بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي انزل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين ؛ وجعله في لوح محفوظ لا يمسّه الّا المطهّرون. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ؛ فيه تفصيل كلّ شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ، وجعله من أعظم مواهبه على عباده.

والصّلاة والسّلام على من اعطي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي فرّق الله عليه قرآنه ليقرأه على النّاس على مكث ؛ النّبيّ الأميّ الّذي هو غاية نظام التّكوين ، ومكمّل ما انزل من المعارف على الأنبياء والمرسلين محمّد ابن عبد الله سيّد ولد آدم وخاتم النّبيّين الّذي أرسله الله رحمة للعالمين ، وتشرّفت به السّماوات وجميع الرّوحانيّين.

وعلى آله الّذين رفعوا بهممهم العالية أعلام الدّين ، وشرعوا نهج الهدى للقاصدين ؛ حماة معالم الشّرع المبين ، ومحيي مآثر النّبيّين ، الّذين قرنهم الله بالكتاب المبين ، أئمّة الهدى وقادة أهل الدّين.

وعلى أصحابه الّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي انزل معه ، الّذين أبلوا البلاء الحسن في نصرته وإقامة دينه.

وبعد فقد شملتني عنايته تعالى لتفسير هذا الكتاب العظيم الذي عجزت العقول عن درك كنهه ، فكما أن ظاهر لفظه : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ

عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فحقائقه ورموزه أولى أن تكون كذلك ، ففي كل سورة منه بحار من المعارف ، ويتجلى من كل آية منه أنوار من الحقائق ، وكيف لا يكون كذلك وقائله لا نهاية لعلمه وكماله ولا حدّ لعظمته وجلاله وما حصل من التحديدات إنما هو من مقتضيات الاستعدادات لا أن يكون تحديدا فيه.

وقد ظهر لي بعد مراجعتي لجملة من التفاسير أنه فسر كل صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس عندهم ، فالفلاسفة والمتكلمون فسروه بمذهبهم من الآراء الفلسفية والكلامية والعرفاء والصوفية على طريقتهم والفقهاء همهم تفسير الآيات الواردة في الأحكام والمحدثون فسروه بخصوص ما ورد من السنة الشريفة في الآيات كما أن الأدباء كان منهجهم الاهتمام بجهاته الأدبية دون غيرها والعجب إنه كلما كثر في هذا الوحي المبين والنور العظيم من هذه البيانات والتفاسير فهو على كرسي رفعته وجماله ، ويزداد على مرّ العصور تلألؤا وجلالا.

وقد فسر نفسه بنفسه ، لأنه تبيان كل شيء فإذا كان كذلك فأولى أن يكون تبيانا لنفسه مستدلا لذلك بما ورد من السنة النبوية والمأثور عن آله الذين قرنهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالكتاب وجعلهم الأدلاء عليه فجمعت بينهما وبين ما اتفق عليه الجميع مع تقرير الشريعة له ، وقد بذلت جهدي في عدم التفسير بالرأي مهما أمكنني ذلك تأسيا بقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ» وقد ذكرت ما يمكن أن يستظهر من الآيات المباركة بقرائن معتبرة فإن هذا الحديث الشريف لا يشمله إذ التفسير بالرأي غير الاستظهار من الآيات المباركة بالقرائن.

وتركت التعرض للتفاسير النادرة والآراء المزيفة والفروض التي تتغير بمرور الزمان.

وكان منهجنا في التفسير أولا : التعرض في تفسير الآية لمضمونها وبيان مفرداتها ثم ما يتعلق بها من المباحث. وقد ذكرت فيها المبحث الدلالي

وأردت منه المعنى العام مما تشير إليه الآية المباركة من الدلالات الظاهرة أو الدقائق العلمية أو غيرها.

وثانيا : لم أتعرض لبيان النظم بين الآيات وذلك لأن الجامع القريب في جميعها موجود وهو تكميل النفس أو الهداية ومع وجوده لا وجه لذكر النظم بين الآيات لأن الغرض القريب بنفسه هو الجامع والرابط بين الآيات ، كما اني لم أهتم بذكر شأن النزول غالبا لأن الآيات المباركة كليات تنطبق على مصاديقها في جميع الأزمنة فلا وجه لتخصيصها بزمان النزول أو بفرد دون فرد آخر وكذلك جميع الروايات الواردة عن الأئمة الهداة في بيان بعض المصاديق لها فهو ليس من باب التخصيص بل من باب تطبيق الكلي على الفرد كما ستعرف ذلك كله إن شاء الله تعالى.

وثالثا : احترزت عن ذكر العبارات المغلقة والألفاظ الصعبة أو التفصيل الزائد عن الحد وحاولت أن أبين المعنى بأسهل الألفاظ والكلمات حتّى يعم النفع للجميع وتتم الحجة به عليهم.

وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

النجف الأشرف.

عبد الأعلى الموسوي السبزواري

(سورة فاتحة الكتاب)

وهي سبع آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))

هذه الآية المباركة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تشتمل على كثير من المعارف الإلهية لا سيّما الصفات الراجعة إلى ذات الباري عزوجل وفي اختيار صفتي الرحمن الرحيم ما فيه من البشارة للإنسان من كونه مورد رحمته وعطفه تعالى مهما تعددت أسباب الشر وقويت ، وفيها إرشاد إلى تعليم الإنسان لتوخّي الرحمة والمودة في أفعاله وجعل نفسه من مظاهر رحمته تعالى ليعرف أنّه مؤمن بالله تعالى ، وأن لا يعتمد على نفسه مهما بلغ من الكمال لأنّه المحتاج بعد ، بل لا بد له من إيكال أمره إلى الغني المطلق.

التفسير

قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ). ال (باء) للاستعانة ، لأنّ الإنسان مفتقر بذاته ، والمحتاج المطلق لا بد أن يستعين في جميع شؤونه بالغنيّ المطلق الذي هو الله تعالى ، فالممكنات في ذاتها وعوارضها وحدوثها وبقائها محتاجة إليه فهي بلسان الحال تستعين به تعالى ، فقدّرت الاستعانة في المقال تطبيقا بين لساني الحال والمقال.

وجعل المتعلّق كل ما يفعل بعد البسملة وإن كان صحيحا لا بأس به ولكن كون المتعلق هو الاستعانة يدل عليه أيضا بالملازمة ، فإنّ الاستعانة

المطلقة به تعالى تستلزم الاستعانة في كل فعل يؤتى به خصوصا ما يؤتى به بعد البسملة ، كما أنّ كون المتعلّق هو الفعل الخاص مثل القراءة في المقام يستلزم تحقق الاستعانة المطلقة أيضا ، إذ المراد القراءة مستعينا به لا القراءة المطلقة ولو بلا استعانة ورعاية منه تعالى ، فيكون الفرق بينهما كالفرق بين الطبيعي والفرد في أنّ تحقق كل منهما خارجا يستلزم تحقق الآخر بل هو عينه.

(اسم) : أصله من السمو ـ مخففة ـ بمعنى الرفعة ومنه السماء ، ويصح أن يكون اشتقاقه من السمة بمعنى العلامة. والهاء عوض الواو فيكون أصله الوسم ، فالوسم والوسام والوسامة بمعنى العلامة. والهمزة : همزة وصل على التقديرين ، ويصح الاشتقاق من كل منهما ، لأنّ التبديل والتغيير في حروف الكلمة جائز ما لم يضر بالمدلول إلّا أن يكون اللفظ بخصوص شخصه سماعيا ؛ ومن وقوع التغيير والتبديل في هذا اللفظ في الاشتقاقات الصحيحة وسهولة لغة العرب نستفيد صحة ما تقدم.

ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب : وهو البروز والظهور ، لأنّ الرفعة نحو علامة ، والعلامة نحو رفعة لذيها ، وهما يستلزمان البروز والظهور. ودأب اللغويون والأدباء وتبعهم المفسرون على جعل المصاديق المتعددة مع وجود جامع قريب من مختلف المعنى ، مكثرين بذلك من المعاني غافلين عن الأصل الذي يرجع الكل إليه ، فكان الأجدر بهم بذل الجهد في بيان الجامع القريب والأصل الذي يتفرع منه ، حتّى يصير بذلك علم اللغة أنفع مما هو عليه ، ولذهب موضوع المشترك اللفظي وغيره من التفاصيل إلّا في موارد نادرة. ولعل سبب إعراضهم عن ذلك هو أنّ ذكر اللفظ وبيان موارد استعمالاته سهل يسير بخلاف الفحص عن الجامع وتفريع ألفاظ منه.

ثم إنّ لفظ الاسم : اسم جنس لأسماء غير محصورة تحدث وتزول على مر العصور في ألفاظ ولهجات غير متناهية. ، وهذا من اللايتناهى الذي اتفق الفلاسفة على صحته واصطلح القدماء منهم عليه ب «اللايتناهى اللايقفي»

ولشرحه موضع آخر يأتي عند قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [سورة الروم ، الآية : ٢٣] إن شاء الله تعالى.

ولفظ الاسم هنا واسطة محضة لاسم الله تبارك وتعالى لا أن يكون له موضوعية خاصة فيكون مما به ينظر لا مما إليه ينظر كما هو الشأن في جميع الأسماء إلّا أنّ فيها واسطة لتعرّف المعنى وهنا واسطة لتعرف اللفظ أي «الله».

وعلى أية حال سواء كان الاسم من الوسم واقعا بمعنى العلامة ، أو من السمو بمعنى الرفعة ، ففي ذكر البسملة يكون إظهار لإضافة العبد نفسه إليه تعالى إضافة تشريفية بذكر اسمه تعالى ، ورفعة لمقام العبد به ، وذكر الاسم في غيره تعالى علامة للمعنى المراد وإخراجه عن الخفاء إلى البروز والظهور.

ولا ريب في أنّ الاسم عرض قائم بالغير سواء أريد لفظ ـ أس م ـ أو مدلوله اللفظي ـ كلفظ [كتاب] ـ مثلا ، وما أطيل فيه قديما من أنّ الاسم عين المسمى أو غيره قد ظهر في الفلسفة المتعالية بطلانه.

وفي تخلل لفظ الاسم بين حرف [الباء] ولفظ الجلالة إشارة إلى أنّ ما هو حد الإدراك للإنسان إنّما هو ذكر اسمه تعالى والإعتقاد به مشيرا من حيث الإضافة إلى الذات لا أن يحوم أحد حول كشف الحقيقة والذات فإنّها لن تدرك لغيره تعالى. وأما قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [سورة العلق ، الآية : ٢] مخاطبا نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث ذكر الاسم فيه أيضا فهو لأجل تعليم الغير لا بالنسبة إلى مقام النبي الجامع من الحقائق كنوزها والحاوي لدقائق رموزها.

ثم إنّه قد ذكرت هذه الكلمة ـ اسم ـ في القرآن الكريم مفردة ومجموعة ، مضافة إلى الله تعالى ، وإلى الرب ، وإلى الضمير الراجع إليه تعالى ، وموصوفة. فقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الأعراف : ، الآية : ١٨٠]. وفي الكل مقرونة بالتعظيم والتجليل ، وقد كثرت استعمالات هذه الكلمة في الآثار الواردة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأئمة الهدى (عليهم‌السلام) في دعواتهم مع الله تعالى : (باسمك

العظيم) و (اسمك الأعظم) و (باسمك الأعظم الأعظم). والمراد بالعظيم : ما أذن الله تعالى لخلقه أن يدعوه به ، كجميع أسمائه تعالى. والمراد بالأعظم : ما هو مستور عن خلقه ولكنّه تعالى أذن لبعض أحبائه أن يدعوه به ، وأما الأعظم الأعظم فهو : ما استأثره لنفسه ولم يظهره لأحد غيره.

الله : أجل لفظ في الممكنات كلها ، لأعظم معنى في الموجودات جميعها. بهت في عذوبة لفظه كل سالك مجذوب ، وتحيّر في عظمة معناه جميع أرباب القلوب ، تتدفق المحبة والرأفة عن الاسم فكيف بالمعنى ، فكأنّ نفس المعنى يتجلّى فيه ويقول : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [سورة طه ، الآية : ١٤] جمعت فيه من الكمالات حقائقها ومن الألطاف والعنايات دقائقها ورقائقها ، تطلبه الملائكة الكروبيون كما يطلبه أهل الأرضين والكل لا يصل إليه ، ظهر لغيره بالآثار وخفي عن الجميع بالذات ، فما أعظم شأنه فقد عجزت العقول ـ وإن قويت فطنتها ـ عن درك أفعاله فضلا عن صفاته فكيف بذاته ، فكلّما زاد الإنسان تأملا فيه زيد تحيرا وجهلا. فسبحان الذي اكتفى بالتحيّر في الذات والصفات والأفعال عن التعمق فيها لعلمه الأزلي بعدم قدرة ما سواه على ذلك أو لعدم لياقة جملة من العقول به.

ثم إنه قد ذكر أهل اللغة أنّ [الله] اسم جنس للواجب بالذات ولكنه منحصر في الفرد كالشمس والقمر ونحوهما وتبعهم فيه جمع من المفسرين. وهو غير صحيح عقلا لأن المتفرد بذاته في جميع شؤونه وجهاته والبسيط فوق ما نتعقله من معنى البساطة كيف يقال في اللفظ المختص به إنه اسم جنس (عام)؟! وقد ثبت في الفلسفة الإلهية المتعالية أن الكلية والجزئية والجنسية ونحوها من شؤون المفاهيم الممكنة وذاته الأقدس فوق ذلك مطلقا فلا يصح اطلاق اسم الجنس على اللفظ المختص به تعالى.

نعم لو أراد القائل بأنّه اسم جنس على نحو الجنسية الوجودية أي : السعة الوجودية بالعنوان المشير إلى الذات لا الجنسية الماهوية لكان له

وجه لطيف ولكنهم بمعزل عن ذلك. نعم ربما يطلق الإله على غيره تعالى إطلاقا اعتقاديا باطلا ، كقول فرعون : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [سورة القصص ، الآية : ٣٨] ، وقوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [سورة ص ، آية : ٥].

كما أن القول بأن (الله) اسم جنس باطل من جهة العلوم الأدبية أيضا لعدم وقوعه صفة ووقوعه موصوفا دائما فلا يصح أن يكون اسم جنس بل هو علم مختص لواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية لظهور آثار العلمية فيه على ما هو المعروف بين الأدباء.

ونظير ذلك ما ذكروا أنه مشتق من وله بمعنى تحير ، أو من أله بمعنى تعبد. لتعبد الكل له تكوينا أو اختيارا ، وتحيرهم فيه.

وهذا أيضا مردود أولا بأن التحير والتعبد عنوان وصفي فلا يصح أن يؤخذ في ما هو اسم للذات المتصف بجميع صفات الجمال والكمال والجلال. وثانيا بما رواه ابن راشد في الصحيح عن موسى بن جعفر (عليه‌السلام): «سئل عن معنى الله تعالى فقال (عليه‌السلام) : استولى على ما دق وجل» فإن الحديث ظاهر في أن لفظ (الله) غير مشتق من أله ووله بل هو اسم جامد بمعنى القيّومية المطلقة على ما سواه.

فالحق ما نسب إلى الخليل اللغوي وغيره من أن لفظ الجلالة بسيط وليس بمشتق ، واللام جزء اللفظ ، وأنّ الواضع له هو الله تعالى بل جميع أسمائه عرفت بتعليمه عزوجل فهو المعرّف فيها والمعرّف بها ويشهد له قول الصادق (عليه‌السلام): «اعرفوا الله بالله»

. إن قلت : إنّ كلام اللغويين في مفهوم (الله) من حيث إنه مفهوم لا الذات الأقدس إذا لا إشكال في صحة قولهم في الاشتقاق وكونه من اسم الجنس.

