بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نحمدك اللهم على ما فضلتنا به من الإستضاءة بأنوار كتابك والصّلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد رسلك وآله وأصحابه والسابقين إلى المتثال أمرك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

شرع سبحانه وتعالى في بيان بعض أحوال إبراهيم (عليه‌السلام) تمهيدا لبيان بناء البيت وتشريع القبلة للمسلمين ، وأهمية البناء وعظمته تنبئان عن عظمة الباني وأهميته ؛ ولذا خصه الله تعالى ـ وبعض ذريته ـ بالإمامة الكبرى ، كما أنّ في تأخير ذكره عن أهل الكتاب ترغيبا لهم بالإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنه ليس من حق اليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه‌السلام) أن يعرضوا عن الأساس الذي بني عليه الإسلام ، بل أساس النبوة العظمى والإمامة الكبرى ، فهو (عليه‌السلام) محور الكمالات الإنسانية ، فلا عذر في الإعراض عن تعاليمه.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ). مادة «بلي» تأتي بمعنى الخلق الذي هو ظهور لحمته وسداه ، وبروز واقعه وحقيقته للناس ولصاحب الثوب ، واستعملت في الامتحان والاختبار من هذه الجهة ، لأنهما يظهران حقيقة الشيء وواقعه.

والمراد بهذا الظهور هو الظهور للنفس ولمن يجهل الحقائق ، لا بالنسبة إلى الله الذي هو علّام الغيوب ، والمطلع على كل سر محجوب.

وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٨] ، وقال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ويصح استعمال هذه المادة في الخير والنعمة لتظهر كيفية الشكر عليهما. وفي الشر والنقمة ليعلم كيفية الصبر عليهما.

وإبراهيم كلمة سريانية تفيد معنى الأب الرحيم على ما قيل ، ويشهد له التأمل في أحوال هذا الرجل العظيم من حبه للضيوف والمساكين وكثرة مداراته مع المعاندين ، ورأفته بأطفال المؤمنين في عالم البرزخ كما في النصوص الى غير ذلك من الصفات الحسنة مما تأتي الإشارة إليها.

وقد تكرر اسمه الشريف في الكتب السماوية ، ففي القرآن المجيد في ما يقرب من سبعين موردا. وهو الذي دعا إلى عبادة الإله الواحد الأحد القيوم خالق السموات والأرض ، فلقي ما لاقاه من قومه المشركين ، وكان من انقطاعه إلى رب العالمين ، ما أوجب تحير الملائكة فيه أجمعين ، وكان من بذل نفسه للرحمن وماله للضيفان وولده للقربان أن اتخذه الله تعالى خليلا لنفسه ، وأراه ملكوت السموات والأرض وجعل النبوة والحكمة والملك العظيم في ذريته ، وفدى ولده بذبح عظيم.

وهو أول من رفع قواعد البيت الحرام بعد الطوفان وأول من أتى بشرائع الإسلام ، وأول من قاتل في سبيل الله تعالى وأول من اتخذ الرايات في الدعوة إلى رب السموات ، فحقيق له أن يكون خليلا لله تعالى ، وحق لله سبحانه وتعالى أن يتخذه خليلا.

وإنّما قدّم على الفاعل في الآية الشريفة اهتماما به ، ولاتصال الفاعل بضمير المفعول الموجب لتقديم الأخير عليه.

وإنما بدأ سبحانه وتعالى في ذكر قصة إبراهيم (عليه‌السلام) بذكر الابتلاء والامتحان ، إعلاما لخلقه بأنّ الأنبياء والأوصياء إنما وصلوا إلى

مراتبهم العالية بالاختبار والامتحان ، وأن إبراهيم (عليه‌السلام) قد خرج عن هذا الابتلاء والامتحان بأحسن وجه ، وبأن فضله وكماله بإتمام ما كلفه الله سبحانه وتعالى به.

قوله تعالى : (بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ). الكلمات جمع كلمة. تظلق على الأثر الحاصل غالبا للسمع أو البصر. فمن الأول عامة الكلمات الشايعة المستعملة. ومن الثاني الجرح المحسوس بالبصر ، فالألفاظ المسموعة كلمات والمعاني التي تحتها كلمات أيضا ، لمكان الاتحاد بينهما في الجملة من هذه الجهة. كما أن المعاني كلمات الله تعالى من حيث دلالتها عليه سبحانه ومظهريتها له تعالى ، سواء وجدت بالوحي ، أم الإلهام ، أم القذف في القلوب وغير ذلك من وجوه المعرفة والاتصال مما لا يعلمها إلّا الله تعالى.

كما تطلق الكلمات على الذوات قال تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٩].

والمراد بكلمة الله تعالى أو كلماته حيث تطلق في الكتاب والسنة ما أنشئ عن ذاته المقدسة ، سواء أكان جوهرا بحسب مراتبه أم عرضا وإنما أطلق لفظ الكلمة عليه من باب ضيق التعبير ، وإلّا فإن منشآته عزوجل تكفي فيها الإرادة والأمر التكويني ، كما قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢]. وما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في بعض الأدعية المأثورة : «مضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة». وأن أمره التكويني عبارة عن إرادته تعالى ، كما أن إرادته فعله.

والمراد بالكلمات في المقام الأعم من المظاهر الأخلاقية النفسانية أو التكليفية ، أو الذوات الخارجية الذي هم مظاهر الحقيقة الإنسانية كالأنبياء والأوصياء الذين هم من نسل إبراهيم (عليه‌السلام).

فلا بد أن تكون الكلمات هي ما تقع في طريق الاستكمال الإنساني لأنه المقصد الأسنى من خلق الإنسان ، ومن اتخاذ إبراهيم خليلا ، وموسى كليما ، ومحمدا مرسلا إلى العالمين. وقد شرحت السنة المقدسة تلك الكلمات ، ويأتي التعرض لها في البحث الروائي.

ومادة (ت م م) تستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه ، وهو ضد النقص. وقد استعملت في القرآن كثيرا ، قال تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٢] ، وقال تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. وإتمام الصّلاة إتيانها بحيث لا نقص فيها ولا قصر ؛ وفي الحديث «اللهم رب هذه الدعوة التامة» أي لا نقص فيها في ربط العبد بمعبوده ، ولو كان نقص في البين فإنه من نفس العبد.

والمراد به في المقام أي : أكملهنّ كما هو حقها ووفّاها كمال الوفاء بلا نقص فيها ولا خلل.

قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). الجعل من الألفاظ العامة ؛ وهو أعم من الفعل والصنع ونحوهما.

ويستعمل في موارد شتى منها : الخلق والتكوين ، والتشريع ، والحق ، والباطل وغير ذلك ، فمن الأول قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١] ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) [سورة يونس ، الآية : ٥] وقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [سورة النحل ، الآية : ٧٨] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة.

ومن الثاني قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] ، وقوله تعالى : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ، وغيرهما من الآيات المباركة.

ومن الثالث : قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٠] ، وجميع ما مر من الآيات المباركة ونظائرها.

ومن الأخير قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [سورة الرعد ، الآية : ٣٣] ، وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [سورة النحل ، الآية : ٥٧] ، إلى

غير ذلك من الآيات المباركة.

والمراد به في المقام الجعل التشريعي ، نظير قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) [سورة ص ، الآية : ٢٦] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧٣] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٣٥].

والجعل التكويني ما ليس لاختيار الغير دخل فيه بخلاف التشريعي فإنه في مورد اختيار الغير ، ويصح كل منهما بالنسبة إلى الله تعالى وبالنسبة إلى الإنسان ، فالفعل الاختياري الصادر منه كالقيام والقعود مثلا جعل تكويني ، وأمره الغير بشيء ونهيه عنه جعل تشريعي.

والإمام كل ما يقتدي به النّاس سواء أكان كتابا سماويا ، قال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [سورة هود ، الآية : ١٧] ، وقال تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [سورة يس ، الآية : ١٢]. أم رجلا إلهيا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٣٥].

ويستعمل في كل من الحق والباطل ، قال تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٧٤].

والإمامة في عرف المليين هي الزعامة الإلهية والرئاسة الربانية على النّاس ، والإمام هو الزعيم والمقتدى في أمور الدين والدنيا ، فهو القوة المجرية لأحكام الله تعالى وتدبيراته في خلقه من حيث التشريع فتكون رئاسته من الحق وبالحق.

وإذا لوحظت مطلقا من غير شرط فهي تجامع النبوة والرسالة ، وإذا لوحظت (بشرط لا) فهي تختص بغيرهما فإنّ مجرد إنزال التشريعات السماوية على من يختاره الله تعالى يكون نبوة ، وامره تعالى ذلك النبي أن يرسل ويبلغ

ما أنزل عليه إلى النّاس يكون رسالة. كما أنّ أمر الله تعالى ذلك الرسول بإخراجها في النّاس وإقامته فيهم يكون إمامة ، وبين الجميع تصادق في الجملة والحقيقة واحدة ولكن لها مراتب مختلفة.

ويصح انفكاك الأول عن الأخيرين كما في جمع كثير من الأنبياء (عليهم‌السلام) مثل لوط ، ويونس ، وهود وغيرهم. كما يصح انفكاك الأخير عن الأولين ، كخلفاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويصح اجتماع الجميع كما في إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين (صلّى الله عليهم). فلا ملزم أن يكون كل نبي أو رسول إماما كما لا ملزم أن يكون كل إمام نبيا أو رسولا. ولها فروع منها القضاوة التي هي الحكم بين النّاس بالحق بإذن من إمام الأصل (عليه‌السلام) ، كما فصل في الفقه.

فالإمامة هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية ، ولا ريب في أنها أعلى مقامات الإنسانية لكونه أمين الله تعالى في خلقه وأمين الخلق بينهم وبين الله تعالى ؛ فلا بد أن يكون أعلم النّاس بأحكام الله تعالى ، وأتقاهم في دينه ، وأعقلهم وأسوسهم في ترتيب أمور العباد وتنظيم البلاد بما يفاض عليه من الله تعالى ، كما في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإبراهيم (عليه‌السلام) ، أو من الشريعة التي يتدين بها ، كما في الأئمة الهداة المعصومين (عليهم‌السلام).

ثم إنه ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالإمامة في المقام النبوة لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من يقتدي به النّاس ويؤتم به فليست الإمامة شيئا زائدا على النبوة والرسالة الإلهية.

ولكن التأمل في الآية المباركة وسائر الآيات الشريفة النازلة في سياقها يرشد إلى أنها غير الرسالة ، وأن الإمامة كانت بعد الرسالة.

أما أولا : فلأن ظاهر قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) أن الابتلاء والامتحان كان بعد وجدان ابراهيم (عليه‌السلام) لمرتبة النبوة وخروجه عن الامتحانات الإلهية وإتمامه لهنّ ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) إذ الظاهر أنّ الجعل تعلق بأمر جديد وكان بعد خروجه عن

الامتحان والابتلاء ، وإلّا لا معنى لأن يتعلق الجعل بأمر كان حاصلا له.

وثانيا : ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يدل على كون الجعل في المستقبل ، وصرفه إلى معنى (جعلت) في الماضي خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل ، وقد ذكر علماء الأدب أن اسم الفاعل إنما يعمل إذا كان بمعنى المستقبل.

وبالجملة أنّ توهم كون المراد بالإمامة هي النبوة خلاف الظاهر المنساق من الآيات المباركة الواردة في القصة. وقد وردت روايات مستفيضة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) تدل على أن إمامة إبراهيم (عليه‌السلام) كانت بعد النبوة يأتي التعرض لها في البحث الروائي.

والمستفاد من جميع ما تقدم أن النسبة بين النبوة والإمامة هي العموم من وجه ، فليس كل نبي إماما كما أنه ليس كل إمام نبيا ، ومورد الاجتماع إبراهيم (عليه‌السلام) ، ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي). مادة (ذرأ) تأتي بمعنى الفرق والتفرق ، وأبدلت الهمزة ياء ، سواء كان أصلها من ذرأ بمعنى الخلق ، أم ذرر من لفظ الذر ، أم من ذري أو ذرو بمعنى الإلقاء والتفريق ؛ يقال : ذريت الحب ، أو ذروته. وهي بمعنى النسل سمي ذرية ، للاختلاف في الخصوصيات والهيئة ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم كثيرا لا سيما في قضايا إبراهيم (عليه‌السلام) ، قال تعالى حكاية عنه (عليه‌السلام) : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٨] ، وقال تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٧].

والظاهر من سياق الآية المباركة أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) كما بشر بالإمامة العظمى بعد الابتلاء العظيم من ربه دعا الله تعالى أن يجعل هذه الموهبة العظيمة في ذريته أيضا إما جزاء لابتلائه ، أو رغبة منه فاستجاب تعالى ذلك له بقوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٥٤].

وإنما طلب الإمامة لبعض ذريته كما تقتضيه (من) التبعيضية ولم يطلبها لجميعهم ، لأنه كان يعلم بحسب العادة أن ذريته مختلفون في الصلاح لعدمه ، وقد طلبها للصالحين من ذريته ، وطلب هذا المقام الخطير لغير الأهل لا يليق بمقام إبراهيم ، بل هو خلاف أدب الدعاء ولم يكن جديرا بالإجابة.

أو لأنّ الله تعالى أعلمه أسماء الأئمة (عليهم‌السلام) من ذريته في ضمن الكلمات ، كما تدل عليه الأخبار. وسيأتي نقلها في البحث الروائي ، فحينئذ لم يكن يطلب الزيادة على ما أخبره تعالى ، فيكون دعاؤه مزيدا للاستبشار والبهجة ، أو الشكر.

قوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). يستفاد من هذه المحاورة كمال الخلة والمحبة بينه تعالى وبين عبده إبراهيم (عليه‌السلام) وكيف لا يكون كذلك ، وهو خليل الرحمن.

والنيل نظير الإدراك واللحوق. والمراد بالعهد الإمامة.

وإنما عبر به لبيان كمال أهمية مرتبة الإمامة ، وأنّ جعلها مختص بالله تعالى دون غيره ، كما يأتي في تفسير قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٦٨].

والظلم هو التجاوز عن الحد المقرر شرعا ، وله مراتب متفاوتة ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة يمكن حصرها في أنواع ثلاثة :

الأول : ظلم الإنسان لنفسه.

الثاني : ظلمه بينه وبين الله تعالى

الثالث : ظلمه لغيره. والعقل مستقل بقبح الجميع وقررته الكتب السماوية ، والقرآن الكريم ، والمراد به في المقام جميع ذلك.

ثم إنّ هذه الجملة تدل على عدم إمكان اجتماع عهد الله تعالى مع الظلم ، بل فيها إشارة إلى غاية بعد الظلم عن الله تعالى ، والظالم ليس بأهل

لأن يقتدى به فكيف يليق لأن يعهد إليه منصب إمامة الناس وتعهد الرعية ، وإرشادهم إلى الصلاح ، وكف الظلم عنهم. فاجتماعهما في شخص من قبيل اجتماع النقيضين ، والتنافي بين الإمامة وبين صرف وجود الظلم واضح. ولا يعدو عن كونه أمرا فطريا وحكما عقليا يجري عليه عامة النّاس في شؤونهم الدنيوية ، فمنصب الإمامة كالنبوة من هذه الجهة في أنهما لا تعهدان إلى الظالم ، وأن الظلم ينافي العصمة التي دلت الأدلة العقلية على اعتبارها فيها.

وظاهر الآية المباركة أن صرف وجود الظلم يكون مانعا ، وأن التلبس به يخرجه عن القابلية لهذا المنصب بسبب النقص الحاصل فيه ، والناس بالنسبة إلى الظلم وعدمه على أربعة أقسام :

الأول : من اتصف بالطاعة والارتباط مع الله تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله.

الثاني : من اتصف بالظلم والمخالفة كذلك.

الثالث : من يكون مثل الأول في أول عمره ، ومثل الثاني في آخر عمره.

الرابع : من يكون مثل الثاني في أول عمره ، ومثل الأول في آخر عمره.

ولا يليق بمنصب الغيب المكنون ، والسر المصون والإمامة العظمى إلّا الأول ، وإنّ إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره. وما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق.

ومما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية والأصولية وأطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ وما انقضى عنه المبدأ ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب ، وأما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب وآمن.

فإنه لا ربط للآية المباركة بمسألة المشتق ، وإنّ سياق الآية الشريفة كما

ذكرنا يدل على أن صرف وجود الظلم ينافي جعل هذا المنصب الخطير ؛ لأن الإمام أمين الله تعالى على خلقه ، ومنشأ الاتصال بينه وبين عباده ، والظلم موجب لسقوطه عن هذا المنصب ، سواء كان سابقا عليه أم مقارنا أم لا حقا.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآية المباركة أمور :

الأول : إنّ فصل قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) عن الجملة السابقة ، ومن إضافته إليه تعالى يرشد إلى شرف الإمامة وأنّها فضل من الله تعالى ولطف إلهي ، وهي لا تنال بالكسب.

الثاني : يستفاد من سياق الآية المباركة أن الإمامة كانت بعد النبوة ، فإن إبراهيم (عليه‌السلام) إنما طلب الإمامة لذريته بعد أن صار له أولاد يرجو أن يكون لهم ذرية ، وأما قبل ذلك فقد كان نبيا. و «جاعل» بمعنى أجعلك في المستقبل لا بمعنى جعلت في الماضي كما لا يخفى.

الثالث : أن قوله تعالى : (لِلنَّاسِ) إشارة إلى الامتنان عليهم وأن الإمامة هبة ولطف إلهي ومن أكبر مصالحهم.

الرابع : يستفاد أدب الدعاء من سؤال إبراهيم (عليه‌السلام) فإنه كان عالما ومتوجها إلى أن في ذريته من لم يكن أهلا للإمامة فلم يطلبها لجميع ذريته وإلّا لا يناسب مقامه (عليه‌السلام).

الخامس : في الآية المباركة تنبيه إلى أن المانع عن الإمامة منحصر في الظلم وأن فيه تنفير ذرية إبراهيم (عليه‌السلام) من الظلم وتبغيضه إليهم ليجتنبوا عنه.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) شرف الإمامة وفضيلتها العظمى وعظيم مقامها ، فإنها عهد من الله تعالى بما فيها من القيام بمصلحة النّاس والتعهد بهم وسياسة الأمة.

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «قد كان إبراهيم (عليه‌السلام) نبيا وليس بإمام حتّى قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). من عبد صنما ، أو وثنا لا يكون إماما». ومثله ما رواه الشيخ المفيد لكن بزيادة «أو مثالا».

أقول : يأتي إن شاء الله تعالى أن إمامته (عليه‌السلام) إنما جعلت له في أواخر عمره وبعد رسالته واصطفائه تعالى له كما في قوله سبحانه وتعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٠].

وأما عدم لياقة من عبد الصنم ، أو الوثن ، أو المثال للإمامة فهو قريب من الفطريات ، لأن صرف وجود الإشراك به تعالى يسقطه عن هذا المقام الرفيع.

إن قيل : روى الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الإسلام يجبّ ما قبله» فكيف لا يليق بالإمامة بعد الإسلام. (يقال) : الجب عما قبل الإسلام ، وقبول الإسلام والتوبة شيء ووصول النفس إلى مقام الإمامة العظمى شيء آخر ، ينبو عنه الطبع حتّى مع توبته كما هو المشاهد بالوجدان.

وما ذكر في الحديث إنما هو من باب المثال لكل ظلم كما هو الظاهر من إطلاق الآية الشريفة ، وليس المقام من باب الإطلاق والتقييد ، لإباء الإطلاق ـ في مقام إفاضة هذا المنصب العظيم الإلهي الأبدي المستلزم لتشريع القوانين الإلهية ـ عن التقييد بهذه الثلاثة.

في الكافي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «إن الله عزوجل اتّخذ إبراهيم (عليه‌السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا. وإن الله تعالى اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا. وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه إماما ، فلما جمع له الأشياء قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). قال (عليه‌السلام) : لا يكون السفيه إمام التقي». وقد روي بطريق آخر أيضا.

أقول : جمع أبو عبد الله (عليه‌السلام) في هذه الكلمة الوجيزة أصول ما جمعه الفلاسفة في الفلسفة الإلهية العملية ، وما جمعه العرفاء بعد نهاية جهدهم في شرح مقامات الإنسانية ، وهو قوله (عليه‌السلام) : «إن الله تعالى اتخذ إبراهيم (عليه‌السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا».

والمراد به ـ مضافا إلى العبودية التكوينية التي هي من لوازم جميع المخلوقات ـ العبودية العملية أيضا لا خصوص الأولى فقط ، فإنها لا تختص بإبراهيم (عليه‌السلام) بل تشمل الكل. والعبودية العملية مفتاح السعادة البشرية ومبدأ جميع الكمالات المعنوية التي تفاض عليه ، بل هي الحياة الأبدية من حيث البقاء فيصير العبد بذلك ظلّ الحي القيوم بقاء وإن لم يكن كذلك حدوثا ، لفرض المسبوقية بالعدم ، فالنبوة والرسالة. والخلّة ، والإمامة متشعبة عن هذا المقام الشريف.

وما ذكره علماء الكلام في الإمامة من الشروط السبعة ـ أي : العصمة الإلهية ، والجعل من الله تعالى ، وعدم حجب أعمال العباد عنه ، وعلمه بجميع ما يحتاج النّاس إليه ، واستحالة وجود أفضل منه ، وكونه مؤيدا من الله تعالى ، وعدم خلو الأرض عنه ـ متشعبة من ذلك. وتشهّد المسلمين في صلواتهم كل يوم وليلة : «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» إشارة إلى هذا المقام الأجل الأكمل الذي هو رمز السعادة الأبدية بين الأمة وبين الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبينهما وبين الله تعالى ، لأن العبودية المطلقة لله تعالى بالنسبة إلى القائد والمقتدى (بالفتح) من أبرز المفاخر للتابع والمقتدي (بالكسر) وكذلك من تلبس بالإمامة من ذرية خليل الرحمن المتفانين بجميع شؤونهم في العبودية المحضة للحي القيوم فإنهم المرآة الأكمل لرؤية الخلق خالقهم على نحو ما بينت الكتب السماوية في صفات جماله وجلاله وأفعاله وتفصيل البحث بأكثر من ذلك يطلب من الكتب الموضوعة له.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «لا يكون السفيه إمام التقي» السفه : عدم كمال العقل في الدين أو الدنيا أو هما معا. ومن جعل الإمام (عليه‌السلام) هنا السفيه في مقابل التقي يستفاد أن كل من ترك التقوى ولم يتصف بها يكون

سفيها وإن لم يكن سفيها بالمعنى المصطلح في الفقه ، وقد أطلق لفظ السفه في كثير من الأخبار على كل من أحب الدنيا من حيث هي ، وهو كذلك لأن حب الدنيا بأية مرتبة من المحبة وأية مرتبة من الدنيا رأس كل خطيئة ، كما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ثم إنّ ما ذكره (عليه‌السلام) قضية طبيعية يعرفها كل أحد بعد ما يرجع إلى فطرته الأولية ، فمن ستر عنه الواقع وتلبس بالظلم أو السفاهة لا يصير سببا لإراءة طريق الحق للغير فضلا عن أن يكون موجبا للوصول إليه.

والإمامة التي هي الغاية للنبوة والرسالة لا يعقل أن يهملها الله تعالى في الخلق وإن إهمالها نقصان في حكمته جل شأنه ، فكما يجب عليه لطفا بعث الأنبياء والرسل ، يجب عليه كذلك جعل الإمامة أيضا وإلّا لاختلت حكمة بعث الأنبياء والرسل. وسيأتي التفصيل في محله إن شاء الله تعالى.

العياشي عن صفوان الجمال في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) قال (عليه‌السلام) : «أتمهنّ بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلي (عليه‌السلام) والأئمة من ولد علي (عليهم‌السلام)».

أقول : صفوان بن يحيى من أجلاء أصحاب الكاظم (عليه‌السلام) وهو ثقة عين فكل ما يروي فهو عن الإمام (عليه‌السلام).

والرواية تدل على أن الإمامة تتم في ذرية إبراهيم (عليه‌السلام) إلى الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف). كما يأتي في الحديث اللاحق.

القمي في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال (عليه‌السلام) : «هو ما ابتلاه به مما رآه في نومه من ذبح ولده فأتمها إبراهيم (عليه‌السلام) وعزم عليها وسلم ، فلما عزم قال تبارك وتعالى ثوابا لما صدق وسلّم وعمل بما أمره الله : إني جاعلك للنّاس إماما فقال إبراهيم : ومن ذريتي. قال جلّ جلاله : لا ينال عهدي الظالمين أي لا يكون بعهدي إمام ظالم ، ثم أنزل عليه الحنفية وهي الطهارة وهي عشرة أشياء خمسة في الرأس وخمسة في البدن ـ الحديث».

أقول : مثل هذه الروايات وجملة من الآيات المباركة ظاهرة في أنّ الله تعالى لا يدع أجر عمل عامل في الدنيا والآخرة ، كما أنّ الظاهر أنّ تفسير الكلمات في هذه الروايات بما ذكر بالعشرة المذكورة إنما هو من باب المثال لكل تكليف إلهي بالنسبة إلى إبراهيم (عليه‌السلام).

وعن الشيخ في الأمالي عن ابن مسعود قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه‌السلام) قلنا : يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال : أوحى الله عزوجل إلى إبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فاستخف إبراهيم الفرح. فقال : يا رب ومن ذريتي أئمة مثلي ـ إلى أن قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي علي لم يسجد أحد منّا لصنم قط فاتخذني الله نبيا وعليا وصيا». ومثله ما رواه ابن المغازلي في كتاب المناقب.

أقول : تقدم شرحه في الأحاديث السابقة فيكون ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعدم السجدة للصنم ، مثالا لعدم صدور أي ظلم منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا طاعة إلّا في المعروف».

أقول : المراد بالمعروف هو إطاعة الله تعالى فتصير كل معصية من غير المعروف وهي مسقطة لهذه المرتبة العظيمة ، كما بينه في حديث آخر : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

بحث أدبي :

ومتعلق «إذ» في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) وغيرها من الآيات المباركة يصح أن يكون فعلا مقدرا مثل (أذكر) أو يكون فعلا مستفادا من نفس الآية المباركة ، ففي المقام يصح أن يكون متعلقه (أذكر) فيدل سياق الآية المباركة على أن قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) تفسير

للكلمات ، والفاعل في أتمهنّ هو الله تعالى ، ويرشد إلى ذلك بعض الروايات.

ويصح أن يكون المتعلق قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) فتكون الكلمات شيئا آخر.

ثم إنّ متعلق «للناس» يصح أن يكون (إماما) وقدم للاهتمام به وللتصريح بعموم الإمامة للناس وارتباطها بمصالحهم العامة والخاصة.

وقوله تعالى : «إماما» مفعول ل «جاعلك» وهو لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، كما لا يخفى.

بحث كلامي :

تقدم أنّ الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد وتنظيم أمورهم الدينية والدنيوية بما يريده الله تعالى ، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق وإلّا لزم الخلف. والآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤] فذكر الصبر والثبات يشعر بما تحملوا ـ في إيصال الخلق إلى المطلوب ـ من المتاعب والبلايا ، وكذا قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [سورة الأنبياء ، ٧٣] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

إن قيل : لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نرى خلافه في الخارج من عدم وصول عامة النّاس الى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم وضلالهم.

يقال : إنّ الإيصال الى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة وإلّا لبطل الجزاء ، فمهما تخلل الإختيار في البين يكون الإيصال بنحو الاقتضاء ، كما هو معلوم. وسيأتي التفصيل في المباحث الآتية.

ثم إنّ الإنسان لا بد له من إمام يقتدي به في أفعاله وأعماله ويدبر له

أموره الدينية والدنيوية ولم يختلف أحد في ذلك وإنما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية والحديثية ، وغيرهما حتّى ألّفوا فيها كتبا ورسائل مستقلة. والمتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.

وبعد التدبر في مجموع الآيات المباركة والروايات يظهر أن الإمامة ـ كالنبوة ـ فتارة : يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم وموسى ، وعيسى ، ومحمد (عليهم‌السلام). وأخرى : عن الإمامة الخاصة.

أما الأولى فهي كالنبوة العامة فإنها وإن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضا ، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقة الواقعية من أهم جهات التكوين ، ولا يتم ذلك إلّا بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال التشريعات الإلهية ، وجعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو ، وهو قبيح بالنسبة إليه عزوجل.

فالإمامة هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي فيجب لطفا عليه تعالى جعل الإمام وهذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضا ولا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل والعقلاء فإنه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة ومع غلبة النفس الأمّارة والأهوية الشيطانية كيف يصلح أن يكون العقل والعقلاء قوة مجرية لوحي السماء.

ولا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام لا أن يكون من العلة التامة وإلّا فإن الإمامة شيء واقتضاء الظروف والحالات وسائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر.

يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان والمتكفل لجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا والآخرة لا بد أن يستند إلى الله تعالى رب السموات والأرض ، أو عقل من ملكوته الأعلى وإلّا فلا يكون التشريع جامعا أو نظاما إنسانيّا لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة ، وقد قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧١] فإذا كان حدوث التشريع من قبل الله تعالى على

السنة الأنبياء الحافظين للشريعة والعالمين بها فالبقاء لا بد أن يكون بالإمامة ، لانقطاع النبوة في خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ومما ذكرنا يظهر أنّ هذا الجعل تكويني تشريعي فتكوينه يكون دخيلا في تشريعه ، وأنّ تشريعه له دخل في تكوينه. وأنّ الإمام يجب أن يكون معصوما كالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلّا استلزم الخلف ، ويدل عليه ظاهر الآية المباركة : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فما ذكره العلماء في منصبي الإمامة والنبوة من أنهما منصبان مجعولان من الله تعالى ، وأنه ليس في البشر من يفوقهما في علم التشريع ، وأنهما مرتبطان بعالم الغيب كل ذلك صحيح ومطابق للقواعد العقلية ، كما عرفت ويأتي التفصيل في محله.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

شرع تبارك وتعالى في تعداد نعمه التي منها جعل البيت مثابة وأمنا وعهده إلى نبيه إبراهيم (عليه‌السلام) وابنه إسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود. وفي الآية المباركة توبيخ لليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه‌السلام) وتحريض لهم بأنه لا بد أن يكونوا أول المؤمنين به ، وفيها توطئة لتشريع القبلة.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ). تقدم في الآية السابقة متعلق «إذ».

ومادة (بيت) تأتي بمعنى البيتوتة ليلا ، وسمي البيت بيتا لأنه يبيت فيه الإنسان ثم اتسعت وأطلقت على الأعم منه ومن كل مجمع وسمي بيت الشعر بيتا ، لأنه مجمع الحروف والكلمات ، كما سمي البيت العتيق بيتا لأنه مجمع

الأملاك والإنسان ، وقد غلب استعمال الكلمة على المسجد الحرام بحيث إذا أطلقت يفهم منها ذلك ، كما في إطلاق المدينة على مدينة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وقيل : إنّ المراد من البيت في المقام الكعبة المشرفة ، ولا بأس به إما من باب إطلاق الكل على الجزء ، أو من باب أن الكعبة توجب فضيلة البيت الحرام.

ولإبراهيم (عليه‌السلام) مع بيت الله حالات ومقامات ، ولله تعالى معهما ألطاف وعنايات ولا بد أن يكونا كذلك لأن كلا منهما من مظاهر رحمته.

قوله تعالى : (مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً). الثوب بمعنى الرجوع أي مرجع الأنام يقصدونه للعبادة وتطهير نفوسهم عن الذنوب والآثام ، وفي الحديث : «من وقف بهذه الجبال غفر الله له من بر النّاس وفاجرهم. قيل : من برهم وفاجرهم؟ قال (عليه‌السلام) : من برهم وفاجرهم».

ويمكن أن يكون المراد من اللفظ مطلق المرجعية أعم من الثواب ومن الرجوع في المعارف وتكميل النفوس ، فإن البيت الحرام كان مبدأ ظهور دعوة خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومهبط الوحي والتنزيل فصار مرجعا للحلال ، والحرام ، كما صار قبلة للأنام ، فيكون قبلة لأهل المعنى واليقين ، كما هو قبلة للمصلين.

وفي اختيار لفظ المثابة إشارة إلى أنه مضافا إلى كونه مقصدا يقصده المؤمنون في عبادتهم أنهم يشتاقون إلى الرجوع اليه متكررا وهذا من أسرار هذا البيت وآية من آياته تعالى فيه.

ومن لطيف المقارنة أنه جلّ شأنه قارن بين جعل الإمامة لإبراهيم خليل الرحمن (عليه‌السلام) وجعل البيت مثابة للناس. فهما قرينان في الجعل الأزلي والتشريعي.

كما أنّ من آيات هذا البيت أن جعله الله تعالى أمنا يأمن ما حل فيه من النبات والحيوان والإنسان فلا يقطع حشيشه ولا يصاد صيده ولا يخاف آمنه ، وبهذا كان معروفا حتّى في الجاهلية مع شدة معاداتهم وحبهم للانتقام وسفك الدماء ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٧]. وفي الحديث : «كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على النّاس أجمعين» ، وقد ورد في الظبي إذا دخل الحرم «لا يؤخذ ولا يمس». كما ورد في من جنى ودخل الحرم أنه لا يقتل بل يضيق عليه في المأكل والمشرب ، والبحث فقهي.

وسيأتي تفصيل معنى الأمن عن قريب إن شاء الله تعالى.

ولعل في ذكر هاتين الفضيلتين للبيت ـ الأمن والمثابة ـ إشارة إلى صلاحية كونه قبلة النّاس وأولويته من غيره.

قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). عطف على الجملة السابقة. وأما قراءة «اتخذوا» ـ بالفتح ـ فلبيان أن مقام إبراهيم (عليه‌السلام) كان مصلّى حتّى قبل الإسلام ، وقراءته بالكسر لا تفيد ذلك.

ففيها : إنّ الخطاب صادر بالنسبة إلى جعل المقام مصلّى من أول ما جعل المقام سواء كان في الجاهلية أو في الإسلام كما في قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ، وقوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٥]. فإنّ جميع ذلك في مقام بيان صفات وخصوصيات هذا البيت العظيم.

والأخذ يتضمن هنا معنى الجعل ، كما في قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦] ، وقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥١].

وفي التعبير بالاتخاذ عناية خاصة ودلالة ظاهرة في المبالغة في اختيار الصّلاة في المقام إما لأجل كثرة أهمية الصّلاة فيه ، أو لأجل توفر الأسرار المعنوية والفيوضات الإلهية فيه ، أو لأجل إرشادهم إلى أن ضيق المقام ظاهرا لا يمنعهم عن اتخاذه مصلّى ، وسيأتي في البحث الفقهي تفصيل ذلك.

ومقام : اسم مكان من القيام ، والمراد به مقام إبراهيم (عليه‌السلام) الحجر المعروف الذي عليه أثر قدميه (عليه‌السلام) ؛ وفيه قال أبو طالب :

وموطئ إبراهيم في الصخر وطأة

على قدميه حافيا غير ناعل

وقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : مقام إبراهيم ، وحجر بني إسرائيل ، والحجر الأسود كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

وكان مقام إبراهيم حجرا يقوم عليه لبناء الكعبة المقدسة وكان يرتفع بارتفاع البناء وينزل بعد ذلك ، لأنه كان من الجنّة ، وكل ما في الجنّة له نحو حياة ، وسيأتي في الموضع المناسب الكلام فيه.

وهذا المقام هو الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدمي إبراهيم (عليه‌السلام) وغسلتهما عليه حين مجيئه من السفر لزيارة أهله في واد غير ذي زرع.

وهذا هو المقام الذي قام عليه إبراهيم فأذن في النّاس بالحج. وكان ملاصقا بالبيت ثم أبعد إلى مكانه المعروف الآن ، وسيأتي تتمة الكلام في البحث التاريخي.

والمراد بالاتخاذ مصلّى الابتعاد عن المطاف لتوسعته للطائفين ، ويأتي في البحث الفقهي تفصيل ذلك.

والمراد من المصلّى جعل المقام محلّا للصلاة على ما تدل عليه الروايات واستقرت عليه سيرة المسلمين ، فيكون المراد من اتخاذ الصّلاة في المقام هو الصّلاة في محل قيامه (عليه‌السلام) أو خلفه في مسجد الحرام لا نفس الصّخرة التي فيها أثر قدميه (عليه‌السلام) فإنه لا يمكن أن يتخذ

مصلّى.

وما قيل : من أن المراد من المقام هو الحرم أو المشاعر العظام فإنها حصلت من تشريعاته الخاصة ، وأن المراد من الصّلاة الدعاء. فهو وإن كان صحيحا ثبوتا ، ولكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

ولعل من أحد الأسرار في ذلك الترغيب في إتيان الصّلاة في مقام إبراهيم (عليه‌السلام) تخليدا لاسم باني البيت والمشاعر العظام جريا على عادة النّاس في تخليد أسماء عظمائهم في المباني التاريخية ، كما ضبطه التاريخ وخليل الله تعالى أحق منهم ، فهو وسام خاص جعله الله تعالى له.

قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ). العهد يأتي بمعنى التثبت المشدد مع عناية خاصة وهي ظهور احترام المعهود اليه بالوفاء بما عهد اليه ، وظهور كون الموضوع مما يعتنى به كثيرا ، وتقدم بعض ما يتعلق به في آية ـ ٤٠ من هذه السورة أيضا. وفي معاهدة الله تعالى مع إبراهيم وإسماعيل باعتنائهما بالبيت كما حكاه تعالى.

وفي إضافة البيت إلى نفسه المقدسة ثم التفضل بقبول العبادة الواقعة فيه إيماء إلى كثرة عنايته تعالى بالبيت وبالعبادة الواقعة فيه.

والتطهير هو التنزيه عن كل ما ينافي حرمة البيت. ومن حذف المتعلق يستفاد التعميم فيشمل جميع أنحاء الرجس والخبائث المعنوية ـ كالشرك ، والكفر ، والإلحاد ـ أو الحسية الظاهرية ـ كالنجاسات ، والقذارات وغيرهما ـ أو الحكمية ـ كالجنابة والحيض ، وحدوث النفاس ـ.

كما أنّ المراد من التطهير الأعم من المباشرة والتسبيب ، ويشهد لذلك توجيه مثل هذا الخطاب إلى إبراهيم (عليه‌السلام) فقط في آية أخرى قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [سورة الحج ، الآية : ٢٦] ، ولا فرق في الواقع ، لأن الله تعالى هو الجاعل الحقيقي للبيت ، وإبراهيم (عليه‌السلام) خادمه ، وإسماعيل (عليه‌السلام) من القوة العاملة للخادم فالجميع يرجع اليه

عزوجل.

قوله تعالى : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). والمراد بالطائفين القاصدين للبيت الحرام لأجل الطواف حوله ، والعكوف هو الإقبال عليه وملازمته على سبيل التعظيم ، والعاكفين الذين حبسوا أنفسهم للعبادة في بيت من بيوته جل شأنه.

والرّكّع السجود جمع الراكع والساجد ، وكل فعل مصدره على فعول جاز في جمعه ذلك. وهما كناية عن الصّلاة ، لأنهما أبرز أفعالها.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً). مادة (ب ل د) تأتي بمعنى القطعة المحدودة المعينة. من الأرض سواء كانت عامرة أو لم تكن ، قال تعالى : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) [سورة الفاطر ، الآية : ٩] ، وغالب ما يستعمل في العرف إنما هو في الأولى. واستعملت في الحرم الأقدس الربوبي بأنحاء الاستعمالات ، قال تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٦] ؛ وقال تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [سورة ابراهيم ، الآية : ٣٥].

والفرق في التنكير والتعريف أن الأول إنما صدر منه (عليه‌السلام) حين كان المحل واديا غير ذي زرع ، فدعا (عليه‌السلام) بأصل حدوث البلد في الجملة. والثاني إنما صدر منه بعد صيرورة المحل معرضا للبلدية.

كما أن قوله تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [سورة ، التين ، الآية : ٣] ، وقوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) [سورة النمل ، الآية : ٩١] إنما نزل بعد استقرار البلدية وتوجه النّاس إليها من كل جانب فاختلاف التعبيرات إنما يكون باختلاف الحالات والخصوصيات.

ومادة (أمن) تأتي بمعنى الطمأنينة ، وزوال الخوف ، وسكون النفس ، وقد استعملت جملة من مشتقاتها بالنسبة إلى الحرم الأقدس الإلهي ، قال تعالى : (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٧] ؛

وقال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٥] ، وقال تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [سورة التين ، الآية : ٣].

والمراد منها ما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قوله يوم فتح مكة : «إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولا تحل لي إلّا ساعة من النهار» وأمثال ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على أصل الحرمة والاحترام التي كانت قبل الخلق ، ودعاء إبراهيم (عليه‌السلام) إنما كان تأكيدا لما سبق وترغيبا للنّاس ، لا أن تكون دعوة مستأنفة.

والأمن المستعمل في القرآن إما أخروي ، أو دنيوي ، أو هما معا. والأول كقوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٦] وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [سورة الدخان ، الآية : ١٥]. وللثاني موارد كثيرة منها الآيات المباركة الواردة في المقام.

والمراد بالأمن إما للإرشاد إلى أن المحل محل لا ينبغي أن يقع الظلم فيه مطلقا ، فيكون تنبيها للعقل والعقلاء إلى عظمة المحل ، كما ورد في تعظيم القرآن ، والوالدين ، والمؤمن ، فتترتب على المخالفة المفسدة لا محالة.

أو أنه أمر تكليفي فعلي لجعل المحل أمنا مما حذر ارتكابه في غيره وكل منهما صحيح ولا منافاة بينهما. كما أنّه يصح أن يكون الأمن فيه من القسم الأخير ، أي أمن الدنيا والآخرة.

وفي الآية المباركة امتنان عظيم على أهل الحرم ورواده ، من جعل البلد آمنا في نفسه ومأمنا لأهله وغيرهم.

قوله تعالى : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ). مادة (رزق) تستعمل في العطية الجارية ، مطلقا ، مادية كانت أو معنوية ، كالعلوم والمعارف.

ومن أسمائه تعالى رازق ، ورزّاق ، وخير الرازقين ، لعلمه جل شأنه

وحكمته البالغة بجميع خصوصيات الرزق والمرزوق ، فربّ منع منه عزوجل يكون رزقا بالنسبة إلى الطرف كما ورد في جملة من الأحاديث : «هو الجواد إن أعطى ، وهو الجواد إن منع» ، ولعلنا نتعرض للتفصيل عند قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦].

وللمتكلمين كلام طويل في أن الرزق يشمل الحرام أم لا؟

والظاهر سقوط أصله لأنّ الرزق من الأمور الإضافية ، فإذا أضيف إلى الله تعالى فلا معنى لحرمته ، وإذا أضيف إلى العبد فهو تابع لاختياره ، فتارة يختار الحلال ، وأخرى يختار الحرام ، وسيأتي التفصيل في محله إن شاء الله تعالى.

وأهل البلد سكانه الأعم من المتولدين فيه أو المجاورين ، وهو أعم من الآل ؛ لاختصاص الثاني بالإضافة إلى الأشراف مع لحاظ خصوصية خاصة ، بخلاف الأول فيضاف إلى الأشراف وغيرهم ؛ والزمان ، والمكان وغيرهما ، وفي الحديث قيل لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : «إن النّاس يقولون المسلمون كلهم آل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). فقال (عليه‌السلام) : كذبوا وصدقوا فقيل له : ما معنى ذلك؟ فقال : كذبوا في إن الآل كلهم آله وصدقوا في أنهم إذا قاموا بشرائط شريعته يكونوا آله» ، وتقدم في آية ٤٩ من هذه السورة الجامع بينهما.

والثمرات جمع ثمرة ، وهي اسم يستعمل فيما يطعم مما يخرج من الأشجار ، وقد وردت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤١] ، وقال تعالى : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٢] ، وقال تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [سورة محمد ، الآية : ١٥] ، ثم اتسع استعمالها في مطلق النفع ، فقالوا : ثمرة العلم العمل الصالح ، وثمرة العمل الصالح الجنّة ، كما اتسع الاستعمال فاستعملت في مطلق النتيجة ، ولو كانت علمية.

وارتزاق أهل هذا البلد من الثمرات من أسرار البيت العظيم ، وهو ظاهر معروف ، وقد ورد بيانه في آية أخرى ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [سورة القصص ، الآية : ٥٧]. ويصح في المقام إرادة الأعم فلأهل الظاهر ثمرات الأشجار ولأهل المعنى المعنويات كل بحسب استعداده.

إن قيل : دعاء إبراهيم (عليه‌السلام) لا يختص بأم القرى ، لأن جميع البلاد التي تزدحم فيها الرواد والقوافل من أنحاء العالم تكون كذلك ـ خصوصا في هذه الأعصار ـ وكذا قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة القصص ، الآية : ٥٧] ، وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٦] فإنه من سبر الطبيعة مطلقا.

يقال : استجابة دعاء إبراهيم (عليه‌السلام) في مكة وأهله من بدء وروده إلى الحرم ؛ وذلك لا ينافي صيرورة محال أخرى موارد رزق الله تعالى لمصالح لا يعلمها إلّا الله عزوجل ، مع أن دعاءه (عليه‌السلام) كان دائميا بدوام الدنيا وعمرها بخلاف غيرها ، فإنه في معرض الزوال والتبدل ، وسيأتي التفصيل في الآيات المباركة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ذكر تعالى اسم الجلالة ولم يأت بضمير الخطاب ، مع أن المقام مقام المخاطبة تعظيما وتجليلا وقد عمّم إبراهيم (عليه‌السلام) دعاءه لرزق أهل هذا البلد لبيان أن الرزق العام الربوبي لا يختص بالمؤمنين وإنما خصهم تعظيما لشأن المؤمنين ، فكأنهم المقصودون المستقلون لرزق الثمرات فجمع (عليه‌السلام) بين غاية رزق الثمرات وما يدور عليه النظام في ارتزاق الجميع. وتقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة ، وإنما خصه بالمبدأ والمعاد ، لأن الإيمان باليوم الآخر مستلزم للإيمان بالأنبياء (عليهم‌السلام).

قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). بعد ما استجاب الله تعالى ـ بعظيم لطفه وواسع رحمته ـ دعاء إبراهيم (عليه‌السلام) وخص الأرزاق المعنوية بالمؤمنين وعمم رزق الدنيا

للمؤمن والكافر أدرج سبحانه وتعالى كلامه بين كلمات ابراهيم (عليه‌السلام) عناية به وتلطفا منه وإيماء إلى أن كلام الخليل من كلام الرب الجليل مع أن طول الآية المباركة أحسن موقع ذكر كلامه تعالى.

والمعنى : إن من كفر وأصر على كفره يتمتع من الدنيا أمدا قليلا ثم يساق إلى عذاب النّار وبئس المرجع والمأوى ، وان متاع الدنيا وإن بلغ ما بلغ فإنه زائل وقليل في مقابل عذاب الآخرة وقد وقعت هذه الجملة في القرآن الكريم في موردين كلاهما مقرونان بالتشديد والتهويل أحدهما في المقام ، والثاني قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [سورة لقمان ، الآية : ٢٤] وهذا الاضطرار إنما حصل باختيارهم العقائد الفاسدة والأعمال السيئة.

ويستفاد من هذا التعبير أن لأعمال البشر نتائج وآثارا تترب عليها قهرا ترتب المسببات على أسبابها فتكون الأعمال كسبية والآثار ضرورية. ولكن لا ينافي كونها اختيارية باختيار أسبابها نظير ما لو ألقى الإنسان نفسه في مهلكة فإن آثارها تلزمه لا محالة ، أو كما قال الطبيب للمريض إن أكلت الغذاء المعين تبتلى بمرض كذا والعلاج بكذا فأكل واضطر إلى علاجه ، فيصح أن يقال إن العلاج حصل باختياره.

وإنما نسب الاضطرار إلى نفسه تعالى لأنه مبدأ الكل واليه مرجعهم ، لا سيما في عالم الآخرة التي هي عالم ظهور الملكات والأعمال بالعيان بعد ما كانت في الدنيا بالدليل والبرهان.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة أمور :

الأول : إنّ العهد في الآية الشريفة وإن كان بمعنى الإيجاب والإلزام التكليفي لكن يمكن أن يستفاد منه الجهة الوضعية أيضا ، وهي من خصائص

الإمامة والولاية وبعبارة أخرى : إن جهة تولية البيت لا تكون إلّا لأهل البيت الذين بهم تمّ بناؤه فهم أحق بسدانته من غيرهم.

الثاني : يستفاد من سياق التعبير في قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) أنّ هذه الصّلاة غير صلاة الفريضة وهي من متممات تشريع الحج فتنحصر في صلاة الطواف وإلّا لكان الأنسب أن يقول جل شأنه «وصلّوا في مقام إبراهيم» مثلا.

الثالث : إنما وصف تعالى المتاع بالقليل لأن متاع الدنيا وإن بلغ ما بلغ في الكم والكيف يكون قليلا بالنسبة إلى الآخرة ولا يكون ذلك كرامة بالنسبة إلى الكافر. إذ أيّ كرامة في متاع قليل يكون بعده الخلود في النّار؟!

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) قال (عليه‌السلام) : «من دخل الحرم من النّاس مستجيرا به فهو آمن من سخط الله عزوجل ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم».

أقول : في سياق ذلك نصوص كثيرة شرحها الفقهاء في أحكام الحرم.

في التهذيب عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لأحد أن يصلي ركعتي طواف الفريضة إلّا خلف المقام ، لقول الله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) إن صليتهما في غيره فعليك إعادة الصّلاة».

أقول : النصوص في ذلك مستفيضة بل متواترة تعرضنا لها في أحكام صلاة الطواف ، وألفاظ النصوص مختلفة ففي بعضها «خلف المقام». وفي الآخر «عند المقام» وفي ثالث «إئت المقام» وفي رابع «في المقام» ومرجع الكل واحد. والمراد به هو المحل المخصوص وقد تعرضنا لتفصيله في أحكام الطواف من الحج من (مهذب الأحكام).

العياشي عن أبي الصباح الكناني قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم في الطواف في

الحج والعمرة. فقال (عليه‌السلام) : إن كان بالبلد صلّى ركعتين عند مقام إبراهيم ، فإن الله تعالى يقول : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وإن كان ارتحل وسار فلا آمره أن يرجع.

أقول : تعرضنا لذلك في أحكام صلاة الطواف في الفقه.

في تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قال : «يعني نحياه عن المشركين وقال (عليه‌السلام) لما بنى إبراهيم البيت وحج النّاس شكت الكعبة إلى الله تعالى ما تلقى من أيدي المشركين وأنفاسهم فأوحى الله تعالى إليها قري كعبة ، فإني أبعث في آخر الزمان قوما يتنظفون بقضبان الشجر ويتخللون».

أقول : هذا محمول على بعض مراتب التطهير ، والمراد من الآية عام يشمل الجميع أي الطهارة الظاهرية والمعنوية عن دنس الشرك والكفر.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قال : «ينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلّا وهو طاهر قد غسل عرقه ، والأذى وتطهر».

أقول : تقدم وجهه.

الطبرسي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) قال (عليه‌السلام) : «هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى النّاس ليثوبوا إليهم».

أقول : هذا من باب التطبيق على أفضل الأفراد لا التخصيص.

بحث تاريخي :

المقام آية من آيات هذا البيت العظيم ، وقد عرفت أنّه والركن وحجر بني إسرائيل من أحجار الجنّة ، وروي عن ابن عباس أنّه قال : «ليس في الأرض من الجنّة إلّا الركن الأسود والمقام فإنهما جوهرتان من جوهر الجنّة ولو لا ما مسهما من أهل الشرك ذو عاهة إلّا شفاه الله تعالى». وإن إبراهيم (عليه‌السلام) قام عليه فأثّرت فيه قدماه. كما ورد في الأثر الصحيح عن

الصادق (عليه‌السلام). وإنه صخرة وضعتها زوجة إسماعيل تحت رجلي إبراهيم لما غسلت رأسه فأثرت فيها قدماه ، كما روي عن الصادق (عليه‌السلام) وابن عباس.

وكيف كان فهو حجر معروف بأنه مقام إبراهيم (عليه‌السلام) من قبل البعثة كما هو الشأن بالنسبة إلى بقية المشاعر العظام. وقد روي عن نوفل بن معاوية الديلي قال : «رأيت المقام في عهد عبد المطلب وهو مثل المهاة». والمهاة الخرزة البيضاء ، وعن أبي سعيد الخدري قال : «كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم ـ الحديث ـ» فلا ريب في أن الحجر المعروف الآن هو نفس مقام إبراهيم المذكور في القرآن الكريم الذي أمرنا باتخاذه مصلّى فقداسة المقام وكونه من المشاعر العظام غير قابلة للتشكيك كسائر المشاعر المباركة. وحد المقام ذراع واحد مساحته أربع عشرة إصبعا في أربع عشرة ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ودخولهما منحرفتان وبين القدمين في الحجر إصبعان. وكان البعد بينه وبين الركن تسعة وعشرين قدما وتسع أصابع ومن الركن الشامي إلى المقام ثمان وعشرين ذراعا وتسع عشرة أصبعا.

نعم وقع الكلام في موضعه فقد روي عن الباقر (عليه‌السلام) «كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عند جدار البيت فلم يزل هناك حتّى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (عليه‌السلام) إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل النّاس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال بعض أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع (سير) فهو عندي فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان». وروى الأزرقي : «أمر عمر بن الخطاب عبد الله ابن السايب العابدي ـ وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع ـ بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم قال فحوله ثم صلّى المغرب وكان عمر قد اشتكى رأسه ، قال : فلما صليت ركعة جاء عمر فصلّى ورائي فلما قضى صلاته قال عمر : أحسنت فكنت أول من صلّى خلف المقام حين حول إلى

موضعه». فإن المستفاد منه أن موضعه كان غير موضعه الآن. وفي رواية محمد بن مسلم وخبر إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه‌السلام) ما يدل على أن محل المقام على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غير محله في أيام الأئمة (عليهم‌السلام) وعصرهم.

وبإزاء ذلك ما رواه الأزرقي وغيره عن المطلب بن أبي وداعة ان سيل أم نهشل في أيام عمر احتمل المقام من محله فسأل عمر عن محله فزعم المطّلب أن عنده مقياس محله فوضع في محله الآن. وهذه الرواية لا تقاوم تلك الروايات الكثيرة الدالة على أنه كان ملاصقا للكعبة من جهات.

بحث فقهي :

قد وردت أخبار كثيرة ربما تبلغ اثني عشر خبرا في أن صلاة الطواف لا بد أن تكون خلف المقام بحسب موضعه الآن وتحمل الروايات المطلقة أو المشتملة على لفظ «عند المقام» أو «إرجع إلى المقام» أو «ائت المقام» على الجهة ومقدار السعة ، ولعل وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن استدباره حفظا للوحدة والنظام ، وتعرضنا للبحث في أحكام صلاة الطواف من كتاب الحج مفصلا ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

يذكّر سبحانه وتعالى النّاس في هذه الآيات المباركة بأن الذي بنى هذا البيت الشريف ـ الذي يعود لهم بالنفع العظيم ـ هو إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) أبوا هذه الأمة وأن الرسول الذي ظهر فيهم إنما هو من دعائه وأن ملته هي ملة أبيهم إبراهيم فلا عذر لهم في الكفر والإعراض عن ملة أبيهم مع ما هم عليه من التفاخر بالآباء ويستفاد من الآيات عظمة البناء والباني.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ). مادة (رفع) تستعمل فيما يشتمل على العلو نقيض الخفض ، وتختلف باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا ، كما تختلف موارد استعمالاتها بين الجواهر والأعراض والصفات والشؤون والاعتباريات قال تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [سورة الرحمن ، الآية : ٥٧] ، وقال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [سورة الإنشراح ، الآية : ٤] ، وقال جلّ شأنه : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر ، الآية : ١٠] وقال تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) [سورة غافر ، الآية : ١٥] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

والقواعد جمع القاعدة وهي تأتي بمعنى الثبوت والاستقرار في مقابل الحركة ، وسمي أساس البيت والبناء قاعدة لثباته واستقراره قال تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [سورة النحل ، الآية : ٢٦] وسميت القاعدة العلمية قاعدة لثباتها وتفرع مسائل عليها. ورفع القواعد هو البناء عليها.

ويحتمل أن يراد بالبيت والقواعد والرفع المذكور في الآية المباركة المعنى الأعم من رفع البيت الجسماني وقواعده ورفع بيت النبوة والتشريعات السماوية فإن أساسها من إبراهيم (عليه‌السلام).

وفي الآية المباركة تلميح إلى أن رفع البيت وبناءه كان من إبراهيم (عليه‌السلام) لنسبة الرفع إليه وحده وأنّ إسماعيل كان يساعده ويعمل له.

قوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تقدم معنى الرب في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الحمد ، الآية : ٢] وقد ذكرنا هناك أنّ في هذا الاسم المبارك مزية لا توجد في غيره من الأسماء المقدسة ، ولذا لا يكون دعاء في القرآن ـ خصوصا دعوات هذا النبي العظيم ـ إلّا وهو مبدوّ بهذا الاسم : والقبول من المفاهيم المبينة عند العرف ، وله مراتب وهو (عليه‌السلام) يطلب جميعها حتّى جنّة اللقاء التي هي أرفع المقامات المعنوية.

والسمع إذا استعمل في الإنسان فهو إدراك خاص بقوة خاصة في مقابل

البصر وسائر التقوى الظاهرة. وإذا استعمل في الله تعالى كان معناه انه لا يخفى عليه المسموعات ، ويرجع إلى علمه الأزلي بجميع ما سواه. وقد وردت مادة السمع في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، كما ورد السميع العليم بالنسبة إليه عزوجل كثيرا جدا قال تعالى : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٦]. وتستعمل فيه عزوجل أيضا بمعنى الجزاء وترتب الأثر مثل «سمع الله لمن حمده».

وفي ذكر العليم إشارة إلى أنه تعالى يعلم بتحقق شرائط استجابة الدعاء التي من أهمها الخلوص والإخلاص والانقطاع اليه عزوجل. وقد استجاب الله تعالى دعواته (عليه‌السلام). ويستفاد من الآية المباركة أن محل البيت كان موجودا قبل بناء إبراهيم (عليه‌السلام) وهو رفع قواعده وشيّد بنيانه وتدل عليه الروايات الآتية في البحث الروائي.

كما أن في دعائه (عليه‌السلام) بالقبول إشارة إلى أن الإنسان مهما سعى وبذل أقصى وسعه في تحصيل العمل لا بد له أن يتضرع اليه سبحانه ويبتهل إليه بالقبول وأن يعترف بالقصور. وفي حذف المتعلق تحقير للعمل والنفس في مقابل العظيم المتعال جل شأنه وهذا من أدب خليل الرحمن مع الله عزوجل في دعواته. وفي لفظ «تقبل» إشارة إلى كثرة توجهه (عليه‌السلام) الى جنّة اللقاء ومقام الرضاء كما طلبه في دعائه الآخر قال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٣٩] فإن مقامه (عليه‌السلام) أرفع من أن يطلب قبولا يوجب الحور والقصور فقط.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ). مادة (سلم) تشتمل على معنى السلامة ، ولها مراتب كثيرة جدا بين العيوب الظاهرية والمعنوية ـ الدنيوية والأخروية ـ والقلبية ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

والإسلام هو الدخول في السلم ـ بكسر السين ـ وقد اختص بالإذعان ، بإلهيته تعالى ورسالة خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وشريعته وقرآنه المساوق للإيمان.

وللإسلام درجات أعلاها ما كان عليه إبراهيم (عليه‌السلام) وأدناها ما

عليه عامة المسلمين يحفظون بها دماءهم وأموالهم مع ما عليه بعضهم من الفسق والشقاء. وقد جمع جملة من مراتبها نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الحديث المعروف «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» فالإسلام الحقيقي مظهر [بضم الميم] الله في الأرض والمسلم الواقعي مظهره (بالفتح) بين عباده.

ومعنى الآية المباركة ربنا واجعلنا مخلصين لك في الإعتقاد والعمل وثبتنا على الإسلام بتوفيقك وهدايتك. وسؤال الإسلام لنفسه وخواص ذريته إنما هو للثبات على مثل هذه المرتبة في الإسلام.

قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). الذرية اسم جمع يطلق على نسل الإنسان وعلى غيره قال تعالى في الشيطان : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [سورة الكهف ، الآية : ٥٠] والأمة الجماعة والطائفة ، سواء أكانت من ذوي العقول أم من غيرهم مما يجمعهم شيء واحد قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٣٨] وهي من الأمور الإضافية القابلة للقلة والكثرة ، وقد يكون كل نوع أمة بل قد يكون كل صنف كذلك وقد يطلق اللفظ على الواحد باعتبار كونه مجمع الخيرات ومنشأ البركات قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠] وتقدم في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [الآية : ١٣٤] الوجه في أنه (عليه‌السلام) لم يسأل الإسلام لجميع الذرية.

ويستفاد من الآية المباركة أنّ إسلام هذه الأمة إنما هو من بركات دعائه (عليه‌السلام) وفي غالب دعواته انه يسأل لنفسه ولامته وذريته.

قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا). النسك العبادة والناسك العابد والمنسك هو الموضع المعد للعبادة ، قال تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) [سورة الحج ، الآية : ٦٧] ولكن اختص اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحج قال تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠] ويستعمل في خصوص الهدي أيضا قال تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [سورة البقرة ، الآية ، ١٩٦] والنسك هو الهدي وقال تعالى : (قُلْ

إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٢] وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ما رواه الفريقان بطرق متواترة : «خذوا عني مناسككم».

والمراد بالرؤية هنا الرؤية الحقيقية أي المعرفة والإراءة لا مجرد الرؤية البصرية والتعليم القولي ، وتدل على ذلك روايات كثيرة دالة على أن جبرائيل كان معه (عليه‌السلام) في جميع أعماله وأطواره كما كان مع نبيّنا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حجة الوداع.

قوله تعالى : (وَتُبْ عَلَيْنا). التوبة تأتي بمعنى الرجوع ، أي الرجوع إلى الله تعالى عن مخالفته ، أو عن مجرد الالتفات إلى غيره ولو كان مباحا وتوبة الأنبياء (عليهم‌السلام) من الأخير فيكون قبولها من الله تعالى بالنسبة إليهم بمعنى ارتقاء الدرجة لا إسقاط العقاب ، وتسمى هذه توبة أخص الخواص في اصطلاح علم الأخلاق. مع أنّ لنفس استعمال التوبة نحو موضوعية خاصة فإنها لتذليل العبد واستصغار الأعمال بالنسبة إليه تعالى ، مع أنه يمكن أن تكون توبة الأنبياء عن ما يصدر من تابعيهم من المعاصي ، فإن من كان إمام قوم وسيدهم له أن يتوب إلى الله تعالى من ذنوب تابعيه.

والمعنى : وفقنا للإنابة والرجوع إليك عما يشغلنا عنك.

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). التواب هو كثير التوبة أو لأجل أنه جل شأنه يوفق العبد للتوبة ثم يقبلها منه ثم يضاعف درجاته بها يعني : إنك وحدك توفق العباد للتوبة وتقبلها منهم والرحيم بهم ، وتقدم معنى الرحيم في بسملة سورة الفاتحة.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ). مادة (ب ع ث) تأتي بمعنى إثارة الشيء وتوجيهه وتختلف باختلاف المتعلق فتارة : تكون أمرا عرضيا خارجيا ، يقال بعثته في أمر قال تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣١] وهذا عام يشمل الخالق والخلق وبعث الله الأنبياء والرسل إلى النّاس من هذا القبيل ، قال تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٣] ومثل هذا الاستعمال في

القرآن كثير. وأخرى : يكون بمعنى الإخراج ـ والإثارة ـ من العدم إلى الوجود وهذا يختص بالله جل شأنه قال تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً) [سورة الأنعام ، الآية : ٦٥]. وثالثة : يكون بالإحياء بعد الموت وهو يختص به جلت عظمته أيضا قال تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) [سورة الأنعام ، الآية : ٣٦] ومن أسمائه المقدسة «يا باعث» وقد يفيض هذا المقام إلى بعض أوليائه كعيسى (عليه‌السلام). والمراد بهذا الرسول هو محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما يستفاد من ضمير «فيهم» فإن الدعاء وقع في مكة وهو منحصر فيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإبراهيم (عليه‌السلام) رسول الله إلى ذرية هذا النبي العظيم وبه ابتدأت الدعوة إلى الحق واختتمت في نسله المبارك إلى يوم القيامة ، وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أنا دعوة أبي إبراهيم». وإنما دعا أن يكون الرسول منهم لا من غيرهم ليكونوا أعزّ به ولأنّه أقرب لإجابة دعوته».

قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ). أي يقرأ عليهم ، وفي لفظ التلاوة خصوصية ليست في مطلق القراءة فإنها القراءة التي يتبعها الفهم والتدبر ، والمراد بالآيات القرآن الكريم.

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ). الكتاب هو القرآن. ومادة (ح ك م) تدل على الثبات والإتقان والاستحكام ما لم تكن افتعاليا ادعائيا وللحكمة مصاديق مختلفة وكل ما قيل فيها إنما هو دون شأنها وقد جعلها سبحانه وتعالى مدار كمال عباده وترقياتهم المعنوية وسيأتي شرح معنى الحكمة في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

والمراد بها في المقام هو أسرار الشريعة وأحكام الدين.

قوله تعالى : (وَيُزَكِّيهِمْ). مادة (ز ك ي) تأتي بمعنى النمو ويختلف ذلك باختلاف الموارد فقد يكون في المال ؛ أو في النفس يعني : نموها في المعنويات والكمالات والأخلاق الفاضلة والعلوم والمعارف الحقة. وتأتي بمعنى الطهارة لكونها من موجبات النمو والبركة. وتنسب تارة إلى العبد قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [سورة الأعلى ، الآية : ١٤] ، وأخرى : إلى الله

تعالى لأنه المؤثر والفاعل الحقيقي قال تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ٤٩] وثالثة : إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما في الآية المباركة ورابعة : إلى العبادة لكونها بمنزلة الآلة ـ كما في نفس الزكاة ـ قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٣].

وتزكية الإنسان نفسه على قسمين :

أحدهما : أن تكون بالعمل والإنصاف بالأوصاف المحمودة ، ولا ريب في حسنها عقلا وشرعا وإليها تشير الكتب السماوية والقرآن العظيم.

وثانيهما : أن تكون بالقول المجرد وهو مذموم عقلا وشرعا قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النجم ، الآية : ٣٢] والمعروف في الفلسفة العملية أنّ الذي لا يحسن ـ وإن كان حقا ـ هو مدح الإنسان نفسه.

والمراد بها في المقام هو المعنى العام وهو تنمية عقولهم وأبدانهم وأموالهم وجميع شؤونهم ببركات تعاليمه القيمة وتطهيرهم من الأدناس ورذائل الأخلاق.

والمعنى : وأرسل إليهم رسولا يعلمهم القرآن وأحكام الدين ويطهر نفوسهم من أنواع المعاصي وذمائم الأخلاق ويزيّنها بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة والآية على إجمالها تشتمل على الفلسفة العملية والعلمية والاجتماعية.

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ختم للدعاء بالثناء عليه تبارك وتعالى وهذا من أدب الدعاء ، وقد ذكر من أسمائه المقدسة ما يناسب سؤاله ، فوصفه بالعزيز الذي لا مرد لأمره والحكيم فيما يفعل ولا معقب لحكمه.

والعزيز من أسمائه المقدسة وهو المنيع الذي لا يقهر ولا يغالب وفي الحديث : «المؤمن أعزّ من الجبل» أي أصلب منه. وقد ورد في القرآن كثيرا وغالب ما ورد فيه مضافا إلى اسم آخر من أسمائه المباركة. والعزيز المطلق

ينحصر فيه عزوجل عقلا ونقلا كما يأتي عند قوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة يونس ، الآية : ٦٥] إن شاء الله تعالى. هذا في العزة الحقيقة ، والظاهرية منها في الدنيا. وقد تحصل لبعض ادعاء لكن ليس كل ادعاء حقيقة بعد قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٨] وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من طلب العزة بغير الله ذل». وهذا الدعاء إنما كان بعد الفراغ من بناء البيت ، إذ لا يمكن تعمير هذا البيت العظيم إلّا ببقاء الحركة الدينية واستمرار المبادئ الإنسانية الكاملة ، وفي الحديث : «إنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة إن الكعبة يستقل منها بالمعاول ولا يستقل من إيمان المؤمن شيئا» ولذا طلب منه إرسال الرسول ليشيد أركان العبادة.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يظهر من الآيات المباركة أمور :

الأول : يستفاد من دعاء إبراهيم (عليه‌السلام) (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ان هذا الإسلام غير الإسلام الذي نحن عليه لأن هذا الدعاء وقع بعد طي المراحل الأولية من الإسلام مثل كسر الأصنام والإحتجاج على بطلان عبادة الشمس والقمر ، والطعن على عبادة دون الله تعالى. فهو عبارة عن العبودية المحضة وتسليم الأمر اليه تعالى التي لخصها بعضهم بقوله : «العبودية جوهرة كنهها الربوبية» والأحاديث وشواهد العقل في عظمة هذه المرتبة من الإسلام والعبودية كثيرة جدا. وبناء عليه يكون ما طلبه (عليه‌السلام) لذريته إنما هم خواص ذريته ، كطلبه للإمامة لبعض الذرية ، كما عرفت.

الثاني : أنّ الإسلام الحقيقي وتسليم الأمر إليه تعالى في مقام العبودية المحضة يلازم الاصطفاء في الدنيا والصلاح في الآخرة فهما متلازمان في المبدأ والمنتهى ، وفي المراتب شدة وضعفا ، كمالا ونقصا.

الثالث : أنّ في تأخير ذكر إسماعيل (عليه‌السلام) عن المفعول به في

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) إشارة إلى أن الباني هو إبراهيم (عليه‌السلام) وإسماعيل تبع له فهو كالعامل لديه ، كما عرفت سابقا.

بحث روائي :

في الكافي عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «إنّ الله تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة وأن يرفع قواعدها ويري النّاس مناسكهم فبنى إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) البيت كل يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود. قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : فنادى أبو قبيس إنّ لك عندي وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه».

أقول : إنّ نداء أبي قبيس لإبراهيم (عليه‌السلام) ليس من قبيل النداءات الظاهرية المسموعة بكل سمع بل هو من سنخ الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلّا المرتبطون بعالم الغيب وذلك لا ينافي الروايات الكثيرة الدالة على أن الحجر نزل من الجنّة ، إذ من الممكن أنه قد وضع في جبل أبي قبيس بعد الخروج من الجنّة.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : الحجر الأسود استودعه إبراهيم ، ومقام إبراهيم وحجر بني إسرائيل. قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : إن الله استودع إبراهيم الحجر الأبيض وكان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

أقول : لا تنافي بين كون الحجر مستودعا عند إبراهيم (عليه‌السلام) ومستودعا في جبل أبي قبيس كما في الحديث السابق ، لإمكان تعدد محال الاستيداع حسب أهمية الوديعة والمصالح المقتضية لذلك.

وفي بعض الأخبار إنّ الله تعالى أنزل قواعد البيت من الجنّة.

أقول : يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة ، وكانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات ، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان ـ كدحية الكلبي ـ وكما في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ

ما يَلْبِسُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩] ، وسيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.

وقد ثبت في الفلسفة أن تنزل كل شيء من عالمه إلى ما دونه لو تصور بصورة ما كانت بصورة ما نزل إليه لا بصورته التي يكون عليها في الواقع.

إن قيل : إنّ جنّة الآخرة لم تخلق بعد فما معنى هذه الأخبار من أنها نزلت من الجنّة. يقال : المراد بعدم خلق جنة الآخرة اى خلق نتائج أعمال العباد وأما خلق ذات المكان وسائر خصوصياته فهو مسلّم ، كما تدل عليه ظواهر الآيات المباركة والسنة المقدسة. وبذلك يمكن أن يجمع بين الآراء فمن يذهب إلى أنها غير مخلوقة أراد جنة نتائج الأعمال ، وما يستفاد من الأدلة أنها مخلوقة أي بحسب الذات ، وسيأتي الكلام فيه مفصلا في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث نزول هاجر وإسماعيل على أرض مكة قال (عليه‌السلام) : «فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم (عليه‌السلام) أن يبني البيت فقال : يا رب في أي بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها الله تعالى على آدم قائمة حتّى كان أيام الطوفان أيام نوح (عليه‌السلام) فلما غرقت الدنيا إلّا موضع البيت فسميت البيت العتيق ، لأنه أعتق من الغرق ، فلما أمر الله عزوجل إبراهيم (عليه‌السلام) أن يبني البيت ولم يدر في أي مكان يبنيه فبعث الله جبرئيل فخط له موضع البيت فأنزل الله عليه القواعد من الجنّة وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما لمسته أيدي الكفار اسود ، فبنى إبراهيم البيت ، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم (عليه‌السلام) ووضعه في موضعه الذي هو فيه وجعل له بابين بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب ، والباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشجر والإذخر وعلّقت هاجر على بابه كساء كان معها وكانوا يكنّون تحته. فلما بناه وفرغ منه حج إبراهيم (عليه‌السلام) وإسماعيل

ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة فقال يا إبراهيم : قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء فسميت التروية لذلك ، ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم (عليه‌السلام) فقال إبراهيم (عليه‌السلام) لما فرغ من بناء البيت : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قال (عليه‌السلام) : من ثمرات القلوب ، أي حببهم إلى النّاس لينتابوا إليهم ويعدوا إليهم».

أقول : وردت روايات أخرى قريبة من ذلك من الفريقين ، ويدل على تفسير الثمرات بثمرات القلوب قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٣٧]. كما تقدم الوجه في كون القواعد من الجنّة في الحديث السابق.

في تفسير القمي في قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) ـ الآية ـ قال : يعني ولد إسماعيل فلذلك قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنا دعوة أبي إبراهيم».

وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : أخبرني عن أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من هم؟ قال : أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بنو هاشم خاصة. قلت : فما الحجة في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال (عليه‌السلام) : قول الله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم ، فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي

وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة والامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم ، لقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

أقول : ما ذكره (عليه‌السلام) استدلال حسن على أن ذرية ابراهيم والأمة المسلمة سوى من يسمى بالإسلام وأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأن هذه الآية وما في سياقها تخص الذرية والأمة المسلمة بخصوص من اجتباه الله تعالى وعطف عليهم إبراهيم بتلك الدعوات الخاصة لنفسه وذريته ، فتخرج البقية عن مورد الاجتباء تخصصا إذ لا مناسبة بين ما طلبه إبراهيم (عليه‌السلام) وما يرى في بعض المسلمين. وبالجملة هو القليل الذي يمدحه الله تعالى كثيرا وغيره داخل في الكثير الذي وقع مورد الذم في القرآن كذلك.

وفي الوافي نقلا عن الكافي عن ابن بكير قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) لأي علة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه ولم يوضع في غيره؟ ولأي علة أخرج من الجنّة؟ ولأي علة وضع ميثاق العباد والعهد فيه ولم يوضع في غيره؟ وكيف السبب في ذلك؟ تخبرني جعلني الله فداك؟ فإن تفكيري فيه لعجب. قال (عليه‌السلام) سألت وأعضلت في المسألة واستقصيت فافهم الجواب وفرّغ قلبك واصغ بسمعك أخبرك إن شاء الله تعالى : إنّ الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق ، وذلك أنّه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان ترا أى لهم ـ إلى أن قال ـ :

وأما القبلة والالتماس فلعلة العهد تجديدا لذلك العهد والميثاق وتجديد البيعة ، وليؤدوا اليه العهد الذي أخذ الله عزوجل عليهم في الميثاق فيأتوه في كل سنة ويؤدوا اليه ذلك العهد والأمانة اللذين أخذ عليهم ، ألا ترى انك تقول «أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة ـ إلى أن قال ـ يشهد لمن وافاه وجدد العهد والميثاق عنده لحفظ العهد والميثاق وأداء الأمانة ، ويشهد

على كل من جحده وأنكره ونسي الميثاق بالكفر والإنكار.

فأما علة ما أخرجه الله من الجنّة؟ فهل تدري ما كان الحجر؟ قلت : لا قال (عليه‌السلام) : كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك فاتخذه الله تعالى أمينا على جميع خلقه وألقمه الميثاق وأودعه عنده واستعبد الخلق ان يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عليهم ثم جعله الله مع آدم في الجنّة يذكّره الميثاق ويجدد عنده الإقرار في كل سنة فلما عصى آدم وخرج من الجنّة أنساه الله العهد والميثاق وجعله تائها حيران فلما تاب على آدم حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم بأرض الهند فلما نظر إليه آنس اليه وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة فأنطقه الله عزوجل ، فقال له : يا آدم أتعرفني؟! قال : لا. قال أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم في الجنّة فقال لآدم : أين العهد والميثاق؟ فوثب إليه آدم وذكر الميثاق وبكى وخضع له وقبّله وجدد الإقرار بالعهد والميثاق ثم حوله عزوجل إلى جوهر الحجر درة بيضاء صافية ـ إلى أن قال ـ ثم إن الله عزوجل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان ـ الحديث ـ».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) : «فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق» ـ كما يستفاد من السنة الشريفة ، وسيأتي في الآيات المناسبة ـ أنّ ميثاق العباد لربهم كان في ذلك المكان وصار ذلك المكان مشرّفا ومباركا لأنه موضع أخذ الميثاق من الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين على التوحيد ويأتي في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] وساير الآيات المباركة المناسبة بعض الكلام.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «يشهد لمن وافاه وجدد العهد والميثاق ـ الحديث ـ» هذه الشهادة من قبيل شهادة ما ورد في قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

[سورة النور ، الآية : ٢٤] فهي منوطة بالحياة والإدراكات المعنوية الموجودة في الأشياء بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى وما يرتبط به جلّ شأنه.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان من أول من آمن به» يظهر منه أن الميثاق كما أخذ من بني آدم أخذ من الملائكة أيضا فأصل الميثاق واحد وإن كان المورد تارة بالنسبة إلى الملائكة وأخرى بالنسبة إلى بني آدم ، كما يظهر من مثل هذا الحديث أن أخذ الميثاق من الملائكة كان مقدما على أخذ الميثاق من ذرية آدم ويشهد له الاعتبار أيضا. كما يظهر منه اتحاد من التقم الميثاق في مقام البقاء وإن كانا مختلفين في مرحلة أصل الحدوث فزاد ذلك في فضل الركن ، ولأجل ذلك عبر عنه ب «يمين الله في الأرض» كما في بعض الروايات.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «أنساه الله العهد والميثاق» فالمراد عدم الالتفات الفعلي لا ترك العهد والميثاق بالمرة وذلك لمصالح كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [سورة البقرة ، الآية : ٣٦].

إن قيل : انه يمكن أن يكون المراد من العهد والميثاق أيضا عالم الدنيا وتعميرها من حيث العبور منها إلى الآخرة فلا يتحقق وجه للإنساء حينئذ. يقال : هذه النظر الآلية التبعية إلى الدنيا حصلت من الإنساء فتكون لنفس معصية آدم ونسيانه دخل في الجملة في تكوين الدنيا بنحو الاقتضاء إجمالا لا على نحو العلية التامة.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «حوّل ذلك الملك في صورة درة بيضاء» فالمراد منه ظهور حقيقة عالم في صورة عالم آخر ـ كما تقدم ـ لا أن يكون من التناسخ الباطل ، فذات الحقيقة باقية وهذا صحيح وواقع بالأدلة العقلية والسمعية فما في بعض الأخبار من «ان الحجر الأسود يمين الله في ارضه يصافح بها عباده» تنزيل للأمر الغيبي بالأمر الحسي باعتبار أصله الذي كان من الملائكة واستلم ميثاق العباد.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فرماه من الجنّة إلى آدم وهو بأرض الهند» تقدم موضع هبوط آدم من الجنة إلى الأرض سابقا ، والمراد من الرمي هو

تسليم الله الحجر إلى آدم. وفيه إشارة إلى أن التسليم وقع مباشرة منه جل شأنه من دون واسطة في البين ، وفيه من اظهار كمال الأهمية ما لا يخفى. والأرض كلها كانت أرض خليفة الله تعالى وكان يتجول فيها بقدرته تعالى ـ بما فيها الهند ـ وقد فصل المحدثون ذلك في السنة الشريفة.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فلما نظر إليه آنس اليه» المراد به الأنس المعنوي الذي يدركه أهل المعنى كما في قوله تعالى : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [سورة القصص ، الآية : ٢٩].

وأما قوله (عليه‌السلام) : «وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة» فإن العلم بالحقائق الواقعية وملكوت الأشياء بما هي عليها يختص به تبارك وتعالى أو من علّمه الله عزوجل ؛ ولم تقتض المصلحة ان يعلم آدم حقيقة تلك الجوهرة حين رماها اليه.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فأنطقه الله عزوجل فقال له يا آدم أتعرفني؟» فذلك ممكن عقلا وواقع في الخارج أيضا بقدرة الله تعالى كتسبيح الحصى في كف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ومن هذا الحديث الشريف يظهر سر دعاء الحجيج عند استلام الحجر الأسود بقولهم : «أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة» فكان لهذا الحجر الشريف مظاهر وشؤون وفي جميعها مبارك ومقدس وسيظهر له بعد ذلك بما هو أحسن وأولى في عالم آخر.

وأما قوله (عليه‌السلام) «إن الله عزوجل لما بنى الكعبة وضع الحجر في المكان» فإنه يستظهر منه أن أول بناء الكعبة المقدسة كان من الله تعالى بواسطة الملائكة. ويمكن أن يحمل على بناء ابراهيم (عليه‌السلام) فيكون نظير قولهم بنى الأمير المدينة.

والمتحصل انه يظهر من هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث المعتبرة عظمة هذا البيت وأهمية الحجر الشريف بما لا يدع مجالا للشك والريب ، فليس هو من الأحجار التي لا تضر ولا تنفع ، وإنما اكتسب شرفا بالمجاورة كما

يراه بعض المفسرين ، بل له كمال الزلفة والقداسة وله المنزلة العظمى ، كما له المظاهر المختلفة حسب تعدد العوالم.

