
الحكمين المتماثلين او المتضادين بمناط عدم السراية ، وقد تقدم ما يفيدك فى المقام
شطر من الكلام فى مبحث اجتماع الامر والنهى ، وتوضيح قول القائل بالجواز بمناط عدم
السراية ، فان شئت زيادة توضيح ، فراجع هناك.
واما على القول
بالامتناع او القول بالجواز لتعدد الجهة ، فيمكن القول بالتقييد ، بمعنى البناء فى
العمل على الاخذ بظاهر الامر المتعلق بالمقيد ، اذا كان الامر اقوى ملاكا من
الاطلاق ، اذ على الامتناع يمتنع اجتماع الحكمين فى المؤمنة ، فلا بد من رفع اليد
عن اقتضاء احد الملاكين ، وحيث ان الامر فى جانب المقيد اقوى ملاكا من الاطلاق فى
جانب المطلق ، كان اللازم رفع اليد عن دلالته على الفعلية فى الاطلاق ، تنزيله على
مرتبة الاقتضاء دون الفعلية ، فلا يكون فى الامر المتعلق بالمطلق ، الا اقتضاء
الاطلاق بلا فعلية له فيه ، وتكون الفعلية متحققة فى الامر المتعلق بالمقيد ، واما
على
القول بالجواز
لتعدد الجهة ، فلا يكاد يجدى ذلك فى الحكم بجواز اجتماع الحكمين هنا لاتحاد الجهة
، اذ مطلق الرقبة والرقبة المؤمنة ، يتوافقان فى عنوان الرقبة ، فيتحدان من هذا
الوجه ولا يصلح التقييد بالايمان ، ان يقع مورد الالزام والايجاب التعيينى ، ومع
ذلك يبقى المطلق على اطلاقه وتأثير فعليته فى الوجوب المطلق السارى فى جميع افراده
، لما هو المعلوم من ان التأثير دائما ابدا يستند الى المصلحة التعيينية دون
التخييرية هذا.
ولكن الانصاف ان
هذا الفرض الذى سمعته من احراز المناط فى كل من المطلق والمقيد ، خارج عن مورد
كلام المشهور ، اذ باب المطلق والمقيد عندهم من موارد التعارض دون التزاحم ، وما
ذكر من الفرض مبنى على فرض التزاحم ، وهو بمراحل عن مورد كلامهم ، فلا ينبغى
الاشكال عليهم بذلك ، وان كان شيخنا الاستاذ دام ظله ، قد اشكله عليهم ، وفيه نظر
بين ، بل المنظور اليه فى كلامهم ما لو علم بوحدة المناط فى واحد منهما ، او لم
يعلم ذلك ، ومعلوم ان التصرف فى المطلق على هذين الفرضين ، اهون من التصرف فى ظاهر
الامر المتعلق بالمقيد «، لكون ظهور اطلاق الصيغة فى الايجاب التعيينى ، اقوى من
ظهور المطلق فى الاطلاق.»
ويبقى الكلام فى
ان التقييد هل يقضى بتعنون الرقبة المطلقة ، بالايمان ، او هو انما يقتضى التضييق
فى متعلق الامر بعتق الرقبة من غير ان يتعنون بعنوان الايمان؟ وتظهر الثمرة فيما
لو شك فى الرقبة عند ابتداء وجودها كيف وجدت؟ فهل وجدت بصفة الايمان او لا؟ فعلى
استفادة العنوانية ، يمكن البناء على انها وجدت بلا صفة الايمان ، تمسكا باستصحاب
عدم الايمان بالسلب المحصل كما فى القرشية ، وعلى عدم استفادته لا يمكن ذلك كما هو
ظاهر فتأمل.