(قلت) : قولهم إنما يصح في المفاهيم الممكنة وأما إذا كان الموضوع واحدا وواجبا بالذات يكون الإطلاق عليه مع إطلاقه على الممكن كالاشتراك اللفظي ، كما ذهب إليه جمع من الفلاسفة في أسمائه تعالى فيكون إطلاقه

عليه تعالى بنحو العلمية وفي الممكن بنحو اسم الجنس ، كما في لفظ المدينة مثلا فإنها علم لمدينة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واسم جنس لسائر المدن ولكن في اسمه تعالى لا يجوز إطلاقه على غيره لاختصاصه به ، كما في قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [سورة طه ، الآية : ١٤] ويستفاد ذلك من كلام العرب قبل الإسلام أيضا.

هذا ما يتعلق بلفظ الجلالة من حيث هو.

وأما معناه فلا ريب في أنه مما تحير فيه العقول مع اعتراف الجميع بوجوده ودأب القرآن وما ورد في الشريعة التعبير عنه تعالى بالأسماء الحسنى (الصفات) التي ذكرت في القرآن من دون تحديد بالنسبة إلى الذات بل ورد في الأثر عن الأئمة (عليهم‌السلام): «يا من لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلّا هو» فأثبتوا له تعالى أصل الهوية ولكن حصروا العلم بالهوية به تعالى. نعم ورد في الآثار عنهم (عليهم‌السلام) التعبير عنه تعالى : «أنه ذات لا كالذوات وشيء لا كالأشياء» وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «اذكروا من عظمة الله ما شئتم ولا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلّا وهو أعظم منه» وعن الصادق (عليه‌السلام): «إنّ الله تعالى يقول وإنّ إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا».

وأما ما ورد عن الفلاسفة المتألهين : إنه الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية والمسلوب عنه جميع النواقص كذلك ، وعن العرفاء وبعض محققي الفلسفة الإلهية : أنه الذات المسلوب عنه الإمكان مطلقا ، وعن بعض قدماء اليونان ـ الذي عبر عنه في كلماتهم بشيخ اليونانيين ـ أنه ذات فوق الوجود يمكن إرجاع جميع ذلك إلى ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) وإن قصرت عبارات بعضهم عن ذلك. وسنعود إلى بعض ما يتعلق بالمقام في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالى ، ولعل عدم تعرض القرآن وسائر الكتب السماوية لحقيقة ذاته الأقدس لوضوحه بالآثار وقصور الممكن مطلقا عن درك حقيقة ذات الواجب وإنما حده درك الآثار فقط وهو تعالى بيّن ذلك كاملا في كتابه ويتم بذلك الحجة والبيان.

وعلى أي تقدير ف (الله) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التسعة والتسعين أو الثلاثمائة وستين التي من أحصاها دخل الجنّة على ما رواه الفريقان ، وهذه الأسماء المباركة منطوية في لفظ الجلالة انطواء الشعاع في نور الشمس مع المسامحة في هذا التشبيه.

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

هما من الرحمة ومن مشتقاتها ، ورحمته عزوجل أعم صفاته وأوسعها شملت جميع ما سواه قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٦] فكلما يطلق عليه شيء في جميع العوالم يكون من رحمته تعالى ، وإشكال أن الشر يطلق عليه الشيء أيضا فلا بد وأن يكون من رحمته تعالى مردود بأنه ليس في التكوينيات شر محض وإنما يتحقق الشر بالإضافة ـ على ما يأتي ـ. وأما في الاختياريات فإن وساطة الاختيار بين الفعل والفاعل يجعل الشر باختيار الفاعل فلا يكون من رحمته تعالى كما في قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء ، الآية : ٧٩]. وسيأتي تفصيل هذا البحث المفيد مستقلا إن شاء الله تعالى في الآيات المناسبة له.

وفي قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [سورة لقمان ، الآية : ٢٧] إشارة إلى مظاهر رحمته الواسعة ، وقد اعترف الأنبياء (صلى الله عليهم) والأئمة (عليهم‌السلام) وجميع الفلاسفة المتألهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة وإن بعض عظمائهم أطال القول في أن وجود كل شيء من رحمته تعالى وأثبت ذلك بالأدلة الكثيرة ومع ذلك اعترف بالقصور عن دركها ، وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها.

ثم إنّ هاتين الكلمتين من الصفات المشبهة إلّا أنّهم فرّقوا بينهما بوجوه :

الأول : أن الرحمن مبالغة والرحيم صفة مشبهة يدل على مجرد الثبوت هذا وإن كان صحيحا بالنسبة إلى ذات اللفظين حين الإطلاق على المخلوق. وأما

من حيث إضافتهما إلى الله عزوجل فلا وجه للمبالغة بالنسبة إليه تعالى. لأن صفاته بالنسبة إليه تعالى غير محدودة فلا تجري المبالغة فيها. نعم تصح المبالغة بالنسبة إلى مورد الرحمة على نحو قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦١] إلى غير ذلك مما ترجع المبالغة فيه إلى المبالغة في الرحمة بالنسبة إلى المخلوق.

وأما ما في بعض التفاسير من أن فعلان لا يدل على الثبوت بخلاف فعيل وإنما ذكر تعالى (الرحيم) لأجل اظهار ثبوت الرحمة بالنسبة اليه تعالى. (مخدوش) لأن التفرقة بين اللفظين انما تصح في الممكنات دون الواجب تبارك وتعالى كما عرفت.

الثاني : الرحمن يختص بالدنيا والرحيم بالآخرة لتقدم الدنيا على الآخرة في سلسلة العوالم والنشآت الزمانية فيكون المقدم للمتقدم والأخير للمتأخر ، أو لذكر الرحيم مقرونا بالغفران والتوبة في جملة من الآيات الكريمة ، والغفران وأثر التوبة في الآخرة فيكون الرحيم مختصا بها.

والوجهان مخدوشان لا يصلحان حتّى للاستحسان ، فان العوالم بالنسبة إليه تبارك وتعالى في عرض واحد وإنّه محيط بالزمان والزمانيات وخارج عنهما إلّا أن يلحظ ذلك بالنسبة إلى المخلوق. وقد ورد الرحمن بالنسبة إلى الآخرة في قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٦] ، وقوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [سورة مريم ، الآية : ٨٥] ، كما ورد الرحيم بالنسبة إلى الدنيا في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٢٩] وقد ورد عن الأئمة الهداة : «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما».

الثالث : أن الأول عام للجميع لقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٦] والثاني خاص بالمؤمنين لقوله تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٨] وهو أيضا

مردود فإن ذكر بعض الأفراد وأشرفها لا يدل على نفي ما عداه إلّا بالمفهوم وقد ثبت في محله أنه لا مفهوم للقيد فراجع.

الرابع : أنّ الرحمن ذات الرحمة الشاملة لكل محتاج إليها وبجميع مراتبها التفضلية بلا اختصاص لها بنوع دون نوع من الجماد والنبات والحيوان والإنسان وسائر المخلوقات فلأجل إهمال المتعلق استفيد العموم والشمول لجميع الأنواع الممكنة من حضيض الجمادات الى أوج المجردات. نعم من أهم مصاديق الرحمانية تنظيم عالم التكوين بأحسن نظام ومن أجلى مصاديق الرحيمية تنظيم التشريع بأكمل نظام وأثر التشريع إنما يظهر بالنسبة إلى المؤمنين العاملين به اختص الرحيمية بالآخرة من هذه الجهة ، فهو تعالى رحيم في الدنيا بالتشريع وفي الآخرة بالجزاء عليه.

والذي ينبغي أن يقال : إنه لا ريب أن جميع ما سواه تعالى مورد افاضة الوجود منه تبارك وتعالى وهذا هو الرحمة الرحمانية التي خرج بها ما سواه من العدم إلى الوجود ؛ كما لا ريب في أن كل نوع من أنواع الموجودات مطلقا بل كل صنف من أصنافها له خصوصية لا توجد تلك الخصوصية في غيرها وهي غير محدودة بحد وتنكشف في طي العصور ومر القرون وتلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى مورد الرحمة الرحيمية ، فكما أن في الإنسان نوعا خاصا منه وهو المؤمن مورد رحمته الرحيمية كذلك يكون في الملك والفلك والجماد والنبات والحيوان أيضا أصناف خاصة تكون تلك الأصناف مورد رحمته الرحيمية بعد عدم برهان صحيح على اختصاص رحمته الرحيمية بخصوص دار الآخرة كما عرفت.

وقد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بأن القرآن من أبرز مظاهر رحمتيه تعالى أما الرحمانية فلفرض وحيه وإنزاله ، وأما الرحيمية فلأنه تبارك وتعالى تجلى لعباده فأظهر فيه المعارف الربوبية وخلاصة الكتب السماوية وزبدة حقائق التكوين والتشريع وربط به قلوب أوليائه.

ثم إنه يظهر من ذكر الرحمن بعد اسم الجلالة في البسملة وفي قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [سورة الاسراء ، الآية : ١١٠].

وسائر موارد استعمال هذا الاسم المبارك في القرآن العظيم أن لهذا الاسم الشريف اهمية عظمى ومنزلة كبرى عند الله تعالى فهو من أمهات الأسماء كالحي والرب والقيوم والرحيم وإلى هذه الأربعة ترجع سائر أسمائه عزوجل فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم نرى أنه استعمل مقرونا بالتعظيم والتجليل بالنسبة إلى عالمي الدنيا والآخرة قال تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) [سورة مريم ، الآية : ٦١] ، وقال تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [سورة الرحمن ، الآية : ١] وقال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك ، الآية : ٣].

وأما الرحيم فقد ذكر في القرآن الكريم غالبا مقرونا مع الرءوف والتواب والغفور ، فقد جمع الله تبارك وتعالى في كتابيه التدويني (القرآن) والتكويني بين رحمته الرحمانية ورحمته الرحيمية فتكون الرحمة الرحمانية عامة لجميع الممكنات قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه ، الآية : ٥] أي استولى والعرش هنا عبارة عما سواه تعالى ، والرحمة الرحيمية تعم جميع ذوي الكمالات التي أفيضت عليهم من المجردات إلى الجمادات فتكون من مظاهر رحمتيه تعالى الرحمانية والرحيمية كما عرفت.

بحوث المقام

بحث دلالي :

البسملة هي إيجاد الإضافة بين العبد وخالقه إضافة تشريفية ، وقد اختيرت هذه الجملة المباركة لأن فيها من أوسمة الخير ما عرفت ، فإن قرن العبد اعتقاده بالعمل بما يدعو إليه تعالى كانت البسملة وساما قوليا واعتقاديا وعمليا وإلّا كانت لفظية فقط لها بعض الآثار كالتبرك باللسان مثلا.

ومثل هذه الإضافة لم تكن أمرا غريبا عند الناس بل هو مألوف عندهم بذكر اسماء عظمائهم ورؤسائهم في مبادئ أمورهم تشرفا وتقربا إليهم ووساما

لأنفسهم مع أن المنسوب إليه كنفس المنسوب والنسبة في معرض الهلاك والزوال فأثبت القرآن للنّاس إضافة تشريفية إلى الله تبارك وتعالى الذي لم يزل ولا يزال وتبقى الإضافة إليه كذلك أيضا فقرر ما هو المألوف لديهم بلفظ آخر وهو البسملة ، كما في قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠] ومنه يعلم أهمية البسملة فإن فيها إضافة إلى الرحمن الرحيم الأزلي الأبدي ولهذا وردت أخبار تؤكد على الابتداء بها في جميع الأمور كما سيجيء في البحث الآتي ، فإذا قال العبد المؤمن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يكون من مظاهر رحمته تعالى من جهتين جهة التلفظ بالقول وجهة الذات فإن ذاته من مظاهر رحمته. كما عرفت.

ثم إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى وهو تارة يكون ذات المسمّى وأخرى : جوهرا موجودا خارجيا وثالثة : عرضا كذلك. والكل يصح بالنسبة إليه تعالى فمن الأول ما ورد في الأثر عن علي (عليه‌السلام) «يا من دل على ذاته بذاته» فاتحد فيه تعالى الدال والمدلول واختلف بالاعتبار ومثله كثير. ومن الثاني أنبياء الله وأولياؤه الذين جاهدوا في الله ، وفي الحديث : «نحن اسماء الله الحسنى» ، بل عن بعض الفلاسفة المتألهين : «إن جميع الموجودات تحكي عن جماله وجلاله». ومن الثالث الأسماء اللفظية التي تطلق عليه تعالى ويأتي في المواضع المناسبة تتمة الكلام.

والمعروف أنّ أسماءه تعالى توقيفية لا يجوز إطلاق اسم عليه تعالى لم يرد في الشريعة المقدسة إطلاق به عليه ، وإن أمكن ذلك عقلا ، فلا يجوز اطلاق المادة والصورة عليه تعالى لامتناعه عقلا وعدم الورود شرعا ، كما لا يجوز إطلاق العلة عليه تعالى لعدم وروده شرعا وإن أمكن عقلا.

وأما الخالق والجاعل وسائر مشتقاتهما فقد أطلقا عليه شرعا وهو صحيح عقلا أيضا ، كما أنّه لم يعهد اطلاق اللقب والكنية عليه تعالى لأجل أمور يأتي التعرض لها ، وإن قيل إنّ الرحمن بمنزلة اللقب له تعالى ، ولكنه لم أظفر بما يعضده من خبر يدل على ذلك.

بحث فقهي :

البسملة في أول كل سورة إما جزء منها أو من السورة التي تسبقها ، أو آية متكررة في القرآن ، أو من غيره ، ذكرت تبركا.

والكل واضح البطلان كما يأتي سوى الأول وقد وردت النصوص على ذلك فتكون البسملة جزء من كل سورة التي افتتحت بها إلّا في سورة التوبة فإنه لا بسملة لها كما ستعرف.

فعن علي (عليه‌السلام): «البسملة في أول كل سورة آية منها وإنما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى وما أنزل الله تعالى كتابا من السماء إلّا وهي فاتحته».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «أنها من الفاتحة وأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقرأها ويعدها آية منها ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني».

وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «سرقوا أكرم آية من كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم».

وعن الرضا (عليه‌السلام): «ما بالهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها».

وفي سنن أبي داود قال ابن عباس : «إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان لا يعرف فصل السورة ـ أي انقضاءها ـ حتّى ينزل عليه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)».

وفي صحيح ابن مسلم عن أنس قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)». وروى الدارقطني عن أبي هريرة : «إذا قرأتم الحمد فاقرؤا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإنّها أم القرآن أم الكتاب ، والسبع المثاني و (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إحدى آياتها». والأخبار في كونها جزء من سور القرآن كثيرة من الفريقين.

ويستحب الجهر بالبسملة مطلقا كما ورد النص بذلك وقد جعل ذلك من علامات المؤمن كما في الحديث ولعل السر في ذلك هو أن الجهر بها إجهار بالحق وإعلان لحقيقة الواقع.

كما تستحب الاستعاذة بالله من الشيطان عند قراءة القرآن لقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (*) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (*) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٩٧ ـ ١٠٠] بل يستفاد من بعض الآيات لا سيما سورة الناس استحباب الاستعاذة مطلقا. وهي إما قولية أو فعلية. واجتماعهما في واحد هو من الكمال ، وسيأتي التفصيل.

بحث روائي :

عن نبينا الأعظم فيما رواه الفريقان : «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فهو أبتر». وعن الصادق عليه‌السلام : «لا تدعها (أي البسملة) ولو كان بعدها شعر».

أقول : يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعا بينهما.

وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «أول كل كتاب نزل من السماء (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)».

وعن الرضا (عليه‌السلام): «إنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين الى سوادها».

أقول : يأتي ما يتعلق بالاسم الأعظم ومراتبه. وآثاره ومن هو العالم به.

وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «إذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ وإذا قرأتها سترتك ما بين السماء والأرض».

أقول : ويظهر منه إنه عند دوران الأمر بين البسملة والاستعاذة تكون البسملة أولى.

وعن الصادق (عليه‌السلام): «من تركها من شيعتنا امتحنه الله بمكروه

لينبهه على الشكر والثناء ويمحو عنه وصمة تقصيره عند تركه».