بحث علمي :

تقدم في البحث الروائي بعض الأحاديث الواردة في بناء البيت وفضل الحجر الأسود ، ومضامين تلك الأحاديث متواترة بين الفريقين فلا وجه للمناقشة في أسانيد بعضها. نعم قد يكون بعض الروايات ضعيفة سندا ، ولكن ذلك لا يوجب رفع اليد عن بقية الروايات ورميها بالضعف والخرافات كما هو واضح. ومع ذلك فقد ناقش بعض المفسرين والكتّاب المحدثين في تلك الأحاديث فقال في عرض كلامه لتفسير الآية الشريفة : وهذه الروايات فاسدة في تناقضها وتعارضها ، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها ، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن بل كل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه.

ولا يخفى أنّ ما ذكره باطل من وجوه :

الأول : إنّه قد شهدت الأدلة العقلية والسمعية على أنّ لله تعالى في عالم الشهادة مظاهر من عالم الغيب إتماما للحجة ولمصالح لا يحيط بها إلّا الله تعالى وبعض خواص أوليائه ، ومن تلك المظاهر مقام إبراهيم (عليه‌السلام) والحجر الأسود وغيرهما مما أشرنا إليه سابقا وما ستعرفه بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، وقد ثبت في الفلسفة ببراهين كثيرة إمكان ظهور شيء واحد في مظاهر مختلفة حسب العالم الذي يظهر فيه ولا ينافي ذلك واقعه الذي هو عليه ، فيمكن أن يكون شيء واحد من الروحانيات في عالم وهو في نفس الوقت من الماديات في عالم آخر ـ جوهرا كان أو عرضا ـ كما في الحجر الأسود فإنه إذا استلم كان بحسب الظاهر شيئا ماديا ولكنه في الواقع يمين الله ـ بالمعنى الذي تقدم ـ يصافح بها عباده كما في الحديث ، وحينئذ لا وجه لحصر حقيقته في ما ندركه بالماديات فقط بزعم أن العقول لا يمكن لها درك ما وراء عالم المادة فإن ذلك إما قصور أو تضييع وتعطيل للعقل عن مسيره

الذي جعله الله تعالى له ، فإنه لم يحده بحد إلّا ما ورد في الشرع من النهي عن التعمق فيه. ومن ذلك يعلم أن جعل مضامين تلك الأخبار من الأقاصيص التي بثها زنادقة اليهود ، من الجهل بالحقائق والواقعيات.

الثاني : إنّ رمي الروايات بالضعف إنما هو سبيل العاجز وأسهل شيء في الأحاديث عند من لا يحيط بواقعها وحقائقها وقصر النظر على الظاهر فقط ، وتعطيل للعقل عن الاستكمال ، فإن نظر أهل المعرفة في العلوم إنما هو إلى الحقائق الكلية المختلفة مظاهرها حسب تعدد العوالم دون الأفراد الجزئية ، والفضل في الأولى دون الأخيرة كما هو المعلوم للخبير.

الثالث : إنّه يعلم مما ذكرناه عدم تحقق التناقض والتعارض في الروايات فإنّ ذلك إنّما يحصل من قصر النظر على نشأة دون أخرى وأما حقيقة الشيء المختلفة باختلاف النشآت حسب ظهورها في ذلك فلا وجه لعده من التناقض ، فما في بعض الروايات من كون الحجر ملكا وفي بعض آخر أنه درة بيضاء إنما يكون بحسب تعدد الظهور ومن شرط تحقق التناقض والتضاد وحدة الموضوع وهي مفقودة في المقام ، ولا وجه لتوهم التعارض مع القرآن.

الرابع : إنّ ما اعترف به من أنّ هذه الأمور مما شرفها الله تعالى كما شرف أنبياءه فهو حق لا ريب فيه ، لأنّ جميع تلك الأمور لا بد أن تنتهي جهة شرافتها اليه تعالى وذلك لا ينافي جريان الأسباب التي قدرها الله تعالى لشرافتها.

بحث فلسفي عملي :

العبادات التي شرعت في الإسلام إنما هي مبنية على مصالح كثيرة قد لا يحيط بها الإنسان إلّا إذا بينها الله تعالى على لسان نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله). والمستفاد من الآية المباركة والأخبار الكثيرة بعض تلك المصالح ، فإنها تدل على أن تلك العبادات من مظاهر عبودية العبد بالنسبة إلى معبوده ، وأنّها تجليات المعبود في قلوب المتعبدين بحسب مراتب قربهم اليه جلّ شأنه ، وأنها منازل للسير الاستكمالي في الإنسان الذي لا يتحقق إلّا

بواسطة الأنبياء والمرسلين بتشريعاتهم وأنّ منها مثالا لمجاهدات المخلصين من أنبيائه (عليهم‌السلام) وصورا لمنازل العبودية التي بها بلغوا إلى مدارج استكمالهم ، ففي الحج مثلا يتجلى ما ذكرناه بوضوح فإنه عنوان مشير إلى منازل عبودية شرعها إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) وأفعال الحج مثال لجهاده في مرضات الله تعالى ولذا شرع في الإسلام لأنه مشتمل على أعظم أنحاء العبادات وشموليته لجميع الجوانب ـ روحا وبدنا ومالا ـ فيكون انقطاعا اليه جلت عظمته بجميع أنحاء الانقطاعات كما فعله إبراهيم (عليه‌السلام) فهو لم يلاحظ في بناء هذا البيت الجانب المادي منه بل بنى بيت العبودية الحقيقية التي هي غاية كمال الإنسان وأكمله سيد المرسلين نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فصاروا جميعا من حجاب هذا البيت العظيم وسدنته ، وللمقام تتميم يأتي في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بحث تاريخي :

كانت للكعبة المقدسة أهمية واحترام عند العرب قبل الإسلام من حين بنائها بل قد يستفاد من بعض التواريخ أنها كانت محترمة ومعظمة حتّى عند الأمم من غير العرب أيضا كالهنود والفرس والصابئة واليهود والنصارى وغيرهم.

أما الهنود فكانوا يعتقدون أن روح أحد عظمائهم [سيفا] قد حلت في الحجر الأسود حين زار بلاد الحجاز. وكان الفرس يعظمونها زاعمين أن روح هرمز قد حلت فيها. وأما الصابئة ـ وهم عبّاد الكواكب ـ فإنهم يعدونها من إحدى البيوت السبعة المعظمة لديهم. وكانت اليهود تحترم الكعبة ويعبدون الله تعالى فيها على دين إبراهيم (عليه‌السلام) وكان لهم فيها تمثال إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) وغيرهما من عظمائهم. كما كانت الكعبة معظمة ومقدسة عند النصارى أيضا وكانت فيها صورة العذراء والمسيح وكان للعرب فيها أصنام ربما تقرب إلى ٣٦٠ صنما.

ولكن ذهاب هذه الأمم إلى أصل قداسة البيت وعظمته مما لا ينكره أحد. وأما ما ذهبوا اليه من حلول روح سيفا أو هرمز أو التقديس لها لأجل

صورتي العذراء والمسيح أو غير ذلك إن كان من جهة قصور عقولهم في تطبيق القداسة والعظمة على ما زعموه فلا شك أنه من باب الجهل المركب في تطبيق الواقع على مزاعمهم ، وإن كان مرادهم بذلك الموضوعية الخاصة فالآيات المباركة والسنة الشريفة وضرورة الدين المقدس تنكر جميع ذلك بل العقل لا يقبل ذلك أيضا كما ستعرف في الآيات المباركة المناسبة إن شاء الله تعالى

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى جملة من مجاهدات ابراهيم (عليه‌السلام) وما عهد اليه من بناء البيت وجعله معبدا وأنه كان يدعو إلى توحيد الله تعالى والعمل الصالح وإخلاص العمل له فصارت ملته مطابقة للفطرة التي يحكم بها العقل ، عقّب سبحانه وتعالى كالنتيجة لما سلف أنه إذا كانت ملته كذلك فليس للعاقل أن يرغب عن ملته إلّا إذا كان سفيها معرضا عن حكم العقل والفطرة ، ثم ذكر سبحانه وتعالى أنّ ابراهيم (عليه‌السلام) قد وصى بها بنيه وجعلها كلمة باقية عندهم فكانوا يعبدون الإله الواحد إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. فالمناط كله على تسليم الأمر اليه تعالى لا على مجرد التسمية.

التفسير

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ). الرغبة تأتي بمعنى الميل والإقبال ، فإذا عديت ب (إلى أو في) تفيد معنى الحرص على الشيء ، وإذا استعملت مع كلمة (عن) كانت بمعنى الكراهة والإدبار فهي من

هذه الجهة من الأضداد. ومن للاستفهام الإنكاري أي : لا يرغب عن ملة إبراهيم الداعية إلى التوحيد والأخلاق والحنيفية إلّا السفيه.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). تقدم معنى السفه في آية ١٣ من هذه السورة ؛ وقلنا أنّ السفه والسفاهة بمعنى ضعف العقل وخفته ، سواء أكان في الأمور الدنيوية أم الأخروية أم هما معا. وعن بعض الأدباء والمفسرين أنّ السفه إن استعمل متعديا ـ كما في المقام ـ وقولهم سفه رأيه يكون بالكسر ، وإن استعمل لازما يكون بالضم ، لأنه من أفعال السجايا فلا يتعدى.

والمعنى : انه لا يرغب عن ملة إبراهيم (عليه‌السلام) إلّا من أهان نفسه واحتقرها وأهلكها ، فإن ملة ابراهيم (عليه‌السلام) تدعو إلى أحكام الفطرة الواضحة لدى العقول.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل الفسق العملي في المسلمين أيضا.

إن قيل : على هذا يعم السفه جميع الناس (يقال) لا بأس به ، إذ المراد بهذا السفه هو السفه الأخروي دون الدنيوي ، وقد أطلق سبحانه السفه على من اعترض على الدين وعلى من عيّر المؤمنين ، فقال تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٢] وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣].

فالسفه تارة : يكون في الأمور الدنيوية وهو المراد بقوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [سورة النساء ، الآية : ٥] وله أحكام كثيرة مذكورة في فقه المسلمين. وأخرى : يكون في أمور الدين والآخرة وله آثار كثيرة مذكورة في أحاديث الفريقين وثالثة : يكون فيهما معا وسيأتي في البحث الآتي تفصيل الكلام.

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا). مادة (ص ف ي) تأتي بمعنى الخلوص عن كل شوب ونقص وتأتي بمعنى الإختيار لأنه لا يقع من الله تعالى إلّا بذلك أي : ولقد اخترنا ابراهيم (عليه‌السلام) ـ بعد اختباره وخلوصه عن كل دنس ورذيلة ـ للرسالة والأمانة والهداية في الدنيا وجعل

الملك العظيم له ولبعض ذريته.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). الصالح من حكم له بالصلاح ولا يكون كذلك إلّا إذا كان جامعا للكمالات المعنوية وحقيقة العبودية التي هي جامعة للكمالات الإنسانية فمن كان كذلك في الدنيا يلزم أن يكون في الآخرة من الصالحين ، فالحكمان من المتلازمين.

وإنما خص تعالى الصلاح بالآخرة مع أنه معدود في الدنيا من الصالحين لأنه يظهر فيها صلاح الصالحين فيرى النّاس بأعينهم ما كانوا يسمعونه ، في الدنيا ، أو لأن صلاح الآخرة ملازم لصلاح الدنيا تلازم المعلول للعلة ، أو لأن صلاح أنبياء الله تعالى لا سيما هذا النبي العظيم الذي تعرفه جميع الملل والأديان في الدنيا معلوم لكل أحد ، وقد أراد سبحانه أن يبين صلاحه في الآخرة أيضا. وهذه الآية المباركة دليل قطعي على أن إنكار من يرغب عن ملة إبراهيم ليس إلّا ممن جنى على نفسه بالهلاك فإن ملة تكون لصاحبها هذه المنزلة عند الله تعالى لا تكون إلّا خيرا محضا في الدنيا والآخرة فلا يرغب عنها احد إلّا من كان سفيها.

وفي الآية الشريفة وعد لإبراهيم (عليه‌السلام) بصلاح حاله في الآخرة وبشارة له بذلك.

ثم إنّ للصلاح والعمل الصالح شأن كبير في القرآن والسنة بل وحكم العقل والمجتمع الإنساني. ولم يرد في الكتاب الكريم في تعريفهما شيء ، ولعل وضوحهما عند النّاس أغنى عن التعريف فإن مادة (ص ل ح) محبوب كل ذي شعور خصوصا إذا كان في مورد الصلاح الأبدي. والمذكور إنما هو الآثار المترتبة على العمل الصالح ، مثل إنه تعالى يرفعه ، قال جلّ شأنه : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر ، الآية : ١٠] وإنه يتولى الصالحين ، قال تعالى : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٦]. وإنه يرزق من عمل صالحا بغير حساب ، قال تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ

صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة غافر ، الآية : ٤٠]. وأن الصالح في مصاف الأنبياء الصديقين والشهداء قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء ، الآية : ٦٩] وتلك الآثار المذكورة في الآيات المباركة إنما تترتب إذا كان الصلاح منبعثا عن الذات بحيث تكون الذات مقتضية له. وذلك في ما إذا ارتسم من مواظبة الأعمال الصالحة بحيث حدثت ملكة في النفس من ارتكاب تلك الأعمال ، لأن بين النفس والأعمال نحو تلازم في الجملة ربما تؤثر النفس في الأعمال على نحو الاقتضاء. كما انه ربما تؤثر في النفس كذلك ـ كما ثبت في الفلسفة العملية ـ فالله تعالى لا يدعو إلّا إلى العمل الصالح وكذلك يكون شأن رسله وأنبيائه (عليهم‌السلام) فإنهم لا يدعون إلّا إليه قولا وعملا فهم الصالحون في الدنيا والآخرة. وبالعمل الصالح يدرك مراتب الجنان كما أن به تخمد لهب النيران ويرتقي الإنسان إلى ذروة محبة الرحمن ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [سورة مريم ، الآية : ٩٦] ولو أردنا أن نعدد ما ورد في الكتاب في فضل العمل الصالح وفضائل الصالحين والصالحات لطال البحث وصار كتابا مستقلا ، ولعلنا نذكر بعض ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها في مستقبل الكلام.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ). الظرف متعلق بالاصطفاء والجملة لبيان العلة لحصول الاصطفاء والصلاح. والمراد بالقول هنا تلك الدعوة الحاصلة من الإشراقات المعنوية والإفاضات على قلب ابراهيم (عليه‌السلام) حسب مقتضيات الأحوال والخصوصيات والتي تنبئ عن كمال الخلة الواقعية بينهما ، وليس المراد به القول الظاهري الواقع في زمان خاص حتّى يبحث عن وقته كما عن جمع من المفسرين لأن المراد بالقول ما هو المبرز للمراد الواقعي ، ولا ريب في أن تلك الإشراقات أقوى واظهر فيه من مجرد القول ؛ ويمكن أن يكون المراد به القول الظاهري كما في جميع أقواله بالنسبة إلى أنبيائه (عليهم‌السلام).

قوله تعالى : (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). تقدم معنى ، الإسلام ، كما تقدم تفسير (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الحمد ، ويستفاد من قوله (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أنّ إسلامه معه في جميع العوالم التي يمر عليها. وفي الالتفات في الآية الشريفة من التكلم إلى الغيبة ثم من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى كمال الموافقة بين الخليلين ، فتارة يتكلم مع خليله بالحضور شوقا إلى اللقاء ، ويلتفت إلى الغيبة خوفا من المحو والفناء. وفي ابتهالات المعصومين (عليهم‌السلام) وتضرعاتهم مع الرب من ذلك شيء كثير.

قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ). مادة (وص ي) تأتي بمعنى الوصل والعهد ، لأن الموصي يعهد بشيء في ما بعد موته ، ويوصل تصرفاته وأعماله في زمان حياته ببعد وفاته أيضا ، والضمير في «بها» يرجع إلى الملة المشتملة على الإسلام ، وكلمة الإخلاص أيضا المذكورة في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) وهي الكلمة الباقية التي جعلها في عقبه كما قال تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [سورة الزخرف ، الآية : ٢٨]. ويعقوب عطف على إبراهيم أي : ووصى بها يعقوب أيضا. وفي ذلك إشارة إلى كثرة اهتمام إبراهيم وحفيده يعقوب بحقوق الله تعالى وحرماته حتّى أنهما أوصيا بذلك ، بل يدل على أهمية الموصى به والاعتناء به ، وأنه كالوديعة في أيديهم يجب أن تحفظ في أعقابهم ، وهذا هو شأن جميع أنبياء الله وأوليائه في حفظ ودايع الله وأسراره ، ووصية لقمان مذكورة في القرآن ، ووصية علي (عليه‌السلام) لابنه الحسن (عليه‌السلام) معروفة في كتب الأحاديث.

قوله تعالى : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ). هذا مقول قول كل منهما لا خصوص قول يعقوب كما يظهر من بعض التفاسير ، فإنهما قالا لبنيهما في مقام التوصية والتحريض إلى اتباع الملة الحنيفية. والمراد من الدين هو دين الحنيفية والإسلام الذي اختاره الله لهم خالصا عن كل عيب ودنس. والمراد من البنين هم الأولاد الأعم من الذكور والإناث.

قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). كناية عن اتباعه

حق الإتباع ، وعدم المفارقة عنه في وقت من الأوقات فيغتنم الشيطان ذلك فيردهم عن الملة الحنيفية ودين الإسلام فيموتوا غير مسلمين. وفي الكلام إيجاز بليغ.

قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ). أم تأتي للاضراب ، وانتقال الكلام إلى الاستفهام الذي هو بمعنى الجحود والإنكار جيء به كذلك ، لأنه أبلغ في الإلزام والإحتجاج. والشهداء جمع شهيد وهو بمعنى الحضور. والخطاب لأهل الكتاب إنكارا عليهم حيث زعموا أن إبراهيم ويعقوب (عليهما‌السلام) كانا على ملتهم كما حكى سبحانه عنهم ، قال تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٠] وقد أبطل الله تعالى حجتهم بأنه إن كان بدعوى حضورهم عند موت يعقوب ووصيته فهذه يبطلها الحس والوجدان ، وإن كان لأجل وصوله إليهم من التوراة والإنجيل فما أنزلت التوراة والإنجيل إلّا من بعده ، فاليهودية والنصرانية حدثتا من بعده بقرون. وإن كان لأجل أمر آخر ، فهو مردود عليهم. ولا يتطرق احتمال أن يدع إبراهيم (عليه‌السلام) الملة الحنيفية ويوصي باليهودية والنصرانية.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي). أي سألهم ليقروا على أنفسهم بالتوحيد الخالص بعد نبذ معبودات أهل الشرك والضلال. وإنّما أتى بلفظ (ما) تعميما للمعبودات من ذوي العقول وغيرهم.

قوله تعالى : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). تقدم معنى العبادة في سورة الحمد ، والإله يأتي بمعنى التحير ، وقد قال علي (عليه‌السلام) فيه «كلّ دون صفاته تحبير الصفات ، وضل هناك تصاريف اللغات» وتصاريف اللغات أي تحسينها وتزيينها ، وفيه إسقاط لكل ما يقال في حقيقة صفاته عزوجل فضلا عما يتوهم في حقيقة ذاته تعالى وتقدس. والمراد بالإله هنا هو المعبود بقرينة صدر الآية المباركة وذيلها.

وإنّما أدرج إسماعيل في آباء يعقوب للتغليب إذ العم بمنزلة الأب ، وفي الحديث : «عم الرجل صنو أبيه». وإنما ذكر الآباء اسقاطا لزعم من يزعم أنهم على ملة غير الملة الحنيفية ، وإعلاما بأنهم كانوا يدعون إليها كما يعتقدونها.

قوله تعالى : (إِلهاً واحِداً). أي : لم نشرك به. وقد اختلفوا في لفظ الإله ـ كما اختلفوا في صفاته جلّ شأنه وأسمائه ، وتحيروا في حقيقة ذاته تعالى ـ فمن قائل : انه من اله أي تحير ، لما مر من قول علي (عليه‌السلام) : «كلّ دون صفاته تحبير الصفات وضل هناك تصاريف اللغات». وفي الحديث : «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». ومن قائل إنّ أصله من وله فأبدل الواو ألفا ، وذلك لكون كل مخلوق والها نحوه إما بالتسخير فقط كالجماد والحيوان ، أو بالتسخير والإرادة معا كبعض النّاس. وعن بعض الفلاسفة «أنّ الإله محبوب كل شيء». وعن بعض العرفاء «أن الإله مجذوب كل شيء» ، واستشهد الفريقان بقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤]. ومن قائل إنه من لاه يلوه لولاها أي : احتجب عن الأبصار والعقول.

والكل صحيح ، لأن ذاتا لا تدرك حقيقته ، وهو متصف بجميع صفات الجمال والجلال تصح الإشارة اليه بأي جهة من جهات كماله الا إذا نهى الشارع عنها. وعلى أي تقدير يكون جمع إله وتثنيته اعتقاديا بالنسبة إلى المشركين لا واقعيا ، لأن ما انحصر في الفرد واستحال وجود فرد ثان له كيف يصح جمعه؟ إلّا بالجمع الاعتقادي الادعائي لا الواقعي.

واما الواحد فقد استعمل في القرآن غالبا فيه تعالى بالحصر والتأكيد قال تعالى : (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٥٢] ، وقال تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٨] ، وقال تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة ص ، الآية : ٦٥] ، وقال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة النحل ، الآية : ٥١] وهذا هو

مورد دعوة الأنبياء (عليهم‌السلام) جميعا ، لأنهم يدعون إلى المعبود الواحد حين كان لكل قبيلة بل لكل طائفة منها معبود خاص وينكرون وحدة الله جلت عظمته ويتعجبون منها قال تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [سورة ص ، الآية : ٥] بل لم يستعمل لفظ «واحد» في القرآن إلّا مضافا اليه عزوجل.

وفي الآية المباركة إيجاز بعد اطناب والتقييد بالوحدة لدفع توهم تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون.

قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). أي : نحن له منقادون ومستسلمون لإرادته. وهذا تثبيت للمطلب بنحو الجزم والعلم ، وبيان لكون العبادة لا تكون إلّا على طريق الإسلام.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). مادة (ا م م) تأتي بمعنى القصد ، وتختلف استعمالاتها باختلاف المتعلق ، فتستعمل تارة في الجملة كما في المقام. واخرى : في الفرد الذي يكون كالجماعة في العقل والكمال والقدرة كما في قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠]. وثالثة : في الملة والدين. ورابعة : في «حين» إلى غير ذلك من الاستعمالات التي تعرف بالقرائن.

و «خلت» بمعنى مضت كما في قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٧] وهو في الأصل الانفراد ، فكأن ما مضى قد انفرد عن الحاضر ، وفي الحديث : «إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه».

والكسب العمل الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر ، ولذا لا يطلق معناه على الله لاستحالته بالنسبة إليه تعالى. ويستعمل بالنسبة إلى كل من أعمال الجوارح والقلوب قال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٥] ، وقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [سورة الروم ، الآية : ٤١]. وقد استعملت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم.

والمعنى : إنّ إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وبنيه جماعة مضت وذهبت لها أعمالها التي تجزى بها ولكم أعمالكم التي تجزون بها فلا يسئل أحد الا عن كسبه وعمله ، لأن التكليف واستكمال النفس فردي كما أن الجزاء عليه أيضا كذلك هذا بالنسبة إلى ذات العمل المتقوم بذات العامل فقط. وأما بالنسبة إلى سائر الجهات فالأنبياء يسئلون عن الإبلاغ وإتمام الحجة على أممهم ، كما أن النّاس يسئلون عن الاقتداء بأنبيائهم وأئمتهم والتخلق بأخلاقهم كما يسئلون عن الحقوق الاجتماعية الدائرة بينهم ، ففي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «إن المؤمن يدع من حق أخيه شيئا فيسأل عنه يوم القيامة» فالآية المباركة أصلا وعكسا من القواعد العقلية المقررة في الشرايع الإلهية في التكاليف الفردية حيث أنها قائمة بالأفراد ولا تتعداهم الى غيرهم ، بل تحميل فرد تكليف آخر من الظلم القبيح ؛ قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤].

وذكر هذه الآية بعد الآيات السابقة بمنزلة النتيجة لها وبيان أن المناط كله على العمل دون غيره. كما عقّب سبحانه وتعالى الإيمان في جملة كثيرة من الآيات الشريفة بالعمل الصالح ، فلا يكفي في كمال النفس الاعتماد على صلاح الآباء ومنزلتهم عند الله تعالى ، بل لا بد أن يكون الإنسان صالحا في نفسه.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات المباركة أمور :

الأول : إطلاق الآية الشريفة في صلاح إبراهيم (عليه‌السلام) يدل على انه صالح من كل جهة فهو صالح في نفسه وصالح لغيره ، فيكون المصداق الحقيقي لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أصلح ما بينه وبين الله تعالى أصلح الله ما بينه وبين الناس»

الثاني : في قوله تعالى : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى أن إسلام

إبراهيم (عليه‌السلام) كان بعد أن رأى من آيات ربه ، وأنّ إسلامه كان عن حجة ومعرفة بأنّ للعالم خالقا له الربوبية العظمى والتدبير الأتم.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ان الأثر من الإسلام وسائر الصفات الحسنة إنما يترتب على الموت متصفا بهما لا على صرف وجودهما وإن كان في خاتمة العمر على غيرهما ، وتدل على ذلك روايات كثيرة ، منها قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كما تموتون تبعثون ، وكما تبعثون تحشرون». كما ان في الدعوات الكثيرة المشتملة على طلب حسن العاقبة عند الموت من الله تعالى دلالة على ذلك.

الرابع : في قوله تعالى : (إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) إشارة إلى أنّ دين الله تعالى واحد في كل الأعصار وعلى لسان كل نبي ، وانه عبادة الإله الواحد ، والاستسلام لأمره جلت عظمته ، كما قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩]. والوصية به جارية ومستمرة في الأنبياء والأوصياء إلى الأبد ، وسنبين في الآيات المباركة المناسبة تلازم المبدأ والمعاد ثبوتا وإثباتا إن شاء الله تعالى.

الخامس : إنّ في تكرار لفظ الإسلام في الآيات الشريفة السابقة دلالة على أنّ المراد به حقيقته دون مجرد الاسم فقط ، للتأكيد المستفاد منه.

بحث روائي :

في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : «لأنسبنّ الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ، ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك : إنّ الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو العمل ، والعمل هو الأداء. إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه. إنّ المؤمن يرى يقينه في عمله والكافر يرى إنكاره في عمله ، فو الذي نفسي بيده فاعرفوا أمرهم فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة».

أقول : المراد بالإسلام في المقسم هو الإسلام بالمعنى الأخص أي الإيمان بقرينة ذيل الحديث ، وهو الذي أشار إليه نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

فيما رواه الفريقان : «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه».

والمراد من التسليم من كل جهة قلبا ولسانا وعملا ، كما صرح (عليه‌السلام) في ذيل الحديث. والمراد بالأداء هو خلوص العمل ووصوله الى الله تعالى ، وهو إشارة إلى أن كل ذلك أمانة من الله تعالى لا بد وان تؤدى وتصل اليه عزوجل ، ومقتبس من قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [سورة النساء ، الآية : ٥٨] ، وأغلى تلك الأمانات وأجلها هو الإيمان فلا بد أن يرد اليه تعالى كما شرعه من دون ان يخان فيه قلبا أو لسانا أو عملا ، وفي المقام تفاصيل تأتي في الآيات التالية.

وفيه عن البرقي عن علي (عليه‌السلام) قال : «الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين».

أقول : هذا بيان لبعض مراتب الإسلام بقرينة الحديث الآتي.

وفيه أيضا عن سماعة عن الصادق (عليه‌السلام) : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله ، والتصديق برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس. والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام».

أقول : هذا هو أدنى مراتب الإسلام الظاهري الذي عليه عامة المسلمين.

وفي الكافي عن القاسم الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة ويستحل به الفروج والثواب على الإيمان».

أقول : قوله (عليه‌السلام) أولا : بيان لأدنى مرتبة الإسلام وقوله أخيرا بيان لبعض مراتبه العالية.

وفي المجمع عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «قال الله تعالى أعددت

لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

أقول : ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين له مراتب كثيرة بل غير متناهية ، وما ورد في الحديث من بعض مراتبه.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) عن الباقر (عليه‌السلام) : «إنها جرت في القائم».

أقول : المراد من القائم النوعي منه أي القائم بالعدل فيشمل كل إمام مفترض الطاعة ، فان من شأنه إيصاء ما وصى به إبراهيم (عليه‌السلام) بنيه إلى من بعده ، لتتصل الوصية والحجة إلى يوم القيامة ، كما تقدم.

بحث علمي :

في كل شيء مراتب متفاوتة سواء كان ذلك الشيء من الأعراض أم من الاعتباريات أم من الجواهر بعد ما أثبت أكابر الفلاسفة بالأدلة العقلية والنقلية الحركة الجوهرية فتثبت المراتب في الجواهر ، كما دلت عليه الشواهد العقلية.

وعليه يكون للإسلام مراتب ، والمرتبة العليا منها هي المؤثرة في السير التكاملي الإنساني في ما يرد عليه من العوالم ، وهذه المرتبة هي مراد الله تعالى ومورد دعاء الأنبياء (عليهم‌السلام) ودعوتهم. نعم حيث أن استعدادات النفوس مختلفة جدا فلا بد من ملاحظتها في مقام التشريع عقلا ونقلا ، ولأجل مصالح كثيرة اكتفت الشرايع السماوية بأدنى مرتبته وهي الإسلام القولي الظاهري ، حفظا للنظام ، وجمعا لشمل الأنام ، فمقام التوسعة على الأمة شيء ومقام بيان الحقيقة والدعاء للتوفيق لها شيء آخر ، وتقدم انه يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الأعم الشامل لجميع مراتبه ، فيكون للمخلصين مرتبته العليا ولغيرهم سائر المراتب ، فيصير الانطباق بحسب المراتب قهريا ، كما هو الشأن في جميع الحقائق التشكيكية ان ذكرت بنحو الإطلاق :

بحث فلسفي :

قد ذكر الفلاسفة والمتكلمون للوحدة أقساما كثيرة ، وهي : إما حقة حقيقية بحال الذات وهي مختصة بالله الواحد القهار جل جلاله أو بالغير وهو إما في الجنس ، كوحدة الفرس والإنسان مثلا في الحيوانية ، أو في النوع كوحدة الأفراد والأشخاص في النوعية ، مثل زيد وعمرو ، أو عرضية من الأعراض على أقسامها التسعة كوحدة الخطوط في الكمية ، أو وحدة الألوان في الكيفية ، أو وحدة الأخوان في الإضافة إلى غير ذلك من الأقسام. هذا في الوحدة الذاتية المفهومية.

ولهم قسم آخر من الوحدة وهي الوحدة الوجودية من حيث الذات أو وحدة حقيقة الوجود والموجود وتمتاز هذه الوحدة عن غيرها بأنها عبارة عن السعة الوجودية ، وهي تارة في نفس الوجود من حيث هو مع بقاء الإضافات ، ويعبر عنه بوحدة الوجود ، وأنها مبنية على اشتراك حقيقة الوجود بين الواجب والممكن بجميع اقسامه من الجوهر والعرض مطلقا.

وأخرى : في نفس الوجود أيضا كما تقدم لكن بإسقاط جميع الإضافات والخصوصيات وعبروا عنه ب (وحدة الوجود والموجود) ولهم في المقام أقسام أخرى قد فصلت في الكتب الفلسفية ، ولعلنا نتعرض لها مع شرحها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

بحث أدبي :

قد يذكر اللغويون للفظ معنى يكون لذلك المعنى لوازم متعددة ثم يذكرون كل واحد من تلك اللوازم في معاني اللفظ فيجعلونه من المشترك اللفظي ، وهذا شايع عندهم كما قدمناه.

وفي المقام أصل السفه مرض عقلي يعبر عنه بضعف العقل وخفته ومن لوازمه الهلاك والفساد وتحقير النفس وزوال النظم ، وقد جعلوا كل ذلك من معاني السفه. وهذا لا وجه له بل ينبغي أن يكون من لوازم أصل المعنى ؛ كما يقتضيه التحليل العقلي ، ولو بني على عدّ لازم المعنى معنى ، مستقلا ، لانعدم متحد اللفظ والمعنى من اللغات مطلقا. ولعل هذا من أحد

منا شيء تكثير المعاني للألفاظ في اللغة.

ثم إنّهم اختلفوا في إعراب «نفسه» الوارد في الآية المباركة ، فقيل : إنه منصوب على أنه مفعول «سفه». وقيل : انه منصوب على التمييز ، وأشكل عليه بأن التمييز لا بد أن يكون نكرة. وفي الآية معرفة ـ لا ان يكون نكرة ـ لإضافته إلى الضمير.

ويدفع الإشكال : بأنّ لفظ «نفسه» في المقام بمنزلة ذات نفسه أو نفسه ذاته ، وهذا لا يخرجه عن التنكير إلى التعريف ، كما لا يخفى.

وقد فرّق الأدباء بين الواحد والأحد بوجوه :

منها أنّ الواحد أعم موردا من الأحد ، لأن الواحد يطلق على من يعقل وغيره ، بخلاف الأحد ، فانه يختص بمن يعقل.

ومنها : أنّ الواحد يدخل في العدد إيجادا وإفناء ، بخلاف الأحد.

ومنها : أنّ الواحد هو المتفرد بالذات ، والأحد هو المتفرد من سائر الجهات ، وعن علي (عليه‌السلام) في وصفه تعالى : (واحد لا بعدد) أي : لا يعقل أن يكون عددا يعد اثنين وثلاثة وهكذا كما في كل واحد عددي.

وأما قول علي بن الحسين (عليه‌السلام) : «لك يا إلهي وحدانية العدد» فمعناه المبدئية لكل شيء.

يعني : كما أن الواحد مبدأ إيجاد الأعداد ومفنيها يكون الله تعالى مبدأ إيجاد الممكنات ومفنيها ، ولعلنا نتعرض لذلك في الآيات المباركة المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)).

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في ما سلف من الآيات المباركة حقيقة ملة إبراهيم (عليه‌السلام) وأنّها التوحيد الخالص والاستسلام لله تعالى ، وبيّن أنها دين الله تعالى الواحد على لسان الأنبياء وإن اختص كل واحد منهم ببعض الأحكام بحسب المصالح.

بيّن سبحانه في هذه الآيات أنّ أهل الكتاب قصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين عن غيره وجهلوا الحقيقة المشتركة بين الأديان ، فادعى كل واحد أن دينه الحق وغيره على الباطل ، وأن أنبياء الله تعالى على دينهم ، فأبطل سبحانه وتعالى مزاعمهم وحكم بأن الإيمان بالله جلّ شأنه ، وما أنزله تعالى والاستسلام لأمره هي الحقيقة المطلوبة لدى الأنبياء من دون فرق بين أحد منهم ، وأنّ ذلك هو دين الفطرة التي أودعها في الإنسان ولا دخل لأحد فيها ، فمن كان محاجا في ذلك فهو في شقاق.

ثم أقام الحجة على ذلك بأنه تعالى هو الرب والمدبر للجميع ، وأنه لا علم لهم بأن الأنبياء السابقين على دينهم كيف وقد بشروا بنبوة خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهم قد كتموه.

وختم الكلام بأن كل واحد له جزاء عمله فلا يسئل عما يفعله غيره. فعلى كل فرد أن يجتني ثمار أعماله.

التفسير

قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). الضمير في قالوا يرجع إلى أهل الكتاب ، و (أو) للتنويع ، والجملة لبيان عقيدتهم.

أي : قالت اليهود إنّ دينهم على الحق وأنّ الهداية محصورة في اليهودية ، وكذلك ادعت النصارى ، بل إنّ ذلك معتقد كل ذي دين أنّ دينهم خير الأديان ، وأنّ كتابهم أبدي لا يقبل التغيير والتبديل ، وطرق الهداية منحصرة في دينه ، ومقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين النّاس إلى دينه ، وهذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشيء ويرى صحته ، وهو من الجهل المركب وداء ابتلي به جميع الأمم حتّى بعض فرق المسلمين الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته وبطلان غيرهما ، وقد أبطل سبحانه مدعاهم بدليل إلزامي لهم ، فقال مخاطبا لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إتماما للحجة والبيان ، وتلقينا للبرهان ، وتثبيتا لشريعته ونبوته ، بل إظهارا للوحدة بين أصل الوحي وقول الموحى اليه في الحجية ، وتوطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.

قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل أي : الميل من الضلالة إلى الهداية ومن الباطل إلى الحق فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق ، وهي بخلاف (جنف) فانه الميل من الحق إلى الباطل.

وقد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيرا ، قال تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٥] وقال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠]. وتطلق على أصل الملة والدين أيضا ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [سورة الروم ، الآية : ٣٠]. وفي الحديث : «أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة».

والوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم وملته دون غيره من الأنبياء السابقين أنّ إبراهيم كان في قوم مشركين ، عبدة الأوثان وقد جاهد (عليه‌السلام) في دعوتهم الى التوحيد ونبذ الأوثان وعبادتها وابتلى من قومه بما ابتلى حتّى اختاره الله تعالى لأقصى درجات الخلة والإمامة ومنحه الملة التي

كانت بمنزلة المادة لجميع الأديان الإلهية الكبرى ـ اليهودية والنصرانية والإسلام ـ مع أنه (عليه‌السلام) يعتبر مؤسس حركة التوحيد في العالم ، وبه ابتدأت الشرايع الإلهية. وأما شرايع من قبله من الأنبياء فلم تكن لها تلك الأهمية التي جعلها الله لملة إبراهيم ، ولذلك كانت ملته الملة الحنيفية الجامعة للمعارف الإلهية والكاملة في التوحيد ونفي الشرك. والارتقاء في معارج الكمال ، وقد أنزلها تبارك وتعالى حسب المصالح ومقتضيات الظروف حتّى انتهى الأمر إلى الإسلام الدين الجامع لجميع الكمالات والمشتمل على أقصى المعارف الإلهية.

ومن ذلك يعرف أن اختلاف المفسرين في معنى الحنيف وبيان المأخذ لا وجه له ، بل هو اختلاف مصداقي. والجامع هو الصحة والتمامية والسهولة وعدم الضيق والحرج.

وإنما ذكر سبحانه إبراهيم (عليه‌السلام) وأمرهم باتباع ملته لأنه لا ينازع أحد من أهل الكتاب في أنه كان مهتديا ، بل يعتبر إمام المهتدين ، فإذا كان ادعاء كل واحد منهم صحيحا لكان إبراهيم (عليه‌السلام) غير مهتد ، وهم لا يقبلونه.

ومن ذلك يستفاد أن الهداية منحصرة في اتباع ملة إبراهيم (عليه‌السلام) ، وأن موسى وعيسى (عليهما‌السلام) أيضا كانا متبعين لملته لأنها الدين الحنيف القائم على الصراط المستقيم ، والمبني على التوحيد والإخلاص ونفي الشرك ، والحق أحق أن يتبع.

قوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). أي لم يكن إبراهيم من المشركين بالله تعالى. وفيه إشارة إلى اختلاط اليهودية والنصرانية المخترعتين لنوع من الشرك والتناقض على ما يأتي تفصيله.

قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ). الأسباط جمع سبط وهو بمعنى الانبساط في سهولة ، وسمي ولد الولد سبطا لانبساطه وتفرعه من الجد. ومنه

سمى الحسن والحسين (عليهما‌السلام) سبطي الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل. وكانوا اثنى عشر سبطا كل سبط ينتهي إلى ولد من ولد يعقوب ، كل واحد منهم أمة وجماعة من النّاس ، قال تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٠] ولذلك لم يستعمل في القرآن إلّا جمعا. وسموا بذلك أيضا في التوراة وغيرها.

والنزول مساوق للإيتاء في الجملة ، لأنه يشمل الجواهر والأعراض والتشريعات قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥] وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٦]. وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢١]. وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] إلى غير ذلك من موارد استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم التي هي كثيرة جدا بهيئات مختلفة. فأصل المادتين ـ الإيتاء والإنزال ـ متحدتان في جامع قريب هو الإيصال والوصول ، إلّا أنه لوحظ في النزول الانحطاط من العلو في الجملة بخلاف الإيتاء ، لكنه إذا أضيف الممكن إلى الواجب بالذات والمخلوق إلى الخالق الغني بالذات ينطبق عليه الانحطاط من العلو ـ لوحظ ذلك أو لم يلحظ ـ ، فكل إيتاء منه عزوجل إنزال دون العكس.

ولعل الوجه في التعبير بالنسبة إلى إبراهيم (عليه‌السلام) ومن تبعه بالإنزال للإعلان بأنه مؤسس الحركة الدينية والملة الحنفية فلا بد من إفاضة ذلك من عالم الغيب.

ثم إنه قد يستدل على أنّ الأسباط كانوا أنبياء بالآية المباركة ، وبقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى) [سورة النساء ، الآية : ١٦٣].

وفيه : أن الآية المباركة أعم من حدوث الوحي وإبقائه ومناط النبوة هو الأول دون الثاني ، فيكون من حفظ الوحي غير من أنزل الوحي عليه ابتداء ، كما ستعرف قريبا. وفي بعض الأحاديث : «إن الله تعالى جعل النبوة في ولد بنيامين ونزعها من ولد يوسف» وعن أبي جعفر (عليه‌السلام) نفي كون الأسباط أنبياء ؛ ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء.

ومن ذلك يظهر الوجه في قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي في جهة حفظ الدين والوحي المبين فان العلماء أمناء الله تعالى في أرضه ما لم يميلوا إلى الدنيا.

وهذه الآية المباركة دعوة عقلية إلى نبذ الاختلاف والعصبية والأهواء ، وهي تدعو الناس إلى الوحدة والاتحاد بين جميع أفراد البشر في المبدأ والتشريع والمعاد ، والترغيب إلى الإيمان بأصل الدين الذي لا خلاف فيه بين جميع أنبياء الله تعالى. فكما أن البشر متحدون في أصل التكوين الإلهي كذلك لا بد وان يكون بينهم اتحاد في نظام التشريع الربوبي. والاختلاف إنما ينشأ من المصالح الزمنية ، وما يقتضيه السير التكاملي في الإنسان ، كما أنه يختلف حفّاظ الوحي باختلاف العصور والقرون.

والمراد بقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) القرآن وجميع المعارف والتشريعات الإلهية التي أتى بها نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وباعتبار النزول عليه وعلى سائر الأنبياء صدق النزول علينا أيضا.

كما أن المراد بقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ) الصحف التي أنزلت عليه وملته الحنفية المقدسة التي أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باتباعها.

وإنّ المراد بما أنزل على إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ذلك أيضا ، لأنهم الحفظة للملة الحنيفية علما وعملا وبيانا ، وإلّا لم يعهد نزول كتاب عليهم كما أن علماء أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كذلك ، كما

عرفت.

قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ). مادة (ا ت ي) تأتي بمعنى المجيء ، بسهولة ، وتستعمل في الأعيان والأعراض ، والخير والشر. والكل مذكور في القرآن الكريم ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٠] ، وقال تعالى : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٧] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وما اوتي موسى وعيسى عبارة عن التوراة والإنجيل وما حباهما الله تعالى من كرامة الوحي وسائر المعجزات الباهرات. وإنما خصهما بالذكر لكثرة الاهتمام بهما ، ولأن المقام مقام المحاجة مع اليهود والنصارى والإحتجاج عليهما. وإلّا فهما كسائر أنبياء الله تعالى يدعوان إلى التوحيد والإسلام ، ولذا أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك ب :

قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ). فلم يكن ذلك خاصا بموسى وعيسى ، فيكون تعميما بعد التخصيص ، وإيضاحا للسبيل ، وإتماما للحجة. والإشارة إلى أن أنبياء الله تعالى متحدون في الدعوة إلى الحق ، وهو أيضا أعم من المعارف التشريعية والمعجزات التي خص الله تعالى بها كل نبي.

قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). أي : قولوا لا نفرق بين أحد من الرسل والأنبياء ونحن لله تعالى مسلمون.

قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا). (الباء) في (بمثل) بمعنى التشبيه فقط ، ولفظة «مثل» تفيد معنى الآلية التي ينظر بها جيء به إتماما للحجة ، وقطعا للخصومة ، وهذا شايع ومتعارف عند الناس فليست الكلمة زائدة بل بمعنى التوسعة في المثلية في جميع القرون اللاحقة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ). التولي هو الإعراض

ومادة (ش ق ق) تأتي بمعنى الثقب والخرم ، ويلزمهما الفصل والتجزئة. وهي تستعمل في القرآن كثيرا ، قال تعالى : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [سورة عبس ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [سورة الحج ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [سورة ص ، الآية : ٢].

وللشقاق مراتب كثيرة بالنسبة إلى الأصول والفروع والأخلاق ، والشقاق بالنسبة إلى الله ورسله بمعنى الكفر والضلالة ؛ فالكافر في شق والمؤمن في شق ، والمصلي في شق وتارك الصلاة في شق آخر ، والعادل في شق والفاسق في شق آخر وهكذا. فكل شيء وغيره يمكن أن يكونا من شقين ولو كانا من صنف واحد في الجملة. وفي أحاديث آخر الزمان : «لا بد من فتنة يسقط فيها الحاذق الذي يشق الشعرة شعرتين». أي بحذاقته وفكره.

قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). كفى يأتي بمعنى سدّ الخلة وبلوغ المراد في الأمر ، قال تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٢٥] ، وقال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٥] وغير ذلك من الاستعمالات القرآنية التي يأتي التعرض لها. فهو السميع لأقوالهم ، العليم بأعمالهم وما في ضمائرهم وما يقدّره على عباده وما ينفذه فيهم ، فهو الكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

والآية الشريفة من البرهان العقلي الذي قرره القرآن الكريم ، بأن يقال : الإيمان بالأنبياء والرسل سبب للهداية فكل من كان على إيمانهم فهو مهتد ، فاليهود والنصارى إن كانوا على إيمانهم فهم مهتدون ، ثم نقول إنهم ليسوا على إيمان الأنبياء والرسل وكل من كان كذلك فهو في شقاق مع الله ورسله ، فاليهود والنصارى في شقاق مع الله ورسله وكذا كل من يكون مثلهما في المخالفة الاعتقادية أو العملية مع الله ورسله ، هذا بالنسبة إلى أصل ثبوت الموضوع. وأما الأثر المترتب عليه فهو أنّ الله تعالى يكفي أنبياءه ورسله والمؤمنين بهم من كيد أهل الشقاق ونفاقهم ، كما يقتضيه نظام التكوين والتشريع.

وفي الآية المباركة تسلية للمؤمنين بالنصر ووعد لهم بالكفاية ولن يخلف الله وعده ، وقد ظهر صدقه مرارا. وسيظهر كذلك في ما بعد إلى آخر الزمان. كما أن هذه الآية المباركة من أدلة نبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ورسالته.

قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). الصبغة اسم للكيفية الحاصلة من صبغ الشيء. فكما أنّ للأجسام ألوانا تظهر للبصر ، كذلك للنفوس والأرواح ، ما هو بمنزلة اللون يظهر لأهل البصائر والبصيرة من بياض وسواد ، وصفاء وكدر ، ونور وظلمة ، وطهارة وخباثة.

وتضاف إلى الله تعالى تارة : إذا حصل من الإيمان بالله وما أنزله على رسله والاستسلام لأمره. وإظهار العبودية له عزوجل وهذا بياض معنوي ، بل لمعان أنوار في النفس بحيث يكون نورا في ذاته ومنورا لغيره ، ولها مراتب كثيرة ودرجات متفاوتة. وأخرى : تضاف إلى غيره تعالى ، وهي الظلمة والكدورة التي تحجب عن مبدأ النور.

فيكون المراد بالصبغة هو العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان الذي تجتمع فيه الشرايع الإلهية على ما يأتي من التفصيل المعبر عنها بالفطرة السليمة ، وما سوى ذلك ليس من صبغة الله تعالى ؛ فصبغة الله تعالى هي الطهارة عن كل دنس روحي ومعنوي ، ولا يمكن أن تجتمع مع الشرك والكفر والنفاق والرذائل النفسانية فلا تتأثر بالتقاليد والأهواء والعصبية ، وإنما هي من صنع الله تعالى التي تبقى وتدوم ، وهي المؤثرة في الإنسان في جميع العوالم التي ترد عليه. وهي التي تميز من كان على الصبغة الإلهية التي يظهر أثرها الكريم من التوحيد والأخلاق الفاضلة والأعمال الشريفة من غيرها الذي يكون على الصبغة البشرية التي هي في اضطراب وتعدد وتفرق.

فما يفعله النصارى من تعميد أولادهم لا ينفع لدنياهم ـ مع ما هم عليه من الكفر ـ إلّا إذا كان ما قرره الإنجيل مصدقا بالقرآن فحينئذ ينفعهم التعميد لأنه من دين الله.

وبالجملة : صبغة الله ترجع إلى ارتباط العبد مع الله تعالى بنحو ما يشاء

الله تعالى ويريده لا بما يشاؤه العبد ويريده ، كما يدل عليه صدر الآية المباركة وذيلها ، فان قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ). وقوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) بيان للصبغة والعلة لتحققها ، والإيمان والعبودية إنما يتحققان بما يشاء الله المعبود بالحق لا بما يشاؤه العابد.

ومن ذلك يظهر أن تفسير الصبغة بالإسلام ، أو ملة إبراهيم ، أو دين الله كل ذلك صحيح وينبئ عن شيء واحد. وهو : التوجه إلى الله تعالى والانقطاع عن غيره ؛ كما سيأتي في البحث الروائي.

ثم إن هذه الصبغة تنسب إلى الله تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل ، كما تنسب إلى العبد نسبة الشيء إلى قابله ، وكل منهما على نحو الاقتضاء لا العلية التامة.

ومن ذلك يظهر أحسنية هذه الصبغة من حيث الذات والمورد والفاعل ، فأصل اللون هو التوحيد والإيمان ومكارم الأخلاق ، ومورده المؤمن ، وفاعله هو الله عزوجل ، وغايته السعادة والخلود في الجنان. ومن آثارها العبودية التي كنهها الربوبية ، فلا يتصور في العالم شيء أفضل وأحسن من هذه الصبغة ، وفيها قال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم ، الآية : ٣٠].

قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ). أي : لا نشرك في العبادة والألوهية غيره تعالى. وهو في موضع الحال ، وبيان العلة لأحسنية الصبغة. كما أن نصب «صبغة الله» بالفعل المقدر ، أي : اتبعوا ، أو بدل من ملة إبراهيم ، وإن كان الأخير هو الأوفق ، كما عرفت.

ثم إن كمالات النفس الإنسانية على أقسام ثلاثة :

الأول : ما تكون للدنيا ومن الدنيا وفيها أيضا ولا تتجاوز عنها وهذا هو الكثير الذي ابتلي عامة النّاس به ولا ربط له بصبغة الله تعالى أبدا. نعم هو مورد قضاء الله وقدره.

الثاني : ما تكون للدنيا والآخرة معا بحيث يجعل الدنيا وسيلة وذريعة للوصول إلى الكمال الأخروي.

الثالث : ما تكون للآخرة فقط بحيث لا نظر إلى الدنيا إلّا على نحو الآلية والمرآتية ، كما قال علي (عليه‌السلام) : «صحبوا الدنيا أبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى». والقسمان الأخيران من صبغة الله ؛ ولكل منهما درجات متفاوتة ومراتب كثيرة.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ). المحاجة : المجادلة ، ومادة (ح ج ج) : تأتي بمعنى القصد والطلب ومنه «حج البيت» ، وحيث أن كل واحد من المتخاصمين والمتنازعين يطلب الغلبة على الآخر ويقصد جذبه أطلقت عليه المحاجة.

وتستعمل في كل من الحق والباطل ؛ قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٣]. وقال تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٠]. والعلوم الاستدلالية مشحونة من الإحتجاجات المتضادة المتناقضة مع العلم بكذب أحد الطرفين ، والعلماء وضعوا علما مستقلا مفصلا لبيان الحجة الصحيحة مادة وصورة والتمييز بينها وبين أنحاء المغالطة.

والمعنى : أتجادلوننا في الله وتدعون أنكم أحباء الله وأبناؤه والموحدون له وان دينكم الحق ، وأن النبوة فيكم مع أنّ رحمته وسعت كل شيء وكل عبيده ولا تختص رحمته بقوم دون آخرين ، وجميع تلك المقترحات باطلة ، وأن الله يختار ما يشاء و (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٦٨] ، وكيف يخصكم برحمته دون غيركم؟ (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) ، والجميع عباده ، ورحمته واسعة ؛ وهو الرب والكل مربوبون له.

قوله تعالى : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ). مادة خلص ؛ تأتي بمعنى ذات الشيء وخاصته وزوال كل ما يشوبه وينافيه ، وقد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ

بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [سورة ص ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [سورة الزمر ، الآية : ٢] ، وقال تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٠] ، وقال جل شأنه : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [سورة الزمر ، الآية : ٣] إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، وكل ما قيل في حقيقة الإخلاص يكون دون حده ورتبته ، وقد قال علي (عليه‌السلام) : «بالإخلاص يكون الخلاص ، وطوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء». وهو من الأمور الإضافية فيضاف إلى أصل التوحيد تارة بدرجاته ، وفي مقابله الشرك بمراتبه. وإلى العبادة أخرى ، وفي مقابلها الرياء بمراتبه. وإلى سائر الأعمال ثالثة ، وفي مقابلها كثير من مفاسد الأخلاق ، والجامع بين الجميع الإخلاص في الدين.

والعلماء والعرفاء ذكروا للخلوص والإخلاص معاني متعددة ، فعن الفقهاء ان معناه إتيان العمل لله تعالى ، بأن يكون الداعي على إتيانه هو الله تعالى ؛ وقد فصلنا القول فيه في الفقه. وعن بعض العرفاء : إن الإخلاص ؛ سر من أسرار الله تعالى يستودعه قلب من يحب من عباده. وعن آخر : إنه لا يحب أن يحمد على شيء من عمله. وقد ينسب هذان القولان إلى الحديث أيضا.

والحق إنه من الحقائق التي لها مراتب كثيرة جدا ، فأولى مرتبته أن يكون الداعي على إتيان العمل هو الله تعالى ، وأقصى مراتبه ما تنتهي إلى حبه تعالى وفي هذه المرتبة أيضا درجات غير محدودة حتّى ينتهي إلى ما أثبتوه من الفناء في الله الذي هو عين البقاء بالله تعالى. وبالجملة أصل الحقيقة وجدانية عملية ، لا ان تكون قولية بيانية ؛ فكم من حقائق تقصر الألفاظ عن بيانها وإن كثرت والعبارات عن شرحها وإن تعددت.

والمعنى إنّ التفاضل يأتي من ناحية الأعمال فكل امرئ رهين عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والمدار على الإخلاص ، وفيها تعريض لهم بعدم الإخلاص لهم.

والآية من الآيات التي تبين كيفية رد من يخاصم الإسلام سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم ، ونظير الآية المباركة بوجه أبسط من المقام قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [سورة الشورى ، الآية : ١٥] وهذه الآية شارحة لجميع الآيات الواردة في هذا السياق.

والمستفاد منها أن منشأ النزاع والتخاصم مع دين الإسلام إما أن يرجع إلى المبدأ ، أو إلى المعاد أو إلى أحقية دين الإسلام ، أو إلى جهات أخرى دنيوية. وجميع ذلك غير مقبول بالنسبة إلى الإسلام.

أما الأول : فإذا كان المعادي من لا يعترف بالمبدأ فلا بد له من الرجوع إلى الأدلة العقلية والبراهين الساطعة التي يثبت بها المبدأ ؛ وقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).

وأما الثاني : فلأنّ إثبات الجزاء للأعمال يستلزم الاعتراف بالمعاد ، لأن العمل لا يعقل بدونه بعد الإعتقاد بالمبدإ فهما متلازمان ثبوتا وإثباتا ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وهو من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.

وأما الثالث : وهو أحقية الإسلام ـ ويندفع بالآيات البينات والمعجزات الباهرات ، وإليه يشير قوله تعالى : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ).

وأما الرابع : وهو الأغراض الدنيوية كالتي يدعيها اليهود والنصارى فإخلاص دين الإسلام لله عزوجل ينفي ذلك كله ، إذ لا معنى للدين الخالص الا ما كان له تعالى ، فكل ما سواه باطل خصوصا ما يتعلق بمعبوديته وعبادته.

قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى). بيّن تعالى حجة أخرى لإبطال دعواهم بأحسن بيان وأتم حجة أي : أتقولون إن إبراهيم (عليه‌السلام) وأولاده وأحفاده كانوا هودا أو نصارى ، وأن اليهودية أو النصرانية هما المرضيتان عند الله ولا

ينجو أحد إلّا بهما وأن ما عداهما كفر وضلال؟!! : كيف وقد كان إبراهيم (عليه‌السلام) وأبناءه وأحفاده على الملة الحنفية المرضية ـ التي بدأت بخليل الرحمن وختمت بسيد المرسلين ـ الداعية إلى أصول المعارف الإلهية في المبدأ والمعاد. والأحكام الشرعية ، والبداهة والبرهان تدلان على كذبهم ، وأن اليهودية والنصرانية إنما حدثنا بعد إبراهيم (عليه‌السلام) وأولاده وأحفاده بقرون ، وهذا ادعاء باطل ، قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٥]. إلّا إذا ادعوا أنهم كانوا شهداء حين حضر هؤلاء الأنبياء الموت فأوصوا لأعقابهم بالتهود والتنصر ، وهذا كسابقه باطل ، ولذا رد عليهم سبحانه.

وفي قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ) توبيخ وتعيير لهم بابطال جميع محتملات كلامهم ثم إظهار ما هو الحق.

و «أم» متصلة ومعادلة لما قبلها أي : إن كانت المحاجة في الله تبارك وتعالى فأنتم والمسلمون تعترفون بأنه تعالى رب الكل. وإن كانت في أن إبراهيم (عليه‌السلام) وأولاده وأحفاده كانوا هودا أو نصارى ، فهو خلاف الوجدان والبرهان ، لأن التوراة والإنجيل نزلا بعد إبراهيم بقرون. وأن الله هو الجاعل للنبوة لإبراهيم وأولاده وأنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم.

قوله تعالى : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ). أي : أنتم أعلم بالواقع مع ادعائكم الباطل أم الله الذي أخبر بأن إبراهيم كان حنيفا وأنه ارتضى لكم ملته؟! أو أن أولاده رضوا بعبادة الله إلها واحدا. كما عرفت ، وأنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم. ولا ريب في أنهم يعترفون بالثاني فيكون ادعاؤهم باطلا.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ). كتم بمعنى ستر ، وكتم الشهادة أي سترها. وهو وشهادة الزور من المعاصي

الكبيرة. والمراد من الشهادة في المقام شهادة التحمل ، كما هو الظاهر ، فيكون التوبيخ والتعيير حقيقيا لأجل كتمان الواقع وإيقاع النفس في الكبيرة الموبقة والهلاك الأبدي ، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٢١] ، وقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) [سورة الزمر ، الآية : ٣٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

والمراد بالمشهود عليه إما رسالة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وقد أخبر الله تعالى اليهود بأنه يقيم لهم نبيا من إخوتهم ويجعل كلامه في فيه ، كما أخبر المسيح برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ، وقد كتموا هذه الشهادة تعصبا وإنكارا للحق. أو الشهادة بأن إبراهيم (عليه‌السلام) كان على دين الحق والإسلام والملة الحنيفية ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، وقد كتموا الشهادتين ظلما.

ومن المحتمل أن يكون المراد شهادة الأداء أي من أظلم من الله لو كان قد كتم الشهادة على أن إبراهيم (عليه‌السلام) كان يهوديا أو نصرانيا ، وقد بيّن خلافها ، فيكون الشرط تقديريا ، ويصح مثل هذا التعبير في المحاورات حتّى مع امتناع المتعلق ، كما في جملة كثيرة من القضايا الشرطية وما في سياقها. ويكون المراد من مثل هذا التعبير هو إيهام الطرف بأن كتمان الشهادة من الظلم القبيح ، وفيه من المفسدة العظيمة ولا سيما إذا كانت الشهادة في المعارف الإلهية والأمور الدينية فيكون أظلم ، ولذا أوعد عليه تبارك وتعالى.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). تقدم معنى الغفلة في آية (٧٥) من هذه السورة. وقد ذكرت هذه الكلمة في القرآن العظيم كثيرا ، قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٩٣] ، وقال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٩] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. وبعد فرض إحاطته تعالى بما سواه إحاطة ربوبية قيومية تستحيل الغفلة بالنسبة إليه جل شأنه ، لأنه من الجمع بين

النقيضين ، فالغفلة منه ممتنعة وتقع من عباده بالنسبة إليه تعالى ، ولها مراتب كثيرة جدا. هذا ولكن ليس من القبيح عقلا ولا شرعا غفلته تعالى عن سيئات عباده ، وهي في الحقيقة ترجع إلى تغافله تبارك وتعالى عنها.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). تقدم معناها وإنما كررت تأكيدا لسوء أخلاقهم ، وبيانا لعدم اقتداء الخلف بالسلف الصالح ، فكانت إحدى الآيتين بالنسبة إلى أصل الحدوث لطائفة ، وهم الأنبياء والرسل ، والأخرى كانت ناظرة إلى البقاء بالنسبة إلى طائفة أخرى ، أي : أنهم يسألون عن أعمالهم مع هذا الدين الجديد ومعاملتهم مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والآية المباركة تشير إلى إنكار رذيلة الاستكبار عن قبول الحق والإصرار على الباطل ، والافتخار بالدعاوى التي لا واقع لها ، والتعلل زورا بمن مضى. وفي تكرارها تأكيد أيضا إلى ارتباط السعادة بالعمل الصالح الذي أكد القرآن الكريم عليه ، فكل يجزى بعمله ، ولكن ذلك لا ينافي ثبوت أصل الشفاعة كما لا دل عليها ، فان انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا والآخرة مما لا ريب فيه عقلا وشرعا فالمقام كالآيات الشريفة الدالة على عدم تملك نفس عن نفس شيئا ؛ قال تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [سورة الإنفطار ، الآية : ١٩] التي لا تنفي الشفاعة ، وسيأتي الكلام في الشفاعة مفصلا إن شاء الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

مما تتضمنه الآيات السابقة كيفية المحاورة والمجادلة مع الخصم ومحاجته ، فقد أقام سبحانه وتعالى أربع حجج على بطلان ما ادعاه أهل الكتاب بأسلوب يقبله الطبع السليم متدرجا من ما هو المتسالم عند الخصم ، ثم إلزامه بنتيجة مدعاه ، ثم تلقينه بما أراده سبحانه. وللقرآن الكريم منهج رفيع في احتجاجاته ومراعاة الأدب الكامل في هذه الجهة ؛ وملاحظة مدركات الخصم كمية وكيفية ، ثم الترقي من الداني بأسلوب رصين ، قال

تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٥]. وقد شرحت السنة المقدسة تلك الجهات قولا وعملا ووضع أهل الفلسفة العملية في ذلك كتبا ورسائل نافعة من المسلمين وغيرهم.

ومن تأكيد القرآن الكريم على مراعاة تلك الجهات يستفاد أنه لا بد للعلماء وأهل النظر من رعاية ما ورد في الكتاب والسنّة ، وما وضع في الفلسفة العملية في منهج التعليم والتربية ليكون ذلك داعيا إلى إقبال النّاس على العلم ، وأثبت في تكميل النفوس ؛ وأشد ربطا لقلوب المتعلمين بالمعلمين والمربين.

بحث روائي :

في تفسير العياشي في قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) قال الصادق (عليه‌السلام) : «إن الحنيفية هي الإسلام».

أقول : لأنه تبارك وتعالى أمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باتباع ملة إبراهيم ، فأصل الحنيفية جامع بين ملة إبراهيم (عليه‌السلام) ودين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ولو فرض اختلاف فهو جزئي بحسب اختلاف الظروف.

وفيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ما أبقت الحنيفية شيئا حتّى أن منها قص الشارب وقلم الأظفار والختان».

أقول : هذه الرواية ظاهرة في أن جميع المعارف الإلهية والأحكام التشريعية العملية داخلة في الحنيفية حتّى الجزئيات التي ندب إليها الشرع بالنسبة إلى التزيين والتطهير ، كما في الحديث الآتي ، فيكون قد ذكر الأدنى ليعرف أنّ شمول الحنيفية للأعلى بالفحوى.

وفي تفسير القمي قال : «أنزل الله تعالى على إبراهيم (عليه‌السلام) الحنيفية ، وهي الطهارة ، وهي عشرة أشياء ، خمسة في الرأس ، وخمسة في البدن. فأما التي في الرأس : فأخذ الشارب ، وإعفاء اللحى ، وطمّ الشعر ، والسواك ، والخلال. وأما التي في البدن : فحلق الشعر من البدن ، والختان ،

وقلم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطهور بالماء ، وهي الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم ينسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة».

أقول : قد ورد ذلك في عدة روايات عن العامة والخاصة ، ولكل ذلك آداب وشروط مذكورة في كتب أحاديث الفريقين وفقههم وطمّ الشعر جزّه ، أو قصه في مقابل الحلق ، ومنه الحديث : «ثلاثة من اعتادهنّ لم يدعهنّ : طمّ الشعر ، وتشمير الثوب ، ونكاح الإماء». وتقدم ما يتعلق به في الرواية السابقة.

وفي أسباب النزول في قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). قال ابن عباس : «نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها ، فقالت اليهود : نبينا موسى (عليه‌السلام) أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ؛ وكفرت بعيسى (عليه‌السلام) والإنجيل ، ومحمد والقرآن. وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان. وكفرت بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والقرآن ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا ، فلا دين إلّا ذلك ودعوهم إلى دينهم».

أقول : هذه شيمة كل من كان على الجهل المركب ، واعتقد بحسر شيء مع عدم التوجه إلى غيره.

وفي تفسير العياشي عن حنان بن سدير عن الباقر (عليه‌السلام) في الأسباط قال (عليه‌السلام) : «إنهم كانوا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا».

أقول : ومثله ورد في عدة روايات ، والحديث نص في كونهم أولاد الأنبياء لا منهم ، كما يدل على أن ما صدر منهم ليس منقصة لهم بعد تحقق التوبة منهم.

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله سبحانه : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). قال (عليه‌السلام) : «الصبغة هي الإسلام».

أقول : ورد ذلك في عدة روايات ، وتقدم ما يدل على ذلك.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ). قال (عليه‌السلام) : «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق».

أقول : هذا من باب التطبيق بالنسبة إلى بعض مراتب الصبغة ، فان لها مراتب كثيرة ، كمراتب الإيمان والإسلام ، وذلك لا ينافي عموم الآية المباركة بالنسبة إلى جميع أهل التوحيد.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) قال (عليه‌السلام) : «إنما عنى بذلك عليا وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الأئمة (عليهم‌السلام)».

أقول : رواه العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام). وهذا من باب التطبيق على بعض خواص أهل الإيمان فلا ينافي تعميمه بالنسبة إلى الجميع.

وفي الفقيه في وصايا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لابنه محمد بن الحنفية : «وفرض على اللسان الإقرار والتعبير عن القلب بما عقده عليه ، فقال عزوجل : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا».

أقول : الحديث في مقام بيان لزوم الموافقة بين مقام الإثبات ومرحلة الثبوت ، فإن الأول يعرف باللسان والبيان ، والثاني بالاعتقاد وعقد القلب.

بحث فلسفي :

قد شاع بين الفلاسفة والمتكلمين أن الذاتي غير قابل للتغيير والتبديل ويعتبرون ذلك من القواعد المسلّمة بينهم. وكلامهم هذا يشمل كلا قسمي الذاتي أي : ما هو داخل في الذات ، كالجنس والفصل. وما هو خارج عنه

ولازم للذات ـ المصطلح بذاتي باب البرهان ـ أي لازم الماهية ، كالزوجية للأربعة. وتكرر في كلمات ابن سينا «أنه ما جعل الله تعالى المشمش مشمشا بل أوجده». والأصل في هذه القاعدة يرجع إلى عدم إمكان الجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها ولوازمها ، وأطالوا القول في ذلك بإيراد شواهد ومؤيدات.

والحق أن يقال : إن ذلك وإن كان صحيحا في الجملة بالنسبة إلى الجعل والقدرة الإمكانية لأنها هي التي تقع مورد الإدراك الإنساني والفهم البشري.

وأما أنّها كذلك حتّى بالنسبة إلى القدرة الأزلية التي غاية ما يمكن دركها للعقول إنما هي نفي العجز عنه تعالى ـ كما في الحديث ـ فهو تعالى قادر أي : لا يعجزه شيء ، ولا يصح قياس ما هناك على ما نتعقل إلّا أن يكون تحديدا في قدرته على ما نتعقله ، وهو مناف لعموم قدرته وقيموميته تعالى من كل حيثية وجهة ، وفي الحديث : «هو الذي أين الأين ؛ وكيف الكيف». وفي حديث آخر : «إن الله تعالى مجسّم الأجسام وموجدها».

إن قلت : بعد ما ثبت استحالة الجعل التأليفي ، فكلما ورد من مثل هذه الأحاديث لا بد من حملها وتأويلها. فإن قدرته لا تتعلق بالمحال ، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قلت : الاستحالة إن كانت من البديهيات الأولية ، فلا بد من الحمل أو التأويل ، كما ورد في حديث جعل الدنيا في البيضة. وإن كانت من النظريات القابلة للبحث والجدل ، فقدرة الله تعالى تكون فوق ذلك كله.

وبناء على ذلك يمكن أن تدخل صبغة الله تعالى وفطرته ، والسعادة والشقاوة تحت قدرته ؛ بل هي ليست من الذاتيات الأولية ، ولا من لوازم الذات حتّى تقع مورد النقاش ، وإنما هي أعراض خارجة عن الذات لها دخل في الذات على نحو الاقتضاء ، لا العلية التامة المنحصرة ، وإلّا لطرأ البطلان على جملة كثيرة من مسائل المبدأ ، والمعاد ، كما سنبينها في المباحث المستقبلة إن شاء الله تعالى. وفي بعض كلمات الأقدمين من فلاسفة اليونان أن القيوم المطلق : «مذوت الذوات».

ويمكن الجمع بين شتات الكلمات أن القاعدة التي أسسوها من عدم إمكان الجعل التأليفي بين الذات وذاتياته. أي في مورد الجعل الاستقلالي ، وأما الجعل التبعي فلا محذور فيه من عقل ، بل قد وافقه النقل ، وللمقام تفصيل يطلب من محله.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥))

هذه الآيات المباركة والتي تتلوها وردت في تشريع أهم جهات وحدة المسلمين وهي وحدة قبلتهم ، ومن كثرة أهمية ذلك أكّد سبحانه وتعالى عليها بتعبيرات مختلفة هي بمنزلة البرهان والدليل على ثبوتها ، وبيان جهات إثباتها ، وهي من حيث كونها محاجة مع أهل الكتاب ترتبط بالآيات التي قبلها بعبارات متسقة ، ونظم بليغ.

التفسير

قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ). السفه : هو الخفة والضعف والرداءة ، سواء أكان في الجسم ، أم في النفس ؛ يقال : ثوب سفيه ، أي خفيف النسج ورديئه ، وشخص سفيه أي ضعيف العقل. وسواء أكانت السفاهة في الرأي أم في الأخلاق ، أم كانت في الدين أم الدنيا أم

فيهما معا ، يقال : سفه حلمه ورأيه ونفسه. والمراد بهم هم الذين خفّت حلومهم وأعرضوا عن الفكر والنظر ، فاعترضوا على الدين من دون علم بحقائق الأمور ، وهم المنكرون على تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين.

قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها). التولي : الصرف ، والعدول عن الشيء. وهو من الصفات ذات الإضافة التي تختلف باختلاف المتعلق ، فإن قيل : تولى عنه يكون بمعنى الإدبار. وإن قيل : تولى إليه يكون بمعنى الإقبال.

والمعنى : انه سيقول السفهاء الذين ضعفت عقولهم واعترضوا على تحويل القبلة ماذا جرى للمسلمين ان يصرفوا عن قبلتهم التي كانوا عليها ـ وهي بيت المقدس ـ التي كانت قبلة الأنبياء باعتقادهم؟!.

والمقام ـ أي تقديم الإخبار على الاعتراض ـ من العتاب قبل الجناية ، وهو من المحسنات البديعية ، وله فوائد كثيرة : منها توطين النفس ، وتقليل التأثير ، لأن المفاجأة بالمكروه أشد إيلاما من غيرها. ومنها : الإعداد للجواب عن المعترض ومقابلته بالاحتجاج وتلقين الحجة ، فيكون أقطع. ومنها : بيان أن المعترض متصف بالسفاهة ذاتا من دون أن يكون للاعتراض دخل في ثبوتها. ومنها : أن الوقوع بعد الإخبار معجزة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). هذا هو الدليل لتحويل القبلة وتبديلها ، فإن من بيده أزمة أمور التكوين والتشريع وله الحكمة البالغة في جميع الأشياء ، وإنّ الجهات بجميعها له تعالى ، فلا تحويه جهة خاصة. وإنّ استقبال إحدى الجهات من الأمور التعبدية يجريه بحسب الحكمة والمصلحة ، فليس اعتراضهم على تحويل القبلة إلّا من السفه.

ولا بد أن يكون سبب اعتراضهم هذا أحد أمور كلها باطلة ، فإما أن يكون قد زعموا أنّ الله تعالى تحويه جهة خاصة ، وهي بيت المقدس بحسب زعمهم ، أو أن بعض الجهات تستحق الاستقبال لما فيها من الآثار دون

غيرها ، أو للعصبية التي عندهم وإعلام النّاس بأن قبلتهم أحقّ أن تتبع من غيرها. وهذه الأمور كلها سببها الجهل بالحكمة الإلهية ، واتباع الهوى.

قوله تعالى : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). هذه الآية تعليل للتغيير والتحويل من ان المحول اليه هو الصراط المستقيم ومن مورد مشيته الأزلية في هدايته وتقدم في سورة الحمد تفسير كل من الهداية والصراط المستقيم ، فراجع.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). لفظ (كذلك) إشارة إلى ما مضى من جعل هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم ، وهو قرينة لتعيين معنى الوسطية في الجملة ، كما يأتي ، والجعل : الإيجاد ، والخلق ، والتقدير ، وقد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يربو على مائة وخمسين موردا ، مجردا تارة ، كقوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٧] ، ومضافا إلى ضمير الخطاب ، أو الغيبة أو غيرهما أخرى ؛ كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٥] ، وفي الجميع يدل على عظمة الجاعل وجلاله وكبريائه. والجعل في المقام تشريفي تعظيمي ، كما يقتضيه كل جعل يتعلق بالشاهد الأمين.

والأمة الجماعة ، وهي من الألفاظ الإضافية تقع على الكثير والقليل والأقل ، وسياق الآية المباركة بقرينة سائر الآيات الشريفة يدل على أن المراد بها في المقام هو الأخير ، كما ستعرف.

والوسط معروف ، فإن أضيف الى ما هو متصل ـ كالأجسام ـ أو ما هو منفصل ـ كالأعداد ـ يكون معيارا لتعيين الطرفين ، وإن أضيف إلى المعنويات يكون معيارا لتمييز مرتبتي الإفراط والتفريط ، وعليه تبتنى الفلسفة الأخلاقية.

وتفسيره بخيار الشيء ، أو الصلاح والعدل ، والاستقامة والإستواء لا بأس به ، فإن هذه الألفاظ وإن كانت لها مفاهيم متعددة لكنها مظاهر لشيء واحد في الواقع ، وفي النفس الإنساني. وذلك لأن الوسط هو المتوسط بين جانبي

الإفراط والتفريط المذمومين ؛ ومن جوامع كلمات نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خير الأمور أوساطها». ولأجل ذلك فسر الوسط في الأخبار بالعدل ، ومن المعلوم أن العدالة ـ التي هي من أهم كمالات النفس ـ هي المرتبة الوسطى بين مرتبتي الإفراط والتفريط من الملكات النفسانية.

وإذا كان معنى الوسط هو الخيار والعدل ونحو ذلك ، فهل تكون جميع الأمة ، كذلك ، أو أنّ المراد منها بعض الأمة فقط؟ ذهب جمع من المفسرين إلى الأول ، وقال إن المراد بالأمة هم المسلمون جميعا ، فإن الإسلام قد جمع الله فيه بين حق الروح ، وحق الجسد ، فهي روحانية جسمانية ، فليس المسلمون من أرباب الغلو في الدين المفرّطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرطين.

ولكن الحق أن يقال : إنّ الخطاب موجه إلى البعض فقط ، ولا يمكن شموله لجميع المسلمين ، وذلك لعدة أمور :

الأول : إنه من المعلوم أن الله تعالى قد ذم أكثر الأمة في آيات كثيرة تارة : بأنهم لا يعقلون ؛ وأخرى : بأنهم لا يعلمون ، وثالثة : بأنهم لا يشكرون ، ورابعة : بأنهم لا يؤمنون ، وخامسة : بأن أكثرهم الفاسقون ، أو أكثرهم يجهلون ، أو أن أكثرهم ، للحق كارهون. ومن كان هذه حاله كيف يمكن أن يتصف بالخيار والعدل وكونهم شهداء على النّاس.

الثاني : إنّ المراد بالشهادة في الآية الشريفة ليست الشهادة الجسمانية ـ تحملا وأداء ـ بل الشهادة الحضورية المعنوية على أعمال الجوارح والجوانح إحاطة حضورية من الله تعالى في مقام التحمل في الدنيا ، وفي مقام الأداء في الآخرة ، ويستلزم ذلك إحاطة الشاهد إحاطة معنوية من قبل الله تعالى ، ولا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة كل أحد مع ما هم عليه ، فمثل هذه الشهادة تختص بالأقل من أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله). فالشهادة مما تختلف باختلاف العوالم ، وإنّ الشهادة على الأمور الظاهرية الدنيوية شيء ، وهي بالنسبة إلى النشأة الأخرى شيء آخر.

الثالث : إنه يستفاد من لفظ الوسط ـ بأي معنى لوحظ ـ اختصاص الأمة

بالبعض دون الجميع.

الرابع : إنّ سوق الآية المباركة في سياق قصة إبراهيم (عليه‌السلام) ، واختصاص قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٨] بالبعض ، ثم جعل الشهادة في سياق شهادة الرسول كل ذلك يدل على أن المراد بالأمة قسم خاص منها.

الخامس : إنّ شهادة الفرد في الدنيا تحتاج إلى قيود وشروط في الشريعة ، وإلّا فلا تقبل شهادة كل فرد ، فإذا كانت هذه حال الشهادة على الفرد ، فكيف تكون الشهادة على النوع في النشأة الآخرة فهل تقبل بلا قيد وشرط؟!!.

السادس : لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا بعرض أعمال الناس على الشاهد من قبل الله تعالى ، وإلّا فلا يمكن أن يتحقق التحمل فلا يترتب الأداء في النشأة الآخرة. ومن يعرض عليهم أعمال النّاس عدة مخصوصة ، كما ورد في نصوص كثيرة. وبالجملة : أنه لا بد للشاهد على نوع البشر يوم الحشر الأكبر من اطلاعه على صحة أعمال الخلق وفسادها ، والتمييز بين جيدها ورديئها ، وذلك لا يكون إلا في طائفة مخصوصة.

إن قيل : إنّ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ١٩] يعم جميع الأمة بلا اختصاص له بطائفة ، فليكن المقام نظير هذه الآية المباركة أيضا.

يقال : إنه لا ربط للمقام بالآية الشريفة المتقدمة ، فإن المقام في الشهادة على النّاس ، والآية المتقدمة في مقام بيان أن للمؤمن مرتبة الشهادة عند الله تعالى ، وهما مختلفان ، وقد ورد في جملة من الأخبار : «أنّ المؤمن شهيد ولو مات في فراشه».

ومن ذلك كله يعرف أن الآية المباركة لا تشمل جميع الأمة. وما ذكره بعض المفسرين لا شاهد له لا من عقل ولا نقل ، بل هو معترف في ضمن

كلامه بأن المراد بالوسط من كان متبعا لشريعة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانه هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط فاقتصر على الأمة التي تكون متبعة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلّا فليس كل أحد انتحل الإسلام دخل في الآية الشريفة.

وأما إذا كان مراده من تعبيره شرح دين الإسلام من حيث أنه حائز للمرتبة الوسطى بين الجسمانية المحضة والروحانية الصرفة مع قطع النظر عن المتدين به ، فلا ريب في كونه حقا ولكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

وربما يتوهم أن مقتضى إطلاق الآية المباركة وكونها وردت في مقام الامتنان هو التعميم لجميع الأمة. ولكنه باطل ، فإن المراد بالوسط هو الحقيقي منه ، كما في نظائره من الصفات ـ كالإيمان ، والخير ، والصلاح ، والعدل ، والصدق ونحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم ـ دون مجرد الإطلاقي الظاهري ، وذلك لا يتحقق إلّا في المسلم الحقيقي المتصف بحقيقة الإسلام حتّى يكون مفخر الأنام وشاهدا يوم الحساب ، ولا امتنان في جعل من لا يعرف من الإسلام إلّا اسمه ، ومن الدين إلّا رسمه ، ولا يعلم من القرآن حتّى درسه شهيدا بين الأمم ، ولا أظن أحدا يرتضي ذلك.

ثم إنّ جعل الله تعالى الأمة وسطا يتصور على أقسام :

الأول : أن يكون من مجرد الجعل التكويني الذي لا اختيار للعبد فيه ، كسائر مجعولاته التكوينية ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [سورة الاسراء ، الآية : ١٢] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة مما هو كثير في القرآن.

الثاني : الجعل الاجتماعي الانتظامي المشوب باختيار العبد في الجملة كقوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣] وقوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٦].

الثالث : الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه وبين الله تعالى ، وهذا القسم كثير في القرآن الكريم أيضا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤].