هذا كله حال
المتوافقين فى الحكم ، واما المختلفان فيه نحو اعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ،
فلا ينبغى الارتياب فى التقييد ، لو كان الاختلاف بينهما بنحو يجب عتق الرقبة ولا
يجب عتق الكافرة ، او كان الاختلاف بينهما بلسان الوضع نحو صل ولا تصل فيما لا
يأكل ، فإن بناء الاصحاب فى الاوامر والنواهى الواردة فى المركبات المخترعة
الشرعية ، حملهما على بيان الاجزاء والشرائط والموانع ، وذلك التقييد فى هذين
القسمين ، للانسباق منه بلا توقف ولا اشكال ، واما اذا كان الاختلاف بينهما ايجابا
وتحريما كما فى المثال المزبور ، اعنى اعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، ففى الحكم
بالتقييد خفاء بل منع ، اذ الحكم التحريمى انما ينفى الوجوب الذى كان يقتضيه
الاطلاق ، ولا دلالة فيه على انتفاء ملاك الوجوب المستفاد من اطلاق المادة فى اعتق
رقبة ، فيبقى المطلق على ما هو عليه من قضية الاطلاق فى ملاك الوجوب ، ولا تنافى
بين الملاكين ، اذا كان ملاك الوجوب مصلحة وملاك النهى مفسدة ، اذ يمكن اجتماع
المفسدة والمصلحة فى شىء واحد ، وان كان التأثير يستند الى احدهما خاصة.
اللهم إلّا ان
يلتزم بأن للنهى جنبى التكليف والارشاد ، فهو باعتبار التكليف رافع للوجوب ومثبت
للحرمة ، وباعتبار الارشاد رافع لملاك الوجوب.
فان قلت : اى فرق
بين مثال يجب عتق الرقبة ، ولا يجب عتق الرقبة الكافرة ، وبين مثال اعتق رقبة ولا
تعتق رقبة كافرة ، حيث نفيت الاشكال فى التقييد فى الاول ، واثبت الخفاء بل المنع
فى الثانى؟
قلت : الفرق
بينهما واضح ، ضرورة انه فى الاول ينفى ملاك الوجوب ايضا ، بخلاف الثانى ، فانه لا
دلالة له ، على انتفاء ملاك الوجوب ، الا بالتعسف المعبر عنه باللهم الخ ، فافهم
وتأمل.
«فى المجمل والمبين»
«فصل : فى المجمل
والمبين ، والظاهر ان المراد من المبين فى موارد اطلاقه ، الكلام الذى له ظاهر ،
ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى ، والمجمل بخلافه» ، وهو الذى لا يكون
ظاهرا فى معنى ولا يكون قالبا لخصوص معنى ، بل يكون قالبا لمعان كما فى المشترك ،
فلا يشمل المهمل ، اذ ليس هو قالبا لشىء من المعانى ، فيعتبر الدلالة فى كل من
المجمل والمبين ، والمهمل لا دلالة فيه ، كما يظهر من تعريفات القوم للمجمل ، حيث
عرفه فى الفصول بما لفظه : المجمل ما دل على معنى ، او حكم ولم يتضح دلالته انتهى ، ومعلوم ان المهمل لا يدل على معنى ، وقد يحد ايضا
بما لم يتضح دلالته ، ومعلوم ان ظاهره تحقق الدلالة وانتفاء الوضوح ، ومن ذلك
يتبين لك ان مفهوم كل من المجمل والمبين يفتقر الى دلالة ما ، وهل المعتبر من تلك
الدلالة ، الدلالة التصورية ، او التصديقية؟ الظاهر هو الاول ، فيكفى فى تحقق
المبينة ، كون اللفظ بحيث ينقل منه الى المعنى ، وان لم يظن بكونه مرادا للمتكلم ،
بل وان قطع بعدم ارادته ، كما لو تكلم وهو نائم بكلام مبين المفهوم واضح الدلالة.
نعم لا بد فى
الحجية من احتمال الارادة ، فلا يعتد بكلام النائم ، ولا يكون كلامه حجة فى معناه
كما هو ظاهر.