أقول : يظهر منه ومن جملة من الأخبار ان ترك المندوب وفعل المكروه فيه آثار خاصة فضلا عن ترك الواجب وفعل المحرم.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «إنها الآية التي قال الله عزوجل : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا في تفسير البسملة : «يعني أسم بسمة من سمات الله تعالى وهي العبادة. قيل له : ما السمة؟ قال (عليه‌السلام) : العلامة».

أقول : العلامات الدالة على الله عزوجل كثيرة فإما جوهر خارجي كالمشاعر العظام ، أو عمل خارجي كالصّلاة ، أو ذكر قلبي كالتفكر في عظمة الله تعالى والتوجه إليه ، أو ذكر لفظي كالبسملة ونحوها.

وفي رواية أنّ كل واحد من أجزاء البسملة إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى فعن الصادق (عليه‌السلام): «الباء بهاء الله ، والسين سناء الله ، والميم مجد الله (ملك الله) والله إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة».

أقول : المراد ببهاء الله جماله وجلاله والسناء بمعنى الرفعة ، وأشار (عليه‌السلام) في هذا التفسير إلى علم الحروف وهو علم شريف إلّا أنّه مكنون عند أهله وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى.

وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنّ لله عزوجل مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون ويتراحمون ادّخر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة».

أقول : رواه الفريقان.

وعن علي (عليه‌السلام): «الرحمن العاطف على خلقه بالرزق لا ينقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن طاعته».

أقول : المراد من مواد الرزق أسبابه. وعن الصادق (عليه‌السلام): «الرحمن اسم خاص لصفة عامة ، والرحيم اسم عام لصفة خاصة».

أقول : اسم خاص أي لا يطلق على غيره تعالى ، والصفة العامة لأن رحمته تعالى وسعت كل شيء ، والرحيم اسم عام لإطلاقه على غيره تعالى أيضا والصفة الخاصة يعني مختص بالمؤمنين في الآخرة وتقدم أن هذا الإختصاص إضافي أي أن أفضل أقسام الرحيمية إنما تكون للمؤمنين فقط.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الألف واللام للجنس أو الاستغراق ، والمعنى واحد والفرق بالاعتبار فإذا لوحظ الحمد من حيث طبعه وذاته الشامل لجميع ما يدخل تحته من الأفراد يطلق عليه الجنس وإذا لوحظ من حيث الأفراد فهو استغراق ، فالحقيقة واحدة والفرق بالإجمال والتفصيل. وعلى أي تقدير يفيد الانحصار به تعالى ، كما سيأتي.

التفسير

الحمد : هو الثناء على الجميل الاختياري ، والمعنى أنّ كل حمد يصدر من أي حامد اختياريا كان أو غير اختياري (تكويني) فهو لله تعالى لأنّ الكل مخلوق ومربوب له عزوجل فهو الخالق والمدبر لجميع ما سواه فيرجع ما سواه إليه سبحانه ، قال تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [سورة الشورى ، الآية : ٥٣] فكما أنه تعالى مبدأ الكل يستلزم أن يكون حمد الكل له ، وفي الآيات دلالات واضحة عليه ، قال تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) [سورة التغابن ، الآية : ١] وقال تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الروم ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) [سورة القصص ، الآية : ٧٠].

ثم إنّ هناك عناوين أربعة : الحمد ، والمدح ، والشكر ، والتسبيح. ونسب إلى أهل اللغة وجمع من الأدباء والمفسرين أنّ الأول ـ هو الثناء باللسان

على الجميل الاختياري ، والثاني ـ هو الثناء باللسان على الجميل ولو لم يكن. اختياريا ، كما في قولك : مدحت اللؤلؤ على صفائها ، والنجوم اللامعة على جلائها وبهائها ، فيكون الفرق بينهما بالعموم والخصوص. ولم يرد لفظ المدح في القرآن الكريم ، كما أنّه لم يستعمل الحمد فيه إلّا لله تبارك وتعالى. والثالث ما أنبأ عن عظمة المنعم سواء أكان بالقلب أو اللسان أو الأركان ، فالتفكر في عظمته تعالى شكر له وذكره باللسان وفعل الصّلاة شكر له أيضا ، فالحمد أعم من الشكر من ناحية المتعلق ، لأنّه الجميل الاختياري سواء أكان للحامد أم لغيره ، وأخص منه من ناحية المورد لأنّ مورده اللسان فقط في الإنسان ، والشكر بالعكس فإنّ متعلقه الإنعام على الشاكر فقط ومورده يعم القلب واللسان والأركان. وقد ورد الشكر في القرآن بالنسبة إليه تعالى كثيرا ، قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٢] ، وقال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٢] ، وقد يكون من الله عزوجل لعباده قال تعالى : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ١٩] ، وقال تعالى : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٧]. والمراد بشكره تعالى هو الجزاء على الخير سواء كان في الدنيا ، أو في الآخرة أو فيهما معا. كما يقع من الخلق للخلق قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٤]. والتسبيح هو التنزيه عن كل نقص مطلقا ويختص ذلك بالله تعالى كاختصاص الحمد به تعالى ، قال تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٥٩] ، وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ، الآية : ٤٤] ويأتي التفصيل. هذا ما هو المعروف بينهم.

وهنا وجه آخر وهو أن مادة (ح م د) مع مادة (م د ح) واحدة في أصل المواد ، وإنما الاختلاف بالتقديم والتأخير وهذا الاختلاف أوجب اختصاص لفظ الحمد بالله تعالى ، وإطلاق المدح على غيره أيضا ، فيكون لفظ الحمد كلفظ (الله ، والرحمن) مختصا به تعالى فلا ينبغي إطلاقه بالنسبة إلى غيره عزوجل ولو أطلق يكون بمعنى المدح ، بخلاف المدح فإنه يطلق على غيره

تعالى إطلاقا شائعا هذا من ناحية الحصر اللفظي.

وأما من ناحية الحصر المعنوي فلا ريب في أن الممكنات له ومنه وبه تعالى وقد ثبت في محله أن كل ما بالغير يكون بذاته وكماله منه فكمال الكل ومحمودية الكل ترجع إليه.

ثم إنّ الحمد يكون من الله تعالى لذاته المقدسة وهو كثير في القرآن ، قال تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الروم ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ) [سورة فاطر ، الآية : ١] وقال تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) [سورة الجاثية ، الآية : ٣٦].

ويكون من خلقه له تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٣].

وأما التسبيح فيقع منه تعالى ومن خلقه له ، ولكن لا يقع من الخلق للخلق ، كما يأتي التفصيل.

قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) : لهذا الاسم [رب] الشريف منزلة عظيمة في الكتب السماوية لا سيما القرآن المهيمن على جميعها فهو من أمهات الأسماء المقدسة كالحي ، والقيوم بل هو الأم وحده ، لأنه ينطوي فيه الخالق والعليم والقدير والمدبر والحكيم وغيرها ، فإنه غير الخلق كما يستفاد من قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٥٦] أي خلقهنّ.

وقد ذكر بعض المفسرين تبعا لجمع من اللغويين أنّ الرب بمعنى المالك والملك أو الصاحب. لكن التدبر في استعمالات هذا اللفظ يعطي أن الملك شيء وربانيته شيء آخر قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) [سورة الزمر ، الآية : ٦] وقال تعالى (بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) [سورة النّاس : الآية : ٤] فإن فيه خصوصية ـ ليست هي في المالك والملك والصاحب ـ وهي الربوبية الحقيقية الناشئة عن الحكمة الكاملة التي لا يتصور

النقص فيها بوجه ، فالتكوين شيء وتنظيم عالم التكوين بتربيبه على النظام الأحسن شيء آخر ، قال تعالى : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤]. ويدل على ذلك مضافا إلى ما ذكر عدم صحة استعمال كل واحد منها مقام الآخر في الاستعمالات الصحيحة إلّا بالعناية.

وعلى أية حال فإنّ الرب مجمع جميع أسماء أفعال الله المقدسة لأن جميع أفعاله تبارك وتعالى متشعبة من جهة تدبيره تعالى ، وتربيبه في كل موجود بحسبه فالرب مظهر الرحمة والخلق والقدرة والتدبير والحكمة فهو الشامل لما سواه تعالى ، فإنهم المربوبون له تعالى على اختلاف مراتبهم.

فكم فرق بين الربوبية المتعلقة برسوله الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو سائر الأنبياء العظام أو الملائكة المقربين وما تعلق بسائر النّاس.

فالربوبية لها مراتب تختلف باختلاف مراتب المربوب والمتعلق ، قال تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) [العلق ، الآية ٣] ، وقال تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (سورة الزمر ، الآية : ٧٥] وقد ورد في الأثر عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) : «رب الملائكة والروح».

وقد قرن هذا اللفظ في القرآن الكريم بما يفيد عظمته وجلالته قال تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) [سورة الصّافات ، الآية : ١٨٠] ، وقال تعالى : (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٨٦] ، وقال تعالى : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٢٦] ، وقال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [سورة يس ، الآية : ٥٨] ، وقال تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سورة سبأ ، الآية : ١٥] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ولجلال عظمته وقع مقسما به قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة النساء ، الآية : ٦٥] وقال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٢] ، وقال تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) [سورة الذاريات ، الآية : ٢٣].

ولأجل ما تقدم ـ من أنه أم الأسماء ، وكونه مظهرا لجملة من أسمائه المقدسة ـ لم يرد في القرآن الكريم دعاء من عباده إلّا مبدوّا باسم الرب قال تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠١] وقال تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٧] وقال تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٥] وقال تعالى : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٠] وغيرها من الآيات المباركة.

ولعل السر في ذلك هو إفادة هذا اللفظ حالة الانقطاع إلى الله تعالى أكثر من غيره ولذا وقع من أنبيائه العظام في تلك الحالة قال تعالى عن لسان نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «(يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى عن لسان نوح (عليه‌السلام) : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [سورة نوح ، الآية : ٥].

فليس في أسمائه المقدسة أعم نفعا وأكمل عناية ولطفا من اسم (الرب) بالمعنى الذي ذكرناه ، ولعل المراد بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٨٨] وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٥] وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة يس ، الآية : ٨٣] هو الربوبية العظمى الإلهية فإن التغييرات والتبدلات اللازمة لعالم الكون والفساد ، والإفاضات الحاصلة منه تعالى على العوالم هي عبارة عن الملكوت المضافة اليه تعالى.

مع أن الثابت في علم الفلسفة ان ما سواه تبارك وتعالى يحتاج إليه تعالى في البقاء كما يحتاج إليه في أصل الحدوث ففي كل لحظة ـ بل أقل منها ـ له رحمة خالقية وربوبية بالنسبة إلى ما سواه من الموجودات وهذا هو معنى القيمومية المطلقة التي لا يمكن إحاطة الإنسان بها وبالربوبية العظمى كعدم إمكان الإحاطة بذاته تعالى وتقدس شأنه.

قوله تعالى : (الْعالَمِينَ) : جمع عالم وهو أيضا جمع ، لا واحد له من

لفظه كالقوم والرهط والنفر ، واشتقاقه من العلامة بمعنى الدلالة فكل ما هو مخلوق علامة وآية كاشفة عن خالقه ، كما أن كل معلول أو مصنوع علامة للعلة أو الصانع. والممكن علامة عقلية للواجب بالذات ، فكل ممكن عالم من عوالمه عزوجل بذاته وكذا كل ما يتعلق من عوارضه وآثاره وخواصه من أدنى الموجودات إلى أرقاها فجميع الموجودات عوالمه وجميع عوالمه آياته ويأتي في الأخبار تفسير العالمين بالجماعات من المخلوقات أيضا.

وعن جمع إن العالم لا يطلق إلّا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء وإن لم تكن منهم وذاك لأن هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية. وهو فاسد لأنه إن كان المراد به التغليب فله وجه ، وإن كان المراد عدم الصدق الحقيقي على ما لا يعقل فهو مخالف لصحة إطلاق عالم التكوين فإن إطلاقه يشمل الجمادات أيضا. وإن اثر التربية يظهر في كل ما يسمى شيئا قال تعالى : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤]. فلا اختصاص للتربية بمن يعقل.

ثم إنّ معنى العالم ومدلوله وسيع جدا وغير محدود بحد ، بل غير متناه ـ بالمعنى الذي سنبينه إن شاء الله تعالى ـ فمن أقرب العوالم إلى الإنسان عالم التراب ـ الذي يكون محسوسا له وهو عظيم لم يتمكن الإنسان من إدراك جميع خصائصه وجهاته. مع أنه من أجل العوالم نفعا ، وكذا بالنسبة إلى عالم الإنسان الذي كل من أراد فهمه لا يزداد إلّا تحيرا فيه ، وهكذا غيرهما من العوالم ، فليس للإنسان إلّا الاعتراف بالعجز والقصور أمام جلال عظمته تبارك وتعالى.

والعوالم تارة : تكون في نفسها مترتبة منظمة بأن يكون كل سابق مقتضيا للاحقه ، فيصح أن يقال : أول ما خلق الله العقل في عالم الروحانيين والمجردات ، كما في الحديث. وأول ما خلق الله تعالى في عالم الماديات الماء ، كما عن علي (عليه‌السلام). وأول ما خلق الله في عالم الأعراض الحروف ، كما في بعض الأخبار إلى غير ذلك مما ورد في أوّليات خلق عوالمه تعالى ، وللفلاسفة من الأقدمين بل ومن المسلمين مباحث علمية في بيان

العوالم المترتبة (طولية) وقد أثبتوا ذلك بالبرهان وسيأتي تفصيل العوالم في محله إن شاء الله تعالى.

وأخرى : لا ترتب بينها بل ينشأ جمع من تلك العوالم عن مبدإ واحد في عرض واحد ، كما نشاهد ذلك في عالم الطبيعة.

وثالثة : تكون مركبة من القسمين كما هو المحسوس في عالم النطفة في صلب الرجال ثم مسيرها إلى الرحم ومجيئها إلى هذا العالم وكذا كل ما هو في مسير الاستكمال والارتقاء وتسمى هذه العوالم الطولية وفي عرض ذاك عوالم أخرى إن لوحظت مع نظيرها ، كما تقدم في القسم الثاني.

وهناك عوالم (طولية) أخرى يمر الإنسان عليها وهي عالم الدنيا ، وعالم البرزخ ، وعالم النشر والحشر ، وعالم الخلود ، وسيأتي بيانها في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

نعم هنا بحث وهو أنّ العوالم هل هي متعددة حقيقة أو أنّ تعددها اعتباري محض؟ عن بعض المحققين من المتألهين أنّ العالم واحد وهو عالم الدنيا وغيره من عوالم البرزخ والحشر والنشر والخلود من تبعاتها وشؤونها فتكون الدنيا كالمادة للجميع السارية فيها فيكون العالم واحدا حقيقة ، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له.

وكل ما تقدم من العوالم ـ بشؤونها وأصنافها ـ غير متناهية بجميع مراتبها ـ ويأتي شرح ذلك مفصلا ـ وأنّها مخلوقة بأحسن خلق وأكمل نظام ، كما أن جميع تلك الأصناف غير المتناهية مورد ربوبيته العظمى وقيمومته المطلقة وله المعيّة (الإحاطة) التدبيرية بكل ما سواه من العالم ، ولكن تلك المعية في العباد لا توجب سلب اختيارهم ، لأن الإختيار فيهم ثابت لفرض وجود التربية التشريعية وهي لا تعقل بدون الإختيار.

وأما تربيته التكوينية فهي منحصرة بإرادته واختياره تعالى كما يأتي تفصيل هذا الإجمال في محله إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ في ذكر رب العالمين بعد الحمد دلالة على أن من موجبات

استحقاقه تعالى للحمد هو كونه رب العالمين.

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : تقدم تفسيرهما. وإنما كرر سبحانه وتعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هنا ، بناء على جزئيّة البسملة للفاتحة ، كما هو الحق عند المسلمين ، لأنّ الرحمن الرحيم ، لوحظا في البسملة بالعنوان العام من كونهما من صفات الذات الأقدس بلا إضافة إلى شيء ، وفي الفاتحة لوحظا باعتبار منشأ استحقاقه تعالى للحمد ، فهذه الخصوصية توجب الاختلاف في الجملة ، وبها يرتفع التكرار.

قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). هذه المادة (المالك) بأي هيئة استعملت تكون بمعنى الاستيلاء والإحاطة والاحتواء سواء أكان بالنسبة إلى الخلق والإيجاد أو بالنسبة إلى النظم أو الانتظام. نعم ؛ هي في المخلوق محدودة لفرض محدودية ذاته وصفاته وفي الخالق لا وجه للتحديد فيه بوجه من الوجوه ، وذكر يوم الدين من باب ذكر بعض المصاديق لنكتة لا للانحصار كما ستعرف.

نعم ؛ مالكية يوم الدين تستلزم مالكيته لجميع العوالم السابقة عليه نحو استلزام النتيجة للمقدمات كما أن مالكية الدنيا ملازمة لمالكية يوم الدين كاستلزام المقدمات للنتيجة المنطوية فيها ، مع أن قوله تعالى : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [سورة تبارك ، الآية : ١] ، وقوله تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) [سورة التغابن ، الآية : ١] ، وقوله تعالى : (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٨٨] عام يشمل جميع العوالم ومالكيته لها بالدلالة المطابقية.

ثم إنه وردت هذه المادة بأغلب مشتقاتها في القرآن الكريم فقد أطلق فيه الملك (بفتح الميم وكسر اللام) بالنسبة إليه تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٣] وقال تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) [سورة طه ، الآية : ١١٤] ، وقال تعالى : (مَلِكِ النَّاسِ) [سورة الناس ، الآية : ٢] كما ورد الملك (بضم الميم وسكون اللام) مضافا إليه تعالى كثيرا قال تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحديد ، الآية :

٢] ، وقال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) [سورة فاطر ، الآية : ١٣] ، وقال تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٦]. وقد ورد المالك ، قال تعالى : (اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٦]. كما ورد المليك أيضا ، قال تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [سورة القمر ، الآية : ٥٥] ولم يرد الملك (بكسر الميم وسكون اللام) لإغناء الملك (بضم الميم) عن ذلك بالأتم والأكمل ، ولعل عدم وروده في القرآن لأنه غالبا يستعمل في الأمور الزائلة وهو تعالى منزه عن إضافة مثله إليه.

هذا وقرئ (ملك) لأن كل ملك يستلزم المالك ولا عكس. والظاهر أنه لا فرق بالنسبة إليه تعالى لكونه مالكا في عين ملكيته تعالى وبالعكس فكما أنه تعالى رب العالمين بالنسبة إلى جميع الموجودات كذلك ملك ومالك بالنسبة إلى جميعها أيضا.

وقد يرجح قراءة (مالك) ، لأن المالكية تشمل ملكية الأجزاء والجزئيات بخلاف (ملك) ، فإن الملكية هي التسطير على الكل. هذا بحسب اللغة.

وأما بالنسبة إليه تعالى فقد قلنا : إنه لا وجه لذلك ، كما تقدم ، وان كان قراءة (مالك) أوفق بالعرف.

(يَوْمِ) : المراد به هو الوقت ، وان كان إطلاقه على الزمان الذي لا ظلام فيه بالطبع إطلاقا شائعا ولكن ليس بحسب ذاته ومن مقوماته فهو غير محدود بحد معين بل هو بالنسبة إلى هذا العالم الذي نحن فيه المقدر فيه الليل والنهار لأجل دوران الكرة الأرضية لا بالنسبة إلى جميع العوالم ، ولذا لم يذكر اليوم في القرآن في مقابل الليل وإنما ذكر النّهار في مقابله.

ومما يدل على عدم التحديد فيه قوله تعالى : (إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) [سورة الحج ، الآية : ٤٧] ، وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٤] ، وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [سورة فصلت ، الآية : ١٢] بناء على أن اليوم المعهود

لدينا إنما حدث بعد خلق السموات والأرض ولا وجه لأخذ الحد الخاص الحاصل من خصوصيات عالم معين في معنى الكلمة الذي هو عام وشامل لجميع العوالم إلّا إذا كانت هناك قرائن معتبرة خارجية تدل على خصوصية معينة وحد خاص.

(الدِّينِ) : هو الجزاء ويوم الدين هو يوم الجزاء على الأعمال وحسابها ، كما في آيات كثيرة مثل قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة غافر ، الآية : ١٧] ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٨]. الى غير ذلك من الآيات المباركة.

والمستفاد من مجموع الآيات أنّ الإنسان من بدء حدوثه إلى خلوده هو في يومين : يوم العمل الذي يعبّر عنه ب (الدنيا) ويوم الجزاء المعبّر عنه ب (الآخرة) ، أو يوم القيامة ، أو غير ذلك.

وقد وصف الله تعالى هذا اليوم بأوصاف شتى كالعظيم ، قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [سورة مريم ، الآية : ٣٧] ؛ والمحيط كقوله تعالى : (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [سورة هود ، الآية : ٨٤] ، وبأنواع الحوادث العظيمة الهائلة قال تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [سورة الحج ، الآية : ٢].

وكل ذلك لأجل بيان نهاية عظمة اليوم ؛ وقد لخصها الله تعالى في سورة الإنفطار بأحسن تلخيص وأكمل بيان وأتم دهشة ، وفي المقام مباحث تأتي في مواضعها المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

وإنما ذكر الله عزوجل (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مع أنه تعالى مالك لجميع ما سواه ولم يخرج عن ملكه شيء لأن يوم الدين مظهر ثبوت الوحدانية المطلقة والربوبية العظمى الإلهية عند الكل وانقهار الجميع تحت قهاريته وهو يوم ظهور فساد الشرك الذي توهمه النّاس بزعمهم وخيالهم فيوم الدين يوم يظهر فيه التوحيد الحقيقي والعدل الإلهي.

وإنما ذكر (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بعد (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ترغيبا لعباده

وحنانا عليهم بأن لا تغلبهم دهشة اليوم ، فإن الرحمن الرّحيم معهم في أي عالم وردوا عليه وحاضر فيهم في ما إذا أحاطت بهم الدهشة.

وهذا من لطيف المعاتبة بين المالك الحكيم الغني والمملوك المحتاج فيدفع بيد ويجذب بالأخرى وقد جمع الله تعالى بين الترغيب والترهيب.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : لفظ الخطاب [إياك] استعمل هنا في مقام الحصر ، وقد أطلق عليه تعالى في القرآن بضمير الغيبة وضمير المتكلم مع إفادتهما الحصر أيضا ، قال تعالى : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة يوسف ، الآية : ٤٠] ، وقال تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٥٦].

ويستفاد الحصر في المقام من أمرين :

أحدهما : سياق الآية المباركة لأن من كان (رَبِّ الْعالَمِينَ) و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) و (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لا وجه لعبادة غيره فإنّ غيره مطلقا مملوك له تعالى ومحتاج إليه ولا وجه أن يدع من له تلك الصّفات في عبادته ويعبد غيره ، ومنه يظهر سر قولهم (عليهم‌السلام): «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» وكثرة إطلاق الجهل على المشركين في الكتاب والسنة.

الثاني : استفادة الحصر من انفصال الضمير وتقديمه وينحل الحصر الى النفي والإثبات كأنه قال : لا نعبد غيرك ونعبدك ، كما في لا إله إلّا الله. وسائر موارد الحصر.

وفي الآية المباركة التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه بعد إقرار العبد بالالوهية والاعتراف بالربوبية وانه مالك يوم الجزاء صار لائقا بالمخاطبة الحضورية معه تعالى فارتقى العبد من الغيبة الى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجه والحضور.

وللتوجه من الغيبة الى الحضور مراتب بحسب مراتب المعرفة والطاعة في العبد ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

(نَعْبُدُ) العبادة : الطاعة وأصل المادة تنبئ عن الذل والخضوع والاستكانة والانقهار في أي هيئة استعملت ومنها العبد والمملوك. فالمادة تشمل العبودية التسخيرية ، والعبودية الاختيارية والواقعية والعبادات الباطلة الاعتقادية ، كما في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [سورة يس ، الآية : ٦٠]. وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٨] ، وقوله تعالى : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) [سورة العنكبوت ، الآية : ١٧] ،

والعبادة : خضوع خاص ناشئ عن الإعتقاد بأن للمعبود عظمة ، ولا يحيط بها العقل في المعبود الحقيقي ، لعدم وصول الإدراك الى عظمته فضلا عن ذاته ، وان كان مدركا بالآثار ، كما عرفت فإنه أعلى وأجلّ من أن يرقى إليه إدراك أحد ، ولذا لا تصدق العبادة على الخضوع بالنسبة إلى غيره تعالى.

وقد تطابق العقل والنقل على عدم جوازها لغيره تعالى لأن حقيقتها الخضوع لمن هو في أعلى درجات الكمال بحيث لا كمال فوقه وهو منحصر بالله تعالى ، وفي قوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (*) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ٩٥ ـ ٩٦] إشارة إلى ذلك ، وأنه لا تكون العبادة الا للخالق ومفيض الحياة والإطلاق بالنسبة إلى غيره تعالى اعتقادي باطل لا واقعي حقيقي.

والعناوين الشايعة ثلاثة : العبادة ، والطاعة ، والانقياد.

والأول ـ عبارة عن إتيان العمل بقصد التقرب إلى الله تعالى سواء كانت صحة العمل في حد نفسه متوقفة على قصد القربة ـ كالصّلاة والصوم والحج وغيرها من سائر العبادات ، فإذا أتى بها من دون قصد القربة يبطل أصل العمل ، أو لم تكن كذلك ، كقضاء حوائج الإخوان وأداء حقوق النّاس ، أو مثل النظافة فإذا كان لله تعالى يثاب عليه مع حصول الطاعة وإذا لم يكن له تعالى تحصل الإطاعة دون الثواب ، فالإطاعة أعم من العبادة ، كما أنّ الانقياد أعم من كل منهما لإطلاقه عليهما وعلى إتيان ما يحتمل أنه محبوب لله تعالى وترك ما يحتمل انه مبغوض له عزوجل وإن لم يكن أمر ونهي منه تعالى ، وقد فصلنا

الكلام في كتابنا [مهذب الأحكام].

وقد وردت الإطاعة في كثير من مشتقاتها في القرآن الكريم ؛ قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧١] ، وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٤] ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) [سورة النساء ، الآية : ٦٤] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ثم إنّ العبادة هي التوجه إلى المعبود في القيام بما جعله من الوظيفة وإتيان المطلوب الذي أراده من العبد وحيث إنّ الله تعالى يطّلع على النوايا كاطّلاعه على الأعمال فلا بد أن تكون النوايا القلبية متوجهة إليه تعالى ومنحصرة في العبودية له تعالى.

وبعبارة أخرى كما أنّ العابد حاضر لدى الله تعالى ولا يخفى منه على الله شيء وهو عالم السر والخفيات ، بل (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، يعلم خطرات القلوب وحركات الجوارح ولحظات العيون فلا بد وأن يكون توجه العابد إلى مثل هذا المعبود كاملا وكذا في قلبه تاما بحيث لا يخطر في قلبه غيره فإن ذلك يوجب النقص في العبادة والعبودية بل قد يوجب الطرد والهجران والإثم والعصيان ، وقد قال علي (عليه‌السلام) في معنى العبادة : «أن تعبد الله كأنك تراه وان لم تكن تراه فإنه يراك». ويأتي التفصيل في قوله تعالى : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٩].

والدواعي للعبادة كثيرة حتّى عند شخص واحد فربما يختلف دواعيه لها في حالة عن حالة أخرى وكلما كانت العبادة مجردة عن الدواعي الشخصية والمادية كانت العبادة أشد خلوصا لله تبارك وتعالى ولذا ورد عن علي (عليه‌السلام): «أن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار» ونسب إليه (عليه‌السلام): «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك

أهلا للعبادة فعبدتك» ، وعن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام): «العباد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفا ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء. وقوم عبدوا الله عزوجل حبا له ، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة». ولا شك في أن عبادته لحبه تعالى ، كما في هذه الرواية من أفضل أنحاء العبادات لخلوصها حتّى عن المسألة عنه تعالى وإضافة شيء إليه عزوجل خارجا عن ذاته ، ولكن في بعض الروايات عن علي (عليه‌السلام) كما تقدم «أن قوما عبدوا الله شكرا ، فتلك عبادة الأحرار» وهي من أفضلها أيضا ولكن لا تصل إلى مرتبة المحبة ، لأن المحبة قد تصل إلى مرتبة الفناء في المحبوب فلا يرى شيئا آخر أبدا وراء أهلية المحبوب والشكر هو لحاظ شيء آخر وراء ذات المحبوب وسيأتي تفصيل هذه المباحث في محالها إن شاء الله تعالى.

وإذا تحققت العبادة الواقعية بحيث لا يشوبها شيء كانت ثمرتها عظيمة لا يمكن حدها ، وقد ورد في ذلك ما يوجب التحير منه ، فعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «إن الله جل جلاله قال : ما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبه ـ الحديث ـ» فإن محبته تعالى لعبده من أجلّ مراتب الكمال وتوجب وصوله إلى مقامات عالية لاستلزام الانقياد والعبودية التامة من العابد الإفاضة المطلقة بالنسبة إليه ويستفاد ذلك من كثير من الروايات ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وعن المحقق الطوسي أن العبادة أقسام ثلاثة : قلبي كالعقائد الحسنة وبدني كالأعمال الحسنة ، واجتماعي كالمعاملات الشرعية والأخلاق الحسنة مع النّاس وسيأتي في الآيات المباركة المناسبة لها تفصيل الكلام.

قوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : الاستعانة طلب العون ، والحصر هنا كالحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لفظي وسياقي وحالي ، لأن الغني المطلق من كل جهة ، لا بد وأن تنحصر الاستعانة به ، والاستعانة بما سواه ان رجعت إليه تكون الاستعانة به ، والا تكون شركا من هذه الجهة ، فيكون المعنى هنا مشتملا على النفي والإثبات ، أي : لا نستعين بغيرك ونستعين بك فقط.

ثم إنّ الاستعانة بالله تعالى إما اختيارية أو تكوينية بلسان الحال والاستعداد ، والثانية من لوازم الإمكان لا تنفك عنه في جميع العوالم فإن المخلوق محتاج في حدوثه وبقائه إلى الخالق ومستعين به بل كل معلول مستعين كذلك من علته ، كما ثبت بالبراهين العقلية والنقلية أن مناط الحاجة الإمكان دون الحدوث فجميع ما سواه مستعين به ذاتا وقد تجتمع الاستعانتان ، كما في المؤمنين بالله تعالى فإن فيهم الاستعانة التكوينية والاختيارية ، وكل ما تجلت عظمة المستعان في قلوبهم اشتدت استعانتهم به فالاستعانة به تعالى تتفاوت شدة وضعفا.

وتأخير العبادة والاستعانة عن (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) نحو تأخير المعلول عن العلة يعني : من كان رب العالمين ومالك يوم الدين لا بد وان يكون معبودا ومستعانا به. كما أن في تقديم العبادة على الاستعانة اعتراف بالمسكنة والخضوع بألطف وجه في أن يعتني الغني المطلق باستعانته ، ومن ثم قيل : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة مع أنه من قبيل تقديم الغاية على ذيها لكثرة أهمية الغاية فإن غاية الاستعانة بالله انما هي استعانته في عبادته وان ما سواها أمور زائلة وحقيرة ، والعاقل لا يستعين بالله تعالى في أمور زائلة غير دائمة إلّا إذا رجعت إلى ما هو دائم يبقى.

بل إن عبادته تعالى والاستعانة منه عزوجل متلازمتان فعبادته استعانة به كما أنّ نفس الاستعانة عبادة له فيكون مثل قول القائل : أديت ديني فقضيت حاجتي أو قوله قضيت حاجتي أديت ديني. وفي ذلك إشارة إلى أن لا ينسب العبد الى نفسه شيئا فانه خلاف أدب العبودية.

وجملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) دليل واضح على إبطال الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين ، كما ذكره الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) على ما يأتي بيان هذا المبحث الشريف مفصلا في الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالى.