والجعل في المقام من هذا القسم ، حيث أن أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هم الوسط في جميع المعارف والكمالات النفسية ، ودينهم هو الحد الفاصل بين الروحانية البحتة والمادية الصرفة ولأجل ذلك صاروا شهداء على النّاس جعلا تفضليا ، ولكنه يستلزم الجعل التشريعي الإلهي في المعارف والأحكام وسائر الكمالات النفسية ، إلّا أن ذلك لا يستلزم كون جميع الأمة شهداء ، وتوجيه الخطاب إلى النوع وارادة الصنف شايع في المحاورات العرفية لأغراض ومصالح ، والقرآن ورد على هذا الطريق المحاوري المقبول ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٣] وغيره مما يكون فيه الظهور الاستعمالي العموم ، والمراد الحقيقي هو الشخصي الخارجي ، كما أن عكسه أيضا صحيح ووارد في القرآن الكريم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١] وليس ذلك من المجاز في شيء ، كما أثبتناه في الأصول ، بل هو من شؤون البلاغة والفصاحة لإفادة فوائد مختلفة.

قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). إنما جيء بلفظ «على» لبيان الإحاطة والاستيلاء لجميع أعمال المشهود عليهم جليّاتها وخفياتها ، فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الحجة الإلهية بالنسبة إلى عباده ، لأنه الفرد الأكمل في الكمالات الإنسانية والمعارف الإلهية. وتشمل الآية المباركة جميع أنحاء شهاداته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كشهادته بالإبلاغ وإتمام الحجة ، وشهادته لبعضهم بالإطاعة وعلى الآخرين بالمخالفة ، وشهادته على أمته بالاستقامة والانحراف ، فهو الشاهد على جميع أمته في عالم الجمع.

وذكر شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة من قبيل ذكر العلة بعد ذكر المعلول ، يعني تكونوا شهداء على الناس ، لأن الرسول شهيد عليكم بأنّكم

تتصفون ـ علما وعملا ـ بما علمكم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وقد شرح سبحانه هذه الآية شرحا وافيا في آية اخرى قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [سورة الحج ، الآية : ٧٨]. فجعل المناط في الشهادة على الناس وشهادة الرسول عليهم المجاهدة في الله حق جهاده ، فيصير بعد رد شارحها إلى مشروحها ، ومفصلها إلى مجملها هو أن الشهادة على الناس إنما تكون بالمجاهدة في الله والاعتصام به جلت عظمته وكل من كان كذلك فقد اجتباه تعالى ، ولا يكون ذلك إلّا في عدة مخصوصة ، وهي مورد دعوة إبراهيم خليل الرحمن ووصاية الأنبياء من بعده ، وأهم مقاصد خاتم الأنبياء في تشريع شريعته.

ومن ذلك يعلم أنّ مقام مثل هذا الشاهد الذي يحتمل شهادة اعمال الخلائق في الدنيا وأداءها كاملة في العقبى من أجلّ المقامات وارفعها ، إذ لا بد أن يتصف بصفات عالية ويرتقي إلى درجات الكمال حتّى يصل الى هذا المقام ، ويتسم بوسام العلم ، كما قال تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [سورة الكهف ، الآية : ٦٥] ولا يليق بذلك الا الأخص من الخواص ، كما عرفت.

والخطاب لجميع الأمة تشريفي بمقتضى السير الاستكمالي في البشر حيث يقتضي أن تكون أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشرف الأمم وأرفعها ، ونفس هذا السير التكاملي يقتضي أن يكون في هذه الأمة صنف خاص ، وطائفة مخصوصة هي أشرفها وأعظمها ؛ فيكون المراد من ذكر الكل هو البعض وهو شايع في المحاورات ، وقد تقدم في قوله تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٢] أنّ التفضيل باعتبار خصوص أنبيائهم لا جميعهم.

وبذلك يظهر الجواب عما يتوهم من أنّ الوسطية لا تختص بامة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، بل قد تتحقق في جميع الأمم الماضين ، بل مقتضى قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١٣] أنها فيهم أكثر ، فلا تكون الشهادة منحصرة في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو في بعضهم. فان السير التكاملي يقتضي أن يكون خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشرفهم ، وقد برهن بالبراهين الكثيرة أن مقامه مقام جمع الجمع ، جامع لجميع مقامات الأنبياء مع الزيادة عليها التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى ، فهو بدء الخلق وغاية التكوين.

كما أن شرف ورفعة كل أمة بنبيها فتكون أمته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشرف الأمم ، وشريعته أكمل الشرايع الإلهية وأتمها ، فيصير العاملون بها شهداء الخلق ، للارتباط بين الغاية وذيها تكوينا ، والواسطة في الإفاضة وذويها طبعا ، فلا يبقى مجال بعد ذلك لغيرهم الذين هم دونهم في الدرجة. وفي الحديث انه قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إن لواء الحمد بيدي وآدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة».

وربما يتوهم أيضا أنه لا فائدة في هذه الشهادة ، لأنّها إما في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا. أما الشهادة في الدنيا فليس لها أثر ؛ وأما في الآخرة فلا فائدة فيها بعد كون اليوم يوم ظهور الحقائق وبروزها يوم تبلى السرائر ، والإشهاد إنما هو لإبراز المخفيات لا ما هو ظاهر للعيان.

الجواب إنّه يقال : إنّ الإشهاد فيهما معا ، أما الإشهاد في الدنيا فلأجل بيان أن له العمل. وأما في الآخرة فلابطال ما يعتذر به العبد ، وبذلك تتم الحجة عليه ، فالشهادة متحققة في المعاد حتّى يقع الخلود في الجنّة أو في النار ، فإن كل قضية كثرت اهميتها كان الإحتجاج عليها أشد ولا قضية مطلقا في عالم الوجود أهم من الخلود فانه من أهم قضايا المبدأ والمعاد ، وأهم ما يتعلق بأصل العبودية والربوبية العظمى فلا بد من إتمام الحجة لتمييز الأخيار من الأشرار ، وأهل الجنّة من أهل النار ، وبذلك تتم الحجة في الدارين لئلا يكون للنّاس على الله حجة.

ومن ذلك يعلم أنّ الشهادة ليست قولية فقط ، بل يحتمل أن تكون تكوينية أيضا ؛ والمراد من الأخيرة هي : أن أمة الإسلام بالمعنى المتقدم هي بنفسها تكوينا تكون بارزة بحقائقها ومعارفها وأحكامها وتشهد على جميع الأمم والأديان ، كما تشهد الجوهرة النفيسة بين جملة الأحجار أن ليس للأخيرة شأن مقابلها ، أو شهادة المؤمن الكامل الإيمان والمعرفة بنفسه على سائر الأفراد بأن ليس لهم شأن ، وانه على الصراط المستقيم ، وأن ما سواه على غير الصراط فيكون ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية.

ثم إنه يستفاد من الآيات الشريفة والروايات الكثيرة أنّ الشهداء على الخلائق في يوم المعاد لا تنحصر بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأمته ، فإن الله تبارك وتعالى أحد الشهداء على بريته ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣١] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥] ، وقال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة يونس ، الآية : ٦١]. ولا معنى لقدرته التامة ، وحكمته البالغة ، وقيمومته المطلقة إلّا ذلك.

ومن الشهداء الملائكة ، قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [سورة ق ، الآية : ١٨].

كما أنّ منهم جوارح كل فرد من أفراد الإنسان ، قال تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النور ، الآية : ٢٤].

ومنهم الأنبياء ، قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩].

ومن الشهداء القرآن ، والزمان ، والمكان وغير ذلك مما يأتي شرح ذلك كله في مباحث الحشر والنشر.

والإشكال على شهادة هؤلاء الشهداء ، بأنها بدون فائدة بعد قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٠] ، وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزال ، الآية : ٨]. وبعد العيان لا وجه للشاهد والبيان ، مع أن جميع الممكنات بجميع أطوارها وشؤونها ، وتمام جهاتها وجزئياتها تحت قدرته المطلقة وقيمومته المهيمنة عليها فلا وجه للإشهاد والشهود. فاسد ، يظهر الجواب عنه مما تقدم من أن ذلك كله لرفع الجحد ، وإتمام الحجة حسب اختلاف الاستعدادات في النفوس.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ). القبلة من المقابلة ، ومفهومها قائم أولا بمن يستقبل غيره ، فهي الحالة التي يكون عليها المقابل ـ كالجلسة التي هي حالة الجلوس ـ ثم شاع استعمالها في نفس الجهة التي يستقبلها النّاس في الصلاة. ولم ترد هذه الكلمة في القرآن إلّا في آيات تشريع القبلة وتحويلها ، وفي قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [سورة يونس ، الآية : ٨٧].

ومادة (ع ق ب) تشتمل على معنى التأخر في الجملة ، ومنه إطلاقها على مؤخر الرجل ـ إذا كان بفتح الأول وكسر الثاني وسكون الأخير ـ وعلى الأولاد والأحفاد لتأخرهم بالنسبة إلى الآباء ممن تقدمهم ، قال تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [سورة الزخرف ، الآية : ٢٨] ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، والجميع كناية عن الإدبار والإعراض. وأما ما ورد في الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ويل للأعقاب من النار» فهو كناية عن عدم التحرز والتنزه عما كان يصيب مؤخر الرجل من رشاش البول وغيره مما يضر بالطهارة المشروطة بها الصّلاة وبيان ذلك مذكور في كتب الفقه.

والآية لبيان بعض الحكمة في جعل القبلة التي كان عليها الرسول قبل

تحويلها إلى غيرها ، وذلك للتمييز بين متابعي الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والثابت على إيمانه عن مخالفيه ومن لاثبات له على الإيمان فارتد على أعقابه ، لأن تحويل القبلة إنما كان سببا لظهور طوائف : قوم هداهم الله تعالى فآمنوا بالرسول وثبتوا على إيمانهم ، وقوم ارتدوا على أعقابهم ، وقوم نافقوا في ذلك. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه الطوائف الثلاثة في هذه الآيات المباركة فأراد تعالى أن يميز بين تلك الطوائف ويتميز كل فريق عن صاحبه.

ومثل هذا التعبير ـ في قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) في المقام أو «ليعلم» في غيره ـ في القرآن كثير ، كما في قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [سورة الكهف ، الآية : ١٢] ، وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) [سورة محمد ، الآية : ٣١] ، وقوله تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٤] ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٦] ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥] إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن علمه أزلي قديم وعين ذاته ، ولا يتصور فيه التغيير والتجدد والوجه في هذه التعبيرات أحد أمور :

الأول : إنّ مقارنة علمه تعالى لوجود المعلوم أثر كبير في الزجر والتوبيخ ، أو البشارة عند الإنسان.

الثاني : أن يكون المراد بالعلم هو علم الوقوع والظهور ، وأن القضية الحادثة مطابقة لعلمه الأزلي ويترتب عليه الجزاء من الثواب والعقاب.

الثالث : إنّ التعبير بلفظ المستقبل إنما يكون لدفع شبهة الجبر وبيان أن العلم الأزلي ليس علة تامة لحصول المعلوم خارجا ، ولا يعتذر العبد بأنه لا يقدر على ترك الفعل ، لأنه يلزم الانقلاب في علمه.

الرابع : إنّه لبيان فائدة الإعلام إلى الإنسان بأنّ الله تعالى عالم بالأشياء.

الخامس : الجري على عادة العظماء حيث ينسبون حالات أتباعهم

منزلة شؤون أنفسهم ، ونسبة فعل الأتباع إلى النفس باب من أبواب البلاغة تترتب عليه فوائد وحكم كثيرة.

السادس : إتمام حجة الإختيار على المخاطبين ، وجميع هذه الوجوه صحيحة يمكن الاعتماد عليها في مثل هذا النهج من التعبير ، كما في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ) الوارد في أكثر من عشرين موضعا في القرآن الكريم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ). كبيرة أي عظيمة وثقيلة. وقد وردت مادة (كبر) في القرآن بهيئات مختلفة ، والكبير والصغير من الأمور الإضافية يتصف بهما جميع الجواهر والأعراض ، بل الاعتباريات أيضا ، كما هو معلوم. ويطلق الكبير على الله تعالى قال سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [سورة الرعد ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سورة الحج ، الآية : ٦٢].

والضمير في «كانت» يرجع إلى القبلة من جهة تحويلها أي : انه عظم أمر القبلة في تحويلها على أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم ممن لم يثبت على الإيمان إلّا أن الذين هداهم الله تعالى إلى دينه وهم الذين صدقوا الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وآمنوا به بحقيقة التصديق والإيمان لم يفرقوا بين القبلة الأولى المحول عنها والقبلة الثانية المحول إليها ، وأنهم يعلمون أن ذلك من أمر الله تعالى العالم بالمصالح والحكم ، والمبين لعبده ما لم يكن يعلم ، فاستسلموا لأمره وأطاعوا رسوله. وفي الآية إشارة إلى الطائفتين من الطوائف الثلاثة المتقدمة وهم المنافقون والمؤمنون.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). الضياع الهلاك والفساد ، والآية المباركة في مقام الجواب عما ارتكز في النفوس عن شأن الأعمال التي تقع على طبق الحجة السابقة إذا تبدلت إلى حجة اخرى ؛ فكان الجواب أنها صحيحة ومقبولة لدى الله تعالى ويجزي عليها بالجزاء الأوفى.

وفي الآية بشارة للمؤمنين وإيماء إلى أن أعمالهم إنما كان مبعثها هو الإيمان بالله تعالى والتسليم لأمره.

والقول بأنّ المراد من الإيمان ـ في المقام ـ هو الصلاة ، كما قال به جمع من المفسرين وورد به الحديث إنما هو من بيان أحد المصاديق وإلّا فإن سياق هذه الآية يدل على أن المراد به هو معناه المعهود. وقد ورد مفاد هذه الآية في عدة آيات أخرى ، قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٣٠].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). الرأفة أخص من الرحمة من جهتين : من كونها أشد من الرحمة ، ومن أنها لا تكاد تقع في الكراهة بخلاف الرحمة. وهما من أسماء الله الحسنى وغالب ما تستعمل الكلمة في الدعوات مع الرحيم. وقد وردت في القرآن الكريم كثيرا إما مقرونة باللام ـ كما في المقام ـ واما غير مقرونة به ، كقوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٧] وهذه الآية في مقام بيان العلة للحكم السابق أي : لا يضيع ، إيمانكم لأنه رؤوف رحيم. وإنما ذكر سبحانه الرأفة لتعميمها بالنسبة إلى العاصي والمطيع.

وقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ). مادة راى لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة. وفي مضارعها تحذف الهمزة مطلقا ، كما في المقام. وسعة استعمال الكلمة تعم الدنيا والآخرة بل الرؤيا وحتى الحيوانات. وتستعمل بالنسبة إلى الله جل شأنه ، قال تعالى : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٩٤].

والمعنى الجامع : هو الإدراك بما له من المراتب الكثيرة ، فيشمل علم الله تعالى وإدراكات المجردات وإدراكات القوى الحاسة الظاهرية والباطنية ، والوهم ، والخيال ، والتفكير والوجدان ، والعلم والظن كل ذلك بحسب مراتبها.

والتقلب التحول من حال إلى حال ، أو التردد المرة بعد المرة ، وسمي القلب قلبا لتحوله وتصرفه من حال إلى حال ، والمراد به في المقام تحويل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجهه المبارك في السماء من جهة إلى أخرى تطلعا للوحي وانتظارا لأوامر الله تعالى.

ويستفاد من الآية الكريمة أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان ينتظر تحويل القبلة وكان الله تعالى يعلم بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يرغب في قبلة جديدة.

قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها). أي سنأمرك باستقبال القبلة التي ترضاها ، ولذا قرنه تعالى بالأمر ، وقال عزوجل : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). ولا تختص التولية بتشريع الحكم ، بل المراد الأعم منه ومن تحقق التولية خارجا بواسطة أخذ جبرائيل (عليه‌السلام) بيد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتوليه إلى المسجد الحرام.

والآية الكريمة لا تدل على أن القبلة الأولى لم تكن مرضية لله تعالى ولا لرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأي وجه من الدلالات ؛ فإن إثبات الرضا في استقبال الكعبة لا ينافي ثبوت الرضا في استقبال البيت المقدس ما دام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يستقبله لمصلحة كما جميع التكاليف المنسوخة والمتبدلة لمصالح مختلفة ، بل يمكن أن يستفاد من ظاهر الآية أن القبلة الحقيقة هي الكعبة المقدسة التي هي مورد محبته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لأنها أقدم القبلتين وقبلة إبراهيم (عليه‌السلام) ومجمع العرب وملاذهم وأهم ما يفتخرون به فكان ذلك مورد خطور قلب نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومحبته وان لم يظهره على لسانه تأدبا مع ربه ، بل كان يردد وجهه الى آفاق السماء منتظرا لما هو المعلوم من إرادة الله تعالى.

وعليه يكون التوجه إلى القبلة الأولى من قبيل التكاليف الامتحانية والصّلاة إليها قبل التحويل ـ على فرض عدم تصادف الكعبة في البين ـ من الصلاة الاضطرارية التي تصلى الى غير القبلة لمصالح كثيرة ، منها المماشاة مع اليهود الذين هم ألدّ الخصام ، وجلب قلوبهم.

قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). الشطر يطلق على القسم المنفصل من الشيء ، أي النصف ، والجزء ومنه الحديث : «السواك شطر الوضوء» ، وقوله (عليه‌السلام) : «من أعان على مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله».

والمراد به هنا النحو والجهة. ولم تستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم

إلّا في تشريع القبلة إلى المسجد الحرام. وإنما ذكر المسجد الحرام ، لتوسعة الأمر ، وأن الاستقبال اليه طريق إلى استقبال الكعبة المقدسة ، وإلّا فإن القبلة هي الكعبة ، لنصوص متواترة بين الفريقين كما يأتي في البحث الفقهي.

قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). تعميم للمستقبلين في جميع أنحاء العالم بأن يولوا وجوههم نحو المسجد الحرام ، وتعميم أيضا لجميع الجهات خلافا للنصارى حيث يستقبلون جهة المشرق فقط.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). الحق يأتي لمعان متعددة ، منها الإيجاد ، والحكمة التامة ومطابقة الواقع ، وغير ذلك. وقد ورد في القرآن العظيم بالنسبة الى جميع المعارف من المبدأ والمعاد ، وصفات الباري عزوجل وأفعاله وتشريعاته المقدسة.

وعن جمع من أعاظم الفلاسفة أن الحق يقال للمطابق للمخبر عنه وللموجود الحاصل بالفعل ، والموجود الذي لا سبيل للبطلان اليه أبدا فهو تعالى حق من حيث ذاته وصفاته وأفعاله وجميع شؤونه ، وقد خصص بعض أكابرهم في شرح هذه المادة صفحات من كتابه الكريم وكلها تنطبق على المعارف الربوبية.

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعمأة مورد ، فسبحان الذي يكون هو أصل الحق ومنبعه ومرجعه. ولا حق غيره وما سواه باطل.

وقد عد الحق من أسماء الله الحسنى ، وينبعث شعاعه إلى جميع تشريعاته المقدسة. ولا يخلو الحق عن الحقيقة بخلاف الباطل ، ففي الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) : «على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور».

والمعنى : إنّ أهل الكتاب بعد التفاتهم إلى كتبهم المنزلة عليهم من التوراة والإنجيل ليعلمون أن كون الكعبة قبلة هو الحق من ربهم أو ليعلمون أنها قبلة إبراهيم (عليه‌السلام) المتفق بينهم أن ملته هي الحنيفية التي أمروا باتباعها.

وما ذكره جمع من المفسرين من إرجاع الضمير في قوله جلّ شأنه : (أَنَّهُ الْحَقُ) إلى دين الإسلام صحيح أيضا ، لأنه من باب بيان الكبرى ، وما ذكرناه بيان لإحدى الصغريات.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). الغفلة : تستعمل في عدم التحفظ على الشيء والاهتمام به ، ومثل هذا المعنى محال بالنسبة إلى العالم الحكيم المدبر على نحو الحكمة التامة البالغة ، لأن الحضور الفعلي الإحاطي من جميع الجهات مع الغفلة عنه خلف عقلا.

ويتصف بها الإنسان وتكون من أرذل صفاته التي تجعله في عرض الحيوان ، قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩]. ويتصف الزمان والمكان بها ، كما ورد في الأسواق ، وسيأتي عند قوله تعالى : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) [سورة القصص ، الآية : ١٥] بعض أزمنة الغفلة.

والمعنى : أنه لا يعقل الغفلة عن كليات الأمور وجزئياتها بالنسبة إليه تعالى. وفي الآية المباركة تهديد بالنسبة إلى مرتكب السيئات ، ويصح أن يراد بعدم الغفلة عدم الغفلة العملية ، أي : يجزي على الحسنات بالجنّة كما يجزي على السيئات بالنّار.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). الآية هي الحجة والبرهان الواضح وهي إنما تنفع لرفع الجهل البسيط ، وأما الجهل المركب فهو داء لا يقبل العلاج لا سيما إذا كان قرين العناد واللجاج خصوصا إذا كان المورد مما يصح نسبته الى الدين السماوي. وحينئذ يتضح الوجه في هذه الآية الشريفة ، ومضمونها دليل عقلي وجداني لا يختص بعصر التنزيل ، ولا بطائفة خاصة.

والمعنى : ولئن جئتهم بكل برهان وحجة على صدقك ما تبعوا قبلتك ، ولم يعترفوا بملتك ، فقد تمكن منهم الجهل وغلب عليهم العناد واللجاج بارتكابهم السيئات ، فلم يوفقهم الله تعالى للإيمان بك.

قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ). بعد ما أيأس سبحانه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من اتباعهم لقبلته أراد سبحانه وتعالى إياسهم من اتباعه قبلتهم بعد ما اتضح الحق ، وأن قبلته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أولى بالاتباع خصوصا بعد ما أمر بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام ، ولا وجه لمتابعة قبلة أوجب الله تعالى الانحراف عنها وأكد فيه التأكيد البليغ.

ويمكن أن يريد منه بيان بطلان أصل المتابعة ، لأنه بعد وضوح بطلان شيء كيف يعقل على العاقل الحكيم متابعته ، فيكون مفاد هذه الآية كالآية السابقة.

قوله تعالى : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ). أي أن أهل الكتاب على خلاف وعناد في أمور دينهم فلا اليهود تتبع قبلة النصارى ولا هؤلاء تتبع قبلة اليهود ، فإن كلّا منهما يرى قبلة صاحبه باطلة ، فكيف يتوجه إلى الباطل ويستقبله ، وقد أعمى الجهل بصيرته فلا يتبع ما هو صالح واقعا.

قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ). قضية عقلية برهانها معها ، أي : إنه إذا ثبت أنك على حق ـ كما هو الواقع ـ وكل من خالف الحق بعد ثبوته هو ظالم ، فانك لو خالفته لكنت من الظالمين. وقد ثبت في محله. أن صدق القضية الشرطية بصدق النسبة بين الطرفين لا بتحقق موضوعها في الخارج.

والخطاب موجه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تعظيما وتشريفا لأنه المشرع المسؤول عن الأمة في يوم المعاد ، وقطعا لأطماعهم بأنه لا يتبع أهواءهم ، وإلّا فحقيقة مثل هذه الخطابات العقلية تكون لجميع العقلاء في القرآن الكريم بلا اختصاص لها بأحد ، ولا بزمان دون آخر ، وإلى ما ذكرنا يشير ما ورد في الحديث : «أنّ القرآن نزل على طريقة إياك اعني واسمعي يا جارة». وفي الآية توعيد وتوبيخ لهم وتبكيت لهم بأنهم أصحاب أهواء

باطلة ، وأنهم ليسوا على العلم وأن ادعوه.

ثم إنّه لا بد من الاعتبار من مثل هذه الآيات فإن الخطاب بهذا النحو يكون لأشرف خلقه وأعلاهم مقاما عند الله تعالى وإنما أفرده بالخطاب مع ان المراد به غيره من أمته ، إعلاما بأن أمته لا بد لهم من متابعته وأن لا يؤثروا على الحق شيئا ، ولا يتبعوا أهواءهم ويطلبوا مرضات غير الله تعالى. وإيذانا بأن مثل هذا الذنب ـ وهو متابعة الهوى ـ من الذنوب التي لا تغفر ولو كان صادرا من أعلى فرد وأقربهم إلى الله عزوجل. وفي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد» ، والأخبار في ذلك متواترة ، والسيرة دالة عليه أيضا ، ويأتي التفصيل إن شاء الله تعالى بعد ذلك.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من مجموع هذه الآيات الشريفة أمور :

الأول : أنّ التعبير بالسفهاء في مطلع الآيات يشعر بأن أصل الاعتراض إنما نشأ عن السفاهة والجهل ، زعما منهم أن الحكم النوعي إذا حصل من الله عزوجل لا بد وأن لا يتغير ولا يزول ، وأن نسخه يستلزم الجهل ، وهذا هو الاعتراض الذي يبتني عليه إنكار النسخ عند اليهود ، وقد أوضحنا المقال فيه في ما تقدم من مباحث هذا الكتاب ، فراجع آية ١٠٦ من سورة البقرة.

الثاني : في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) إشارة إلى أنّ تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي إلى نقطة الجنوب.

الثالث : أنّ الوسطية صفة ممدوحة حسنة ، ولذا اختارها الله سبحانه وتعالى في القرآن دون غيرها من الصفات الحسنة ، ولا يتصف بها كل الأمة بالعيان والوجدان فإن جمعا منهم في طرف العصيان ، فلم تتحقق الوسطية بالدليل والبرهان.

الرابع : إنّ ذكر الوسط في الآية المباركة (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً

وَسَطاً) بنفسه قرينة على تخصيص الأمة بالبعض دون الجميع ، لأنه بأي معنى لوحظ ظاهر في التخصيص.

الخامس : لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا ، ولا يتحقق ذلك إلّا بعرض أعمال الناس ، والتمييز بين جيدها ورديئها على الشاهد من قبل الله تعالى. وإلّا فلا يتحقق التحمل فلا يترتب عليه الأداء. ومن يعرض عليه أعمال النّاس عدة خاصة ، للنصوص الكثيرة الدالة عليه ، وفي بعض النصوص : «هم اللب والأمة بمنزلة القشرة».

السادس : يظهر من هذه الآية (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) بضميمة قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف ، الآية : ٥١] نحو ملازمة بين الإشهاد على مبدأ الخلق والإشهاد في المعاد ، فإن من كان له الاستعداد لأن يشهد المبدأ ، شهودا علميا إفاضيا من الله تعالى له الاستعداد أن يشهد على أعمال الخلائق في المعاد.

السابع : أنّ في قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) إيماء إلى أن القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة والقبلة الأولى كانت من التكاليف الامتحانية أمر بالتوجه إليها لمصالح خاصة على ما تقدم ، كما يستفاد من ظاهر الآية المباركة أنها نزلت قبل تحوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى الكعبة ، وأنها بمنزلة الوعد ، ولذا قرنها بالأمر ، وقال جل شأنه : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

الثامن : أنّ في تخصيص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالخطاب في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثم تعميمه لجميع المسلمين في قوله تعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) نوع تشريف لمقام النبوة ، ولزيادة الاهتمام بالموضوع والتأكيد عليه ، بغية الإلفة والاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف.

التاسع : ربما استدل بعضهم بمثل هذه الآيات على حرمة التأمل في علل الأحكام والسؤال عنها ، لأنها تعبديات محضة ، والعقل قاصر عن الوصول

إليها ، ولا بد من الانقياد في جميع الأحكام.

وهذا الاستدلال على إطلاقه باطل لا وجه له ؛ والآيات المباركة أجنبية عن ذلك ، وما ذكره مخالف للآيات الكثيرة الآمرة بالتفكر والتعقل في ما يتعلق بالمبدأ ، والمعاد ، وتكميل النفس ، وفهم الأحكام ودركها من أهم وجوه تكميل النفس ، ولقد ذم سبحانه وتعالى قوما بقوله جل شأنه : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] ، وقد وردت في السنّة المقدسة نصوص كثيرة تبين المصالح والمفاسد والحكم الكثيرة للأحكام الشرعية وقد جمعها المحدثون من الفريقين في كتب مستقلة ممتعة ونافعة من شاء فليراجعها. فالسؤال عن الأحكام وعللها وحكمها صحيح ولا بأس به ، بل حيث عليه الشارع. نعم مثل هذا السؤال يكون على أقسام :

فتارة يكون السؤال لأجل التعليم والإعتقاد والعمل به. وأخرى : يكون لأجل العلم الإجمالي بأن الأحكام الإلهية تنشأ عن الحكم والمصالح بنحو الإجمال ، وهذان القسمان لا بأس بهما. وثالثة : يكون السؤال لأجل التشكيك به في الأحكام وتطبيق المصالح والحكم على ما يوافق الأهواء مما اكتشف في هذه الأعصار ، وهذا القسم باطل ، إذ أن المكتشفات تتغير بمرور الزمن ، واتساع رقعة العلم وتطبيق الحكم عليها يوجب التغيير في الأحكام والجرأة على ردها ، وهذا مما لا يرتضيه أحد ، والآيات الشريفة على فرض تمامية دلالتها تدل على هذا القسم.

العاشر : أنّ إضافة القبلة الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قوله تعالى : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) إضافة تشريفية وإلّا فالكعبة قبلة إبراهيم (عليه‌السلام) وقبلة جميع المسلمين : وفيه إيماء إلى أنه كان معهودا عندهم ، وفي بعض الأحاديث : «انه كان في بشارة الأنبياء لهم ـ أنه يكون بين صفاته كذا وكذا ـ وأنه يصلي إلى القبلتين».

الحادي عشر : إنما ذكر الوجه في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، وقوله تعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان وأجلها ، ولذا يطلق ويراد به الإنسان نفسه من باب

استعمال البعض في الكل ، لأهمية ذلك البعض أولا ، وتقوّم أكل به ثانيا ، والإضافة إلى الذات وسقوط سائر الإضافات ثالثا. وعليه فالاختلاف بين العلماء في معنى الوجه ليس اختلافا حقيقيا ، وإنما هو لأجل الكشف عن الذات ، فقول الفقهاء في الوجه في المقام بأن المراد به هو مقاديم البدن إنما ذكر بنحو الكشف عن الذات والنفس الذي هو قول الفلاسفة ، كما أن قول اللغوي فيه بأنه الجارحة الخاصة أي تلك الجارحة الحاكية عن الذات أيضا ، وليس المراد به الموضوعية الخاصة وإلّا كان لغوا وباطلا إلّا إذا دلت القرينة على أن المراد به الموضوعية الخاصة ، كما في آية الوضوء ونحوها. وحينئذ يصح أن يقال : بأن المراد بالوجه هو توجيه الأعضاء إلى أوامر الله تعالى الكاشف عن توجيه الذات إليها على نحو يسري الخضوع والخشوع على سائر الأعضاء من الذات الخاضعة ، وليس المراد هو توجيه الأعضاء فقط الذي يجل مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسائر عباد الله المخلصين عن ذلك ، وآية الوضوء وإن أخذ الوجه فيها على نحو الموضوعية لكن من حيث اعتبار القربة في الغسلات والمسحات المنبسطة على الذات لوحظ بنحو الطريقية أيضا. هذا إذا استعمل اللفظ في الإنسان ، وأما إذا استعمل في الله عزوجل ، فيأتي شرحه في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) في السماء أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في جميع حالاته يطلب رضاء الله تعالى وينتظر أمره ، وأن طلبه ـ بلسان الحال دون المقال ، لكونه أقرب إلى أدب العبودية وابلغ إلى نيل المقصود.

ثم إنّ للتوجه إلى الكعبة المقدسة نحو ابتهاج للكعبة ابتهاجا معنويا لأن التوجه في العبادة إليها ، والطواف حولها كاشف عن غاية عناية الله تعالى بها. وهي نهاية الابتهاج لكل موجود ، ويشهد له ما ورد في توجيه الموتى عند الدفن إلى الكعبة ففي الحديث : «كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمكة وأنه حضره الموت وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمسلمون يصلون إلى البيت المقدس فأوصى البراء إذا

دفن أن يجعل وجهه تلقاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى القبلة فجرت به السنة».

بحث علمي :

لله تعالى أسماء عبر عنها بالأسماء الحسنى ، قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٠] ، وقال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة طه ، الآية : ٨]. وقد وردت في شأنها وإحصائها أخبار كثيرة من الفريقين ، سيأتي التعرض لها في محله إن شاء الله تعالى. وقد وضعوا في شرحها كتبا من العامة والخاصة ، ومن تلك الأسماء المقدسة (الرؤوف) ، كما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وورد في الآيات المتقدمة : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). واللفظ من صيغ المبالغة ، ولا مبالغة بالنسبة إليه عزوجل ؛ لأن صفاته الجمالية والجلالية غير متناهية من كل جهة كذاته الأقدس ، فالمبالغة من جهة الإضافة إلى المتعلق.

والرؤوف من صفات الذات لا من صفات الفعل ، وقابل للتشكيك شدة وضعفا باعتبار المتعلق لا باعتبار الذات.

والرأفة بالمعنى اللغوي لا يمكن إطلاقها عليه تعالى ، وهي بمعنى اللطف بعباده والتساهل معهم ، ولا تكاد تستعمل في الكراهة بخلاف الرحمة فإنها قد تكون في الكراهة للمصلحة. ولم تستعمل في القرآن الكريم ـ غالبا ـ إلّا مقرونة مع الرحمة ومقدمة عليها كذلك في أغلب الدعوات المأثورة أيضا وهي أرق منها. فيكون من تقديم الخاص على العام ، لأن الرحمة نحو محبة خاصة تستعمل غالبا في دفع المكروه وإزالة الضرر عن الغير.

والرأفة تستعمل غالبا في إيصال النفع إليه ، فيكون معنى قوله تعالى : (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي يدفع المكاره والمضرات ويوصل المنافع وهما من مظاهر ربوبيته العظمى وقيموميته المطلقة على جميع ما سواه ..

كما أنّ غالب استعمالاته إنما هو بالنسبة إلى ذوي العقول والعباد

والمؤمنين ، ولم نجد في القرآن العظيم استعماله بالنسبة إلى سائر الخليقة من الحيوان والنبات.

وحقيقة معنى الرأفة مما يدرك ولا يوصف خصوصا إذا أضيفت اليه عزوجل ، كسائر الصفات المضافة إليه تعالى ، وجميع ما ذكره اللغويون والأدباء وتبعهم المفسرون قول من وراء الحجاب لا يصلح لإزالة الشك والارتياب ، فحقيقتها مجهولة وإن كانت أخصيتها من مطلق الرحمة معلومة. والرأفة تستعمل في المخلوق أيضا ، قال تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [سورة النور ، الآية : ٢] ، وفي بعض الدعوات المأثورة (يا أرأف من كل رؤوف) ، وتأتي تتمة المقال في سائر أسماء الله الحسنى في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ الآيات المباركة المشتملة على الرأفة على أقسام بعضها مطلقات ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ٧] ، وقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة الحشر ، الآية : ١٠]. وبعضها الآخر ذكر فيه النّاس ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣]. وفي ثالث ذكر فيه العباد ، قال تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٧] ، وقد ذكر المؤمنين أيضا ، قال جل شأنه : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٨]. وليس ذلك من التقييد في شيء ، فإن ما سواه تعالى مورد رأفته ورحمته حدوثا وبقاء ، وذكر النّاس أو العباد ، أو المؤمنين إما لأجل ذكر الفرد الأهم ، أو لأجل بيان مراتب الرأفة الكثيرة. اما أن المرؤوف بهم أيضا كذلك.

بحث روائي :

القمي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ). قال (عليه‌السلام) : «تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال (عليه‌السلام) :

ثم وجهه الله إلى الكعبة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقولون له : أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من ذلك غما شديدا وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا ، لما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرائيل وأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة ، وأنزل عليه (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). وكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، فقالت اليهود والسفهاء : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها).

أقول : قريب منه ما رواه الشيخ في التهذيب إلّا أن فيه : «وتسعة عشر شهرا بالمدينة».

وفي الدر المنثور عن البراء «لما قدم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يحب أن يوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ـ الآية ـ. وقال السفهاء من النّاس ـ وهم اليهود ـ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال الله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).

ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء. وفي صحيح مسلم نحوه إلّا أن المدة ستة عشر شهرا.

أقول : الروايات في ذلك من طرق الخاصة والعامة متواترة في الجملة ، والمشهور ان تاريخ الواقعة كان في النصف من شهر شعبان الشهر السابع عشر من الهجرة ؛ ويأتي بعض الكلام في المباحث الآتية.

وفي الكافي عن بريد العجلي قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). قال (عليه‌السلام) : نحن الأمة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه. قلت : قول الله عزوجل (مِلَّةَ أَبِيكُمْ

إِبْراهِيمَ). قال (عليه‌السلام) : إيانا عنى خاصة (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) في الكتب التي مضت ، وفي هذا القرآن (يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). فرسول الله الشهيد علينا بما بلغنا عن الله عزوجل ، ونحن الشهداء على النّاس ، فمن صدّق صدقناه يوم القيامة ، ومن كذّب كذبناه يوم القيامة».

وفي الكافي أيضا عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). قال (عليه‌السلام) : «نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه».

أقول : الروايات في ذلك متواترة وما ورد في الروايات فانه من باب التطبيق ، وقد تقدم وجهه.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) إلى آخر الآية. قال (عليه‌السلام) : «فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين ، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا!! لم يعن الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، وهم الأمة الوسطى ، وهم خير أمة أخرجت للنّاس».

وفي المناقب عنه (عليه‌السلام) : «إنما أنزل الله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسول شهيدا عليكم. قال (عليه‌السلام) : ولا يكون شهداء على النّاس إلّا الأئمة والرسول. فأما الأمة فإنّه غير جائز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا في حزمة بقل».

أقول : ذلك ظاهر لكل من تأمل في الجملة على الفرد ، فكيف بالجماعة فضلا عن النّاس جميعا.

وفي قرب الأسناد عن الصادق عن أبيه (عليهما‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «مما اعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الأمم الماضية أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبي : وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على

قومه ؛ وإنّ الله تبارك وتعالى جعل أمتي شهيدا على الخلق حيث يقول : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ـ إلى آخر الحديث ـ».

أقول : لا بد من حمله على ما تقدم من الروايات المفصلة بقرينة ذكر التعليل فيها ، بل المنساق من الرواية هي الأمة المسلمة فقط ، كما مر.

وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في حديث يصف فيه يوم القيامة ، قال (عليه‌السلام) : «يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلم أحد إلّا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقام الرسول فيسأل ، فذلك قوله تعالى لمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً). وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرسل».

أقول : وجه شهادته على جميع الرسل انه غاية الكل والغاية مفضلة على ما سواها فهو مقدم عليهم علما ، وإن كان مؤخرا عنهم في الوجود الخارجي ، كما ثبت ذلك في علم الفلسفة.

عن الشيخ في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) : «سألته عن قول الله عزوجل : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أمره به؟ قال (عليه‌السلام) : نعم إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقلب وجهه في السماء فعلم الله ما في نفسه ، فقال تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها)».

أقول : سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بالرواية.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). قال (عليه‌السلام) : «قال المسلمون للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أرأيت صلاتنا التي كنّا نصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ـ الآية ـ فسمى الصّلاة إيمانا ، فمن اتقى الله عزوجل حافظا لجوارحه

موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقى الله مستكملا لإيمانه من أهل الجنّة ، ومن خان في شيء منها ، أو تعدى ما أمر الله فيها لقى الله تعالى ناقص الإيمان». وقريب منه في الكافي.

أقول : الحديث محمول على المرتبة الكاملة من الإيمان.

وفي الدر المنثور : «كان من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ماتوا على القبلة الأولى جائت عشائرهم ، فقالوا : يا رسول الله مات إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم ، فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ـ الآية ـ».

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فإن الله عزوجل قال لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الفريضة : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) واخشع ببصرك ، ولا ترفعه إلى السماء ـ الحديث ـ».

أقول : الحديث وارد في آداب الصلاة. ويمكن أن يكون المراد بالفريضة أنها كانت منشأ جعل الآداب في الصّلاة ، لا أن تلك الآداب مختصة بها فقط. وقد ذكر التفصيل في الفقه ، فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

وعن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) أيضا قال : «استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فإن الله يقول لنبيه في الفريضة : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)».

أقول : تقدم ما يتعلق بالحديث.

وفي أسباب النزول عن البراء قال : «صلينا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا نحو بيت المقدس ، ثم علم الله عزوجل هوى نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنزلت : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها)». ورواه البخاري عن

أبي نعيم ، ورواه مسلم عن أبي الأحوص.

وفي الفقيه : «أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة ـ الحديث ـ».

أقول : الروايات في مدة الصّلاة إلى بيت المقدس مختلفة ، والمشهور أنها سبعة عشر شهرا في المدينة وتأتي تتمة الكلام في بحث مستقل.

بحث فقهي :

الوارد في الآيات المباركة إنما هو لفظ (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). والشطر ـ في اللغة والعرف ـ جهة الشيء ونحوه ، كما تقدم ، ولم يبين الشارع الأقدس في هذا الأمر النوعي العام البلوى خصوصية خاصة غير لفظ الشطر والتولي والتحول ونحو ، وأمثالها في السنة الشريفة ، والمرجع في معاني هذه الألفاظ هو العرف ، لأنه المحكم في كل ما لم يرد فيه تحديد شرعي ، كما هو المتبع في الفقه. وما ورد من العلامة في القبلة من الجدي ونحوها ـ كما ذكر في الفقه ـ مجملة أيضا ليس لها كلية وليس من عادة الشرع الإيكال إلى مثله في الأمور العامة البلوى ، فهو أيضا من قرائن كون الموضوع عرفيا ، فلا يعتبر إلّا صدق التوجه والتولي شطر القبلة عرفا من دون الابتناء على الدقة العقلية ، ولأجل ذلك ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز الاعتماد على ما يصممه خبراء الهيئة الموثوق بهم في تعيين القبلة.

ثم إنّ المعروف بين المسلمين أنّ القبلة هي الكعبة ، وقد دلت عليه الأخبار المتواترة بين الفريقين ، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر ، أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ركع ركعتين في قبل الكعبة ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هذه القبلة».

وفي جوامع أخبار العامة في حديث تحويل القبلة أنه كان الى الكعبة.

وأما عن الخاصة فقد وردت أخبار كثيرة تدل على أن الكعبة هي القبلة ، وفي أكثرها أن الكعبة هي القبلة المحول إليها ، ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «كان يصلي في المدينة إلى بيت

المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة» ، وفي رواية أخرى «أنها قبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء».

وإنّما ذكر المسجد الحرام في الآيات الشريفة لأجل إظهار شأنه وعظمته للنّاس ، مع إطلاق المسجد على الكعبة أيضا ، اطلاق الكل على الجزء ، فيجمع بين ما دل على التوجه الى المسجد والمتواترة الدالة على أن القبلة هي الكعبة أن المسجد الحرام ذكر بعنوان الطريقية الى الكعبة المقدسة.

وفي بعض الأخبار : «أن الكعبة قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل العالم» ولا معنى لذلك إلّا الطريقية الصرفة ، والمسألة فقهية تعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث أدبي :

قد وردت «اللام» في خمسة موارد من الآيات الشريفة المتقدمة مما زاد في بلاغتها وجمالها :

(الأول) : لام التعليل في قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). المعبر عنها في اصطلاح الأدباء بلام «كي».

(الثاني) : لام الابتداء.

(الثالث) : لام تأكيد الإثبات في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ).

(الرابع) : لام تأكيد النفي في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

(الخامس) : لام القسم في قوله تعالى : (اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، وقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ).

و «قد» في قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) للتكثير كما في قول الشاعر :

قد أشهد الغارة الشعواء تحملني

جرداء معروفة اللحيين سرحوب

و «كان» في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) منسلخة عن الزمان ، وإنما جيء بها لبيان أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صاحب القبلتين ، وليترتب عليه قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) فلا تنافي بين ظواهر الآيات المباركة ، كما زعمه بعض المفسرين.

وقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ) مؤكدة بأنحاء التأكيدات المحاورية من لام القسم ، وإن الشرطية الظاهرة في فرض التحقق فضلا عن أصله ، ثم لام التأكيد ، ثم تعريف الظالمين والجملة الاسمية وغير ذلك.

ثم إنّ المعروف بين الأدباء وتبعهم المفسرون : أن أدوات الشرط مثل «إن» و «لو» ونحوهما تدل على عليّة المقدم للتالي ، أي : انتفاء التالي عند انتفاء المقدم ، ورتبوا على ذلك ثبوت المفهوم للجمل الشرطية على ما فصل ذلك في علم الأصول. وهذا من موارد اشتباه العنوان الكلي ببعض المصاديق الخارجية ، فإن أدوات الشرط مطلقا ، وما يرادفها من سائر اللغات لا يستفاد منها إلّا جعل متلوها مورد الفرض والتقدير ، والترتب بأي قسم من أقسامه. وأما خصوص ترتب المعلول على العلة فلا بد في استفادته من التماس دليل آخر عقلا ، أو نقلا فضلا عن العلية التامة المنحصرة.

وفي المقام يدل العقل والنقل على أن متابعة الهوى بعد ظهور الحق ، وثبوته ظلم فيكون أصل الترتب ظاهرا من سياق الجملة ، والعلية التامة المنحصرة ثبتت بالدليل العقلي والنقلي ، بل من ظاهر التأكيد في الآية المباركة بلام القسم ، كما عرفت.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا

تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)).

هذه الآيات مرتبطة مع سابقتها فيما يتعلق بتشريع القبلة وأن أهل الكتاب أيضا يعرفون الحق ، وأن الكعبة هي القبلة ، وقد أقام سبحانه وتعالى الحجة عليهم بأتم حجة وأبلغ بيان ، ثم بيّن تعالى أن كلا منهم متعبد بشريعته وأن القبلة من الأمور المعتادة عندهم وأمرهم بالاستباق إلى الخيرات والتسليم لأمره ثم أمر نبيه وأمته باستقبال الكعبة أينما كانوا والخشية منه ، وأخيرا ذكر سبحانه وتعالى أن تشريع القبلة إنما كان لأجل إقامة الحجة على النّاس ، وبطلان حجة الخلاف والتمييز بين الحق والباطل ، وبذلك أتم نعمته عليهم.

التفسير

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ). هذه الآية بيان لقوله تعالى : (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). أي أنّ علمهم بالحق ومعرفتهم به إنّما هو لأجل معرفتهم بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصفاته ؛ كما نطقت بها كتبهم بحيث لا تنطبق على غيره فلا يبقى مجال للشك فيه.

فكما أن القران العظيم يشتمل على ذكر الأنبياء السابقين (عليهم‌السلام) خصوصا أولي عزمهم ، وعلى ذكر الكتب السماوية ولا سيما التوراة والإنجيل ـ كذلك شأن سائر الكتب السماوية فإنها تشتمل على ذكر نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونعوته وصفاته ، بل الاسم الذي سمي به ، لأن المبدأ والمعاد في الجميع واحد ، وأنهم جميعا يشتركون في الدعوة إلى معبود واحد ، ومتفقون في الغرض من دعوتهم ، فلا بد أن يبشر السابق باللاحق ، وأن يذكر اللاحق حالات السابق ، وأن ينوّه باسمه ويذكّر أمته بما جرى عليه وعلى أمته ، وهذه سنّة الله تعالى في الإنسان ، بل ذلك من مقتضيات المجتمع

الإنساني الذي يهتم بحفظ المجتمع ووحدته ، ويعتني بأفراده بحيث يجعل الجميع كنفس واحدة في ما لهم وما عليهم ، فالآية المباركة تبين الحكم الفطري في المجتمعات في أن كل سابق يخبر باللاحق ؛ والأخير يؤيد السابق حتّى تتحقق الوحدة الاجتماعية ويبقى التآلف والترابط بين أفراد المجتمع قائما.

والمستفاد من سياق الآية أن الضمير في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) راجع إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مذكور في الكتب السماوية بأوصافه ، ونعوته ، وحالاته ، ويشهد له التشبيه في قوله تعالى : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ).

ويستفاد من الآية المباركة أمور :

أحدها : إنها تشير إلى أنهم نشأوا على معرفة بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما ينشأ الأب على معرفة ابنه وإن غاب عن أبيه مدة طويلة ، وهو مقتضى إتمام الحجة عليهم.

ثانيها : إنها تشير إلى وجود المعرفة القلبية التكوينية لو لم يمنعها اللجاج والعناد.

ثالثها : إنها تشير إلى قبح الإنكار بعد وضوح الأمر.

رابعها : إنها تشير إلى أنّ الابن لمّا كان نتيجة سعي الوالدين وجهودهما ، كذلك تكون شريعة خاتم الأنبياء نتيجة خلق العالم ، وجهود الأنبياء والمرسلين ، وسعي الأمم الماضين ، وهو مقتضى السير التكاملي في الإنسان.

خامسها : الإشارة إلى الترغيب إلى لزوم العناية بشأن خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما يعتني الآباء بالأبناء نتيجة أعمارهم.

ثم إن عود الضمير إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يلازم معرفة أحكامه إجمالا ، وانها من الله تعالى. ومن ذلك يعرف أنه لا وجه للنزاع في أن الضمير في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) يرجع إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، أو إلى

تحويل القبلة ، أو إلى الكتاب لأن مرجع الكل إلى واحد على نحو الإجمال.

قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). المراد بالحق هنا هو ما بيّنه الله تعالى في الكتب السماوية من أوصاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ونبوته ، وجملة كثيرة من معارف الإسلام وشريعته التي منها قبلته.

ونسب الكتمان إلى فريق منهم دون الجميع ، لأنهم بين معترف بالحق ومؤمن بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وبين من شهد بالحق وعانده عن لجاج وعناد ، وبين من جحده عن جهل لا يعلم شيئا من كتبهم ، وقد تقدم في الآيات السابقة بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). الحق : يشمل إرادته تعالى التكوينية والتشريعية ، فهو تعالى حق ، ولا حق إلّا منه.

وقد استعمل (الحق) في القرآن الكريم بوجوه من الاستعمالات.

فتارة : ينسب الحق إلى ذاته الأقدس ، وهو تعالى حق في ذاته وبذاته قال تعالى : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) [سورة يونس ، الآية : ٣٢].

وأخرى : ينسبه إلى صفاته العليا ، قال تعالى : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) [سورة الكهف ، الآية : ٤٤].

وثالثة : إلى أفعاله المقدسة ، قال تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [سورة الكهف ، الآية : ٢١].

ورابعة : إلى نفس القرآن العظيم ؛ قال تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ) [سورة فاطر ، الآية : ٣١] وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [سورة الشورى ، الآية : ١٧].

وخامسة : إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودينه ، قال تعالى : (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) [سورة الفتح ، الآية : ٢٨] ، وقال

تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) [سورة فاطر ، الآية : ٢٤].

والحق إذا أطلق لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبه ونواحيه ، ولا بد من الخضوع لديه والتسليم له ، وهذا هو معنى الحق المطلق الذي قال عنه بعض فلاسفة الغرب المحدثين : «إذا قيل الله يعني الحق الواقع من كل جهة». وللعلماء والفلاسفة في هذا الموضوع تعبيرات مختلفة نظما ونثرا ، والمتفق بينهم ـ كما صرح به المعلم الأول ـ وهو صريح الكتب السماوية والأحاديث الواردة في السنّة الشريفة : أن الحق لا بد أن يصدر منه تعالى فهو حق بذاته وفي ذاته ، ولا حق إلّا منه عزوجل. وهذا مما لا مرية فيه.

ومادة (م ر ي) تأتي بمعنى التردد. فما ذكره الخليل من أنها في الأصل مسح ضرع الناقة للحلب. فهو من تفسير المفهوم بالمصداق لأن مسح الضرع للحلب يستلزم تردد الماسح لا محالة.

وقد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) [سورة السجدة ، الآية : ٢٣] ، وقال تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) [سورة الحج ، الآية : ٥٥]. والمراء اللجاج ، وفي الحديث : «أترك المراء وإن كنت محقا».

والحق في الآية الشريفة من استغراق الجنس أي : أن كل حق في الممكنات إنما هو من الله تعالى ويكون تطبيق هذه الكلية على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قهريا ، فتصير النتيجة أنت بجميع شؤونك حق فلا يعقل الامتراء في ما هو من الله تعالى.

والخطاب وإن كان موجها إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلّا أن المراد به غيره ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ). ونظير هذه الآية كثير في القرآن الكريم ، قال تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الفتح ، الآية : ٢] ؛ ومثل هذا الخطاب مألوف عند النّاس فإن الملوك إذا

نصبوا شخصا لإدارة الرعية فإنهم يجعلونه مورد خطابهم مع الرعية في ما لهم وما عليهم ، وعلى ذلك جرى خطاب القرآن الكريم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ويمكن أن يكون الوجه في المقام هو تسلية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عما لاقاه في أمر القبلة من أهل الكتاب ، والمنافقين ، فيكون النهي عن صفة باعتبار عدم المنشأ لها أبدا ، ولذلك أيضا نظائر كثيرة في المحاورات. أو أن المراد به تذكير المؤمنين لئلا يقعوا في شرك المخادعين والمنافقين وتضليلهم.

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ). الوجهة : الجهة. والهاء في آخرها عروض عن الواو ، وهي بمعنى ما يتوجه إليه كالقبلة لما يستقبل إليه.

والسبق : التقدم ، وما يحصله السابق من سبقه ؛ ويستعمل في إحراز كل فضيلة ، ومنه قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١٠] ، وقول علي (عليه‌السلام) : «ألا إنّ السبقة الجنّة ، والغاية النار». لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب لا محالة ، ولا محبوب إلّا والجنّة أعلى منه ، والغاية ما ينتهى إليها ولو لم تكن محبوبة أو مطلوبة ، بل ولو كانت مبغوضة.

وقد استعمل الفعل متعديا بنفسه لا أن يكون المفعول منصوبا بنزع الخافض ، كما في قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) [سورة يوسف ، الآية : ٢٥] ، وقوله تعالى : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) [سورة يس ، الآية : ٦٦].

والخيرات جمع خير ، وهو أعم من العمل الصالح ، والبر. ومعناه ـ كلفظه ـ مرغوب كل فرد ، ومطلوب كل إنسان ، فيكون كلفظ الكمال والعقل في محبوبية اللفظ والمعنى عند الجميع ، وقد استعمل في القرآن الكريم في ما يقرب من مأة وثمانين موردا. وفي غالب الاستعمالات يكون اسما ، كقوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) [سورة يونس ، الآية : ١١] ، وقد يستعمل وصفا يتضمن معنى أفعل التفضيل ، قال تعالى : (فَما آتانِيَ

اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [سورة النمل ، الآية : ٣٦] وهو كثير أيضا. وربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا ، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة وعناية خاصة.

ويستعمل تارة : في مقابل الشر ، كقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥]. وفي مقابل الضر أخرى ، قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ١٠٧].

وهو من الأمور الإضافية التي لها عرض عريض جدا ، فأطلق في القرآن بالنسبة إليه تعالى ، قال سبحانه : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة طه ، الآية : ٧٣]. وبالنسبة إلى الممكنات جواهرها ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [سورة البينة ، الآية : ٧]. وأعراضها سواء كانت من أعمال الجوارح أم أفعال القلوب أم نفس المعتقدات.

ولم يبيّن سبحانه في هذه الآية الخيرات ، لأن لها مراتب كثيرة غير متناهية تتصل بخير الآخرة التي هي غير متناهية ، قال تعالى : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٩] ، وقال علي (عليه‌السلام) : «وما خير بخير بعده الجنّة ، وما شرّ بشر بعده النّار».

وقد عد الله سبحانه بعض المصاديق في القرآن الكريم ، كالآخرة قال تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة الأعلى ، الآية : ١٧] ، والإيمان قال تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) [سورة النّساء ، الآية : ١٧٠] ، والتقوى قال تعالى : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، والرزق قال تعالى : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة طه ، الآية : ١٣١] ، والصدقة قال تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٠] ، والصيام قال تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٤] ، والصبر قال تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٢٥] ، والصلح قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨] ، والباقيات الصالحات

قال تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٦] ، وتعظيم حرمات الله قال تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٠] إلى غير ذلك.

ويستفاد من مجموع ذلك أن كل ما يقرب إلى الله تعالى وكان صالحا للإنسان في الدنيا والعقبى فهو من الخير ، كما يظهر من السنة الشريفة أن الجامع بين الخيرات ما طلب فيه رضاء الله تعالى ، فعن الصادق (عليه‌السلام) : «ليس الخير أن يكثر مالك ، وولدك ، ولكن الخير أن يكثر عملك ، وأن يعظم حلمك ، وأن تباهي الناس بعبادة ربك». ومن ذلك يظهر أن الاستباق الى الخيرات مما يحمده جميع العقلاء ، فالآية إرشاد إلى طريق العقلاء ، لا أن تكون تعبدية شرعية.

ومعنى الآية : ان الله تعالى جعل لكل أمة شريعة خاصة ومنهاجا معينا لا بد من متابعته ؛ والمبادرة إلى الحق ومتابعته لتحقيق المسارعة إلى الخيرات التي هي الغرض الأقصى من تشريع الشرائع.

ونظير المقام قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨]. وإذا كانت الشرائع الإلهية تناسخ بعضها بعضا فلا بد من المسارعة إلى ما هو خيرها وهو الشريعة الناسخة لا المنسوخة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) المعنى العام الشامل للجهات التكوينية والاختيارية ـ عادية كانت أو شرعية ـ فإن كل فرد من أفراد الإنسان يختلف عن غيره بأمور وخصوصيات قد لا تكون في ما سواه ولا يحيط بها إلّا علام الغيوب ، فتشمل اختلاف العادات والملكات والصفات ، والاختلاف في القبلة والشريعة. وإنما يسعى الإنسان لنيل هدفه وتحصيل غرضه باختياره ، فأمر سبحانه وتعالى أن يكون سعي الإنسان إلى الحق والمبادرة إلى الخيرات ، فإنّ به يتحقق الاتحاد في المجتمع وبه يرتفع الاختلاف والتعاند إذا كان الغرض محبوبا لدى الجميع بعد ما كان فيه الصلاح والخير ، وإلى ما ذكرناه

تشير الآية الكريمة : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

ولذلك رغب سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالاستباق إلى الخيرات والمغفرة ، قال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٦١].

ومما ذكرناه يظهر الوجه في جعل نفس الخيرات ، والمغفرة ، أو الصراط سبقا (بفتح السين والباء) للإعلام بأنها هي الغاية المطلوبة ، والهدف المرجو في المسابقة.

قوله تعالى : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً). أينما : ظرف مكان يدل على العموم ويتضمن معنى الشرط وجوابه (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) ، واللفظ شامل لجميع الحالات الممكنة الواردة على الإنسان وجميع التبدلات الحاصلة له من الجمع والتفرق ونحوهما ، وجميع ما يرد عليه من التقلبات والاستحالات من جوهر إلى جوهر ، أو صفة إلى أخرى.

فهذه الجملة من أبرز مظاهر قيمومته وإحاطته على ما سواه عزوجل ؛ وذلك من شؤون القهارية والقدرة المطلقتين ؛ كما في قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [سورة النساء ، الآية : ٧٨] ؛ وقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] والآية نظير قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٦]. وجميع ما سواه عزوجل في مقابل عظمته وقدرته وقيمومته أصغر من حبة الخردل بل لا وجه لملاحظة النسبة بين المتناهي وغير المتناهي.

وترتب الآية على قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من قبيل ترتب الجزاء على الشرط ، أي : انكم ترون نتائج استباقكم بأنفسكم ؛ فتشمل

الحشر.

والمعنى : ان الله تعالى يأت بكم أينما تكونوا ويجمعكم يوم القيامة للحساب والجزاء ولا يعجزه شيء عن ذلك.

وسياقها وإن كان يدل على الجمع ليوم الحساب ولكن ذلك لا ينافي عمومها المنطبق على مصاديق كثيرة ، كما عرفت آنفا ، فيصح أن تنطبق على يوم ظهور العدل العملي في هذا العالم المعبّر عنه في السنة المقدسة المتواترة بيوم ظهور المهدي الموعود ، واستشهد بها الأئمة (عليهم‌السلام) لذلك ، كما سيأتي في البحث الروائي.

وفي الآية الشريفة التأكيد البليغ على أمر القبلة والتوجه إليها في جميع الحالات. وفيها من التوعيد للعاصين والوعد للمطيعين ، كما لا يخفى.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وهو برهان للآية السابقة.

وفي هذه الآيات ـ على اختصارها ـ إشارة إلى علوم :

منها : علم معرفة النفس وأسرارها الذي قد يفيضه الله تعالى الى بعض أوليائه ، وقد وضعت كتب ورسائل فيه.

وعلم الأخلاق والاجتماع اللذان هما من أهم العلوم الإنسانية.

وعلم المبدأ والمعاد وهما من أهم العلوم في الشرائع السماوية بل عليهما تدور المعارف الإلهية ، وللقرآن الكريم كليات في هذه العلوم يأتي التعرض لها في محالها.

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). كلمة «حيث» تستعمل في المكان ، والجملة التي بعدها تكون بيانا لها ، نظير «أين» إلّا أن الأولى أعم من الثانية ؛ فإن الأخيرة لوحظ فيها السؤال عن المكان بخلاف الأولى. كما أن في لفظ «متى» لوحظ فيه السؤال عن الزمان ، بخلاف «حين» الذي هو في الزمان كلفظ «حيث» في المكان.

وتستعمل «حيث» في مطلق التحيز ، ويشهد له حديث نفي الصفات عنه

تبارك وتعالى ، قال (عليه‌السلام) : «كيف أصفه بحيث ، وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا» ، وفي بعض الأخبار : «وهو الذي أيّن الأين وأوجده». وفي مثل هذه الأحاديث إشارة إلى رد ما أثبته أكابر الفلاسفة من عدم الجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها ، كما يأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالى.

والمعنى : أنه من أيّ مكان خرجت وإلى أية جهة توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام.

وقد تكرر قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) في هذه الآيات المباركة ، وذلك لأن الكعبة المقدسة قبلة لأهل العالم ، والعالم متقوم بالمكان والزمان والجهة ويمكن أن تكون كل جملة إشارة إلى خصوصية من تلك الخصوصيات الثلاث ، ومن ذلك تعدد جهات الخروج من المشرق والمغرب ، والشمال والجنوب ، وفي جميع الأمكنة من البر والبحر والجو.

مع أن مخالفة اليهود والنصارى تستلزم التأكيد والتكرار ، وبيان ان هذه القبلة على خلاف قبلة أهل الكتاب في أنه يمكن التوجه إليها من جميع بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). تثبيت للمطلب وتأكيد للموضوع من وجوه أربعة : «إنّ» ، و «لام» التأكيد ، ولفظ «الحق» وجملة «من ربك».

والضمير في «أنّه» يرجع إلى التوجه إلى المسجد الحرام ، وسياق الكلام يدل على أنه كان حقا أزلا وهو كذلك أبدا ؛ وان كل توجه في العبادة بخلافه يكون باطلا ، ولذا أوعد الله تعالى على من خالف ذلك.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). أي أنّ الله ليس بغافل عن أعمالكم ، لأنه عالم بما سواه حتّى خطرات القلوب ولحظات العيون فلا يتوهم الغفلة بالنسبة إليه مع هذا الحضور الفعلي والاستيلاء المطلق على كل شيء ، وهو المهيمن على الجميع ، فهو الذي يتولى الجزاء على أعمالكم خير الجزاء.

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). يمكن أن يكون التكرار ، لأجل أن الآية السابقة تحمل على المحال القريبة من المسجد الحرام ، والثانية على المحال البعيدة حتّى نفس بيت المقدس والأخيرة على تمام الربع المسكون ، ويمكن الحمل على حالتي الحضر والذهاب إلى السفر والإياب منه.

والابتداء بالخطاب للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فانه وإن كان كافيا في عموم التكليف ، إلّا أنه أراد سبحانه التأكيد بالنص وبيان أهمية الموضوع ، ولترتيب ما سيأتي. والضمير في قوله تعالى : (وُجُوهَكُمْ) يرجع إلى جميع المسلمين باعتبار وجود النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيهم.

وكان النّاس في زمان تحويل القبلة طوائف ثلاث : اليهود ، والنصارى ، والمشركين ، والأولان كانا يعترضان عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنه إذا كان نبي آخر الزمان فلما ذا لا يصلي إلى الكعبة المقدسة؟ ولم يصلي إلى قبلتنا؟ والمشركون كانوا يعترضون عليه بأنه لماذا يصلي إلى بيت المقدس مع أن الكعبة أقدم وأقدس؟ ثم الاعتراض أخيرا من المنافقين بأنّه ما الفائدة في هذا التشريع؟ فذكر سبحانه وتعالى أمورا ثلاثة لبيان حكمة التشريع والفائدة منه ، والجواب عن اعتراض المعترضين ودفع شبه المنافقين.

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ). هذا هو الأمر الأول. اللام لتعليل تحويل القبلة وتغييرها ، أي : لئلا يكون للمحاجين ـ وهم الطوائف المتقدمة ـ عليكم حجة وسلطان.

ومما تقدم يعرف انتفاء حجتهم ؛ لأن صلاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى بيت المقدس ظاهرا كانت لمصالح ظاهرية وبذلك اندحضت حجة الفريقين.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). يصح أن يكون الاستثناء متصلا ، إن عممنا المستثنى منه إلى الأعم من الحجة الواقعية والحجة الاعتقادية الحاصلة عن العناد واللجاج.

فيكون المعنى : لئلا يكون للنّاس عليكم حجة إلّا حجة الظالمين الحاصلة عن اعتقادهم وظلمهم ومحاجتهم بعد ظهور الحق ، نظير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة الشورى ، الآية : ١٦].

كما يصح أن يكون الاستثناء منقطعا إن خصصنا المستثنى منه بخصوص الحجة الصحيحة ، فيحتاج الكلام إلى مقدمة مطوية ، وهي انه إن كان على المؤمنين حجة ، فهي لا تكون إلّا من الظالم ، ولا حجة للظالم فليس عليهم حجة مطلقا ، فان الظالم لا ينقطع عن اللجاج والعناد والإحتجاج حسب الأهواء الباطلة والآراء المزيفة وما يمليه عليه ظلمه. ومثل هذا متعارف في المحاورات الفصيحة ، قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي : لو كان فيهم عيب فهذا عيبهم ، وهو ليس بعيب إذا لا عيب فيهم مطلقا.

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). الخشية : هي الخوف المشوب بالتعظيم وإنّها أعم موردا من مطلق الخوف ، لإطلاقها على الجمادات ، قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٤]. وأخص منه مفهوما لأنها مشوبة بالتعظيم.

والمعنى : لا موضوع لخشيتهم لفرض بطلان طريقتهم فتنحصر الخشية من الله تبارك وتعالى ، لأنه الحق والخشية لا بد وان تكون من الحق.

قوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ). هذا هو الأمر الثاني ، والتمام : انتهاء الشيء وكماله بحيث لا يحتاج إلى شيء خارج عنه ، ويستعمل بالنسبة الى جميع الأمور المادية ـ جواهرها وأعراضها ـ والأمور المعنوية ، قال تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٣].

ومادة (نعم) تأتي بمعنى الحالة الحسنة ، وتستعمل بالنسبة إلى الإنسان فقط دون غيره ، وفي جميع حالاته ونشآته في الدنيا والآخرة ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

وقد ذكرت هذه الجملة في موارد من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٨١] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ونعم الله تعالى كثيرة لا يمكن عدها ، وهي إما معنوية أو مادية أو هما معا. وتكاليف الله سبحانه وتعالى من النّعم على الإنسان فإنها تقع في طريق استكماله وما يترتب عليها من الفوائد.

وتمامها إنما يكون لأجل انها تقع في سبيل سعادة الإنسان في الدارين وارتقائه إلى درجات الكمال ، وفي الحديث عن علي (عليه‌السلام) : «تمام النعمة الموت على الإسلام» ، وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تمام النعمة دخول الجنّة».

والمنساق من إتمام النعمة في المقام ـ بعد جعل الإمامة وبناء البيت ـ استقلال المسلمين بقبلة تخصهم ، وتطهير دينهم من آثار الشرك والضلال ، واستيلاء المسلمين على غيرهم بالحجة والبيان إلى غير ذلك من النّعم التي أراد سبحانه جعلها حكمة لتشريع تحويل القبلة.

وذكر بعض المفسرين أنّ في هذه الآية بشارة إلى فتح مكة ، لأنه عزوجل ذكر في سورة الفتح ، الآية ٢ : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقد ذكرت ـ بعد الفتح ـ النصرة منه تعالى. والقرينة على ان المراد من النعمة ذلك قوله تعالى بعد ذلك : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

ولكنه مخدوش بأن مجرد التشابه اللفظي في الموضعين لا يوجب اتحاد النعمتين في الموردين إلّا مع قرينة خاصة. نعم لو أريد تشابه النعمة في مطلق جنسها فهو صحيح لا اشكال فيه ، إلّا انه خلاف ظاهر كلامه.

قوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). هذا هو الأمر الثالث. وكلمة «لعل» بمعنى التوجي في جميع الموارد إلّا أنه بالنسبة إليه عزوجل يكون بداعي المحبة والإيجاب لا بداعي الترجي الحقيقي حتّى يكون محالا عليه عزوجل ، لأنه الكامل في ذاته وبذاته ولا يعقل النقص بالنسبة إليه تعالى ، والتمني والترجي إنما يتصوران بالنسبة إلى الناقص وأما إذا كانا بدواع أخرى غير داعي وقوع حقيقيّهما فلا محذور بالنسبة إليه عزوجل. وتستعمل في القرآن الكريم في كل فعل من أفعال الإنسان وكل غاية يقصدها باختياره.

هذه هي الغايات الشريفة في أمر القبلة والتعبد بها وكل غاية تشير إلى جانب من جوانب هذا الجعل الإلهي : جانب الحجة والإحتجاج مع المخالفين والمعاندين وقطع حجتهم ، والجانب المادي والفوائد التي يتوخاها الإنسان ، والجانب المعنوي والروحي من التكاليف.

وكل واحد من هذه الغايات الشريفة والمنافع الجليلة قد ذكرت في جملة من الآيات الكريمة ، وبذلك تتم نعمته على المسلمين ويظهر عظيم لطفه بهم في هذا التكليف.

بحوث المقام

بحث أدبي :

الشايع في المحاورات أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات ، وجرى عليه نظم القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى فيما تقدم من الآيات الشريفة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ولذلك تدل كلمة التوحيد على نفي الشرك وإثبات الوحدانية له تعالى.

والمعروف بين اللغويين وغيرهم أنّ كلمة «إلّا» تستعمل في الاستثناء المتصل والمنقطع ، وتأتي بمعنى «لكن» و «غير» أيضا والمرجع في التعيين القرائن المعتبرة ، وإذا كانت بمعنى «غير» تكون صفة. وقالوا : إنّ الأصل في «إلّا» أن تكون استثناء والصفة عارضة ، للقرينة ، كما أنّ الأصل في «غير» أن تكون صفة والاستثناء عارض ، وفي القرآن الكريم أمثلة على ذلك يأتي التعرض لها في محالها.

ثم إنّه وقع الالتفات في الآيات الكريمة المتقدمة بأنحاء.

وهو : أسلوب كلامي يظهر غالبا في كلام العظماء والملوك عند تكلمهم في مجلس واحد عن قضايا كثيرة على حسب سعة نفوذ أمرهم وسلطانهم ، فينتقلون من الحاضر الى الماضي ، أو إلى المستقبل ، أو إلى الأمر والنهي وقضايا متعددة ، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده.

والحكمة فيه إثارة العقول إلى ما يتحقق من الحكمة والإتقان والتدبر ، وبه يتحقق النظم البليغ ، لأنه نقل الكلام وتغييره من حالة إلى أخرى ، فهو من محاسن الكلام وبدائعه ويهتم الأدباء به اهتماما بليغا ، كما وقع ذلك في القرآن الكريم كثيرا.

والمشهور بينهم انه يشترط فيه شروط ثلاثة :

أحدها : أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر ، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه.

ثانيها : أن يكون الضمير في المنتقل اليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه ، بخلاف ما إذا كان كل واحد من الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين ، كما في قول : «أنت صديقي».

ثالثها : أن يكون في جملتين.

وهو عند أهل المعاني والبديع على أنواع :

الأول : تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعد ما فرغ المتكلم من المعنى تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما ، مثل قوله تعالى : (وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨١] ، وقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٧] ، وهو على سبيل الدعاء.

الثاني : أن يذكر المتكلم معنى فيتوهم ان السامع اعترض في قلبه شيء فليتفت في كلامه ليزيل ما وقع في قلبه من شك ونحوه ثم يرجع الى

مقصوده ، كما في قول الشاعر :

فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة

ولا ودّه يصفو لنا فنكارمه

فإن في قوله : «فلا صرمه يبدو» إيهاما بأنه يريد هجر المحبوب إياه وهو غير لائق ، فقال : «وفي اليأس راحة» فكان هذا عذرا.

الثالث : التفات الضمائر وهو أن يقدر المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما ثم ينصرف عن الإخبار عنه إلى الأخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [سورة العاديات ، الآية : ٦].

الرابع : بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله او تكلمه ؛ نحو قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [سورة الحمد ، الآية : ٧] بعد قوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فان المعنى غير الذين غضبت عليهم.

الخامس : الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس على طريقة الالتفات.

السادس : انتقال الكلام من خطاب الواحد او الإثنين أو الجمع إلى الآخر ، وهذا على أقسام ـ كما يأتي ـ نحو قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ، فاتسع في الخطاب فثنى ثم جمع ثم وحد ، ونحو قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة يس ، الآية : ٢٢] فانه عدول عن خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة.

السابع : التفات الأفعال ، وهو الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر وهو على أقسام أيضا وهذا كثير في القرآن الكريم وفيه لطائف دقيقة.

الثامن : الانتقال في الكلام من كل من التكلم والخطاب والغيبة إلى آخر وهو أشهر ما عرف في الالتفات عند علماء الأدب ، ويكون ذلك على

أقسام ستة :

الأول : من التكلم إلى الخطاب ، نحو قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧١].

الثاني : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [سورة الفتح ، الآية : ١].

الثالث : من الخطاب إلى التكلم ، كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٤].

الرابع : من الخطاب إلى الغيبة ، نحو قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٢٢].

الخامس : من الغيبة إلى الخطاب ، قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [سورة الفاتحة ، الآية : ٤].

السادس : من الغيبة إلى التكلم ، قال تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) [سورة فاطر ، الآية : ٩].

وللالتفات فوائد كثيرة مستفادة من الجملة الواقع فيها تليق بذلك الكلام الخاص ، وتختلف باختلاف المقامات ، فمنها دفع ما يشتمل الكلام على سوء أدب بالنسبة إلى المخاطب بالالتفات إلى الغائب. ومنها توبيخ الحاضر لأنه أبلغ في الإهانة فيلتفت إلى الخطاب. ومنها الالتفات إلى الماضي لإظهار الاستمرار ، أو الالتفات إلى المستقبل للدلالة على الكثرة والتلبس بالفعل في كل وقت. ومنها الالتفات إلى المضارع في مورد الماضي لأنه أبلغ وآكد وأعظم وقعا. ومنها الالتفات إلى الماضي في مورد المضارع في الأمور الهائلة التي لم توجد أو الأمور العظيمة التي تحدث. ومنها إظهار التفخيم ، وتذكير السامع بما وقع الى غير ذلك من الفوائد.

بحث روائي :

في تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى يقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني : يعرفون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ، لأن الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصفة أصحابه ومهاجرته ، وهو قول الله عزوجل (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ). وهذه صفة محمد رسول الله في التوراة وصفة أصحابه ، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب ، كما قال جلّ جلاله (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). وقريب منه ما رواه في الكافي عن علي (عليه‌السلام).

أقول : هذه الرواية من الروايات التي وردت في بيان صفات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المختصة به المذكورة في القرآن وفي جميع الكتب السماوية التي يتلوها أنبياء الله تعالى على أممهم.

وفي الدر المنثور في الآية : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه ، كانوا يعرفون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بنعته وصفته ومبعثه في كتابهم ، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد الله بن سلام : لأنا أشد معرفة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مني بابني ، فقال له عمر بن الخطاب : كيف ذاك يا ابن سلام؟ قال : لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا يقينا وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا ادري ما أحدث النساء. فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام».

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) قال (عليه‌السلام) : «الخيرات الولاية».

أقول : هذا من باب التطبيق كما ذكرنا غير مرة ، ويصح تطبيق الآية

المباركة على القرآن وجميع المعارف الإلهية وقد تقدم الكلام فراجع.

وفي الكافي أيضا عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً). قال : «الخيرات الولاية. وقوله تعالى : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يعني أصحاب القائم (عليه‌السلام) الثلاثمائة والبضعة عشر ، قال : هم والله الأمة المعدودة. قال : يجتمعون والله في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف».

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) : «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم (عليه‌السلام) وانهم المفتقدون من فرشهم ليلا ـ الحديث ـ».

أقول : هذه الآية وردت في رجعة الحق إلى أهله ، والآيات في ذلك كثيرة كما تأتي. وأما الروايات الواردة في ذلك فهي متواترة بين الفريقين وعليه الإجماع أيضا ، وسنثبت ذلك بالأدلة الكثيرة الآتية. والرواية من باب التطبيق ، كما تقدم.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني : ولا الذين ظلموا منهم و «إلّا» في موضع «ولا» ليست هي استثناء».

أقول : هذا وجه حسن لا ينافي ما ذكرناه من صحة الاستثناء في الواقع ، وقد تقدم في البحث الأدبي فراجع.

بحث فلسفي :

ذهب أكابر الفلاسفة إلى عدم الجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها وتقدم في ضمن الآية الشريفة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بعض الأخبار التي تشعر بخلاف ذلك.

واستدلوا على البطلان بوجوه ـ ذكروها في كتبهم ـ أهمها :

أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، وسلبه عنه ممتنع فلا موضوع للجعل التأليفي حينئذ ، لأن مناطه إنما هو الإمكان لا الضرورة

وفيه : ان هذه القضية إنما تكون بعد الجعل والتحقق ، وأما قبلهما فليس إلّا العدم المحض ويستوي الثبوت وعدمه بالنسبة إليه ، وقد اشتهر بين الفلاسفة : ان الشيء من ذاته ليس ، ومن علته أيس (الوجود) فلا مجرى لتلك القضية وإن أطالوا القول فيها في الفلسفة.

بل قد نسب إلى بعض أكابرهم تعيين القول بذلك حذرا من تعدد القدماء ، فان الذوات في مرتبة الذات متميزة فلو لم تكن مجعولة يلزم المحذور. ودفعه : بأن الشيئية مساوقة للوجود ؛ وقبله لا شيء حتّى يلزم العدم. مخدوش : بأنّ اعتبار الذات أمر واعتبار الوجود أمر آخر ، ولا ربط لأحدهما بالآخر. والمسألة مشكلة تعرضوا لها في مواضع في الفلسفة : منها مسألة اصالة الوجود في التحقق ، واصالته في الجعل ، وربط الحادث بالقديم كما يأتي. ولا مفرّ عنه إلّا بما يظهر عن أئمة الدين (عليهم‌السلام) من أن قدرته التامة الأزلية تتعلق بتذويت الذوات وإخراجها من العدم إلى الوجود ، وانه كان ولم يكن معه شيء ـ بأي معنى من معاني المعية ولو اعتبارا ـ وقدرته الكاملة على ما سواه بحيث لا يحيط بمعناها أحد وإنما عرّفها أئمة الدين (عليهم‌السلام) بقولهم : «لا يعجزه شيء» كل ذلك يقتضي ما ذكرناه.

إن قيل : إنّ الموضوع محال وقدرته تعالى لا تتعلق بالمحال. يقال : على فرض المحالية فهو محال اعتقادي لا محال واقعي ، وما لا تتعلق القدرة به هو الثاني دون الأول.

وقد نقل عن بعض الفلاسفة الأقدمين أنّ المبدأ مذوّت الذوات وجاعلها ، والقدرة الكاملة الأزلية إنما تحصل بذلك.

ثم إنّ جميع الفلاسفة اتفقوا على أن ما سواه تعالى مركب من ماهية ووجود ، بلا فرق بين المجردات ، والماديات بمراتبها الكثيرة التي لا حد لها بوجه ، وجعلوا ذلك من القواعد الفلسفية المسلّمة التي يستدلون بها في الفلسفة وهي قاعدة : «إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية ووجود» ، فالبساطة الحقيقية منحصرة به تبارك وتعالى ، وتدل عليها نصوص السنة المقدسة وظواهر الكتاب المبين. والتركيب والتركّب يلازمان الحدوث ،

وهو مناط الاحتياج وهو عين الفقر ، فجميع ما سواه عزوجل حادث.

ثم إنه اختلف أعلام الفلاسفة في أمور ثلاثة :

الأول : في أنّ الأصل في التحقق ومنشئية الأثر هو الوجود والماهية تابعة له ـ وقد اصطلحوا عليه بأصالة الوجود ـ أو يكون الأمر بالعكس؟ واصطلحوا عليه بأصالة الماهية ، بعد اتفاقهم على أنها قبل جعل الجاعل لا حيثية لها أبدا.

الثاني : أنّ المجعول من الباري تعالى هو الوجود والماهية تابعة له أو الأمر بالعكس؟ واصطلحوا عليه باصالة الوجود في الجعل ، أو اصالة الماهية فيه. وكل واحد من البحثين من المباحث المهمة المفصلة لديهم.

والذي يظهر من السنة المقدسة أصالة الماهية في كل من التحقق والجعل ، بمعنى أنّ الله تعالى مذوت الذات ومفيض الوجود عليها لا بمعنى التشريك ، بل بمعنى الترتب الدقي العقلي. ونسب إلى بعض أكابر أهل الدقة والتحقيق إنه وضع رسالة مستقلة في ذلك.

الثالث : ربط الحادث بالقديم ، وهو أيضا من المباحث المهمة الدقيقة الذي اختلف الفلاسفة فيه اختلافا كبيرا فاختار كل مهربا ، ولا طريق لهم إلّا التمسك بالسنّة المقدسة من جعل إرادته تبارك وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات. هذا موجز القول والتفصيل يطلب من محله ، ومن الله التوفيق وبه الاعتصام.