ثم انه ربما يكون
اللفظ دالا على معنى فى نفسه وتقوم قرينة منفصلة ، ولو قرينة عقلية ، على عدم
ارادة ذلك المعنى ، بل ارادة غيره ، ويتردد الغير بين معنيين او اكثر ، فظاهر
القوم ان ذلك اللفظ يكون عندهم من المجملات ويخرج من المبين كما فى لا صلاة إلّا
__________________
بطهور ونحوه مما ظاهره نفى الحقيقة وامتنع حمل اللفظ عليه ،
لامتناع انتفائها عند الاعمى ، فيتردد المعنى بين كونه نفى الصحة او نفى الكمال ،
وذلك يوجب الاجمال عندهم ، وكان هذا متسالم عليه فيما بينهم ، اذ القائل بالاجمال
فى هذا اللفظ ، انما ذهب اليه ، لتردد المعنى عنده بين نفى الصحة او نفى الكمال ،
وخصمه انما يذهب الى ان مثل هذا المثال ، من قبيل المبين ، لكونه يراه محمولا على
نفى الصحة ، بلا تردد بينه وبين نفى الكمال ، فهو يسلم ان المعنى لو كان على
الترديد ، لكان اللفظ مجملا ولكنه لا ترديد فيه.
وانت خبير بما فيه
بعد ما سمعت من ان المدار فى ضابطة المبين والمجمل ، على ان يكون اللفظ ظاهرا فى
المعنى او غير ظاهر فيه ، ولا يدور مدار الارادة ، ومن الواضح ان هذا النفى فى مثل
هذا الكلام ، ظاهر فى نفى الحقيقة وان لم يكن ذلك مرادا من اللفظ بالقرينة العقلية
، إلّا ان القرينة كذلك هنا ، ليست مما يتكل عليه المتكلم حال البيان حتى تكون
كالقرينة المتصلة بالكلام ، تمنع عن انعقاد الظهور فى نفى الموضوع لنفى الحقيقة ،
فالكلام هنا من قبيل المبين دون المجمل ، ولو كان مرددا بين نفى الصحة ونفى الكمال
فلا تغفل.
ومن هنا يتبين لك
الحال فى اليد الواردة فى آية السرقة فانه لا اجمال فيها وان كانت قد تستعمل مع القرينة فى بعض
العضو المعهود ، فان استعمالها فى العضو المعروف الى الاشاجع فى مقام ، والى الزند
فى مقام آخر ، والى المرفق فى مقام ثالث ، لا يخرجها عن ظهورها فى معناها الحقيقى
، لو استعملت بلا قرينة متصلة ، وكون ذلك المعنى الحقيقى ، غير مراد من اللفظ
بالقرينة المنفصلة ، لا يوجب اختلافا
__________________
فى ظاهر اللفظ
الذى عليه مدار اطلاق اسم المبين كما لا يخفى هذا.
وانقطع الآن ما
رعف به القلم ، وعطست عنه الهمم ، وجاد به الطبع ، ووسعته الذرع فى تحرير الاصول
فى شرح كفاية الاصول لكن لا كلها بل غوامضها المستفاد من بحث علامة العصر وفريد
الدهر آية الله الملك الباقى الشيخ ضياء الدين العراقى متعنا الله بطول بقائه ،
على حسب فهمى القاصر ، وذهنى الفاتر ، والمرجو من الناظرين ان يصلحوا الخلل
ويغفروا الزلل ، وينظروا فيه بعين الرضا.