وإنما ذكر «نعبد» و «نستعين» بلفظ الجمع إما باعتبار القارئ ومن معه من الملائكة الحفظة ، أو باعتبار من معه في صلاة الجماعة ، أو من

المصلين ، أو باعتبار من معه في الاعتقاد رجاء أن يكون فيهم من يقبل عمله فيقبل منه أيضا ، ولأجل تصغير ما يصدر عنه من العمل فإذا التفت إلى أن الكل يعبدونه ويستعينون به عزوجل فلا يغتر به ولا يحسب لنفسه وزنا.

والأولى أن يقال : إن لفظ الجمع فيهما للتحريض إلى حفظ وحدة المجتمع الذين يعبدونه تعالى ويستعينون به فكما انهم مجتمعون في وحدة المعبود والعبادة والمستعان به لا بد أن يكونوا كذلك في جميع شؤونهم كما تدل عليه آيات كثيرة ، وسيأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

وإنما كرر لفظ «إياك» لتأكيد الحصر وتشديده في كل واحد من العبادة والاستعانة ، وإطلاقها وحصرها فيه تعالى يقتضي الاستعانة به في جميع الأمور مطلقا ، وهي عبارة أخرى عن الاعتقاد ب «لا حول ولا قوة إلّا بالله» والعمل بمقتضاه في جميع الأحوال.

قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). هذا هو ثمرة العبادة والغرض الأقصى من الاستعانة وأعلى المقامات الإنسانية. وهي الأمانة التي عرضت (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢].

والهداية : الدلالة سواء كانت إلى الحق أو الباطل ، وكثيرا ما تستعمل في القرآن في الأول ، ومن الثاني قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [سورة البلد ، الآية : ١٠] ، وقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [سورة الصافات ، الآية : ٢٣].

وللهداية مراتب كثيرة متفاوتة يصح تعلق الطلب بجميع مراتبها كما يصح تعلقه بالمراتب الراقية وان كان الشخص واجدا لها بالنسبة إلى المراتب السابقة ، ففي كل مرتبة منها تطلب المرتبة الأرقى منها ، فلا وجه للإشكال بأن الشخص إذا كان واجدا للهداية لا يصح أن يطلبها من الله تعالى ثانيا لأن إبقاء ما يكون واجدا له وتكميل مراتبه وطلب ما فوقه كلها من الله تعالى.

والهداية من أفعاله تعالى وهي من صفات الفعل لا صفة الذات وقد

اضطربت كلمات الفلاسفة المتألهين في الفرق بين ما هو صفة ذاته تعالى وما هو صفة فعله فجعلوا بعض ما هو صفة الفعل صفة لذاته عزوجل وبذلك عسر الجواب عنه ولم ينهضوا بدليل يحسم الاشكال. لكن المستفاد من الآيات الشريفة ـ على ما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى ـ والسنة المقدسة قاعدة كلية وهي : كل ما يصح توصيف الله تعالى به وبنقيضه أو ضده فهو من صفة الفعل وكل ما لا يصح ذلك فيه فهو من صفة الذات.

والأول ـ كالإرادة ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، وقال تعالى : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة المدثر ، الآية : ٣١].

والثاني ـ كالحياة والبقاء والعلم مثل : السميع والبصير والقدير ، وسيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ثم إن الهداية إما تكوينية أو تشريعية :

والأولى : ما يعم جميع ما سواه تعالى من المجردات والماديات ويدل على ذلك قوله تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [سورة طه ، الآية : ٥٠] فالبلوغ إلى مرتبة الكمال في كل موجود هداية بالنسبة إليه.

والثانية : تخص المؤمن ويطلبها منه عزوجل وقد جمعت في الإنسان الهدايتان التكوينية والتشريعية وهو يطلبهما معا أما الأولى بالاستعداد كما في سائر الموجودات والثانية بالطلب الذي يختص به وأما الكافر فله الهداية التكوينية فقط كالنباتات والحيوانات وإنما ترك الهداية التشريعية باختياره بعد ما تمت الحجة عليه.

الصراط : وهو الطريق المؤدي إلى المطلوب. والاستقامة هي الاستواء في مقابل الانحراف والاعوجاج. وإنّها تعم الجميع من الاعتقادات والملكات بل والخواطر النفسانية وأعمال الجوارح من العبادات والمعاملات والمجاملات فإنها إن تطابقت مع رضاء الله تبارك وتعالى كانت مستقيمة وإلّا فهي منحرفة قال تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠١] فبين تعالى معنى الهداية والصراط المستقيم بل يتحقق

الصراط المستقيم في جميع الموجودات فإنّها إن طابقت مع ما جعله الله تعالى لها في النظام الأحسن كانت على الصراط المستقيم وإلّا خرجت عنه بعدم بلوغها الى غاياتها للحوادث الطارئة.

فالهداية الى الصراط المستقيم متقومة بطرفين : المفيض وهو الله تعالى ، والمستفيض وهو ما سواه تعالى ، لأنّ جميع الموجودات في طريق الاستكمال الذي أعده الحكيم جل شأنه.

ثم إنّ الصراط المستقيم كلي واقعي له أنواع كثيرة متفاوتة في التجرد والتعلق بالمادة وغير ذلك ويتحد مع الجميع اتحاد الجنس مع أنواعه فالمجرد منه كالعقل الكلي والمتعلق بالمادة منه كنفوس الأنبياء والأوصياء ، والأولياء والعرضية منه كالكتب السماوية والتشريعات الإلهية.

وقد بين الله تعالى معنى الصراط المستقيم الذي يطلبه الإنسان في عدة آيات ، منها قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] ، فجعل الدين هو الصراط المستقيم ، ومنها قوله تعالى : (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [سورة الزخرف ، الآية : ٦١] ، فجعل اتباع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو الصراط المستقيم ، وكذا في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٧٤] ، ومنها قوله تعالى : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [سورة يس ، الآية : ٦١] ، وجميع هذه الآيات المباركة بيان لأمر واحد وهو الدين الذي أراده الله تعالى لخلقه وعبّر عنه بالنور في الآيات الكثيرة كما سيأتي بيانها.

والانحراف عن الصراط المستقيم وقوع في الظلمات التي لها أنواع كثيرة يجمعها قوله تعالى : «المغضوب عليهم والضالين» على ما سيأتي ، وذكره تعالى المغضوب عليهم والضالين بعنوان الجمع اشارة الى التعدد والاختلاف وعدم الوحدة فيه بخلاف الصراط المستقيم فإنه واحد لا تعدد فيه بوجه وهو النور الذي لم يستعمل في القرآن إلّا مفردا بخلاف

الظلمات ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٧] وقوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] فالنور والصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى كما أن بقاءه به ومنتهاه إليه بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الإعتقادات والأهواء الباطلة قال تعالى : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦].

نعم المستفاد من مجموع الآيات والروايات أن الظلم والشرك من الشيطان فهما حقيقة واحدة لها مراتب كثيرة ومظاهر متفاوتة والاختلاف في التعبير دون الحقيقة وسيأتي تفصيل ذلك في بيان حقيقة الشيطان إن شاء الله تعالى.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). بيان للصراط المستقيم وإنما كرر لفظ «الصراط» ، لأهمية الموضوع وأنّ المطلوب ليس مجرد حدوث الهداية فقط بل بقاؤها وإبقاؤها ؛ وقد بيّن تعالى الصراط المستقيم بنفسه ، لأن صراطا يكون مبدؤه من الله تعالى ومنتهاه اليه كيف يمكن وصفه وبأي وجه يتحقق نعته؟!! فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلّا بما وصفه الخالق بالقول الجامع في قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فمن يقدر أن يحد هذه النعمة العظمى التي هي أجلّ مواهب الله تعالى في الدنيا والآخرة وأعلى الكمالات الإنسانية في ما يرد عليه من العوالم كلها وأنّى للممكن المتناهي من كل جهة أن يحيط بحقيقة ما يكون كله منه تبارك وتعالى.

وعن جمع من اللغويين أن استعمال النعمة يختص بذوي العقول فلا يستعمل في غيرهم إلّا بالعناية وله وجه إن أريد منه أن الغاية من خلق النّعم هو الإنسان ، كما في قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [سورة

البقرة ، الآية : ٢٩]. وأما لو أريد ملاحظة الوسائط بعضها مع البعض فلا كلية له ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) [سورة لقمان ، الآية : ٣١].

وإنما اطلق لفظ النعمة في الآية المباركة ، ليفيد التعميم من كل جهة تتصور من النّعم الظاهرية والباطنية ، قال تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [سورة لقمان ، الآية : ٢٠].

كما بين تعالى بعض مصاديق نعمه في الآية المباركة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء ، الآية : ٦٩] فإنهم نعم مطلقا وان النّعم الواردة من المبدأ غير محدودة بحد خاص ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤].

ثم إنّ مادة (نعم) استعملت في القرآن العظيم بهيآت مختلفة كلها تشعر بالحنان والرأفة والعطف والرحمة قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ) [سورة الغاشية ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٧] ، وقال تعالى : (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) [سورة الدخان ، الآية : ٢٧] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ما ذكرنا.

تلخيص ما تقدم في أمور :

الأول ـ لا ريب في أنّ تشريع الأديان السماوية وإنزال الكتب الإلهية وتكميل النفوس الإنسانية بل وتنظيم العالمين ـ الدنيا والآخرة ـ متقوّم بهدايته تبارك وتعالى ولكثرة أهمية ذلك صارت الهداية من شؤونه المختصة به ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٣] وقال جل شأنه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة القصص ، الآية : ٥٦] وكما تكون نفس الهداية من فعله تعالى كذلك تكون مراتبها وأقسامها لأنّه حكيم عليم بخصوصياتها ولكنّها في الإنسان بتوسط الإختيار دون غيره من سائر المخلوقات.

ثم إنّ هذه الهداية ـ بالمعنى الذي تقدم ـ واجبة في النظام عقلا لأنّ في تركها إهمالا للنفوس المستعدة وتضييعا لها وهما قبيحان عقلا وكل قبيح ممتنع بالنسبة إليه جل شأنه.

وسبل الهداية بالنسبة إلى الله تعالى كثيرة فكل ما يسوق العبد اليه عزوجل يكون من مظاهر هدايته ومصاديقها فالقرآن من هدايته تعالى لعباده قال تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٧] ، وقال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥]. وكذلك سائر الكتب السماوية ، قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤]. وجعل الكعبة المشرفة أيضا من مظاهرها قال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٦]. كما أن السنة الشريفة أيضا كذلك ، لأنها أحسن سبيل لتكميل النفوس الإنسانية.

الثاني ـ إنّ هدايته جل شأنه لعباده على أنواع :

الأول : عام يشمل الجميع قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الدهر ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [سورة البلد ، الآية : ١٠]. ولا ريب في شمولها لجميع أفراد الإنسان كما يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة.

الثاني : الهداية الخاصة وهي تخص بجمع بذلوا وسعهم في العمل بالشريعة المقدسة فزادهم الله تعالى بذلك أنحاء الهداية لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٠] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

الثالث : ما هو أخص من الثاني كما ورد في شأن رسوله وحبيبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الإسراء ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٥]. وغير ذلك مما ورد في شأن أنبيائه الكرام وهذا مقام عظيم لا يليق لأحد إلّا لهؤلاء (صلوات الله عليهم أجمعين). ولكل من هذه الأنواع مراتب كثيرة أيضا.

(الثالث) : حيث إنّ منشأ الصراط المستقيم ـ بكلا معنييه ـ من علمه تعالى وإبداع حكمته التامة وإحاطته به من جميع الجهات فهو الأصل في الكمالات وينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات ، فيكون مبدؤه علمه تعالى وبقاؤه بديع حكمته جل شأنه ومنتهاه الخلود في جنته وفي مثل هذا الأمر ـ الذي لا يدرك عظمته ـ لا يتصور فيه نقص وينطوي فيه جميع المعارف الإلهية ، وما يتصور فيه من الاشتداد والضعف إنما هو من ناحية المتعلق ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

(الرابع) : تقدم أن الصراط هو الطريق المؤدي إلى المطلوب واستعمل في القرآن الكريم موصوفا بالاستقامة والإستواء غالبا ، وقد أضيف اليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٦] ، وقوله تعالى : (صِراطِ اللهِ) [سورة الشورى ، الآية : ٥٣] وقال الله تعالى : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سورة سبأ ، الآية : ٦].

ولم يضف الصراط الى غيره تعالى إلّا نادرا بخلاف السبيل فإنه أضيف إلى غيره تعالى كثيرا ، كما أنّه ذكر بلفظ المفرد والجمع ، قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣] ، وقال تعالى : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩].

والسبيل هو الطريق الموصل إلى الصراط واختلاف السبل لا يوجب الاختلاف في أصل الصراط ، فمثل الصراط المستقيم والسبل المؤدية إليه مثل البحر وما يتفرع عنه من الجداول فالبحر يفيض على الكل والكل

مستفيض من البحر وكلها موصوفة بالاستقامة والرشاد وبإزائها الاعوجاج والانحراف والسبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان كما تقدم.

(الخامس) : للصراط المستقيم مراتب من الوجود. (الأولى) : مرتبة البيان وإتمام الحجة وهي من الله تبارك وتعالى وأنبيائه العظام وأوصيائهم (عليهم‌السلام) ويدخل في ذلك جميع الشرايع الإلهية والرسالات السماوية. (الثانية) : مرتبة الاعتقاد. (الثالثة) : مرتبة العمل وهما من وظائف العبد إلّا أن الثاني أشقهما عليه (الرابعة) : مرتبة ظهوره في النشأة الآخرة ومن هذه المرتبة الصراط في يوم القيامة الذي لا بد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود.

فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفيا ، إذ لا تكليف في يوم القيامة وان اختلف زمان العبور وكيفيته تبعا لاختلاف درجات العابرين ومعنوياتهم.

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). بيان للآية السابقة اهتماما بصراط المنعم عليهم واعتناء بشأنهم وأنه يباين طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فالجملة الأولى وقعت في مقام المدح لعباد الرحمن والأخيرة كأنها وردت في مقام رجم الشيطان ومن تبعه.

والغضب : هو الشدة ، ورجل غضوب أي : شديد الخلق. وغضب الله تعالى عقابه دنيويا كان أو أخرويا أو هما معا ، كما أن رضاه ثوابه ، وهما من صفات الفعل لا من صفات الذات وتقدم بيان الفرق بينهما.

الضلال بمعنى التحير ويستلزمه الهلاك والغيبة عن المقصود الحقيقي والعقاب والهلاك متلازمان ، وإنما ذكرهما معا بيانا للمبدأ والأثر ، فالضلال مبدأ العقاب ومنشأ استحقاقه والعقاب مترتب على الضلال ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) وإنما قدم الغضب والعقاب على الضلال إرشادا للإنسان بأن لا يرتكب ما يوجب غضب الله تعالى.

والغضب استعمل في القرآن مع اللعن ومع الرجس ومع العذاب كما في قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٠] ، وقوله تعالى : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) [سورة الأعراف ،

الآية : ٧١] ، وقال تعالى : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٦] ، وقال تعالى : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) [سورة الفتح ، الآية : ٦] بل ورد في مورد بعض المحرمات أيضا : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) [سورة النساء ، الآية : ٩٣].

ويستفاد من ذلك كله شموله لكل من انحرف عن الصراط المستقيم بالكفر سواء كان مشركا أو غيره من أي ملة كان.

وأما الضلال فهو بمعنى التحير كما عرفت فيشمل مطلق الكفر أيضا ، قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٦] فتفسير الأول باليهود والثاني بالنصارى من باب التطبيق لا التخصيص حتّى أنه أطلق الضلال على مطلق العصيان أيضا قال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦].