بحث علمي :

يظهر من الآيات المباركة الواردة في القبلة أهميتها وعظم أمرها فقد أمر الشارع باستقبال الكعبة في الصّلاة والذبح وفي حالة الاحتضار وغير ذلك وندب إليها في حالات كثيرة ، بل استقبالها مندوب في جميع الحالات إلّا ما استثني. وحرم استقبالها في مواطن ، كما نزّه عنه في مواطن أخرى ، وهو يدل على الاهتمام بها ، ولذلك نزلت الآيات الشريفة تستعرض جميع جوانب هذا التشريع الجديد والاعتناء به اعتناء بليغا والتأكيد بمراعاته بأنحاء التأكيدات

بأسلوب رصين وعبارات بليغة.

فذكر سبحانه أولا فضائل البيت الحرام ، وكونه مثابة للنّاس وأمنا ومحلا لعبادة المتعبدين ، وهو بذلك أراد سبحانه تهيئة النفوس لقبول تشريع جديد ، ثم ذكر أنّ القبلة أمر تعبدي لا بد وان يكون من الله تعالى ـ كما هو شأن كل عبادة إلهية ـ ثم أعلم نبيه بتغيير القبلة وأمر المسلمين باتباع القبلة الجديدة وأكد عليه تأكدا بليغا ، وقد جمع سبحانه في ذلك بين رغبة رسوله الكريم في اتخاذ قبلة جديدة وبين استقلال المسلمين فيها بعد أن كانوا تابعين ، وذكر سبحانه أخيرا ان الاستقبال أمر اجتماعي لا يختص بطائفة خاصة ، وفي الضمن أبطل اعتراض المعترضين ودحض حججهم. ونحن نذكر في هذا البحث بعض الجوانب المهمة في القبلة.

القبلة أمر اجتماعي :

لا ريب في أنّ الإنسان واحد نوعي وهذه الوحدة النوعية تقتضي وحدة الاجتماع بالطبع ، والوحدة الاجتماعية من أهم الأمور النظامية التي يقوم بها النظام ويحفظ بها شؤون الأنام ، فإذا كان تنظيم الأمور النظامية في الحيوان بإلهام من الله تعالى ، كما يستفاد من آيات كثيرة ، ويأتي في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٦٨] بعض الكلام ففي استلهام طبيعة الاجتماع الإنساني التي يستكمل بها خصوصيات الاجتماع والجهات اللازمة بالأشد والأقوى.

ومن تلك الجهات التي يستكمل بها الاجتماع وحدة التوجه الى الجهة الواحدة التي لا بد للمجتمع أن يهتم بها كما أن ارتباط كل عابد بمعبوده من الأمور الفطرية التي أظهرها أنبياء الله تعالى ، كذلك التوجه إلى جهة معينة ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٨]. ولا تخلو الأمم البدائية القديمة من هذه العادة وإن كانت مشوبة ببعض الجهات المستنكرة إلّا أنّ ذلك لا يوجب خروجها عن كونها من طرق توجه القلب والروح الى المعبود ، بل سيأتي في المحل

المناسب إثبات أنّ العباديات جميعها ـ من الطواف حول الكعبة والسعي في المسعى ، والقيام بين يدي المولى ، والركوع ، والسجود والقنوت ، وغسل الوجه واليدين ، وما يفعل بالرأس والرجلين ـ من طرق توجه القلب إلى الله تعالى وعدم غفلته عنه والخضوع والخشوع لديه كل عضو بحسبه ، وهذا هو معنى الروح في العبادة ، والبقية بمنزلة اللفظ أو الجسد ، ولا فائدة في لفظ بدون المعنى وجسد بلا روح فيه.

وبعبارة أخرى : إنّ فعل الجوارح مع غفلة الروح والقلب مما يستنكره العقل والعقلاء فكيف يرضى به إله السماء.

الحكمة في تشريع القبلة :

ذكرنا أنّ القبلة الجديدة كانت حدثا نوعيا واجتماعيا الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين بعد أن كانوا متفقين في العبادة والمعبود ، وبها تميز المسلمون عن غيرهم واحتفظوا استقلاليتهم بعد ان كانوا تابعين.

والظاهر أنّ هذا التشريع النوعي الأبدي هو أول تشريع من نوعه في تاريخ الأديان الإلهية ، فلم تكن قبلة بهذه الخصوصية في الأديان السابقة. نعم كان لأهل الكتاب قبلة معينة ولكنها كانت محدودة وموقّتة ، فقد ورد في شأن موسى وأخيه أن أوحى الله تعالى إليهما أن يجعلا بيوتهما قبلة لقومهما ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ولكنه كان محدودا بحدود خاصة زمانية ومكانية.

ويظهر من بعض الآثار أنّ قبلة اليهود كانت هي التابوت وكانوا يستقبلونه إذا كان معهم في أسفارهم ثم يضعونه عند صخرة بيت المقدس ويصلون إليه ثم عظم مكانه فصار قبلتهم.

وأما قبلة النصارى فكانت شرقي بيت المقدس باعتبار كونه مولد عيسى (عليه‌السلام) ومدفنه عندهم ، ولم يثبت بدليل يصح الاعتماد عليه أنّ قبلة الطائفتين كانت بوحي سماوي أو هي كسائر مقترحاتهم التي اقترحوها من عند أنفسهم.

ولعل أحد وجوه تأكيد القرآن واهتمامه بكون بيت الحرام قبلة انها أول قبلة شرعت في الأديان السماوية بها تحفظ الوحدة بين أفراد هذا الدين. وانها كانت سببا في هدايتهم ، وإعلاما بأنهم على الصراط المستقيم وتدعيما لهم ، وقد تكفل سبحانه وتعالى الجواب عن احتجاج المعترضين ، كما وصم سبحانه المخالفين بخفة العقول واتباع الأهواء الباطلة والظلم وأوعدهم بسوء العقبى إن هم أصروا على الجحود والإنكار. ولأجل ذلك كله كان هذا التشريع الجديد من موجبات إتمام النعمة على المؤمنين.

تحويل القبلة :

كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه يستقبلون بيت المقدس أول بعثته في مكة حتّى بعد هجرته إلى المدينة إلى نزول الوحي بتحويل القبلة ولقد كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يرغب في ذلك ويترقبه بشغف شديد ، كما حكى عنه عزوجل : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

ويمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) أنّ القبلة الحقيقية كانت هي البيت الحرام ، فإنّ كون البيت مثابة يقتضي ان يكون مثابة أيضا لهم في أهم الجهات العبادية وهو الاستقبال والتوجه اليه في العبادة.

ويؤكد ذلك جملة من الأحاديث الواردة في أنّ الكعبة كانت قبلة الأنبياء السابقين (عليهم‌السلام) وأنّها كانت موضع تقدير العرب وحبهم لها وتوجههم إليها ، فهي من هذه الجهة اقدم القبلتين وأشرفهما وتربو فضيلتها على بيت المقدس من جهتين : ذاتية ـ لأنها أشرف بقاع الأرض مطلقا ، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة ، وانها مقابل بيت المعمور ـ وعرضية ، لأنها موضع عبادة المتعبدين من بدء تكوينها ، فما زالت مطاف الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والأولياء والصديقين وعباد الله الصالحين.

ولا يستفاد من آيات تشريع القبلة ما يخالف ذلك إلّا ما قد يتوهم في قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية :

١٤٢]. وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] الى غير ذلك مما تقدم من الآيات المباركة :

ويمكن الجواب عنه : بأنّ الآية الأولى نسب الاستقبال فيها إلى المسلمين لا إليه عزوجل مما يؤكد عدم كون القبلة المولّى عنها قبلة حقيقية.

وعن الآية الثانية بأنها لا تدل على كون الجعل جعلا أوليا ذاتيا. نعم تدل على الجعل التقريري الظاهري لمصالح ظاهرية متعددة اقتضت استقبال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لبيت المقدس ـ نظير صلح الحديبية وغيره ـ والمصالح الزمنية قد تقتضي الفعل وقد تقتضي الترك ولذلك أمثلة كثيرة في الشريعة المطهرة ، فلم يكن استقبال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى بيت المقدس لأجل كونه قبلة حقيقية فنسخت وحولت إلى قبلة أخرى ، بل القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة ، ويشهد لذلك ما ورد : «من أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصلّي ـ وهو بمكة ـ نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه».

وعليه فلم تكن مصلحة واقعية في استقبال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لبيت المقدس ، بل كان الحكم إرشادا محضا لاستقرار ظاهر الشريعة ، والأمن من كيد الأعداء وخديعتهم ليحين حين إظهار الحق فهو تكليف مجاملي تأليفي ، فيكون اطلاق النسخ عليه من باب المجاز والعناية ، أو بالمعنى اللغوي ، وهو مطلق التبديل إلّا إذا أريد منه نسخ قبلة اليهود.

إن قلت : يظهر من ذيل الآية الشريفة : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أنّ استقبال بيت المقدس كان لأجل كونه قبلة حقيقية لا أنه مجرد تكليف مجاملي. (نقول) : إنّ الآية الشريفة في الخلاف أدل وأظهر ، كما ذكرنا آنفا.

زمان تحويل القبلة :

قد صلّى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأصحابه إلى بيت المقدس برهة من الزمن حتّى نزلت آيات تحويل القبلة فأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

بالتحويل إلى القبلة الجديدة وهو في صلاة الظهر بينما كان يصلي بأصحابه فتحوّل إلى الكعبة المقدسة ـ وفي بعض الروايات أخذ جبرائيل بيد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحوله إليها ـ وتحول أصحابه إليها حتّى صار الرجال موضع النساء والنساء موضع الرجال ، ثم صلّى بهم صلاة العصر إلى القبلة الجديدة ، وهو في مسجد بني سالم وسمي بعد ذلك بمسجد القبلتين ، وهو من المساجد المشهورة في المدينة المنورة يقصده المسلمون ليؤدوا فيه الصّلاة إعظاما لهذا الحدث العظيم وتخليدا لذكرى صاحبه.

وأما زمانه فالمروي في صحيح مسلم انه كان في رجب من السنة الثانية بعد الهجرة بستة عشر شهرا ، وفي رواية البخاري انه صلّى الى بيت المقدس بعد الهجرة بستة عشر أو سبعة عشر.

ولكن المشهور ـ وعليه جمهور العامة ـ انه كان في النصف من شعبان من السنة الثانية للهجرة. وعلى كلا التقديرين فلا بد وان تكون الشهور بعد الهجرة ـ التي وقعت في شهر ربيع الأول ـ اما سبعة عشر إذا كان التحويل في رجب ، أو ثمانية عشر إذا كان في شعبان.

وروى الشيخ المفيد في مسار الشيعة : «في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حولت القبلة» هذا.

وروى ابن بابويه في الفقيه «صلّى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهرا بالمدينة» وذكره في قرب الأسناد أيضا ولا بد من حمله على بعض المحامل.

تعيين القبلة :

يمكن تعيين القبلة إما بالعلم بها ، كما في أهل مكة والحرم. وإما بالظن وقد عين الشارع له بعض العلامات ، كالجدي وغيره ، وقد فصل الفقهاء ذلك راجع كتابنا [مهذب الأحكام]. ويستفاد من مجموع ما وصل إلينا ان الشارع اكتفى في تعيينها بمجرد الاطمئنان المتعارف.

وأما ما عن جمع من أعلام الهيئة ـ رفع الله تعالى شأنهم ـ الذين

اجتهدوا في هذا الموضوع وبذلوا جهدهم في تعيين الجهة ، ومن ذلك ما تعارف عليه في هذه الأعصار كالآلات المغناطيسية ، كل ذلك ان حصل منه الاطمئنان ، فلا ريب في كفايته وإلّا فلا اعتبار به.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

هاتان الآيتان كالآيات السابقة في مقام بيان نعمه تعالى ، وفيهما إشارة إلى استجابة دعوة إبراهيم (عليه‌السلام) ، كما انهما تدلان على أصول التربية والتعليم ، ولطفه تعالى بالنسبة إلى ذاكريه.

التفسير

قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً). مادة (ر س ل) تأتي بمعنى البعث والانبعاث مع اللين والسهولة والسكون والطمأنينة. ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «غبن المسترسل سحت» يعني : من سكن إليك فلا تغبنه. وكذا قول علي (عليه‌السلام) : «لا تثقنّ بأخيك كل الثقة فان سرعة الاسترسال لن تستقال».

وقد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من اربعمأة مورد ، وهي تستعمل بالنسبة إلى الملائكة ، قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) [سورة هود ، الآية : ٦٩] ، وقال تعالى : (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [سورة الأسراء ، الآية : ٩٥]. وبالنسبة إلى الأنبياء ـ وهو كثير جدا بجميع الهيئات ـ وبالنسبة إلى غيرهما ، قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢] ؛ وقال تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) [سورة الفيل ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٣] ، وغالب استعمالاتها في الخير ، وقد تستعمل في الشر ، قال تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [سورة الملك ، الآية : ١٧]

والرسول هو المبعوث من قبل الله تعالى لهداية الإنسان وتكميله ، والفرق بينه وبين النبي من جهات :

الأولى : إنّ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فيكون بينهما العموم المطلق ، لأن النبي يصح ان يكون نبيا في نفسه لنفسه من دون ان يؤمر بإبلاغ الشريعة إلى النّاس ، فإذا أمر بذلك يصير رسولا حينئذ ـ سواء كانت شريعته مبتداة أم ناسخة ، وفي الحديث : «ان لله تعالى أنبياء مستخفين (مستورين) وأنبياء مستعلنين».

والنبي أعم من أن تكون له شريعة كمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعيسى ، وموسى (عليهما‌السلام) ، أو لم تكن له شريعة ، كيحيى وذي الكفل ولوط (عليهم‌السلام) وغيرهم ممن هو كثير خصوصا في بني إسرائيل الذين كانوا يبلّغون شريعة موسى (عليه‌السلام) ، كعلماء أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذين يبلغون شريعة خاتم الأنبياء.

الثانية : في مبدأ إفاضاتهم من ربهم ، فان الرسول يفاض عليه من الله تعالى بغير واسطة بشر ويرى الملك والنبي يفاض عليه بالواسطة منه تعالى ، ولا يرى الملك ؛ وفي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات : فنبي منبّئا في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام مثل ما كان ابراهيم (عليه‌السلام) على لوط. ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد أرسل إلى طائفة ـ قلوا أو أكثروا ـ كيونس ، قال تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال : يزيدون ثلاثين ألفا ، وعليه امام ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة ، وهو امام مثل اولي العزم ، وقد كان إبراهيم نبيا وليس بإمام ، حتّى قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من عبد صنما أو وثنا لا يكون اماما».

الثالثة : إنّ الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي.

ولا ريب في اختلافهم في الفضل ، قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا

بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٣] ، وعمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى (عليهم‌السلام) ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ؛ ويأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥].

وقد ورد أنّ عدد الأنبياء مائة الف وعشرون ألفا ، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على ما يأتي التفصيل.

والكاف في قوله تعالى «كما» للتشبيه على النعمة السابقة ، بلا فرق بين ان تكون «ما» كافة أو مصدرية.

والمعنى : انه كما جعلنا القبلة نعمة لكم وأتممناها عليكم كذلك أرسلنا رسولا منكم تعرفونه ، فانه أيضا نعمة عظيمة لكم ، لأنه يهديكم من الضلالة إلى الهدى ويرشدكم إلى سبيل الرشاد.

ويمكن أن تكون «كما» إشارة إلى دعوة إبراهيم (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٩] ، فتكون إشارة إلى استجابة هذا الدعاء الذي هو من أهم دعواته.

والتعبير بقوله تعالى : (مِنْكُمْ) للتحريض على الإيمان به ، لكونه أقرب إليكم ، ولأنه سبب لفخركم وشرفكم. وقد عدد سبحانه بعض ما كلّفه بالنسبة إليهم ، وكلها تتعلق بأصول العقائد وتهذيب النفوس.

قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا). تلو تأتي بمعنى المتابعة ؛ وهي في القرآن ذكر الكلمة بعد الكلمة على وجه متسق منظّم. وهي أخص من مطلق القراءة ، فان كل تلاوة قراءة وليست كل قراءة بتلاوة ، وتختص أيضا بتلاوة كتب الله المنزلة ، ولو استعملت في غيرها تكون بالعناية :

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، لعل من أشدها عظمة على النفوس قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ

الْحَكِيمِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٨]. ومن أشدها حسرة قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٤]. وتقدم بعض الكلام في الآية الأخيرة.

والمعنى : إنّ الرسول يتلو عليكم الآيات الباهرات التي تهديكم إلى الصراط المستقيم وترشدكم الى الحق القويم.

قوله تعالى : (وَيُزَكِّيكُمْ). أصل الزكاة هو النمو الحاصل من بركة الله تعالى سواء أكان في الأمور الدنيوية ، أم الأخروية ، أم هما معا. وقد استعملت في القرآن الكريم بأنحاء شتى ، فتارة : تضاف الى الله عزوجل ، قال تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ٤٩]. وأخرى : إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ؛ كما في المقام وثالثة : إلى ذات الفاعل ، قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [سورة الشمس ، الآية : ٩]. وهذا هو شأن جميع الصفات ذات الإضافة.

والتزكية هي الطهارة والتقديس عن الأدناس والأرجاس الظاهرية أو الرذائل المعنوية ، سواء كانتا بالنسبة إلى النفس كما في بعض النفوس السعيدة مما يفيض عليها الله تعالى على نحو الاقتضاء ، كما قال تعالى : (غُلاماً زَكِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٩] ، أو بالنسبة إلى الأعمال والأفعال.

والرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو المثل الأعلى في التزكية بجميع مراتبها والقدوة الحسنة في الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة لا يدانيه أحد ولا يجاريه فرد ، ولقد جاهد في تزكية أمته بدينه وتعاليمه وتشريعاته ، وبنفسه الشريفة ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٢١]. وتطهيرهم من رذائل الأخلاق وسوء الإعتقاد ، فإن بالتزكية يتخلى الإنسان عن الرذائل والخبائث ويتحلى بالفضائل ، فهي التربية العملية التي لها الأثر العظيم في مطلق التربية والتعليم.

وترتب التزكية على التلاوة من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) ، وقد يكون من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة ، كما

في بعض النفوس المستعدة.

ثم انه تعالى قدم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة وأخرها عنه في دعاء ابراهيم (عليه‌السلام) قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٩]. ولعل الوجه في ذلك ان للتزكية مراتب كثيرة منها الإرشاد المحض وإتمام الحجة ، ومنها التخلي عن الرذائل ، ومنها التحلي بالفضائل ، ومنها التجلي بمظاهر الأسماء والصفات الربوبية ولكل واحدة منها درجات ، فيحمل ما قدمت فيها التزكية على بعض المراتب ؛ وما أخرت فيها على البعض الآخر.

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ). لأنّ بالتعليم يرتقي الإنسان من أدنى درجات البهيمية الى أقصى درجات الإنسانية ، فقد كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المعلّم الهادي لأمته يبين لهم ما انطوت عليه شريعته وما اشتمل عليه كتابه الكريم من الأسرار والمعارف الربوبية.

قوله تعالى : (وَالْحِكْمَةَ). تقدم معنى الحكمة في الآية ٣٢ من هذه السورة. فان قلنا بمقالة الفلاسفة من أنّ الحكمة تارة : علمية ، وهي : العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية ، وأخرى : عملية وهي صيرورة الإنسان أكبر حجة لله تعالى في خلقه ، فان عظمة مقامها معلومة لكل احد.

وإن قلنا بما يستفاد من الكتاب والسنة المقدسة ـ وهي متابعة الشريعة أصولا وفروعا ، ومعرفة حجة الله على الخلق ـ فالأمر اظهر وأبين ، وسيأتي شرح الحكمة في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٩].

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). بفهم أسرار الكتاب العظيم واخبار الأمم الماضين والعلوم التي تهمكم وتزيد في علوكم ، وتكون سببا في تهذيب نفوسكم مما لم تكونوا تعلمونه سابقا.

وهذه الآية على اختصارها تحتوي على أصول التربية والتعليم بالترتيب الذي أراده القرآن العظيم ابتداء بالتلاوة والتذكر بآيات الله تعالى ، ثم تزكية

النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل لتستعد لإفاضة العلوم عليها ، ثم التعليم ثم معرفة الأشياء بحقائقها والعمل بما عرفه كل ذلك من طريق الشرع المبين.

وعليه ترجع التلاوة والحكمة إلى الكتاب الذي هو القرآن العظيم فإنهما وان اختلفتا في المؤدى ولكنهما متحدتان مصداقا ، لكن الكتاب يظهر بأطوار مختلفة.

قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي). الذكر تارة : يطلق ويراد به التوجه والالتفاف الفعلي ، وهو عبارة أخرى عن الحفظ ، والفرق بينهما بالاعتبار ، فإن الثاني يقال له باعتبار ذاته ، والأول يقال له باعتبار التوجه الفعلي الى الشيء ، ولو لوحظ ذات الحضور من حيث هو فهما سواء من هذه الناحية.

وقد يطلق أخرى : ويراد به إظهار الشيء باللسان ، أو القلب أو الجوارح ، فمن الأول آيات كثيرة منها قوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٤.] ومن الثاني قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠] فإنه عام لذكر القلب واللسان. ومن الأخير قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [سورة طه ، الآية : ١٤] حيث إنّ الصّلاة ذكر الله تعالى بالجوارح أيضا.

بل يطلق الذكر على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو الفرد الأكمل والمرآة الأتم لصفات الجلال والجمال ، قال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) [سورة الطلاق ، الآية : ١٠] بناء على أنّ لفظ «رسولا» من لفظ «ذكرا» ، كما أطلقت «الكلمة» على عيسى بن مريم (عليه‌السلام) قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) [سورة النساء ، الآية : ١٧١].

وقد يكون بمعنى الشرف وعلو المنزلة قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [سورة الشرح ، الآية : ٤].

والذكرى كثرة الذكر وأبلغ منه قال تعالى : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي

الْأَلْبابِ) [سورة ص ، الآية : ٤٣] ، وقال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٥].

والمراد به في المقام هو الالتفات الفعلي اليه تعالى قلبا وقولا وعملا عكس قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩].

والالتفات اليه تعالى يتحقق بتذكر نعمه تعالى وإدمان الشكر عليها والطاعة والعبادة له وإتيان ما اختاره الله تعالى مما فيه السعادة في الدارين فان الالتفات اليه عزوجل كذلك مبدأ العبودية المحضة المنتهية الى الكمال المطلق ، لما ثبت في الفلسفة العملية من : أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى أول مقام البقاء به عزوجل ، وان أخريات درجات التحلي مبشرات لأوليات مقامات التجلي.

وذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات والكمال المطلق ، والخير المحض العام ، والفيض الأقدس التام يوجب ترقي النفس وتعاليها عن حضيض البهيمية حينئذ إلى أوج الكمالات الحقيقية وكلما ازداد الأنس ازداد الارتقاء ، وأساس هذا الأنس يدور مدار الالتفات الفعلي اليه عزوجل كما يريده تعالى ، وهو المعبر عنه ب (الذكر) في الكتاب والسّنة الشريفة ، وبعبارات مختلفة أخرى ، كالتوجه ، والتقرب ، والتولية وغيرها.

والمناط كله أمران :

(الأول) : الالتفات الفعلي إلى الله تبارك وتعالى المعبر عنه في الفقه ب (القربة) ، كما يعبر عنه علماء الأخلاق ب (الحضور ، والتوجه) ونحو ذلك.

(الثاني) : كون ما يذكر به الله عزوجل مأذونا فيه من قبله تعالى ، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة التي لا بد من مراعاتها ، كما فصلها الفقهاء ، فكل ما يكون مرضيا لله تعالى ويؤتى به لوجهه عزوجل فهو ذكر الله تعالى ، سواء أكان من العقائد أم الأخلاق الحسنة ، أم العبادات والمعاملات أم غير ذلك فإن ذكره تعالى ـ كرحمته ـ وسع كل شيء

إذا لوحظ فيه التوجه اليه ، وقد جعله تعالى بهذه التوسعة تسهيلا لوصول عباده إليه عزوجل وما ورد في الفلسفة العملية من : «أنّ الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق» فيه إشارة إلى ما ذكرناه. فكما لا حدّ للمذكور كذلك لا حدّ لمراتب الذكر.

فان الذكر اللفظي كالتسبيح والتحميد والتهليل والشكر لنعمائه.

والذكر العملي هو العبادة ، والطاعة ، والأفعال المرضية له تعالى كعيادة المرضى ، وتشييع الموتى ، والسعي في قضاء حوائج الأخوان.

والذكر القلبي هو التوجه والخلوص والتقرب إليه تعالى. وكلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام توجه إليه ؛ ولذا ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل». وفيه إشارة إلى بعض توجهاته الخاصة إلى مقامات ربه ، أو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّي أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني ربي».

ثم إنّ ترتيب قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي) على الآيات السابقة ترتيب عقلي واجب من باب وجوب شكر المنعم الذي يحكم به العقل المستقل.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه أمور :

الأول : إنّ الذكر منبث على القلب واللسان والجوارح ، ولا يختص بخصوص الذكر اللفظي بل كل ما كان مضافا إليه عزوجل وكان مأذونا فيه من قبله تعالى وتقابله المعصية فإنها لا تصدر إلّا مع الغفلة عنه عزوجل.

الثاني : إنّ حقيقته هو التوجه الفعلي إليه عزوجل ، أي العلم الفعلي بأصل العلم لا مجرد العلم فقط ، ولذلك مراتب كثيرة منها ما ذكره بعضهم : «أن ينسى العبد ما سوى الله تعالى ويكون مقصوده من جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله ـ بل وخطرات قلبه ـ هو الله تعالى».

الثالث : إنّ أمره بالذكر شامل لجميع المراتب ولا يختص بخصوص بعضها.

الرابع : إنّ ما يقترفه النّاس في كيفية ذكره تعالى لا أصل له إلّا إذا ورد من الشرع المقدس الإذن فيه ، وقد ورد في الأحاديث في ما يتعلق بالذكر ـ كمية وكيفية زمانا ومكانا ـ ما يشفي العليل ويروي الغليل ، وقد وضع الأعلام فيه كتبا ورسائل.

الخامس : أقسام الذكر ستة فتارة : يتعلق بالنعم الطبيعية ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [سورة مريم ، الآية : ٦٧].

وأخرى : يتعلق بالنعم العارضة التي أفاضها الله سبحانه على الإنسان ، قال تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٤].

وثالثة : يكون محبوبا بذاته على كل حال ومجردا عن الإضافة قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٧].

ورابعة : يكون عند اهتمام النفس بشيء غير مرضي له تعالى فيذكر الله ويرتدع عنه ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٠١] ، وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥].

وخامسة : يكون بعد الارتكاب فيذكر طلبا لرضائه ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٥].

وسادسة : حين ارتكاب ما لا يرتضيه الله تعالى ، وقد ورد في الدعاء : «وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا لنظرك مستخف ولكن سوّلت لي نفسي».

إن قيل : ذكره تعالى حين ارتكاب ما لا يرتضيه الله عزوجل كيف يكون محبوبا له تعالى. (يقال) : إنّ الذكر إذا كان على نحو الاستخفاف والاستهانة ـ نعوذ بالله ـ فلا ريب في أنه ليس من الذكر بل يوجب الكفر والبعد عن ساحة الرحمن. وأما إذا كان من باب انه تعالى ستّار العيوب ، وغفار الذنوب فهذا يوجب الحياء منه تعالى ولو في ما بعد ، فينتهي إلى التوبة والاستغفار فيكون محبوبا له.

قوله تعالى : (أَذْكُرْكُمْ). للمفسرين في بيان متعلق الذكر أقوال :

منها : اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي ، أو أذكركم بمعونتي.

ومنها : اذكروني بالشكر على نعمائي أذكركم بالزيادة إلى غير ذلك مما قالوه.

والحق هو الحمل على العموم وهو ذكر الله تعالى في كل مظهر من مظاهر العبودية حتّى يدرك ذكر الله تعالى في كل مظهر من مظاهر رحمته وجوده ، ومنه ما ورد في الحديث : «أنا عند ظن عبدي المؤمن إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ـ الحديث ـ» وهو يجازي عبده بالجزاء الأوفى ويعد له باللطف والكرامة والإحسان ومزيد في النعم ويضاعف لمن يشاء إنه ذو فضل عظيم.

فلا يختص ذكره تعالى لذاكريه بعالم دون آخر ولا بحالة دون أخرى.

ثم إن ترتب قوله تعالى : (أَذْكُرْكُمْ) على «اذكروني» من باب ترتب المعلول على العلة التامة ، لأن التوجه الفعلي من العبد الى الله عزوجل ذكر منه تعالى للعبد بعناياته الخاصة ، فيكون هذا المعنى من الذكر من الصفات ذات الإضافة ، فان أضيف إلى العبد يكون ذكرا منه ، وإن أضيف اليه عزوجل يكون من ذكر الله تعالى له.

وقد يكون من باب ترتب المقتضى [بالفتح] على المقتضي [بالكسر] لاختلاف مراتب الذكر والذاكر كما هو معلوم ، والظاهر أن ملازمة الذكر للذكر من الملازمات المتعارفة بين العقلاء فهو حسن لديهم ويكون من الله تعالى

أحسن.

قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). مادة (ش ك ر) كمادتي (ك ش ر) ، و (ك ش ف) تأتي بمعنى الإظهار ، ويقابلها مادة (ك ف ر) التي تأتي بمعنى الستر ويختلف ذلك باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا. والجامع القريب في الأولى الإظهار ، وفي الثانية الستر.

فإظهار وحدانية الله تعالى ، وصفاته الحسنى ، وأفعاله العليا إيمان وستر ذلك كفر ، ولهما مراتب. كما أن إظهار نعمه شكر وسترها كفر ، ويطلق عليه الكفران أيضا.

والإظهار تارة : يكون بالاعتقاد ، وأخرى بالقول ، وثالثة بالعمل إما بفعل ما أوجبه الله تعالى أو ترك ما نهاه عنه تعالى ، وقد قال علي (عليه‌السلام) : «شكر كل نعمة الورع عن محارم الله تعالى».

والمعنى : أظهروا نعمائي ولا تكفروا بسترها.

وإنما قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) ولم يقل : واشكروا لي أشكركم ، لأمور :

أحدها : الإعلان بقبح الكفر والكفران استقلالا.

ثانيها : التنبيه على عظم النعمة ، وأنه بمنزلة كفر الذات.

ثالثها : إنه استفيد من مقابلة الذكر بالذكر ـ في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ـ بالملازمة فلا وجه للتكرار بعد ذلك.

ثم إنّ الشكر من أجلّ الصفات الحسنة ومن أرفع مقامات العبودية وهو على أقسام :

الأول : أن يكون من المخلوق للخالق ، وقد رغّب اليه الكتاب والسنة المقدسة ترغيبا بليغا بأنحاء مختلفة : بأن أضاف الشكر تارة : إلى نفسه ، قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٤]

وقال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. وأخرى : إلى نعمه قال تعالى : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) [سورة النحل ، الآية : ١١٤]. وهو يرجع الى الأول ، لأن كل ما بالعرض لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات. وثالثة : إلى نفس الشاكر ، قال تعالى : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [سورة لقمان ، الآية : ١٢] فان غاية الشكر إنما يرجع الى نفس الشاكر ، كقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [سورة الأسراء ، الآية : ٧] ، ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون الشكر على الآراء والمعتقدات الحسنة والمعارف الحقة ، أو على النعم الخارجية ، وجميع ذلك مذكور في القرآن الكريم ، قال تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٧٨] وقال تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٦] وهو مطابق للقواعد العقلية لأن أساس معرفة الله تعالى مبني على وجوب شكر المنعم عقلا ـ وهذا الوجوب عقلي لا أن يكون شرعيا ـ ومعرفة الله تعالى من أرفع المقامات والكمالات الإنسانية التي وصل الإنسان إليها بحكم عقله.

الثاني : أن يكون من الخالق للمخلوق ، قال تعالى : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٧] ، وقال تعالى : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٢] بل الشكور من أسمائه الحسنى ، فإن من عادة العظماء التشكر مما يستحسنونه من أعمال الرعايا ، وله دخل كبير في سوق العباد الى العمل وجلب قلوبهم.

الثالث : أن يكون من الخلق لآخر مثله وهو من مكارم الأخلاق ، وقد ورد في الحديث : «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» لانتهاء المخلوق ونعمه إلى الخالق فالشكر له ينتهي بالآخرة الى شكر نعمائه ، وترك شكر المخلوق ينتهي الى ترك شكر الخالق في سلسلة الأسباب.

ثم إنّ الشكر تارة : يكون لله تعالى لذاته بذاته بلا لحاظ عناية أخرى ، لأنه مبدأ الكل ومنتهاه فيستحق الشكر وهو شكر أخص الخواص ،

وأخلص أنواع الشكر وأعظمها.

وأخرى : يكون على ما يرد منه تعالى على عبده من البلايا والمحن فيشكر عليها كشكره على النعم ، وهو شكر الخواص ، وهو كالأول من أجل مقامات العارفين بالله تعالى.

وثالثة : يكون بإزاء النعمة وهو شكر العامة من الأنام ، وسيأتي في قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٧] ما يناسب المقام إن شاء الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : إنّ في اختيار صيغة التكلم في قوله تعالى : (أَرْسَلْنا) أو قوله تعالى : (آياتِنا) ثم توجيه الكلام إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إشارة إلى أنّ الاستكمال في المعارف الإلهية لا بد وان ينتهي اليه عزوجل ، وأنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ذلك واسطة محضة.

وفيه إشارة إلى الاتحاد في هذه الجهة بينه تعالى وبين نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث شبك الكلام بالضمير الراجع إلى ذاته الأقدس والضمير الراجع إلى نبيه المقدس.

الثاني : أنّ الآيات المباركة تدل على نبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي لم يكن من ذاته شيء وله من ربه كل شيء فجعله منشأ الفيوضات التامة في عالم الغيب والشهادة فانه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [سورة النجم ، الآية : ٤].

الثالث : إنّها تدعو النّاس إلى جميع أنحاء الكمالات الظاهرية والمعنوية بالتعليم.

الرابع : أنّ مقتضى المطابقة والمجازاة بين ذكر العبد وذكره تعالى أنه بكل وجه تحقق ذكر العبد يتحقق ذكره تعالى له بمثله ونظيره مع

الزيادة ، لفرض سعة رحمته وفضله فإن ذكره العبد في نفسه يذكره الله عزوجل كذلك ، وإن ذكره في ملأ من النّاس يذكره الله تعالى في ملإ من الملائكة وإن ذكره للدنيا أو الآخرة يكون ذكره تعالى لعبده كذلك ، ويمكن أن يكون صرف وجود ذكره تعالى لعبده منشأ لسعادته الأبدية التي لا حد لها ولا حصر ، وذلك يختلف باختلاف الاستعدادات والنفوس. هذا بناء على ما هو ظاهر الآية الشريفة من سياق الشرط والجزاء الظاهري. وأما بناء على ما أشرنا اليه من رجوع المعنى : ان أذكركم فلا تغفلوا عني ، فللمقام لطائف أخرى نشير إليها في الآيات الأخرى.

الخامس : إنّ في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لطف وعناية وتعليم للغير بمجازاة الخير بالخير.

السادس : إنّ في قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) تحذيرا لأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن لا يتركوا ما أمرهم الله تعالى ولا يكفروا بما أنعم الله عليهم ، لئلا يقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة بعد ما كفرت بأنعم الله تعالى.

السابع : إنّ في ذكر العنوان الإثباتي بقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا) والعنوان السلبي بقوله عزوجل (وَلا تَكْفُرُونِ) إشارة إلى الاهتمام بالموضوع أولا ؛ ونفي أنحاء الكفر حتّى كفران النعمة ثانيا ، وإلّا فيصح الاكتفاء بأحد العنوانين.

بحث روائي :

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «مكتوب في التوراة التي لم تغير ، أن موسى سأل ربه فقال (عليه‌السلام) : يا رب أقريب أنت مني فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى الله عزوجل اليه : يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى (عليه‌السلام) : فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك؟ قال : الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابون فيّ فأحبهم فأولئك الذين إن أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم».

أقول : الروايات متواترة بين الفريقين في فضل الذكر والتحابب في الله والتباغض فيه بل في بعضها : «ليس الإيمان إلّا الحبّ في الله والبغض في الله».

والمراد من قوله تعالى : «ذكرتهم فدفعت عنهم» التوجه الخاص الذي يكون بالنسبة الى الأولياء ولأجلهم خلق هذا العالم ويدار هذا النظام ، أي : «العلة الغائية» كما عبروا عنها في الفلسفة الإلهية.

في عدة الداعي قال : روي «أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خرج على أصحابه فقال : ارتعوا في رياض الجنّة ، فقالوا : يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال : مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحب ان يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله تعالى من نفسه ، واعلموا : أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى ، فإنه تعالى أخبر عن نفسه ، فقال : أنا جليس من ذكرني ، وقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بنعمتي ، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان».

أقول : المراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «ارتعوا في رياض الجنّة» الترغيب في المسارعة إلى مجالس ذكر الله تعالى إن كانت المجالس وكان الذكر مستجمعا لجميع الشرائط التي ذكرها الفقهاء.

والمراد من المنزلة توجه قلب المؤمن وإخلاصه من كل جهة الى الله تعالى ، ولازم ذلك ارتفاع منزلته عند الله تعالى فتكون القضية حينئذ من الملازمات العقلية ، لأن الانقطاع من جميع الجهات اليه تبارك وتعالى بحيث لا يشوبه شيء آخر يوجب ان تكون عناياته متوجهة اليه ، بل نفس هذا الانقطاع اليه هكذا عناية خاصة منه تبارك وتعالى.

والمراد من قوله : أنا جليس من ذكرني نهاية القرب اليه جلت عظمته والدنو المعنوي منه ، كما يقرب إلينا جليسنا ويدنو منا لا أن يكون المراد

منه القرب المكاني.

وفي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنّ الله عزوجل يقول : من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي من سألني».

أقول : إن شغل النفس بذكره تعالى عن بيان الحاجة يكون على قسمين :

الأول : ما إذا كان لسان حاله أنّ علمك بحالي يغني عن مقالي.

الثاني : ما إذا نسي ذلك كله وتوجه اليه تعالى من كل جهة ، وفي القسمين يحصل التوجه التام بالنسبة اليه فيغفل عن شؤونه.

وفي المعاني عن الحسين البزاز قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ألا أحدثك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت بلى قال : إنصاف النّاس من نفسك ؛ ومواساتك لأخيك ، وذكر الله في كل موطن ، أما أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

أقول : المراد بهذا الذكر ـ ما تقدم في أقسام الذكر ـ هو الذكر العملي الخارجي عند إرادة الطاعة أو إرادة المعصية بحيث يكون الذكر اللفظي كاشفا عنه.

في الكافي عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال الله عزوجل يا ابن آدم أذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك».

أقول : تقدم في ضمن الآية المباركة ما يرتبط بهذا الحديث.

وفي المحاسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال الله عزوجل : ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ، ابن آدم اذكرني في خلإ أذكرك في خلإ ، ابن آدم اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك. وقال : ما من

عبد ذكر الله في ملإ من النّاس إلّا ذكره الله في ملإ من الملائكة».

أقول : الروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة بين الفريقين وهذا الحديث مبين لبعض أقسام الذكر فانه إما نفسي قلبي ، أو باللسان في مكان خلوة ، أو باللسان في الملإ ، والذكر في الملإ إن أوجب ذكر الملإ لله تعالى ، فلا ريب في أن ذلك يوجب تشعب أذكار كثيرة كلها من ناحية الذاكر ، فيترتب عليه الثواب مضاعفا ، وإن لم يوجب ذكر غيره يكون من إتمام الحجة على الغير فيكون كسابقه.

في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أوحى الله إلى موسى : يا موسى لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال ، فإن كثرة المال تنسي الذنوب ، وإن ترك ذكري يقسي القلوب».

وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من أعطي أربعا ، وتفسير ذلك في كتاب الله : من أعطي الذكر ذكره الله ، لأن الله يقول : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). ومن أعطي السؤال أعطي الإجابة. لأن الله يقول : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة : لأن الله يقول : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). ومن أعطي الاستغفار أعطي المغفرة ، لأن الله تعالى يقول : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)».

أقول : وروي قريب منه عن علي (عليه‌السلام) ولا بد من تقييد ذلك بما إذا وقع من العبد بشرائطه.

وفي الدر المنثور قال : «رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن. ومن عصى الله فقد نسي الله ، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن».

أقول : يستفاد من أمثال هذه الروايات أن منشأ كل معصية هي الغفلة عن الله تعالى ، وتدل على ذلك آيات كثيرة نتعرض للتفصيل فيها إن شاء الله تعالى.

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلّى

الله عليه وآله) ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم الله عزوجل ولم يصلوا على نبيهم إلّا كان ذلك المجلس حسرة ووبالا عليهم».

أقول : الوبال هو سوء العاقبة والعذاب ، وكون المجلس وبالا لتحقق الغفلة عن الله تعالى ، لأنها منشأ كل معصية ولا وبال أشد منها.

والوجه في كون ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من ذكر الله تعالى لفرض انه رسوله وينبئ عنه ، وكذا جميع أولياء الله تعالى الذين يدعون إليه تعالى.

وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : للشكر حد إذا فعله الرجل كان شاكرا؟ قال (عليه‌السلام) : نعم. قلت : وما هو؟ قال : الحمد لله على كل نعمة أنعمتها عليّ ، وإن كان لكم في ما أنعم عليه حق أداء منه ، ومنه قول الله : الحمد لله الذي سخر لنا هذا».

أقول : هذا بيان لأدنى مرتبة حد الشكر ، لإتمام مراتب الشكر.

عن العياشي أيضا عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : فمنها كفر النعم وذلك قول الله يحكي قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

أقول : تقدم ما يتعلق بأقسام الكفر في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦] وفي البحث الروائي منه.

بحث عرفاني :

من أجلّ مقامات العارفين مقام الذكر ، بل هو من أعظم مظاهر حب الحبيب لمحبوبه فإن «من أحب شيئا أكثر من ذكره» ، ومن علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه ، وقد قالوا : إن المحب إذا صمت هلك ، والعارف إذا نطق هلك ، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب ، والثاني مأمور بستر

الأسرار ، ونسب إلى سيد الساجدين (عليه‌السلام) :

يا رب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن تعبد الوثنا

والذكر ـ عندهم ـ على أقسام ثلاثة :

الأول : ذكر اللسان المستمد من القلب.

الثاني : ذكر القلب مع عدم حركة اللسان ، ويسمى مناجاة الروح والاستجماع للمذكور بالكلية ، وهذا ذكر الخواص.

الثالث : ذكر السرّ ، ومعناه غيبة الذاكر في المذكور ـ في الجملة ـ فكأن المذكور يكون هو الذاكر ، وهذا ذكر أخص الخواص. ومثّلوا لكل ذلك بأمثلة مذكورة في محالها. كما بينوا لكل واحد منها ثمرات ونتائج.

ولو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام ، ذكر عامة النّاس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب ، تصير الأقسام أربعة. ولعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنزّههم عن مثل هذا الذكر.

ثم إنّ ذكر الذاكر إنما يتقوم بحبه للمذكور ، ولولاه لم يذكره والمذكور قد يحب الذاكر قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١] ، بل حبه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية ـ كما برهن في الفلسفة الإلهية ـ والنقلية ، فيقع التجاذب في البين لكل من الحبيبين. وبعد تحقق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح قال الشاعر :

اما ترى الحق قد لاحت شواهده

وواصل الكل من معناه معناكا

والبحث نفيس جدا لو وجدت لهذا العلم الشريف حملة.

بحث علمي :

يتضمن قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أهم

المناهج في تربية الإنسان في استكماله ، ومثله في القرآن الكريم كثير.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الأصول المهمة في هذا المنهج ـ كما هو دأبه عزوجل في القرآن الكريم ـ فعلى الإنسان الجد والاجتهاد في التفريع عليها وتطبيقها على مجالات الحياة.

ولا ريب في أهمية التربية والتعليم وارتباطهما الوثيق بالإنسان ودخلهما في جميع جوانب حياته وبهما يستكمل الفرد وينال السعادة في الدارين. ولا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته وبهما يقوم النظام الاجتماعي ، ولا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتصال بالواقع الإنساني وتكون له هذه الشمولية ، وهما قرين الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره.

ولا يعقل بالنسبة إليه تعالى إهمال هذا الجانب المهم في الإنسان مع علمه عزوجل بما يترتب على إهماله من الآثار ، ولم يشرع شريعة إلّا لتهذيب النّاس وتكميلهم وإيصال الفرد إلى السعادة.

ومنهج التربية والتعليم ـ كسائر المناهج والعلوم ـ قد طرأ عليه تغييرات ولم يصل إلى حده الفعلي إلّا بفضل جهود العلماء والمربين ووضع النظريات العلمية مما أوجب التغلب على كثير من الصعاب.

وللتربية والتعليم مناهج متعددة وقد وضعوا في كل واحد منها كتبا ورسائل كثيرة جدا. وأهم تلك المناهج هو : المنهج العقلي ، والمنهج المادي ، والمنهج التجريبي ، وجميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب إلّا المنهج الإسلامي المبيّن في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، والسبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلّا في حدود معينة وصلت إليها أفكارهم القاصرة ولذا نرى الاختلاف والتناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي الذي يصدر عن منبع محيط بكل الجهات وفي كل زمان.

ويمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها :

الأول : إنّ المنهج التربوي والتعليمي في الإسلام ليس ماديا صرفا ولا عقليا بحتا بل هو يشمل الجانبين ويعطي لكل جانب حقه.

الثاني : إنّه يراعي الجانب التطبيقي ويعطي للعمل أهميته ويهتم بالمربّين والمعلمين قبل كل شيء ، فهو يأمر بالتزكية وإتيان العمل الصالح ولا يكتفي بالجانب النظري فقط.

الثالث : إنّه يهدف الكمال الإنساني ويبغي سعادة الفرد والاجتماع ووضع لكل ذلك أسسا وقواعد لا يمكن التخلي عنها.

الرابع : إنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان وجميع جوانب حياته بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضا بحسب الآثار.

الخامس : إنّه مرتب ترتيبا دقيقا يبتدئ بالتلاوة ثم التزكية فالتعليم وطلب الحكمة ، والتجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.

وفي القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة وفي السنة الشريفة شرح ذلك ويأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

الآيات متسقة منتظمة كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان. ولذّة النداء والخطاب في أولها نرفع عن العبد ثقل التكليف. وقد بيّن سبحانه وتعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله وإشاعة الحق ومقارعة الباطل

يقترن بأنحاء من البلاء والمحن في الأنفس والأموال ولا يمكن التغلب عليها إلّا بالصبر والتوجه إليه تعالى في كل أمر. وقد لطف سبحانه وتعالى على عبيده بما يهون عليهم احتمال المكاره ويخفف عنهم عظم المصاب بما أعده سبحانه للصابرين من البشارة العظمى ، ولمن قتل في سبيله الأجر الجزيل. ولا يسعنا في ذلك إلّا أن نقول بما قاله الإمام زين العابدين (عليه‌السلام) في صحيفته : «ولو دل مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك كان موصوفا بالإحسان ومنعوتا بالامتنان ومحمودا بكل لسان» فهذه الآيات تكفي في عظمة الموحي والموحى إليه والوحي لكل من كان له سمع أو ألقى السمع وهو شهيد.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا وفيه من التحبب والملاطفة مع عبيده ما لا يخفى ، والمنساق من سياقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة ، وهو يقتضي أن يكون الخطاب مدنيّا لا مكّيا. وتقدم ما يتعلق به في الآية ـ ١٠٤ من هذه السورة فراجع.

قوله تعالى : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره والأذى. وحذف متعلقه يفيد العموم ـ كما هو المعروف في العلوم الأدبية ـ أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح ، وهو في كل شيء حسن ، ولا يتعلق بشيء إلّا وصار محبوبا ، فهو أمّ الفضائل والجامع لجميع جهات استكمال الإنسان إذا كان الصابر مراعيا لتكاليف المولى.

والاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب وأعظم السبل في نيل المقصود ، والحاجة إليه في تأييد الحق ومقارعة الباطل واحتمال المصائب معلوم لكل احد ، وآثاره ظاهرة لكل فرد ، وتقدم ما يتعلق به في الآية ـ ٤٥ من هذه السورة.

وأما الاستعانة بالصلاة فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب

العالمين ، وأهم أبواب مناجاته تعالى ، والإستغاثة به عزوجل ، لما تشتمل على عظيم الآثار ، فإنها معراج المؤمن ، وإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبها يحصل للنفس سكونها واطمينانها عن الحوادث الواردة عليها ، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم ـ والإنسان خلق من ذلك العالم فإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق ويشتد الارتباط مع رب الخلائق ، فينتظم النظام على الوجه الأصلح. وفي الحديث : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا حزبه أمر ـ أي اشتد عليه ـ فزع إلى الصلاة» وتقدم نظير هذه الآية في هذه السورة آية ـ ٤٥ إلّا أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة وفي هذه مدح الصبر وبشر الصابرين.

والوجه في التكرار التأكيد على أهمية الصبر والصّلاة في تنفيذ الأمور وتكميل النفوس وتوطينها لاحتمال المكاره وتحصيل السعادة في الدارين.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع والمصاحبة في الجملة ، ويختلف اختلافا كبيرا بحسب الموارد والخصوصيات ، ويستعمل في الخالق والمخلوق ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٣] وقال تعالى حكاية عن نوح : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١٨].

والمعية نحو ارتباط حاصل تارة : بين الخالق والمخلوق حدوثا وبقاء ، قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ويعبر عنها بالمعية القيّومية وتلازمها المعية الزمانية والمكانية والجامع ما ذكره علي (عليه‌السلام) : «مع كل شيء لا بالمجانسة وغير كل شيء لا بالمباينة».

وأما معية المخلوق مع خالقه فيعبر عنها بعبارات مختلفة ، أولها العبودية وآخرها الفناء في الله تعالى ونتيجة الجميع البقاء بالله تعالى.

وأخرى : تحصل من عونه ونصرته وتوفيقه ، وتسبيب أسباب الخير ، ومنها معيّته تعالى مع الصابرين والمتقين والأنبياء والصالحين ، فتكون معيته تعالى لهم من جهتين جهة قيموميته تعالى ، وجهة فعله وعنايته ونصرته لهم. وهناك معان أخرى للمعية تأتي في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ). المراد من القول هو الأعم من الإعتقاد والتعبير بالألفاظ ، فاستعمل في الجامع.

والقتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل. وأما إذا لوحظ فيه الإضافة الى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضا. هذا بحسب الشايع المتعارف وإلّا فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.

كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضا قال تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٢] والنصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.

بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنّ من تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.

وقد ذكر القتل هنا بهيئة المضارع ، وفي قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩] بهيئة الماضي ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة ، لما ذكرناه من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها والخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية.

والسبيل هو الطريق الذي فيه السهولة ، ويستعمل في كل ما يتسبب به إلى المطلوب ـ خيرا كان أو شرا ـ قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٤].

وقد ذكرت جملة «سبيل الله» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين موردا وهو يدل على سعته وشموله وعظمته وأهميته ، وتقدم الفرق بينه وبين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقد ذكر في القرآن الكريم والسنة المقدسة بعض المصاديق : مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد وتأييد الحق وقمع الباطل ، وبذل المال للضعفاء ، وإفشاء

الأخلاق الحسنة بين النّاس ، وخدمة الوالد ، وصلة الأرحام ، وإغاثة اللهفان ، وعون الضعيف وغير ذلك مما لا حد له ولا حصر ، وتقدم قول : «إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق».

والمراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد ونصرة الحق ومقارعة الباطل وقمعه.

وذكر القتل في سبيل الله بعد قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) من باب ذكر أهم الأفراد وأعظم الأمور الّتي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها ، يعني : إن الله تعالى مع كل صابر خصوصا هذا القسم من الصابرين فإنه آخر درجة التصبر والاصطبار ، فيمنحهم الله تعالى المعونة والأجر الجزيل.

قوله تعالى : (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). أي : لا تقولوا : في شأن من قتل في سبيل الله أنهم أموات مفقودون عن الحس ذهبوا الى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية ولكن لا تشعرون بها ، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.

والمراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ والحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين ، والحياة في الذكر واللسان ، نظير ما ورد عن علي (عليه‌السلام) : «هلك خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة» وهو من باب ذكر بعض الأفراد الذي يبقى لا من باب الحصر.

وقد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.

والحياة على أقسام :

الأول : الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن وإعمالها للقوى الظاهرية والباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

الثاني : الحياة الذكرى عند النّاس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء والأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيما لجهودهم في

العلم والأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث : الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلّا الله تعالى.

وظاهر الآية المباركة والنصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل الله هو القسم الأخير ، لفرض أنّه بذل نفسه ونفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي طلبا لرضائه وامتثال أمره ، ولا تحديد في هذه الحياة كما بالنسبة إلى القسمين المتقدمين. وتتبع هذه الحياة الحياة بالمعنى الثاني ، فما عن بعض المفسرين من أنّ المراد خصوص القسم الثاني فقط تخصيص للعموم بدون وجه.

إن قيل : مثل هذه الحياة ثابتة لكل فرد من أفراد المؤمنين ومعلومة لهم ، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

يقال : إنّ أصل الحياة بعد الموت وإن كانت ثابتة للمؤمنين ومعلومة لهم ، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة والنصوص الواردة في حياة الشهيد أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة كما يدل عليها قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩].

والخطاب في الآية عام لا يختص بطائفة خاصة لا المشافهين ولا غيرهم لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة ـ خصوصا ما ورد منها في القرآن الكريم ـ من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

فمن قال باختصاص الخطاب في المقام وفي قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩] بطائفة خاصة.

لا وجه له إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لطريقة العرف والعقلاء في محاوراتهم ولا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحم على العباد والترأف بهم.

والقتل في سبيل الله تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى : والشهيد مشتق

منها الا أنّ الأول باعتبار أصل الحدوث والثاني باعتبار الثبوت والشهيد من أسماء الله تعالى وهو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه ، ولعل اطلاق الشهيد على من قتل في سبيل الله تعالى إنما هو لأجل حضوره لديه عزوجل متلبسا بما عاناه من الصعاب والاضطهاد ، أو حضور الملائكة لديه مبشرين له بأعلى المقامات وارفع الدرجات التي أعدت له ، ويصح الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار وحضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء ، والمراد من حضوره تعالى هو توجهه الخاص به.

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحق ولا تختص بخصوص من بذل دمه في سبيل الله بل تشمل كل من تحمل الأذية مطلقا في سبيله عزوجل ، وفي جملة من الأحاديث : «المؤمن شهيد ولو مات في فراشه» إلّا أن للشهيد الذي بذل دمه له أحكاما خاصة ويأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.

والآية تدل على تجرد النفس وهو حق لا ريب فيه كما ثبت بالأدلة الكثيرة وهو المستفاد من الكتب السماوية والقرآن المبين والنصوص المتواترة من السنّة الشريفة ويأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ). مادة (بلا) تأتي بمعنى الامتحان والاختبار وتقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٤].

والشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل والكثير ، والجواهر والأعراض.

والخوف توقع المكروه ـ مظنونا كان او معلوما ـ بعكس الرجاء فإنه توقع المحبوب كذلك.

والمعنى : لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو أو بشيء من الجوع. ولم يذكر سبحانه وتعالى متعلق الامتحان ولا مورد الخوف والجوع تعميما للاختبار والامتحان في كل زمان ومكان وبالنسبة الى كل شخص. ولهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة الى كل مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية.

قوله تعالى : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ). النقص يأتي بمعنى الخسران وهو في مقابل التمام. والمراد من الأموال الأعم من الأعيان والمنافع وما يهتم الإنسان بحفظه فيشمل الحيوان والعبيد وكل ما يبذل بإزائه المال.

كما أنّ المراد بالأنفس كل ما يتأثر الإنسان بفقده وورود النقص عليه ـ سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها ـ فيشمل النفس والأقارب والأصدقاء.

والثمرات جمع ثمرة وهي وإن كانت داخلة في الأموال غالبا لكن أفردها سبحانه وتعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة مما لا مالك لها فعلا وينتفع بها الإنسان كالمرعى وجملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان وتكون غذاء للحيوان.

ويصح أن يراد بالثمرات مضافا إلى ما ذكرناه ثمرات القلوب أيضا وهي الأولاد كما يعبر عنهم بها كثيرا وفي الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم. فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم. فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة ، وسموه بيت الحمد».

والآية تشير الى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا المعبّر عنها في الفلسفة ب (دار الكون والفساد). كما أنها تفيد بأن الإيمان بالله تعالى لا يقتضي سعة الرزق ودفع الآلام ورفع المخاوف بل إن ذلك يجري حسب قانون السببية وما سنّه الله تعالى في عباده وإنما يجريها حسب المصالح والحكم ولذا نرى أنّ المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره ليعلم مقدار صبره أو يكمل إيمانه بها ويتهذب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إنّ اختبار النّاس من قبله تبارك وتعالى إنما يكون لأجل حكم ومصالح متعددة منها : توطين النفس على المصائب ، وتهذيب الأنفس وتكميلها ، والتأدب بمقاومة الحالات ، وإتمام الحجة ، والتمييز بين الصابر

وغيره ، وقوة البصيرة ، وصفاء السريرة ، وتعلّم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم واستقامتهم في الدين وما يترتب على ذلك من البشارة العظمى والأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

ولا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عزوجل فإن النّاس قبل الامتحان وبعده في علمه التام الأزلي على حد سواء.

ولأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض بل يشمل جميع أفراد الإنسان حتّى الأنبياء والأولياء بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية.

نعم ، تارة : يكون الامتحان لإتمام الحجة على نفس الممتحن (بالفتح) كما مر وهذا هو القسم الشايع وأخرى : يكون لأجل إتمام الحجة على النّاس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان وقابل للنبوة والإمامة كما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه‌السلام) ، وأما بالنسبة إلى سيد الأنبياء فإنه حاز مرتبة الجمع ويجل عن ذلك فانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أول الخلق كان كاملا ومكملا ، وان «آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة» ، ولو كان عيسى وموسى (عليهما‌السلام) حين لم يسعهما إلّا إتباعه كما ورد في الحديث ، وروى الفريقان إنه قال : «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» وعلى فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علو مقامه عند النّاس كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). أي : وبشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء الله تعالى وقدره وسلموا أمورهم إليه ولم تصدهم المحن والمصائب عن شكر الله تعالى ولا عن عبادته وطاعته.

وإنما اطلق سبحانه وتعالى البشارة لعدم إمكان تحديد المبشر به بحد معين ، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر والرضاء ، والمناط هو أهلية الصابر لتحمل البلاء والمحن خصوصا إذا اقترن مع الرضا والتسليم فإنه يكون حينئذ من أعلى الفضائل وأسناها كما قال عزوجل.

قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ

راجِعُونَ). مادة (ص وب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير والشر قال تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥٠] وقال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء ، الآية : ٧٩].

واستعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس ، أو مال أو أهل. ولكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط. وفي نصوص كثيرة أن كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتّى انقطاع شسع نعله ، والشوكة تدخل في بدنه ، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة.

والرجوع والعود بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه أولا نظير قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٩].

أي : إنّ كل ما لنا من الحياة والنّعم هو من عند الله تعالى وملك له ، فهو اعتراف بالملكية له تعالى ذاتا وتدبيرا وتسليما ورضاء بقضائه وحكمته.

وقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالرجوع إليه تعالى والجزاء على الأعمال. وفيه تسلية لكل مصاب ومظلوم وتوعيد لكل جائر وظالم.

والمعنى : وبشر الصابرين الذين يقولون : إنّا لله وإنا اليه راجعون المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لأمره.

وقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالمبدأ والمعاد لله تعالى بالمطابقة ، وحيث إنّ مبدأ الكل ومرجعهم يستلزم وحدة الذات والفعل والا لزم الخلف ، فهذه الآية تدل على توحيد الذات وتوحيد الفعل بالملازمة ، ولعظمة هذه الجملة قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أعطيت هذه الأمة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم وهو (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

والرجوع إلى الله تعالى إما غير اختياري أو اختياري ، والأول هو المعاد الذي دلت عليه جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيدا بليغا. وهو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ ووحدانيته وإذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

وأما الثاني أي الرجوع الاختياري اليه عزوجل فهو أن يهيئ الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر والضمائر حضور مجازاة لما فعل وعمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالى بهذا النحو من الحضور.

وبعبارة أخرى : إن هبوط الإنسان من المحل الأرفع الأعلى الى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه وأن يتدنس بما وقع فيه ، ولا بد له من التفكر بالعروج والصعود وهذا هو الاسترجاع العملي ولا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. وللاسترجاع العملي مراتب كثيرة ومقامات شريفة فصّلها العرفاء في كتبهم العرفانية.

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.

والصلاة هي التحية ، والتزكية ، والبركة والثناء الجميل. والجمع باعتبار الكثرة والتعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة وشدتها.

وأما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. وإنما أتى بالجنس تعميما لكل رحمة يكون المورد قابلا لها في العاجل وهي حسن العزاء والتوفيق. للرضا والتسليم بالقضاء ، وفي الآجل من المغفرة والأجر الجزيل ، فهو تعالى رحيم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). الاهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا ، والجنّة في العقبى فهم المستعدون لنيل سعادة الدارين. ولا ريب في تحقق الاهتداء في الاسترجاع القلبي العملي.

وإتيان الجملة الاسمية المعرّفة الطرفين ، والتأكيد بضمير المنفصل يؤكد أن هذه الأوصاف لا تكون إلّا في من صبر وسلّم الأمر إلى الله تعالى واعترفوا بأنّهم لله وأنهم اليه راجعون.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدل الآيات المباركة على أمور :

الأول : إنّ الآيات المتقدمة وما في سياقها تستنهض النّاس على المجاهدة في سبيل الله تعالى ، بلا فرق بين ان تكون المجاهدة في قتل الكافرين والمعاندين للحق ، أو المجاهدة في تهذيب النفس وتزكيتها بمكارم الأخلاق وترويضها بصالح الأعمال ؛ ويسمى هذا بالجهاد الأكبر كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله). أو المجاهدة في تحصيل المعارف الإلهية فإنها أعظم سبل الله تعالى والجهاد فيه يربو على أجر الشهيد ، ففي الحديث : «إذا كان يوم القيامة يوزن مداد العلماء على دماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» أو المجاهدة في السعي في قضاء حوائج المؤمنين وغير ذلك مما يسمى بالجهاد في الشريعة المقدسة ، فإن سبيل الله له مراتب كثيرة وجوانب متعددة والمجاهدة فيه أيضا كذلك.

الثاني : إنّ الآيات تدل على وجود عالم البرزخ وقد اثبته الفلاسفة ببراهين عقلية وتدل عليه آيات وروايات كثيرة وهو عالم وسيع جدا يتحقق من بعد الموت إلى البعث قال تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٠٠] ولهذا العالم تفاصيل كثيرة لعلنا نتعرض للمهم منها في الموضع المناسب.

الثالث : استدلوا بهذه الآيات على تجرد النفس ـ كما سيأتي بيانه والتجرد وإن كان حقا في الجملة والعلم به حاليا أولى بأن يكون علما استدلاليا مقاليا.

إلّا أنّ هذه الآيات بمعزل عن الدلالة على تجرد الروح فإنها لا تنافي كونها جسما لطيفا الطف من الهواء ، ومع الاختلاف العظيم الذي وقع من العلماء في شرح حقيقة الروح كيف يمكن الجزم بتجردها أو الجزم بشيء آخر؟! وسيأتي الكلام في الروح إن شاء الله تعالى.

الرابع : المراد بحياة الشهداء في سبيل الله تعالى الحياة الكريمة الدائمية الأبدية التي هي في جوار الله تعالى من أول مفارقة أرواحهم لا خصوص الحياة البرزخية فانها تعم الجميع حتّى الكفار والمنافقين ، ولا الحياة الذكرى فانها أيضا قد تكون لغير الشهيد ويصح إرادة الجميع كما تقدم ما يدل عليه.

الخامس : لم يذكر متعلق البشارة في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ليفيد العموم ـ كما هو المشهور بين علماء الأدب ـ وتعظيما للمبشر به. فكل شيء يذكر فيه يكون تحديدا بلا دليل وهي لا تختص بالمقامات الأخروية بل تعم الجميع ولا يصل إليها أحد إلّا بالصبر.

السادس : يستفاد من حرف القسم والتأكيد في قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) أنّ الإنسان لا ينفك عن المصائب والبلايا وهي إما نوعية أو شخصية وكل منهما إما جسمية أو روحية أو هما معا. والدنيا لا تخلو عنها أبدا وهي من لوازم وجودها بل من لازم ذاتها وقد عرّفها علي (عليه‌السلام) في خطبه المباركة بأحسن بيان. ويختلف أجر الصابر باختلاف المصائب واختلاف المصابين فإما أن تكون المصائب لحبط السيئات أو لرفع الدرجات أو التفضل بهما معا وينطبق على كل بحسبه.

السابع : إنّ ذكر البشارة وتعيين المبشر به بالإجمال يدل على رفعة مقام الشهداء والصابرين وعلوّ درجتهم وان لا يدنسوا هذا المقام الرفيع بحطام الدنيا فإن أجرهم معلوم ، وهذا من قبيل تقديم ذكر الأجر قبل العمل الذي حثّ عليه الشرع المبين.

الثامن : إنّما ذكر سبحانه الاستعانة بالصبر والصّلاة لأنهما أقوى سبب في تكميل النفس ثم بين أنه تعالى مع الصابرين ترغيبا لهم وتخفيفا من معاناة الصبر لكثرة مرارته ، ثم عقب سبحانه بعد ذلك الجهاد في سبيله لكونه من أجلّ المقامات وارفعها ثم ذكر الابتلاء والامتحان لأنهما مما يوجب الثبات والاطمئنان في تحصيل الكمالات المعنوية ، ثم ذكر بعض ما يفيضه على الممتحنين من أنحاء العطف والرحمة كل ذلك مقدمة لما يأتي في الآيات

اللاحقة من تشريع الأحكام الإلهية التي يكون إتيانها والخروج عن عهدتها من الجهاد الأكبر ، فالآيات على اختصارها ترغّب النفوس إلى تحمل المتاعب سواء في مقارعة الباطل وإعلان الحق او في إتيان التكاليف الإلهية ؛ وكل ذلك يدل على أن في تحصيل الكمال الأبدي لا بد من بذل الوسع وتحمل المشاق.

بحث روائي :

في تفسير العياشي عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «يا فضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السّلام ، وقل لهم : إني لا أغني عنكم من الله شيئا إلّا بورع ، فاحفظوا ألسنتكم ، وكفوا أيديكم ، وعليكم بالصبر والصّلاة إن الله مع الصابرين».

أقول : في سياق ذلك روايات متواترة أخرى فعن أبي جعفر (عليه‌السلام) في الصحيح : «لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال عند موته : ليس مني من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا والله» ، وعن الصادق (عليه‌السلام) حين حضرته الوفاة : «إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصّلاة».

وقد قطع أبو جعفر (عليه‌السلام) بقوله هذا أمل كل مؤمل فيهم ، وانه لا يفيد الشخص إلّا الورع عن محارم الله تعالى ، وذكر (عليه‌السلام) بعض أفراد العمل الصالح. وإنما خص (عليه‌السلام) الصبر والصّلاة لكون الأول من أهم موجبات الورع ، والثانية من أهم ما يوجب التوفيق للعمل الصالح وترك المحارم.

في الكافي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) قال : «الصبر الصيام ، وقال إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإن الله عزوجل يقول واستعينوا بالصبر يعني الصيام».

أقول : إنّه من باب التطبيق لأنّ الصوم يوجب الصبر عن الشهوات النفسانية ، فلا منافاة بين هذا الحديث وسائر ما ورد في معنى الصبر.

في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «كان علي (عليه‌السلام) إذا أهاله شيء قام إلى الصّلاة ، ثم تلا هذه الآية : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

أقول : إنّه يستفاد منه أهمية الصّلاة لدفع المكاره ورفع الشدائد.

في الكافي والتهذيب عن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه‌السلام) «قال له : ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين؟ قال : يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال (عليه‌السلام) : سبحان الله المؤمن أكرم على الله من ان يجعل روحه في حوصلة طير ـ إلى أن قال (عليه‌السلام) ـ إذا قبضه الله تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا. فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

أقول : هذا الحديث ورد في بيان حياة البرزخ وسوف نفصل الكلام في الحياة البرزخية ولوازمها وما يتعلق بها في محله إن شاء الله تعالى.

والجزء الأول من الحديث قد نسب إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد نفاه الإمام (عليه‌السلام) وهو حق لأنه لو لم يكن من التناسخ الباطل لكان نظيره والله تعالى أقدر من أن يجعل بدنا مثاليا لكل إنسان في عالم البرزخ من ان يجعل له بدنا من الحيوان.

وفي التهذيب عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «انه سئل عن أرواح المؤمنين؟ فقال : في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان».

أقول : لكل بدن نشئات هو في جميعها واحد منها نشأة الدنيا ، ومنها نشأة النوم في عالم الدنيا ، فإذا رأينا زيدا في الخارج ثم رأيناه في عالم النوم فهما واحد بلا إشكال ، ومنها نشأة البرزخ ؛ فيكون البدن المثالي في عالم البرزخ كالبدن المثالي في عالم النوم ، ومنها نشأة الحشر والبعث وهو عين البدن الدنيوي كما سنبينه في مباحث المعاد.

ولا اختصاص لوجود البدن في هذه النشآت بطائفة دون أخرى : نعم الشهداء متنعمون في أبدانهم البرزخية ، وفي عالم الحشر بنعمة فاقت على

نعم غيرهم حتّى ورد في نصوص كثيرة أنهم يحشرون على نحو ما استشهدوا أو قتلوا.

وعن ابن بابويه عن محمد بن مسلم قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إنّ قبل قيام القائم علامات تكون من الله للمؤمنين قلت وما هي جعلني الله فداك؟ قال (عليه‌السلام) : يقول الله عزوجل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) يعني المؤمنين قبل خروج القائم (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) قال نبلوهم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم ، والجوع بغلاء أسعارهم ، ونقص من الأموال قال : كساد التجارات وقلة الفضل. ونقص من الأنفس قال : موت ذريع. ونقص من الثمرات ، قال قلة ربح ما يزرع. وبشر الصابرين عند ذلك بتعجيل الفرج. ثم قال لي : يا محمد هذا تأويله إن الله عزوجل يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

أقول : أما قيام القائم (عليه‌السلام) فأصله مسلّم بين جميع المسلمين بل بين المليين ، واتفاق الجميع على أنه لا بد وأن يظهر مصلح بين النّاس إنما الاختلاف في المصداق.

وقبل القائم أمر إضافي يشمل القريب بقيامه والبعيد عنه. كما أن ما ورد في علامات الظهور موكول إلى مشيئة الله تعالى وليست كلها حتمية يمكن ان لا يظهر جملة كثيرة منها ، ويمكن ان يظهر جملة منها ولم يأذن الله تبارك وتعالى بظهوره (عليه‌السلام) وهذا التفصيل موكول إلى الكتب المعدة لذلك والروايات الواردة فيها.

وعلى أي تقدير ما ورد في الحديث من باب التطبيق ولذا عبر (عليه‌السلام) بقوله : «هذا تأويله».

عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي : بالجنّة والمغفرة.

أقول : هذا بيان لبعض مراتب المبشر به ودرجات البشارة في الجملة لا بالنسبة إلى جميع مراتبها ، فإن للصبر مراتب ومتعلقه أيضا كذلك ، ولا ريب

في أنّ بعض مراتبه أشد من مرتبته الأخرى ، فلا يعقل تسوية المبشر به بالنسبة إلى الجميع وتقدم في تفسير الآية ما يتعلق بالمقام.

وعن الباقر (عليه‌السلام) قال : «أتى رجل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : إنّي راغب نشيط في الجهاد قال : فجاهد في سبيل الله عزوجل فانك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا ، وإن مت فقد وقع أجرك على الله».

أقول : لا فرق بين الشهادة والموت إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات انفصال الروح عن البدن ، فإنه في كل منهما واحد وإنما الشهادة بالنسبة إلى القتل في سبيل الله والموت بالنسبة إلى غيره ، ممن يخرج في سبيل الله فان مات في الطريق فهو في حكم الشهيد ، وان قتل بيد العدو فهو شهيد حينئذ وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «وان مت فقد وقع أجرك على الله» تطبيق للآية الشريفة : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٠٠].

في المجمع عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه. وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له الأجر مثله يوم أصيب».

أقول : هذا الحديث يبين بعض ما قاله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين تفجعه إلّا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وكلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر الله له كل ذنب اكتسب فيما بينهما».

أقول : ترتب الثواب على الاسترجاع ، لأنه اعتراف بالتوحيد الذاتي والتوحيد الفعلي ، واعتراف بالمبدأ والمعاد. فهذه الكلمة جامعة لجملة كثيرة من المعارف الإسلامية ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنها من خواص هذه الأمة كما تقدم.

في الخصال «أربعة من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم : من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، ومن إذا أصابته مصيبة قال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، ومن إذا أصاب خيرا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ومن إذا أصاب خطيئة قال : استغفر الله وأتوب إليه».

أقول : المراد بنور الله الأعظم رحمته الواسعة ، وهدايته الكاملة إلى المعارف الإلهية ، وذلك لأن هذه الكلمات جامعة لجميع ذلك بنحو الإجمال.

وفي الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال الله عزوجل إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا [فيضا] فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة [منهنّ] عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وما شئت من ذلك ومن لم يقرضني منها قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها مني ، قال : ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : قول الله عزوجل : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) فهذه واحدة من ثلاث خصال ورحمة من اثنتين ، وأولئك هم المهتدون ثلاث. ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا».

أقول : يدل على الجزء الأول من الحديث قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٥] ؛ وقوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١٧].

وأما قوله (عليه‌السلام) : «وأخذت منه شيئا قسرا» أي جبرا وكرها فهو بالنسبة إلى عامة النّاس ، وأما بالنسبة إلى أولياء الله تعالى فلا يتصور القسر بالنسبة إليهم لأنّهم في مقام التسليم والرضا بأمره تعالى.

وفي نهج البلاغة قال علي (عليه‌السلام) وقد سمع رجلا يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) : «يا هذا إن قولنا : إنّا لله إقرار على أنفسنا

بالملك. وقولنا : (إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). اقرار على أنفسنا بالهلاك».

أقول : يستفاد منه ان هذه الجملة المباركة تشتمل على الاعتراف بالمبدأ والمعاد اللذين هما أساس دعوة الأنبياء والكتب النازلة من السماء. وأمثال هذه الروايات كثيرة جدا.

وفي المعاني عن الصادق (عليه‌السلام) : «الصّلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن النّاس دعاء».

أقول : قريب منه روايات أخرى ، ويمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد وهو الميل والعطف ولكنه يختلف باختلاف الموارد.

بحث فلسفي في تجرد النفس :

البحث عن النفس من المباحث المهمة لتعدد الجوانب فيها فقد بحث عنها في الفلسفة القديمة والحديثة كما بحث عنها في علم الأخلاق وعلمي الحديث والتفسير ، والعرفان ، كما بحث عنها في علم الأحياء وأخيرا أفرد لها علم مستقل يعرف باسمها يبحث فيه عن معرفة النفس الإنسانية وطبيعتها وعوارضها وعملها وأمراضها ووضعوا فيها نظريات وقوانين.

ولقد حاول العلماء التوصل إلى طبيعة هذا المخلوق العجيب ومعرفة المسائل التي تتعلق بها لعلهم يجدوا حلا للشبهات التي قد تنشأ من التفكر فيها إلّا أنهم اعترفوا بعد طول الجهد بالعجز عن الكثير وإن أمكنهم الكشف عن بعض الجوانب ولكنه لا يغني عما يستجد من المشاكل فضلا عن ما ذكرناه فالحقيقة بعد تحت الحجاب ، وفي ذلك تنبيه الإنسان على أنه إذا عجز عن فهم حقيقة ما هو أقرب الأشياء اليه فكيف يطمع بالإحاطة بحقيقة ما اعترفت العقول بالعجز عنه والخضوع امام عظمته.

والسبب في ذلك ان النفس ـ أو الروح ـ من عالم الغيب الذي لا يحيط به إلّا الله عزوجل ، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ٨] وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ

رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة الحجر ، الآية : ٢٩] ولأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلّا الله عزوجل أو من كشف عن بصيرته الستار فيرى أنوارا من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها وأنواع أشعتها الا الله تعالى.

ونحن نذكر في المقام جانبا من تلك الجوانب وهو البحث عن تجرد النفس. ونتعرض للبقية في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالى. وتمهيدا للبحث في الموضوع لا بأس بذكر ما يتعلق بالمراد من (النفس) وموقعها من الموجودات.

تقسيم الموجود :

لو نظرنا إلى ذات الموجود من حيث هو فانه ينقسم إلى أربعة أقسام :

الأول : أن لا يكون محتاجا إلى المادة مطلقا ـ لا في ذاته ولا في فعله ـ بل يكون منزها عنها مطلقا ، وهذا القسم منحصر في الله تعالى الذي هو خالق الخلق جميعا من مجرداتها ومادياتها.

الثاني : أن يكون محتاجا إلى المادة في الذات والفعل معا ، وهو عالم الماديات المحضة التي تكون ذاتها من المادة وفعلها بها وفيها أيضا.

الثالث : أن لا يكون في ذاته محتاجا إلى المادة ولكن في فعله يحتاج إليها وهو النفوس مطلقا ـ نباتية كانت أو حيوانية أو إنسانية أو فلكية ـ المتعلقة بجسم الأفلاك ، لا الساكنة فيها كالأملاك.

الرابع : أن يكون في ذاته محتاجا إلى المادة دون فعله وهذا باطل بالضرورة كما هو معلوم.

كما ينقسم الموجود باعتبار آخر إلى اربعة أقسام أخرى :

الأول : أن لا يكون له حدوث أبدا بل يمتنع عليه ذلك ، فيكون أبديا سرمديا من ذاته بذاته ، وهو منحصر في الله عزوجل.

الثاني : أن يكون جسمانيا في الحدوث روحانيا في البقاء ، فيكون إبداعا إليها في الجسم بنحو ما جرت عليه إرادته البالغة التامة كالنفس ، فهي

من جهة كثمرات الأشجار وأوراد النباتات وجمال كل جميل ، وحسن كل حسن وغير ذلك مما هو من بدايع الله تعالى وودائعه في الطبيعة ، والأعمال القريبة إلى الإنسان التي تفعلها النفس من هذا القسم أيضا فإنها جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، لبقائها ببقاء الله تعالى وعدم نفاذها وقد أشتهر بين الفلاسفة : «أن النفوس الناطقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء».

الثالث : أن يكون روحاني الحدوث وروحاني البقاء كالروحانيين والأملاك الذين هم سكنة الأفلاك المسيطرون على السفليات بإذن خالق البريات.

الرابع : أن يكون روحاني الحدوث جسماني البقاء كالملك إذا ظهر في صورة جسم ، وقد مر في الحجر الأسود من أنه كان ملكا ثم صار حجرا فراجع الآية ١٣٧ من هذه السورة.

إذا عرفت ذلك يتبين موقع النفس من هذه الموجودات ، فهي الموجود الذي يحتاج في فعله إلى المادة دون ذاته فلا يمكن استقلالها عن الجسد في العمل الذي يكون جسماني الحدوث ، لأن حدوثها بحدوث الجسم وقبله لا يكون شيئا ؛ وروحاني البقاء لبقائها بعد فناء الجسد. وقد عبر بعض الفلاسفة المحدثين (هيغل) عن النفس بأنّها أدنى تجل حسّي للروح في علاقتها بالمادة ، أي : حساسة وفاعلة.

المراد من النفس :

النفس في اللغة تأتي بمعنى الذات والشخص ، وهي مشتقة من (النّفس) الذي هو بمعنى نسيم الهواء ؛ وبه تتعلق حياة الإنسان فالنفس ما تقوم به الحياة ، ولذا سمي الدم (نفسا) في اللغة والشرع كما ورد في أحاديث حيوان ذي النفس السائلة ، ولعل ذلك من باب إطلاق الحال على المحل ، لأن حركة الدم في الجسم منشأ لحصول الروح البخاري ، وهي مورد تعلق النفس الحيواني. فالنفس هي ما تتقوم به الحياة وبها يتميز الكائن الحي مما لا حياة فيه. وهي بهذا المعنى تكون مرادفة (للروح) فإن الروح إذا انقطعت عن الحيوان فارقته الحياة وكذلك النفس.

وكيف كان فهي ظاهرة عند كل فرد حي ، وهي المعبر عنها ب (أنا) وقد عرّفها العلماء بتعاريف مختلفة يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن ، فقد عرّفها بعض أكابر الفلاسفة في منظومته الفلسفية :

وأنّها بحت وجود ظل حق

عندي وذا فوق التجرد انطلق

وعن العرفاء : أنها من مظاهر التجلي الإلهي ، وهي جوهر مشرق للبدن.

وقال بعضهم : إنّها الجوهر البخاري اللطيف الذي هو منشأ الحياة والحس والحركة الإرادية. ويسميها أفلاطون بالفكرة الأبدية.

وأما عند الماديين فقد اتفقوا على أنها شيء مادي يمكن أن تقع تحت تجربة ؛ ولكنهم اختلفوا في طبيعتها فعن الماديين القدماء انها عمليات أولية فيزيقية كيماوية. وتعتبرها الشعوب البدائية ظل الشخص أو الدم ، أو النّفس ونحو ذلك ، ومن هنا جاء المعنى اللغوي.