فعين الرضا عن
كل عيب كليلة
|
|
كما ان عين
السخط تبدى المساويا
|
ولو وجدوا فيه
خللا ، فليتذكروا ، لقول بعض الاكابر حيث قال :
ان تجد عيبا فسد
الخللا
|
|
جل من لا عيب
فيه وعلا
|
وقد فرغت من
تصنيفه وترتيبه ، ليلة الاحد من العشر الثانى ، من الشهر الثانى ، من السنة
الرابعة ، من العشر الخامس ، من المائة الرابعة ، من الالف الثانى ، من الهجرة
النبوية ، على هاجرها آلاف سلام وتحية ، حامدا شاكرا مصليا داعيا راجيا للقبول ،
وهو غاية المسئول ونهاية المأمول. تمت بحمد الله فى ارض النجف ، معدن ارباب العلوم
والشرف ، بيد مصنفه المفتقر الى رحمة ربه البارى والعبد الاثم الجانى مرتضى النجفى
الاصفهانى آل المظاهر الاسدى عفى عن جرائمه شهر صفر المظفر سنة ١٣٤٤
تم المجلد الاول
من كتاب «تحرير الاصول» ويتلوه المجلد الثانى إن شاء الله تعالى اوله مبحث القطع
والحمد لله اولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
«فهرس المطالب»
ترجمة
المؤلف.................................................................. ٣
القول
فى موضوع العلم......................................................... ٤
حول
تمايز العلوم............................................................ ١٠
حول
موضوع علم الاصول.................................................... ١٤
حول
تعريف علم الاصول.................................................... ١٩
حول الوضع.................................................................. ٢١
فى
اقسام الوضع............................................................. ٢٦
التحقيق
فى معانى الحروف.................................................... ٢٨
حول
الخبر والانشاء.......................................................... ٣٧
حول
الاسماء المبهمة.......................................................... ٤٤
فى
استعمال اللفظ فى نوعه وشخصه ومثله...................................... ٤٨
فى
ان الدلالة تتبع الارادة..................................................... ٤٩
القول
فى وضع المركبات....................................................... ٥٢
حول
علائم الحقيقة والمجاز.................................................... ٥٤
القول
فى الحقيقة الشرعية..................................................... ٥٧
حول الصحيح والاعم......................................................... ٦٢
فى
ان الصلاة اسم للجامع الوحدانى............................................ ٦٢
فى
توهم الاشكالين على الجامع............................................... ٦٤
فى
تصوير الجامع عند الاعمى................................................. ٦٥
فى
ما استدل به الاعمى على مرامه............................................ ٦٨
حول
ثمرة النزاع.............................................................. ٧٣
الكلام
فى المعاملات......................................................... ٧٥
فى الاشتراك.................................................................. ٧٦
حول
استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد.................................... ٧٨
فى
استعمال المشترك فى معاينه بلحاظ واحد..................................... ٨٢
حول المشتق................................................................. ٨٦
حول
جريان النزاع فى الجوامد.................................................. ٨٨
حول
جريان النزاع فى اسم الزمان.............................................. ٩١
فى
وضع المشتقات........................................................... ٩٤
فى
عدم دلالة الفعل على الزمان............................................... ٩٧
حول
اختلاف المبادى فى المشتقات........................................... ١٠٠
فى
انقسام المشتقات باعتبار مباديها.......................................... ١٠٢
حول
ادلة الطرفين......................................................... ١٠٣
حول
بساطة المشتق........................................................ ١٠٦
فى
بيان ملاك الحمل فى المشتق............................................... ١١٤
حول الاوامر................................................................ ١١٦
فى
معانى الطلب والمختار منها فى المقام........................................ ١٢٠
الكلام
فى ان الطلب هل هو عين الارادة او غيرها؟............................ ١٢٣
الكلام
فى صيغة الامر...................................................... ١٣٠
فى
ان الصيغة حقيقة فى الوجوب............................................. ١٣٢
فى
ظهور الجمل الخبرية فى الوجوب........................................... ١٣٣
تعريف
التعبدى والتوصلى................................................... ١٣٥
فى
معنى القربة............................................................. ١٣٦
فى
اعتبار قصد القربة فى المأمور به............................................ ١٣٧
فى
جريان اصالة الاطلاق عند الشك فى اعتبار القربة........................... ١٤٦
فى
جريان اصالة البراءة عند الشك فى اعتبار القربة.............................. ١٤٧
الامر
المطلق يحمل على النفسى والعينى والتعيينى................................ ١٥٠
فى
الامر الواقع عقيب الحظر................................................ ١٥١
فى المرة والتكرار........................................................... ١٥٢