بحوث المقام

بحث روائي :

وردت روايات كثيرة متفق عليها بين المسلمين في فضل فاتحة الكتاب ـ المسماة ب (السبع المثاني) ، و (أم الكتاب) أيضا ، كما في روايات كثيرة ـ ويكشف ذلك عن امتياز هذه السورة عن سائر السور فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أن فاتحة الكتاب أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه وهي شفاء من كل داء إلّا الموت» ويحمل ذلك على الموت الحتمي الذي لا بداء فيه وإلّا فيمكن أن يكون شفاء عن الموت غير الحتمي أيضا لقول أبي عبد الله (عليه‌السلام): «إنها من كنوز العرش وانها لو قرئت على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا».

أقول : لا يتصور محل أرقى من كنوز العرش الذي نزلت منه هذه السورة المباركة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان العرش وما يتعلق به في الآيات المناسبة له. وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش» ، وعن علي (عليه‌السلام): «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش».

وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «انه قال لجابر : ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه؟ قال : بلى علمنيها فعلمه الحمد لله أم الكتاب ثم قال هي شفاء من كل داء».

أقول : الأم هي الأصل في كل شيء بحيث يتفرع منها الأشياء ، فأم الكتاب أي : أصل الكتاب.

كما أن أم القرى أصلها أيضا بحيث تفرعت عنها سائر القرى ، كما ورد في النصوص ، وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [سورة الشورى ، الآية : ٧] ، تكون الفاتحة كذلك ، لاشتمالها على كثير من معارف القرآن على نحو الإجمال ، كما سيأتي في البحث الدلالي.

وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال هي : أم القرآن تثنى في كل صلاة.

أقول : سميت الفاتحة أما لأصالتها وتفرع سائر القرآن منها ، كما تقدم.

وأما تسميتها بالسبع المثاني فلما ورد عن الفريقين أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «أعطيت الطول مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل سبع وستين سورة».

أقول : المراد من الطول من سورة البقرة إلى سورة التوبة ، والمئين هي السور التي تتضمن أكثر من مأة آية. والمثاني ـ التي هي جمع مثنى ـ مثل المعاني جمع معنى ـ أي : ما كرر فيه شيء ، وهي السور التي تقصر عن المئين ، أي : ما كانت على نحو مأة آية أو أقل ، وأما المفصل فهي السور التي

تفصل بينها البسملة كثيرا وتقصر آياتها.

وفي ذلك أقوال أخر : (الأول) إنها سميت ب (المثاني) لتكررها في الصّلاة. (الثاني) : إنما سميت بذلك لنزولها مرتين مرة بمكة ، كما تقدم عن علي (عليه‌السلام) ، وأخرى بالمدينة ، لعظمة شأنها ، ونسب ذلك إلى مجاهد ، ولكن المشهور على خلافه ويقتضيه الإعتبار أيضا. (الثالث) : أنّ المثاني جميع القرآن وفاتحة الكتاب سبعة آيات من أعظم آيات القرآن ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [سورة الحجر ، الآية : ٨٧] ، ويشهد له ما تقدم في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس.

ويصح أن يقال : إن المثاني من الأمور الإضافية ، كما عرفت وإطلاقها على فاتحة الكتاب بكل معنى يتصور بالنسبة إلى عنوان المثاني صحيح ؛ فهذه الأقوال من باب تطبيق الكلي على الفرد.

وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : قال : «قال الله عزوجل : قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ؛ إذا قال العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله جلّ جلاله : بدأ عبدي باسمي وحق عليّ ان أتمم له أموره وأبارك له في أحواله ، فإذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال الله جلّ جلاله : حمدني عبدي ، وعلم أن النعم التي له من عندي وأنّ البلايا التي دفعت عنه بتطولي ، أشهدكم اني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال الله جلّ جلاله : شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفّرن من رحمتي حظه ولأجزلنّ من عطائي نصيبه ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال الله تعالى : أشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه ولأتقبلنّ حسناته ولأتجاوزنّ عن سيئاته فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، قال الله عزوجل صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فإذا قال : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الله تعالى : بي استعان عبدي

وإليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة قال الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وآمنته مما منه وجل». وقريب منه عن ابن عباس عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا.

أقول : هذه الرواية تكشف عن أهمية سورة الفاتحة بالنسبة إلى سائر آيات القرآن ، فإنه (أولا) : جعل عبده شريكا لنفسه في المخاطبة والمكالمة (وثانيا) : قسّم السورة بين نفسه جل شأنه وبين عبده نصفين. (وثالثا) : جعل على نفسه الوفاء بما جعله لعبده. (ورابعا) : إنها أوثق رابطة بين العابد والمعبود وتوجه كل منهما إلى الآخر. (وخامسا) : حنان خاص من المعبود الحقيقي إلى عابديه.

فهذه السورة المباركة ـ التي جعلها الله تعالى في صلاة المسلمين ـ هي كمرآة لجميع معارف القرآن بأخصر البيان.

وعن علي (عليه‌السلام) في تفسير الحمد لله : «إنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا ، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل ، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف فقال لهم : قولوا : الحمد لله على ما أنعم به علينا».

أقول : ويدل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة النحل ، الآية : ١٨].

وعنه (عليه‌السلام) في تفسير رب العالمين : «مالك الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون يقلّب الحيوانات بقدرته ويغذوها من رزقه ويحوطها بكنفه ويدير كلا منها بمصلحته ، ويمسك الجمادات بقدرته ويمسك المتصل منها ان يتهافت ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه والأرض أن تنخسف إلّا بأمره.

أقول : الحديث ظاهر في عموم ربوبيته تعالى لجميع الموجودات بتمام شؤونها ، ويدل على ذلك ما تقدم في معنى الرب.

وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في بيان مالك يوم الدين : «إنّ أكيس الكيّسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت وإنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، وأحمق النّاس من باع آخرته بدنياه ، وأحمق منه من باع آخرته بدنيا غيره». وفي معناه ورد كثير من الروايات ، وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أو زنوها قبل أن توزنوا».

أقول : هذه الروايات المتواترة تدل على أهمية المعاد ووجوب كثرة الاهتمام به.

وعن علي (عليه‌السلام) في بيان (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».

أقول : والمراد من الإدامة تجدد مراتب الهداية بعد تحصيل كل سابق ، كما تقدم.

وعن الصادق (عليه‌السلام): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ الى جنتك والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك».

وعنه (عليه‌السلام) في الصراط : «هو الطريق الى معرفته عزوجل وهما صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى به مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم».

وعن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فقال : «فاتحة الكتاب من كنز العرش فيها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآية التي تقول : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) ، (و (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنّة حين شكروا الله حسن الثواب. و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل : ما قالها مسلم قط إلّا

صدّقه الله وأهل سماواته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إخلاص العبادة. (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَلَا الضَّالِّينَ) النصارى».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). قال : «صراط محمد وأهل بيته».

وعن ابن عباس كذلك قال : «قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد وأهل بيته».

أقول : الأخبار في ذلك كثيرة عن الفريقين ، وهو تعبير عن الكلي بالفرد وبيان أحد المصاديق ومثل ذلك كثير في القرآن العظيم والسنة الشريفة.

بحث دلالي :

هذه السورة تتضمن أمورا ـ :

الأول : إثبات وحدة ذاته تعالى لأنّ لفظ الجلالة (الله) كما تقدم بمعنى الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعية والإدراكية والشريك في الذات نقص بل من أخس أنحائه.

الثاني : إثبات وحدة فعله تعالى بذكر «رب العالمين» لأنّ العالمين بمعنى ما سواه وهو فاعل الكل ومربيه.

الثالث : إثبات وحدة المعبود بذكر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

الرابع : المعاد الذي هو من أهم المعارف الإلهية والإعتقاد به بذكره تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

الخامس : الإشارة إلى النبوات السماوية والشرايع الإلهية بذكر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

فهذه السورة على اختصارها مشتملة على جميع المعارف الإلهية والمعتقدات الحقة المذكورة في الكتب السماوية ، ويدل على فضل هذه السورة وكمالها مضافا إلى ذلك أمور أخرى :

منها : حسن نظمها وجمالها فإنها ابتدأت بالبسملة ثم الحمد وبعده ثناء الله عزوجل بأتم الصفات ثم إظهار العبودية لله تعالى التي هي أعلى مقامات الإنسانية ، فالاستعانة منه جل شأنه لدفع المهالك وجلب المنافع ثم طلب الهداية منه تعالى إلى طريق الصلاح ، فقد تجلى الله سبحانه وتعالى في القرآن وتجلى القرآن في الفاتحة ولأجل ذلك استحقت السورة ان تسمى ب (أم الكتاب) لاحتوائها ـ على اختصارها ـ عامة ما يحويه القرآن من المعارف وهي من أهم جوامع الكلم التي فضل الله تعالى خاتم أنبيائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بها وان شئت الظفر على بعض ما قلناه فانظر إلى ما يقرؤه أهل التوراة والإنجيل وسائر الأديان في صلواتهم تجد الفرق بينهما كبيرا.

ومنها : أنّها تبين أدب العبودية وتعلم العبد كيفية التكلم والمخاطبة معه جل شأنه ، والتلقين منه تبارك وتعالى دليل على القبول والاستجابة ، وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه يقول : «قال الله عزوجل قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي». وقد تقدم في البحث الروائي.

ثم إنّ ابتداء هذه السورة بالحمد يدل على محبوبيته له تعالى وحسنه على كل حال سواء كان لذاته أو لفعله أو لصفاته. والظاهر من إضافة الحمد إلى الله تعالى أن الذات الأقدس ذات محمودة والذات المحمودة بالذات تستلزم محمودية الصفات ـ التي هي عين الذات ـ فما تعارف بين العلماء من أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ـ كما تقدم ـ إنما هو بحسب الغالب المتعارف بين المخلوق بحسب إدراكهم والذات الأقدس خارج عن الاختيار ، والحمد على الذات الأقدس هو أعلى مراتب الحمد وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

نعم ، لا بد وأن ينتهي الحمد إلى الذات الأقدس والا لتسلسل ، لأن إنشاء الحمد من الحامد نعمة منه تعالى فهو يحتاج الى حمد آخر وهكذا

فيتسلسل ، وقال (عليه‌السلام) في الصحيفة السجادية : «وكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يحتاج إلى شكر فكل ما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد».

فمن لطائف القرآن ابتداؤه ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وآخر دعوى المخلدين في الجنّة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ١٠] ، فترجع النهاية إلى البداية ، وعليه شواهد من الكتاب والسنة تأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.

بحث فقهي :

يظهر من الروايات المستفيضة بين الفريقين أنّ قوام الصّلاة بفاتحة الكتاب فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وقال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» الى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

وأما التأمين بعد الفاتحة فيبحث فيه تارة ، بحسب الثبوت ، وأخرى : بحسب الإثبات.

أما الأول : إنّ الهداية إما أن تلحظ من حيث إضافتها إلى الله تعالى فهو الهادي فحينئذ لا رجحان لذكر آمين بعدها ، كما في جميع صفاته تعالى الفعلية ، وإما أن تلحظ من حيث اضافتها إلى العبد أي : طلب الهداية منه تعالى فكذلك أيضا لفرض حصول جميع مناشئ الهداية وأسبابها وموجبات إتمام الحجة منه عزوجل فقد حصل المطلوب خارجا فلا يعقل معنى صحيح للتأمين على ما وقع وحصل.

وإن كان المراد بها بحسب البقاء لا أصل الحدوث فإن أضيف البقاء إليه عزوجل فهي باقية لأنّ حجته تامة وباقية ببقاء الإنسان ولا وجه للتأمين عليه أيضا وإن أضيف الى العبد فهو من فعله ولا معنى لتأمين الشخص على فعله.

وإن أريد به أن يوفق الله عبده لإدامة الهداية لنفسه في المستقبل كما

وفقه في الماضي ، فهو خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل.

وأما الثاني : فقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأسناد غير نقية قول : «آمين» بعد تمام الحمد. فالمقام مقام الحمد لله تعالى على هذه النعمة العظيمة من وقوف العبد بين يدي الله تعالى ومخاطبته معه جل شأنه ، ويرشد الى ذلك قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٣] ، وقد ورد عن الصادق (عليه‌السلام): «إذا قال الامام ولا الضالين فقولوا الحمد لله رب العالمين».

ثم إنّه يجوز قصد الإنشاء بجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ونحوها من الآيات الكريمة مع قصد القرآنية أيضا لأنّ المتكلم في مقام إيجاد مفاهيم هذه الألفاظ لفظا والبناء على العمل طبقها خارجا.

وقد أشكل عليه جمع من المفسرين بأنّه من استعمال اللفظ في معنيين ، وهو غير جائز. (وهو مردود) : لأنّ الاستعمال الممتنع على فرض امتناعه إنما هو في ما إذا كان المعنيان فردين مستقلين في الإرادة الاستعمالية كل منهما في عرض الآخر لا في ما إذا كان أحدهما استقلاليا والآخر تبعيا. وإلّا فهو واقع كثيرا في المحاورات الصحيحة ، والمقام من هذا القبيل فيقصد القارئ القرآنية استقلالا والإنشائية تبعا والمسألة أصولية تعرضنا لها في [تهذيب الأصول].

بحث فلسفي :

المعروف بين جمع من الفلاسفة لزوم السنخية بين العلة والمعلول ، فالمباين من كل جهة لا يمكن أن يصير علة للمباين كذلك كما أنّ المباين من كل جهة لا يصدر من المباين كذلك وبنوا عليه مباحث فلسفية وعرفانية.

ولكن ظاهر قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) وغيره من الآيات المباركة

ـ الكثيرة التي يأتي بيانها ـ ينفي ذلك فإنّ موجد العوالم ومربّيها لا سنخية بينه وبينها إذ لا سنخية بين الممكن بالذات والفقير المحض وبين الواجب بالذات والغني المطلق كذلك.

ودعوى : انّ السنخية في مفهوم الموجودية متحققة. (مردودة) : بأنّه لا علية ولا معلولية في المفاهيم وإنّما هما من شؤون الحقائق فما هو مشترك لا يتصور العلية والمعلولية فيه وما هو علة ومعلول لا يتحقق الاشتراك فيه ، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالى.

ولذا ذهب جمع من محققي فلاسفة المسلمين إلى أنّ السنخية إنما تصح في العلل الطبيعية ، كتوليد النّار للحرارة. وأما الفاعل المختار القدير فلا وجه لذلك فيه ، كما عرفت.

سورة البقرة

مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

سميت هذه السورة المباركة ب (البقرة) لذكر قصتها في السورة وهي من أهم السّور القرآنية ففيها آيات من ذروة العرش بل من كنوزها ، ومن لباب المعارف الإلهية أسرارها ورموزها. وفيها أعظم آية في كتاب الله ، وأجمع آية للكمالات الإنسانية وآخر آية نزلت على صاحب النبوة وفيها شرعت جملة من أركان الدين وجعلت الكعبة المقدسة قبلة للأنام ومطافا لهم يأتونها من كل فج عميق.

وبالجملة كمال السورة إن كان لاشتمالها على المعارف الربوبية فهي في رأسها ، وإن كان لأجل اشتمالها على الأحكام التشريعية الفرعية فهي في مقدمتها ، وإن كان لأجل اشتمالها على القصص القرآنية فهي في طليعتها ، فحق أن تسمى سنام القرآن ، وسنام كل شيء ذروته وأعلاه.

التفسير

قوله تعالى : (الم) : المعروف بين المفسرين أنّ هذه الحروف

المقطعة في أوائل السور القرآنية من المتشابهات ولا ريب في أنّ العلم بها مختص بالله تبارك وتعالى أو بمن علّمه عزوجل لأنّ هذه الكلمات المقطعة قد أعيت العلماء على جهدهم عن الوصول الى آثارها فضلا عن العلم بكيفية تركيبها والاطلاع على حقائقها وأسرارها.

والظاهر أنّ ذكر الحروف المقطعة في القرآن العظيم يشير إلى أهمية الحروف الهجائية وكثرة عناية الله عزوجل بها لأنّها محور الشرايع السماوية والكتب الإلهية بل بها تقوم الحياة الاجتماعية في الإنسان ، ولأجل ذلك جعل تعالى البيان [أي النطق بها] في قبال خلق الإنسان فقال تبارك وتعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٤]. وعلى هذا يمكن أن يكون «ذلك الكتاب» مبتدءا مؤخرا و «الم» خبرا مقدما.