وهي عند الجدليين منهم ظواهر عقلية وتفاعلات مادية يمكن كشفها وفحصها بالتجربة ونحوها ، وبعبارة أخرى هي صفة خاصة للمادة في تنظيمها الأعلى فلا يمكن لها التجرد عن الجسد أبدا ، وهي بهذا المعنى تكون مرادفة للفكر والإدراك والذهن والعقل ونحو ذلك.

ولكن النفس عند المتدينين إنها قوة لا مادية خالدة غير متجسدة قادرة على أن توجد في انفصال واستقلال عن الجسد في عالم آخر.

هذه كلمات القوم في تعريف النفس مع غض النظر عن المناقشات التي يمكن ان ترد عليها فان لها موضعا آخر. وقد ألّف المحقق الثاني كتابا في النفس والروح في القرن العاشر الهجري سماه (الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح) وجمع الأقوال فيها وأنهاها إلى ما يقرب من أربعين قولا ؛ وان أمكن إرجاع بعضها إلى بعض فتصير الأقوال أقل لا محالة.

والمستفاد من الكتب السماوية والقرآن الكريم أن النفس شيء فيها اقتضاء كل كمال معنوي من الله تعالى وكمال ظاهري بلا تحديد فيه بذلك ، وهي متحدة مع الجسد زمنا ما ثم تنفصل وتبقى إما سعيدة أو شقية

حسب ما يختار صاحبها من الطريقين ، فانها كصحيفة بيضاء لا أثر فيها الا بما ينتقش فيها إما للدنيا أو الآخرة أولهما معا ، قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [سورة النجم ، الآية : ٣٩] ، فالآية تشمل كل واحدة من الدارين أو هما معا ، قال تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [سورة طه ، الآية : ١٥] فلا نجاة لها إلّا بالعمل الصالح الذي ورد من الشرع ، ولا مقام ولا منزلة لها في الدنيا إلّا بالسعي ، وهي متفاوتة في ذاتها ومختلفة في آثارها ، وهذا قريب من الوجدان. وقد قسمها العلماء إلى أقسام ليس هنا موضع ذكرها وسيأتي تفصيل ذلك كله في آية ٢٨١ من هذه السورة إن شاء الله تعالى.

تعدد النفس والجسد :

إذا رجع كل فرد إلى وجدانه يرى انه شيئان : النفس والجسد ويذعن بأن للإنسان بدنا (جسدا) وقوى ظاهرية ، وما يدبرها وهو ليس إلّا النفس المعبر عنها ب (الروح) ، وهما متحدان كاتحاد الماء مع الورد لا يمكن الفصل بينهما إلّا من ناحية الآثار والعوارض والحوادث والآفات. فإن للجسم خواصا وآثارا وامراضا معينة ، كما أن للنفس آثارا وظواهر وحوادث ، ولعل هذا الأمر أصبح من الواضحات في هذه الأعصار بعد تقدم العلم وكشف الظواهر النفسية وما يترتب عليها من الآثار والأمراض المتعلقة بالنفس دون الجسد وقد وضعوا لها علما مستقلا يتكفل جميع ما يتعلق بالنفس.

ومع ذلك فقد اثبت الفلاسفة والعلماء القدماء منهم والمحدثون ثنائية النفس والجسد بأدلة كثيرة قويمة لا تبقي مجالا للقول بواحدية الإنسان كما عن الماديين وانه ليس إلّا جسما فقط ، فانه مخالف للوجدان والدليل العقلي وجميع الأديان السماوية.

نعم يبقى شيء وهو أنّ الإنسان وإن كان مركبا بالتحليل العقلي من النفس والجسد إلّا أنه واحد شخصي يشار إليه باعتبار أنه شخص مادي ذو فكر ، متعلم ، يفعل كذا وكذا ، وبمثل هذا الواحد الشخصي تعلق الخطاب في القرآن الكريم والشريعة المطهرة وفي المحاورات. ولعل من قال بواحدية

الإنسان أراد منها هذه الوحدة ، ولا بأس بها ، ولكنه حمل ينافي صريح كلماتهم.

معنى التجرد :

لم يرد هذا اللفظ بالنسبة إلى النفس في القرآن الكريم ولا في السنة الشريفة. وإنما استفيد ذلك من سياق الآيات والأحاديث والإشارات الواقعة فيها التي يستفاد منها التجرد كالآية التي تقدم تفسيرها وغيرها من الآيات التي نشير إليها.

والمراد من التجرد كفاية أمر الله تعالى وإنشائه في تحقق شيء بلا حاجة إلى سبق مادة وتبدل صورة أو غير ذلك في التحقق والثبوت ، وتكون نسبته إلى المادة نسبة القوى المحركة للآلات التي تتحقق بها الحركة ، سواء كانت الآلات طبيعية ، ويسمى ب (التجرد التكويني). أم صناعية ويسمى ب (التجرد الصناعي).

وهناك معنى آخر للتجرد وهو ابتعاد النفس عما سوى الله تعالى بالإرادة والإختيار بواسطة المجاهدات والرياضات الشرعية بأن تكون جميع مشاعره الظاهرية والمعنوية ـ كما أنها من الله تعالى ـ تكون في الله وبالله تعالى ، فيصير الشخص من جميع جهاته مظهرا من مظاهر الله عزوجل ، فيتجرد عن دار الظلمة والغرور ويتصل بينبوع النور ، ويسمى هذا ب (التجرد الاختياري).

ولا ريب في أن الأول يكون معدا للثاني ، إذ لولاه لما تحقق للأخير موضوع أبدا ، ومع ذلك فهو أفضل من الأول بمراتب. كما أنّ الموت تارة طبيعي وأخرى اختياري رغّب اليه نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله : «موتوا قبل ان تموتوا» أي أميتوا النفس الأمارة بالسوء قبل أن تموتوا بالطبيعة. وقد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين التجردين كما لا يخفى على من راجع عباراتهم.

الأدلة على تجرد النفس :

استدل العلماء على تجرد النفس بالكتاب العظيم ، والسنة الشريفة ودليل العقل.

أما الأول : فقد استدلوا بجملة من الآيات المباركة ، منها تلك الآيات التي أضيفت الروح فيها إلى الله تعالى حدوثا ؛ كقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥] ، وقوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة الحجر ، الآية : ٢٩] أو أضيفت اليه تعالى بقاء ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٦٠] إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أن هذه الإضافة المطلقة ـ بلا ذكر سبب مادي أصلا لا مقارنا ، ولا سابقا ، ولا لاحقا ـ إلى الله تعالى المنزه عن توهم المادة تدل على التجرد بوضوح إذ لا بد أن يكون المنسوب اليه تعالى منزها عن المادة أيضا. والإهمال فيه مع كثرة أهمية الموضوع ، وقيام نظام الدنيا والآخرة به يكون قبيحا عقلا ، لأن الأمر دائر فيه بين النفي والإثبات فإما أن يكون مجردا محضا ؛ أو ماديا لا بد وأن يذكر فيه الجهة المادية ولو في آية أخرى.

ومنها : الآيات الكثيرة الدالة على التعقل والتفكر وذم التغافل عنها فإن ذلك لا يتحقق إلّا في ما هو مجرد عن المادة خصوصا على ما أثبته أكابر الفلاسفة وأعاظمهم من اتحاد العاقل والمعقول ، وسنبين هذا البحث النفيس في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ومنها قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [سورة الفجر ، الآية : ٢٧] وغير ذلك من الآيات التي تدل بظاهرها على تجرد النفس وبقائها بعد الموت وانتقالها من البدن المادي إلى بدن آخر برزخية أخروية.

أما الثاني : أي الاستدلال بالسنّة الشريفة ، وهي نصوص كثيرة وردت في أبواب متفرقة ، ومنها قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» ، ولا ريب في دلالته على سبق الحدوث والتجرد في الجملة ، وهل المراد بألفي عام الأعوام الربوبية ، أو الأعوام الزمانية في عالمنا هذا؟ لم يتضح ذلك إلى الآن حق الوضوح. ثم ما وجه التخصيص بألفين دون غيرهما.

ومنها قول علي (عليه‌السلام) : «إنّ هذه الأرواح تكلّ كما تكل الأبدان ـ الحديث ـ» وهو ظاهر في أنها من عالم آخر غير عالم المادة.

وبالجملة ، النصوص من الأئمة الهداة أكثر من ان تحصى ـ وقد سبق في البحث الروائي بعضها ـ ومجموعها يدل على ان النفس والروح من عالم آخر تعلقت بالبدن برهة من الزمن ثم تنفصل عنه ثم تعود متعلقة به وتبقى خالدة أبد الدهر.

يضاف إلى ذلك ما اثبته العلماء في العصر الحديث من أمور ترتبط بالنفس وقد وضعوا لها كتبا مستقلة ، كما أثبت العلماء الأخلاق امراض النفس وآفاتها ، ويشهد لذلك ما اثبت في هذه الأعصار من التفرقة الحسية بين الأرواح والأجساد.

أما الثالث : أي الدليل العقلي فقد استدل في الفلسفة على تجرد النفس بأدلة كثيرة أنهاها بعضهم إلى عشرة لا يخلو بعضها عن المناقشة. وأهمها أمور :

الأول : حضور ذات النفس بذاته لكل أحد ، وهذا بديهي ، وهو يدل على التجرد ، إذ لو كانت مادية لما أمكن ذلك إلّا بالانطباع في ما هو أصفى والطف منها ، كما في حضور جميع الصور المادية في المرآة أو الماء الصافي ونحو ذلك.

الثاني : صدور الدقائق العلمية والفكرية منها مما لا يمكن صدورها عن غير المجرد.

الثالث : قدرتها على تصور غير المتناهي. إلى غير ذلك مما فصل في علم الفلسفة والكلام.

ومن ينكر أصل الروح والنفس أو يقول بماديتها وأنها نفس البدن فلا يسعه إلّا إنكار وجدانه.

ثمرة البحث :

نتيجة هذا البحث النفيس [تجرد النفس وعدمه] تظهر فى المعاد الروحاني فإن القول بتجرد النفس وعدم فنائها بفناء البدن يمهد الطريق للمعاد الروحاني ويسهل الالتزام به معه ، كما عليه جمع كثير من الفلاسفة قديما وحديثا.

وبعكس ذلك ، أي القول بعدم التجرد وكون النفس تابعة للبدن فإنه يدل على مسألة المعاد الجسماني. وقد صرح جمع من الفلاسفة بأن طريق إثباته منحصر بالدليل السمعي فقط.

وهذه الثمرة مبتنية على ان المجردات تبقى ـ وغيرها ينعدم ويفنى ثم يعاد. ولكن يظهر من الآيات المباركة أن ما سواء الله تعالى ـ من مجرداته ومادياته ـ ينعدم قبل قيام الساعة قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٦ و ٢٧] ، وكذا النصوص التي يأتي بيانها مفصلا في المورد المناسب إن شاء الله تعالى ؛ قال علي (عليه‌السلام) : «إن الله سبحانه يعود بعد فنائها الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ، ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات فلا شيء إلّا الله الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور». نعم يثبت المعاد مطلقا بالكتاب والسنة على ما يأتي بيانه مفصلا.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى أمر القبلة وما يلاقيه الإنسان ـ في سبيل استكماله وتزكية النفس ـ من المصائب التي لا بد من الصبر عليها والتسليم له تعالى ، بيّن سبحانه بعض ما يكون دخيلا في كماله فذكر من مشاعر الحج الصفا والمروة واعتبر التطوف بهما من الخير الذي يشكره عليه ويجزيه بالجزاء الأوفى.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، مادة (ص ف و) تأتي بمعنى الخلوص عن الشوب ، ومنه الصفاة وهي الحجارة الملساء الصافية الخالصة ، ومنه أيضا اصطفاء الله لخاصة عباده لخلوصهم في عبوديته ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٣] ، وقال تعالى : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [سورة النمل ، الآية : ٥٩].

والصفا جبل بمكة تجاه البيت الحرام ، سمي به ، مضافا إلى الوجه اللغوي ، أنّ صفي الله آدم (عليه‌السلام) هبط عليه فسمي المحل باسم الحال ، وهو يذكر ويؤنث.

والمروة واحد المرو ، وهي الحجارة البيض ، أو الحجارة التي تقدح منها النار ، وهي جبل بمكة أيضا ، سمي الموضع بها مضافا إلى التسمية اللغوية أن المرأة ـ أي حواء ـ نزلت عليها فسمي المحل باسم الحال.

وبين الصفا والمروة من المسافة ما يزيد على ٧٦٠ ذراعا يسعى بينهما في الحج والعمرة. وكان للمشركين عليهما أصنام إلى أن أظهر الله تعالى الإسلام فألقاها عنهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة تطلق تارة : على معالم الحج ومشاعره ، وهي أعلامه الظاهرة المعدة للنسك والعبادة ، ومشاعر الله كل ما يتعبد فيه لله عزوجل ، وأخرى : على العبادة والنسك من صلاة وصوم ودعاء ، وقراءة القرآن وغير ذلك مما يصح أن تكون عبادة.

والمعنى : إنّ الصفا والمروة من مواضع عبادة الله تعالى ومعالم طاعته ، لأنّ المسعى من أحب البقاع إلى الله تعالى ، وأن السعي بينهما تذلل خاص وخشوع كبير لله تعالى ، وأن فيه يذل كل جبار ففي الحديث قيل للصادق (عليه‌السلام) : «لم صار المسعى أحب البقاع إلى الله تعالى؟ قال : لأنه يذل فيه كل جبار».

قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ). الحج هو القصد للزيارة ، وفي

الشرع قصد بيت الله الحرام لأداء النسك المخصوصة المعروفة في كتب الفقه.

والعمرة : الزيارة ، وهي من العمارة لأن المزور يعمر بالزيارة وهي شرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام على ما هو المفصل في الفقه والاعتمار أداء مناسك العمرة.

وقد ورد لفظ الحج في القرآن العظيم في تسعة موارد ، كما ورد لفظ الاعتمار فيه في مورد واحد ، ولفظ العمرة في موردين.

قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما). الجناح (بالضم) الميل ، والمراد به هنا الترخيص وعدم الإثم والبأس ولو كان بحسب القرائن الحافة به. وأما وجوب المورد او عدمه فلا بد أن يستدل عليه بالدليل آخر ، كما يقال لمن صلّى في ثوب أسود : لا جناح بالصلاة فيه ، فإنه لا يدل على الترخيص في أصل الصّلاة بعد ثبوت وجوبها بأدلة خاصة ، فيكون متعلق الجناح جهات أخرى لا أصل الصلاة.

والسر في التعبير به مع أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب في الحج والعمرة عند المسلمين إما لأجل رفع توهم الحظر فان المسلمين توقفوا في بادئ الأمر من الطواف بينهما ، لمكان الأصنام الموضوعة عليهما.

أو لأجل أنّ المشركين كانوا لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ، وأنّ السعي بينهما ليس من مناسك ابراهيم (عليه‌السلام) فعبر تعالى بذلك ، وهو لا ينافي وجوب السعي بدليل خارجي ، كما سيأتي في البحث الفقهي.

والتطوف : الطواف وهو المشي حول الشيء ، أو بين شيئين ، وقد استعملت المادة في القرآن كثيرا بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، والعذاب والرحمة ، قال تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج ، الآية : ٢٩] ، وقال تعالى : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) [سورة القلم ، الآية : ٢٩] وقال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [سورة الإنسان ، الآية : ١٩].

ويطلق الطيف على الخيال ، والنوم ، والحادثة باعتبار الإحاطة بالإنسان. وسمي السعي بينهما تطوفا باعتبار تكرره والرجوع الى مبتدئه كما يطلق على المرأة طوافة البيت.

وإنما بدأ سبحانه في بيان أعمال الحج واحكامه بالسعي بين الصفا والمروة مع أنه مؤخر عن جملة من الأعمال ـ كالإحرام والطواف بالبيت ـ إما لأجل أن حكمة تشريعة كانت بعيدة عن العقول ، أو لأجل أن الصفا والمروة كانا محلا لأعظم أصنام المشركين ، فكان المسلمون يتنزهون عن السعي بينهما. أو لأجل إنكار شعيرتهما وعدم كونها مما أتى به إبراهيم (عليه‌السلام) أول مشرع لأحكام الحج ويرشد الى هذا الاحتمال ذكر آية الكتمان بعد ذلك.

ويمكن أن يقال : انه قد ذكر سبحانه إجمالا بعض اعمال الحج في ما تقدم من الآيات ، فقد ذكر الطواف في قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٥] وذكر صلاة الطواف في قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٥] وهنا ذكر السعي ، وسيأتي بقية الأحكام في هذه السورة وسورة الحج.

قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً). التطوع : هو الرغبة في الشيء متخذا له كما في التعلم والتفهم ، وهذا هو شأن هيئة (تفعّل) وهو أعم من الطاعة فانها لا تصدق إلّا إذا كان أمر في البين ـ واجبا كان او ندبا ـ وفي غيره لا تصدق الإطاعة.

ولا يدل اللفظ على الندب والاستحباب إلّا بقرينة خارجية ؛ ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (خَيْراً) أن السعي كالطواف حول البيت الحرام انه خير ويكون محبوبا له تعالى ، ويقتضيه المتعارف عند الملوك فإن كثرة تردد الرعايا على أبوابهم محبوبة لديهم.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ). شكره تعالى إنعامه على العباد ، والجزاء على ما فعلوه من الخير. وهو العليم بطاعة العباد لا يخفى عليه شيء فيجازي كل فرد بما يستحقه من الجزاء.

وفي التعبير بالشكر إشارة إلى نهاية لطفه وكمال عنايته بعبيده ، فان العبد

وعمله ملك له تعالى ومنافع عمله عائدة إليه ومع ذلك فهو تعالى قد شكرهم عليها ويجزيهم بالخير الجزيل. وفي ذلك إيماء إلى وجوب شكر المنعم والترغيب اليه ؛ والحث على التخلق بأخلاق الله تعالى ، والتشكر من النّاس والتقدير من أعمالهم.

ومعنى الآية المباركة إنّ الصفا والمروة من مشاعر عبادة الله تعالى وطاعته فمن قصد زيارة البيت في الحج والعمرة يكون السعي بينهما مطلوبا لأنه خير.

بحث روائي :

ابن بابويه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سمي الصفا صفاء لأن المصطفى آدم هبط عليه ، فقطع للجبل اسم من اسم آدم (عليه‌السلام) يقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ). وهبطت حواء على المروة وإنما سميت المروة ، لأن المرأة هبطت عليها ، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة».

أقول : هذا من بعض وجوه التسمية كما تقدم في التفسير ، ويمكن أن يكون هناك جهات أخرى للتسمية ، ولا بأس بأن يجتمع في شيء واحد جهات متعددة للتسمية.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قال : «لا حرج عليه أن يطوّف بهما».

أقول : تقدم ما يدل على وجوب السعي بينهما وأن قوله تعالى : (فَلا جُناحَ) وما ورد في تفسيره بلا حرج إنما هو من جهات اخرى لا من جهة إباحة اصل السعي حتّى ينافي الوجوب.

في الكافي عن بعض أصحابنا قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة؟ فقال (عليه‌السلام) : فريضة. قلت : أو ليس قال الله عزوجل : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قال : كان ذلك في عمرة القضاء إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) شرط عليهم أن

يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة».

ومثله في تفسير العياشي إلّا أنه زاد : «فتشاغل رجل من أصحابه حتّى أعيدت الأصنام قال : فأنزل الله. (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي والأصنام عليهما».

أقول : الرواية تبين ما تقدم من اختلاف متعلق الوجوب وهو ذات السعي ومتعلق «لا جناح» باعتبار وجود الأصنام.

وفي الكافي أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث حج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتيه قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدأ بما بدأ الله عزوجل ، وان المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ المسلمين كانوا يظنون أنّ السعي ما بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله هذه الآية» وروى السيوطي مثله في الدر المنثور.

أقول : حيث إنّ المسلمين كانوا يعتقدون أنّ السعي من فعل الجاهلية فيصير قوله تعالى : (فَلا جُناحَ) في مقام توهم الحظر كما تقدم.

وفي تفسير القمي : «إنّ قريشا وضعت أصنامهم بين الصفا والمروة وكانوا يتمسحون بها إذا سعوا ، فلما كان من أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما كان في غزوة الحديبية وصده عن البيت وشرطوا له أن يخلوا له البيت في عام قابل حتّى يقضي عمرته الثالثة ، وقال لقريش : ارفعوا أصنامكم حتّى أسعى فرفعوها».

أقول : لا منافاة بين هذه الرواية وبين الرواية السابقة الدالة على السعي مع وجود بعض الأصنام لإمكان بنائهم على الرفع واشتغالهم به ولم يتم ذلك إلّا بعد مدة.

في الدر المنثور عن عامر الشعبي : «كان وثن بالصفا يدعى إساف ، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر فأنزل الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) ـ الآية ـ فذكّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه وأنّث المروة من جهة الصنم الذي كان عليها مؤنثا».

وفي صحيح البخاري عن عاصم «كان المسلمون يمسكون عن الطواف بين الصفا والمروة وكانا من شعائر الجاهلية ، وكنّا نتقي الطواف بهما فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ـ الآية ـ».

أقول : ورد من طرقنا قريب من ذلك أيضا.

بحث فقهي :

يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أن السعي عمل عبادي يتقوم بقصد القربة فبدونه أو مع قصد الرياء ـ نستجير بالله منه ـ أو غاية أخرى يكون السعي فاقدا لصلاحية الإضافة إلى الله تعالى ويكون السعي باطلا ، كما في سائر العبادات فيفسد حينئذ اصل الحج أو العمرة ، كما هو المفصل في كتب الفقه.

والسعي بين الصفا والمروة عبارة عن المشي بينهما سبع مرات بدءا من الصفا وانتهاء بالمروة كما هو مذكور في الفقه. ويصح ماشيا وراكبا ؛ ولا يعتبر فيه الطهارة لا الحدثية ولا الخبثية ، ولا الموالاة بين الأشواط ، ولا بين أبعاضها على ما فصل في الفقه.

وهو واجب كما عليه جمهور المسلمين وتدل عليه نصوص كثيرة وإجماع الإمامية ، وتقدم أن نفي الجناح إنما كان لرفع توهم الحظر الذي اعتقده المسلمون باعتبار أنّ السعي شيء صنعه المشركون أو لأجل وجود الأصنام على الجبلين فتوقفوا من السعي بينهما كما مر ، ويمكن استفادة ذلك من ظاهر الآية الشريفة أيضا ، فإن إثبات كون الصفا والمروة من شعائر الله يدل

على أنّ الإعتقاد كان على خلاف ذلك فأراد سبحانه وتعالى إعلام النّاس بشعيرتهما ونفي ما كان معتقدا عندهم.

ومما ذكرنا يعرف أنّ التطوع بالسعي أمر مرغوب فيه ، لأنه خير ومن تعظيم شعائر الله تعالى ، ولا يستفاد منه الاستحباب الشرعي المصطلح عليه في الفقه ولا سيما مع القرينة المزبورة على الخلاف. ولذلك وردت الروايات الدالة على وجوب السعي لعدم التنافي بينه وبين ظاهر الآية الشريفة ، وتقدم في البحث الروائي ذكر بعض الروايات والتفصيل يطلب من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام].

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

سبق وأن ذكر سبحانه عناد أهل الكتاب والكفار في إنكار الحق وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وفي هذه الآيات يبين نوعا آخر من عنادهم ، وهو أنهم يكتمون ما أنزل الله تعالى إما بإنكار أصله او بتحريفه عن مواضعه ، وهو ظلم عظيم يعرف من عظم ما أوعد عليه الله تعالى مما أوجب طردهم من رحمته كما طرد من رحمته كل من مات منهم على الكفر فأوجب خلودهم في النّار.

ولعل في ذكر آية الكتمان بعد ذكر آيات القبلة وبعض أعمال الحج إشارة إلى لزوم الاهتمام بالاعتناء بأحكامه وإن كان يصعب على بعض العقول درك بعض أسرارها.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى). الكتمان إخفاء الحق وستره خصوصا مع الحاجة الى الإظهار والبيان. وقد يستعمل في إظهار الخلاف وإزالة الشيء عن موضعه ووضع آخر مكانه. والبينات : هي

الأدلة الواضحة. والهدى : كل ما يقع في طريق استكمال النفس أي الآيات والحجج الواضحة الموجبة لهداية النّاس.

وعموم الآية يشمل جميع التشريعات السماوية المحكمة بالحكمة البالغة الإلهية سواء كانت في أصول الدين أم في فروعه. وجميع الأدلة العقلية المقررة بالشريعة المقدسة ، فان العقل شرع إلهي داخلي كما أن الدين شرع إلهي خارجي أيد الله كلا منهما بالآخر ؛ فهما حقيقتان متلازمتان بل حقيقة واحدة لها آثار مختلفة ، ولذا ورد أنه : «لا عقل لمن لا دين له» كما يصح ان يقال : لا دين لمن لا عقل له وسيأتي إثبات هذه الملازمة بل وحدة الحقيقة فيهما بالأدلة الكثيرة.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ). المراد بالكتاب هو ما أنزله الله تعالى في كل عصر فيشمل التوراة والإنجيل في كل ما لم يثبت نسخه بالقرآن ، ولا فرق بين كتابه تعالى وألسنة رسله لأنّ كلا منهما يحكي عن الآخر. وإنما ذكر سبحانه الكتاب لأنه لا تتم الحجة من الله على الخلق إلّا بإنزال الكتاب وبيانه.

قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). اللعن : الطرد والابعاد على سبيل السخط. وهو من الله تعالى العقوبة في الآخرة ، والانقطاع عن الرحمة والتوفيق في الدنيا. ومن غيره دعاء على الملعون بالإبعاد عن رحمته عزوجل. وهو يعمّ الإنسان والحيوان وغيرهما عما يلهمهم الله تعالى ، كالرحمة ، اللذين هما من أسرار التكوين ويعمان جميع العوالم المرتبطة بالحي القيوم ، فإن جميع حقائق الموجودات ملهمة منه عزوجل ، كما يلهمه سائر ماله دخل في نظامهم.

والمراد من «اللاعنون» كل من يتأتّى منه اللعن ، سواء كان ملكا أو إنسانا أو حيوانا وذكرهم بالخصوص لبيان قبح هذا العمل وشناعته عند من يتعقل ويعلم به.

وحكم هذه الآية عام يشمل كل من كتم علما من العلوم التي فرض الله تعالى بيانها للنّاس بل يشمل كل من فعل المحرمات بعد تمامية الحجة عليه

ولا سيما إذا كان ممن يقتدى بفعله فلا اختصاص له بخصوص ما كتمه أهل الكتاب في شأن الإسلام وأوصاف الرسول ونحو ذلك.

ثم إن كتمان ما أنزله الله تعالى على أقسام :

الأول : أن يكون الكتمان مع العمد والالتفات ووجود المقتضي للإظهار وفقد المانع عنه ولا ريب في كونه من المعاصي الكبيرة وشمول اللعن له ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ، والأخبار في ذلك كثيرة بين الفريقين وكلها مطابقة للحكم العقلي الدال على قبح كتمان الحق وحسن إظهاره.

الثاني : أن يكون الكتمان عن جهل وكان الجاهل مقصرا في ذلك وهو مثل الأول في شمول اللعن. وأما إذا كان قاصرا ـ على فرض وجوده ـ وكان معذورا فيه فلا يشمله اللعن قهرا.

الثالث : أن يكون الكتمان لأجل مصلحة شرعية فحينئذ يجب ولا يشمله اللعن قهرا.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا). التوبة بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف بالإساءة. والاعتذار يكون على أقسام :

الأول : أن يقول المعتذر لم أفعل.

الثاني : أن يقول فعلت لأجل كذا وكذا.

الثالث : أن يقول فعلت وأسأت وقد اقلعت.

والأخير هي التوبة الواردة في الكتاب والسنة ، وكل اعتذار يستلزم الرجوع إلى المعتذر منه فيصح تفسير التوبة ب «الرجوع» أيضا ، فهي أيضا رجوع إلى الله تعالى بعد الإعراض عنه بالمخالفة.

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا بهيئات مختلفة منسوبة تارة : إلى الفاعل. وأخرى : إلى القابل ، وهو الله تعالى قال سبحانه : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣٩].

والمشهور بين العلماء أنها إذا أضيفت إلى الفاعل تكون بمعنى الاعتراف بالذنب وطلب الغفران ، وإذا أضيفت إلى الله تعالى تكون بمعنى العفو والغفران بل تبديل السيئة بالحسنة في بعض الأحيان.

ويصح استعمال الاعتذار بالنسبة إلى غير الله تعالى ، وأما استعمال التوبة بالنسبة إلى غيره جلت عظمته فلم أجده في الاستعمالات الفصيحة.

والمراد من «أصلحوا» : أخلصوا النية لله تعالى ، وأصلحوا ما أفسدوه من أحوال النّاس ـ كما أن المراد من «بينوا» أي أظهروا ما كتموه وعملوا به.

والمعنى : إلّا من تاب عن عمله ورجع إلى الله تعالى وأخلص النية له عزوجل فأصلح ما أفسده وآمن بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يكتم كتاب الله وعمل بما رجع إليه ، فإنّ الله يتوب عليه ويفيض عليه رحمته ومغفرته.

والآية الشريفة تدل على اعتبار أمرين في هذه التوبة ـ الأول : الإصلاح والخلوص لله تعالى والإخلاص في النية.

الثاني : بيان الحق وإظهاره من بعد ما كتم والعمل به. فلا يكتفى بالتوبة الظاهرية والرجوع بمجرد اللسان مع عدم عقد النية عليه.

وبعبارة أخرى : إنّ الموضوع اجتمع فيه حق الله تعالى وهو إظهار البيان وحق النّاس وهو الوقوع في الضلالة لعدم البيان وقد دلت الأدلة الكثيرة على أنّ كل مورد من موارد التوبة إذا تعلق به حق من حقوق النّاس لا تصح التوبة فيه إلّا بأداء ذلك الحق.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). أي : أولئك أخصهم بالذكر والمغفرة بعد تحقق شرائط صحة التوبة فيهم ، فانه هو الذي يرجع عباده اليه بعد الإعراض عنه بالمخالفة والإدبار عنه بالمعصية ؛ والرحيم بهم يغفر للمسيء ويثيب المطيع.

وفي الآية ترغيب شديد إلى التوبة ، والابتعاد عن اليأس مهما عظم الذنب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ). ذكر سبحانه في

الآية السابقة حكم الكافرين الذين كتموا الحق في الدنيا وأنهم يستحقون اللعن إلّا الذين تابوا وأظهروا ما كتموه.

وفي هذه الآية يبين حالهم في الآخرة إذا أصروا على الكفر والعناد على الحق والجحود له وماتوا على الكفر ، فانه يلزمهم الذل والهوان والطرد عن رحمته والخلود في العذاب.

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). أي : أنّ أولئك الكافرين الذين لم يتوبوا وماتوا على الكفر أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين حتّى من أهل مذهبهم ، لأن هذا الشخص أهل للعن فيستحقه من الجميع.

ولعن الملائكة والنّاس باعتبار استلهامهم التكويني اللعن الدائمي من المبدأ القيوم لكل من طرد من ساحته.

وإنما ذكر لعنهم مع أن لعن الله تعالى وحده يكون كافيا في خزيهم وعذابهم ، لأجل بيان صلاحية أولئك الكفار للّعن والبعد عن ساحة الرحمن فيستحق اللعن من كل من امكنه الاطلاع على حالهم.

والآية تشير إلى قضية عقلية فطرية ، وهي أن من أصر على الكفر والحجب عن منبع النور ، فهو قد حجب بصره وبصيرته عما هو في غاية الجلاء والظهور فلا محالة يكون محجوبا عن استشراق النور ، ومطرودا عند كل من كان مرتبطا تكوينا او اختيارا أو كليهما معا مع منبع النور ، وهم الملائكة وكل من يعتد بلعنه ، وهذا معنى لعن الله والملائكة والنّاس أجمعين ، فلا وجه للانتظار والإمهال في حقه بعد الإصرار على الكفر والجحود للحق وعدم رجاء الإيمان والصلاح منه.

ولعن الملائكة والنّاس لا يلزم أن يكون مسموعا او يحس به احد فإنه لا ريب في كون الملائكة والأنبياء والأولياء ومن يتبعهم يحبون من أحبه الله تعالى ، ويلعنون من لعنه تعالى لانبعاثهم جميعا عن إرادة الله تعالى وأمره.

واما غيرهم من مخلوقاته فإنه يمكن أن يكون لعنهم كتسبيحهم لا يفقهه

أحد قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] فإن ما سوى الله تعالى في جميع العوالم العلوية والسفلية يرتبط بخالقه وصانعه بأقوى الروابط والعلائق يستلهم تدبيرات شؤونه من خالقه وصانعه ، كما أن الخالق والصانع يرتبط بمصنوعاته ، وبهذين الارتباطين يقوم نظام التكوين من أوج المجردات إلى حضيض الماديات وبه تتم القيمومة المطلقة على الممكنات جميعا وعلى هذا فكل من طرده الحي القيوم عن ساحة كبريائه يستلزم الطرد من الغير أيضا لأجل تلك الإضافة اليه تعالى ، وكل ما كانت الإضافة أشد كان الطرد أقوى والمبغوضية أشد ، ويستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ثبوت الحياة المعنوية والتوجه إلى الخالق في جميع مخلوقاته ، وللبحث تتمة تأتي في محله إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) مادة (خ ل د) تأتي بمعنى بقاء الشيء على ما كان عليه وعدم عروض الفساد بالنسبة إليه ، وأما التأبيد فلا يستفاد من ذات المعنى بل لا بد فيه من الرجوع إلى القرائن ، لأن الخلود من الأمور الإضافية ، فما يبقى ألف سنة ـ مثلا ـ خالد بالنسبة إلى ما لا يبقى الا سنين قليلة. وأما بالنسبة إلى بدء الحدوث فله مبدأ معلوم معين كسائر الحوادث. وقد وردت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة ـ مصدرا ومفردا وجمعا ـ ولا سيما بالنسبة إلى أصحاب الجنّة والنّار.

والخلود والدوام باعتبار أصل الحدوث لا فرق بينهما لما ثبت في محله من امتناع القديم بالذات الا في الله تعالى ، وكذا باعتبار البقاء لا فرق بينهما.

نعم قد يقال : إن الدوام هو ما لم يزل ولا يزال بخلاف الخلود وهو باطل : لانحصار الأزلية والأبدية في الله تعالى ، فيكون من المغالطة بين المصداق والمفهوم ، ولا ريب في اطلاق الدوام عليه تبارك وتعالى ومن أسمائه الحسنى (يا دائم).

وأما الخلود فلم يطلق عليه تعالى إلّا في بعض الدعوات : «لك الحمد حمدا خالدا بخلودك» فيصح اطلاق الدوام والخلود بالنسبة إلى ما ليس له أول

ولا آخر وهو منحصر في الله تعالى ، وبالنسبة إلى ما له أول وآخر ، وبالنسبة إلى ما له أول وليس له آخر ، كنعيم أهل الجنّة وعذاب أهل النار.

والعذاب : هو الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة ؛ واستعير للأمور الشاقة حتّى قيل : السفر قطعة من العذاب. وقيل : إنّه من الأضداد لاستعماله في الطّيب العذاب أيضا. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يزيد على ثلاثمائة مورد.

والنظر : استعمال البصر والبصيرة لدرك الشيء ويلزمه التأمل والإمهال ، ومنه قوله تعالى : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٦].

والمعنى : إنّهم ماكثون في اللعنة الموجبة للعذاب ولا يخفف عنهم لفرض استقراره عليهم بموتهم على الكفر فلا يرفع عنهم العذاب وفي الآية التفات من الضمير إلى الظاهر للدلالة على أن اللعنة هي العذاب.

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأول : قد وصف سبحانه وتعالى ما أنزله بالبينات أي : الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين وأن كتمان ذلك وإظهار ما هو خلافه موجب للضلالة والاختلاف والشقاء ، وهذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس ، قال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٣]. ويستفاد من هذه الآية أن ما أنزله الله هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم ، الآية : ٣٠]. وهو يدل على أنّ سبب الاختلاف والتفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق وعدم بيانه للناس ، أو تأويله وعدم حفظه ، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة ، ولذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) أنه لا أثر للتوبة عن كتمان الحق الا بعد إزالة الأثر الخارجي الناشئ عن كتمان الحق وإظهاره وإعلانه والعمل به وإرشاد النّاس اليه.

الثالث : يدل قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) على أن كتمان كل ماله دخل في استكمال الإنسان جناية على المجتمع ، فان كل كمال للفرد يكون كمالا للمجتمع وكذا العكس ، لمكان التلازم بينهما في الجملة والإظهار حق نوعي لازم لمن قدر عليه. وتركه ـ وإخفاء الحق ـ ظلم نوعي ولذلك يلعنه كل لا عن ، إذ أن كل مظلوم يلعن ظالمه بالفطرة ولو لم يكن باللسان.

الرابع : يستفاد من الآية المباركة استمرارية اللعن ودوامه بالنسبة إلى كل من يكتم الحق فلا يختص حكمها بطائفة خاصة ، ويدل على ذلك أيضا أن قبح كتمان الحق من المستقلات العقلية فمهما وجد موضوعه ينطبق الحكم عليه قهرا ، كما في كل قضية عقلية.

الخامس : إنّما أجمل سبحانه وتعالى اللعن في الآية الأولى وفصّله في الآية الثانية ، لتعدد الجهات في الآية الثانية من الموت على الكفر وعدم التوبة من كتمان الحق ، واستقرار الظلم في نفوسهم

بحث روائي :

في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «قلت له : أخبرني عن قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ). قال (عليه‌السلام) : نحن يعنى بها والله المستعان أنّ الرجل منا إذا صارت اليه لم يكن له او لم يسعه إلّا أن

يبين للنّاس من يكون بعده».

أقول : مثل ذلك روايات كثيرة أخرى ، ولا ريب أنها من التطبيق لكل حق لا بد أن يبين.

وفي الإحتجاج في الآية المتقدمة عن علي (عليه‌السلام) : «العلماء إذا فسدوا».

أقول : إذا فسدوا يعني لم يعملوا بعلمهم يكون ذلك كتمانا عمليا للحق الذي يقولونه للنّاس.

وفي المجمع في الآية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ، وهو فأنزل له تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

أقول : وذلك لأنه سكت في الدنيا عن بيان الحق وألجمه هواه عن ذلك ، فيظهر ذلك في عالم الآخرة بلجام من النار ، والروايتان تؤيدان ما ذكرناه في الكتمان ، وإطلاقهما يشمل كل عالم بكل حق.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، قال (عليه‌السلام) : «نحن هم ، وقد قالوا : هو أمّ الأرض».

أقول : لأنهم شهداء الخلق ويعرض عليهم أعمالهم فيكونون هم اللاعنون لا محالة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة هود ، الآية : ١٨] واما قوله : «وقد قالوا : هو أمّ الأرض» فقد نسب ذلك إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي تفسير القمي في الآية المتقدمة قال (عليه‌السلام) : «كل من قد لعنه الله فالجن والنّاس يلعنهم».

أقول : والوجه في لعن الجن والإنس لمن يكتم الحق وثنائهم لمن يظهر الحق كما في بعض الروايات ، أنّ جميع الموجودات ترتبط بالحق

الواقعي تكوينا ، فيكون كتمانه مبغوضا لديهم وإعلانه محبوبا عندهم ، كما تقدم في تفسير الآية.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) : «نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

أقول : هذا من باب التطبيق.

بحث كلامي :

التوبة باب من أبواب رحمة الله تعالى ، وهي من أعظم أنحاء لطفه بعباده ؛ ومن أقرب الطرق اليه عزوجل ، وهي أول منازل السائرين إلى الله سبحانه ، وأساس درجات السير والسلوك الإنساني وهي مفتاح التقرب اليه عزوجل ، والوصول إلى المقامات العالية بل لا تتحقق التخلية عن الصفات الرذيلة والتحلية بالصفات الحسنة إلّا بها ، ويكفي في فضلها أنها من صفات الباري عزوجل فانه «التواب الرحيم» ، وقد منّ على عبيده أن تقرب إليهم بالتوبة عليهم بعد البعد عنه تعالى بالمعاصي والذنوب ، فقال تبارك وتعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٤]. وقد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة ، ففي الكافي عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».

وروي عنهم (عليهم‌السلام) : «إنّ الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السموات والأرض لنجوا بها ، قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فمن أحبه الله لم يعذبه. وقوله عزوجل : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ـ الآية ـ. وقوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). إلى غير ذلك من

الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها. وأنّ للجنّة بابا من أوسع أبوابها يسمى باب التائبين ، وهي من مظاهر رحمانيته ورحيميته اللتين هما من أوسع صفات الله تعالى العليا بل لا حد لهما أبدا ، والبحث عن التوبة من جهات كثيرة :

التوبة وتعريفها وحقيقتها :

التوبة معروفة عند كل من يقترف ذنبا ويعترف به عند الله تعالى وهي : بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف المستلزم للرجوع إليه تعالى بعد البعد عنه بسبب الذنب ، وهذا هو المعنى اللغوي ، كما عرفت.

وقد عرّفها علماء الكلام والأخلاق بتعاريف متعددة هي أقرب إلى المعنى اللغوي ، ونحن نذكر تعريفين منها.

الأول : ما عن بعض علماء الكلام : أنها الندم على معصية من حيث هي مع العزم على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها.

الثاني : ما عن بعض علماء الأخلاق : أنها الرجوع إلى الله تعالى بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب.

وهذان التعريفان مقتبسان مما ورد في الكتاب الكريم والسنّة المقدسة. والمستفاد من النصوص الواردة في المقام هو أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب كما ورد في الأثر عنه (عليه‌السلام) : «كفى بالندم توبة».

وذلك لأنّ الإنسان مزيج قوى متخالفة ومركب من شهوات متعددة ، تجذب كل قوة ما يلائمها من الخير أو الشر كما هو المفصل في علم الأخلاق ، فالقوة العاقلة تجذب الإنسان إلى الفضيلة وتمنعه عن الرذيلة ، والقوة الشهوية ترغبه إلى ما تشتهيه ، والقوى الغضبية تورده إلى المهالك والأخطار إن لم يمسكها بزمام العقل. والإنسان الكامل هو المدبر لهذه القوى المتخالفة والملائم بينها بالتوفيق بينها بحيث لا تخرج كل قوة عن الحد الذي عيّن لها فيجلب بذلك سعادة الدارين. وهو في مسيره الاستكمالي لا يسلم من الموانع والعوائق التي تعيقه عن سيره إذا لم يتغلب عليها بالحكمة والتدبير ، ومن جملة تلك الموانع المعاصي والذنوب. فإذا

اعترض على الإنسان ذنب يرى نفسه بين أمرين مخيرا بينهما إما الفعل وما يتعقبه من الآثار ، أو الترك وما يلزمه من راحة النفس والفوز بالسعادة ، وهذا وجداني لكل فاعل مختار ، فإذا عزم على الفعل وأقدم على الارتكاب تحصل في نفسه حالة خاصة توجب الندامة والخجل والحياء المسمى ب (تأنيب الضمير) في علم النفس المعاصر ، وقد اعتبر الشارع هذه الحالة هي التوبة ؛ قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «التوبة الندامة» وعن الصادق (عليه‌السلام) : «كفى بالندم توبة».

والسر في ذلك : أنّ هذه الحالة تكشف عن تغليب العقل والقوى الخيرة على الجانب الآخر ، وهي تدعو إلى ترك الذنب في المستقبل والارتداع عن المعصية ، ولذا قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «إنّ الندم على الشر يدعو إلى تركه» ، وتتكرر هذه الحالة النفسية عقيب كل ارتكاب للمعصية ما لم تترسخ المعاصي في النفس فيهون عنده ارتكاب الذنوب واقتراف الآثام فيستولي عليه الفساد بالإصرار ويقسو قلبه ، وهذه هي حالة إحاطة الخطيئة بالإنسان كما ورد في القرآن الكريم ، وقد أشار تعالى إليها بقوله عزوجل : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤]. وتزول هذه الحالة بإتيان الأعمال الصالحة ومزاولة الطاعات وتقوية النفس بالحسنات وترويضها بالأخلاق الفاضلة.

ومن ذلك يعلم أن تعريف التوبة بالندم هو أقرب إلى ما يتحصل من الروايات ، واما تعريفها بالرجوع والارتداع عن المعصية في المستقبل فهو تعريف باللازم الحاصل من الندم.

وإذا عرفت أن التوبة حقيقة هي الندم فلا بد وان يكون منبعثا عن حرقة القلب والشعور بالحياء منه عزوجل والخجل عن ما صدر منه كما في بعض الروايات «إن الرجل يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه‌الله فيدخله الجنّة».

وأما إذا كان الندم حاصلا من اطلاع الغير عليه ، أو خوفه من إعراض المجتمع عنه ، أو سقوط منزلته عند النّاس فلا أثر له ، بل لا بد من ان تسوءه

سيئته كما ورد في الخبر.

وجوب التوبة :

التوبة من الذنب واجبة على الإنسان بالأدلة الأربعة :

الأول : الكتاب الكريم ، وتدل عليه آيات كريمة ، منها قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور ، الآية : ٣١] ، ومنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة التحريم ، الآية : ٨] إلى غير ذلك من الآيات ، وتدل عليه أيضا الآيات الكثيرة الدالة على إتيان الحسنات بضميمة قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ، ومن أجلّ الحسنات الفرائض.

الثاني : السنة الشريفة ، والأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامين مختلفة :

ففي الكافي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، قال : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ؛ ولا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار».

وفي مهج الدعوات عن الرضا (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اعترفوا بنعم الله ربكم وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم ، فان الله يحب الشاكرين من عباده».

وفي الكافي أيضا عن أبي الحسن الماضي (عليه‌السلام) قال : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنا استزاد الله ، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب اليه».

وفي الكافي عن أبي بصير : قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال (عليه‌السلام) : «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت : وأيّنا لم يعد؟ فقال (عليه‌السلام) : يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب».

الثالث : الإجماع من جميع المسلمين على وجوب التوبة ، وهو مما لا ريب فيه.

الرابع : دليل العقل : فإن حدوث المخالفة والبقاء عليها قبيح عقلا ، وترك كل قبيح عقلي واجب عقلا وشرعا ، ولا يتحقق ذلك إلّا بالتوبة.

وبتقريب آخر : إنّ المعاصي من المهلكات ، وإنّها تجلب الضرر على العاصي ؛ ولا ريب في وجوب دفع الضرر عقلا.

فورية وجوب التوبة :

بعد ما ثبت أصل وجوبها يكون هذا الوجوب فوريا ، وتدل عليه أمور :

الأول : ظاهر أدلة وجوب التوبة عن المعاصي.

الثاني : قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧].

الثالث : إنّ بقاء العصيان في النفس من أقذر القذارات المعنوية والفطرة تحكم بفورية إزالتها.

الرابع : الإجماع القائم على الفورية.

الخامس : الأخبار الكثيرة الدالة عليها منها : رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنب استغفر الله» ، وفي وصية النبي لأبي ذر قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اتق الله حيثما كنت وخالق النّاس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها» ، وفي وصية لقمان لابنه «يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة».

ومنها الروايات الكثيرة الدالة على إمهال العاصي سبع ساعات ، فقد ورد في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار ، فإن قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو

الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاث مرات لم تكتب عليه». ويستفاد من مجموع هذه الأخبار أن التوبة من الطاعات ومن الأمور العبادية.

شروط التوبة :

قد ذكر العلماء للتوبة شروطا كثيرة ، وهي على قسمين : شروط لصحة التوبة ، فلا تصح إلّا إذا اجتمعت فيها تلك الشروط. وشروط لكمالها ومع فقدها لا تكون كاملة ولا مقبولة.

أما القسم الأول فهي ثلاثة :

الأول : الندم وقد ذكرنا سابقا أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب ، ويدل على اعتبار هذا الشرط ما تقدم من الأخبار ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كفارة الذنب الندامة» ، وما رواه في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» إلى غير ذلك من الأخبار.

الثاني : أن ينوي عدم العود إلى ذلك الذنب ، لأن حقيقة الندم لا تتحقق إلّا بذلك ، كما تقدم ، وتدل عليه جملة من الأخبار كما سيأتي ، والمعتبر من هذا الشرط ترك العود إلى الذنب الذي سبق مثله ، وأما الذنب الذي لم يسبق صدوره منه فنية تركه لا تكون من التوبة ، بل هي من التقوى.

ثم إنّ العزم على ترك المعصية في المستقبل بعد تحقق الندم عنها فعلا إن كان كاشفا عن تحقق حقيقة الندم من كل جهة فلا ريب في اعتباره ، لأنه مع عدمه لا تتحقق حقيقة الندم الفعلي كما عرفت. وأما إذا تحقق الندم فعلا ولم يتحقق العزم على الترك لعدم التوجه إليه فلا دليل على اعتباره حينئذ ، بل يستفاد من بعض النصوص عدمه ، فقد روى الكليني فى الكافي عن أبي بصير : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال (عليه‌السلام) هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت : وأينا لم يعد؟ فقال (عليه‌السلام) : يا أبا محمد إنّ الله يحب من عباده المفتن التواب» والمراد بالمفتن من يذنب ويتوب. ثم يعود. ونحوه غيره من

الأخبار.

الثالث : أداء الحقوق وردها إلى أهلها ، وفي الحديث : «لا توبة حتّى تؤدي إلى كل ذي حق حقه» ، وفي حديث آخر : «الظلم الذي لا يدعه الله فالمداينة بين العباد» إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما القسم الثاني ، وهي شروط الكمال فقد جمع أمير المؤمنين (عليه‌السلام) المهم منها في قوله : «الاستغفار درجة العليين ؛ وهو اسم واقع على ستة معان : أولها الندم على ما مضى ، والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا ، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله عزوجل أملس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها ، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد ، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : استغفر الله» ولا يخفى انه (عليه‌السلام) جمع في كلامه كلا القسمين من الشروط.

ومن شروط الكمال أن يترك المعصية لأجل المعصية لا لأجل شيء آخر من حياء أو خجل أو غير ذلك ، بل تركها لأجل نقص في عضو او عدم الإمكان لا يسمى توبة. وهذا ظاهر.

قبول التوبة :

إذا تحققت التوبة من العبد وكانت مستجمعة للشرائط تكون مقبولة لا محالة ، ويدل على ذلك أمور : الأول : قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٤] ، ويستفاد من هذه الآية قاعدة كلية وهي أن كل ما هو من صغريات الرحمة بينة عزوجل وبين عباده يكون واجبا عليه عزوجل لأنه كتب على نفسه ذلك فقبول التوبة الجامعة للشرائط مما أوجبه الله على نفسه ، فيستغنى بذلك عن قاعدة اللطف التي أثبتوها في علم الكلام.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١١٠].

الثاني : الأخبار الكثيرة الدالة على لزوم قبول التوبة ، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ، وفي الخبر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له ، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة أما والله إنها ليست إلّا لأهل الإيمان. قلت : فان عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ قال (عليه‌السلام) : يا محمد ابن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟!! قلت : فانه فعل ذلك مرارا ، يذنب ثم يتوب ويستغفر ، فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وإنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله».

وروى ابن بابويه في ثواب الأعمال عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أوحى الله إلى داود النبي (عليه‌السلام) : يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع وتاب من ذلك الذنب واستحيا منّي عند ذكره ، غفرت له ، وأنسيته الحفظة ، وأبدلته الحسنة ولا أبالي وأنا ارحم الراحمين» والروايات في ذلك كثيرة.

الثالث : يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي أيضا وهو أن الإنسان السائر في مسير الاستكمال الأبدي الذي هو أشرف موجودات هذا العالم بل لم يخلق العالم إلّا لأجله ومع ذلك فهو ضعيف كما قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [سورة النساء ، الآية : ٢٨] ، قرين النفس الأمارة ومحاط بالشهوات المادية ، والشيطان يحوط به إحاطة العروق بالدم وجميع ذلك له دخل في نظام التكوين والتشريع كما ثبت بالبراهين القطيعة في الفلسفة العملية. وحينئذ فلو كان صرف وجود العصيان مانعا دائميا عن إفاضة المبدإ القيوم فيضه عليه لزم تعطيل أعظم المخلوقات عما خلق له ، وهو قبيح والقبيح محال بالنسبة اليه عزوجل ، فيحسن قبول التوبة منه تعالى ، ويرشد إلى ذلك ما في بعض القدسيات : «بمعصية ابن آدم عمرت العالم» ومنه يظهر سر

ابتلاء آدم بما ابتلي به في بدء الهبوط ، كما يظهر شرح قوله (عليه‌السلام) : «إن الله يحب المفتن التواب».

فاليأس عن قبول التوبة معصية كبيرة ، ولو عصى العبد مرات عديدة ، لأنه يأس من رحمة الله تعالى ، وهو من المعاصي الكبيرة ، وعن علي (عليه‌السلام) في بعض دعواته الشريفة : «اللهم إن استغفاري إياك وأنا مصرّ على ما نهيت قلة حياء ، وتركي الاستغفار مع علمي بسعة فضلك وحلمك تضييع لحق الرجاء».

موارد التوبة :

تصح التوبة من جميع الذنوب والخطايا ، سواء كانت من الكبائر أم الصغائر ، وهي توجب محوها إذا اجتمعت فيها الشرائط ، وتدل على ذلك آيات من الكتاب الكريم وروايات من السنّة الشريفة.

اما الآيات فمنها قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور ، الآية ٣١] ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١١٠].

ويدل على خصوص التوبة عن الكبائر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) [سورة الفرقان ، الآية : ٧١].

وأما ما يدل على صحة التوبة عن الصغائر فهو كثير ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٣١] والآيات في ذلك كثيرة.

وأما الروايات فهي مستفيضة منها ما روي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

قال : «اعترفوا بنعم الله ربكم ، وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم فإن الله يحب الشاكرين من عباده». وفي تفسير القمي عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما اعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة قال آدم يا رب سلطت إبليس على ولدي وأجريته منهم مجرى الدم في العروق ، وأعطيته ما أعطيته فمالي ولولدي؟ قال : لك ولولدك السيئة بواحدة والحسنة بعشر أمثالها ، قال : يا رب زدني ، قال : التوبة مبسوطة إلى ان تبلغ النفس الحلقوم ، قال : يا رب زدني ، قال : اغفر ولا أبالي. قال : حسبي». وروى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؛ الكبائر فما سواها قلت : دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال (عليه‌السلام) : نعم» والروايات الدالة على صحة التوبة من الكبائر والصغائر كثيرة جدا تقدم بعضها.

ثم إنه قد ورد إنه لا تقبل التوبة عن بعض الذنوب ، منها ما ورد في عدم قبول توبة من أحدث دينا ، وما ورد في عدم قبول التوبة عن الشرك ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [سورة النساء ، الآية : ١١٦] ، وعدم قبول توبة المرتد.

ولكن الحق أن يقال : إنّ جميع تلك الموارد لا بد وان تحمل إما على عدم وقوع التوبة مستجمعة للشرائط او الموت على الشرك وعدم التوبة منه ، وإلّا فإن الإسلام يهدم الشرك بلا إشكال ، وتدل على ذلك روايات منها صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في حديث الإسلام والإيمان قال : «والإيمان من شهد أن لا إله إلّا الله ـ إلى ان قال ـ ولم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار. قال أبو بصير : جعلت فداك وأينا لم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار؟ فقال (عليه‌السلام) : ليس هو حيث تذهب إنما هو من يلق الله بذنب أوعد الله عليه بالنار ولم يتب منه».

وأما المرتد فتقبل توبته مطلقا ـ فطريا كان أو مليا ـ على ما فصلناه في الفقه ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام) ، ويدل على القبول صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «من كان مؤمنا فعمل خيرا في

إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».

إن قلت : إنه قد ورد في بعض الأخبار نفي الإيمان عمن يذنب بعض الذنوب وإثبات الكفر له ، ففي الخبر عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لا يزني الزاني وهو مؤمن ؛ ولا يسرق السارق وهو مؤمن» ، ومثله غيره.

قلت : يحمل ذلك على نفي بعض مراتب الإيمان ، أو إثبات بعض مراتب الكفر ، ويدل عليه ما رواه زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «أرأيت قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا يزني الزاني وهو مؤمن ، قال (عليه‌السلام) : ينزع منه روح الإيمان». ولا يدل ذلك على سلب الإيمان منهم بالكلية ، أو أنّ العاصي بذلك لا مؤمن ولا كافر كما يقوله بعض المعتزلة ، وللكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

التوبة وزمانها :

إنّ من رحمته تعالى ومنّه على عبده أن فتح لهم باب التوبة بمصراعيه ، ومن عظيم لطفه جعله مفتوحا أمام العاصين حتى تبلغ النفس إلى الحلقوم ، ويدل على ذلك روايات مستفيضة منها ما رواه الكليني في الكافي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته ، ثم قال : إن السنة لكثير ، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته ، ثم قال : إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته ، ثم قال : إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته ثم قال : إن يوما لكثير ، من تاب قبل ان يعاين قبل الله توبته». وروى في الكافي أيضا عن أحدهما (عليهما‌السلام) : «إنّ الله عزوجل قال لآدم (عليه‌السلام) : جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له ، قال : يا رب زدني ، قال : جعلت لهم التوبة ـ أو بسطت لهم ـ حتّى تبلغ النفس هذه. قال : يا رب حسبي» إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة ، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [سورة النساء ، الآية : ١٨] أي في ما إذا عاين الموت

كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) كما تقدم في بعض الروايات.

السبل لمحو الذنوب :

تقدم أن الذنوب كلها قابلة للتكفير عنها ومحوها ، والتوبة عنها ولذلك طرق كثيرة ، وهي إما أن تكون محدودة ومعينة في الشرع فلا تصح بغيرها ، وإما ان لا تكون كذلك. والجامع بين القسمين هو الندامة ، والمجاهدة على ترك الذنب ، وإرضاء صاحب الحق ـ خالقا كان أو مخلوقا ـ فطرق التوبة على قسمين :

القسم الأول : الطرق التي عينها الشارع وجعل لها حدودا وشروطا لا تصح التوبة بغيرها وهي كثيرة :

منها : الإسلام فإنه يهدم الشرك ، والآيات والروايات فيه متواترة ، ويكفي في ذلك قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المشهور بين الفريقين : «الإسلام يجبّ ما قبله».

ومنها : قضاء الطاعات الواجبة مثل الصّلاة ، والصوم ، والحج والزكاة ، والخمس ، فإن النوبة المقررة في الشريعة عن الذنب الحاصل من تركها هي قضاؤها على ما هو المفصل في علم الفقه.

ومنها : أداء حقوق النّاس إن ضيعها سواء كان الحق ماليا ، أو جناية على النفس ، أو حقا أدبيا أخلاقيا ، والتوبة عن الذنب الحاصل من تضييعها أداؤها ، والاسترضاء من صاحب الحق ، أو القصاص ، أو إخراج الدية كما هو مفصل في كتب الفقه.

ومنها : إظهار الخلاف وإعلام النّاس ببطلان ما أظهره كما لو استحدث دينا جديدا فطريق التوبة عنه إظهار خلافه وإعلام النّاس ببطلانه ، والإصلاح بعد الإفساد ، قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٠].

وأما ما ورد عن الرضا عن آبائه (عليهم‌السلام) عن رسول الله

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : «إن الله غافر كل ذنب إلّا من أحدث دينا ، ومن اغتصب أجيرا أجره ، أو رجل باع حرا» فإنه محمول على عدم تحقق شرائط التوبة منه بقرينة غيره من الروايات المتقدمة.

القسم الثاني : الطرق العامة التي جعلها الله تعالى وسيلة للتوبة والتكفير عن الذنوب والخطايا ، وهي أيضا كثيرة.

منها : اجتناب الكبائر فانه موجب لمحو الصغائر ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٣١] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) [سورة الطلاق ، الآية : ٥] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٩]. وروى ابن بابويه في الفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) : «من اجتنب الكبائر يغفر الله جميع ذنوبه وذلك قول الله عزوجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ). وفي رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : «من اجتنب كبائر ما أوعد الله عليه النّار إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته» ونحوهما غيرهما.

ومنها : إتيان الحسنات والأعمال الصالحة ، فانه كفارة للذنوب قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤]. وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الصلوات الخمس والجمعة تكفر ما بينهنّ إن اجتنبت الكبائر» ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أتبع السيئة الحسنة تمحها» ، وفي وصية النبي لأبي ذر : «اتق الله حيثما كنت ، وخالق النّاس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها». وفي صحيح يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «ومن عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر ، ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية». وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «ما أحسن الحسنات بعد السيئات وما أقبح السيئات بعد الحسنات».

ومنها : الاستغفار فانه الممحاة ، وانه دواء الذنوب كما في الأثر قال

تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١١٠] ، وقال تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [سورة هود ، الآية : ٩٠] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٥]. وفي الحديث : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة يقول : استغفر الله ربي وأتوب اليه ، وكذلك أهل بيته ، وصالح أصحابه ؛ يقول الله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ؛ وفي الحديث أيضا قال رجل : «يا رسول الله إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال : (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : استغفر الله ، فقال : إني أتوب ثم أعود فقال : كلما أذنبت استغفر الله. فقال : إذن تكثر ذنوبي ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عفو الله أكثر ، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور» ، وعن عمار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «من قال استغفر الله مأة مرة في يوم غفر الله له سبعمائة ذنب ، ولا خير من عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنبا» وفي رواية عبد الصمد بن بشير عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا : «إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربه فيغفر له ، وإن الكافر لينساه من ساعته». والروايات في كون الاستغفار موجبا لمحو الذنوب كثيرة جدا.

ومنها : الاستعانة بالله بالصّلاة والصيام في غفران الذنوب ، ففي الخبر عنهم (عليهم‌السلام) : «ما من عبد أذنب ذنبا ، فقام وتطهر وصلّى ركعتين واستغفر الله إلّا غفر له ، وكان حقا على الله أن يقبله ، لأنه سبحانه قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ، وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أنه قال : «ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتّى أصلي ركعتين». وقد وردت روايات كثيرة على أن صوم أيام من الأسبوع أو أيام من السنة يوجب محو الذنوب ، فراجع كتاب الصوم من الوسائل.

التبعيض في التوبة :

تصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض. لتعدد الذنوب وتعدد آثارها

شرعا ، وعدم الارتباط بينها كذلك ، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع مع الذنوب التي لا يريد التوبة عنها ، أو مخالفة لها كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة ، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا ، والدليل عليه مضافا إلى ذلك إطلاقات الأدلة وعموماتها ، وتسمى هذه بالتوبة المفصلة.

وذهب بعض العلماء الى عدم صحة التوبة كذلك بل يجب العموم ـ كما هو مذهب المسيحيين ـ في التوبة ، لأنها إنما تكون لسقوط استحقاق العقاب ، ومع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصي لا موضوع للتوبة حينئذ.

وهو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك فيرتفع الاستحقاق من جهة ، ويبقى من جهة أخرى ولا تنافي بين الجهتين ، كما لا يخفى.

نعم ، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفا عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها فلا تتحقق التوبة حينئذ ، وبه يمكن الجمع بين الكلمات فراجع.

ومن جميع ما تقدم يظهر أيضا صحة التوبة الموقتة بأن يتوب عن الذنب مدة معينة ولا يذنب فيها.

صيغ التوبة :

للتوبة عبارات متعددة ، منها «أتوب إلى الله» ، و «استغفر الله» ، و «استغفر الله وأتوب إليه» وغير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية ، كما تقدم. وليست فيها صيغة خاصة.

أقسام التوبة ومراتبها :

التوبة على أنواع ، منها توبة الإنابة ، وهي عبارة عن الخوف من الله جلّ شأنه لأجل قدرته على العاصي.

ومنها : توبة الاستجابة ، وهي عبارة عن الحياء من الله لقربه من العبد.

ومنها : توبة العوام ، وهي ناشئة عن الخوف من عذاب الله تعالى.

ومنها : توبة الخواص من الغفلة ، وتوبة الأنبياء من ترك الأولى والعجز عن ما ناله غيره ، وهي أخص الخواص كما تقدم في آية ـ ٣٧ من هذه السورة.

وأما مراتبها فهي ثلاثة :

الأولى : أن يتوب العبد عن الذنوب كلها ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره ولا تصدر عنه المعاصي إلّا اللمم والزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين ، وهي التوبة النصوح المعبر عنها

في الروايات «أن يكون ظاهره كباطنه».

الثانية : أن يتوب عن الذنوب ويستقيم على الطاعات إلّا أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه ولكنه يندم ويأسف على كل ما صدر عنه ، وهذا هو معنى التواب.

الثالثة : مثل السابقة ولكنه لا يحدث نفسه بالتوبة ولا يتأسف على ما صدر عنه.

التوبة في الأديان السماوية :

لا تختص التوبة والتطهير عن الأدناس والخطايا بدين الإسلام فقط بل تعم جميع الأديان كلها وان اختلفت في الكيفية والشروط ، وقد ورد في القرآن الكريم توبة آدم (عليه‌السلام) ، قال تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٧] وقول موسى (عليه‌السلام) : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٥٤] وقال تعالى حكاية عن هود (عليه‌السلام) : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [سورة هود ، الآية : ٥٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ذلك ، ولكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة على تفصيل مذكور عندهم.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما

يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)).

الآيات مرتبطة بالآيات السابقة فانها بمنزلة التعليل لجملة كثيرة من ما ورد في الآيات السابقة كجعل الإمامة ، وبناء البيت ، وتشريع بعض أعمال الحج ، وجعل القبلة ، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات ، وقبول توبتهم ، فذكر سبحانه وتعالى أوّلا أنّ المعبود واحد ورحمته عامة تشمل الجميع وإن اختلف متعلقها من حيث الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية ، ثم شرح ذلك في الآية الثانية بذكر آيات عظام ينتظم بها أمور العالم ويعيش بها كل ذي حياة. ومجموعها تدل على أنّ من كانت صفاته هكذا فهو مبدأ كل خير ومنتهى كل أمر.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). تقدم ما يتعلق بلفظ الإله في البسملة من سورة الفاتحة والمستفاد من ما ذكرناه هناك أنه محبوب كل الأشياء ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ولا ريب أنّ التسبيح فرع المحبة.

والواحد مبدأ التكثرات ، أي أنه واحد الذات والصفات والأفعال وفي عين ذلك هو مبدأ التكثرات ومفنيها ، كما يكون الواحد كذلك وقد نسب إلى مولانا الجواد (عليه‌السلام) في بيان معنى الواحد فقال (عليه‌السلام) : «إجماع الألسنة عليه بالوحدانية ، لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فجعل (عليه‌السلام) مناط الوحدانية الخلاقية العظمى التي اجتمعت الألسن عليها دون سائر جهات الوحدانية التي تقصر العقول عن درك بعضها فضلا عن جميعها.

وقد فرق العلماء بين الواحد والأحد ـ بعد كون الأخير هو الواحد أبدلت الواو همزة ثم خفف اللفظ فصار أحدا ـ بوجوه تقدمت في آية ١٣٣ من هذه

السورة أهمها امور :

الأول : أنّ الواحد هو المتفرد بالذات ، والأحد أعم منه.

الثاني : أنّ الواحد يطلق على ذوي العقول وغيرهم ، والأحد لا يطلق إلّا على الأول ، وقد يطلق على غيره.

الثالث : أنّ الواحد يدخل في الضرب في العدد دون الأحد كما مر.

وإنّما اطلق سبحانه لفظ الواحد ليفيد العموم فيشمل الوحدة في الذات فلا جزء له ، والوحدة في الألوهية والعبادة فلا شريك له ، والوحدة في الصفات ، والوحدة في الأفعال فينتفي بذلك أنواع الشرك فهو واحد من جميع الجهات ليس كمثله شيء.

وكرر لفظ الإله لإفادة أن استحقاق العبادة والمعبودية إنما هو الوحدة في الألوهية فهو متقوم بها ، فلو قال تعالى : «وإلهكم واحد» لما أفاد هذا المعنى.

ثم إنّ الألوهية إما أن تكون واقعية حقيقية ، وأما أن تكون اعتقادية ، وما هو متقوم بالوحدة إنما هي الأولى دون الثانية ، فإنها تحصل من التكثرات وتتنافى مع الوحدة ، قال تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [سورة ص ، الآية : ٥] ، وقد حصل لهم التعجب ، لأنها اعتقادية خيالية تابعة لأهوائهم. قال تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٣]. والآيات والروايات والأدلة العقلية تدل على كثرة هذا الإله وتعدده بحيث لا حصر له ولا عد.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). هذه العبارة من أوضح العبارات الدالة على وجود الله وتوحيده ونفي ما عداه ، وهي كلمة نابعة من ينبوع الفطرة المستقيمة.

قوله تعالى : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ). تقدم تفسيرهما في بسملة الفاتحة ، وذكر هما في المقام لتقوم الربوبية العظمى بهما.

ثم إنّ ما ورد في هذه الاية الشريفة من البيّنات الواضحة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته وبديع صنعه الناشئ من رحمته التي وسعت كل

شيء ، ومضمونها من أقرب الأشياء إلى الفطرة ، وأوضح الأمور التي يقبلها العقل السليم ولا يحتاج إلى البرهان ، لكنه تبارك وتعالى بعظيم لطفه وسابق منّه شاء أن يرشد الإنسان إلى ذلك بإقامة الحجة القيمة ليستفيد منها العالم وغيره كل بحسب استعداده ، وليكون العلم بذلك بالبرهان المتين ، فذكر جلّت آلاؤه بعض الآيات من خليقته وظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). مادة خلق تأتي لمعان منها : إبداع الشيء من غير مثال ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٣] ، فهو مثل البديع ، قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٧] ، وفاطر قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الفاطر ، الآية : ١] وهذا مما يختص به تعالى ، قال عزوجل : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل ، الآية : ١٧].

ومنها : إيجاد شيء من شيء ، قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [سورة النحل ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ١٤] ، وقال تعالى : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ١٥] ، وبهذا المعنى يصح استعماله في غيره تعالى ، قال عزوجل : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [سورة المائدة ، الآية : ١١٠].

ومنها : التقدير ، ويصح استعماله في غيره تعالى أيضا ، لأن التقدير من مبادئ كل إرادة نفسانية ، ولعل منه قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] ، وربما يكون المراد منه الخالق الاعتقادي لا الواقعي كقوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [سورة ص ، الآية : ٥]. وقد ثبت في محله امتناع تعدد الآلهة الواقعية.

والسموات هي الأفلاك العلوية بجميع أجرامها وكواكبها المختلفة ومنظوماتها المتعددة ـ التي منها منظومتنا الشمسية ـ المختلفة في أعدادها

وأبعادها وأوزانها والمؤتلفة بينها بنظام دقيق ، وهو قانون الجاذبية في الأفلاك السابحة في الفضاء الفسيح غير المتناهي بسير منتظم وفقا لقواعد فلكية ، المؤثرة في حياتنا الأرضية بنحو من التأثير وغير ذلك مما فيه آيات بينات دالة على وحدة صانعها وحكمته البالغة ، يبهر المتأمل في ظواهرها فكيف بمن اطلع على عجائبها.

وقد ورد لفظ السموات في القرآن الكريم بصيغة الجمع في ما يقرب من مأتي مورد ، أو بصيغة المفرد أكثر من مائة مورد ، والجميع مقرون بما يدل على جلالة الصانع وبداعة صنعه وكمال الخلق ولم يرد لفظ السماء في القرآن بلفظ التثنية.

والأرض هي هذا الكوكب العظيم الذي نعيش عليه ونموت فيه ونحيا منه ، وهي مبدأ الحياة بجميع أقسامها ، المشتملة على آيات باهرات ، الدالة على بديع صنعه تعالى ، قال عزوجل : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [سورة الذاريات ، الآية : ٢٠]. ولم يرد لفظ الأرض في القرآن الكريم إلّا مفردا ، ولعل السر فيه أن السماء أنواع مختلفة وأجرام متفرقة ومجاميع متفاوتة ، والأرض نوع واحد ذات أجزاء مختلفة. او لإيقاع التآلف بين بني آدم وإرشادهم إلى نبذ الاختلاف والفرقة واعلامهم بأنهم من شيء واحد وفي عالم واحد.

وأما قوله تعالى : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١٢] فسيأتي المراد منه عند تفسير الآية الشريفة في موضعها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). أي كون أحدهما خلف الآخر ، وتعاقبهما في المجيء والذهاب مما يوجب دخول أحدهما في الآخر ، كما في قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [سورة لقمان ، الآية : ٢٩] ، وذلك على حساب دقيق مستمر في جميع أيام السنة وفي جميع أقطار الأرض حسب مواقعها في الطول والعرض واختلاف الفصول.

والليل اسم جنس واحده ليلة ، كتمر وتمرة ، والنهار اسم جنس أيضا ويقع على القليل والكثير على حد سواء ، ولم يسمع له جمع في الاستعمالات الفصيحة.

واختلاف الليل والنهار كذلك فيه من الحكم والمصالح الدالة على حكمته البالغة وعظيم صنعه ، وفيه من المنافع للنّاس مما يدل على عظيم لطفه ، وقد أشار سبحانه إلى بعض تلك المنافع في آيات أخرى فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [سورة الإسراء ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٢] ، وقال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٧٣].

قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ). الفلك ـ بضم الأول وسكون الثاني ـ السفينة ومفردها كجمعها ويفرق بينهما بالقرائن ، قال تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [سورة النحل ، الآية : ١٤] وقال تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [سورة هود ، الآية : ٣٧]. فإن الأول جمع والأخير مفرد ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرين موردا ، وأما الفلك ـ بفتح الأول والثاني ـ فهو مجرى الكواكب.

وجريان الفلك في البحر وانتفاع الناس بها في نيل مقاصدهم في التجارة وحمل الأثقال والأسفار البعيدة ، كل ذلك من آيات الله تعالى الدالة على وجوده ووحدانيته وحكمته البالغة ، لأن جريانها في البحر لم يكن إلّا نتيجة قواعد علمية ثابتة ، منها القواعد المعروفة في ثقل الأجسام ؛ أو المتعلقة بجريان الريح قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سورة

الشورى ، الآية : ٢٣]. ومنها القواعد المتعلقة بالبخار والكهرباء الذين تجري بهما الفلك في هذه الأعصار ، وغيرها من القواعد والقوانين التي هي من نعم الله تعالى على الإنسان قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سورة لقمان ، الآية : ٣١].

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ). فإنّ في نزول المطر وارتواء الأرض وحياتها بعد موتها آية من الآيات الدالة على رحمته العامة وحكمته البالغة. ولم يبين سبحانه في هذه الآية كيفية تكوين المطر إلّا أن آيات أخرى تبين ذلك ، وسيأتي في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [سورة الروم ، الآية : ٤٨] إثبات أن مضمون هذه الآية هو الذي أثبته العلم الحديث بعد قرون عديدة.

قوله تعالى : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). البث التفريق ، والدابة من الدبيب ، وهي كل ما يدب في الأرض وإن اشتهرت في العرف بما يركب.

والمراد من حياة الأرض بعد موتها هو جميع أنواع الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية وخروجها من الجدب إلى الارتواء وقابلية إنماء النبات وقوة الإنبات ، فان من نزول المطر ترتوي الأرض فتستعد لحياة النبات عليها ، وبه يعيش الحيوان والإنسان ، قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [سورة الحج ، الآية : ٥]. والأرض القاحلة الخالية عن الماء لا يعيش فيها نبات ولا حيوان فهي ميتة من هذه الجهة ، وان المطر يخرجها الى الحياة ، ومن ذلك يعرف أن الماء سبب في حياة الأرض والنبات والحيوان ، ونزوله بحسب حكمته البالغة يدل على عظيم لطفه وواسع رحمته.

قوله تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ). التصريف : النقل والتغيير. والرياح الهواء المتحرك وإذا استعمل اللفظ في القرآن الكريم جمعا يكون

للرحمة ، ومفردا يكون للعذاب في ما إذا كان من فعله ، قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) [سورة فصلت ، الآية : ١٦].

وتصريف الرياح تغييرها وتبديلها وتوجيهها بإرادة الله تعالى ، فإن في ذلك دخلا في بقاء النبات والحيوان بل في حياة الإنسان من حيث المرض والصحة ، وكدورة النفس وصحوتها ، كما أثبته العلم الحديث.

وقد ذكر العلماء أن الرياح على طبايع مختلفة ، منها : الصبا ومحلها من مطلع الشمس ، والجدي عند الاعتدال ، والشمال من الجدي الى مغرب الشمس ، والدبور من سهيل إلى مغربه ، والجنوب من مطلع الشمس إلى مغربها.

ومنها الأعاصير ، والملقحة للنبات ، والعقيمة ، والمتناوحة التي تهب من كل ناحية ، ومنها الإستوائية الدافئة ، والقطبية الباردة ، والموسمية ، والتجارية التي تجري بها السفن ، ومنها الهادئة التي تمنع خطر العواصف.

كل هذه الأقسام تجري وتهب وفق الإرادة الأزلية وبحسب الحكمة والنظام مما يدل على حكمة صانعها ورحمة مدبرها ومنّه على خلقه.

قوله تعالى : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) السحاب الغيم ، سواء كان فيه الماء أم لا والفرق يستفاد من القرائن وسمي به إما لجر الريح له ، أو لجريان الماء منه ، أو لانجراره من محل إلى محل آخر بتسخير الله تعالى له ، والتسخير التذليل بأمر المسخر.

وتسخير السحاب فهي الجو واعتراضه بين السماء والأرض وجريانه إنما يكون بحسب قواعد علمية ثابتة قد كشف العلم الحديث بعضا منها ، وتوجيه هذا السحاب وتنظيمه بأحسن نظام فيه الدلالة الواضحة على ربوبيته العظمى ورحمته الواسعة.

قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). الآيات جمع آية وهي العلامة الظاهرة ، أي : أن كل واحد من الأمور السابقة والظواهر الكونية المنتظمة بأحسن نظام والمتحركة وفق الإرادة الأزلية التي اقتضت أن تسير هذه الأمور بحسب قواعد علمية ثابتة متقنة لم يتنبه الإنسان إليها إلّا بعد مرور قرون

عديدة وقد كشف القرآن الكريم قبل ذلك عن بعض منها ، وفي كل ذلك دلالات واضحة على أنها من صنع الله تعالى القادر المتعال العليم الحكيم الرحيم ، فإن كل مصنوع فيه الدلالة على صانعه ، وإنّ فيها الدلالة على وحده صانعها وأنّه المستحق للعبادة والتعظيم لا يشاركه غيره ، قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢١].

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات المباركة أمورا :

الأول : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات من الأسماء الحسنى الوحدة ، والرحمانية ، والرحيمية دون غيرها من الأسماء ، ويمكن أن يكون الوجه فيه هو أن بالوحدة تتم له تعالى جميع أنحاء التوحيد ويتنزه عن جميع أنحاء الشرك فهو فرد في الألوهية والصفات العليا لا يشاركه أحد من مخلوقاته ، فيستحق بذلك الألوهية في الخلق والعبادة ، كما سيأتي مزيد بيان في البحث الفلسفي وبالرحمانية والرحيمية تتم له الربوبية العظمى في مخلوقاته.

الثاني : قد ذكر سبحانه في هذه الآيات أصول الخلق التي تتعلق بالإنسان من حيث حياته ونشأته وبقاؤه وانتفاعه ، فقد ذكر خلق السموات والأرض لأن بهما تتقوم حياة كل حي وذكر اختلاف الليل والنهار من حيث مدخليتهما في نشأة الحيوان والإنسان وبقائهما ، ثم ذكر الماء والنبات ، لأن بقاء كل كائن حي إنما يكون بهما ، وذكر أخيرا تصريف الرياح باعتبار مدخليتها في بقاء كل ذي حياة ، وأما الانتفاع من الرياح والفلك وغيرهما فهو ظاهر.

الثالث : إنما ذكر سبحانه (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) بعد اختلاف الليل والنهار ، لأن تمامية النفع من الفلك إنما يتحقق بمعرفة الأوقات وساعات الليل والنهار. وذكر السحاب بعد تصريف الرياح ،

لأن تسخير السحاب لا يكون إلّا بتصريف الرياح وجريانها كما عرفت.

الرابع : إنما قدم عزوجل الليل على النهار في الآيات المشتملة عليهما ، لأن ضوء النهار أمر وجودي متقوم بطلوع الشمس وغروبها وهو مسبوق بالعدم ، فيكون الأصل هو الظلمة وإن كان الليل والنهار متلازمين في التحقق الخارجي ، ويأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

الخامس : تدل الآيات المباركة وما في سياقها على أن الأشياء في عالم الطبيعة والماديات مطلقا لا تحصل إلّا بأسبابها المقتضية لها ، وعليه جرت سنة الله تعالى في خلقه ، ويدل عليه الدليل العقلي والنقلي ، وفي الحديث : «أبى الله ان يجري الأمور إلّا بأسبابها» ، وقد تقدم في أحد مباحثنا السابقة إثبات ذلك.

ولا فرق في ذلك بين الأمور النوعية ، والصنفية ، والفردية ، وهو يدل على كمال قدرته وإحاطته بمخلوقاته وواسع رحمته ، فلو لا إرادته الأزلية لم يتحقق شيء من الأشياء ، ولو لا الأسباب التي جعلها الله تعالى وسيلة لتحققها لما وجدت أصلا ، فانه يكون من تحقق المعلول بلا علة ، وهو محال ولا ريب في أن لثبوت الحوادث أسبابا ثبوتية واقعية مستندة بنفسها ، وترتب مسبباتها عليها إلى إرادة قاهرة فوق الطبيعة تديرها بجميع شؤونها وجهاتها ، والجميع لا يعزب عن علمه ولا يخرج عن قدرته.

ومن ذلك يعلم أنّ الاقتصار على الأسباب وإرجاع الحوادث كلها إليها فقط مع الغفلة عما وراءها من السبب الواقعي تفريط في الرأي ، وباطل بالأدلة العقلية والنقلية.