فى
ثمرة المسألة............................................................. ١٥٨
فى الفور والتراخى........................................................... ١٥٩
فى
ما استدل به للفورية..................................................... ١٦٠
حول الاجزاء............................................................... ١٦١
الاتيان
بالمأمور به دليل على الاجزاء.......................................... ١٦٣
الكلام
فى الاجزاء وعدمه بالفعل الاضطرارى ثبوتا.............................. ١٦٥
الكلام
فى الاجزاء بالفعل الاضطرارى بالدليل وعدمه............................ ١٦٩
التفصيل
فى الاجزاء وعدمه بالفعل الاضطرارى باصل العملى..................... ١٧٢
الكلام
فى اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى وعدمه....................... ١٧٦
حول مقدمة الواجب......................................................... ١٨٥
فى
تقسيم المقدمة الى الداخلية والخارجية....................................... ١٨٨
فى
تقسيم المقدمة الى العقلية والشرعية والعادية................................. ١٩٣
فى
تقسيم المقدمة الى الوجودية والوجوبية والصحة والعلمية....................... ١٩٣
فى
تقسيم المقدمة الى سبب وشرط وعدم المانع................................. ١٩٥
فى
الشرط المتأخر.......................................................... ١٩٨
فى
الكشف الحقيقى........................................................ ٢٠٠
فى
فساد القول بان الشرط هو تعقب الاجازة.................................. ٢٠١
حول تقسيمات الواجب..................................................... ٢٠٥
فى
تقسيم الواجب الى المعلق والمنجز.......................................... ٢٠٦
فى
ابطال ما افيد من استحالة الواجب المعلق................................... ٢١٢
فى
دفع الاشكال عن مبنى المشهور فى تثليث الاقسام........................... ٢١٥
التحقيق
فى تثليث القسمة.................................................. ٢١٨
فى
تعلق الامر بالطبيعة...................................................... ٢٢٠
المختار
فى واجب المشروط.................................................. ٢٢٤
فى
وجوب تحصيل المقدمات المفوتة........................................... ٢٢٥
التهافت
فى كلام بعض المعاصرين............................................ ٢٢٧
فى
عدم لزوم تأسيس الواجب المعلق على مسلكنا فى المشروط.................... ٢٢٨
فى
عدم مرجعية البراءة فى مورد الشك على مسلكنا............................. ٢٣٢
فى
النفسى والغيرى......................................................... ٢٣٣
وهم
ودفع................................................................ ٢٣٤
فى
ترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الوجوبات الغيرية ومخالفتها................... ٢٣٧
فى
ان الواجب مطلق المقدمة او ما قصد بها التوصل او خصوص الموصلة؟......... ٢٤٢
حول
الثمرة فى المسألة على القولين........................................... ٢٥١
فى
الاصلى والتبعى......................................................... ٢٥٧
فى
بيان ثمرة المسألة......................................................... ٢٥٩
فى
تأسيس الاصل فى المسألة................................................ ٢٦٤
نقل
الأقوال فى الملازمة وعدمها والمختار منها................................... ٢٦٥
حول اقتضاء الامر النهى عن ضده............................................ ٢٦٩
الكلام
فى الضد العام...................................................... ٢٧٤
حول
الترتب.............................................................. ٢٧٥
فى
معنى الواجب التخييرى.................................................. ٢٧٥
الاقوال
فى التخييرى........................................................ ٢٧٩
الترتب
فيما اذا كان الامر ان مضيقين........................................ ٢٨١
نقل
دليل المحقق الفشاركى فى الترتب......................................... ٢٨٥
الترتب
فيما اذا كان الامران موسعين......................................... ٢٨٦
الترتب
فيما اذا كان احد الامرين مضيقا والآخر موسعا......................... ٢٩١
فى
الامر مع العلم بانتفاء شرطه.............................................. ٢٩٣
فى
ان الحكم متعلق بالطبائع................................................. ٢٩٤
تنبيهان................................................................... ٣٠١
فى
تثليث القسمة فى الاوصاف.............................................. ٣٠٢
فى
عدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب........................................ ٣٠٤
الكلام
فى الوجوب التخييرى والتحقيق فيه.................................... ٣٠٥
الكلام
فى الواجب الكفائى................................................. ٣١٥
فى
الواجب الموقت......................................................... ٣١٧
فى
الامر بالامر............................................................ ٣٢١
حول النواهى................................................................ ٣٢٢
فى
دلالة النهى على التكرار والدوام وعدم دلالته عليه........................... ٣٢٣
القول
فى جواز اجتماع الامر والنهى او امتناعه................................. ٣٢٤