يعني : أنّ ذلك الكتاب العظيم هو هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها ولكنه بحسب النظم والجمال والكمال والمعارف شيء خارج عن مقدوركم ، ويكون من عالم الغيب وقد ظهر إلى عالم الشهادة مقرونا بالتحدي والتعجيز وإتماما للحجة ، فكما أتم الله الحجّة عليهم بمن هو من أنفسهم أتمّ الحجّة عليهم أيضا بما هو من ألفاظهم.

ثم إنّ الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء باتفاق أئمة أهل اللغة وليست بحروف وهي تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها فيقال : ألف ـ لام ـ ميم ـ ساكنة الأواخر والسور التي فيها هذه الكلمات المقطعة تسع وعشرون سورة وأصل الحروف الهجائية أيضا كذلك بناء على عد الهمزة حرفا مستقلا.

وأما بناء على عدها مع الألف واحدة فثمان وعشرون ، وجميع الأحرف المقطعة بعد حذف المكررات نصف الحروف الهجائية ، وإنّما ذكر تبارك وتعالى نصفها استغناء بذلك عن الجميع وهذا من جهات البلاغة أيضا.

ولا ريب في أنّ هذه الحروف ليست من المهملات بل هي مستعملة في معان اختلف في فهم المراد منها ، وقد تعددت أقوال المفسرين في ذلك ربما تبلغ إلى عشرة أو أكثر :

منها : أنّ المراد بها الإشارة إلى حساب الجمل الذي كان متداولا في العصور القديمة فاستخرجوا منها جملة من الحوادث ومنها مدة حياة هذه الأمة ، واستند بعضهم إلى حديث أبي لبيد المخزومي. وأصل هذا التفسير باطل لا دليل عليه من عقل أو نقل والحديث ضعيف ودلالته مخدوشة والحساب الواقع فيه غلط على كل تقدير فلا يمكن الاعتماد عليه.

ومنها : ما عن جمع من مفسري الصوفيّة تفسيرها بالقطب والولي والأوتاد وغاية ما ادعوه في إثبات ذلك الكشف والشهود.

ولكن التفسير بذلك باطل أيضا ، ولا دليل عليه وما ادعوه من الكشف مردود لا مجرى له في القرآن الكريم والسّنة الشريفة والأحكام الإلهية ونصوصنا به متواترة.

ومنها : إنّها إشارة إلى إعجاز القرآن فإنّ ما يستعمل في التكلم والتخاطب إنما هو المركبات دون المقطعات ومع ذلك فإن في هذه المقطعات لطافة لا تكون في غيرها وحلاوة لا توجد في ما سواها فإعجازها في الفصاحة والبلاغة نحو إعجاز خاص إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن إرجاعها الى الحكم والفوائد المتصورة كما ستعرف وإلّا فلا يمكن القول بأنها معان لها.

والحق أنّها بحسب المعنى من المتشابهات التي استأثر الله تعالى علمها لنفسه ، كما تقدم. فلا يلزم على العباد الفحص عن حقيقتها وبذل الجهد في دركها وفهمها ، بل لا بد من إيكال الأمر إليه تعالى ، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام). نعم يمكن أن يلتمس لتلك الحروف حكم وفوائد :

منها : أنّ استعمال الرموز بالحروف المقطعة كان شايعا عند العرب ، وقد يعد ذلك من علم المتكلم وحكمته ، والقرآن الكريم لم يتعدّ عن هذا المألوف فأشار بذكرها إلى أنّ القرآن الكريم هو من هذه الحروف وجامع لما هو المتعارف لديكم ، ومع ذلك فقد أبدع إبداعا عجزت العقول من جمال لفظه فضلا عن كمال معناه.

ومنها : أنّها ذكرت لأجل جلب استماع المخاطبين فإنّهم إذا سمعوها

تهيئوا لاستماع البقية ، فهي تشويق وتنبيه لاستعداد تفهم شيء جديد.

ومنها : إرشاد النّاس الى أنّ وراء كل ظاهر باطن فلا يكتفى بالجمود على الظاهر ، بل لا بد من التأمل في بطون الكلمات القرآنية لأنّ في كل كلمة من كلمات القرآن بانفرادها دقيقة ، كما أنّ في سائر جهاتها دقائق ولطائف.

ومنها : أنّها تشير إلى بعض الحقائق ورموز الى بعض العلوم التي سترها الله تعالى عن العباد لما رآه من المصالح حتّى يظهر أهلها فيستفيد منها وتكون لغيره من مخفيات الكنوز فلها ربط بعلم الحروف.

ومقتضى الأخبار الكثيرة أنّ عند الأئمة الهداة شيء كثير منه وهو مما اختصهم الله تعالى به فعلم فواتح السور من الأسرار المودعة لدى الإمام (عليه‌السلام) ، ويرشد إلى ذلك ما يستفاد من مواظبة الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في حالاتهم الانقطاعية مع الله تعالى وتوسلهم اليه عزوجل بفواتح السور ، وأنّ لها شأنا من الشأن ومنزلة عظيمة عند الله تعالى. وهذه قرينة معتبرة على سقوط كثير من احتمالات المفسرين وبذلك تخرج عن التشابه المطلق لأنّ ما ذكره الأئمة الهداة انما كان من الإفاضات الربوبية عليهم.

قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) : فسر الأدباء «ذلك» للإشارة إلى البعيد ـ ذهنيا كان أو خارجيا ، حسيا كان أو عقليا ـ وأنّ موارد استعمالاته في القريب إنّما تكون بالعناية ، كقوله تعالى : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [سورة يوسف ، الآية : ٣٢] وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠٢] والمراد بالأولى بعد جمال يوسف (عليه‌السلام) عن كل ما يتصورون فيه وبالثانية بعد حقيقته تعالى عن إحاطة العقول بها مطلقا.

وفيه : أنّ كل ذلك تكلّف مستغنى عنه فإن أرادوا الحقيقة والمجاز يعني أنّ استعمال «ذلك» في البعيد حقيقة وفي غيره مجاز أو أنه من تعدد الوضع فالأصل ينفي كلا منهما ؛ وإن أرادوا به مجرّد الاستحسان فهو مخالف للقاعدة التي أسسوها من أن اللغة لا تثبت بالاستحسان.

وحينئذ فإن قالوا بأنّ الموضوع له في أسماء الإشارة عام فهي كأسماء الأجناس لا فرق فيها بين القريب والبعيد والتفرقة بينهما ساقطة. وإن قالوا بأنّه

خاص ويكون «هذا» لخصوص القريب و «ذلك» لخصوص البعيد ولوحظت هذه الخصوصية في الوضع والموضوع له ، فأصالة عدم ملاحظة هذه الخصوصية مسلمة عند جميع الأدباء وغيرهم أيضا. وإن أرادوا أنّ الخصوصية حاصلة عند الاستعمال ، فهو صحيح في الجملة لكن محققيهم لا يقولون بصحة أخذ ما حصل من الاستعمال في الموضوع له ، وقد فصلنا القول في الأصول فليراجع تأليفنا فيه. هذا مع أنّ هذا البحث ساقط بالنسبة إلى ما ينزل منه عزوجل ، إذ لا يتصور بعد وقرب بالنسبة اليه تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، وهو قريب في عين بعده وبعيد في عين قربه ، وقد استعمل لفظ «هذا» بالنسبة إلى القرآن أيضا ، قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) [سورة الإسراء ، الآية : ٩] مع أن القرب والبعد لهما مراتب متفاوتة في القرآن أيضا فهو قريب إلى الأذهان من حيث نظمه وأسلوبه الظاهري. وقصصه وبعيد عنها من حيث متشابهاته ودقائقه فيصح استعمال الإشارة القريبة والبعيدة اليه من جهتين ، وعن علي (عليه‌السلام): «إن القرآن ذو وجوه».

ثم إنّ هذه الجملة المباركة (ذلِكَ الْكِتابُ) في مقام التعظيم والإجلال للقرآن الكريم عظمة لا نهاية لها كما ستعرف. والكتاب قيل هو بمعنى الجمع لأنه مصدر من كتب يكتب إذا جمع.

وقيل : إنه بمعنى المكتوب وهو اسم جنس لما يكتب. والظاهر أن مادة كتب بمعنى الثبوت والوجوب. ويمكن إرجاع الأولين إليه أيضا فإن القرآن هو الثابت في جميع العوالم والجامع لجميع المعارف والكمالات.

وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن الكريم مقرونا بالتجليل والتعظيم ، قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة ص ، الآية : ٢٩] ، وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [سورة الكهف ، الآية : ١ ـ ٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وقد ثبت في الفلسفة الإلهية أنّ الإنسان من بدء وجوده إلى حين موته إنما يسعى ويستهدف في حياته تحصيل غاية وغرض مّا وهذا الغرض يختلف باختلاف أفراد الإنسان ، ويمكن جمع تلك الأغراض المختلفة غير المحدودة في عنوانين كليين : الأغراض الواقعية العقلية ، والخيالية الوهمية ، وليس كل فرد يصل إلى غايته وغرضه لوجود موانع لا تعد وعوائق لا تحصى ، والحياة عبارة عن جلب الملائم ودفع العوائق وثبت هذا بالفطرة أيضا.

وفي الآية المباركة إشارة إلى أن الغاية العقلية التي لا بد من طلبها والغرض الذي يجتهد في تحصيله ذلك الكتاب ، لقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] فهلموا إليه ولا تذهبوا يمينا وشمالا فتضلوا السبيل.

ويمكن أن يكون المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي كان الأنبياء (عليهم‌السلام) يطلبونه بالفطرة الاستكمالية عندهم لتكميل النفوس الإنسانية ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ). الريب والريبة : هو الشك بل هو أدنى مراتبه وحذف المتعلق يفيد العموم أي : أن ذلك الكتاب لا شك فيه من أي جهة يمكن أن يتصور فيه الشك فهو مبرأ من كل عيب وشك ، لأن نفي كل طبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها المتصورة في تحققها ، فنفي الريب بقول مطلق يقتضي نفيه في نظمه وبلاغته وفي علومه ومعارفه وتشريعاته وجميع الجهات المتصورة في كماله ومعارفه ولا ريب في كونه كذلك ، فليس لأحد أن يرتاب فيه بعد الاعتراف بأنه من الحكيم الخبير ، وهذا حكم عقلي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم كسائر الأحكام العقلية ، كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة ابراهيم ، الآية : ١٠].

قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). هدى مصدر والهداية الدلالة إلى الصراط المستقيم ولها مراتب كثيرة تختلف باختلاف الاستعدادات وسائر الجهات اختلافا كثيرا ، وتقدم ما يتعلق بها في سورة الفاتحة.

والمتقين : من الاتقاء ، والاسم التقوى ومعناها الحجز والمنع وهي من أعلى الصفات التي اعتنى بها الله تبارك وتعالى ، كما أنها من أجلّ المقامات الإنسانية وأرفعها ، والتقوى تدور مدار الإيمان والعمل الصالح.

والقرآن العظيم كما أنه مقتض لحدوث التقوى للعاملين به كذلك مقتض لبقائه فيهم أيضا ، ولا ريب في أن العمل بالقرآن ملازم للتقوى فكأنه قال تعالى : هدى للعاملين به ، وإنما ذكر المتقين إشعارا بعظمة التقوى وأهمية مقامها وذكر أحد المتلازمين وارادة الملازم الآخر شايع في كلام الفصحاء. وقد وصف الله تبارك وتعالى الكتاب في آيات أخرى بأنه هدى للمتقين ، كقوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٨] كما وصفه تعالى بأنه هدى للمسلمين ، قال تعالى : (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٢]. وللناس أيضا ، كقوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، فهو هاد للمتقين والعلماء العاملين به وسواد النّاس وذلك لعدم تناهي معارفه وعدم إمكان الإحاطة بعلومه لغيره عزوجل فكل يستفيض منه بقدر قابليته.

وليس المراد بالمتقين خصوص من بلغ المرتبة القصوى في إيمانه وتقواه لأن القرآن نافع وهاد لجميع المراتب بل وجميع النّاس كما عرفت ، ولا تختص هداية القرآن بالمتقين فقط لأن الوصف لا يدل على المفهوم خصوصا مع التصريح بالعموم في آيات كثيرة على ما تقدم.

ثم إنّ التقوى استعملت في القرآن الكريم بهيئاتها الكثيرة وجميعها تشعر بعظمة مقامها ورفعة شأنها وانها توجب محبة الله للمتصفين بها ومحبة النّاس لهم كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٥١] وقال تعالى : (أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة ق ، الآية : ٣١] وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٧] ، وسيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى. وقد استعملت منسوبة إليه عزوجل في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [سورة البقرة ، الآية : ٤١] ، وقال

تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٨] واتقاؤه يعني اتقاء عذابه وعقابه ، والا فلا وجه لنسبة الاتقاء الى ذاته ولا قدرته تعالى. وعقاب الله إما دنيوي أو أخروي أو هما معا ، واتقاء عقابه إنما يتحقق بالإيمان الصحيح والعمل الصالح ؛ وأدنى مرتبة التقوى التي يكون المدار عليها في الكتاب والسنة هي إتيان الواجبات وترك المحرمات وفوق ذلك مراتب ودرجات كما وردت في خطبة علي (عليه‌السلام) في وصف المتقين وهي من جلائل خطبه ونفائسها.

والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٩]. وقد وردت في جملة من الأخبار أيضا ، فعن الرضا (عليه‌السلام) : «الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، وما قسم في النّاس شيء أقل من التقوى» ويعضد ذلك اللغة والعرف أيضا ، فإن أهل التقوى عند النّاس أخص من المؤمنين ، وقد جعل الإيمان موضوعا للتقوى في جملة من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٣] ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٨٨] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) [سورة المائدة ، الآية : ٣٥]. نعم قدم التقوى على الإيمان في جملة أخرى من الآيات كقوله تعالى : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٣].

ويمكن أن يكون هذا التقديم والتأخير باعتبار المراتب والثبات عليها لا باعتبار أصل الإيمان فانه موضوع التقوى ، فما عن بعض المفسرين من أن التقوى في المقام هو الإيمان وأصر عليه مردود ويأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). الإيمان من الأمن سمي به

لكونه موجبا لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة قال تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [سورة الجن ، الآية : ١٣] أو لأمان النّاس به في الدنيا. وفي الحديث «لأنه يؤمن على الله فيجيز أمانه» وهو ـ كما في جملة من الأخبار ـ الإعتقاد بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللسان فليس الإيمان مجرد الإقرار بل العمل بالوظيفة جزؤه فهو في اللغة والشرع بمعنى واحد وهو التصديق الجازم.

ويستعمل لازما وهو كثير في القرآن ، قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣]. ومتعديا بكلمة (الباء) و (اللام) وهو أيضا كثير ، قال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ، وقال تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [سورة يونس ، ٨٣].

ويكشف من ورود متفرعات هذه المادة في مواضع كثيرة من القرآن عن أهمية الإيمان وأنّه الأصل في الكمالات الإنسانية مطلقا ، بل جعل تعالى العقل ـ الذي هو من أعظم مواهبه ـ دائرا مداره ، فقال عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [سورة الطلاق ، الآية : ١٠] حيث خص أولي الألباب بالمؤمنين.

وقرن العمل بالصالحات مع الإيمان في كثير من الآيات ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٨٢] ، وفي النصوص الكثيرة أن الإيمان مبثوث على الجوارح جميعها ويدل على ذلك الإعتبار أيضا فإنّ من التزم بشيء ولم يعمل بما التزم به لا يعد من أهل ذلك الملتزم به إلّا بالعناية والمجاز.

نعم ؛ الإيمان أمر تشكيكي وانه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا ونقصا وشدة وضعفا كما سيأتي ويختلف باختلاف متعلقه من القلب واللسان وعمل الجوارح وأعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ

الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧].