كما أنّ إرجاعها إلى الله تعالى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ومنشئه من دون نظر إلى الأسباب والعلل إفراط في الكلام ، وقد أبطلته الشرايع الإلهية بل الوجدان والدليل العقلي ينفيه ، والطريق الوسط الذي أمرنا باتباعه هو ما ذكرناه.

السادس : تدل الآيات على وجوب التعقل والتفكر ، وهو مما حكم به

العقل أيضا ، وقد ورد الأمر به والحث عليه في ما يقرب من خمسين آية بعبارات مختلفة تشمل جميع أصناف خلقه بما فيها العلوم والحرف والصناعات إلّا ما نهى عنه في الشرع كما هو مفصل في الفقه.

السابع : بيّن سبحانه في هذه الآيات ما يحب التأمل والتعقل والتفكر فيه ، وهو خلق الله دون ذاته تعالى ، والسنة متواترة في ذلك فقد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) : «تفكروا في آيات الله ولا تتفكروا في الله».

الثامن : إنّ الآيات المتقدمة وما في سياقها في مقام سوق العباد إلى معرفة الخالق والاعتراف بوجوده من خلال صنعه وخلقه ، ومثل هذا الاستدلال على وجود المبدأ ومعرفته أقرب إلى أذهان عامة النّاس قال تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [سورة الغاشية ، الآية : ١٧]. وقد يستدل سبحانه بالخالق على المخلوق وبالصانع على المصنوع ، قال تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة الحج ، الآية : ٣٤] ، وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة فصلت ، الآية : ٥٣] وتفصيلهما مذكور في علم الفلسفة والكلام.

التاسع : ذكر سبحانه أنّ ما ذكر في الآيات المتقدمة آيات لقوم يعقلون ولم يبين ما فيه الآية وحذف المتعلق تعميما للفائدة ، فإنها تدل على أصل وجوده تعالى دلالة الصنع على الصانع ، وعلى قدرته وعلمه ، وحكمته التامة البالغة ، ولطفه وعنايته بأمر خلقه ، فتدل السموات والأرض على حدوثها واستناد خلقها إلى خالق قديم ، واختلاف الليل والنهار على التغيير والاستناد إلى مدبّر يدبرهما بالتدبير الحسن ، وجريان الفلك على رأفته وعطفه على خلقه ، وإحياء الأرض بعد موتها على ظهور أنواع الثمار والنبات وظهور منافعها للنّاس ، وعلى لطائف الصنع وبدايع الحكمة ، وبث الدابة على خلق الغرائز المختلفة وغرائب الحكمة وبدائع الصنيعة. وتصريف الرياح على تفريقها في الجهات ، وعلى دفع المضار والأمراض بها وغير ذلك من الآيات الدالة على بديع صنعه وأنها من تقدير العزيز العليم.

جمالك في كل الحقائق ظاهر

وليس له إلّا جلالك ساتر

تجليت في الأكوان خلف ستورها

فنمّت بما ضمّت عليها الستائر

وقد نسب إلى الحسين بن علي (عليهما‌السلام) في بعض دعواته : «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك».

بحث أدبي :

يدل قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) على الاعتراف والإقرار بوجود الله تعالى وتحققه فعلا ، ونفي الشريك له عزوجل وهذا هو المقصود من دعوة الأنبياء.

لكن قد يقال : إن قدّر خبر «لا» النافية لفظ ممكن أي لا إله ممكن إلّا الله فهو ممكن ويثبت الإمكان بالنسبة إليه تعالى ، وهو أعم من الوجود الفعلي ، إذ لا يلزم أن يكون كل ممكن موجودا.

وان قدر الخبر كلمة «موجود» أي لا إله موجود إلّا الله فهو موجود ، فهو وان دل على فعلية الوجود له تعالى لكن لا يدل على امتناع الشريك عنه عزوجل ، إذ ليس كل معدوم ممتنعا.

والجواب : إنّ كلمة «لا» تامة لا تحتاج إلى الخبر ، كما في ليس التامة فيكون المعنى إنّه لا تحقق للمعبود بالذات إلّا الله تعالى ، فيثبت وجوده وامتناع غيره ، مع أنه يمكن تقدير الخبر لفظ «ممكن» ولا يلزم المحذور لما أثبته الفلاسفة من أن كل ما هو ممكن بالنسبة إليه عزوجل وليس فيه نقص فهو واجب بالنسبة إليه تعالى.

وعن جمع من أكابر الفلاسفة إن كان الوجود بذاته واجبا فيثبت المطلوب وإلّا فيلازم ذلك ثبوت المطلوب وكذلك في الصفات التي لا يلزم النقص من ثبوتها لذات الوجود.

كما يصح تقدير الخبر لفظ «الموجود» أيضا ويكون نفي الوجود عن المستحق للعبادة ذاتا مساوقا لامتناعه ، لأنه لو كان ممكنا لتحقق. ولعل لظهور

هذه الكلمة المباركة في ما ذكرناه اكتفى الأنبياء (عليهم‌السلام) بها في دعوتهم للعباد إلى الاعتراف بوجود الله تعالى ووحدانية ونفي الشريك عنه.

بحث قرآني :

الآيات التي تقدم تفسيرها مجموعة من الآيات الكثيرة في مواضع متعددة من القرآن الكريم التي يأمر الله تعالى فيها الإنسان بالتفكر والتأمل والتعقل في خلقه عزوجل والاعتبار منه ، والغرض من ذلك هو إثبات الإله الواحد الأحد رب العالمين ، ونفي الشريك وطرح الأنداد ، وإعلام الإنسان بأنّ جميع ما سواه مخلوق ومربوب لله تعالى وهو من أهم مقاصد القرآن الكريم بل وجميع الكتب السماوية.

وقد نزل القرآن في ذلك بأسلوب جديد تميز به عن غيره وهو إرجاع الإنسان إلى الوجدان والفطرة عن طريق التفكر والتأمل في بديع صنع الله تعالى وأصناف خلقه.

ولقد اعتنى الحكيم عزوجل به اعتناء بليغا وأكد عليه بأنحاء التأكيدات لما له الأهمية الكبرى وعظيم الأثر في إثبات المطلوب ، وذلك لأنّ في استخدام هذا الأسلوب بعثا للشعور الوجداني الكامن في النفس الإنسانية ، والاعلام للطرف بأن الحجة فيك ولا تتعدى عنك ، وهو أبلغ في الإحتجاج على الغير.

ولوضوح هذا النحو من الإحتجاج استخدمه القرآن الكريم في بيان أهم مقاصده في المبدأ والمعاد في ظروف كانت الوثنية والشرك والجهل المهيمنة على الإنسان الذي رفض استخدام العقل والتعقل في اختيار معتقداته وآرائه واقتصر على المادة لحصول الانس بها ، فسلب بذلك عن نفسه الرؤية الصحيحة للأشياء ، فصار يعيش في خرافات موهومة وبنى عليها حضارات متعددة اتسمت كلها بالجاهلية ، فجلب لنفسه الشقاء ، واستبعدها عن السعادة والكمال.

وكانت السمة المميزة للإنسان الجاهلي هي تعدد الآلهة وخوفه من الطبيعة وعناصرها التي خلقها الله تعالى لنفع الإنسان وخدمته ، فصوّر لكل

عنصر من عناصر الطبيعة إلها استحق منه التعظيم والتقرب إليه بأنواع القرابين ، فجعل السماء إلها ، وللأرض إلها ، وللمطر إلها. وللشجر إلها ، وللحب إلها ، وللشمس إلها وللقمر إلها إلى غير ذلك مما ضبطه التاريخ.

ونسب ما يصيبه من المكاره والمحن إلى هذه الآلهة إما لأجل غضبها على الإنسان ، أو لأجل الصراع المستمر بين الآلهة أنفسها ، حتّى يؤول الأمر إلى الغضب على الطبيعة ، فيلحقها الدمار الشامل كما في قصة الطوفان.

ويمكن تلخيص ما اعتقده الإنسان في عصر التنزيل في الطبيعة والإله فيما يلي :

الأول : تعدد الآلهة والإعتقاد بأن لكل عنصر من عناصر الطبيعة إلها يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء في حدود ما ثبتت إلهيته.

الثاني : انه يرى قدم العالم وأزليته بقدم الآلهة وأزليتها.

الثالث : إنّه يعتمد في نظرته للطبيعة وعناصرها أن لها أرواحا تعمل بالإرادة الكاملة وتستحق التعظيم والعبادة ، وأن الإنسان مسيّر تحت ارادتها.

الرابع : إسناد الحوادث كلها إلى هذه العناصر الطبيعية ، فان كانت رخاء ونعمة فهي من تقارب الآلهة كما اعتقد أنّ عمران الأرض بالنبات والأنهار والأمطار كان نتيجة التقارب بين آلهة السماء وآلهة الأرض. وأما إذا كانت الحوادث سوءا ودمارا فهي من غضب الآلهة على الإنسان أو من الصراع المستمر بينها.

الخامس : تأثير العناصر السماوية في العناصر الأرضية.

ولقد نزل القرآن الكريم في هذه الظروف وكان أول همه إرجاع الإنسان إلى وجدانه ووعيه عن طريق التأمل والتفكر في ما حوله من الأشياء وأحكمه بأشد الإحكام ، وذم التقليد والعصبية في الآراء ، وبذلك بيّن الطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى الكمال والهداية عن غيره وفي نفس الوقت حدّد علاقة الإنسان بالطبيعة ، وهي بالإله ، وبيّن بوضوح حقيقة الطبيعة وموقف الإله منها بأسلوب بياني رائع يقبله الطبع السليم ، وكان له القول الفصل في ذلك

بحيث أصبح منارا يحتذي به كل متأله وحكيم ، ومنه استمد كل من كتب في الفلسفة الإلهية والحكمة المتعالية.

ومحصل ما يستفاد من القرآن في ذلك ما يلي :

الأول : أنّ الطبيعة بجميع عناصرها ـ السماوية منها والأرضية ـ كلها حادثة ومخلوقة لله تعالى وهي خاضعة لإرادته يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهي تدل على وحدانيته تعالى وحكمته المتعالية ، قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٤]. تبين هذه الآية بوضوح كيفية خلق السموات والأرض وأنها حادثة وليست أزلية.

الثاني : أنّها كما لا تكون أزلية ـ أي قديمة ـ لا تكون خالدة وأبدية ، يصيبها الفناء كما يصيب كل مخلوق مسخر ، قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٨].

الثالث : أنّه خلق السموات والأرض بلا شريك له في الخلق ولا وزير ، قال تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٩١].

الرابع : أنّه لا تنازع ولا صراع بين أفراد الطبيعة وعناصرها كما زعموه ، بل كلها مسخرات بأمره كما في الآية المتقدمة.

الخامس : أنّها خلقت لأغراض صحيحة وفق نظام محكم وقواعد علمية متقنة ، وإنها تدل على وحدانية وحكمته التامة وربوبيته العظمى قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [سورة ص ، الآية : ٢٧] والآيات في ذلك كثيرة.

السادس : أنّها ليست شرا بل خلقت لأجل نفع الإنسان إن كان مطيعا لله ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٦] ، وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة الروم ، الآية : ٤٦].

ويتفرع عن كل واحد مما تقدم أمور أخرى يأتي تفصيل الكلام فيها في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالى. وبذلك بيّن سبحانه أصول الإعتقاد بالمبدأ والمعاد ونبذ الشرك والأنداد.

كما بيّن أن جميع مخلوقاته آيات وعلامات على وجود المبدأ تبارك وتعالى الذي وصفه القرآن الكريم بأمور :

الأول : أنّه أزلي قديم ، لأنّ كل حادث لا بد له من الانتهاء إلى علة قديمة ، وإلّا يلزم التسلسل الباطل ، وبذلك أثبت الفلاسفة القاعدة المعروفة في الفلسفة الإلهية : «أنّ كل حادث في عالم الإمكان لا بد وأن ينتهي إلى علة قديمة وواجبة وإلّا لاختل النظام». والقاعدة المشهورة : «إنّ كلما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات».

الثاني : أنّه موجود إذ لا يعقل استناد الحوادث إلى المعدوم.

الثالث : امتناع التعدد بالنسبة إليه ، كما يأتي في الآيات المناسبة له.

الرابع : أنّه حي مدرك ، إذ لا يمكن اسناد هذا النظام الحسن إلى غيره.

الخامس : أنّه منعم رحيم رؤوف ، لأنّ الخلق والتقدير إنما هو رحمة ورأفة ونعمة في وجدان كل ذي شعور كما يأتي في الآيات اللاحقة.

السادس : أنّه حكيم عليم بدقائق الأمور كلياتها وجزئياتها ، لما في بدايع صنعه من خصوصيات ودقائق علمية مما تدهش منه العقول ويعترف أهل الفن بالعجز والقصور في درك الحقيقة ويخرّون سجدا لإلهية وحكمته.

السابع : أنّه لا يعزب عن علمه وتدبيره وكمال قدرته مثقال ذرة في السموات والأرض.

الثامن : أنّ جميع الموجودات مستندة إليه في الحدوث والبقاء وأنّ مناط الحاجة إلى العلة فيها إنما هو الإمكان ، وهو قرين ما سواء حدوثا وبقاء ، ولا ينفك عنه بوجه من الوجوه.

التاسع : أنّه يسير ما سواه تعالى اليه عزوجل سيرا استكماليا ، لما ثبت في الفلسفة والعرفان من أنه محبوب الكل ولا كمال للحبيب إلّا السير إلى محبوبه بكل وجه أمكن.

العاشر : كما أنه مبدأ الكل فهو منتهى الكل أيضا ، لمكان التلازم بينهما.

بحث روائي :

في الكافي عن هشام بن الحكم قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبينات ، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة ، فقال : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

أقول : الأخبار في مضمون هذا الحديث متواترة من أنّ العقل يدعو إلى الله تبارك وتعالى ، كما أنّ الأنبياء يدعون إليه إلّا أنّ العقل حجة داخلية والنبي حجة ظاهرية.

وقوله (عليه‌السلام) : «أكمل للناس الحجج بالعقول» أي عرّفهم كيفية الاحتجاج على الشيء بما آتاهم من العقول.

والمراد من البينات البراهين الواضحة ولا ريب في كونها موجبة لنصرة النبيين عند ذوي العقول.

والمراد بالأدلة كلما يمكن أن يستدل به على الربوبية وهي كثيرة ويمكن حصر أنواعها في ثلاثة : دلالة الذات على الذات ، كما قال (عليه‌السلام) : «يا من دل على ذاته بذاته». ودلالة المخلوقات عليه ، كما هو المتعارف في القرآن الكريم كما مر والسنة الشريفة ، والأدلة العقلية الدالة على إثبات العلة بمعلولها. ودلالة المعاد وجزاء الأعمال عليه تبارك وتعالى لما مر مكررا من إثبات الملازمة بين المبدأ والمعاد. وسيأتي الكلام فيها في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

في الخصال والمعاني والتوحيد عن شريح بن هاني قال : «إنّ أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : ان الله واحد؟ قال : فحمل النّاس عليه وقالوا : يا أعرابي ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ؛ ثم قال : يا أعرابي إن القول في ان الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه. فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأن من لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة. وقول القائل الواحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه جلّ ربنا عن ذلك وتعالى. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربنا. وقول القائل : إنه ربنا أحدي المعاني ، يعني به إنه لا ينقسم في وجوده ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل».

أقول : هذا الحديث مما يدل على أن اطلاق الصفات عليه تعالى وعلى غيره ليس بالاشتراك المفهومي كما فصلناه قبل ذلك ويأتي إن شاء الله تعالى.

في الكافي عن أبي هاشم الجعفري عن أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) في معنى الواحد قال (عليه‌السلام) : «إجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)».

أقول : روى مثله ابن بابويه والمراد من الحديث اتفاق الأنبياء ومن

تبعهم على وحدانيته ، مضافا إلى حكم الفطرة بذلك.

وعن ابن عباس انه قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الآيات ـ المتقدمة ـ «ويل لمن سمع هذه الآيات فمج فيها».

أقول : المراد من المجّ هنا عدم التعقل والتفكر فيها.

بحث فلسفي :

أثبت جمع من الفلاسفة اشتراك مفهوم الوجود وما يتبعه من العلم والقدرة والحياة بينه تعالى وما سواه ممن يتصف بالعلم والقدرة والحياة واستدلوا على ذلك بأمور كثيرة مذكورة في محلها لا تخلو عن النقض والإبرام كما ستأتي في محالّها إن شاء الله تعالى.

إلّا أنّ اطلاق الواحد عليه تبارك وتعالى في القرآن الكريم ينفي ذلك ، فان المراد بالواحد كونه واحدا من جميع الجهات ، وفي كل شيء لا يدانيه أحد ولا يشبهه في ذلك شيء ، وهذا ما يستفاد من اطلاق الواحد على شيء عرفا خصوصا إذا قرن ب «القهار» كما في قوله تعالى : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فهو متفرد متوحد في كل ما يطلق عليه عزوجل فتكون هذه الآيات وما في سياقها أدلة لمن قال بالاختلاف والمغايرة كما هو مذهب جمع آخر من الفلاسفة والمتكلمين ، وتشهد لها السنة المقدسة فعن علي (عليه‌السلام) : «باين عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة». وتدل على ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في تفسير صفات الباري عزوجل بالمعنى العدمي فإذا قيل : الله سميع. أي : لا تخفى عليه المسموعات ، وبصير. أي : لا تخفى عليه المبصرات ، وقدير. أي : لا يعجزه شيء ، حذرا من تحقق الاشتراك واللوازم الفاسدة المترتبة عليه. والبحث يحتاج إلى مزيد من البيان لا يسعه المقام ، ومن ذلك يظهر أنّ قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان لقوله تعالى : (إِلهٌ واحِدٌ)»

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ

اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

بعد أن ذكر سبحانه جملة من مصنوعاته التي في كل واحدة منها آيات دالة على توحيد الخالق ، وقدرته ، ورحمته ، وعلمه وحكمته التامة البالغة ، ورغب الناس إلى التفكر والتأمل فيها ، عقبها بهذه الآيات للإشارة إلى أنه مع وجود هذا الإله القادر المحيط الحكيم وبعد تلك الآيات الباهرات لا موضوع لاتخاذ الند من دونه ومن فعل ذلك فليس إلّا من نهاية غفلته وسيأتي يوم يتبرّأ أحدهم من الآخر ويستحقون الخلود في النّار.

التفسير

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً). الأنداد ، والأكفاء ، والأشباه ، والإشكال ، والأقران ، والنظير بمعنى واحد ، والفرق بينها بالاعتبار ، ففي الاتحاد في الذات يقال : ند ، وفي الاتحاد في الأمور المتعارفة يقال : كفو ، وفي الاتحاد في عرض من الأعراض يقال : شبيه ، وفي الاتحاد في القدر والمساحة يقال : شكل ، وفي الاتحاد في الكيفية يقال : نظير. وربما لا تلاحظ هذه الخصوصيات فيطلق بعضها في محل البعض الآخر ، والمثل أعم من الجميع ، فكل ند مثل ولا عكس ، ومن عبر عن الأنداد بالضد يكون من اشتباه المفهوم بالمصداق ، لأن الضدين أمران وجوديان لا يجتمعان في موضوع واحد ، فمن جهة شمول الوجود لهما يكونان مثلين ، وفي جملة من الدعوات : «وكفرت بكل ند يدعى من دون الله». والأنداد أعم من تأليههم أو اتباعهم في الأفعال والأعمال.

وإنما عبر تعالى بلفظ «الناس» تعميما لجميع أفراد الإنسان من حين نزول الآية المباركة إلى قيام يوم الحشر فانه يكون فيهم أفراد يتخذون من دون الله أندادا في كل زمان ومكان ، ولا يختص ذلك بقوم دون آخرين بل يمكن أن

يكون الخطاب من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لما قبل نزول الآية أيضا.

وإنما ذكر تعالى لفظ «الله» دون الرحمن الرحيم وأمثالهما من الصفات لبيان إثبات الدليل على بطلان اتخاذ الند من دونه ، فان لفظ «الله» اسم للذات المسلوب عنها جميع النقائص الإمكانية. يعني : أن من كان هكذا يكون أخذ الند في مقابله لغوا عند كل ذي شعور ودراية ويستقبح ذلك.

قوله تعالى : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). الحب معروف ، وهو من المفاهيم التي قصرت الألفاظ عن بيان حقيقتها ، والكلمات عن الإحاطة بها ، فإيكاله إلى الوجدان أولى من التعرض له باللفظ والبيان.

وقد وردت مادة (ح ب ب) في القرآن الكريم كثيرا وهو من الله تعالى لخلقه ، قال تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٥] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [سورة الممتحنة ، الآية : ٨] ، وقال جلّ شأنه : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٦] وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٤] إلى غير ذلك مما هو كثير ، ومن الخلق لله تعالى قال سبحانه : (يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [سورة المائدة ، الآية : ٥٤]. وبالنسبة إليهما معا قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة ، آل عمران ، الآية : ٣١]. ومن الخلق للخلق قال تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [سورة يوسف ، الآية : ٣٠].

والحب أصل جميع المقامات والأحوال ؛ فهي إما وسيلة إلى حصوله أو هي ثمرة من ثمراته ، كالتوحيد ، والرجاء ، والخوف ، والتوكل ، وغير ذلك ؛ ولذا اختص بهذا المقام الخطير إمام الأنبياء وسيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولعلنا نتعرض لبعض الجوانب في المقامات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وأما تفسير المحبة بالإرادة ، كما عن بعض المفسرين فهو خلاف الاستعمالات المتعارفة لأنه يصح أن يقال : «اللهم ومن أرادني بسوء فأرده» ولا يصح ان يقال : اللهم من أحبني بسوء. كما يصح ان يقال : أحببت القرآن

فقبّلته ، ولا يصح استعمال الإرادة فيه ، ومن اختلاف استعمال كل منهما في مورد الآخر حسنا وقبحا يعلم اختلاف المعنى. نعم يصح جعل الإرادة والشوق من مبادي المحبة.

والمعنى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا وأمثالا ونظائر إما في القدم ، فيجعلون الذوات قديمة ، او في الأثر ، كما يجعلون الطبيعة مؤثرة ، أو في الحكمة والبداعة فيجعلونها من مقتضيات الذوات أو في الاختيار والقدرة فيتبعون الرؤساء ويجعلونهم سببا مستقلا في مقابل إرادة الله تعالى ، أو في الأفلاك وكائنات الجو فللناس فيها عقائد ومذاهب باطلة ، ويظهرون العلاقة القلبية بالنسبة إليهم ويعظمونهم ويخضعون لهم على نحو تعظيم الله تعالى وإظهار العلاقة له عزوجل ، لعدم التعقل والتفكر في الواقع وعدم فرقهم بين الحقيقة والمجاز والاقتصار على الظاهر فقط.

والمراد (بحب الله) الحب الظاهري الناشئ من المعاشرة مع المسلمين المحبين لله تعالى ، والحب الادعائي الذي يدعيه المنافقون.

ومقتضى المقابلة بين الآيات السابقة والمقام وسياق المخاطبة أن يقال : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله لأنهم لا يعقلون. إلّا أن من أدب القرآن ، والحث والترغيب في دخولهم الإسلام والمدارة معهم مهما أمكن أوجب تغيير التعبير ، ولذا نرى أن الآيات المشتملة على جملة : «لا يعقلون» نازلة في أواخر البعثة وبعد استقرار الإسلام ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحجرات ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٤] وقال تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٣].

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ). لاعتقادهم بأنه جامع لجميع الصفات الحسنى ، وانه مرجع الكل ومنتهاه ، وأنه أرحم الراحمين ، وله القدرة والسلطان ، وان عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يشاء ويمنع عمن يريد ، وان

عنده الثواب والعقاب. فكان عرفانهم له أتم فلا يرجون غيره ولا يعبدون سواه فلا محالة يكون حبهم له أشد.

وحب الذين آمنوا بالله تعالى ليس كالحب الحاصل من الشهوات النفسانية ، بل له واقع غيرها وهو الله عزوجل ، وانه حق لأن الاعتقاد بالحق حق لا ريب فيه ، وأنه ظاهر في العمل لأن العمل المنبعث عن الواقع والحقيقة مرآة صافية لا شائبة فيه غيرهما ، فكان هذا الحب بالنسبة إلى الواقع والاعتقاد والعمل ، هو الحب الحقيقي الذي يربط بين الخالق والمخلوق والعابد والمعبود ، وبقدر إخلاص العبد لله تعالى تزداد محبته له تعالى ، كما ان بقدر الاختلاط مع الغير تضعف درجة المحبة ، فان كل من أحب شيئا أعرض عن غيره وازداد الاتصال به.

ويظهر أثر هذه المحبة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فباتصاف العبد بجميع الكمالات المعنوية وارتقائه في المقامات العالية والابتعاد عن الرذائل والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، فان للملكات النفسانية تأثيرات في ذات النفس وكذا بالعكس.

وأما في الآخرة فقد أعد الله للمحبين له ما لا عين رأت ولا اذن سمعت. هذا بالنسبة إلى حب العبد لله تعالى.

وأما محبته عزوجل للعبد فهي من صفات فعله ، وهي الهداية الى الصراط المستقيم وكشف الحجب عن قلبه ، وتوفيقه لما يحبه عزوجل ، والتوجه إليه وحينئذ يطأ بساط قربه ولا يصل العبد إلى هذه المراتب إلّا باتباع الشريعة المقدسة اعتقادا وقولا وعملا ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١].

قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) رأى مصدرها (رؤية) تحذف الهمزة في مستقبلها ، فيقال : يرى ونرى وترى. ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم وهذه المادة تستعمل في جميع القوى الظاهرية ، يقال : لمسته فرأيته ناعما ، أو سمعت صوته فرأيته حسنا ، وتفكرت فيه فرأيته صحيحا ، وتعقلت فيه فرأيته دقيقا وغير ذلك من الاستعمالات التي

لا تنحصر بالمحسوسات والإنسان ، والدنيا ، بل تشمل غيرها ، قال تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٥] ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٠] ، وقال تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٧] فهو أعم لفظ يستعمل في الإدراكات.

والمراد به هنا هو الإدراك بعين اليقين وحق اليقين كما هو الشأن في جميع مدركات الآخرة ، وأما في الدنيا فإنّ ذلك يختص بالأنبياء والأولياء.

والمعنى : ولو يرى الظالمون الذين ظلموا عظيما باتخاذهم الأنداد والتعدي عن حدود الله تعالى ويرون بالعيان العذاب ويشاهدونه ويدركون أهواله لعلموا حق اليقين بأنه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام وما جنوه من السيئات.

قوله تعالى : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ). جملة (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ ...) مفعول ل «يرى» ، والجملة الثانية عطف على المفعول. أي : حينما يدركون بعين اليقين انحصار القوة والقدرة فيه تعالى وحده وان غيره لا حول ولا قوة له ، وان العقاب والثواب بيده عزوجل وانه شديد العذاب مع الظالمين.

وجواب «لو» مقدر حذف لدلالة سياق الكلام عليه ، ولتعظيم الأمر وتهويله ، أي : لندموا ندامة شديدة وأذعنوا بظلمهم وضلالهم ورجعوا إلى الحق واعتقدوا بالوحدانية ، وانه ليس من دونه وليّ ولا نصير. وبالجملة انه يدخل عليهم ما لا يمكن دخوله تحت وصف من الحسرة والندامة.

وفي الآية تسفيه عظيم لهم بأنهم لا يهتدون بعقولهم ، وتوبيخ شديد.

قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ). جملة «إذ تبرأ» بدل من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) أو عطف بيان ، والعامل فيهما «ولو يرى».

والتبري ، والبرء ، والبراء بمعنى واحد وهو الابتعاد عما يكره مجاورته ، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا ، قال تعالى : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٤١] وقال تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٣]. ويقال في العرف : برئت من المرض.

والاتباع هو اقتفاء الأثر ، سواء في الخير أو الشر ، قال تعالى : (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٢] ، وقال تعالى : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [سورة يس ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النحل ، الآية : ١٢٣].

والمراد بالرؤية هنا ـ كما تقدم ـ هو الانكشاف والمشاهدة بعين اليقين ، لظهور الحقائق وانكشاف الحجب في الآخرة.

والمعنى : ولو يرى الظالمون تبرؤ المتبوعين ـ وهم الرؤساء ـ من الأتّباع حين ما يرون العذاب ويشاهدون أهواله وعلموا بأنّه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام وما فعلوه من السيئات باتخاذهم الأنداد والتعدي عن حدود الله تعالى.

قوله تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ). التقطع الانفصال ، وزوال الأثر المطلوب والأسباب جمع السبب وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الصعود ، والمراد بها هنا تلك الروابط التي كانت بين الظالمين ـ الرؤساء والأتّباع ـ فتشمل رابطة المال ، والجاه ، والعقيدة ، والعشيرة ونحو ذلك من الروابط والأسباب التي اعتقدوها سببا لنجاح مقصودهم.

والجملة كناية عن خيبة آمالهم في الوسائل والروابط حينما يرون العذاب ويدركون أهواله فلا يمكن الاستفادة من تلك الأسباب التي عاشوا بها برهة من الزمن فلا تجديهم نفعا.

والآية تشير إلى غريزة من الغرائز في الإنسان وهي أن متابعة كل فرد للغير إما ان تكون لجلب النفع أو لدفع الضرر فإذا لم يرج ذلك عند انحصار الأمر في الله تعالى يثبت التبري عن الغير ، وهي مثل غريزة دفع الضرر بل الأولى من فروع الأخيرة ولا اختصاص لها بعالم دون عالم فهي قرينة الإنسان

إلى ما بعد موته إلى خلوده في دار الخلد إما الجنّة أو النّار.

ومن هذه الغريزة يتحقق كثير من أفعال الإنسان كسائر الغرائز ـ خيرا كانت أو شرا ـ إلّا إذا وجهها صاحبها إلى طريق الخير فقط ومن آثارها ما نشاهده في عالمنا من وقوع التبري بين الأتّباع والمتبوعين عند ما يتوقع أحدهما وقوع الضرر من الطرف الآخر أو عدم تمكن الانتفاع منه ، وأما في الآخرة فان المتبوع حينما يرى العذاب الشديد ولا يمكن التخلص منه إلّا بالعمل الصالح فلا تنفعه الأسباب ولا يقدر الأتباع مساعدته لا محالة يتبرأ منهم والأمر في الأتباع أظهر ، فتنكشف حقيقة التبعية ، وأنّها كانت كالسراب لا واقع لها فتبطل التابعية والمتبوعية ، وينحصر الأمر في الله تعالى فيجازيهم بسوء أعمالهم.

ومضمون هذه الآية من القضايا العقلية التي يغني تصورها والتأمل فيها عن إقامة الدليل عليها.

كما أنه لا اختصاص لهذه الآية بطائفة خاصة وبقسم خاص من التبعية بل يشمل جميع الطوائف والأفراد حتّى الفقهاء الذين إذا ادعوا لأنفسهم ما لا يستحقون لجلب قلوب الناس إليهم والإتباع لهم ، كما يشمل المبلغين والمرشدين الذين لم يظهروا حقيقة الإسلام قولا وعملا بل بينوا خلاف ما أسسته الشريعة المطهرة ، وكذا المعلمين إذا كان التعليم خلاف ما أذن فيه سيد المرسلين ، وفي الحديث : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده فان كان الناطق ينطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان».

ثم إن في التعبير بقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) مع ادعائهم الحب للأنداد من اللطف ما لا يخفى ، ومن البلاغة وروعة الأسلوب ما يبهر منه الفطن اللبيب.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا). بيان لقضية فطرية وهي مجازاة الشيء بمثله ، وحيث انه لا موضوع لتبري الأتباع من المتبوعين في دار الآخرة لما يشاهدونه من العذاب علقوا

ذلك على الكرة إلى الدنيا وتمنوا الرجوع إليها فيتبرءوا من المتبوعين ويعودوا إلى الحق ويهتدوا بهدى المرسلين لينتفعوا به في الجزاء.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ). الحسرة واحدة الحسرات وهي أعلى درجات الندامة على شيء وأشد من الغم وسببها الجهل بالواقع وتركه والعمل على خلافه فيكون السبب الفاعلي للحسرة من العبد ، والفرار منها إنما يكون بالرجوع إلى الإيمان بالله تعالى ورسله والعمل الصالح ، أو التوفيق منه عزوجل.

أي : كما أنّهم رأوا العذاب ووقع التبري بينهم وانقطعت الأسباب التي علقوا عليها آمالهم كل ذلك يكون حسرة عليهم وان جميع أعمالهم صارت وبالا عليهم فخلّفت أسوأ الآثار في نفوسهم حيث أورثت الحسرة والشقاء فتكون أسباب الحسرة هي نفس الأعمال لتفريطهم فيها.

وإنّما أسند ذلك إلى نفسه المقدسة لبيان أنّ جميع الأمور مستندة اليه عزوجل سواء في الدنيا أم الآخرة إلّا أنّه عزوجل جرت عادته على ترتب المسببات على الأسباب الظاهرية في دار الدنيا فيزعم الغافل السببية الحقيقية.

قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ). أي : خالدون في النار لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ، جزاء لأعمالهم واعتقاداتهم السيئة.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : إنما عبّر سبحانه وتعالى بالاتخاذ للإشارة إلى أنه ليس من الصراط المستقيم وسواء السبيل بل فيه تكلف بإخراج الفطرة عن طريقتها وسبيلها المستقيم لأنّ الاتخاذ هو الافتعال وتدل المادة على كثرة العناية والاهتمام بما اتخذ وهو أعم من الحق والباطل ، قال تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٥] ، وقال تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ

اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٣] وكذا المقام الذي هو من الباطل للأدلة الكثيرة الدالة عليه.

الثاني : إنّما قال تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ولم يقل أحب لله ، لأن في التعبير الأول نحو عناية لم تكن في الثاني وتدل على ان محبة المؤمنين أشد من سائر أنحاء المحبة وأنها أتم لأن من شهد له محبوبه بالمحبة كان حبه أتم ، ولأن المحبة إذا كانت لله تعالى وفي الله عزوجل وبالله كانت لا محالة أشد وأبقى وأدوم.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ان جميع ما يستدل به على وحدانية الله تعالى أو صفاته العليا أو أفعاله المقدسة بالأدلة العقلية والبراهين القويمة إما من المعلول على العلة أو بالعكس إنما يكون موطنها في هذا العالم ، وأما في الآخرة فإنها عالم العيان والمشاهدة لانكشاف الواقع وارتفاع الأستار والحجب فيها ، وقد يكون كذلك في هذا العالم لعباد الله المخلصين الذين تجلت عظمة الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فلا يرون غيره تعالى ، قال علي (عليه‌السلام) : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه» ، ونسب إلى ابنه الحسين (عليه‌السلام) : «عميت عين لا تراك وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيب».

الرابع : إنّ قوله تعالى : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) يدل على أن الحب للأنداد شيء وحب الله تعالى شيء آخر ولا يستفاد منه الاشتراك في المحبة بينه تعالى وبين الأنداد ، وكذا في قوله تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنّ حب الأنداد مذموم وحب الله تعالى ممدوح ، وهذا يدل على نفي الاشتراك بينهما من كل جهة.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض المفسرين من أنّ محبة أولياء الله تعالى وأنبيائه والصالحين مذمومة أيضا لفرض وقوعها في مقابل محبة الله تعالى فيكون من الشرك في المحبة الذي عرفت انه مذموم أيضا. (ضعيف) لأن محبة أولياء الله تعالى ، والأنبياء ترجع إلى محبة الله تعالى ، ولا يعتقد أحد

من المسلمين الاستقلالية بالنسبة إليهم في مقابل الله او الشرك به عزوجل فهم من حيث أنّ الله تعالى امر باتباعهم وتعظيمهم صاروا محبوبين لديهم ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١].

بحث روائي :

في تفسير العياشي والكافي عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ـ الآية ـ ، قال (عليه‌السلام) : «والله يا جابر هم أئمة الظلمة (الظلم) وأشياعهم».

أقول : نفس الآية الشريفة دالة على ذلك ، وكذا ما في سياقها من سائر الآيات فان الله تعالى وصف التابعين بالظلم فإذا كان المتبوع حقا لا تكون جهة المتابعة ظلما.

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) قال (عليه‌السلام) : «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله ، أو في معصية الله فان عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له ، وان كان من عمل به في معصية الله قواه بذلك المال».

أقول : قريب منه روايات كثيرة عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) وهذه الروايات وان وردت في المال ولكن يمكن أن يقال ان ذلك من باب التطبيق فيشمل جميع مناشئ الخيرات من الأعمال وغيرها كما تقدم في تفسير الآية.

بحث فلسفي :

يدل قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) على الخلود في النار وهو من المسائل المتفق عليها بين الكتب الإلهية والشرائع السماوية ومع ذلك لم تخرج عن موضع نقاش الإنسان وإشكالاته. ومما أورد عليه انه يستلزم القسر الدائم ، وقد ثبت في الفلسفة بطلانه ، وسيأتي في الموضع المناسب

التعرض لمسألة الخلود والبحث فيها مفصلا. وفي المقام نتعرض للقسر فنقول :

القسر في اللغة هو القهر فيشمل كل إعاقة للفرد أو النوع وقهره عن مطلوبه وغايته ، والمراد به عند الفلاسفة إيجاد المانع عن وصول الممكن إلى كماله اللائق به في سيره الاستكمالي في عالم الكون والفساد الذي هو عالم الاستكمال ، مع أنّ مقتضى الحكمة والعناية إيصال كل ممكن إلى المطلوب والغاية.

ويستفاد من ذلك أن القسر إنما يكون بإيجاد المانع عن إجراء قانون المقتضي (بالكسر) والمقتضى (بالفتح) في أفعال الإنسان وغاياته ولا يختص بخصوص الإنسان بل يجري في كل مقتض بالنسبة إلى مقتضاه في السير الاستكمالي.

وقد يطلق في كلمات الفلاسفة على الفعل غير الطبيعي فإن سقوط الحجر من العلوّ فعل طبيعي له ، وخلافه ـ أي الملقى إلى الأعلى ـ فعل قسري ، وهو غير دائمي للزوم جريان قانون المقتضيات على اقتضائها وفق النظام الطبيعي كما فصل في الفلسفة الطبيعية.

والقسر على قسمين :

الأول : القسر الدائمي ، : بأن يكون المنع في الإنسان أو غيره عن الوصول إلى الكمال دائميا ، وقد ثبت في الفلسفة بطلانه لأنّه خلاف الحكمة من الخلق فيكون قبيحا عليه جل شأنه وكل قبيح يكون محالا عليه.

الثاني : القسر غير الدائمي ، وهو في ما إذا كانت الإعاقة عن المطلوب موقتة ، وهذا القسم لم يقم دليل على بطلانه بل هو واقع في الخارج كثيرا ، كالحوادث والكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضان والأمراض والأوبئة وغيرها مما يوجب هلاك الحرث والنسل قبل البلوغ إلى الغاية والمطلوب.

ولهذا القسم أسباب متعددة :

منها : الأسباب الطبيعية الخارجة عن قدرة الإنسان واختياره.

ومنها : القوانين التي تحدد حريات الفرد وتكبح جماحه عن الشهوات سواء كانت تلك القوانين شرعية إلهية أم وضعية وضعت لمصلحة الإنسان بحيث لو لاحظنا تلك المصالح لما كان قسر في البين وإنما يرجع القسر إلى عدم درك المنشأ.

ومنها : العادات والتقاليد فإن لها تأثيرا في قهر الفرد ، وهذه العادات والتقاليد إن كانت سيئة وغير موافقة للشريعة المطهرة يجب إزالتها ومحوها وإلّا رجعت إلى الشرع المبين.

ثم إنه قد ذكرنا انهم أشكلوا على الخلود في النار بأنه يستلزم القسر الدائمي وهو باطل ، فيمتنع عليه تبارك وتعالى.

والجواب عنه بأنّ الأفعال لا بد وأن تجري على وفق الموازين الطبيعية والواقعية منها بما لها من الجهات والخواص والآثار التي لا يحيط بها إلّا الحي القيوم ، فما كان على خلاف ما نراه من الطبيعة لا يستلزم أن يكون كذلك في الواقع أيضا ، لعدم إحاطة المدركات بالواقعيات مضافا إلى أن الخلود في النار إنما هو نتيجة سوء سريرة الإنسان التي تكون معه أينما كان فيكون أمرا واقعيا لقانون العلية والمعلولية فلا موضوع للقسر حينئذ.

بحث عرفاني :

من أقرب المعاني إلى النفس وأعذبها عليها الحب. ذلك هو الترابط الوثيق الذي يربط الموجودات بعضها مع بعض وبه يجتذب كل صانع مصنوعه فهو الطريق إلى الكمال كل بحسب ما يريده كمالا وبه تتحقق الحياة السعيدة ولأجله يعيش الفرد ويعمل.

يعرفه جميع الروحانيين وأملاك السبع الشداد ، ودواب الأرض المهاد ، وجميع الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار الغامرات. بل ان جميع الموجودات تحبه تعالى وتعشقه كما أثبته جمع من الفلاسفة.

وبهذه الصفة يدرك المخلوق خالقه ، ومن هذه الجهة يعطف الخالق على خلقه ، فلا حياة إلّا بالحب ولا سعادة إلّا بالعشق.

وهو من المعاني الوجدانية التي يدركها كل أحد وان قصرت العقول عن الوصول إلى كنه حقيقته. فهل هو برق من نور الجمال الكامل المطلق يبرق ثم يختفي؟!!

أم هو تجلّ من وجه الله الأعظم ظهر وتجلّى؟!!

أم هو تلك الجاذبية التي أثبتها العلم الحديث في جميع الموجودات؟!!

أم هو ما بينه علي (عليه‌السلام) في مقام العارفين وخطبة همام؟!!

أم هو ما نسب إلى ابنه الحسين (عليه‌السلام) في دعائه لربه : «تعرفت إليّ في كل شيء فرأيتك في كل شيء وأنت الظاهر لكل شيء؟!!

أم هو ما شرحه السجاد (عليه‌السلام) في مناجاة المحبين؟!!

أم هو ما ذكره ابن الفارض في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك التي شرحت بشروح كثيرة مطلعها :

سقتني حميّا الحب راحة مقلتي

وكأسي حميّا من عن الحسن جلّت؟!!

أم غير ذلك مما يقوله العلم الحديث كما مر. كل ذلك قطرات من البحر لا يدرك ساحله بل يغرق وارده ، ومع ذلك فهو أوضح من كل شيء ويوجد في كل شيء.

وهو لا يختص بالإنسان بل يشمل جميع الموجودات الواجب منها والممكن ـ وقد أثبت العلم الحديث عموم الجاذبية والمجذوبية في الموجودات ، وفي حب الله تعالى وحب الإنسان ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١] وحبه تعالى لمخلوقاته من فروع رحمته الواسعة.

وأما محبة سائر الموجودات له تعالى فقد أثبتها جمع من الفلاسفة منهم صدر المتألهين في كتابه القيم (الأسفار الأربعة) : أنّ الموجودات بأسرها

عاشقة لجماله ، ويكفي في ذلك أنها سائرة إلى الكمال المطلق ولا كمال كذلك إلّا فيه تعالى ومنه عزوجل فهو محبوب من كل جهة.

فالقول باختصاص الحب في غيره عزوجل نظرا لتنزهه عن معناه (باطل) ولا يخفى فساده ، لا سيما بعد ما ورد في القرآن الكريم من إثبات حبه عزوجل لبعض الأفراد قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٦] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩] ، وقال جلّ شأنه : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٨].

والحب من المعاني القلبية المنبثة على جميع جوارح الإنسان وحواسه كما هو واضح ويتعلق بالأشخاص أو الأشياء العزيزة ، أو الجذابة ، أو النافعة ويكون باعثا إلى التقرب إلى المحبوب بكل وسيلة يحبها المحبوب كما في حب الله تعالى الداعي إلى إتيان ما يريده عزوجل وترك ما لا يرضيه أو محركا إلى الإتيان بالعمل المحبوب ، كما في الأعمال الصالحة والحرف والصنايع ونحو ذلك ، أو يكون داعيا إلى قضاء الحاجة من المحبوب كما في حب الأكل ، وحب المال ، وحب النساء وغير ذلك ؛ أو يكون مصاحبا إلى البذل والعطاء من دون انتظار مقابل كما في حب الأم للأطفال.

والحب المجرد الذي لا يكون مقرونا بأي شيء لا أثر له بل هو من مجرد اللفظ فقط وهو تارة : يتركز حول النفس ؛ ويسمى بحب الذات الذي لا يخلو عنه أي حيوان وهو المعبر عنه في الإنسان بالأثرة وأخرى : يتعلق بالغير فهو إما أن يكون مصحوبا بالغيرة وهو المسمى بالحب العذري او لا يكون كذلك.

وثالثة : يتعلق بالله تعالى ويسمى بالحب الإلهي الذي هو وليد كمال معرفة الله تعالى والناشئ عن الجمال المطلق ولا يحصل إلّا بالتخلية عن الرذائل والتطهير عن كل ما يشغل القلب عن الله تعالى ، والتخلية بالفضائل. وهذا القسم هو أفضل أقسام الحب ولا يشعر به إلّا العارفون بالله ؛ وهو ذو مراتب متفاوتة ، والجامع بينها أن يكون الحب لله وفي الله وكل ما كان الحب أشد كانت

السعادة أتم وأعظم.

وهو يختلف باختلاف المحبوب وينقسم بحسب القوى الظاهرية في الإنسان كحب البصر للرؤية ، والسمع لسماع الأصوات الحسنة ، وكذلك الشم للأرياح الطيبة ، وكذلك اللمس والذوق.

كما أنه ينقسم بحسب القوى المعنوية ـ كالعقل والفكر والإيمان ، وفي جملة من الأخبار عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ليس الإيمان إلّا الحب في الله والبغض في الله» أي حب الله وحب احكامه وتشريعاته وحب محبيه والبغض لأعداء الله والمحرمات الإلهية : وقد ذكرنا أن هذا القسم من أفضل أفراد الحب الموجب لسعادة الإنسان في الدارين.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

بعد ما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحوال متخذي الأنداد ذكر تبارك وتعالى في هذه الآيات ما أوجب ذلك وأنه أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان العدو للإنسان الذي لا يرجى منه الخير والصلاح ، وتقليد الآباء والاعتماد على أفعالهم من غير عقل ولا هدى ثم أعقب ذلك مثلا يبين بطلان عقائدهم وسخف آرائهم ، وانهم كالحيوان الذي لا يعقل ما حوله إلّا دعاء الداعي وزجره ، فهؤلاء أيضا كذلك صمّ عن الحق كأنّهم لا يسمعونه وبكم لا يستجيبون لما يدعون اليه ، وعميّ كأنهم لا يشاهدونه فهم لا يعقلون الحق ولا يهتدون اليه.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً).

الحلال : هو المباح في مقابل المنع والحرام ، وبينه وبين المنع نسبة العدم والملكة ، ولذا لا تتصف أفعال الله تعالى بالحلال والمباح ، لعدم تعقل الحظر والمنع بالنسبة إليه عزوجل.

والطيب ما تستلذه النفس ولم يرد فيه نهي من الشرع.

والأمر فيه للإباحة و «من» للتبعيض أي بعض ما في الأرض إذ ليس كل ما فيها يؤكل ، أو من بعض ما في الأرض مما أحله الله تعالى. والجمع بينهما إما لأجل التحريض في إناقة الأطعمة بأي وجه أمكن إذا لم يكن محذور شرعي في البين. أو لأجل أدب المقام وتكريم الأكل في قوله تعالى : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [سورة النساء ، الآية : ٤].

وتعميم الخطاب للنّاس أجمعين من جهة تعميم رحمته تعالى.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ). الخطوات [بضمتين] جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي كالشهوة والشهوات وقرئت بضمة وسكون ، وخطؤات بضمتين وهمزة ، وخطوات بفتحتين ، وخطوات بفتح فسكون جمع الخطوة وهي المرة من الخطو. والمعروف هو الأول. واتباع خطوات الشيطان هو الاقتداء به واقتفاء أثره والاستنان بسنته. ولم تستعمل كلمة الخطوات في القرآن الكريم إلّا بالنسبة إلى الشيطان الرجيم ، وقد نهى سبحانه النّاس عن اتباعها في موارد متعددة.

والشيطان سواء كان من شطن أو شطأ بمعنى المبتعد عن الحق والعدو اللدود. ولفظه عبرى الأصل.

ويعتبر في الأديان الإلهية الكبرى مبعث الشر متمثلا في شخص خاص وله أعوان من صغار الشياطين يأتمرون بأوامره ، وهو يغري الإنسان ويكون سببا في غوايته على نحو الاقتضاء لا الجبر ولا يعدم اختياره ، فيستطيع ان يدافع معه وذلك بتوفيق من الله تعالى.

وهو في الأصل كان في زمرة الملائكة صورة تمرد وتكبر على الله تعالى فسقطت منزلته فأظهر حقيقته على ما حكى عنه الجليل في القرآن الكريم ، وقد ورد ذكره في عدة مواضع من التوراة والإنجيل ، وفي القرآن الكريم وسيأتي الكلام فيه مفصلا.

والمراد من خطوات الشياطين كل ما يوجب انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم والشرع القويم لأنه لا يأمر إلّا بالسوء والفحشاء قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة النور ، الآية : ٢١] ، فهو منشأ كل ضلال وفساد وهو المحرض على ارتكاب الجرائم والآثام فيكون كل ما هو خارج عن الشريعة المقدسة ، سواء كان في الإعتقاد او الأعمال من خطواته.

ويستفاد من الآية المباركة تعدد سبل إضلال الشيطان واغوائه بخلاف الصراط المستقيم المقابل لخطواته وهي عبارة عن السبل التي قال تعالى فيها : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣] ومن أهم سبله متابعة الهوى والشهوات النفسانية قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [سورة ص ، الآية : ٢٦].

ومنها : إضلاله بجعل كل ما لم يكن من الدين في الدين بلا دليل معتبر عليه ففي روايات كثيرة ان الحلف على ذبح الولد ، والحلف بالطلاق والعتاق من خطوات الشيطان ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بها.

ومنها : وسوسته وتزيين الحرام في نظر العبد ليرتكبه ، ففي الحديث عن ابن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) : «قلت له : رجل عاقل مبتلى بالوضوء قال (عليه‌السلام) : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان» وغير ذلك مما هو كثير.

ويقابلها هداية الرحمن فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما ومصير كل منهما معلوم إما رضوان الله تعالى أو سخطه ، قال تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٢] فالإنسان واقع بين قائد شرير وهو الشيطان يدعوه

إلى متابعة خطواته ، وسائق كذلك يرغبه إلى ذلك وهو النفس الأمارة ، وهاد إلهي يهديه إلى الحق والصراط المستقيم وهم الأنبياء والمرسلون والمبدأ في الأول هو الشر والوسط خطوات الشيطان والمنتهى هو النار ، كما أن المبدأ في الثاني هو الله تعالى والوسط الأنبياء المرسلون والصراط المستقيم والغاية هي الجنّة.

وحقيقة الشيطان عبارة عن الجهل المركب والظلمات المنتهية إلى الإختيار.

ثم إنّ لخطوات الشيطان مظاهر ومراتب مختلفة ، فإنّ ترك كل واجب وإتيان كل محرم إلهي ، بل إتيان المشتبهات يكون من خطوات الشيطان ، وكذلك إتيان المكروه بالنسبة إلى كمال مرتبة الإيمان ، وكذا الغفلة عنه تبارك وتعالى ؛ بل اطلاق النهي يشمل القوى الباطنية من الوهم والخيال ، فإن ذلك كله مظاهر مختلفة من خطوات الشيطان أيضا ، والجميع تشترك في عدم الثبات ، كما هو شأن الخطوة المتقومة بالحركة.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). تعليل للنهي عن متابعة الخطوات بما هو ثابت في الفطرة التي تقضي بالفرار عن العدو والحذر منه ومخالفته بكل وجه أمكن. وعداوة الشيطان للإنسان واضحة فانه لا يدعو إلّا إلى ما يوجب الهلاك والبعد عن ساحة الرحمن ، وهو لا يخفي عداوته للإنسان وأبان ذلك من حين خلق آدم (عليه‌السلام) ويسعى في إفساد أحوال العبد قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [سورة فاطر ، الآية : ٦].

وقد أكد سبحانه وتعالى هذا الأمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بل في جميع الكتب السماوية. والوجه في كونه عدوا مبينا أنه حلف على إغواء الإنسان كما حكى عنه تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣].

ومن إخباره تعالى بأنّ الشيطان عدو للإنسان وإيكال الأمر إلى الفطرة يستفاد غاية التحذير والسعي في الابتعاد عنه.

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ). بيان لعداوته مع الإنسان بإفساد فطرته وبصيرته بغوايته وإضلاله مما يوجب ابطال أعماله ومعتقداته.

والمراد بالأمر هنا الدعوة إلى السوء والفحشاء وتزيينهما للإنسان وإيجاد دواعيهما لديه.

والسوء كل ما يغم الإنسان في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا. والفحشاء ما يستعظم قبحه من الأفعال ، والأقوال وهو أعظم من السوء ، فان كل فحش سوء ولا عكس.

ويستفاد من الآية المباركة أنّ كل سوء وفحشاء يقعان في العالم إنما هو من فعل الشيطان ومن طرق إضلاله وغوايته فلا يرجى منه الخير والصلاح.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). أي : ويأمركم ان تفتروا على الله وتنسبوا إليه عزوجل ما لا تعلمون أنه من شرعه ودينه ولا يختص ذلك بخصوص الأحكام الشرعية وتحليل الحرام أو تحريم الحلال بل يشمل العقائد الباطلة والآراء المزيفة التي لم يقم دليل على صحتها كما يشمل ما ينسب إلى أنبيائه ورسله (عليه‌السلام) افتراء فإن الإضافة إليهم إضافة إلى الله تعالى ، ففي جميع ذلك افتراء على الله واعتداء على حقه ، وقد سئل الباقر (عليه‌السلام) عن حق الله تعالى على العباد قال (عليه‌السلام) : «ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» فيكون كل اعتقاد أو رأي في أصول الدين أو فروعه لم يمضه الشارع الأقدس داخلا في الآية الشريفة وما في سياقها ولذلك ذكر العلماء أنّ الأصل عدم الحجية في الرأي والاعتقاد إلّا إذا قامت الأدلة القطعية على الحجية وقد تعرضنا لذلك في علم الأصول فراجع كتابنا [تهذيب الأصول] وسيأتي تتمة الكلام عند قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [سورة الحاقة ، الآية : ٤٦].

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا). ألفينا بمعنى وجدنا مع اتخاذ ذلك عادة والايتلاف به. والضمير

في «لهم» عائد إلى المشركين والمعاندين للحق.

والمراد من الآباء : الأعم من السادة والكبراء والآباء والمربين فانه يصح اطلاق الأب عليهم كما في الحديث : «الآباء ثلاثة : أب ولدك ، وأب علّمك ، وأب زوّجك» ، ويشهد للتعميم قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [سورة الأحزاب ، الآية : ٦٧].

ولعل في ذكر هذه الآية بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان إشارة إلى أن اتباع ما عليه الآباء يمكن أن يكون من اتباع خطوات الشيطان ، وان تقليد الآباء ، والإعراض عما أنزله الله من السوء ، والفحشاء والقول على الله بغير علم بلا فرق بين ان يكون الشيطان من شياطين الإنس أو الجن قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٢] وقد رد عزوجل عليهم وأبطل معتقداتهم.

قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). تقبيح لهم وتفضيح لمعتقدهم ومتابعتهم لآبائهم أي : أنهم يتبعون آبائهم ولو كان آباؤهم لا يعرفون شيئا من الدين ولا يهتدون إلى الحق فإذا كانوا كذلك فهم أيضا مثلهم لأنهم على غير هدى وكتاب منير. وفيه إرشاد إلى ان متابعة فرد لآخر لا بد وان تكون مع المعرفة بأنّ المتبوع حائز على الكمال والهداية ومع فقدهما لا يقدم العاقل على المتابعة ولا تكون إلّا الضلالة والدليل على ذلك نفس وجدان التابعين لو تخلوا عن العناد واللجاج ورجعوا إلى التفكر والتعقل ، وما ورد في الكتاب والسنة من ذم التقليد إرشاد إلى ذلك.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٤] ولعل الاختلاف في التعبير في الآيتين بحسب مراتب الجحود والعناد ففي الآية الأولى ادعوا متابعة الآباء ولم يدعوا شيئا وراء ذلك وفي هذه الآية ادعوا وراء ذلك الاكتفاء بها ، فعبر في الأولى بعدم التعقل وفي الثانية بالجهل من هذه الجهة.

ومن الآية الشريفة يستفاد تقسيم التقليد إلى قسمين : قسم يكون في الباطل وإلى الباطل ، وقسم آخر يكون في الحق وبالحق كما ستعرف.

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً). المثل : الشبه ، والقول في شيء يشبه قولا في شيء آخر يبين أحدهما الآخر. والمثال الصورة ، وفي الحديث : «إذا خرج المؤمن من قبره خرج معه مثال يتقدم أمامه فيقول له المؤمن من أنت؟ فيقول له : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا»

وقد ذكرت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم في ما يزيد على أربعين موردا. وذكر الأمثال في الكلام من أهم جهات الفصاحة والبلاغة وإنما يؤتى بها لتقريب المعاني إلى الأذهان وقد اعتنى بها الله تعالى في القرآن الكريم قال سبحانه : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [سورة الروم ، الآية : ٥٨] وتقدم ما يتعلق بها في آية ١٧ من هذه السورة فراجع.

والنعيق صياح الراعي بالغنم وزجرها ، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ، ويستعمل النعيق ، والنغيق ، والنعيب في صوت الغراب أيضا بحسب اختلاف حالاته.

والدعاء للقريب. والنداء للبعيد غالبا وقد يستعمل أحدهما في مقام الآخر أيضا.

وقد بين سبحانه وتعالى أنّ مثل الكفار في عدم التعقل والتدبر في ما يرتبط بشؤون دينهم وآخرتهم ، وعدم تأملهم في ما أتى به الأنبياء لأجل سعادتهم ونجاتهم من المفاسد والمهالك ، مثل الحيوانات التي لا تفهم من الخطاب إلّا مجرد الأصوات التي يصدرها الإنسان لدعوتها إلى شيء أو زجرها عن شيء آخر فهي لا تعقل شيئا مما يقول ولا تفهم منها معنى كذلك شأن الكفار في الجهل وعدم التمييز بمداليل الألفاظ وعدم درك المعاني.

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). أي : أنّ الكافرين صم عن الحق فلا يدركونه ، وبكم عن السؤال عما يفيدهم وعمي عن العبرة

والاعتبار مما يرونه ، وهذا شأن كل من غلب عليه الجهل المركب ولا يكون في مقام رفعه فليس له حظ من الكمال ولا يريد الاستكمال وقد تقدم نظير هذه الآية في آية ١٨ من هذه السورة.

ويمكن أن يستدل بمثل هذه الآية على أن الكفار الذين ركبهم الجهل والعناد أضل من الأنعام فانها تنزجر بزجر الراعي وتستجيب دعوته ، ولذا يمثلون كل مجتمع ليس فيهم قائد بصير ولا مدبر خبير بأنهم كأغنام لا راعي لها ، وهذا بخلاف الكفار فإنهم لا يرتبون أي أثر على دعوة الأنبياء ولم يعيروا لها بالا.

ثم إنّ المثل في المقام يحتمل وجوها أربعة :

الأول : أن يكون تشبيه حالهم في ترك دعوة الحق واتباع آبائهم بالناعق للحيوان يعني أن التابعين كالحيوان والمتبوعين كالناعق لهم.

الثاني : أن يكون كالوجه الأول إلّا ان التشبيه يكون بالنسبة إلى التابع ، يعني : ان المتبوع كالحيوان والتابع كالناعق لهم.

الثالث : لحاظ التشبيه بالنسبة إلى المعبودات الباطلة من الأوثان والأصنام ، بل يمكن التعميم فيشمل كل ما يراد به غير وجه الله تعالى ، فيكون المراد به أنه ليس له إلّا التعب والنصب من دعائه.

الرابع : تشبيه واعظ الكفار ـ وهم الأنبياء ـ بالراعي الذي ينعق بالحيوان ، فلا يسمع الكفار منهم ولا يفهمون ما يقولون لهم. ويمكن أن يؤخذ معنى عاما يشمل جميع ذلك.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تشير الآيات الشرية إلى أمور :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أنّ أمر الدين مختص بالله تعالى وأنّ في غير ما أذن فيه تعالى يكون تشريعا محرما واتباعا لخطوات الشيطان.

الثاني : أنّ التعبير بالخطوات إشارة إلى أن إغواء الشيطان إنما يكون من الأشياء الدنيئة والخواطر الرديئة والأمور السفلية التي يستقبحها العقل لأنه مرجوم عن العلويات والأمور المعنوية العقلية ، فيكون إضلاله ناشئا عن الجهل وعدم التفكر والتعقل اللذين هما من جهة العلو ، فلا ينبغي لأحد ان يدع وحي السماء النازل على الأنبياء ومتابعة من تكون ذاته الدناءة والخسة والبعد عن ساحة الرحمن ، فيكون التعبير بالخطوات كناية عن نهاية الخسة والدناءة.

الثالث : أنّ قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إرشاد إلى أمر فطري ، وهو أنّ الإنسان لا يركن إلى عدوه ويتبعد عنه بل هذا ارتكازي في الحيوان في الجملة ، فيكون من باب بيان الموضوع لترتب الحكم الفطري عليه قهرا.

الرابع : إنّما وصف سبحانه الشيطان بأنّه «عدو مبين» إما لأجل وضوح عداوته لكل عاقل لو تبصر وتأمل في أفعاله ووساوسه حق التأمل ، ويكفي في ذلك الإعتبار من حال الكفار والمنافقين ، أو لأجل قسمه وحلفه على الإغواء كما حكى عنه تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣] أو لأجل إخراجه ورجمه عن قرب الله عزوجل ، أو لأجل أنّ بني آدم أفضل منه ، ويمكن أن يكون لاجتماع هذه الأسباب دخل في اشتداد إغوائه وإضلاله للنّاس.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أنّ للشيطان ركيزتين في إضلال الإنسان وإغوائه :

الأولى : تزيين ما ترغب إليه النفس الأمّارة من السوء والفحشاء والترغيب إليهما بأساليب مختلفة ، وهو بذلك يبعد الإنسان عن الجانب الأهم في طبيعته أي جانب التعقل والتدبر.

الثانية : تلبيس الحق بالباطل واراءة الباطل حقا بحيث ينسب ما ليس من الدين إلى الدين فيجتهد في ذلك ويريد بذلك طمس الفطرة الإنسانية ، فان الإنسان بفطرته يميل إلى الحق والتدين بالدين الإلهي.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) عدم الاستقامة والإستواء كما هو الشأن في الخطوات فانها لا تكون بمستوى واحد والا لكان التعبير بالصراط ونحوه.

بحث أدبي :

أدوات الاستفهام كثيرة والأصل فيها «الهمزة» والباقي من المتفرعات والشؤون والحالات ؛ ولذا اختصت همزة الاستفهام بأحكام خاصة في المحاورات لا تجري في غيرها من سائر الأدوات.

منها : أنّ ورودها لطلب التصور تارة ولطلب التصديق أخرى ، وسائر الأدوات تختص بالأول إلا «هل» فإنّها تختص لطلب التصديق فقط.

ومنها : تمام التصدير فتتقدم على حرف العطف ، لأصالتها في الصدارة مطلقا. ولذلك أمثلة في القرآن الكريم قال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٤] وقال تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٥١] وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج ، الآية : ٤٦] وأما بقية أدوات الاستفهام فتتأخر عن العطف قال تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠١] وقال تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [سورة التكوير ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [سورة غافر ، الآية : ٦٢] وقال تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥] وقال تعالى : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨١].

ثم إنّهم قد ذكروا معاني كثيرة للهمزة منها : التهكم ، والتعجب والأمر ، ونحوها وجعلوها من متعدد المعنى ، والظاهر انه من الخلط بين دواعي الاستعمال والمستعمل فيه ، وكم لهم من مثل هذا الخلط في الألفاظ.

بحث روائي :

في التهذيب عن منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ان

طارق النخاس قال : إني هالك خلعت بالطلاق والعتاق والنذر فقال له (عليه‌السلام) : يا طارق إنّ هذه من خطوات الشيطان».

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : في قوله تعالى : (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) قال (عليه‌السلام) : «كل يمين بغير الله فهي من خطوات الشيطان».

وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل حلف ان ينحر ولده فقال (عليه‌السلام) ذلك من خطوات الشيطان».

أقول : الروايات في أن الحلف بالطلاق أو الحلف على شيء مرجوح شرعا من خطوات الشيطان جميع ذلك من باب ذكر بعض المصاديق وإلّا فكل ما لم يرد به وجه الله تعالى ولم يكن مطابقا لرضائه جل جلاله فهو من خطوات الشيطان سواء كان من الأعمال والأفعال أو المعتقدات.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إياك أن تفتي النّاس برأيك أو تدين بما لا تعلم».

أقول : هذا محمول على ما إذا لم تكن حجة معتبرة في البين وإلّا فان كان مطابقا للموازين الشرعية فهو محبوب لله تعالى ومرغوب اليه في السنة المقدسة.

وفي المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) قال (عليه‌السلام) : «أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت».

أقول : تقدم ما يتعلق بها.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) : انها نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام».

أقول : لو صح السند فهو بيان لبعض مصاديق العام.

بحث فقهي :

استدل الفقهاء بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) وجملة أخرى من الآيات الكريمة على إباحة الأشياء وحليتها إلّا ما قام الدليل المعتبر على الحظر والحرمة من الكتاب العزيز والسنة المقدسة ، والإجماع المعتبر ، فان هذه الآية الشريفة صريحة في الإذن بالانتفاع فيما ليس فيه نهي شرعي.

ولكن عن جمع آخرين عكس ذلك وقالوا بحرمة الانتفاع بالأشياء مطلقا وان الأصل في الأشياء الحظر إلّا ما دل الدليل على الإباحة ، واستدلوا بأدلة قابلة للمناقشة تعرضنا لتفصيلها في الأصول ومن شاء فليراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم إنّه قد يستدل بمثل هذه الآيات على بطلان التقليد مطلقا في فروع الدين فضلا عن أصوله ، لأنه تعالى إنما ذم الكفار باتباعهم لآبائهم.

ولا ريب في بطلان الاستدلال أما أولا : فلأنّ الآيات الشريفة ظاهرة في التقليد في أصول الدين وانما ذم تعالى الكفار باتباعهم الآباء في الباطل والدعوة إلى الأوثان والأصنام ولم يقل أحد من المسلمين بجواز التقليد كذلك.

وأما ثانيا : فلأن التقليد في الحق ومتابعة من يحكم عن السنة المقدسة المنتهية إلى الله تعالى متابعة له عزوجل ، والتقليد كذلك أصل من أصول الدين ، وملجأ يلجأ إليه الجاهل الذي لا يمكنه النظر والاستدلال.

والتقليد والمتابعة في أمور الدين مأخوذ على نحو الطريقية لا الموضوعية بوجه من الوجوه ؛ والبحث محرر في الفقه والأصول فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

ثم إنّ التقليد المبحوث عنه في المقام هو التقليد في أمور الدين ، وقد ذكرنا أنّه لا يجوز في أصول الدين وأما في فروعه فهو فرض العامي الذي لا

يتمكن من استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية ، وأما التقليد والمتابعة في غير ذلك من أمور المعاش كلها ـ كالصنايع والحرف وغيرهما ـ مما ليس فيه منع شرعي فهو صحيح بل قد يجب ان كان من الواجبات النظامية ولم يرد نهي شرعي عنه ، كما انه ليس من متابعة خطوات الشيطان.

بحث اجتماعي :

المتابعة والتقليد هو العمل بما شرعه المتبوع وجعله سواء كان التابع قد قصد المتابعة أو لا. وبعبارة أخرى : المتابعة انطباقية لا أن تكون قصدية ، وهي سنة من سنن الاجتماع الإنساني بل هي من غرائز الإنسان لا سيما في المراحل الأولى من حياته ، ولعلماء الاجتماع في ذلك كلام طويل بل يظهر من بعضهم أنها من أسباب رقي الفرد أو الأمة ، ولم يصل أحد إلى مرتبة الكمال إلّا بفضل المتابعة والتقليد والمحاكاة.

والظاهر أنّ القرآن الكريم لم ينه عن التقليد على النحو الكلي وإنما اعتبر في التقليد الذي يمكن أن يحقق الفائدة للفرد أو المجتمع أمرين.

الأول : أن يكون التقليد عن حق وفي حق فلا يكون إلّا ممن له الكمال والهداية والصلاح قال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٣٥] فإنّ تبعية شخص لشخص آخر لا بد وأن يرى في المتبوع جهة كمال ليستفيد منه في ارتقاء العقل بلا فرق بين ان تكون هذه التبعية شخصية أو نوعية دينية أو دنيوية ويدل على ذلك قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) فجعل المناط في أمر التقليد عقل الآباء واهتداؤهم وقال تعالى : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٩] فتكون التبعية حينئذ تبعية العقل والكمال وبالأخرة ترجع إلى تبعية رضوان الله تعالى والأمر الإلهي قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] وفي غير ذلك لا تكون إلّا متابعة للنفس الأمارة ومتابعة الهوى التي لا يجتنى منها إلّا الفساد والضلال ويكون مآلها إلى النار

قال تعالى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [سورة نوح ، الآية : ٢١] والداعي إلى هذا التقليد هو الشيطان لأنه من طرق غوايته وإضلاله قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [سورة لقمان ، الآية : ٢١].

الثاني : أن تكون الغاية من التقليد هي الاستكمال لا مجرد المحاكاة التي لا يخلو عنها الحيوان قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٠] ، وقال تعالى : (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) [سورة غافر ، الآية : ٣٨] ويستفاد ذلك مما ورد في قصة موسى والخضر قال تعالى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [سورة الكهف ، الآية : ١٨] وقال تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ١٨] والآيات في ذلك كثيرة منطوقا ومفهوما.

وبالجملة : إنّ ذم التقليد والتشنيع على من يقلد الآباء ليس لأجل نفس التقليد والمتابعة بل لأجل عدم توفر الشروط التي حددها القرآن الكريم فيه ، فيرجع إلى متابعة الشيطان والنفس الأمارة ومتابعة الهوى التي هي من أهم أسباب الضلال والابتعاد عن الحق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنّ أمر الدين وتشريع الأحكام لا بد وأن يكون منه تعالى ، وفي غير ذلك يكون من خطوات الشيطان ، وأبطل التقليد في الدين ، وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى المؤمنين لأنهم أولى من غيرهم وأباح لهم الطيبات ثم حدد لهم بعض ما يجب اجتنابه من المطاعم ولذلك لا بد لهم من الشكر الدائم له تعالى.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). الأكل معروف ، والطيّب (بالتشديد) ما تستلذه النفس. وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة إلّا انه لم يرد فيه الطيب (بالتخفيف). وهو في مقابل الخبيث وكل ما نهى عنه الشرع يكون خبيثا واقعيا وإن استلذته النفس ، فما هو في معرض أكل الإنسان على أقسام ثلاثة : الطيبات ، والخبائث ، والمصائب. والمحرمات وإن لم تكن من الخبائث الظاهرية عند النّاس والحلال هو الأول فقط دون الأخيرين.

والأمر هنا استعمل في إنشاء الطلب بداعي الترخيص والإباحة لا بداعي الطلب الحقيقي ، فلا يستفاد منه سوى الإباحة والترخيص لا الوجوب بقرينة قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧].

وتوجيه الخطاب للمؤمنين خاصة ، لأنّهم هم المقصودون في تحليل الطيبات وان الغرض الأهم إنما هو انتفاع أهل الإيمان منها ، كما إذا أجرى شخص ماء ليشرب هو وأهله منه وينتفع به في زرعه فتشرب منه الحيوانات ، فالمؤمن هو الغاية وأنه أولى من غيره ، ولذا تكون الطيبات خالصة لهم يوم القيامة قال تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٢]. أو أنه تعالى خصهم بالذكر تفضيلا.

قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ). الشكر إظهار نعمة المنعم على نحو من التعظيم اما بالقلب وهو تصور نعمة المنعم ، أو باللسان وهو الثناء عليه ، أو بالجوارح والأركان وهو مكافآت النعمة بقدر الاستحقاق وحينئذ فان كان المنعم غير الله تعالى فالأمر واضح وأما إن كان هو عزوجل فلا أثر للشكر إلّا استكمال الشاكر قال تعالى : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [سورة النمل ، الآية : ٤٠] فالشكر لله أي شكر نعم الله التي خلقها وأباحها وسهّل الانتفاع منها فانها كلها من فضله ومننه وإحسانه.

والشكر كما يظهر ـ من الآيات والروايات ـ من أجلّ مقامات الإنسان

وأفضل درجاته ، ويكفي في ذلك النداء الربوبي : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٧] وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في المتفق عليه من جوامع كلماته المباركة : «الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب ، والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر ، والمعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع». وهو من العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.

ولا يحتاج فيه إلى قصد القربة لكن يضره الرياء ولا يختص بخصوص النعم الحادثة للشاكر بل هو ممدوح في نفسه وبالنسبة إلى النعمة الحادثة في المستقبل.

والظاهر انه لم يرد تحديد خاص في الشكر بل يكفي مطلقه ، فقد قال الصادق (عليه‌السلام) : «شكر كل نعمة وان عظمت ان تحمد الله عزوجل عليها» وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله إلّا أدّى شكرها».

وللشكر درجات ومراتب منها الشكر القلبي قال الصادق (عليه‌السلام) : «من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها». ومنها الشكر بالتقوى وترك المعاصي التي هي من أفضل مراتبه ، قال الصادق (عليه‌السلام) : «شكر النعمة اجتناب المحارم» ويظهر ذلك من قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٢٣] فيتحقق بالقلب واللسان وأعمال الطاعات واجتناب المحرمات.

ومورد الشكر ليس هو النعم الدنيوية فقط بل الأخروية أيضا كالتوفيق للإيمان وإتيان الطاعات والعبادات والسعي في قضاء حوائج النّاس ، الواردة من الله تعالى فإنها توجب رفع الدرجات وتكفير السيئات وهي مما يوجب الشكر عليها.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). احتجاج على وجوب الشكر بأحسن بيان ؛ يعني : إذا كنتم إياه تعبدون ، لأنه إلهكم ومعبودكم فاشكروه لأنه المنعم عليكم ؛ أو إن كنتم تدعون عبادته فاشكروا لله ، لأن منشأ كونه أهلا

للعبادة عين منشأ كونه أهلا للشكر لعدم تعدد الحيثيات والجهات في ذاته الأقدس ، فكما انه إله الجميع بالاستحقاق الذاتي كذلك يكون مشكور الكل أيضا ، لانتهاء جميع النعم إليه عزوجل ، فالشكر على نعمائه ملازم لعبادته وهي متوقفة على معرفة المعبود ولو إجمالا ، ومن أهم مقدمات المعرفة وجوب شكر المنعم بل هو أساس العبادة وغاية العبودية ؛ ولذا قدم عزوجل الشكر على العبادة في المقام ، وفي قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [سورة النساء ، الآية : ١٤٧] فالشكر يكون داعيا للعبادة بل هي نفسه في نفوس الأولياء كما قال سيدهم : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» وهذا من أدق مباني الفلسفة حيث اجتمع فيه العلة الفاعلية والعلة الغائية والمادية والصورية.

قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ). مادة (ح ر م) تأتي بمعنى المنع ، سواء كان تكليفيا أم غير تكليفي تكوينيا أم قهريا ، قال تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٢] وهو من المنع التكويني لكونه من الجمع بين المتنافيين فلا يجتمع الخبيث من كل جهة مع الطيّب كذلك ، ومن المنع القهري قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [سورة المائدة ، الآية : ٢٦] والمقام من المنع التكليفي الشرعي.

والحرمة من احدى الأحكام الخمسة التكليفية : وهي الوجوب ، والحرمة ، والإباحة ، والندب ، والكراهة ، وهي ثانية في جمع الشرايع الإلهية على اختلافها بل هي دائرة في الأحكام الوضعية ولو كانت غير سماوية.

والميتة : من الحيوانات ما مات حتف أنفه ، وعن الفقهاء تعميمها إلى كل ما زال روحه بغير تذكية شرعية.

والدم : معروف وبه يحيا الحيوان وتنتظم شؤونه ووظائفه : أو المراد به هنا الدم المسفوح لقوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥].

وتأتي مادة (لحم) بمعنى اللزوم ، وسمي اللحم لحما للزوم بعضه مع بعض.

والخنزير : حيوان معروف وهو من المسوخات التي يأتي المراد منها في قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) [سورة يس ، الآية : ٦٧] وقد نهى سبحانه عن أكل لحم الخنزير في مواضع متعددة من الكتاب الكريم قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣] وقال تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥] وقال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) [سورة النحل ، الآية : ١١٥] مضافا إلى السنّة المتواترة وإجماع المسلمين.

وضرر هذا اللحم بيّن دلت عليه التجربة ، وقد كشف العلم الحديث عن بعض مفاسده. ولا فرق في الحرمة بين البري منه والبحري وان كان الأول يزيد عن الأخير في انه نجس عينا وأعظم خبثا.

وإنّما ذكر اللحم كناية عن جميع اجزائه لأنه أهمها.

وقد حرّم الله هذه الثلاثة لخباثتها ولما لا يؤمن الضرر منها وقذارتها واشمئزاز النفس منها ، وقد كشف العلم الحديث ما يترتب عليها من المفاسد والمضار.

قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ). الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل في أول كل صوت يرفع ، ومنه استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، والإهلال بالذبح أي التقرب بالذبائح إلى الأصنام والأوثان وغيرها مما يعبد من دون الله تعالى ، أو ذكر الوثن والصنم عند الذبح فإنّ ذلك كله من عادات المشركين والوثنيين وهو شرك بالله تعالى ، وقد اعتبر الشارع هذه الذبائح من الميتة التي لا يجوز أكلها ، وإنما ذكرها بالخصوص للاهتمام به في ترك العادة التي جرت عليها قرون عديدة من الإهلال لغير الله تعالى.

ولعل من أسرار قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) التمهيد لما يأتي وإعلام الناس بأنهم أجلّ مخلوقاته عزوجل ، وانه

تعالى خلق ما في الأرض له ليرفع نفسه عن درجات البهيمية الى الدرجات العالية ويتنزه عن ما ينافي مقام العبودية فلا يعبد غيره تعالى فان الجميع مخلوق ومربوب له عزوجل.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). قد ذكر الاضطرار إلى الأكل في موارد خمسة من الكتاب الكريم أحدها في هذه الآية والثاني في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٣]. والثالث في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥]. والرابع في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١١٥]. والخامس في قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٩].

وكلمة «غير» منصوبة على الحالية وقبل على الاستثناء ، والتمييز بينهما هو انه إذا صلح في موضعها لفظ (في) أو ما يفهم معنى الظرفية والحالية ، فهي حال وإذا صلح لفظ (الا) فهي استثناء.

والاضطرار معلوم والمراد به الإلجاء إلى أكل شيء من المذكورات ومادة (بغي) تأتي بمعنى الميل ، وله مراتب كثيرة ومن بعض مراتبه الطلب ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ألا إن الله يحب بغاة العلم» أي طالبي العلم.

وهي إما أن تكون متعدية أو لا تكون كذلك بل تتعدى بلفظ (على). ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ربما تزيد على عشرين موردا ، وجامعها الميل من الحق إلى الباطل ، وقد تستعمل في الميل إلى الحق أيضا كمن أتى بالفرائض وبغى إتيان النوافل.

فالأقسام أربعة : الميل من الحق إلى الحق ، والميل من الباطل إلى

الحق ، والميل من الحق إلى الباطل ، ومنه البغي بمعنى الظلم ، والبغاء أي الزنا ، والخروج على خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد روى الفريقان أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية». والقسم الرابع الميل من الباطل إلى الباطل ، والقسمان الأخيران مذمومان ، والغالب في استعمالات البغي إنّما هو في الميل من الحق إلى الباطل.

والعادي : المتعدي عن الحق إلى الباطل ، فيشمل كلا طرفي الإفراط والتفريط لأن كلا منهما باطل بالنسبة إلى الحد الوسط.

وقد اختلف العلماء في المراد منهما فقيل : المراد من الباغي الظلم. وقيل الاعتداء ، وقيل الحسد ، وقيل الفساد من بغى الجرح إذا فسد وقيل مجاوزة الحد عن الحق أو عن القصد. والحق ما ذكرناه في بيان اللفظين ، فيكون المراد منهما مطلق المعصية وما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ، وما ذكروه في بيان اللفظين من باب التطبيق وتفسير المعنى الكلي بالفرد ، وهذه عادة جارية بين اللغويين والمفسرين كما نبهنا عليها مرارا.

والمعنى : إنّه بعد أن أباح سبحانه وتعالى للمؤمنين أكل الطيّبات بيّن حرمة بعض الأشياء لخباثتها وفسادها وأضرارها ، أو لإزالة الشرك وخلع الأنداد وإثبات التوحيد في جميع القربات وهي أربعة : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله تعالى. ورخص سبحانه الأكل منها في حالة الاضطرار إليها بشروط خاصة مذكورة في كتب الفقه إلّا أن يكون المضطر باغيا أو عاديا بأن يكون مائلا إلى الباطل وحينئذ يحرم الأكل عليهما.

وإنّما ذكر سبحانه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بعد الاضطرار للتنبيه على أنه ليس لأحد تحديد الاضطرار وتفسيره من قبله والا كان من أحدهما ويأتي في البحث الفقهي زيادة إيضاح.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي : إنّ الله يغفر المعاصي رحيم بالعباد ، إذ أباح لهم الطيبات وحرّم عليهم الخبائث ورخص لهم ما لم يقدروا عليهما. وذكر الغفران في المقام مع انه لا معصية في مورد الاضطرار ، للاعلام بانه إذا كان لا يؤاخذ على المعاصي ففي موارد الرخصة أولى أن لا يؤاخذ ، أو

لأنّ تقدير الضرورة إنّما هو موكول إلى الناس وقليل منهم يقتصرون على قدر الضرورة فلا غناء عن غفران الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : إنّ الحصر في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) حقيقي إذا لوحظت الحرمة بالنسبة إلى خطوات الشيطان وما افتعلوه من المحرمات ، وإضافي بالنسبة إلى الحيوانات بقرينة قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧].