فى
التمايز بين المسألتين..................................................... ٣٢٦
فى
اعتبار المندوحة وعدم اعتبارها فى محل النزاع................................. ٣٢٩
فى
اختلاف الجهات التى يبتنى القول بالجواز عليه............................... ٣٣٢
فى
العبادات المكروهة....................................................... ٣٤٨
المختار
فى المسألة.......................................................... ٣٤٩
فى
ان اجتماع الامر والنهى من باب التزاحم دون التعارض....................... ٣٥٢
حكم
صلاة الغافل والجاهل والناسى فى الدار المغصوبة.......................... ٣٥٧
الكلام
فى الاضطرار........................................................ ٣٥٨
تنبيهان................................................................... ٣٦٥
فى
اقتضاء النهى الفساد وعدمه.............................................. ٣٦٨
التحقيق
فى معنى الصحة.................................................... ٣٦٩
المختار
فى المسألة.......................................................... ٣٧٠
الكلام
فى النهى المتعلق بالمعاملات........................................... ٣٧٤
البحث حول المفاهيم....................................................... ٣٧٥
فى
مفهوم الشرط........................................................... ٣٧٩
فى
ذكر وجوه التمسك بالاطلاق فى الباب.................................... ٣٨١
فى
ان انتفاء كل محمول عند انتفاء موضوعه عقلى.............................. ٣٨٥
فى
ان السنخ بمنزلة الكلى................................................... ٣٨٧
اشكال
وجواب............................................................ ٣٩١
فى
ان الشرط فى خفاء الاذان والجدران هو الجامع المحدود بما بين الشرطين.......... ٣٩٣
فى
تداخل الاسباب والمسببات............................................... ٣٩٦
فى
الملازمة بين الشرط ومتعلق الحكم الجزائى................................... ٣٩٩
فى
مفهوم الوصف.......................................................... ٤٠٤
فى
مفهوم الغاية............................................................ ٤٠٥
فى
مفهوم الاستثناء......................................................... ٤٠٦
حول العام والخاص.......................................................... ٤٠٧
فيما
يمتاز به ادوات العموم بعضها عن بعض.................................. ٤١٠
فيما
يفيد العموم بالوضع او بالاطلاق........................................ ٤١١
فى
حجية العام المخصص................................................... ٤١٣
فى
تخصيص العام بمخصص مجمل متصل...................................... ٤١٥
فى
تخصيص العام بمخصص مجمل منفصل..................................... ٤١٧
منشأ
القولين فى التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية........................... ٤١٨
التحقيق
فى التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية................................ ٤٢٢
ايقاظ.................................................................... ٤٢٨
وهم
وازاحة............................................................... ٤٣٢
فى
دوران الامر بين التخصيص والتخصص.................................... ٤٣٥
فى
جواز العمل بالعام قبل الفحص........................................... ٤٣٦
فى
الخطابات الشفاهية...................................................... ٤٣٧
فى
ثمرة تعميم خطاب المشافهة............................................... ٤٤٢
فى
تعقب العام بضمير يرجع الى بعض افراده................................... ٤٤٥
فى
جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف...................................... ٤٤٦
فى
استثناء المتعقب للجمل.................................................. ٤٤٨
فى
تخصيص الكتاب بالخبر الواحد............................................ ٤٥١
فى
دوران الامر بين التخصيص والنسخ....................................... ٤٥٣
حول المطلق والمقيد........................................................ ٤٦٢
التحقيق
فى بعض الالفاظ التى يطلق عليها المطلق.............................. ٤٦٧
فى
المفرد المعرف............................................................ ٤٦٨
فى
النكرة................................................................. ٤٧٠
فى
استفادة السريان من المطلق بمقدمات الحكمة................................ ٤٧٢
فى
عدم افادة الاطلاق عما كان القيد من لوازم الافراد.......................... ٤٧٥
وهم
ودفع................................................................ ٤٧٦
فى
تعارض العام والاطلاق................................................... ٤٧٨
فى
قادحية الانصراف فى التمسك بالاطلاق................................... ٤٧٩
تتمة
مهمة................................................................ ٤٨١
فى
ان حمل اللفظ على الاطلاق يختلف باختلاف الموارد......................... ٤٨١
فى
حمل المطلق على المقيد................................................... ٤٨٢
فى
المجمل والمبين........................................................... ٤٨٦
فهرس
المطالب............................................................ ٤٨٩
تم الفهرس بحمد الله ومنه وفضله
|