الثاني : إنّما أتى سبحانه وتعالى ب (الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) في المقام معرفا وفي غير المقام منكرا كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥] للإشارة إلى حرمتها بجميع المراتب والشؤون بحسب صرف الوجود في ما لا يكون شائعا ، وبحسب الوجود الساري في غير ذلك ، وبحسب نفس وجوداتها وتركيباتها مع ما هو حلال.

الثالث : إنّما ذكر سبحانه في هذه الآية المباركة (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وترك ذلك في غيرها من الآيات في سائر الموارد ، لأن عدم الإثم في ظرف الاضطرار موافق للقانون العقلي ، فتكفي الإشارة في موضع واحد ، مع أنّ في قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١١٥] وفي [سورة المائدة ، الآية : ٣] إشارة إلى ذلك.

الرابع : ذكر سبحانه في المقام : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وفي غير المقام أخّر الجار والمجرور ، ولعل الاختلاف في التعبير لأجل اختلاف

عاداتهم ، فان بعضهم يقدمون ذكر آلهتهم ثم يذبحون لها والبعض الآخر يذبحون الذبائح ثم يقربونها إلى الإلهية ، وثالث يقصدون التقرب إليهم مطلقا قبل الفعل وحينه وبعده.

الخامس : لا فرق في قوله تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بين كونه من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أو من قبيل قيام الصفة به بعد الالتفات إلى أن الخطاب إلى خصوص المؤمنين لأنهم هم الذين يعرفون الرازق ويشكرونه فهم الأصل في الرزق ولغيرهم التبعية فيه.

بحث روائي :

في الفقيه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي الذي يخرج على الإمام ، والعادي الذي يقطع الطريق لا تحل لهما الميتة».

وفي تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي الخارج على الامام والعادي اللص».

أقول : روى مثله في الدر المنثور عن ابن عباس.

وفي المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : «غير باغ على امام المسلمين ولا عاد بالمعصية طريق المحققين».

أقول : إنّ ذلك كله من باب بيان المصاديق ، وقد ذكرنا المتحصل من الأخبار الواردة في المقام في الفقه في كتاب الصيد والذباحة من كتاب [مهذب الأحكام].

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما

هي على المسلمين ، وليس لهما ان يقصرا في الصّلاة».

أقول : روي مثل ذلك في تفسير العياشي والتهذيب.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «الباغي الظالم ، والعادي الغاصب». وفي الفقيه في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عن الصادق (عليه‌السلام) : «من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت فهو كافر».

أقول : الوجه في كونه كافرا مخالفة الله تعالى حيث انه تعالى أمر بالأكل حينئذ ولم يفعل ، فالكفر كفر عملي لا اعتقادي كما تقدم أقسامه في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦].

بحث فقهي :

تدل الآية الشريفة على جملة من الأحكام الشرعية :

منها : أنّ إطلاق قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) يشمل جميع التقلبات والتصرفات في الميتة أكلا وانتفاعا وغيرهما. وتدل عليه الأخبار الكثيرة الشارحة للآية المباركة ففي الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» وفي حديث عبد الله بن حكيم عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تنتفعون بإهاب ولا عصب» وعن الصادق (عليه‌السلام) : «لا ينتفع بشيء منها ولو بشسع منها» هذا بالنسبة إلى الانتفاعات التي يشترط فيها الطهارة ، وأما في غيرها مثل التسميد والزرع ونحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة فلا دليل على الحرمة.

ومنها : أنّ إطلاق قوله تعالى : (الْمَيْتَةَ) يشمل جميع أنواع الميتة سواء كانت برية أو بحرية ميتة ما له نفس سائل ـ أي الدم الخارج عن العروق حين الذبح ـ وميتة ما ليس له نفس سائل وان كانت الأخيرة غير محكومة بالنجاسة.

كما تشمل القطعة المبانة من الحيوان الحي ، وفي ذلك روايات كثيرة من الفريقين ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما قطع من البهيمة

وهي حية يكون ميتة».

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يشمل حرمة جميع أجزاء الميتة. وعن بعض علماء العامة جواز الانتفاع بجلد الميتة ، بل طهارته بالدبغ واستدل بالحديث المروي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين مر على شاة ميمونة فقال : «هلا أخذتم إهابها» ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» وقد ناقشنا ذلك في الفقه مفصلا ، وكذا قول علي (عليه‌السلام) في البحر : «الحل ميتته» محمول على الطهارة لا حلية الأكل.

ومنها : إطلاق قوله تعالى : (وَالدَّمَ) يشمل القليل والكثير وحرمة جميع التقلبات والتصرفات والانتفاعات منه ؛ كما يشمل جميع أنواع الدماء.

ومنها : المراد من قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ان يكون الذبح لغيره تعالى سواء ذكر غير اسم الله تعالى كما يفعله الوثنيون والمشركون ، أو ذبح للأصنام والأوثان من دون ذكر اسم عليه أبدا.

والمناط في حلية الذبيحة ذكر اسم الله عليها ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١] فالإهلال بالذبيحة لغير الله شيء كما ان الإهلال بها لله تعالى شيء آخر ، ففي القسم الأخير لو أهل بالذبيحة لله تعالى وتصدق بلحمها على فقراء مشهد أو مزار رغب الشارع في زيارته فهو حلال لا إشكال فيه.

فما عن بعض انه لا يحل تمسكا بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١] أو أنه إهلال لغير الله تعالى خلط بين موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر. فان الذبح كان لله تعالى ومصرفه كان للمنذور له أو الفقراء ، وبعبارة أخرى : إنّ ذلك كان على نحو الطريقية إلى الله تعالى والتقرب إليه عزوجل لا الموضوعية للمنذور له أو الفقراء.

ومنها : يستفاد من قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أنّ الاضطرار يرفع الحكم التكليفي ، لأن التكليف محدود بالقدرة ولا تكليف في ما لا قدرة للمكلف عليه ، والاضطرار إلى الفعل الحرام أو ترك

الواجب ينافي القدرة ، لأن المضطر لا يقدر على الترك في الأول كما لا يقدر على الفعل في الثاني.

والمناط في القدرة : القدرة العرفية التي يعتمد عليها النّاس في أمور معاشهم وجميع أغراضهم نعم قد يتبدل الحكم في صورة الاضطرار إلى حكم آخر ولكنه يحتاج إلى دليل بالخصوص.

والاضطرار الحاصل للإنسان المبيح لتناول المحرّم على قسمين :

الأول : ما لا ينتهي إلى اختياره ، الثاني : ما ينتهي إلى اختياره ، ولا ريب في انه لا تكليف ولا عقاب في الأول. وأما الثاني فلا ريب في أنّ العقل يحكم باختيار أقل القبيحين ، لأن الأمر يدور بين إهلاك النفس وأكل الميتة مثلا ، ولا إشكال في كون إهلاك النفس القبح من أكل الميتة ، وأما الخطاب فهو باق على ملاكه ، لبقاء العقاب لفرض الانتهاء إلى الإختيار ، فمن ذهب إلى سفك دم معصوم أو هتك عرض محترم أو غصب مال كذلك فاضطر حينئذ إلى أكل الحرام يعاقب على الأكل ، فيكون حكم القرآن الكريم موافقا للعقل السليم.

ومن ذلك يعلم أنّ الاضطرار المبيح لأكل المحرمات ـ كالميتة والدم ونحوهما ـ محدود في الشريعة المقدسة بحد خوف التلف على النفس في ترك الأكل ، ثم الأكل بقدر سد الرمق من دون تعد عنه. وفي المقام فروع كثيرة أخرى تعرضنا لها في كتب الفقه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة التي وردت في ذم قوم تركوا سبيل الحق واتبعوا خطوات الشيطان لأن تبديل الحق بالباطل من أعظم خطواته ولذا

كان التوعيد عليه عظيما ، كما أنه بين سبحانه وتعالى فيها أنّ الاختلاف في الحق هو الشقاق البعيد.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ). الكتم والكتمان هو ستر الشيء وإخفاؤه ، والمراد بالكتاب مطلق معارفه الشريفة وأحكامه المقدسة المنزلة على رسله.

والمعنى : إنّ الذين يخفون ما أنزل الله من الكتاب على رسله. والكتمان كما يحصل بالإخفاء والحذف يحصل أيضا بالتأويل والتحريف والوضع في غير مواضعه وقد تقدم في آية ١٥٩ من هذه السورة فراجع.

قوله تعالى : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً). المراد من الاشتراء هنا مطلق التبديل ، والثمن القليل هو الدنيا وحطامها فانها قليلة بالنسبة إلى الحق وكتمانهم لما أنزل الله تعالى وما فات عنهم من السعادة الدائمة فانها لا تعادل ما يأخذونه عوضا يكون التمتع به قليلا لانقطاع مدته.

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). أي : أنّ أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله ـ المشترين به ـ لا يفعلون ذلك إلّا بما يؤول بهم إلى النّار بسبب أكلهم للثمن الخسيس ، فهو تمثيل لمآلهم ويمكن أن يكون بيانا لحالهم بأنّ يكون المأكول نارا فعلا في عالم الدنيا في بطن الآكل وان ظن انه طعام ، لأنّ تبدل حقائق عالم بصورة حقائق عالم آخر كثير في صنع الله تعالى ، وإن عميت الأبصار من الرؤية والبصائر عن الإدراك لكن الحق ظاهر بالبرهان. والآية تدل على تجسم الأعمال.

وإنما قيد سبحانه الأكل بالبطن مع انه لا يكون إلّا فيه إما للإشارة إلى الاستمرار والاستقرار وعدم الزوال ، أو للإشارة إلى الامتلاء أي : امتلاء بطونهم نارا.

قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ). كناية عن عدم اعتناء الله تعالى بهم بالإعراض عنهم والغضب عليهم في يوم يكون الاحتياج إليه تعالى شديدا.

قوله تعالى : (وَلا يُزَكِّيهِمْ). أي : لا يقبل منهم أعمالهم مع ما هم عليه من الكفر والفعل الشنيع ولا يطهرهم من دنس الخطايا أو يزكيهم بالثناء عليهم كما يفعل بالنسبة إلى أهل الجنّة.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). أي : عذاب شديد الألم.

وحكم هذه الآية عام يشمل كل من عرف الحق وكتمه قولا أو عملا فلا اختصاص له بأهل الكتاب ، بل يصدق على المسلمين الذي عرفوا الحق فكتموه مع القدرة على الإظهار ، أو لم يعملوا به خارجا.

ثم إنّه لا يخفى أنّ المعارف الإلهية والأحكام المقدسة لها وجود واقعي حقيقي يتم بالجعل الإلهي وإتمام الحجة ووجود ظاهري إثباتي لا يتم إلّا بالإظهار وإعلام النّاس. والأول في مرحلة الحدوث والثاني في البقاء ، والمهم هو الأخير إذ لا أثر في حدوث ما لا بقاء له في ما يطلب منه البقاء والاستمرار. وجاعل القانون مطلقا ـ إلهيا كان أو وضعيا ـ انما يهتم بإبقائه أكثر من اهتمامه بأصل الإيجاد والحدوث. والكتمان إنما يتحقق بالنسبة إلى الثاني ، وبه تبطل حكمة تشريع الأول ، ولذلك كان وزر الكتمان عظيما يعرف من عظم ما أوعد عليه الله تعالى بتعدد نقمه عليهم من وعيده بالنار وعدم التكلم معهم وعدم التزكية ، والعذاب الأليم.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٧] ولعل وجه التأكيد في الآية الأولى تعدد موجب العقاب فيها من الكتمان والاشتراء بخلاف الآية الثانية.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى). هذا كالنتيجة للآيات السابقة : أي أولئك الذين اشتروا بالكتمان ثمنا قليلا انهم في عملهم هذا اشتروا الضلالة بالهدى.

قوله تعالى : (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ). أي اشتروا العذاب بالمغفرة لمكان

اشترائهم الضلالة بالهدى ، فيكون ترتب هذا على سابقه من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

قوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ). (ما) للتعجب والمراد أنّهم فعلوا فعلا يتعجب كل عاقل منهم وانهم كيف يدعون العقل مع أن فعلهم يدل على سفاهتهم وغفلتهم ، وانه لو وقع من أحد مثل هذا الاشتراء في أمور الدنيا لكان دليلا على السفاهة ، فهم أدخلوا أنفسهم في النّار باختيارهم وسلطوا عليهم غضب الجبار فكان صبرهم على العذاب شديدا.

ويصح أن تكون للتعجب من إحاطة النّار بهم كمية وكيفية وسائر الجهات أي : ان فعلهم الذي أوجب دخولهم في النار وأنّ صبرهم على العذاب ما يثير العجب.

ويجوز التعجب على الله تعالى إذا كان بداعي عظمة العقاب وشدته وإلّا فأنّ التعجب الحقيقي لا يجوز بالنسبة إليه عزوجل لأنّه يستلزم الجهل وهو محال عليه تعالى ، ومثل هذا الأسلوب كثير في المحاورات.

كما يصح أن تكون (ما) للاستفهام بداعي شدة العقاب ، أو التوبيخ ، أي أي شيء أصبرهم؟!.

ويحتمل أن يكون المراد من النّار نار جهلهم المركب التي تجعلهم عرضة للفساد والشقاء ، ويؤول أمرهم إلى النار في الآخرة.

والآية تدل على بطلان كل عمل منهم وغضب الله تعالى وسخطه عليهم مع أن لهم اعمالا حسنة لها آثار عظيمة ينتفع منها الناس وليس من سنته عزوجل اضاعة الأعمال الحسنة قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٣٠].

ولكن يمكن أن يقال : إنّهم من حيث كفرهم وكتمانهم للحق يدخلون النار لكنهم ينتفعون بأعمالهم الحسنة سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في الحشر والنشر أو في تخفيف العذاب بمقتضى قانون ترتب الجزاء على العمل الذي أسسه القرآن الكريم والمؤيد بحكم العقل وتدل عليه أخبار

كثيرة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ). مادة (نزل) تدل على الهبوط من العلو إلى السفل ، ولها استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة تقرب من ثلثمائة مورد وتشمل التشريعيات والتكوينيات قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٤] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٨] وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٦] وتستعمل في الخير والشر ، والأول كثير ، ومن الثاني قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) [سورة البقرة ، الآية : ٥٩] وقال تعالى : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٣٤] فيصح استعمال الإنزال بالنسبة إلى جميع ما يصدر منه عزوجل بلا فرق بين الجواهر والأعراض والشرعيات وغيرها ، لأن الكل صدر عن مبدإ لا نهاية لعلوه ولرفعته سواء كان بالتسبيب أو بدونه فان أزمة الأمور بيده وما سواه يستمد من مدده.

والفرق بين الإنزال والتنزيل أنّ الثاني لوحظ فيه التفرق في الجملة بخلاف الأول قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٣] وقال تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٥] وقال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠] فجميع ما سواه إنزال منه عزوجل كما أن الجميع تنزيل منه وأكمله القرآن العظيم.

والكتاب من كتب مادته تأتي بمعنى الجمع والضم ، سواء كان في الحروف وضمها في الخط ، أو اللفظ ، أو الذهن ، والمتعارف في الاستعمال هو الأول ، ومن لوازم الضم الثبوت كما ان من لوازمه الحكم ، وتستعمل هذه المادة فيهما قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٣] وقال تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ

أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٧٥] أي في حكم الله ، والأصل في ذلك ان ما يراد تثبيته يجمع في الذهن ابتداء ثم في الإرادة ثانيا ثم يحكم به ثالثا ويكتب رابعا.

ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة أكثر من مأتين وخمسين موردا.

والمراد من الكتاب في المقام مطلق ما كتبه الله تعالى على عباده ، والقرآن مهيمن على ذلك كله ، فلا فرق بين أن يكون المراد من الكتاب هو القرآن أو جميع الكتب السماوية غير المنسوخة إذا الجميع واحد في الحقيقة وان اختلف في الصور.

وتقدم معنى الحق في آيتي ١٤٤ و ١٤٧ من هذه السورة.

وقد أسس الفلاسفة قاعدة كلية أحكموها ببراهين عقلية وفرعوا عليها أمورا ، وهي : «ان من كان حقا بذاته ومن ذاته يكون حقا من جميع جهاته ، في صفاته وأفعاله ، وجميع شؤونه» فإذا كان المبدأ القيوم حقا في الأزل الذي لا يتصور له أول كذلك يكون في ما لم يزل الذي ليس له آخر شأنا وصفة وفعلا ، وفي كل ما يتعلق به تعالى من الجهات التكوينية والتشريعية.

ومن فروع هذه القاعدة التلازم بين المبدأ والمعاد في كل ما يتعلق بشؤون العباد سيأتي في الموضع المناسب شرحها مفصلا.

وللمفسرين في اعراب محل (ذلك) في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) أقوال :

منها : الرفع على أنّه مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك الشأن.

ومنها : أنّه خبر لمبتدأ محذوف أي الشأن ذلك.

ومنها : النصب بفعل مقدر رأي : جعلنا ذلك ، وكل واحد منها صحيح بعد عدم ثبوت الترجيح في البين.

والمعنى : إنّ ذلك الذي تقرر في شأنهم إنّما هو بسبب أنّ الكتاب نزل بالحق وأنّهم على الباطل ، ولا يمكن للباطل مغالبة الحق الذي هو بيّن دلائله وواضح معالمه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). الاختلاف ضد الاتفاق الذي لا ينفك عنه كل مجتمع المنتهي إلى الاختلاف في الأفكار ، وهو ينتهي إلى الاختلاف في الفهم والاستعدادات ، وهو طبيعي بالنسبة إلى الإنسان ، ولذلك وجب الرجوع إلى الكامل في تدبير شؤون المجتمع وادارته ، وإلّا انتهى الأمر إلى التنابذ والاختلاف واختلال النظام ، وقد جعلوا ذلك من الأدلة العقلية على وجوب وجود النبي والإمام بين النّاس.

والشقاق عبارة أخرى عن الاختلاف كأن كل واحد من المختلفين يصير في شق ، وفي الدعاء المأثور : «اللهم إنّي أعوذ بك من الشقاق والنفاق» والمراد به هنا الاختلاف البعيد أي : آخر مراتب الشقاق الذي لا يمكن فيه الايتلاف بوجه من الوجوه.

ومن ذلك يعلم أن الاختلاف في الكتاب وأمور الدين موجب للابتعاد عن الصراط المستقيم الذي يدعوا اليه الكتاب ، والسلك في سبل متعددة ، والابتعاد عن الحق قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣].

بحث دلالي :

تدل الآيات الكريمة على أمور :

الأول : أنّ قوله تعالى : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) يدل على تجسم الأعمال ، وسنخية العقاب مع العمل ، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال والجاه والاستفادة منه في إشباع بطونهم وكان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل الله تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم ، نظير ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ

وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٥] وآية الربا وسيأتي البحث في تجسم الأعمال.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ان الله تعالى إنما أنزل الكتاب والمعارف الحقة والأحكام التشريعية للألفة والاتحاد ونبذ الاختلاف ، وما كان خلاف ذلك فهو الباطل الذي لا يجلب منه إلّا الفساد والتنازع ، كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة وآيات أخرى.

الثالث : يصح أن يستدل بالآية الشريفة على أنّ القرآن الكريم ناسخ لجميع الكتب السماوية إلّا إذا قرر القرآن العظيم شيئا منها. والنسخ بهذا المعنى موافق لقانون العقل القاضي بالسير التكاملي في الإنسان ، وهذا أمر طبيعي حتى بالنسبة إلى القوانين الوضعية.

الرابع : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) اضطراب قلوبهم في الدنيا بما ارتكبوه من كتمان الحق بعد ما عرفوه فكانوا مخلدين في عذاب الضمير في هذه الدنيا وفي البرزخ.

الخامس : لا منافاة بين هذه الآية المباركة أي : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والآية التي تدل على سؤال الناس أجمعين يوم القيامة قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٢] لإمكان اختلاف الجهة إما ان يراد بالمنفي كلام التلطف والعناية وبالمثبت السؤال عن جرائم ما فعلوه ، أو للتوبيخ والإهانة ، أو يراد اختلاف المواقف والمقامات ، لأن ليوم القيامة مواقف كثيرة.

بحث روائي :

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال (عليه‌السلام) : «ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيّرهم إلى النار» ورواه العياشي في التفسير.

وفي تفسير القمي في تفسير الآية المباركة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) : «يعني ما أجرأهم على النار».

وروي عن الصادق (عليه‌السلام) : «ما أعملهم بأعمال أهل النار».

أقول : هذه الروايات قريبة المعاني ومن باب ذكر السبب وارادة المسبب ، والاجتراء على السبب الذي يوجب الدخول في النار اجتراء على النار لا محالة.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

الآية على اختصارها تشتمل على أصول المعارف الإلهية ، وهي اجمع آية في القرآن العظيم للكمالات الإنسانية ، وفيها يدعو الله عزوجل الإنسان إلى مكارم الأخلاق التي بها يفضل على الاملاك ، فقد ذكر سبحانه وتعالى الخصال الخمس عشرة الجامعة لأصول الإيمان والاعتقاد وهي الإيمان بالمبدأ والمعاد ، والملائكة رسل الوحي ومنزلي الكتب ثم الإيمان بالأنبياء والمرسلين ، وأصول الأعمال الصالحة وهي إيتاء المال وإقام الصلاة ، وأخيرا ذكر أصول مكارم الأخلاق وهي الوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وبذلك يرشد الإنسان إلى الصراط المستقيم ، ويعتبر العامل بها من الصديقين والمتقين فجدير لكل فرد أن يستنير بهدي الكتاب المبين وقول الحكيم العليم ، وحقيق لمن عمل بهذه الآية أن يكون قد استكمل بها إيمانه كما قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

التفسير

قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). الآية الشريفة تشتمل على مقاطع ثلاثة في كل مقطع مجموعة من الخصال تعتبر أصول المعارف الإلهية وأساس الكمالات الإنسانية.

الأول : في الاعتقاديات من المبدأ والمعاد.

الثاني : في تهذيب النفس بأعمال الجوارح.

الثالث : الأخلاق والمعاشرة بين الناس.

مادة (ب ر ر) تدل على الاتساع والشمول في أي هيئة استعملت ويأتي البر (بفتح الباء) في مقابل البحر لاتساعه ، وكذا لفظ (بر) بالفتح أيضا إذا أطلق على الله عزوجل قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [سورة الطور ، الآية : ٢٨] أي واسع خيراته وإفاضاته ، وكذلك إذا اطلق على الإنسان قال تعالى حكاية عن عيسى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) [سورة مريم ، الآية : ٣٢] وقال عزوجل كذلك : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) [سورة مريم ، الآية : ١٤] فانه يكون بمعنى كثرة الخير ومنه (البر) بالضم وهي الحنطة الغذاء المتسع لنوع الإنسان ولكنه لم يرد في القرآن الكريم.

ويجمع على «بررة» في القرآن الكريم ، قال تعالى : (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ) [سورة عبس ، الآية : ١٦] وهو يختص بالملائكة والوجه في ذلك أنّ استعمال لفظ البر (الخيرات) أولى من لفظ البار لأنه أبلغ كقول زيد عدل أبلغ من عادل. والبار يجمع على الأبرار قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [سورة الإنفطار ، الآية : ١٣].

ولهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم كلها مقرونة بالمدح والإختصاص بالمقامات العالية قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٣] وقال تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٨].

والمراد به في المقام هو كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من الخير والفعل المرضي.

ويأتي البر (بالكسر) بمعنى فعل الخير إن أضيف إلى الناس ، وإن أضيف إليه تعالى يكون بمعنى الاتساع في الثواب والإحسان.

وقبل (بكسر القاف وفتح الباء) هو الجهة والناحية.

والمشرق والمغرب هما جهتا قبلة أهل الكتاب. ويمكن أن يكون على

سبيل المثال لكل جهة وعمل يعتقد كونه برأ ، كما يحتمل أن يكون كناية عن طرفي الإفراط والتفريط.

ويجوز رفع (البر) على أن يكون اسم ليس ، ويكون خبره جملة (ان تولوا). كما يجوز نصبه على ان يكون خبر ليس وجملة (ان تولوا) الاسم وهذان الوجهان جائزان في كل مورد يقع بعد (ليس) معرفتان فيجعل أيهما الاسم والخبر إلّا إذا اقترن أحدهما بالباء فيتمحض في الرفع ، قال تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٩]. ولا يفرق المعنى على الوجهين.

كما يصح ان يكون بمعناه المصدري مبالغة ، او يكون بمعنى الفاعل أي البار ، أو بالتقدير أي : ليس البر بر من آمن بالله فحذف المضاف.

والكل صحيح ولا ترجيح في البين بعد صحة الاستعمالات وبناء المحاورات عليها.

والمعنى : ليس البر بتولي الوجه قبل المشرق والمغرب وكل ما يعتقد كونه برا مما يوجب الدخول في الجنّة بزعمهم ، فنفى عزوجل البر عن كل ما يعتقده الإنسان برا إلّا ما تنطبق عليه الآية الشريفة.

وظاهر الخطاب وإن كان موجها إلى أهل الكتاب بدعوى ظهور لفظ (المشرق والمغرب) اللذين هما قبلة اليهود والنصارى ، فيكون توبيخا لهم في افتعالاتهم وردعا لذلك ولكنه من باب المثال لكل من كان خارجا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ). قرئ (لكن) بالتخفيف والتشديد وهذا هو القسم الأول الذي يتعلق بالاعتقاد والإيمان بالمبدأ والمعاد ، أي : إنّ البر يجب الاهتمام به هو الإيمان بالله الواحد الأحد حق الإيمان ، وابتدأ به لأنّه أساس كل بر وأصل كل خير ولا يكون كذلك إلّا إذا كان متمكنا في النفس بحيث يظهر أثره عليها بالتسليم والإذعان والخشوع والاطمينان فلا يهدم ايمانه بالشرك واتباع الهوى ومخالفة أحكام الله ، وبهذا

الإيمان يكون الفرد كاملا ويرتفع من حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية.

قوله تعالى : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). أي يوم القيامة والاعتقاد به يعني : الاعتقاد بعالم آخر يحيا فيه الناس للحساب والجزاء والايمان به يوجب سعي المؤمن لتحصيل ما ينجي به نفسه ويصرفها عن الحياة الفانية ولا يجعل أكبر همه الدنيا وحق الإيمان باليوم الآخر إنما هو في ما إذا ظهر أثره على الجوارح والجوانح.

وإنّما أخر سبحانه الإيمان باليوم الاخر عن الإيمان بالله لأنه لا يتحقق حقيقة الإيمان بالله إلّا بالإيمان باليوم الآخر لتلازم المبدأ والمعاد ورجوع كل منهما إلى الآخر.

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةِ). تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٠] اشتقاق الكلمة ؛ والإيمان بهم لأنهم رسل الله تعالى إلى الأنبياء ، والإيمان بوجودهم إيمان بالوحي وسائر ما أنزل على الأنبياء والمرسلين ، والإيمان بهم إيمان بالغيب ، لأن الملائكة من عالم الغيب وإنكارهم إنكار الوحي والنبوة وبالأخرة إنكار لليوم الآخر ، وقد تقدم في قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٧] بعض ما يتعلق بالمقام ، ومن ذلك يعرف وجه تقديم الملائكة على الكتب.

قوله تعالى : (وَالْكِتابِ). المراد بالكتاب جنس كتب الله تعالى ، لعدم الاختلاف فيها أبدا بالنسبة إلى المعارف الإلهية والمبدأ والمعاد ، ولو كان اختلاف فهو في بعض الأحكام وهذا طبيعي بالنسبة إلى السير التكاملي الحاصل للإنسان ، أو القرآن الكريم فإنّ الإيمان به إيمان بجميع الكتب السماوية لذكرها فيه ، ولأنه أعظمها وأتمها وأجمعها ، وكتاب الله في الحقيقة هو قانون إلهي أنزل لتربية الإنسان وتكميله بجميع الكمالات الدنيوية والأخروية المشتمل على القواعد المتقنة والأحكام والعلوم التي ينتفع بها الإنسان في جميع نشأته.

ويصح أن يراد بالكتاب في المقام الكتب الأربعة التي أثبتها أهل

العرفان من التدويني ، والتكويني ، والآفاقي ، والأنفسي التي يأتي شرحها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يكون المراد بالكتاب جنس ما فرضه الله تعالى على عباده ولو على ألسنة أنبيائه.

والإيمان بالكتاب هو إيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون وهو يستدعي الامتثال بما جاء فيه.

وإنّما أتي عزوجل هذا اللفظ مفردا للإشارة إلى عدم الفرق بين جميع الكتب الإلهية ما لم يثبت النسخ بالقرآن فإنّ القانون واحد نزل من واحد لغرض واحد كما عرفت.

قوله تعالى : (وَالنَّبِيِّينَ). النبي هو معلم البشر من قبل الله تعالى يبين القانون الإلهي ، وهو يدعو إلى الكتاب والكتاب يدعو إلى النبي فهما متحدان في الواقع ومختلفان بالاعتبار بل يصح أن يقال : إنّ النبي عقل من الخارج والقوة المدركة للكتاب المميز بين الحق والباطل أو بين الخير والشر عقل من الداخل ، وكل منهما يدعو إلى الآخر فلا أثر لقول الأنبياء مع عدم العقل ، كما لا اثر للعقل مع عدم الاعتقاد بالأنبياء ، هذا ما أثبته أكابر الفلاسفة والمتكلمين في مباحث النبوة وتدل عليه نصوص كثيرة ستأتي في موردها.

والإيمان بالأنبياء هو الاهتداء بهديهم والاستنان بسنتهم وامتثال أوامرهم والانتهاء عما نهوا عنه.

وإنّما أتى سبحانه «النبيين» بلفظ الجمع للدلالة على أن المطلوب الإيمان بجميع الأنبياء لا سيما خاتمهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّ الإيمان به إيمان بجميع من سبقه من الأنبياء لأنّه المخبر عنهم والحاكي قصصهم والناقل إلينا معاجزهم ، ولو لا ذلك ما وجدنا إلى معرفتهم سبيلا وبذلك تنتهي أصول الإعتقاد.

قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ). من هنا يبتدئ القسم الثاني الذي يتعلق بتهذيب النفس بالأعمال الصالحة.

الإيتاء : يأتي بمعنى الإعطاء ، والمال من (م ى ل) بمعنى التوجه والعطف ، وسمي المال مالا لأنه يميل من صاحبه إلى غيره ولا يبقى عنده أبدا. أو لميل الطباع اليه ، ويسمى عرضا أيضا. وقد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة وسياق الجميع ليس سياق المدح قال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سورة سبأ ، الآية : ٣٧].

والضمير في «حبه» يرجع إلى الله تعالى المدلول عليه سياق الآية الشريفة. أي : على حب الله خالصا لوجهه الكريم. ويصح أن يرجع إلى نفس المال يعني : انه على حبه للمال ينفقه.

وعلى الأول تستفاد الإضافة إلى الله عزوجل بالمطابقة ، وعلى الثاني بالالتزام لأن إنفاق المحبوب لا بد أن يكون لغرض أعلى وأجل وهو الله تعالى ، كما في قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [سورة الدهر ، الآية : ٨].

والمعنى : أنّ البر هو إعطاء المال مع حبه له وبذله على الأصناف الآتية طلبا لمرضاة الله وخالصا لوجهه الكريم.

قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى). أي : قرابة المعطي كما هو ظاهر اللفظ ، وحسن الإنفاق عليهم مما تحكم به فطرة كل ذي شعور لما يمت إليهم بصلة القرابة والنسب ويشدهم الرحم فيألم لهم أشد مما يألم لغيرهم إذا نزل فيهم حاجة أو فاقة ولذا قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا صدقة وذو رحم كاشح» لأنّ الصدقة على غير ذوي القربى وهم معدمون محتاجون بعيدة عن الفطرة ويحكم بمرجوحيتها العقل والعقلاء.

ويحتمل أن يراد به قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويكون الإنفاق عليهم أبعد من الدواعي النفسانية وأقرب إلى مرضاة الله تعالى ، فيكون المراد بالمال المال الذي جعله الله تعالى لهم في سورة الأنفال.

قوله تعالى : (وَالْيَتامى). اليتيم في الإنسان كل صبي انقطع عن أبيه ، وفي الحيوان ما انقطع عن أمه ، كما تستعمل المادة في كل شيء

ينحصر بالفرد في نوعه ، يقال : درة يتيمة. والجامع هو الانقطاع. وتستعمل في القرآن الكريم كثيرا مفردا وجمعا قال تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [سورة الضحى ، الآية : ٩] وقال تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٧].

والإنفاق على اليتيم مع انقطاعه عن من يكفله مما يحكم بحسنه الفطرة ، ويحبذه العقل والعقلاء.

قوله تعالى : (وَالْمَساكِينَ). المسكين هو الذي أسكنه الفقر والحاجة وألزمه الحياء والعفة عن السؤال فيكون أشد

فقرا من مطلق الفقير ، ولكنه أعم استعمالا منه ، إذ يستعمل في غير الفقراء أيضا قال الشاعر :

مساكين أهل الحب حتى قبورهم

علاها تراب الذل بين المقابر

وفي دعاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» والمراد به الخضوع وذل العبودية لله تعالى الذي هو أعلى درجات الغنى. وفي مساعدتهم تجيب لهم وانقاذ لنفوسهم المنكرة.

قوله تعالى : (وَابْنَ السَّبِيلِ). وهو المسافر البعيد المنقطع عن أهله وقرابته حتّى كان السبيل ربّاه وبمنزلة أبيه ، وفي التعبير من اللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَالسَّائِلِينَ). وهم الذين اضطرتهم الحاجة إلى السؤال والتكفف.

قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ). أي : عتقهم أما بالشراء أو بإعانتهم ليؤدوا مال الكتابة فيعتقون بمقتضى القرار الذي وقع بينهم وبين مواليهم. وتشمل المديونين من الناس الذين عليهم الدين ولم يتمكنوا من أدائه المعبر عنهم ب (الغارمين) كما في آية أخرى وهي : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٦٠] وذلك لأنّ رقبته مرهونة عند الدائن لأجل

الدين.

قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ). إقامة الصّلاة هي أداؤها كاملة بحدودها والمواظبة عليها والالتزام بإتيانها في أوقاتها. وهي من أعظم مظاهر العبودية وأقوى الروابط الروحانية بين المخلوق وخالقه إذا أقيمت بشرائطها ، وهي أول دعوة الأنبياء وآخر وصية الأوصياء ولها الآثار العظيمة في تزكية النفوس وتطهيرها من الرذائل والفحشاء ، وبسببها يكون الشخص خاضعا خاشعا ، وبها يصل الإنسان إلى جنة اللقاء ولذا اعتبرها الله تعالى من البر الذي يوجب الوصول إلى الكمال. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٣] بعض ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (وَآتَى الزَّكاةَ). أي أعطى الزكاة المفروضة على وجهها المطلوب شرعا. والزكاة من أقوى الروابط بين أفراد المجتمع وهي ركن من أركان الإسلام وبها يستكمل المؤمن ايمانه ، وهي قرينة الصلاة في القرآن الكريم في عدة مواضع قال تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥] وقال تعالى حكاية عن عيسى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [سورة مريم ، الآية : ٣١] وقال تعالى : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [سورة مريم ، الآية : ٥٥] وقال تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [سورة التوبة ، الآية : ٧١].

فان في الصلاة تهذيب الروح وفي الزكاة توثيق الصلات والروابط والإنسان الكامل هو الجامع بينهما ، ولو عمل المسلمون بهاتين الخصلتين لنالوا ذرى المجد وفاقوا الجميع.

قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). هذا هو القسم الثالث من الخصال التي هي البر في الأخلاق وتهذيب المجتمع وهي الوفاء بالعهد ، والصبر في الأمور. والوفاء بالعهد مما يجب بفطرة العقول ، وهو يشمل العهود الواقعة بين النّاس بعضهم مع بعض ، والعهود الإلهية مع الخلق التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية والمستقلات العقلية كقبح الظلم وحسن العدل.

وحفظ العهود ـ ومنها العقود ـ حفظ كيان المجتمع وحفظ الوحدة بين الأفراد وبه تتم الثقة بينهم.

قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ). البأساء أنحاء الفقر والشدة. والضراء أنحاء العلل والأمراض وموت الأحبة. والبأس الحرب ومنه قول علي (عليه‌السلام) : «كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه» و (حين) أي : حين القتال ومقاتلة العدو. والجامع بين البؤس والبأس والبأساء هو شدة الكروب بالمراتب المختلفة.

والصبر محمود في جميع الأمور وفي جميع الأحوال ، وإنما خص هذه المواطن لما فيها من الفضيلة الكبرى ، فان بالصبر في شدة الفقر وتسليم الأمر اليه تعالى يهون على الصابر شدة وطأته ويسلمه عن المخاطر ، وكذا في الصبر في الضراء ، فان بالصبر عليها يحصل الشكر والثبات والسلامة في المآل ، كما أن الصبر في الحرب ومقارعة العدو نصرة الحق والسلامة من الضلال والارتداد. وبالصبر في هذه المواطن يوجب توطين النفس في غيرها فقد أمكن الصبر من نفسه فيكون على غيرها أصبر.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا). أي : إنّ الذين جمعت فيهم هذه الخصال هم الذين اتصفوا بالصدق في دعواهم الإيمان فاتصفوا بصدق النية والأقوال والأعمال.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). الذين اتقوا بأنفسهم عن حضيض الحيوانية ومتابعة الشيطان وأوصلوها إلى أوج مقام الإنسانية ومتابعة الرحمن فاتخذوا لأنفسهم وقاية عن سخطه وخذلانه في الدنيا والآخرة.

وترتب الحكمين على جميع ما سبق من ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآية المباركة أمور :

الأول : تقدم أنّ في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) فيه من روعة الأسلوب وبلاغته ما لا يخفى ، فانه يخرج الكلام من الفرض والتقدير إلى الوقوع ، فكأن البر هو الإيمان وما ذكرت في الآية من الصفات والأعمال باعتبار تمثلها في الشخص وهذا أبلغ تأثيرا في النفس من اسناد المعنى إلى المعنى ، والغرض من ذلك هو الإشارة إلى تحققها والإحتجاج بمن تلبس بها ، لا مجرد المقابلة بين البر وتولية الوجه ومن لم يكن متلبسا به.

الثاني : يستفاد من الآية الشريفة تحقق من عمل بها لكونها في مقام الإحتجاج ولا ريب في أن أكمل فرد وأجلى مصداق من اجتمعت فيه هذه الخصال الأنبياء خصوصا سيدهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن يتلو تلوه الذي نزله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) منزلة نفسه فقال «علي مني بمنزلة هارون من موسى» على ما رواه الفريقان ، مع أنا قد اثبتنا في محله انه لا يمكن ان تخلو الأرض من حجة لله قائمة.

الثالث : أنّ الشرط في قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) إشارة إلى شمول العهد للعهود المتقومة بالإثنين أو العهد القائم بشخص واحد. وفيه من التعريض إلى من يخالف العهد وخروجه عن مقتضى الفطرة ما لا يخفى.

الرابع : أنّ النفي والإثبات دليل الحصر كما هو الثابت في العلوم الأدبية ، والآية الكريمة تنفي البر مطلقا بنفي أبرز جهاته وأظهر آثاره وهو تولّي الوجه قبل المشرق والمغرب وتثبته في المذكورات فلا بر مطلقا إلّا في ما تضمنته وهي كمالات فردية ، واجتماعية ، دنيوية ، واخروية وهي الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه وغيرها من السبل التي أمرنا بالابتعاد عنها.

الخامس : إنّما قدم سبحانه وتعالى الإيمان بالله لأنه رأس كل

بر ، ولعدم الفائدة في الجميع إلّا به ، ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر للتلازم بين المبدإ والمعاد. ثم ذكر الملائكة ، لأنّهم رسل الوحي ووسائل الفيض الربوبي ثم ذكر الكتب ، لأنّها الوحي المبين المنزل من الله تعالى بواسطة الملائكة على الأنبياء والمرسلين ، ثم ذكر إيتاء المال ، لأن الإيمان لا بد وان يظهر آثاره على العمل ومن أشد الأعمال هو إعطاء المال وبذله لكثرة علاقة النفوس به ، ولذا قال علي (عليه‌السلام) : «ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الحرب» ثم ذكر إقام الصّلاة لأنها أول الفرائض وأرفعها شأنا في تهذيب النفس ثم ذكر إيتاء الزكاة لأن بها يستكمل الإنسان إيمانه فإن الصّلاة يلاحظ فيها الجانب الروحي ، وفي الزكاة يلاحظ الجانب العلمي المادي. ثم ذكر الوفاء بالعهد ، لتقوم الجانب الأخلاقي في جميع التكاليف الإلهية والعهود المراعاة بين الخلق بالوفاء به ثم ذكر الصبر أخيرا لأن في الإخلال بالعهد ونبذه إيماء إلى إعلان الحرب وهو يتقوم بالصبر ، أو لأن جميع الأمور المذكورة إنما تتقوم وتتحقق بالصبر ، وعدم الظفر بالنتيجة إلّا به ولذا أخره عن الجميع كتأخر الغاية عن ذيها.

السادس : أنّ الآية الشريفة مشتملة على أصول هي أصول نظام الإنسانية الفردية والاجتماعية وهي محور جميع الشرايع الإلهية ، وأساس الفلسفة العملية ، وبها يرتبط الإنسان بعالمي الغيب والشهادة وهي :

الأصل الأول : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الكمال الذي ليس فوقه أي كمال ، وينطوي فيهما ما أوحي على المرسلين وهما أساس ما استلهمه أهل الفلسفة العلمية والعملية. ولا ريب في أنّ الإيمان كذلك له مراتب متفاوتة.

الأصل الثاني : الإيمان بالملائكة بما انهم وسائط في التدبير والتنظيم وإتقان الصنع فهم وسائط فيض الله تعالى ؛ فكما أنّ شكر المنعم واجب بحكم العقل كذلك يجب شكر الوسائط ، والشكر لا يتحقق إلّا بعد المعرفة.

والملائكة من عالم الغيب الذي هو مقابل عالم الشهادة التي نحن فيها المتضمنة لأنواع الحيوان والنبات والجماد ، ولا يمكن درك أسراره وان بذل

غاية الجهد.

الأصل الثالث : الإيمان بالكتب والأنبياء معلمي البشرية وهاديها ولا يخفى أنّ بالتعلم والتعليم يقوم نظام إنسانية الإنسان وإلّا لبقي على أصل الحيوانية ، وان بهما يتحقق السير الاستكمالي له وانهما وسيلة لإخراج ما هو المكنون في الكون من الأسرار ، ولا يتحققان إلّا بقوانين تنظم شؤون الفرد والمجتمع وترشده إلى الطريق المستقيم ومعلم يهديهم إلى ذلك. والأول هو الكتاب والثاني هو النبي ، وبدونهما يكون التشريع لغوا وباطلا وهو محال عليه تعالى ، والجميع يرجع إليه تعالى فهو أول من وضع الكتاب وأول واضع لنظام التعليم والتعلم وأول من أرسل المعلم ، والآيات القرآنية تبين ذلك بوضوح.

الأصل الرابع : إيتاء المال وبذله لأن كل مجتمع ـ بدائيا كان أو حضاريا ـ فيه طبقات تختلف في الغنى والفقر ، وهذا من مقتضيات نفس العالم إن لوحظت بالنسبة إلى النظام الأحسن ، وحينئذ يحكم العقل بحسن بذل المال وعدم احتكاره تقديما لحفظ المجتمع على مالكية الفرد أو سدا لحاجة الفقراء أو دفعا لسطوة الأغنياء ، وهذا هو الأصل الذي ارتضاء العقلاء وقررته الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم ولذلك كله حدود وقيود مذكورة في الفقه الإسلامي.

ولا يقال : إنّ بذل المال مجانا يوجب ازدياد الكسل والبطالة ، وبالأخرة الفساد الاجتماعي والأخلاقي ولأجل ذلك أنكرت بعض المذاهب الاقتصادية الصدقات والعطيات والكفارات.

وفساد ذلك بيّن فإنّ الشرايع الإلهية التي تحبذ على الصدقات والعطيات إنما تجعل حدودا وقيودا في بذلها منها الحاجة الماسة أي : فقر الآخذ ، وعجزه عن التكسب اللائق بحاله ، كما أنّ اهتمام العقلاء ببذل المال إنما هو لأجل عدم تمركز الثروة في فئة قليلة بل لا بد من توزيعها بالتدريج ـ بمثل ما هو المقرر في الشريعة ـ لئلا «يتبيّغ [يتأثر] بالفقير فقره».

الأصل الخامس : إقام الصّلاة بما فيها من الارتباط بعالم الغيب والاستمداد منه ، وفيها تتحقق المخاطبة بين العابد والمعبود ويتجلّى المعبود

في مظاهر عبودية العابد ، وليس المراد من إتيان الصّلاة هو مجرد الذكر اللساني والأفعال الخاصة الفاقدة لروح العبودية بل المراد إقامتها على وجهها المطلوب شرعا بشرائطها الخاصة لتؤثر آثارها العظيمة ، وقد ذكر لها الفقهاء شروطا خاصة مذكورة في كتب الفقه وهي شرائط الصحة. وأما شرائط القبول فقد جمعها سبحانه وتعالى في قوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٧].

الأصل السادس : إيتاء الزكاة المفروضة ، وهي أقل جزء وأيسر ما فرضه الله تعالى على الأغنياء لرفع حاجة المحتاجين ، ومن تتبع تاريخ الحضارات ويلاحظ تاريخ الإسلام والمقارنة بينهما يرى بوضوح اهمية هذا التكليف في رفع كثير من المشكلات الاقتصادية الناشئة من تكتل الثروات والفقر ولقد راعى الإسلام في الزكاة المفروضة حق المالك وحق الفقير ولأجل ذلك كان لهذا التكليف أهمية عظمى في تاريخ الإسلام والمسلمين. وقد جعل الشارع لها حدودا وقيودا في الصرف والمصرف مذكورة في كتب الفقه وتعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

الأصل السابع : الوفاء بالعهد ، والأهمية حفظ العهد في المجتمع الإنساني أكد عليه سبحانه وتعالى في مواضع متعددة في القرآن الكريم وذلك لأن في نقض العهد انهيار للوحدة المتجانسة بين أفراد المجتمع وحلول الغدر والخيانة والفحشاء فيهم بدل الصلح والوئام والاحترام.

الأصل الثامن : الصبر وهو الركيزة الأولى في كل عمل يعمله الإنسان في حياته العملية فإن بالصبر يصل الفرد إلى كماله اللائق بحاله أو بالصبر يتصف الفرد بالأخلاق الفاضلة ، فتكون نسبته إلى سائر الخصال كنسبة الروح الى الجسد ، ونظام الأفعال التكوينية يقوم على التأني والتأمل فضلا عن الأفعال الاختيارية ، فهو محبوب في كل موطن وكل حال. وإنّما اقتصر سبحانه على ذكر «البأساء والضراء وحين البأس» لأهمية هذه المواطن ولأن الصبر فيها يمكن الإنسان على الصبر في غيرها بطريق أولى.

بل يمكن أن يكون المراد من «حين البأس» حين المجاهدة مع النفس

المعبر عنها بالجهاد الأكبر ، لتقومه بالصبر والثبات أكثر مما يتقوم به الجهاد الأصغر.

بحث أدبي :

ذكرنا أنّه يجوز قراءة «ليس البر» بالنصب على أنه خبر مقدم أو بالرفع على أنه اسم ، وهذا جار في كل مورد يكون بعد (ليس) المعرفتان.

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إخبار عن المعني بالذات وهو من أحسن أساليب الفصاحة والبلاغة ، وهو يرجع إلى تغيير أسلوب الكلام من بيان الصفات إلى بيان الذات المتصفة بها لبيان إجلال تعظيم مثل هذه الذات ، وان المقصود إنما هو الذات المتصفة لا مجرد تعداد الصفات.

فما ذكره بعض المفسرين وغيرهم في المقام من التقدير وحذف المضاف صحيح بحسب القواعد النحوية ولكنه لا يفيد ما ذكرناه من براعة الأسلوب وحسن تأديته. وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية الفصحى ، قال الحطيئة :

وشر المنايا ميت وسط أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره

وأما رفع قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ) فلأجل العطف على «من آمن» ، كما أنّ نصب «والصابرين» يكون على المدح والإختصاص.

ويمكن أن يكون الرفع والنصب كلاهما على المدح أي : وهم الموفون وأعني الصابرين ، لأن النعوت والصفات إذا طالت جاز الاعتراض بينهما بالمدح أو الذم ، قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرأي حين تغم الأمور

بذات الصليل وذات اللجم

فنصب ليث الكتيبة ، وذا الرأي على المدح. والأحسن هو الاختلاف في الإعراب في المقام ليكون النصب في «الصابرين» إشارة إلى أنّ في المقام سرا مكنونا ، وهو بيان مقام الصبر وأهميته.

بحث فقهي :

تدل الآية المباركة على جملة من الأحكام الفقهية :

الأول : إنّها تدل على رجحان إيتاء المال وبذله في إعانة المحتاجين والهدايا وصرفه في الخير وهو محبوب عقلا أيضا ، إلّا أنه قد يكون واجبا كالزكاة ، والكفارات ، والنذور ، وأداء الديون.

وقد يكون مندوبا وهو في ما إذا كان يراعى فيه الوظيفة الشرعية ولم يصل إلى الصرف المحرم وله مصاديق كثيرة مذكورة في كتب فقه الفريقين. والظاهر أن قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ناظر إلى القسم الثاني لذكر الزكاة بعد ذلك ، ويمكن أن تكون الزكاة مثالا لجميع الحقوق الواجبة المالية.

الثاني : القيد في قوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ) قيد توضيحي إن رجع إلى حب المال لأنه أمر غريزي مركوز في الإنسان أو أنه يرجع إلى حفظ النفس من الهلاك وهو أمر فطري أيضا. وان رجع إلى الله تعالى يصح أن يكون احترازيا ، لأن النّاس يختلفون في ذلك إلّا أن يقال إنّ الآية وردت في وصف الأبرار ، وصرفهم للمال لا يكون إلّا لله تعالى ، قال عزوجل : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [سورة الدهر ، الآية : ٩].

الثالث : لا يعتبر الفقر في ما ذكر من الأصناف سوى المسكين لعدم كون دفع المال من باب الصدقة الواجبة بل أعم منها. نعم لو كان بعنوان الصدقة الواجبة يعتبر الفقر في موردها.

الرابع : ذكر تعالى السائلين ، والسؤال إن كان لأجل الاضطرار وحفظ النفس يجوز ، بل قد يجب وإن كان لغير ذلك يكره ، بل قد يحرم. فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر» ؛ وعن الصادق (عليه‌السلام) : «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم ـ إلى ان قال ـ والذي يسأل الناس وفي يده ظهر غنى» ، وعن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «لو يعلم السائل ما في المسألة ما

سأل أحد أحدا ، ولو يعلم المعطي ما في العطية ما رد أحد أحدا ، ومن سأل وهو بظهر غنى لقي الله مخموشا وجهه يوم القيامة».

ويكره رد السائل مطلقا ، فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا : «للسائل حق وان جاء على ظهر فرسه».

الخامس : يستفاد من الآية الكريمة انه يجوز صرف الزكاة في جميع الموارد التي ورد فيها مع تحقق الشرائط المذكورة في الفقه.

السادس : الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) قرابة المعطي ، ولكن يحتمل ان يكون قرابة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤١].

بحث روائي :

في تفسير القمي في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) قال (عليه‌السلام) : «هي شروط الإيمان الذي هو التصديق».

أقول : الظاهر أنّ مراده (عليه‌السلام) بالإيمان الإيمان الكامل الذي يدخل به المؤمن في زمرة الأبرار والصديقين.

وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

أقول : ولا ريب في ذلك لأن الآية الشريفة ، كما مر جامعة للاعتقادات والأعمال الجوارحية ولا معنى لكمال الإيمان إلّا جامعية المؤمن للمعتقدات الصحيحة والأعمال الصالحة. ويستفاد من الآيات الواردة في مدح الأبرار ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [سورة

مريم ، الآية : ٩٦] وقال تعالى : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة النور ، الآية : ٣٨].

ولكن الآية الشريفة هي أجمع الآيات التي ذكر فيها درجات الأبرار ومنازلهم في الآخرة. وتبين الملازمة بين كون الإنسان برا في هذه الدنيا ـ بالمعنى المذكور فيها ـ وكونه من الأبرار في الآخرة فتكون حقيقته في جميع النشآت واحدة وان السبق إلى البر في هذا العالم ملازم لكونه من السابقين في الآخرة ، قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١٠].

وفي الدر المنثور عن أبي عامر الأشعري : «قلت يا رسول الله ما تمام البر؟ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية».

أقول : في سياق ذلك روايات متواترة من الفريقين ، ويدل عليه حكم العقل ، لأن المخالفة بين السر والعلانية نفاق ، ويشهد لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذيل الآية الشريفة : (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) إذ لا معنى للصديق إلّا من طابق قوله فعله وسره علانيته.

في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) : ذوي القربى قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : يمكن أن يكون ذلك من باب أشرف المصاديق كما تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «الفقير الذي لا يسأل النّاس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم».

أقول : ذكرنا ذلك في الفقه مفصلا ، من شاء فليراجع كتاب الزكاة من كتابنا [مهذب الأحكام].

في التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) : «سئل عن مكاتب عجز عن

مكاتبته وقد أدى بعضها. قال (عليه‌السلام) : «يؤدى عنه من مال الصدقة فإنّ الله عزوجل يقول : وفي الرقاب».

أقول : سيأتي بيان ذلك في آية الزكاة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ٦٠].

وفي المجمع عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ابن السبيل المنقطع به».

في تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) قال (عليه‌السلام) : «في الجوع ، والعطش ، والخوف ، وقوله تعالى : (حِينَ الْبَأْسِ) ، قال (عليه‌السلام) عند القتال».

أقول : كل ذلك من باب التطبيق.

في الدر المنثور : «أن رجلا سأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا الرجل فتلاها عليه ، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله وان محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك ، وجبت له الجنّة فأنزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : يدل الحديث على أن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلّا بذلك لأن الآية الشريفة حينئذ بمنزلة الشرح لكلمة التوحيد ، كما يدل عليه ما استفاض من طرقنا عن مولانا الرضا (عليه‌السلام) : «قال الله تعالى كلمة لا إله إلّا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ، قال بشرطها وشروطها وأنا من شروطها».

بحث قرآني :

تدعو الآية الشريفة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل ، وإتيان الأعمال الصالحة ، وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وقد وصف سبحانه العامل بما تضمنته هذه الآية الشريفة بأنه من الصديقين ، وأنه من المتقين ، وقد أعد لهم من الدرجات المعنوية والمنازل العالية كما بينها في

آيات أخرى ، وهي تشرح حقيقة الإنسان من حيث نظر القرآن الكريم ، وكل واحد من هذه الأمور له آثار خاصة تؤثر في النفس وتظهر في العمل وحياة الفرد في الدنيا والعقبى بما يجلب له السعادة في الدارين. ونشير هنا إلى بعض ما هو المقصود في القرآن الكريم من الإعتقاد المطلوب شرعا.

وقد أمر سبحانه الإنسان بالإيمان بالله واليوم الآخر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، والمراد به الإيمان الذي يترتب عليه الآثار التي ذكرها في هذه الآية ، وآيات أخرى في سياقها التي تكون كاشفة عنه في مقام الإثبات على نحو كشف المعلول عن العلة ، وهي :

الأول : إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى العمل الصالح ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [سورة الكهف ، الآية : ١١٨] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٢] إلى غير ذلك من الآيات التي يقترن الإيمان والعمل الصالح فيها ، فان ذلك من الجمع بين المتلازمين.

الثاني : إنّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث على اتباع الرسول وما جاء به الأنبياء ، قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] ، وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١].

الثالث : انّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه والراحة في النفس والاطمينان في القلب ، قال تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [سورة الفتح ، الآية : ٢٦] وقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد ، الآية : ٢٨] وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ

كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٥].

الرابع : إنّ الإيمان المطلوب هو ما كان باعثا على حب الله ورسوله بحيث يكونان أحب إليه من غيرهما ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٤].

الخامس : انّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه على الصبر في الحوادث والمصائب ، لأنّ صاحبه يعلم بأنّ المصيبة إنّما هي في الدين وأنّها أشد من المصائب في النفس والمال ، وقال تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٦].

السادس : إنّ الإيمان يدعو صاحبه إلى اجتناب المحارم وإنّه إذا عرضت له المعاصي والآثام أعرض عنها ، ولو صدرت منه معصية لغفلة أو جهل أو نسيان يبادر إلى التوبة والانابة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣].

السابع : إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى التسليم والرضا بالقضاء والقدر ، قال تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة الحج ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٢].

الثامن : إنّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه إلى مراقبة النفس وتزكيتها بأنواع البر والاجتهاد في طلب مرضات الله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة.

التاسع : إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب وجميع ما أنزل الله تعالى قال عزوجل : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ

الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣].

العاشر : إنّ الإيمان الصحيح هو ما يجلب لصاحبه سعادة الدارين وما أعده الله تعالى للمؤمنين من المنازل والدرجات وهي مذكورة في آيات كثيرة.

وأجمع آية تشتمل على كثير مما ذكرناه في الإيمان المطلوب هي الآية التي سبق تفسيرها ، فإنها تبين المراد من الإيمان ، وأنّه الداعي لإتيان الأعمال الصالحات ، والباعث لتهذيب النفس وتزيينها بالأخلاق الفاضلة الموجب كل ذلك لكون المتصف بها من الصديقين والمتقين ، فللإيمان كمال ونقص ، والكامل منه ما ذكرناه.

بحث أخلاقي :

الآية الشريفة التي تقدم تفسيرها هي من أجمع الآيات القرآنية لصنوف البر والأخلاق الفاضلة ، وهي بانضمام آيات أخرى من القرآن الكريم تبين مفهوم الأخلاق في الإسلام ، فان له نظرا خاصا فيه يخالف سائر المذاهب الأخلاقية ، ولكنه في ذاته يعتبر امتدادا لسائر الاتجاهات الأخلاقية الصحيحة.

وبتعبير آخر : إنّه يكون تركيبا لتراكيب ، فهو يشتمل على روح التوفيق لشتى النزعات في المذاهب الأخلاقية الأخرى ، فهو واقعي ومثالي ، ومحافظ ، وتقدمي ، وتطوري ، وعقلي ، وصوفي ، ومتحرر ، ونظامي ، كما انه يلبّي جميع المطالب الفردية والاجتماعية ، الشرعية والأخلاقية. ولا يمكن الإلمام بجوانب هذا المفهوم القرآني للأخلاق إلّا بعد معرفة النظريات الأخرى ولو على سبيل الإيجاز ثم الحكم بأفضليته وأكمليته من الجميع.

المذاهب الأخلاقية :

يختلف العلماء والباحثون في علم الأخلاق النظري في تقسيم المذاهب الأخلاقية المتعددة بين مفصل لها بتعداد سائر الاتجاهات ، وبين مجمل لها بذكر أصولها ، والسبب في ذلك أن طائفة منهم ربطت المذاهب الأخلاقية بالمذاهب الفلسفية في المعرفة الإنسانية من الواقعية والمثالية ،

والعقلية ، والحدسية ، والتجريبية ، والمادية ، والتشكيكية وغير ذلك. وهذا المسلك وإن أمكن تطبيقه على بعض المذاهب الأخلاقية ، فإنه يكون امتدادا لتلك المسألة إلّا أنه لا يمكن تطبيقه على البعض الآخر مثل الأخلاق المسيحية فإن لها خصائص ما يخالف تلك الاتجاهات.

وطائفة أخرى أرجعت الاختلاف بعينه إلى الاختلاف في الغاية ، وانها هي المنفعة ، سواء كانت فردية أو اجتماعية وابتغاء اللذة والسرور ودفع الآلام والشرور. وهذا المنهج كسابقه فان كثيرا من المذاهب يخرج عن هذا التقسيم.

وطائفة ثالثة ذهبت إلى أنّ المناط هو الوجدان والزهد والتقشف ؛ كما يراه الاتجاه الصوفي.

والحق أنّ شيئا مما ذكر لا يصلح لأن يكون المناط في تقسيم المذاهب الأخلاقية ، بل إنّ جميعها تتفق على أنّ الكمال والسعادة هما الغاية القصوى والمقصد الأسنى للإنسان ، وإنّما الاختلاف في ما يصدق عليه الكمال والسعادة فالاختلاف في المصداق فقط ، وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة :

الاتجاه العقلي :

الاتجاه الذي يعتبر العقل هو الذي يحدد الغاية في حياتنا ، وأنه الباعث الذي يحفزنا إلى ابتغاء الحياة السعيدة والغزوف عن اللذات وأنّه الداعي إلى الطاعة لأوامر الشرع أو العقل ، وأصحاب هذا الاتجاه يعترفون بأصول مسلّمة لا يمكن العدول عنها كحسن العدل ، وقبح الظلم وأمثال ذلك ، فلا بد للإنسان ـ الذي يتميز عن سائر الكائنات بطبيعته العاقلة ـ ان يتصرف وفق القوانين المجعولة من قبل العقل أو الشرع ، وفي ذلك ابتغاء السعادة. ويشمل هذا الاتجاه من المذاهب الأخلاقية المذهب الحدسي ، والواقعي ، والمثالي ، وبعض المذاهب اليونانية القديمة أمثال الرواقيين والأفلاطونيين وغيرهم.

الاتجاه المادي :

وهذا الاتجاه يرفض كل القيم الإنسانية المسبقة التي تحدد للإنسان

سلوكه والتي لها التأثير في تشكيل حياته ، بل يعتبر عامل المادة له الأثر الكبير في سلوك الإنسان ، وزاد بعضهم أن الأفكار والمشاعر والرغبات والقيم الخلقية والجمالية هي وليدة النظام الاقتصادي وما يستلزمه من العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض ، وان المنفعة سواء في شكلها الحسي أو العقلي هي وحدها الخير الأقصى والمرغوب لذاته ، وانها السعادة ، والضرر والألم وحده هو الشر الأقصى ، فالأفعال الإنسانية لا تكون خيرا إلّا إذا حققت النفع مطلقا وإذا جلبت ضررا أو عاقت عن وصول النفع كانت شرا.

وبالجملة : إنّ في هذا الاتجاه على اختلاف مذاهبه يتوجه النظر على نتائج الأفعال وآثارها ، بلا فرق بين أن تكون المنفعة فردية حسية عاجلة ، كما في مذهب القورنائيين أو حسية وعقلية وروحية كما في مذهب الابيقوريين ، وجميعهم أصحاب اللذة الفردية الانانية. نعم ، تحول بعض المذاهب إلى منفعة المجموع والقول بالصالح العام ولكنه لا تخرجها عن ابتغاء اللذة والمنفعة ، ولذا دعوا جميعا ب (الانانيين) حتّى في تصورهم للصالح العام ، وتشترك جميع هذه المذاهب في تقييد حرمة الفرد ، والقول بالجبر الأخلاقي والفوضى في الأخلاق. ومن ذلك يعرف أنّه لا علاقة بين الفكر الفلسفي والمذهب الخلقي في هذا الاتجاه.

الاتجاه الصوفي :

وفي هذا الاتجاه يتنكر الإنسان للمادة في جميع مظاهرها ، وأنّ العزوف عن ملاذ الدنيا هو المناط في الأخلاق الفاضلة ، ويرى أصحابه أنّ السعادة هي الابتعاد عما يشغل بال الإنسان عن التفكر ، والكمال هو الوصول إلى مرحلة يصل بها إلى درك الحقائق ، وفي هذا الاتجاه تعتبر المحبة أصلا لكل خير.

هذه هي الاتجاهات الأساسية للمذاهب الأخلاقية المختلفة المتعددة وهي جميعها قد أخفقت في حلّ المشكلات الخلقية للإنسان سواء الفردية أو الاجتماعية ، ولم يصل الفرد بها إلى ما يصبو من السعادة والكمال بل لم تجلب للإنسان إلّا الشقاوة ، والوقوع في صراعات فكرية لا يجتنى منها فائدة تذكر.

المفهوم الأخلاقي في القرآن :

إنّ الطابع العام الأخلاقي الذي يستمد من القرآن الكريم يختلف كثيرا عما ذكرناه في المذاهب الأخلاقية المختلفة ، سواء من الناحيتين النظرية والعملية فهو يحل جميع المشكلات الخلقية ويضع كل شيء في موضعه المعين ، ويربط بين الفضل والفضيلة ، فطالما يكون المرء فاضلا ولا يعرف الفضيلة ، ولذا ترى أنّ المفهوم الأخلاقي في القرآن الكريم لا يقتصر على الحاجة العقلية فقط ؛ بل إنّ الجانب النظري والعملي كل واحد منهما مكمل للآخر وتكون لهما وحدة خاصة تشبع الحاسة الأخلاقية التي أودعها الله تعالى في الإنسان.

كما أنّ المفهوم الأخلاقي فيه يمتاز عن غيره في انه يشتمل على روح التوفيق بين سائر النزعات الأخلاقية ، ويلبي جميع المطالب للإنسان ، فهو ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع ، ويعطي لكل واحد منهما حقه ، ولهذه النزعة الأخلاقية خصائص يمكن تلخيصها في ما يلي :

خصائص الأخلاق في القرآن :

الأولى : إنّ في الإنسان انبعاثا داخليا فطريا إلى الأخلاق يساير جميع مراحله يمكن التعبير عنه به (الحاسة الأخلاقية) التي يميز بها بين الخير والشر ، كما يميز بالحاسة الجمالية المودعة فيه بين الجميل والقبيح ، قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ٨]. ومن هذه الحاسة الخلقية نستطيع أن نؤسس القواعد الخلقية والقانون الأخلاقي العام.

ولكن قد يلقى هذا النور الباطني الفطري موانع توجب طمسه ، وهي كثيرة مثل العادات ، والوراثة ، والبيئة ، وشواغل الحياة المادية بل إنّ نفس القواعد الخلقية الفطرية لم تكن كافية في إرضاء الجميع بحيث تكون قاعدة عامة تجلب رضاء الكل ، ولهذا كان لا بد من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي ليثيروا للنّاس دفائن العقول ، ويزيلوا الغشاوة عن النور الفطري ويكملوا ما كانوا يحتاجون اليه في إكمالهم ، فكان نور الوحي

الإلهي مكملا لنور الفطرة التي أودعها الله في الإنسان فكان «نور على نور».

الثانية : إنّ القواعد الخلقية هي تلك القواعد التي تخاطب الضمير الإنساني ، ويرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها وأهميتها الخلقية فهي لم تكن غريبة عليه ، فكانت لها صفة الإلزام ، قال تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [سورة القيامة ، الآية : ١٥]. ويظهر ذلك بوضوح في تلك الآيات القرآنية التي ترجع الإنسان إلى عواطفه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣] ، وقال تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٢].

الثالثة : إنّ القرآن الكريم يقرر أنّ الإنسان مسئول عن عمله ، فقد أظهر فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية والاجتماعية بالمعنى الكامل قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [سورة النجم ، الآية : ٣٩] ، وقال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الإسراء ، الآية : ١٥] ، فكل شخص مسئول بالشروط المقررة عن أفعاله الخاصة الشعورية والإرادية ، كما انه فرد من مجتمع يحمل جانبا من المسؤولية الاجتماعية.

الرابعة : إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله الإرادية ، ولا شيء ـ سواء كان داخليا أو خارجيا ـ يستطيع إرغامه وسلب حريته ، قال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤] ، وقال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٤] بل يعتبر القرآن أنّ أساس المسؤولية هي الحرية ، وقد مضى في ضمن الآيات القرآنية البحث عن ذلك مفصلا وقد تنبّه إلى ذلك الفيلسوف الغربي [كانت] بقوله «يستحيل علينا ان نتصور عقلا في أكمل حالات شعوره ، يتلقى بشأن احكامه توجيها من الخارج ... فارادة الكائن العاقل لا تكون إرادته التي تخصه بالمعنى الحقيقي الا تحت فكرة الحرية».

الخامسة : الجزاء الأخلاقي وفقا لقانون أن كل مسئولية لا بد لها من

جزاء. وقد بين القرآن الكريم أنّ كل عمل له جزاء خاص يلائمه وقد تقدم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

السادسة : النية وأنّ كل عمل لا بد له من نية وإعطاء الأهمية للنية والبواعث الكامنة في النفس وراء العمل ، ويعتبر أن قيمة كل عمل تدور مدار شدة التنزه ، وأن الهدف من كل عمل هو ابتغاء وجه الله تعالى.

السابعة : أنّ كل عمل لا بد أن يقرن بالاعتقاد ، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التي يقرن فيها بين الإيمان والعمل الصالح ، قال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [سورة سبأ ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٩].

الإنسان كائن أخلاقي :

يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية في أنه مزيج قوى متخالفة متصارعة ، فهو مركب من عقل ، وقلب وإرادة أي : له حياة عقلية ، وانفعالية ، وفاعلة. ولكل واحدة من هذه الثلاث آثارها ووظائفها التي من امتزاجها في هذا الكائن الخاص يكون إنسانا وهذا مما لا ريب فيه ، وقد دلت عليه التجارب وأثبتته البراهين العلمية.

وبتعبير آخر : وهو المتبع في علم الأخلاق ـ إنّ الإنسان مركب من قوى ثلاث : هي القوة الشهوية التي هي مصدر الرغائب من محبة المال والنساء وغيرهما من الشهوات الحيوانية ، والأفعال المنسوبة إلى هذه القوة هي الأفعال التي تجلب المنفعة ؛ كالأكل والشرب ونحو ذلك.

والقوة الغضبية ، وهي مصدر العواطف كالشجاعة ، والغضب ، والأفعال المنسوبة إليها هي الأفعال التي تدرأ المضار كالدفاع عن النفس والمال والعرض وغير ذلك.

والقوة العاقلة ، وهي التي تدبر البدن وتسوسه ، والأعمال الفكرية كلها منسوبة إلى هذه القوة.

ولكل واحدة من هذه القوى الثلاث آثارها وخصائصها ، وهي متباينة في صفاتها وذواتها ، ولكن من اجتماعها ينشأ الإنسان المفكر الدراك ، وباتحادها تنشأ وحدة تركيبية تصدر منها أفعال خاصة ، وبها يبلغ الإنسان إلى سعادته التي خلق لأجلها ، ووظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبية ، وان لا تخرج قوة من هذه القوى الثلاث عن حد الاعتدال إلى حدي الإفراط أو التفريط ، وإنّ بذلك يصل إلى الغاية المرجوة من خلقه وهي السعادة الفردية والنوعية في الدنيا والآخرة ولأجل ذلك كان الإنسان أخلاقيا دون سائر الكائنات الحية.

وعلم الأخلاق يبحث عن كيفية المحافظة على الحد الوسط التي هي الفضيلة والاجتناب عن طرفي الإفراط والتفريط اللذين هما الرذائل ، لتصدر منه أفعال يصل بها إلى السعادة المرجوة.

الاعتدال في الأخلاق :

ذكرنا أنّ وظيفة الإنسان ـ ككائن أخلاقي ـ هي المحافظة على حد الاعتدال لكل واحدة من القوى الثلاث المتقدمة. والمراد بحد الاعتدال ـ هو الوسط الأخلاقي ـ أي استعمال كل قوة على ما ينبغي ليجلب بها السعادة.

وقد جعل العلماء حد الاعتدال في القوة الشهوية هي العفة ، والجانبين ـ الإفراط والتفريط ـ الشره ، والخمول. وفي القوة الغضبية الشجاعة والجانبين التهور ، والجبن. وفي القوة الفكرية الحكمة والجانبين الجربزة ، والبلادة.

ثم قالوا إنّ في اجتماع تلك الملكات في النفس تحصل ملكة رابعة وهي العدالة والمراد بها هي وضع كل شيء موضعه الذي ينبغي له ، وبها يمكن الإنسان ان يحافظ على حد الاعتدال في القوى الثلاث ، فيخرج عن الظلم والانظلام.

وهذه الأربعة هي أصول الأخلاق الفاضلة تكون نسبتها إليها كنسبة الجنس إلى النوع ، وهي كثيرة ـ كالجود والسخاء والقناعة والشكر والصبر ونحو ذلك كما هو مفصّل في كتب الأخلاق.

وهذا هو التقسيم الشايع بين علماء الأخلاق منذ عصر أرسطو ، وهو لا يخلو عن المناقشة ، ولكن الأمر سهل بعد أن كان ذلك لأجل تصنيف الفضائل والرذائل والتمييز بينها.

إلّا أنّ للقرآن نظرية خاصة في الوسط تغاير النظريات الأخرى فقد اعتمد القرآن على التقوى التي ورد ذكرها فيه أكثر من مأتين وخمسين مرة ، قال تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ٨] واعتبرها محور الكمالات الإنسانية ومعيار الفضائل ، قال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٩] ، وقال تعالى : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٧] ، وقال تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٢] ، وقال تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٧] ، وقال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٣].

والمراد من التقوى في نظر القرآن : هي الجهد المحمود ـ الحاصل من الفرد ـ المتواصل في خدمة التكليف في جميع نشاطاته وعلاقاته مع نفسه ، ومع ربه ، والناس أجمعين ، وهذا هو المراد مما ورد في النصوص الكثيرة بأنها «إتيان الواجبات وترك المحرمات».

وتظهر أهمية هذا الملاك عن نظرية «الوسط العادل» أي : تجنب الإفراط والتفريط في أنّه يربط بين العمل والنية ، فلا يمكن التفكيك بينهما ، فيعتبر العمل بلا نية لا قيمة له ، كما أنّ النية الخالية عن أي عمل لا ثمرة لها ، كما يظهر ذلك بوضوح من الآيات التي تقارن بين التقوى والعمل الصالح ، كما تقدم. قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١٠].

كما أنّ بالتقوى يصير الإنسان بارا ويصبح من الصديقين ، وإنّ بها يتهيّأ لقبول الملكات الفاضلة ويحدد سلوكه الأخلاقي ، وبها يصير الإنسان عادلا

موفقا بين رغباته وأحاسيسه وعواطفه ، فهي المقياس الحسي للفضائل يسهل معرفته لكل أحد ويسلم عن الخطأ والالتباس من دون أن يقع في متاهات النظرية الوسطية القديمة ؛ وهي العلة الغائية في السلوك الأخلاقي والعلة الفاعلية لاكتساب الفضائل وإزالة الرذائل. وأخيرا هي القاعدة العامة التي يمكن التوفيق بها بين سائر التكاليف ويجلب بها الكمال ، والدين الذي أمرنا باتباعه. وبها صارت هذه الأمة وسطا في جميع الشؤون. نعم لها مراتب ، كما تقدم سابقا ، ويأتي بيانها مفصلا.

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة :

ذكرنا أنّ الأساس الذي يبتني عليه الأخلاق في القرآن هو التقوى فإنّها الطريق إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة واكتساب الفضائل وإزالة الرذائل ، وتقدم أنّ التقوى هي الجهد التواصل من الفرد ، فلا تتحقق إلّا بالتواصل والعمل الدؤوب وتكرار الأعمال الصالحة لتتمكن الأخلاق الفاضلة في النفس ويتعذر إزالتها. وفي التقوى يرتبط العمل بالنية فكل ما كانت النية خالصة لله تعالى خالية عن الأغراض الدنيوية ازدادت قيمة العمل وقرب إلى القبول وصلح للجزاء الأوفى.

بل يعتبر القرآن أنّ الغايات المرجوة من الأعمال سواء كانت لجلب النفع ، أو لدفع الضرر هي نقص في مقابل الكمال المطلق ، قال تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة يونس ، الآية : ٦٥] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحصر الكمال فيه عزوجل. ولهذا الأمر أثر كبير في النفس حيث يجعل العمل خالصا لوجه الله منزها عن كل غاية من غير الله تعالى ، وأنّ الغاية هي الله تعالى والتخلق بأخلاقه ، وهذا مسلك جديد لم يكن معروفا من قبل نزول القرآن ويختلف عن سائر المسالك المتّبعة في تهذيب النفس بوجهين :

الأول : أنّ في هذا المسلك يعد الإنسان إعدادا علميا وعمليا لقبول الأخلاق الفاضلة والمعارف الإلهية بحيث لا يبقى مجال للرذائل ، وفيه تختلف

الفضائل عن غيره من المسالك.

الثاني : أنّ في هذا المسلك يكون الفعل صادرا عن العبودية المحضة والحب العبودي ، فيكون الغرض هو وجه الله تعالى فقط ، فهو مبني على التوحيد الخالص بخلاف غيره.

وهنالك مسالك أخرى في تهذيب الأخلاق :

أحدها : هو تهذيب النفس بالآراء المحمودة والعقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والغايات الصالحة الدنيوية ، وهذا هو المعروف في علم الأخلاق ، فهذا المسلك يدعو إلى الخلق الاجتماعي ، والغاية هي حياة سعيدة دنيوية يحمدها كل الناس ؛ ولم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حسن هذا المسلك. نعم في بعض الموارد إشارة إلى بعض الأمور الاجتماعية ، قال تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] ، حيث علل الحكم بأن لا يكون للناس عليكم حجة ، وقال تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٦] ، حيث علل ترك الصبر أو الاتحاد بالفشل وذهاب الريح. ولكن ذلك كله يرجع إلى الثواب والعقاب الاخرويين.

ثانيها : تهذيب النفس بما جاء به الأنبياء (عليهم‌السلام) والكتب السماوية من العقائد والتكاليف الدينية والآراء المحمودة بالغايات الأخروية ، وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] ، وقال تعالى : (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) [سورة لقمان ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر ، الآية : ١٠]. وغير ذلك من الآيات الشريفة التي ذكر فيها الأجر الأخروي بألسنة مختلفة.

ومن مبادئ هذا المسلك هو إعداد الإنسان علميا بأنّ كل ما يصدر منه من الأفعال ، وما يقع من الأمور كلها صادرة عن قانون القضاء والقدر الإلهي ؛ قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١١].

وإنّه لا بد من التخلق بأخلاق الله تعالى والتذكر بأسمائه الحسنى حتّى يمكن تهذيب النفس بالغايات الأخروية المتكفلة لسعادة الدارين ، فإنّ الكمال الحقيقي والسعادة الواقعية هي الحياة السعيدة في الآخرة وتلازمها سعادة هذه الدنيا أيضا.

وهذا المسلك هو الغالب في الديانات الإلهية ، وقد دعا اليه الأنبياء والمرسلون ، وهو متين يغاير المسلك الأول في الغاية والسبب.

ثالثها : التغير في الأخلاق والتبدل في الفضائل ، والقول بالتطور والتكامل في الأخلاق فلا يمكن أن يكون للحسن والقبح أصول مسلمة مطلقا ، والمناط كله هو ابتغاء المنفعة ودفع المضرة سواء أكانتا فرديتين او اجتماعيتين ، وهذا مذهب قديم في الأخلاق دعا اليه بعض الماديين كما أشرنا اليه سابقا ، وهو مذهب فاسد ، وسيأتي في الموضع المناسب ذكر حججهم ودحضها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

ما ورد في الآيتين من التشريعات الكلية النافعة في النظام الفردي والاجتماعي للإنسان ، وقد لوحظ فيهما بقاء النوع وتهذيبهم بالأخلاق الفاضلة ونبذ الانتقام والعدوان ، وقد اعتبر في القصاص المساواة بين القاتل ومن يراد الاقتصاص له. وفيهما إشارة إلى بعض العادات السيئة التي كانت متبعة قبل هذا التشريع ، ولذلك كله لا تخلو من الارتباط بالآيات السابقة.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). تقدم الكلام في مثل هذا لخطاب في آيتي ١٠٤ و ١٥٣. وكتابة هذا التشريع على المؤمنين لأجل الشرف لا يدل على نفيه عن غيرهم.

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى). الأصل في مادة (كتب) هو الجمع والتثبت في جميع موارد استعمالاتها ، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى ، أو اللوح المحفوظ أو الكتب النازلة من السماء. أو الإيجاب على العباد ـ تكليفا أو وضعا ـ أو التحقق العيني الخارجي ، فالكل كتاب ، والجميع يدل على الثبوت والدوام ، والتحفظ. والمراد به في المقام هو الفرض والإيجاب.

ومادة (ق ص ص) تأتي بمعنى تتبع الأثر ، وحيث إنّ وليّ المقتول ، يتبع أثر القاتل ليأخذ منه جريمة ما فعله ، وكذا المجروح يتبع أثر الجارح كذلك ، يقال له القصاص.

ومنه القصة والقصّاص ، لأنه فيها تتبع أثر ما وقع في الخارج كما أن منه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار.

والمراد بالقصاص شرعا هو أخذ الجاني بمثل جنايته إن أراد وليّ المقتول ذلك ، وهو مطلق لا بد من تقييده بما إذا كانت الجناية عمدية ، لخروج الجناية الخطأية عن تحت هذه الآية بقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [سورة النساء ، الآية : ٩٢].

والآية تبين أصل تشريع القصاص ؛ وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) يبين حكمة هذا التشريع.

وفي الآية إشعار بأنّه لا بد من التساوي بين المقتول ومن يراد القصاص منه ، وأنه لا بد من العدل في القصاص وملاحظة المثلية. وفي ذلك رد على ما كان يفعل في الجاهلية من المغالاة في سفك الدماء وقتل الأبرياء

كالاقتصاص من رئيس القبيلة والسيد في قتل العبد ظلما وعدوانا.

والقتلى : جمع القتيل بمعنى المقتول ، والقتل زوال الروح إذا أضيف إلى المتعدي إليه (أي من وقع عليه القتل). وإذا أضيف إلى ذات الشخص فهو موت فلا فرق بينهما إلّا بالإضافة والاعتبار ، كما يقال : مات بالشهادة ، أو مات بالقتل ، ومات بالمرض. نعم يصح اعتبار التغاير بينهما بلحاظ السبب كما قال تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤]. والجامع هو زوال الروح.

وعموم الخطاب يشمل الوضعي والتكليفي كما في جملة من الخطابات المتعلقة بإتلاف الأموال ففي المقام بالأولى ، والأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المعروفة.

وأما الأحكام الوضعية وهي ما تعلق بها غرض الشارع المقدس ولم تكن من الخمسة التكليفية ، وهي كثيرة كالضمان ، والولاية ، والطهارة ، والنجاسة ، وقد يجتمع الحكمان في شيء واحد كاشتغال الذمة بعوض فهو وضعي ووجوب تفريغها تكليفي ، وقد ذكر التفصيل في محله فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم انه ذكر سبحانه وتعالى بعض موارد المساواة والتكافؤ بين المقتول ، ومن يراد الاقتصاص منه.

قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ). الحر : خلاف العبد لخلوصه عن الرقية ، والحر من كل شيء خالصه ، وأحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ.

والعبد من فيه الرقّية ، وفي اصطلاح الكتاب والسنة هي المملوكية للغير بالملكية الظاهرية. وعند جمع من أهل العرفان : كل من كان له علاقة بغير الله تعالى فهو عبد له ، وقالوا : إنّ عبد الشهوة والهوى أشد رقّية من العبد المملوك للغير ، واستشهدوا لذلك بأدلة عقلية ونقلية لعلنا نتعرض لذلك في محله.

وكيف كان ، والمراد منه هنا المعنى الأول.

وفي الآية من البلاغة ما لا يخفى وفيها إشارة إلى بيان ذكر المثلية إجمالا.

قوله تعالى : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى). كان في أهل الجاهلية بغي وحمية وكانت القبائل تتحكم بحسب القوة والمنعة ، فان قتل من حي أهل منعة وعز أحد لا بد لهم من الاقتصاص وكانوا لا يكتفون من القاتل فقط ، وإذا قتل منهم أنثى لا يقتصون من أنثى مثلها بل يقتصون من الذكر. وقد أنكر الشارع هذه العادة وحكم بالمساواة بين القاتل والمقتول فإذا كان القاتل أنثى فلا بد وان يقتص منها لا من غيرها ، وفيها بيان للمثلية أيضا أي الحرة بالحرة والأمة بالأمة.

قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ). بعد ان ذكر وجوب القصاص وأنّه أساس العدل في الجنايات ، وأنّه الأصل في ردع الجاني من الاستمرار في الجناية بيّن هنا جواز العفو بل رجحانه وهو تعالى ينظر إلى الجانب الأخلاقي في هذا التشريع ويعطي أهمية خاصة إلى التراحم والتعاطف بين أفراد البشر في ظرف تسيطر على النفس الغرائز الدفينة والعادات السيئة الموروثة من الجاهلية ، فكان هذا التشريع موفقا في الجمع بين الجانب العاطفي في الإنسان والجانب الغريزي والشهودي فيه.

ومادة عفو تأتي بمعنى المحو والزوال ونفي الأثر ، والتجافي عن الذنب ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٩] ، وقال تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٥] ، وقال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) [سورة الشورى ، الآية : ٢٥].

والعفوّ ـ بالتشديد ـ من أسماء الله الحسنى ، وفي بعض الدعوات : «اللهم إنّي أسألك العفو والعافية والمعافاة». والأول محو الذنب ، والثاني الصحة من الأسقام والأمراض ، والأخير الحفظ عن أن يظلم أحدا أو أن يظلمه أحد.

والفرق بين العفو والغفران أنّ الثاني يختص استعماله بالله تعالى غالبا

وإن استعمل في غيره تعالى أحيانا ؛ قال سبحانه : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١٤] ؛ بخلاف الأول فانه يستعمل في غيره عزوجل كثيرا ، قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧] ، وقال تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧]. ويقال : عفت الدار إذا انمحت آثارها.

ويمكن الفرق بينهما باعتبار المورد أيضا ، فان العفو يصح استعماله بالنسبة إلى مطلق سوء الأخلاق وإن لم يكن من الذنب الشرعي كما يصح استعماله بالنسبة إليه أيضا بخلاف الغفران.

والتعبير بالأخ ترغيب إلى العفو والمراد به ولي الدم.

و «شيء» صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل أي بعض العفو وشيء منه ، وهو حق الاقتصاص أولا ويشمل البدل والمبدل أيضا.

والمعنى : ومن عفا لأخيه عن جنايته ولم يرد القصاص ورضي بالدية فهو خير له.

قوله تعالى : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ). المعروف : ضد المنكر ، ومعناه كلفظه ؛ والمراد به كل ما حسن عند العقلاء ولم ينه عنه الشرع سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا. وهو يختلف باختلاف الأعصار والأمصار. وقد وقع هذا اللفظ في القرآن الكريم والسنة الشريفة كثيرا ، قال تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٠] ؛ وقال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٨] ، وقال تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٣] إلى غير ذلك مما يقرب من أربعين موردا. وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كل معروف صدقة».

والمعنى : إن رغب في العفو عن القصاص لا بد له من إتباعه بالمعروف على الجاني بأن لا يرهقه في الدية ، أو ينظره إلى الميسرة إن كان ذا عسرة ، أو الطلب منه بالرفق ، أو يعفو عن بعض ونحو ذلك مما لا يستنكره

العرف ، وذلك مرغوب فيه لا سيما في هذه الحال التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى قوى البطش والانتقام منها إلى العقل.

قوله تعالى : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). أي أداء من الجاني إلى الولي بالإحسان كما أحسن اليه بالعفو وإتباعه بالمعروف.

قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ). أي : أن تشريع القصاص والعفو عنه والانتقال الى الدية والاتباع بالمعروف والأداء بالإحسان كلها تخفيف على الأولياء والجانين ورحمة لهم ، لأنه جل شأنه قادر أن يشرع عليكم بما يكون أشد من ذلك ، فقد راعى عزوجل الوسط بين الإفراط ، والتفريط. مع أن في هذا التشريع الجديد تخفيفا بالنسبة إلى ما كانوا قد اعتادوا عليه في الجاهلية فقد كان ذلك ثقلا كبيرا عليهم ورحمة عليكم في الامتناع عن إراقة الدماء ظلما وعدوانا ، فلا يبقى بعد ذلك مجال للظلم والاعتداء.

قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). أي : فمن اعتدى وانتقم من الجاني بعد العفو ، أو تعدى عن الحد الذي قرره الله تعالى فله عذاب أليم ، لأنه متعد عن القانون الإلهي وكل متعد كذلك لا بد وأن يعاقب عقلا وشرعا ، فيكون مصيره إلى النار.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). بعد أن شرّع تعالى القصاص وحكم بأنّه لا بد من التساوي والتكافؤ بين الدماء. ذكر هنا حكمة هذا التشريع الجديد وعلته بأفصح بيان وأبلغه وأوجز عبارة تفي بالمطلوب. فكان أحسن كلام يقرع الأسماع وابلغ نظم يؤديه البيان ، قرن فيه بين التلطف والعتاب فما أجمل هذا الخطاب فاح نسيم الوحي من السماء فانفتح الكمام وتواضع كل من يدعي الفصاحة أمام حسنه ، وأعيى كل من جهد نفسه في البلاغة ، ولو قورنت هذه العبارة مع ما قيل في مثل المقام كقولهم : (القتل أنفى للقتل) وقولهم : (قتل البعض إحياء للجميع) ، وقولهم (أكثروا القتل ليقل القتل) لكان ما ورد في القرآن كالنور في الظلماء ، والنار على المنار من حيث البلاغة والفصاحة ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق

بذلك.

والمعنى : أنّ في القصاص المذكور الحياة للفرد والمجتمع ، أما بالنسبة إلى المجتمع فإنّه أحسن رادع عن الإقدام على قتل النفوس ، إنّ فيه حفظ النّاس عن اعتداء بعضهم على بعض ، وأما بالنسبة إلى الفرد فإنّ فيه حفظ من يريد الجناية فإذا علم بالقصاص يرتدع عنه ، وبذلك يحفظ نفسه ومن أراد قتله ولو فعله كان ذلك عبرة لغيره ممن يريد الإقدام على ذلك ، ففي القصاص حياة الناس والأفراد بل فيه تسلية لولي المقتول حيث يخفف عنه لوعة المصاب ، فكانت الغاية من القصاص وما يجتنى من عواقبه حميدة يعرفها كل من اعطي حق التأمل في هذا الحكم.

قوله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ). الألباب جمع اللب ، وهو العقل الخالص عن الشوائب ، لأنّ لب الشيء خالصه وصفوته ، ولذا جعل الله تعالى أولي الألباب. مورد خطابه وعنايته في جملة كثيرة من الآيات القرآنية ، لأنّ ذا اللب هو الذي يعرف حقائق الأشياء وموازينها ، وآثارها وما يترتب عليها. قال تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وقد فسر سبحانه اللب في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ١٨].

ولم يرد لفظ اللب مفردا في القرآن الكريم كما لم يرد لفظ العقل كذلك. والمتأمل في الآيات المتضمنة لذكر أولى الألباب يعلم أنها وردت في مدحهم بخلاف العقل فإنّه ليس كذلك ، قال تعالى : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٦٧] ، وقال تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة النور ، الآية : ٦١].

ولعل السر في عدم ورود المفرد لهذين اللفظين الإشارة إلى أنّهما من

الحقائق التي لا تحصل إلّا من الاجتماع إما بعضهم مع بعض ، أو مع الأنبياء والإيمان بهم والعمل بما جاؤا به. مع أن مثل هذه الخطابات نوعية اجتماعية ملقاة الى المجتمع لا إلى الفرد المعين.

واللب والعقل هما من أسرار الله تعالى التي أودعها في الإنسان ، وقد قال عزوجل حين خلقه كما في الحديث : «وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك إياك آمر ، وإياك أنهى ، وبك أثيب وأعاقب» ، وهو أصل الإنسان وما سواه من القشر ، وهو مبدأ الاستكمالات واليه المنتهى ، وبالعمل والتقوى والصلاح يرتقي العقل واللب ، ومنهما ينشأ الخير ، فيصح أن يقال : قد اجتمعت العلة الفاعلية والغائية فيهما.

والحاصل : إنّ اللب والعقل والفلاح والصلاح والتقوى كلها مفاهيم مختلفة لمعنى واحد إذا لوحظت النشآت فانها مرتبطة بعضها مع بعض ؛ فان «الدنيا مزرعة الآخرة» كما قال نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خصوصا بناء على الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أعاظم الفلاسفة. نعم أصل هذه المزرعة وأساسها العمل وبه يرتقي العقل ثم منه ينشأ الخير الذي يرجع بالآخرة إلى العقل أيضا.

وإنّما ذكرهم في المقام للتنبيه على أنّ هذا الحكم بما فيه من المصالح والآثار لا يعلمها إلّا أولوا الألباب الذين يفقهون سر هذا الحكم باستعمال عقولهم. ولذلك فمن ينكر هذا الحكم فهو ممن ليس له لب وعقل ، فكان هذا كالدليل لما تقدم.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أي لعلكم تتقون الله في كل أموركم حيث شرع لكم هذا التشريع العظيم الذي ينبّئ عن الحكمة والعلم ، أو تتقون الظلم خوفا عن القصاص فتكفون عن سفك الدماء أو يتقي بعضكم بعضا حرصا على الحياة.

ومنه يستفاد أن اللب السليم يرشد إلى التقوى ، وسبب استكمال ذوي الألباب.

بحوث المقام

بحث أدبي :

أنّ قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أبلغ آية في القرآن الكريم وأفصحها وهي في إيجازها قد ارتقت سماء الإعجاز لما اشتملت على فنون البلاغة والإيجاز وجمعت بين قوة الاستدلال وبراعة اللفظ ؛ فتحدت فرسان الفصاحة والبيان ، وقد أفادت حكما لم يكن من قبل معروفا في أسلوب رصين وعذوبة في الألفاظ وتضمنت من الفوائد والحكم في تنظيم النظام ما لا يبلغ به عقول الأنام ، واشتملت على أنحاء من البلاغة ما لا يوجد في أي أثر منقول عن العرب ونحن نذكر بعضا منها :

الأول : الطباق بين القصاص والحياة فإنّ الأول يفوّت الثاني فهو في مقابلها.

الثاني : فصاحتها في تلائم الألفاظ وعذوبتها وسلامتها ورصانتها في الأسلوب ، والإيجاز في العبارة فقد جمعت بين جمال اللفظ وسموّ المعنى.

الثالث : اشتمالها على جعل الضد متضمنا لضده أي الحياة في الاماتة.

الرابع : تعريف القصاص بلام الجنس ليشمل كل أنواع القصاص من القتل والجرح والضرب.

الخامس : تنكير الحياة للإشعار بأنّ في الحكم حياة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها ، او لأجل أنّ القصاص لم يكن سببا لمطلق الحياة بل لنوع من أنواعها فيكون التنوين فيها إما لأجل التعظيم أو لأجل التنويع.

السادس : جعل القصاص ظرفا للحياة ، لبيان أنّ القصاص يحمي الحياة من الآفات ، وهذا من غرائب الحكم.

السابع : تقرير أنّ الحياة هي المطلوبة وأنّ القصاص وسيلة إليها وهذا من أسمى الحكم في جعل هذا التشريع.

الثامن : الإطراد في أنّ كل قصاص حياة.

التاسع : اشتمالها على التسلية لأولياء المقتول.

العاشر : اشتمالها على التخويف والارتداع لمن تسول له نفسه الجريمة.

الحادي عشر : تحريض المجتمع ـ الذي تقوم به الحياة النوعية ـ على حفظ الأفراد.

الثاني عشر : خلوّ الآية المباركة من التعقيد والتكرار والإبهام وغير ذلك مما ذكروه في المأثور عن العرب في المقام.

وهذا نزر يسير مما يمكن ذكره في هذه الآية الشريفة وقد صنف بعض العلماء كتابا في الأنحاء الأدبية لهذه الآية الكريمة ، وهو لم يصل إلى الغاية كيف وقد صدرت ممن لا نهاية لكماله ، ولهذه الآية وقع في النفوس في مثل المقام فإنّ فيه توطينا على تقبل هذا التشريع الجديد ، وإنّ براعتها وعذوبتها لتخفف مما يترتب على هذا الحكم من إزهاق النفوس فسبحان من جلت آلاؤه وبهرت آياته وتمت حكمته.

بحث فقهي :

هذه الآية الشريفة تتضمن من الأحكام ما يلي :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أنّ الحكم الأولي في الجنايات مطلقا هو القصاص والتبديل إلى الدية إنما يكون لجهات أخرى ولفظ «كتب» يشمل الحكم الأولي والثانوي.

الثاني : إنّها مسوقة لبيان التساوي والتكافؤ بين الدماء خلاف ما كانت عليه العادة في الجاهلية كما تقدم. وقد ذكر فيها بعض الأفراد إلّا أنّها لا تدل على الحصر فيهم ، وقد وردت في السنة الشريفة ما يبين حصول التكافؤ والتساوي في القصاص ، ومن ذلك التفرقة بين دية الرجل والمرأة وقتل واحد

لجماعة أو بالعكس ، وقتل العبد للحر ، فإنّ لكل واحد من هذه أحكاما خاصة مذكورة في الفقه مفصلا.

الثالث : إنّ اطلاق قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) يدل على القصاص في الجناية ، سواء كانت في القتل أو القطع أو الجرح كما هو مفصل في قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٥].

الرابع : إنّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الجناية عمدية أو خطئية ولكنها خصصت بالأولى ، لقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [سورة النساء ، الآية : ٩٢].

كما أنّها خصصت بموارد :

منها : قتل الأدب لابنه وإن كان عمديا ، للإجماع والنصوص.

ومنها : قتل الحر للعبد ، إجماعا ونصوصا.

ومنها : قتل المسلم للكافر على ما هو المفصل في الفقه ، ومن شاء فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «في رواية الحلبي في قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). قال (عليه‌السلام) : «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي اليه بإحسان».

وعنه (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). قال (عليه‌السلام) : «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل فله عذاب أليم ، كما قال الله عزوجل».

أقول : روي مثله في عدة روايات.

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قال (عليه‌السلام) : «لا يقتل الحر بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ، ويغرم دية العبد وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول ان يقتلوا أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل».

أقول : الحديث يفسر التكافؤ في الدماء والجراحات ، كما هو مفصل في الفقه.

في الإحتجاج عن علي بن الحسين (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) : «لكم يا أمة محمد في القصاص حياة ، لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكفّ لذلك عن القتل كان حياة للذي همّ بقتله ، وحياة للجاني الذي أراد أن يقتل وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجترءون على القتل مخافة القصاص ـ الحديث ـ».

أقول : ذكر أمة محمد من باب ذكر أفضل الأفراد لا التخصيص ، لأن الحكم عام للجميع.

وفي تفسير القمي قال : «لو لا القصاص لقتل بعضكم بعضا».

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) : «كان بين حيين من أحياء العرب قتال ، وكان لأحد الحيين طول على الآخر فقالوا : نقتل بالعبد منا الحر منكم وبالمرأة الرجل فنزلت هذه الآية».

أقول : تقدم وجه ذلك.

بحث علمي :

ذكرنا أنّ آية القصاص نزلت في قوم كان الانتقام متبعا بينهم بأقبح الصور ، فقد كانوا يقتلون لواحد جماعة وربما قتل الحر بالعبد أو الرجل بالمرأة ، والرئيس بالمرؤوس ، بل ربما وقعت حروب وغارات بسبب قتل

حيوان من قوم ذوي منعة وشرف ، وكان المناط كله على قوة القبائل وضعفها ، والمتبع هو القتل والانتقام ، والاقتصاص من دون أن يكون في البين قانون يحدده أو قواعد تهذب تلك العادات كما هي عادة الأقوام البدائية والشعوب الهمجية.

نزلت آية القصاص ولم يكن أحد يعرف الصلح والوئام بدل القتل والانتقام ، وكان ذلك تشديدا منهم على أنفسهم ؛ كما يستفاد من ذيل الآية الشريفة قال تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

ومن المعلوم أنه لا ينكر أحد أنّ حب الانتقام طبيعة من طبايع الحيوان فضلا عن الإنسان ، وان دفع التعدي غريزة من غرائزه ، وأنّه على ذلك مجبول ومفطور.

كما أنه ليس ثمة من ينكر أن العفو والرحمة غريزة أخرى من غرائز الإنسان بها يحنو على بني نوعه ، ويدفع عن أهله البلاء ويكافح في سبيلهم العيش والرفاه.

وبحسب تلك الأسس والغرائز نزلت آية القصاص ؛ وقررت تشريع حق الاقتصاص لولي الدم ، وأهدرت دم الجاني لولي المجني عليه فقط ، ومهدت له السبيل وأمكنته كل التمكين من القصاص بشروط خاصة لإشباع غريزة الانتقام في الإنسان فكان ذلك أول خطوة في تهذيب هذه الغريزة.

لكنه تعالى لم يغفل عن الغريزة الأخرى الكامنة فيه فحبّب اليه العفو بمختلف الأساليب فتارة : رغب اليه العفو بأخذ الدية وأداء اليه بإحسان. وأخرى : بالثواب في الآخرة ، ورضاء الله تعالى ، والعفو والمحبة للمحسنين ، قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] ، وقال تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤].

ولقد راعى الإسلام في هذا التشريع جميع من يهمه هذا التكليف القاتل ، والمقتول ، ووليه ، والمجتمع ، والصالح العام ، فحكم بالمعادلة بين

القاتل والمقتول ، فقال عزوجل : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فحفظ بذلك التهجم على الدماء ، ووقف الإسراف في القتل.

واهتم عزوجل بالجانب التربوي فحبب إلى الإنسان الرحمة والعطف ورغّب النّاس على نبذ مسلك الانتقام والوعد لمن راعى هذا الجانب بعظيم الأجر والإحسان.

ولذلك كان هذا التشريع موفقا كل التوفيق في رفع الخصام ، وحلول الصلح والوئام الذي هو السبب في حفظ الأمن والنظام هذا بالنسبة إلى الإسلام.

أما بالنسبة إلى سائر التشريعات الإلهية فإنّها تختلف بين إثبات تشريع القصاص والإلغاء ؛ ففي التشريع اليهودي اعتبر الحكم في الجنايات هو القصاص ولم يسنّ للعفو والدية أحكاما إلّا في حالات معينة راجع ما ورد في التوراة في الفصل الحادي والعشرين ، والثاني والعشرين من سفر الخروج ، والخامس والثلاثين من سفر العدد ، كما حكى عنها القرآن الكريم ، فقال تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

وأما التشريع في الدين المسيحي فلا يرى في مورد الجنايات إلّا العفو والدية ، وليس للقتل والقصاص فيه سبيل إلّا في موارد خاصة.

وأما سائر التشريعات ، سواء كانت وضعية أو غيرها فهي تختلف في هذا الحكم ، ولا يمكن جعلها تحت ضابطة كلية ، وإن كانت لا تخلو عن القصاص في الجملة.

ومما ذكرنا يعرف أن الإسلام اختار الطريق الأمثل وسلك مسلكا وسطا بين الإلغاء والإثبات ، فحكم بالقصاص ولكن ألغى تعيينه فأجاز العفو والدية ، ولا حظ جميع جوانب هذا الحكم وأحكمه أشد الأحكام وسدّ باب الجدال والخصام ، وأبطل شبهات المعترضين.

ومع ذلك فقد اعترض على تشريع القصاص في الإسلام خصومه فادعوا انه خلاف إنسانية الإنسان. وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه تعلم أن ما ذكروه في المقام واضح الفساد.

وقد استدل على إلغاء هذا الحكم بأمور هي :

الأول : ان تقرير حق الاقتصاص إقرار للعادات السيئة التي كانت سائدة في الشعوب الجاهلية ، والأقوام البدائية.

وهذا باطل أما أولا : فلأنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو تربية الإنسان تربية صالحة يرفض معها كل ظلم وانتقام ، ولم يكن ينظر إلى تقرير عادة أو إبطالها.

وثانيا : ذكرنا أنّ حب الانتقام غريزة من غرائز الإنسان والإسلام إنّما أراد تهذيبها وكبح جماحها خلاف ما كانت بين الأقوام وقت نزول القرآن.

وثالثا : فائدة تشريع القصاص إنّما ترجع إلى الجماعة والصالح العام شأنه شأن غالب التكاليف الإلهية.

الثاني : إنّ القوانين الوضعية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جواز عقوبة الإعدام مطلقا ، وترفض إجراءها بين البشر معتمدين في ذلك على أنّ القتل مما ينفر عنه الطبع ويستهجنه وجدان كل إنسان.

وأنّ القتل على القتل يكون فقدا على فقد.

وأنّ القتل بالقصاص فيه من القسوة والانتقام زيادة على نفس القتل الواقع من الجاني ولا بد من إزالة هذه الصفة من بين الناس بالتربية العامة وعقاب القاتل بما هو أدون كالسجن والأعمال الشاقة.

الثالث : إنّ المجرم إنّما يكون مجرما وأقدم على الجريمة لأجل عذر له إما للجهل أو عدم التربية الصالحة ، أو لمرض عقلي فيجب في هذه الحالة علاجه إما بالتربية الصالحة أو معالجة مرضه.

وإنّ إبقاء الفرد الجاني أولى من إفنائه لأنّ في إبقائه منفعة للمجتمع ولا ملزم لأن نقبل عقوبة القصاص إلى الأبد فيعاقب الجاني بما يعادل القتل ، وفي

نفس الوقت نستفيد منه فيكون توفيقا بين حق المجتمع وحق أولياء الدم ، وغير ذلك من الوجوه. ولأجل ذلك عدلت القوانين الوضعية عن القصاص والقتل إلى عقوبات أخرى لردع الجناة أشدها عقوبة الحبس ؛ سواء كان محدودا بوقت أو غير محدود به مع الأشغال الشاقة مثلا.

ولكن كل ذلك باطل أما أولا : فلأنّ في تشريع القصاص تهذيبا للطبيعة الإنسانية في حب الوجود وملاحظة الجانب التربوي في هذا التكليف ، بل جميع تكاليف الإسلام وقوانينه إنما وضعت لأجل ذلك ، ولذلك حث على العفو ، ولم يكن الإسلام ليمنع من رفع هذه العقوبة بعد التربية الصالحة وإعداد الأفراد في صالح المجتمع ، ونبذ التخاصم والانتقام ، والأمم الراقية إنما ذهبت إلى ذلك بعد جهد جهيد في تربية الأفراد وتنفير القتل بينهم ، وهذا شيء حسن لم ينكره أحد ، وهو مما يريده الإسلام كما تشير اليه نفس الآية الشريفة.

وثانيا : فلأنّ الإسلام إنّما لا حظ في هذا التشريع الصالح العام ومصالح النوع كما هو شأن كل قانون ، سواء كان إليها أو وضعيا ، ويعتبر أن الاعتداء على فرد كالاعتداء ، على الأمة ، قال تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [سورة المائدة ، الآية : ٣٢] ، ولا ريب أن الدفاع عن الأمة والجماعة أمر غريزي ، ولذا نرى أن الأمة تهبّ في دفع الأعداء ومن يريد إهلاكهم فلا يتوقفون عن الدفاع عن أمتهم فكيف يمكن القول بالرأفة في هذه الحالة فهل تقبل الطبيعة الإنسانية مثل هذه الرأفة في هذه الحالة؟! بل لا تكون الرأفة إلّا إبادة للأمة واختلالا للنظام.

وثالثا : فلأنّ ما ذكروه في تبرير قتل القاتل إنّما هو في الحقيقة تبرير لتطبيق قانون العقوبة ، لا أنّه عيب في نفس القانون كم فرق بينهما ؛ مع أنّ الإسلام قد لاحظ جميع الخصوصيات في القتل ، كما هو مفصل في الفقه ، فلا يبقى عذر بعد ملاحظة ذلك ، مع أنّ ذلك تلقين للمجرم ، وإعطاء السلاح بيد المجرم كما يقال.

وأخيرا إنّ تبديل هذه العقوبة إلى عقوبة أخرى أنفع للمجتمع وللفرد ، فإنّه يسأل منهم هل كانت هذه العقوبات ناجحة في ذلك؟! وهل رفعت الفساد الأخلاقي؟!! وهل كان الحبس مطلقا ناجحا في رفع المشكلات وتقويض الجنايات؟! مع أنّ الملاحظ يعترف أنّه قد أدى تطبيق هذه العقوبة إلى نتائج خطيرة وجلبت مشاكل دقيقة :

منها : قتل الشعور بالمسؤولية في نفوس المجرمين ، وأنّها سببت زيادة في سلطان المجرمين وإفسادا للمسجونين ، وأوجبت انعدام قوة الردع إلى غير ذلك من المشاكل ، وبعد ذلك كله فهل يمكن الاستفادة من المجرمين؟!

ولعمري انه لا يمكن تفضيل أي قانون على القانون الإسلامي لما عرفت من أنه يراعى فيه جميع جوانب الحياة ، وما أورد عليه يكون من قبيل الشبهة في البديهيات ، قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج ، الآية : ٤٦].

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

الآية تبين حكما قد لوحظ فيه الجانب المادي والاجتماعي ، ولذا أكد عزوجل عليه ، وأوعد على من يبدله ، وأمر بإصلاحه إن كان فيه الانحراف ، ويناسب هذا الحكم ما تقدم في الآيات السابقة باعتبار أنّ القصاص يوجب إزهاق الروح ، وإنّ الوصية توجب استمرارية التصرف لما بعد الموت.

التفسير

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). المراد بالكتابة هنا الثبوت الشرعي ، وهو أعم من الوجوب والندب وتستعمل في كل منهما مع

القرينة ، والمنساق في المقام عدم الوجوب بقرينة كون الوصية للوالدين والأقربين من أنحاء البر. نعم لو كان المورد واجبا كالديون المالية تكون الوصية واجبة ، كما قرر في الفقه مفصلا.

ومادة حضر تأتي بمعنى وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك بإحدى الحواس ، وهي من الصفات ذات الإضافة المتقومة بأكثر من واحد. ويعم استعمال هذا اللفظ بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، والخالق والمخلوق فإن من أسماء الله الحسنى [حاضر] فهو تعالى حاضر لدى الخلق بالحضور الإيجادي الإحاطي ، كما أن الخلق حاضر لديه تعالى بالحضور العلمي. وقال تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨] ، وقال تعالى : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [سورة يس ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٠].

ولو قيل إنّ الحضور بمعناه العام الشامل لجميع الموجودات ـ من الجواهر والأعراض والواجب والممكن ـ هو شعاع من حضور الأحدية المطلقة فيما سواها لكان حقا ، فالكل منه تعالى والجميع يعود إليه عزوجل ، ولعلنا نتعرض لهذا البحث النفيس في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

والمراد من حضور الموت حصول موجباته التي ليس لها حد محدود. وقد نسب الحضور إلى الموت في هذا المقام ، والآيات التي ذكر فيها حضور الموت ولم ينسب إلى الشخص ، ولعله لعدم تهيئة النفوس واستعدادها له ، أو لعدم أنسها به كما هو الشأن بالنسبة إلى أولياء الله تعالى ، فقد نسب إلى علي (عليه‌السلام) انه قال : «والله ان ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ما يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه».

قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) الخير معروف أي كل ما فيه نفع ، وهو من الأمور النسبية الإضافية التشكيكية ، وله مراتب كثيرة.

والمراد به كل ما فيه النفع عينا كان أو منفعة ، ولكن نسب إلى

علي (عليه‌السلام) أنه فسره بالمال الكثير في المقام ، ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى : (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). فإن الوصية لهم تقتضي عادة أن يكون المال كثيرا دون المال القليل أو مطلق ما فيه النفع ، فإنّ النّاس لا يهتمون بذلك ، فما قاله علي (عليه‌السلام) من باب تعدد الدال والمدلول ، لا أن يكون معنى لغويا.

وقوله تعالى : (لِلْوالِدَيْنِ) أي بما هما والدان لا باعتبار الاجتماع كما أن قوله تعالى : (وَالْأَقْرَبِينَ) باعتبار النّاس لا التقييد بالجمع.

وتقدم معنى الوصية في قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٢].

المعروف : هو العدل ، وعدم الإفراط والتفريط في كل من الموصى اليه بأن لا يرجح أحدا على احد ، والموصى به بأن لا يكون مجحفا بالورثة أو قليلا يوجب الاستخفاف.

قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). حقا منصوب على المصدر المؤكد ، أو على تقدير الفعل أي يحق ذلك حقا ، أو حال من الوصية وهو تأكيد للكتابة.

وذكر المتقين لبيان أنّ التقوى هي موضوع كل عمل ينتفع به في الآخرة لا لتخصيص الوصية بهم فقط.

قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ). التبديل التغيير مطلقا ويشمل الإنكار والكتمان بالأولى. والضمير في إثمه راجع إلى التبديل وسائر الضمائر إلى الوصية ، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان أو إلى الإيصاء المدلول عليه بذكر الوصية.

والمراد من قوله عزّ شأنه (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي من بعد ما تمت عنده الوصية ولو بالبينة.

قوله تعالى : (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). أي أنّ الإثم المترتب على التبديل والمخالفة على الذين يبدلونه ، وأما الموصي فقد خرج عن

العهدة وثبت له الأجر. وفيه التفات من الأفراد ، لبيان تعميم الإثم للمباشر للتبديل ، وكل من يرتب عليه الأثر بالقول أو العمل ؛ فيكون كالربا الذي لعن الله دافعه ، وآخذه ، وشاهده وكاتبه. أو كالخمر التي لعن الله شاربها ، وصانعها ، وغارسها. وبالجملة ، التبديل سواء كان فرديا ، حدوثا وبقاء ، أو كان جميعا حدوثا وفرديا بقاء ، أو بالاختلاف. وسواء كان بالقول أو بالعمل كل ذلك حرام يشمله إطلاق الآية الشريفة.

وإنما ذكر تعالى : (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ولم يقل عليهم للاعلام بأن سبب الإثم إنما هو التبديل ، وترتيب الأحكام التالية.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي : إنّ الله سميع بإيصاء الموصين ، عليم بتبديل المبدلين وفيه من الوعد للموصين ، والوعيد للمبدلين.

وقد جمع تعالى بين السمع والعلم اهتماما بهذا العمل الذي هو آخر ما يفعله العبد في هذه الدنيا وللإعلام بأن الموصي وإن لم يكن حاضرا ولكن الله تعالى عالم بالوصية رقيب عليها.

وفي الآية إشارة إلى انه تعالى عالم بالجزئيات كما أنه عالم بالكليات.

قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً). الجنف هو الانحراف والميل من الإستواء والاستقامة إلى الخلاف ، أو الميل عن الحق إلى الباطل فيشمل الظلم في الحكم ، ولم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلّا في موردين : أحدهما في المقام ، والثاني في قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [سورة المائدة ، الآية : ٣].

وعن الخليل إن الجنف الميل عن الحق إلى الباطل في الحكم ، والحيف مطلق الميل عن الحق إلى الباطل في كل شيء.

ومن مقابلة الجنف مع الإثم يستفاد أنّ الميل عن الحق إلى الباطل قسمان : قسم فيه إثم ، وهو ما إذا كان الميل عن تقصير ؛ وقسم آخر لا إثم فيه ، وهو ما إذا كان ذلك عن قصور ، كالجهل ونحوه.

والمراد بالخوف هنا الاطمينان بوقوع المخوف من باب ذكر اللازم

وإرادة الملزوم وهو كثير في كلام الفصحاء.

والخطاب متوجه إلى أولياء الأمور ، ومع العدم أو القصور فإلى حكام الشرع ، أو يقال : إنّ الخطاب موجه إلى كل من يعرف حال الوصية ، سواء أكان من الورثة أم من غيرهم.

والآية متفرعة على الآية السابقة فإنّه لما حكم تعالى بالإثم على كل من بدّل الوصية استثنى منه حالة ، وهي ما إذا كانت الوصية خارجة عن المعروف ، وفيها الجنف أو الإثم ، فيجوز التبديل للإصلاح وإزالة التنازع ، فلا إثم في هذه الحالة.

قوله تعالى : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). أي : إذا عرف كمال الوصية فأصلحها بتبديل الجنف والإثم حسب الموازين الشرعية فلا إثم عليه ؛ لأنه من تبديل الباطل إلى الحق ، وإزالة المفسدة بالمصلحة والإصلاح بين حق الموصى له والموصي والورثة. ومن كان صالحا في قصده ومصلحا في فعله فلا إثم عليه.

وذكر تعالى الصلح للدلالة على الترغيب والتحريض اليه وهو مما يحكم بحسنه العقل والفطرة ، فاكتفى برفع توهم الحظر ، لأن جهة الوجوب في مثل هذه الحالة معلومة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). للمذنبين ، وهو عام يشمل الإثم الواقع في أصل الوصية التي تحقق فيها الجنف ، وإثم الإصلاح والتبديل في الوصية ، فانه يكون بمنزلة التوبة فالله يغفر للمصلح ، وللموصي ويثيبه على عمله.

بحوث المقام

بحث علمي :

المشهور بين العلماء أن قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يدل على وجوب الوصية ، وأن لسان الآية لسان الوجوب ، ثم قالوا إنها منسوخة بآية المواريث ، وهي قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [سورة النساء ، الآية : ١١] ، فان الأخيرة نزلت بعد الأولى ، وبالسنة فقد ورد في الحديث : «لا وصية لوارث».

وذكر بعضهم أنها لو كانت منسوخة فالمنسوخ إنما هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية.

وذكر بعض آخر أن الوجوب المذكور في الآية الشريفة كان في بدء الأمر وأوائل تغيير الشريعة لمواريث الجاهلية ، فالحكمة اقتضت ان يكون التغيير تدريجيا بنحو الوصية أولا ثم بأحكام المواريث.

والحق أن يقال : إنّ آية الوصية غير منسوخة بشيء لا بآية المواريث ، ولا بالنسبة الشريفة ، وآية الوصية تدل على محبوبيتها ، والكتابة يراد بهاهنا مطلق الثبوت الأعم من الوجوب والندب ، كما ذكرنا ، فقد تكون الوصية واجبة كما في الوصية بالحقوق الواجبة. وقد تكون مندوبة كما في الوصية بالتبرعيات ، وفي الأخيرة يشترط أن لا تكون أكثر من ثلث المال ، وفي الأولى لا يشترط فيها ذلك بل لا بد وأن تخرج من جميع المال ، ولا ربط لآية الإرث بآية الوصية وهما موضوعان مختلفان فأين يتحقق النسخ؟ مع أنّ الإرث متأخر عن الدين والوصية.

وما ذكروه من تأخر آية الإرث عن آية الوصية فتكون منسوخة.

ففيه أولا : أنه لم يثبت ذلك.

وثانيا : على فرض الثبوت لا فرق بين الناسخ والمنسوخ في المتقدم والمتأخر بينهما ، كما تقدم في بحث النسخ.

وأما الاستدلال بالسنة على نسخ آية الوصية.

ففيه : أولا : عدم ثبوته ، كما ذكر جمع من علماء الفريقين.

وثانيا : أن حديث : «لا وصية لوارث» يمكن حمله على أنه لا وصية لوارث إذا كان أكثر من الثلث.

والحاصل : أن آية الوصية غير منسوخة بشيء. نعم بين أحكام المواريث والأحكام المتعلقة بالوصية جهات لا بد من مراعاتها كما هو مفصل في الفقه.

بحث فقهي :

يستفاد من الآية أمور :

الأول : تدل الآية على رجحان الوصية والاهتمام بها وقد أكد تعالى عليها بأنحاء التأكيد ، كما ورد في السنة المقدسة أيضا ، ولا بد أن يراعى فيها جميع الشروط المذكورة في الكتب الفقهية ، منها العدل والمعروف ، وعدم الإضرار بالورثة كما يستفاد من قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ).

الثاني : أنّ الوصية في الآية الشريفة هي الوصية التمليكية لما ذكر فيها الخير. وأما الوصية العهدية فلا يشترط فيها وجود المال ، بل يكفي فيها وجود نفع للموصي.

الثالث : إطلاق الآية الشريفة يشمل الوصية بالقول ، أو الكتابة أو الإشارة المفهمة مع العذر.

الرابع : تدل الآية على عدم تقوم الوصية بالوصي بل تتحقق بدونه ، والمعتبر إنفاذ الوصية ولو من قبل الحاكم الشرعي.

الخامس : يستفاد من الآية الشريفة حرمة التبديل وأنه من الكبائر وقد دلت عليه نصوص خاصة.

السادس : يمكن أن يكون الإذن في الإصلاح من باب الإرشاد إلى الحكم إن كان الموصي جاهلا بالحكم ، ويصح أن يكون من باب النهي عن المنكر ان كان عالما به ، ويصح تصديه من كل أحد يعرف الحكم. ولا بد أن يكون هذا الإصلاح مطابقا للموازين الشرعية ، والا فلا يجوز ، فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الصلح جائز بين المسلمين ما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا».

بحث روائي :

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «الوصية حق وقد أوصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فينبغي للمسلم أن يوصي».

أقول : الروايات في استحباب الوصية ورجحانها كثيرة ، وفي بعض الروايات عن علي (عليه‌السلام) : «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية». والمراد بالمعصية مطلق العمل المرجوح لا العصيان الموجب لاستحقاق العقاب.

وفي الكافي أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «سألته عن الوصية للوارث ، فقال (عليه‌السلام) : تجوز ثم تلا هذه الآية : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)».

أقول : قد روي قريب من ذلك في عدة روايات.

وفي الفقيه عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). قال (عليه‌السلام) : «هو شيء جعله الله عزوجل لصاحب هذا الأمر قلت : فهل لذلك حد؟ قال (عليه‌السلام) : نعم. قلت : وما هو؟ قال (عليه‌السلام) : أدنى ما يكون ثلث الثلث».

ومثله في تفسير العياشي إلّا أن فيه أدناه «السدس وأكثره الثلث».

أقول : المستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ الوصية في قوله تعالى تشمل وصية السابق للاحق بأصول الإعتقاد بذوي القربى ، كما في قوله تعالى : (وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) وحيث لا نبوة بعد نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتكون الوصية حينئذ بالنسبة إلى ذوي قرباه.

وأما تفسير المال بالسدس ، أو الثلث ، وهو أيضا صحيح من باب تطبيق الكلي على بعض المصاديق ، والا فقد ورد في روايات أخرى أن أدناه الربع. وليس ذلك في مقام التحديد والحصر ، بل المراد بيان أنّ المال

الموصى به يكون معتنى به في الجملة ، كما ذكرنا في التفسير.

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). قال (عليه‌السلام) : «هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هو المواريث».

أقول : يمكن أن يحمل النسخ في المقام على غير معناه الاصطلاحي كما يمكن أن يحمل على نسخ بعض مراتب الإلزام ، دون أصل الرجحان أو الوجوب في مورد وجوب الوصية كما في الوصية بالديون.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) : إنما هي منسوخة بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

أقول : تقدم وجه ذلك.

في تفسير القمي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا أوصى بوصية فلا يحل للوصي أن يغير وصيته ، بل يمضيها على ما أوصى ، إلّا أن يوصى بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم ، فالموصى اليه جائز له أن يرده إلى الحق. مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق ، وهو قوله تعالى : (جَنَفاً أَوْ إِثْماً). فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض ، والإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران ، واتخاذ المسكر ، فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك».

أقول : ما ذكر في بيان الجنف والإثم من باب ذكر بعض المصاديق ، كما هو معلوم. ويستفاد من لفظ «فأصلح» الوارد في الآية الشريفة أنّ كل ما يكون خلاف الصلاح الشرعي يجري عليه حكم الجنف.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «في رجل أوصى بماله في سبيل الله ، فقال (عليه‌السلام) : أعطه لمن أوصى به له وإن كان يهوديا أو نصرانيا إنّ الله تعالى يقول : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة ، ولا بد من تقييدها بما إذا لم يكن صرف المال إليهم من الصرف إلى المحرم ، كما يظهر من سائر الروايات.

في تفسير العياشي عن محمد بن سوقة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). قال (عليه‌السلام) : «نسختها التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني : الموصى اليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده في ما أوصى به اليه في ما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه ، أي على الموصى اليه أن يبدله إلى الحق ، وإلى ما يرضى الله به من سبيل الخير».

أقول : المراد بالنسخ التقييد ، لا النسخ الاصطلاحي.

في العلل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). قال (عليه‌السلام) : «يعني : إذا اعتدى في الوصية».

أقول : ومثله في تفسير العياشي إلّا أن فيه «وزاد على الثلث». وما ورد في الروايتين من باب ذكر بعض مصاديق الجنف ، وليس من جملتهما ما إذا لم يمض الورثة ما زاد عن الثلث ، وإلّا فلا إثم حينئذ.

وفي المجمع : «الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري انه يجوز ، قال : روي ذلك عن أبي جعفر (عليه‌السلام).

أقول : هذا لا إثم فيه إن كان خطؤه مع قصور ، وأما إذا كان مع التقصير فيكون مثل الرواية الآتية.

في الفقيه أيضا عن علي (عليه‌السلام) : «أنّ الجنف في الوصية من الكبائر».

أقول : يستفاد ذلك من عدة روايات. والله العالم.

المحتويات

فهرس الجزء الثاني

من مواهب الرحمن في نفسير القرآن

[سورة البقرة الآية ـ ١٢٤]

(إبراهيم) ومعناه وتکراره في الكتب المقدسة.......................................... ٥

الكلمات : والمراد منها في الآية المباركة............................................... ٧

الجعل : والمراد منه وموارد استعماله.................................................. ٨

الإمامة ومعناها.................................................................. ٩

الظلم بأقسامه مانع عن الاتصاف بمنصب الإمامة.................................. ١٢

بحوث المقام

بحث دلالي : وفيه ما يستفاد من الآية المباركة...................................... ١٤

بحث روائي: وفيه ما ورد من الروايات التي تتعلق بالآية الشريفة........................ ١٥

بحث أدبی: وفیه بیان متعلق «إذ» في الآية المباركة.................................. ١٨

بحث كلامي : وفيه معنى الإمامة.................................................. ١٩

[سورة البقرة ١٢٥ ـ ١٢٦]

المراد من البيت ومعني المثابة. وجه التعبير بالاتخاذ الوارد في الآبة المباركة................. ٢١

المراد من المقام الوارد فيها. معني العهد ، وتطهير البيت............................... ٢٤

البلد ومعناه والسر في اختلاف استعماله تارة معرفة وأخرى نكرة....................... ٢٦

الأمن ومعناه واستعماله في الحرم................................................... ٢٦

الرزق ومعناه. معنى الأهل........................................................ ٢٧

الوجه في اختصاص دعاء إبراهیم (عليه السلام) بأم القری........................... ٢٩

الرزق العام الإلهي لا يختص بالمؤمنين.............................................. ٢٩

يستفاد من الآية المباركة أن الأعمال كسبيّة وآثارها ضرورية ، والسر في نسبة الاضطرار إليه تعالی     ٣٠

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة..................................... ٣٠

بحث روائي: وفيه ما ورد من الروايات في معنى الأمن وصلاة الطواف ، والتطهير والثمرات. ٣١

بحث تاريخي : وفيه ما يتعلق بمقام إبراهیم (عليه السلام) وموضعه..................... ٣٢

بحث فقهي : وفيه ما يتعلق بصلاة الطواف........................................ ٣٤

[سورة البقرة ـ ]

المراد من القواعد ورفعها.......................................................... ٣٥

معنى السميع إن أضيف إلیه تعالی................................................ ٣٥

الإسلام ومعناه وما له من الدرجات............................................... ٣٦

معنى الرؤية في الآية المباركة معنى البعث الوارد في الآية الشريفة........................ ٣٨

التزكية ومعناها................................................................. ٣٩

العزيز ومعناه................................................................... ٤٠

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآية المباركة....................................... ٤١

بحث روائي : وفيه ما يتعلق ببناء البيت ومقام إبراهيم (عليه السلام) والحجر الأسود، والثمرات الواردة في الآية المباركة، والمراد من الجنة التي نزل

منها الحجر الأسود والقواعد البيت................................................ ٤٢

معنیى الروايات الواردة من أن الحجر الأسود أخرج من الجنة ووضع الميثاق والعهد فيه..... ٤٦

بحث علمي: وفيه أن الروايات لا تخالف ظواهر القرآن ، ولاجه لرمي جميعها بالضعف... ٤٩

بحث فلسفي : عملي يتعلق بالعبادات التي شرعت في الإسلام........................ ٥٠

بحث تاريخي : وفيه أن الكعبة كانت لها أهمية واحترام عند الأمم قبل الإسلام........... ٥١

[سورة البقرة ١٣٠ ـ ١٣٦]

الرغبة ومعناها.

الصالح ومعناه في القرآن......................................................... ٥٢

المراد من القول الوارد في الآية المباركة............................................... ٥٥

الوصية ومعناها................................................................. ٥٦

الإله ومعناه واشتفاقه............................................................ ٥٧

الأمة ومعناها واختلاف استعمالها باختلاف المتعلق.................................. ٥٩

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآيات........................................... ٦٠

بحث روائي: وفيه معني الإسلام وحقيقته........................................... ٦١

بحث علمي: وفيه أن المراتب المتفاوتة كما هي ثابتة في الأعراض والاعتباريات كذلك ثابتة في الجواهر والأدیان ٦٣

بحث فلسفي: وفيه أقسام الوحدة................................................. ٦٤

بحث أدبی: وفيه أن السفه من متحد المعني وإعراب كلمة نفسه الوارد في الآية المباركة ، والفرق بين الواحد والأحد      ٦٤

[سورة البقرة ١٣٥ ـ ١٤١]

الحنف ومعناه.................................................................. ٦٧

السبط ومعناه وهل الأسباط كانوا أنبياء؟........................................... ٦٨

الشقاق ومعناه وأن له مراتب وأن الآية الشريفة تبين برهاناً عقلياً...................... ٧١

الصبغة ومعناها................................................................. ٧٣

الكمالات النفسية وأقسامها..................................................... ٧٤

الإخلاص ومعانيه ومراتبه........................................................ ٧٥

الآية المباركة تبين منشأ نزاع الكفار وتخاصمهم مع دين الإسلام....................... ٧٧

المراد من المشهود في الآية الشريفة................................................. ٧٩

استحالة الغفلة بالنسبة إليه تعالي وليس من المحال تغافله عز وجل عن سيئات عباده..... ٧٩

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه أن الآية تضمنت كيفية المحاورة والمجادلة............................ ٨٠

بحث روائي: وفيه ما ورد في معنى الحنيفية وما ورد في نزول الآية ، وأن الأسباط أولاد الأنبياء ، وما ورد في معنی الصبغة ٨١

بحث فلسفي : وفيه أن قاعدة «أن الذاتي غير قابل للغي ير والتبديل» لا تجري في القدرة الأزلية      ٨٣

[سورة البقرة ١٤٢ ـ ١٤٥]

السفه ومعناه ، وأن الآية المباركة في مقام تقديم الإخبار على الإعتراض. الوسط ومعناه... ٨٥

هل الآية المباركة تعني تمام الأمة أو بعضها؟ والمراد من الإشهاد فيها.................... ٨٨

جعل الأمة وسطاً يتصور على أقسام :............................................ ٩٠

الوجه في إتيان لفظ على في الآية المباركة. الوجه في إتيان شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة. الخطاب في الآية الشريفة عام موجه لجميع الأمة.......................................................................... ٩١

الشهادة التكوينية واحتمال جريانها في المقام. الشهادة في يوم الحشر لا تنحصر بالرسول (ص) والأمة ٩٤

ما أورد على الشهادة في يوم الحشر والجواب عنه.................................... ٩٤

الآية المباركة في مقام بيان بعض الحكمة في جعل القبلة كان عليها..................... ٩٥

الوجه التعبير ب «نعلم» الوارد في اللآيات الشريفة مع أن علمه أزلي.................. ٩٦

الفرق بين الرأفة والرحمة. الآية الكريمة لاتدل على أن القبلة الأولى غير مرضية. الشطر ومعناه والمراد من المسجد الحرام   ٩٨

الحق ومعناه. الغفلة ومفهومها................................................... ١٠٠

بحوث المقام

بحث دلالي: يستفاد من مجموع الآيات أمور تسعة................................. ١٠٣

الآيات المباركة لا تدل على حرمة التأمل والتفكر في علل الأحكام................... ١٠٤

السر في التعبير به «الوجه» في الآية الشريفة...................................... ١٠٥

بحث علمي: وفيه الرءوف من الأسماء الحسنى والرءوف من صفات الذات ولا يصح استعماله بالمعنى اللغوي فيه تعالی   ١٠٧

بحث روائي: وفيه ما ورد في تحويل القبلة ومقدار الزمن الذي صلى فيه النبي اتجاه بيت المقدس. وما ورد في معنى الوسط  ١٠٨

بحث فقهي : يتعلق بالشطر والقبلة.............................................. ١١٣

بحث أدبي : وفيه الوجه في تكرار لفظ اللام في الآية المباركة......................... ١١٤

[سورة البقرة ١٤٦ ـ ١٥٠]

ما يستفاد من الآية الشريفة.................................................... ١١٧

الحق ووجوه استعماله في القرآن الكریم............................................ ١١٨

المرية ومعناها. توجيه الخطاب وإن كان للنبي (ص) ولكن المراد وغيره. السبق ومعناء.... ١١٩

الخير ومفهومه وأنه من الأمور الإضافية........................................... ١٢٠

كلمة «أينما» الواردة في الآية الشريفة ومعناها وأنها من مظاهر قيمومته وإحاطته...... ١٢٣

الآيات الشريفة تشير إلى علوم. كلمة «حيث» وموارد استعمالها. الوجه في تكرار الآية المباركة. الاستثناء في الأية المباركة على وجهين............................................................................ ١٢٤

حكمة تشریع القبلة نحو الكعبة. الخشية ومعناها. معنى النعمة....................... ١٢٦

الترجي ونسبته إليه تعالی...................................................... ١٢٩

بحوث المقام

بحث أدبي: وفيه ما يتعلق بالالتفات ومعناه وشرائطه وأنواعه......................... ١٢٩

الانتقال وأقسامه.............................................................. ١٣٠

بحث روائي : وفيه ما ورد من الروايات في نزول الآية وما ورد في معنی الخيرات وغيرها... ١٣٣

بحث فلسفي : وفيه ما يتعلق بالجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها.................... ١٣٤

بحث علمي: وفيه أهمية القبلة وعظم أمرها....................................... ١٣٦

القبلة أمر اجتماعي........................................................... ١٣٧

الحكمة في تشريع القبلة........................................................ ١٣٨

تحويل القبلة.................................................................. ١٣٩

زمان تحويل القبلة............................................................. ١٤٠

تعيين القبلة.................................................................. ١٤١

[سورة البقرة ١٥١ ـ ١٥٢]

الرسول ومعناه والفرق بينه وبين النبي............................................. ١٤٢

التلاوة ومعناها................................................................ ١٤٤

التزكية ومعناها................................................................ ١٤٥

للتزكية مراتب والسر في تقديمها وتأخيرها في الآيات المباركة. الحكمة ومعناها.......... ١٤٦

الآية المباركة تحتوي على أصول التربية. الذكر ومعانيه.............................. ١٤٦

أقسام الذكر. المتعلق في قوله تعالى : «اذكرکم»................................... ١٤٧

ترتب قوله تعالى : «اذكروني» على قوله عزوجل «وأذكرکم»....................... ١٤٩

الشكر وأقسامه............................................................... ١٥٢

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه ما تتضمن الآيات المباركة من الأمور............................. ١٥٤

بحث روائي: وفيه ما ورد في فضل الذكر وشأنه ومراتبه............................. ١٥٥

بحث عرفاني : وفيه أن الذكر من أجل مقامات العارفين وأقسامه عندهم.............. ١٥٩

بحث علمي: وفيه أن الآية المباركة تتضمن أهم مناهج تربية الإنسان واستكماله....... ١٦٠

[سورة البقرة ١٥٣ ـ ١٥٧]

معني الصبر في الآية المباركة. الاستعانة بالصلاة نحو ارتباط بالغيب................... ١٦٣

لفظ «مع» واختلاف معانیه باختلاف الإضافات................................. ١٦٤

المراد من سبيل الله. الحياة والمراد منها وأقسامها. الشهادة ومعناها.................... ١٦٥

المراد من الثمرات. الآية الشريفة لا تناقض قانون السببية والمسببية في دار الدنيا. حكمة اختباره تعالي للناس    ١٦٩

الوجه في إطلاق البشارة بالنسبة إلى الصابرین..................................... ١٧٠

المصيبة ومعناها. معنى الاسترجاع في قوله تعالي : «إنا لله وإنا إليه راجعون» الرجوع إليه تعالى أما أختياري أو غير اختياري       ١٧١

ما ورد في بعض مراتب البشارة.................................................. ١٧٢

بحوث المقام

بحث دلالي : وفيه أن الآية المباركة تدل على أمور ثمانية :.......................... ١٧٣

بحث روائي: وفيه ما ورد في فضل الصبر أو الصوم. والصلاة ، وما ورد في الحياة البرزخية. وأن الأرواح في الجنة على صور أبدانهم في الدنیا........................................................................ ١٧٥

ما ورد في تفسير الآية من بعض علامات ظهور القائم ماورد في أن المقتول في سبيل ال له حي مرزوق ١٧٧

ما ورد في فضل الاستراجاع..................................................... ١٧٨

بحث فلسفي: في تجرد النفس................................................... ١٨٠

تقسيم الموجود................................................................ ١٨١

تقسيم آخر للموجود.......................................................... ١٨٢

المراد من النفس............................................................... ١٨٤

تعدد النفس والجسد........................................................... ١٨٥

معني التجرد.................................................................. ١٨٥

الأدلة على تجرد النفس........................................................ ١٨٥

ثمرة البحث.................................................................. ١٨٧

[سورة البقرة الآية ـ ١٥٨]

الصفا والمروة ومعني كل منهما................................................... ١٨٩

السر في التعبير ب «لاجناح» مع أن السعي فريضة. وجه تقديم السعي في القرآن على سائر أعمال الحج      ١٩٠

التطوف ومعناه............................................................... ١٩١

بحوث المقام

بحث روائي: وفيه وجه تسمية الصفا وما ورد في أن السعي واجب................... ١٩٢

بحث فقهي: وفيه أن السعي بين الصفا والمروة عمل عبادي وواجب ومعنی السعي بينهما ١٩٤

[سورة البقرة ١٥٩ ـ ١٦٢]

المراد من الكتاب في الآية الشريفة............................................... ١٩٦

اللعن ومعناه والمراد من (اللاعنون). الكتمان وأقسامه.............................. ١٩٦

التوبة واختلاف معناها إن أضيف إلى الله تعالي أو إلى الفاعل....................... ١٩٧

الآية تدل على اعتبار أمرين في التوبة............................................ ١٩٨

لعن الملائكة. الخلود ومعناه. الفرق بين الدوام والخلود.............................. ١٩٩

العذاب ومعناه................................................................ ٢٠١

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآيات الشريفة أمور.............................. ٢٠١

بحث روائي : وفيه ما ورد في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ)..... ٢٠٢

بحث كلامي: وفيه أن التوبة أول منزل من منازل السائرين إلى ال له تعالی............ ٢٠٤

التوبة وتعريفها وحقيقتها....................................................... ٢٠٥

وجوب التوبة................................................................. ٢٠٧

فورية وجوب التوبة............................................................ ٢٠٨

شروط التوبة................................................................. ٢٠٩

قبول التوبة................................................................... ٢١٠

موارد التوبة................................................................... ٢١٢

زمان التوبة................................................................... ٢١٤

السبل لمحو الذنوب............................................................ ٢١٥

التبعيض في موارد التوبة........................................................ ٢١٧

صيغ التوبة. أقسام التوبة ومراتبها............................................... ٢١٨

التوبة في الأديان السماوية..................................................... ٢١٩

[سورة البقرة ١٦٣ ـ ١٦٤]

الواحد ومعناه والفرق بينه وبين الأحد............................................ ٢٢٠

الخلق ومعانیه................................................................. ٢٢٢

السموات ومعناها............................................................. ٢٢٢

الفلك ومعناه................................................................. ٢٢٤

المراد من حياة الأرض. التصريف ومعناه. الرياح وأقسامه............................ ٢٢٥

بحوث المقام

بحث دلالي : وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة أمور تسعة ماورد في الآية المباركة من الأسماء الحسني، كما ورد فيها أصول الخلق  ٢٢٧

بحث أدبي : وفيه ما يتعلق بجملة «لا إله إلا هو»................................. ٢٣٠

بحث قرآني: وفيه أن القرآن يحث على التفكر بالنسبة إلى الخالق. ما اعتقده الإنسان في عصر التنزيل بالنسبة إلى الطبيعة والإله  ٢٣١

ما يستفاد من القرآن في ذلك................................................... ٢٣٣

توصيف القرآن المبد بأمور...................................................... ٢٣٤

بحث روائي : وفيه ما ورد في معنى البينات. وما ورد في إطلاق الواحد على الله تعالی... ٢٣٥

بحث فلسفي: وفيه أنه تعالی واحد في وجوده وسائر صفاته......................... ٢٣٧

[سورة البقرة ١٦٠ ـ ١٦٧]

الندي ومعناه. الحب وتفسيره................................................... ٢٣٨

محبته تعالى من صفات فعله..................................................... ٢٣٩

الآية المباركة تشير إلى غريزة من الغرائز في الإنسان................................. ٢٤١

الحسرة ومعناها............................................................... ٢٤٥

بحوث المقام

بحث دلالي: وفيه أن الآية الشريفة تتضمن أمورا................................... ٢٤٥

بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآيات من الروایات............................. ٢٤٧

بحث فلسفي : وفيه معنى القسر وأنه على قسمين................................. ٢٤٧

بحث عرفاني : وفيه معنى الحب وأقسامه.......................................... ٢٤٩

[سورة البقرة ١٦٨ ـ ١٧١]

الشيطان والمراد منه وأنه العدو للإنسان.......................................... ٢٥٣

السوء والمراد منه.............................................................. ٢٥٦

ما يحتمل في المثل الوارد في الأية الشريفة.......................................... ٢٥٩

بحوث المقام

بحث دلالي : وفيه أن الآيات الشريفة تشير إلى أمور............................... ٢٥٩

بحث أدبي : وفيه ما يتعلق بالاستفهام وأدواته..................................... ٢٦١

بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآيات الشريفة من الروايات...................... ٢٦١

بحث فقهي: وفيه ما استدل بالآيات الشريفة على إباحة الأشياء، وما استدل بها على بطلان التقليد وأن المراد من التقليد في المقام............................................................................ ٢٦٣

بحث اجتماعي: وفيه أن المتابعة والتقليد من سنن الاجتماع ومورد ذلك.............. ٢٦٤

[سورة البقرة ١٧٢ ـ ١٧٣]

الطيب ومعناه................................................................ ٢٦٦

الشكر ومعناه وأنه من العبادات................................................. ٢٦٦

اختصاص الشكر لله تعالى كاختصاص العبادات له................................ ٢٦٧

حرمة الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله تعالى............................... ٢٦٨

البغي ومعناه وأقسامه.......................................................... ٢٧٠

بحوث المقام

بحث دلالي ، وفيه أن الآيات الشريفة تتضمن أموراً................................

بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآيات الشريفة من الروايات......................

بحث فقهي: وفيه أن الآيات تدل على جملة من الأحكام. الاضطرار على قسمين وأنه محدود ٢٧٤

[سورة البقرة ١٧٦ ـ ١٧٤]

التعجب ومعناه ونسبته إلى الباري تعالي.......................................... ٢٧٩

قاعدة فلسفية................................................................ ٢٨١

إعراب كلمة «ذلك» الواردة في الآية الشريفة.....................................

بحث دلالي : وفيه أن الآية المباركة تدل على أمور................................. ٢٨٢

بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآية الشريفة من الروايات........................

[سورة البقرة الآية ـ ]

الآية المباركة تشتمل على مقاطع ثلاثة. البر ومعناه................................. ٢٨٤

بحوث المقام

بحث دلالي : وفيه أن ما يستفاد من الآية المباركة أمور............................. ٢٩٣

الآية المباركة تتضمن أصول الإنسانية التي هي أساس الفلسفة العملية وأنها تسعة....... ٢٩٤

بحث أدبي: يتعلق بالآية المباركة.................................................

بحث فقهي : وفيه أن الآية المباركة تدل على جملة من الأحكام...................... ٢٩٨

بحث روائي : وفيه ما ورد في تفسير الآية المباركة من الروايات........................

بحث قرآني : وفيه أن المراد من الإيمان الذي حث عليه القرآن وما يترتب عليه من الآثار ٣٠١

بحث أخلاقي تتضمنه الآية المباركة.............................................. ٣٠٤

المذاهب الأخلاقية............................................................ ٣٠٤

الاتجاه العقلي................................................................ ٣٠٥

الاتجاه المادي................................................................. ٣٠٥

الاتجاه الصوفي. المفهوم الأخلاقي في القرآن....................................... ٣٠٧

خصائص الأخلاق في القرآن................................................... ٣٠٧

الإنسان كائن اخلاقي......................................................... ٣٠٩

الاعتدال في الأخلاق.......................................................... ٣١٠

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة................................................ ٣١٢

[سورة البقرة ـ ]

القصاص معناه اللغوي والشرعي................................................ ٣١٥

الخطاب يشمل الوضعي والتكليفي.............................................. ٣١٦

الفرق بين العفو والغفران....................................................... ٣١٧

اللب ومعناه.................................................................. ٣٢٠

بحوث المقام

بحث أدبي: يتعلق بالأية الشريفة................................................ ٣٢٢

بحث فقهي: وفيه أن الآية المباركة تتضمن أحكاماً.................................

بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآية المباركة من الروايات......................... ٣٢٤

بحث علمى: وفيه أن حكم القصاص في الإسلام راعي جميع جوانب الغرائز الموجودة في النفس كما راعي جانب القاتل والمقتول  ٣٢٥

ما ورد على تشريع القصاص والجواب عنه........................................ ٣٢٨

[سورة البقرة ـ ]

المراد من الكتابة في الآية المباركة. الجنف ومعناه.................................... ٣٣٠

بحوث المقام

بحث علمي: وفيه أن الآية الشريفة ليست منسوخة................................ ٣٣٤

بحث فقهي: وفيه أن الآية المباركة تدل على أمور ستة :............................ ٣٣٦

بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآية الشريفة من الروايات........................ ٣٣٧

* * *

* *

*

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ٢

المؤلف: آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الصفحات: 356
  • [سورة البقرة الآية ـ 124]
  • (إبراهيم) ومعناه وتکراره في الكتب المقدسة 5
  • الكلمات : والمراد منها في الآية المباركة 7
  • الجعل : والمراد منه وموارد استعماله 8
  • الإمامة ومعناها 9
  • الظلم بأقسامه مانع عن الاتصاف بمنصب الإمامة 12
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي : وفيه ما يستفاد من الآية المباركة 14
  • بحث روائي: وفيه ما ورد من الروايات التي تتعلق بالآية الشريفة 15
  • بحث أدبی: وفیه بیان متعلق «إذ» في الآية المباركة 18
  • بحث كلامي : وفيه معنى الإمامة 19
  • [سورة البقرة 125 ـ 126]
  • المراد من البيت ومعني المثابة. وجه التعبير بالاتخاذ الوارد في الآبة المباركة 21
  • المراد من المقام الوارد فيها. معني العهد ، وتطهير البيت 24
  • البلد ومعناه والسر في اختلاف استعماله تارة معرفة وأخرى نكرة 26
  • الأمن ومعناه واستعماله في الحرم 26
  • الرزق ومعناه. معنى الأهل 27
  • الوجه في اختصاص دعاء إبراهیم (عليه السلام) بأم القری 29
  • الرزق العام الإلهي لا يختص بالمؤمنين 29
  • يستفاد من الآية المباركة أن الأعمال كسبيّة وآثارها ضرورية ، والسر في نسبة الاضطرار إليه تعالی     30
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة 30
  • بحث روائي: وفيه ما ورد من الروايات في معنى الأمن وصلاة الطواف ، والتطهير والثمرات. 31
  • بحث تاريخي : وفيه ما يتعلق بمقام إبراهیم (عليه السلام) وموضعه 32
  • بحث فقهي : وفيه ما يتعلق بصلاة الطواف 34
  • [سورة البقرة ۱۲۷ ـ ۱۲۹]
  • المراد من القواعد ورفعها 35
  • معنى السميع إن أضيف إلیه تعالی 35
  • الإسلام ومعناه وما له من الدرجات 36
  • معنى الرؤية في الآية المباركة معنى البعث الوارد في الآية الشريفة 38
  • التزكية ومعناها 39
  • العزيز ومعناه 40
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآية المباركة 41
  • بحث روائي : وفيه ما يتعلق ببناء البيت ومقام إبراهيم (عليه السلام) والحجر الأسود، والثمرات الواردة في الآية المباركة، والمراد من الجنة التي نزل
  • منها الحجر الأسود والقواعد البيت 42
  • معنیى الروايات الواردة من أن الحجر الأسود أخرج من الجنة ووضع الميثاق والعهد فيه 46
  • بحث علمي: وفيه أن الروايات لا تخالف ظواهر القرآن ، ولاجه لرمي جميعها بالضعف... 49
  • بحث فلسفي : عملي يتعلق بالعبادات التي شرعت في الإسلام 50
  • بحث تاريخي : وفيه أن الكعبة كانت لها أهمية واحترام عند الأمم قبل الإسلام 51
  • [سورة البقرة 130 ـ 136]
  • الرغبة ومعناها
  • الصالح ومعناه في القرآن 52
  • المراد من القول الوارد في الآية المباركة 55
  • الوصية ومعناها 56
  • الإله ومعناه واشتفاقه 57
  • الأمة ومعناها واختلاف استعمالها باختلاف المتعلق 59
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآيات 60
  • بحث روائي: وفيه معني الإسلام وحقيقته 61
  • بحث علمي: وفيه أن المراتب المتفاوتة كما هي ثابتة في الأعراض والاعتباريات كذلك ثابتة في الجواهر والأدیان 63
  • بحث فلسفي: وفيه أقسام الوحدة 64
  • بحث أدبی: وفيه أن السفه من متحد المعني وإعراب كلمة نفسه الوارد في الآية المباركة ، والفرق بين الواحد والأحد      64
  • [سورة البقرة 135 ـ 141]
  • الحنف ومعناه 67
  • السبط ومعناه وهل الأسباط كانوا أنبياء؟ 68
  • الشقاق ومعناه وأن له مراتب وأن الآية الشريفة تبين برهاناً عقلياً 71
  • الصبغة ومعناها 73
  • الكمالات النفسية وأقسامها 74
  • الإخلاص ومعانيه ومراتبه 75
  • الآية المباركة تبين منشأ نزاع الكفار وتخاصمهم مع دين الإسلام 77
  • المراد من المشهود في الآية الشريفة 79
  • استحالة الغفلة بالنسبة إليه تعالي وليس من المحال تغافله عز وجل عن سيئات عباده 79
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه أن الآية تضمنت كيفية المحاورة والمجادلة 80
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في معنى الحنيفية وما ورد في نزول الآية ، وأن الأسباط أولاد الأنبياء ، وما ورد في معنی الصبغة 81
  • بحث فلسفي : وفيه أن قاعدة «أن الذاتي غير قابل للغي ير والتبديل» لا تجري في القدرة الأزلية      83
  • [سورة البقرة 142 ـ 145]
  • السفه ومعناه ، وأن الآية المباركة في مقام تقديم الإخبار على الإعتراض. الوسط ومعناه... 85
  • هل الآية المباركة تعني تمام الأمة أو بعضها؟ والمراد من الإشهاد فيها 88
  • جعل الأمة وسطاً يتصور على أقسام : 90
  • الوجه في إتيان لفظ على في الآية المباركة. الوجه في إتيان شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة. الخطاب في الآية الشريفة عام موجه لجميع الأمة 91
  • الشهادة التكوينية واحتمال جريانها في المقام. الشهادة في يوم الحشر لا تنحصر بالرسول (ص) والأمة 94
  • ما أورد على الشهادة في يوم الحشر والجواب عنه 94
  • الآية المباركة في مقام بيان بعض الحكمة في جعل القبلة كان عليها 95
  • الوجه التعبير ب «نعلم» الوارد في اللآيات الشريفة مع أن علمه أزلي 96
  • الفرق بين الرأفة والرحمة. الآية الكريمة لاتدل على أن القبلة الأولى غير مرضية. الشطر ومعناه والمراد من المسجد الحرام   98
  • الحق ومعناه. الغفلة ومفهومها 100
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: يستفاد من مجموع الآيات أمور تسعة 103
  • الآيات المباركة لا تدل على حرمة التأمل والتفكر في علل الأحكام 104
  • السر في التعبير به «الوجه» في الآية الشريفة 105
  • بحث علمي: وفيه الرءوف من الأسماء الحسنى والرءوف من صفات الذات ولا يصح استعماله بالمعنى اللغوي فيه تعالی   107
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تحويل القبلة ومقدار الزمن الذي صلى فيه النبي اتجاه بيت المقدس. وما ورد في معنى الوسط  108
  • بحث فقهي : يتعلق بالشطر والقبلة 113
  • بحث أدبي : وفيه الوجه في تكرار لفظ اللام في الآية المباركة 114
  • [سورة البقرة 146 ـ 150]
  • ما يستفاد من الآية الشريفة 117
  • الحق ووجوه استعماله في القرآن الكریم 118
  • المرية ومعناها. توجيه الخطاب وإن كان للنبي (ص) ولكن المراد وغيره. السبق ومعناء 119
  • الخير ومفهومه وأنه من الأمور الإضافية 120
  • كلمة «أينما» الواردة في الآية الشريفة ومعناها وأنها من مظاهر قيمومته وإحاطته 123
  • الآيات الشريفة تشير إلى علوم. كلمة «حيث» وموارد استعمالها. الوجه في تكرار الآية المباركة. الاستثناء في الأية المباركة على وجهين 124
  • حكمة تشریع القبلة نحو الكعبة. الخشية ومعناها. معنى النعمة 126
  • الترجي ونسبته إليه تعالی 129
  • بحوث المقام
  • بحث أدبي: وفيه ما يتعلق بالالتفات ومعناه وشرائطه وأنواعه 129
  • الانتقال وأقسامه 130
  • بحث روائي : وفيه ما ورد من الروايات في نزول الآية وما ورد في معنی الخيرات وغيرها... 133
  • بحث فلسفي : وفيه ما يتعلق بالجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها 134
  • بحث علمي: وفيه أهمية القبلة وعظم أمرها 136
  • القبلة أمر اجتماعي 137
  • الحكمة في تشريع القبلة 138
  • تحويل القبلة 139
  • زمان تحويل القبلة 140
  • تعيين القبلة 141
  • [سورة البقرة 151 ـ 152]
  • الرسول ومعناه والفرق بينه وبين النبي 142
  • التلاوة ومعناها 144
  • التزكية ومعناها 145
  • للتزكية مراتب والسر في تقديمها وتأخيرها في الآيات المباركة. الحكمة ومعناها 146
  • الآية المباركة تحتوي على أصول التربية. الذكر ومعانيه 146
  • أقسام الذكر. المتعلق في قوله تعالى : «اذكرکم» 147
  • ترتب قوله تعالى : «اذكروني» على قوله عزوجل «وأذكرکم» 149
  • الشكر وأقسامه 152
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه ما تتضمن الآيات المباركة من الأمور 154
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في فضل الذكر وشأنه ومراتبه 155
  • بحث عرفاني : وفيه أن الذكر من أجل مقامات العارفين وأقسامه عندهم 159
  • بحث علمي: وفيه أن الآية المباركة تتضمن أهم مناهج تربية الإنسان واستكماله 160
  • [سورة البقرة 153 ـ 157]
  • معني الصبر في الآية المباركة. الاستعانة بالصلاة نحو ارتباط بالغيب 163
  • لفظ «مع» واختلاف معانیه باختلاف الإضافات 164
  • المراد من سبيل الله. الحياة والمراد منها وأقسامها. الشهادة ومعناها 165
  • المراد من الثمرات. الآية الشريفة لا تناقض قانون السببية والمسببية في دار الدنيا. حكمة اختباره تعالي للناس    169
  • الوجه في إطلاق البشارة بالنسبة إلى الصابرین 170
  • المصيبة ومعناها. معنى الاسترجاع في قوله تعالي : «إنا لله وإنا إليه راجعون» الرجوع إليه تعالى أما أختياري أو غير اختياري       171
  • ما ورد في بعض مراتب البشارة 172
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي : وفيه أن الآية المباركة تدل على أمور ثمانية : 173
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في فضل الصبر أو الصوم. والصلاة ، وما ورد في الحياة البرزخية. وأن الأرواح في الجنة على صور أبدانهم في الدنیا 175
  • ما ورد في تفسير الآية من بعض علامات ظهور القائم ماورد في أن المقتول في سبيل ال له حي مرزوق 177
  • ما ورد في فضل الاستراجاع 178
  • بحث فلسفي: في تجرد النفس 180
  • تقسيم الموجود 181
  • تقسيم آخر للموجود 182
  • المراد من النفس 184
  • تعدد النفس والجسد 185
  • معني التجرد 185
  • الأدلة على تجرد النفس 185
  • ثمرة البحث 187
  • [سورة البقرة الآية ـ 158]
  • الصفا والمروة ومعني كل منهما 189
  • السر في التعبير ب «لاجناح» مع أن السعي فريضة. وجه تقديم السعي في القرآن على سائر أعمال الحج      190
  • التطوف ومعناه 191
  • بحوث المقام
  • بحث روائي: وفيه وجه تسمية الصفا وما ورد في أن السعي واجب 192
  • بحث فقهي: وفيه أن السعي بين الصفا والمروة عمل عبادي وواجب ومعنی السعي بينهما 194
  • [سورة البقرة 159 ـ 162]
  • المراد من الكتاب في الآية الشريفة 196
  • اللعن ومعناه والمراد من (اللاعنون). الكتمان وأقسامه 196
  • التوبة واختلاف معناها إن أضيف إلى الله تعالي أو إلى الفاعل 197
  • الآية تدل على اعتبار أمرين في التوبة 198
  • لعن الملائكة. الخلود ومعناه. الفرق بين الدوام والخلود 199
  • العذاب ومعناه 201
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه ما يستفاد من الآيات الشريفة أمور 201
  • بحث روائي : وفيه ما ورد في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) 202
  • بحث كلامي: وفيه أن التوبة أول منزل من منازل السائرين إلى ال له تعالی 204
  • التوبة وتعريفها وحقيقتها 205
  • وجوب التوبة 207
  • فورية وجوب التوبة 208
  • شروط التوبة 209
  • قبول التوبة 210
  • موارد التوبة 212
  • زمان التوبة 214
  • السبل لمحو الذنوب 215
  • التبعيض في موارد التوبة 217
  • صيغ التوبة. أقسام التوبة ومراتبها 218
  • التوبة في الأديان السماوية 219
  • [سورة البقرة 163 ـ 164]
  • الواحد ومعناه والفرق بينه وبين الأحد 220
  • الخلق ومعانیه 222
  • السموات ومعناها 222
  • الفلك ومعناه 224
  • المراد من حياة الأرض. التصريف ومعناه. الرياح وأقسامه 225
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي : وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة أمور تسعة ماورد في الآية المباركة من الأسماء الحسني، كما ورد فيها أصول الخلق  227
  • بحث أدبي : وفيه ما يتعلق بجملة «لا إله إلا هو» 230
  • بحث قرآني: وفيه أن القرآن يحث على التفكر بالنسبة إلى الخالق. ما اعتقده الإنسان في عصر التنزيل بالنسبة إلى الطبيعة والإله  231
  • ما يستفاد من القرآن في ذلك 233
  • توصيف القرآن المبد بأمور 234
  • بحث روائي : وفيه ما ورد في معنى البينات. وما ورد في إطلاق الواحد على الله تعالی... 235
  • بحث فلسفي: وفيه أنه تعالی واحد في وجوده وسائر صفاته 237
  • [سورة البقرة 160 ـ 167]
  • الندي ومعناه. الحب وتفسيره 238
  • محبته تعالى من صفات فعله 239
  • الآية المباركة تشير إلى غريزة من الغرائز في الإنسان 241
  • الحسرة ومعناها 245
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي: وفيه أن الآية الشريفة تتضمن أمورا 245
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآيات من الروایات 247
  • بحث فلسفي : وفيه معنى القسر وأنه على قسمين 247
  • بحث عرفاني : وفيه معنى الحب وأقسامه 249
  • [سورة البقرة 168 ـ 171]
  • الشيطان والمراد منه وأنه العدو للإنسان 253
  • السوء والمراد منه 256
  • ما يحتمل في المثل الوارد في الأية الشريفة 259
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي : وفيه أن الآيات الشريفة تشير إلى أمور 259
  • بحث أدبي : وفيه ما يتعلق بالاستفهام وأدواته 261
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآيات الشريفة من الروايات 261
  • بحث فقهي: وفيه ما استدل بالآيات الشريفة على إباحة الأشياء، وما استدل بها على بطلان التقليد وأن المراد من التقليد في المقام 263
  • بحث اجتماعي: وفيه أن المتابعة والتقليد من سنن الاجتماع ومورد ذلك 264
  • [سورة البقرة 172 ـ 173]
  • الطيب ومعناه 266
  • الشكر ومعناه وأنه من العبادات 266
  • اختصاص الشكر لله تعالى كاختصاص العبادات له 267
  • حرمة الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله تعالى 268
  • البغي ومعناه وأقسامه 270
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي ، وفيه أن الآيات الشريفة تتضمن أموراً ۲۷۲
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآيات الشريفة من الروايات ۲۷۳
  • بحث فقهي: وفيه أن الآيات تدل على جملة من الأحكام. الاضطرار على قسمين وأنه محدود 274
  • [سورة البقرة 176 ـ 174]
  • التعجب ومعناه ونسبته إلى الباري تعالي 279
  • قاعدة فلسفية 281
  • إعراب كلمة «ذلك» الواردة في الآية الشريفة ۲۸۱
  • بحث دلالي : وفيه أن الآية المباركة تدل على أمور 282
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآية الشريفة من الروايات ۲۸۳
  • [سورة البقرة الآية ـ ۱۷۷]
  • الآية المباركة تشتمل على مقاطع ثلاثة. البر ومعناه 284
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي : وفيه أن ما يستفاد من الآية المباركة أمور 293
  • الآية المباركة تتضمن أصول الإنسانية التي هي أساس الفلسفة العملية وأنها تسعة 294
  • بحث أدبي: يتعلق بالآية المباركة ۲۹۷
  • بحث فقهي : وفيه أن الآية المباركة تدل على جملة من الأحكام 298
  • بحث روائي : وفيه ما ورد في تفسير الآية المباركة من الروايات ۲۹۹
  • بحث قرآني : وفيه أن المراد من الإيمان الذي حث عليه القرآن وما يترتب عليه من الآثار 301
  • بحث أخلاقي تتضمنه الآية المباركة 304
  • المذاهب الأخلاقية 304
  • الاتجاه العقلي 305
  • الاتجاه المادي 305
  • الاتجاه الصوفي. المفهوم الأخلاقي في القرآن 307
  • خصائص الأخلاق في القرآن 307
  • الإنسان كائن اخلاقي 309
  • الاعتدال في الأخلاق 310
  • طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة 312
  • [سورة البقرة ۱۷۸ ـ ۱۷۹]
  • القصاص معناه اللغوي والشرعي 315
  • الخطاب يشمل الوضعي والتكليفي 316
  • الفرق بين العفو والغفران 317
  • اللب ومعناه 320
  • بحوث المقام
  • بحث أدبي: يتعلق بالأية الشريفة 322
  • بحث فقهي: وفيه أن الآية المباركة تتضمن أحكاماً ۳۲۳
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآية المباركة من الروايات 324
  • بحث علمى: وفيه أن حكم القصاص في الإسلام راعي جميع جوانب الغرائز الموجودة في النفس كما راعي جانب القاتل والمقتول  325
  • ما ورد على تشريع القصاص والجواب عنه 328
  • [سورة البقرة ۱۸۰ ـ ۱۸۲]
  • المراد من الكتابة في الآية المباركة. الجنف ومعناه 330
  • بحوث المقام
  • بحث علمي: وفيه أن الآية الشريفة ليست منسوخة 334
  • بحث فقهي: وفيه أن الآية المباركة تدل على أمور ستة : 336
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في تفسير الآية الشريفة من الروايات 337