ومن ذلك يعلم أن الإيمان على أنحاء أربعة : (الأول) : الإيمان الانتسابي فقط بأن يرى الشخص نفسه في بلاد المسلمين منسوبا إليهم بلا اعتقاد ولا عمل. (الثاني) : الإيمان الاعتقادي فقط من دون عمل. (الثالث) : العمل الظاهري من دون الاعتقاد. (الرابع) : الاعتقاد القلبي والعمل على طبق ما اعتقد ، وما يصدق عليه الإيمان حقيقة هو الأخير وهو النافع للنفس الإنساني في طريق استكماله وعوالمه الأخروية وسائر الأقسام إنما أطلق عليها الإيمان بالعناية للتسهيل. نعم لا يطلق عليه الكافر إلّا إذا انتفى منه الإعتقاد والعمل والإقرار ، ومع انتفاء العمل بالأركان فقط يكون فاسقا إن لم يكن منكرا لضروري من ضروريات الدين فمن ترك واجبا وارتكب محرما فهو ليس بمؤمن من هذه الجهة وإن كان مؤمنا من جهة أخرى قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «فأما الرشا في الأحكام فهو الكفر بالله العظيم».

ومن ذلك يظهر بطلان إشكال جمع من المفسرين وغيرهم بأنه إن كان العمل بالشريعة المقدسة جزءا من الإيمان لزم عطف الجزء على الكل في الآيات الكثيرة المشتملة على عطف عمل الصالحات على الإيمان ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٧]. أو اشتراط الشيء بنفسه وكلاهما باطل.

ووجه الدفع أنّ عطف الجزء على الكل إذا كان لفائدة وخصوصية لا بأس به بل هو من شؤون البلاغة والفصاحة كما صرح به أئمة العربية وأي فائدة أحسن من كون الإيمان بالشريعة يدور مدار العمل بها قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا قول إلّا بالعمل ولا عمل إلّا بإصابة السنة». وليس المقام من اشتراط الشيء بنفسه بل من اشتراط الشيء بأهم شروطه ، كما في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا صلاة إلّا بطهور».

قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ). الغيب هو خلاف الحضور والشهود فكلما لم يكن حاضرا في المدارك الجسمانية ومشهوداتها يكون من الغيب ولكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت والتحقق. والإيمان بالغيب هو الإعتقاد بما غاب عن النّاس من الموجودات والعوالم كعالم الملائكة وعالم البرزخ وعالم الآخرة وجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى من الأحكام بل نفس القرآن لأنه وان كان مشهودا للناس لكنه من الغيب من حيث معارفه وعلومه ، ويمكن أن يكون مشهودا من جهة ومن الغيب من جهة أخرى كالصّلاة فإنها عمل حاضر ولكنها ـ من حيث أن حافتي الصراط الصلاة وصلة الرحم ـ من الغيب. وكذا الحجر الأسود فإنه مستلم الحجيج ظاهرا فهو مشهود ، ولكن من حيث كونه يمين الله في الأرض يصافح بها مع عباده ـ كما في الحديث ـ من الغيب إلى غير ذلك.

والمراد بالغيب هنا هو الله تبارك وتعالى وكل ما أوحى إلى نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والدار الآخرة وما فيها من النشر والحشر والحساب والثواب والعقاب ، وقد أشار عزوجل إلى ذلك في ذيل الآية (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

وإنما حثّ الله عباده على الإيمان بالغيب وعدم اقتصارهم على المحسوسات لأنه الأصل في الكمالات الإنسانية الباقية ، وبالإيمان به يسهل على الإنسان كلفة العمل فكأنه يرى فعلا ثمرة عمله بخلاف المقتصر على الحسن فإنّه وان بلغ الى غاية مراده لكن كماله الظاهري منحصر بالماديات فقط.

والغيب يستعمل في القرآن الكريم بمعان.

الأول : ما ذكر في هذه الآية المباركة وسائر الآيات المرغبة للإيمان.

الثاني : ما أضافه الله تعالى إلى نفسه مثل عالم الغيب والشهادة ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة التغابن ، الآية : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة هود ، الآية : ١٢٣] ، و : (أَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٨] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والمراد بهذا الغيب جميع ما سوى الله تعالى من حقائق المجردات

والماديات والجواهر والأعراض وخواصها ومباديها وما يصير إليها أمرها وارتباط بعضها مع بعض والمضادة بينها ، وما يتعلق بالإنسان حدوثه وبقائه ومصيره والعوالم التي يرد عليها إلى غير ذلك مما هو مستور.

الثالث : ما ينبغي ستره وحفظه ، كما في قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٤] وقوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [سورة يوسف ، الآية : ٥٢].

الرابع : ما حدث ومضى ، كقوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٢] مع أن قصة يوسف (عليه‌السلام) وقعت في الخارج ثم حكاها الله تعالى لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله). والجامع لتلك المعاني هو الاستتار.

قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ). استعملت مادة (ق وم) في القرآن العظيم بكثير من هيئاتها المختلفة بالنسبة إلى الصّلاة تعظيما لها واهتماما بشأنها. والإقامة بمعنى الإستواء والاعتدال والجمع. ومعنى إقامة الصلاة إتيانها بحدودها وقيودها على ما أمر الله تعالى به والتوجه بها إلى الله عزوجل.

والصلاة بمعنى الدعاء والعطف والرحمة قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٤٣] أي يرحمكم ويعطف عليكم وقال تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٣] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٦] أي ينزل الرحمة والعناية الخاصة عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، واستعمل لفظ الصّلاة في ما هو المعهود من الأعمال في الشريعة الإسلامية لوجود الدعاء وطلب الرحمة فيها.

وهذه العبادة الخاصة كانت معهودة لدى الأنبياء السابقين وأتباعهم في الشرايع القديمة بل كانت توجد عند الحنفاء في الجاهلية. وقد أحكمها الله تعالى في هذه الشريعة في أفضل هيئة وأتم عبادة ، وهي أول ما علمها الله

تعالى لنبيه الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مباشرة من وراء الغيب ليلة المعراج كما في الحديث. وأول ما ينظر إليها الله تعالى من أعمال العباد يوم القيامة «إن قبلت قبل ما سواها وان ردت رد ما سواها» وجعلها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمود الدين كل ذلك لما فيها من الأثر العظيم في تهذيب النفوس والعروج بها إلى الملكوت. وقد ذكر الله تعالى من عظيم أثرها في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥] ، ولذلك أمر الله تعالى بإقامتها والمحافظة عليها والخشوع فيها وأدائها في أوقاتها.

وليس المراد بإقامتها مجرد الإتيان بها صورة من قيام وركوع وسجود خالية من روح العبادة والتوجه إليه تعالى وإلّا فهو مضيع لها وقد توعد الله فاعلها بالويل فقال جل شأنه : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [سورة الماعون ، الآية : ٤] فهو وان سمي مصليا لكنه منعوت بالسهو عن حقيقتها فتقول الصلاة له : «ضيعك الله كما ضيعتني» كما ورد في الأثر ولأجل ذلك لم يستعمل لفظ الإتيان بالصّلاة في القرآن العظيم إلّا مقرونا بالذم غالبا كقوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥٤].

قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). الرزق : هو العطاء الخاص في مقابل الحرمان ويشمل الماديات ـ كالمال والولد ـ والمعنويات كالعلم والتقوى والجاه. وبالجملة : كل جهة إمكانية تحققت بالنسبة إلى الإنسان وأفاض الله تعالى عليه فهو رزق منه تعالى إليه قال عزوجل : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٠].

إن قلت : إثبات أنّ الإنسان بجميع جهاته ـ من ذاته ووجوده وعوارضه ـ رزق ومجعول منه تعالى مناف للنزاع المعروف بين الفلاسفة والمتكلمين من أن الوجود مجعول منه تعالى ، فتكون الماهية ليست كذلك أو الماهية مجعولة منه تعالى فالوجود ليس كذلك ، فلا كلية في ما ادعيت من أن الإنسان مجعول منه تعالى.

قلت : لا ريب في أن الجميع ـ الوجود والماهية وعوارضها ـ مجعول منه تعالى إما تبعا أو استقلالا فمن يقول باستقلالية الجعل بأحدهما يكون الآخر مجعولا بالتبع فالكل مجعول منه تعالى ومرزوق منه جل شأنه.

والإنفاق : هو الإخراج من اليد والمراد به هو الإعطاء الخاص المرغّب اليه شرعا والممدوح عقلا وهذا وصف آخر للمؤمنين بالغيب فإن من كان مؤمنا بما وراء الماديات ويعتقد بأنّ مرجعها إلى الزوال والفناء وان ما يملكه هو رزق من الله تعالى يجد في نفسه ميلا إلى بذله ابتغاء رضوان الله ورحمة لبني نوعه ويكون من المتقين الذين لهم القابلية لهدى القرآن ، فقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أجمع كلمة نافعة للإنسان وأعظم ما يتحفظ به النظام لأن جميع مواهب الله تعالى على الإنسان رزق منه لا بد وان ينفق بنحو ما اذن الله له وهذا هو الاستكمال والاستنماء لنفس الموهبة الإلهية في الدنيا والآخرة وهو من الأمداد الغيبي الذي يصل منه تعالى إلى المنفقين ، وفيهم نزل قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦١]. كما أن فيهم نزل أيضا : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠]. وليست الحسنة مختصة بالمال بل تشمل كل خير يوصل إلى الغير لينتفع به ويسمى صدقة أيضا وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

ثم إن الإنفاق أقسام :

الأول : الإنفاق الواجب كالزكاة المفروضة والخمس والكفارات والنفقات الواجبة وما أوجب الإنسان على نفسه بالنذر ونحوه ، ومن الإنفاق أيضا انفاق الواجبات النظامية على ما فصل في الفقه.

الثاني : الإنفاق المندوب الذي حث القرآن اليه في آيات كثيرة كما سيأتي ، وكل ما اشتد حب الإنسان لشيء يشتد ثواب إنفاقه لله تعالى قال جل شأنه : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٢].

الثالث : الإيثار على النفس الذي هو من أجلّ مقامات الأولياء وفيهم نزلت الآية المباركة : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [سورة الحشر ، الآية : ٩]. وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة له.

ومن ذلك يعرف أنه لا وجه لتخصيص الرزق بالنفقة الواجبة على الأهل والولد أو الزكاة المفروضة أو صدقة التطوع ، أو الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ـ ما عدا الزكاة ـ وكذا ليس المراد به خصوص العلم ـ كما يأتي في البحث الروائي ـ بل هو عام يشمل كل إنفاق ولو كان معنويا يبتغي فيه سبيل الله تعالى فإنه ربما يكون الإنسان مصليا وصائما ولكنه متى ما عرض عليه ما يقتضي به بذل شيء شحت نفسه وأمسك عن الإعطاء.

ويستفاد من إسناد الرزق إلى الله تعالى أن الإنسان مهما جدّ في تحصيل ما يتملكه كان كله من الله جل شأنه وأنه هو الرزاق فلا يكترث بما يصيبه ولا يبخل عما يطلب منه ، وإن الإنفاق بشيء له تعالى ليس من فقد الشيء عن الباذل بل حقيقته تحويل شيء عن معرض الزوال والفناء إلى خزائن الله تعالى التي لا يتصور فيها الفناء والزوال وفي قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٩] وقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٦٠] إشارة إلى ما ذكرناه. وسيأتي التفصيل.

كما أنه يستفاد من قوله تعالى : (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أن المطلوب منه النفقة ببعض مما يملك لا جميعه كما نبه عليه في آية أخرى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) سورة الإسراء ، الآية : ٢٩].

بحوث المقام

بحث روائي :

عن العسكري (عليه‌السلام) أنّه قال : «(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يعني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث والنشور

والحساب والجنّة والنار وتوحيد الله وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة وإنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى دلائل عليها».

وعن الصادق (عليه‌السلام): «الذين يؤمنون بالغيب يصدقون البعث والنشور والوعد والوعيد».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «الذين يؤمنون بالغيب أي آمن بقيام القائم (عليه‌السلام) إنه حق».

أقول : الغيب شامل لكل ما لم يكن محسوسا ويكون داعيا إلى الله تعالى فإيمان المسلمين في هذا الزمان بنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسائر أنبياء الله تعالى من الإيمان بالغيب ، وكذا كل حجة منه تعالى تدعو إليه ، فما ذكر في الخبر صحيح لا ريب فيه ، لأنه من باب أحد المصاديق ومن باب التطبيق.

وأما ما فسره جمع برجال الغيب أيضا وفصلوا القول فيه فليس ذلك إلّا من مجرد الدعوى ، ولم يقم دليل على صحته لا عقلا ولا نقلا ، كجملة كثيرة من أقوالهم في الركن والولي والمرشد والأوتاد ونحو ذلك. وعن الصادق (عليه‌السلام): «فطر النّاس جميعا على التوحيد».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «فطرهم على المعرفة قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله تعالى خالقه».

أقول : يستفاد من ذلك أن الإيمان بالغيب مودع في الفطرة ومن مصاديقه الإيمان بالله ، كما يأتي في الآيات المباركة.

وعن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : «مما علمناهم ينبئون وما علمناهم من القرآن يتلون».

أقول : هذا يدل على ما قلناه من أن الإنفاق لا يختص بالمال بل يشمل كل ما ينفع الغير ولا اختصاص لقوله (عليه‌السلام) بعلم الشريعة بل يشمل كل علم ينتفع به الغير في دينه أو دنياه ـ ما لم يكن منهيا عنه شرعا ـ كعلم

الطب وغيره مما يقوم به نظام المجتمع الذي لا ينافي وجوب إنفاقه أخذ الأجرة عليه ، كما بيناه في الفقه ، وعنه (عليه‌السلام) أيضا حيث سئل في كم تجب الزكاة؟ فقال له : «الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال : أريدهما جميعا فقال : أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة وعشرون وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك».

وفي ذلك روايات أخرى يأتي بيانها في موردها إن شاء الله تعالى.

بحث كلامي :

ذكرنا أنّ الإيمان هو التصديق ، واختلفوا في أن التصديق بسيط أو مركب وكان هذا الاختلاف بين الفلاسفة ولكنه سرى الى غيرهم. وقد أثبتنا في محله سقوط أصل النزاع رأسا لأن مثل التصديق الذي هو من الصفات النفسانية إن لوحظ باعتبار مبادئ حصوله ، فهو مركب عند الجميع. وان لوحظ باعتبار نفسه ، فهو بسيط كذلك فالنزاع بينهم لفظي.

لكن في الإيمان نزاع آخر قديم بينهم وهو أنّ العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقوّم لحقيقة الإيمان بحيث إن من لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له وان كان له التصديق القلبي الجازم بأصول الدين ، أو أن العمل بالوظيفة الشرعية شيء خارج عن أصل التصديق القلبي فيكون من كان معتقدا بأصول الدين ولا يعمل بالوظيفة مؤمنا ولكنه فاسق.

والمتحصل من مجموع الآيات المباركة المشتملة على جملة «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» والسنّة المقدسة المسوقة في هذا السياق أنّ للإيمان كمالا ونقصا وشدة وضعفا ، ويختلف متعلقه ـ كما تقدم ـ قلبا وعملا ولسانا فيكون ايمان كل شيء بحسبه فإيمان القلب بالاعتقاد وايمان اللسان بالإقرار وايمان الجوارح بالعمل فإذا تحقق الجميع يثبت الإيمان الكامل وإذا تحقق بالنسبة إلى البعض فهو إيمان ناقص يثبت بالنسبة إلى ما تحقق وينتفي بالنسبة إلى ما لم يتحقق ويثبت الكفر مكانه.

والكفر له مراتب كمراتب الإيمان من حيث الشدة والضعف ومن حيث الكمال والنقص ، ويتحقق بالنسبة إلى الإعتقاد واللسان وعمل

الجوارح ، فيمكن أن يكون شخص مؤمنا اعتقادا ولسانا ولكنه كافر عملا لا اعتقادا ولا إقرارا وهذا معنى الأثر الذي تقدم من أنّ «الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان» فإيمان كل شخص مبثوث على الجوارح ، فالإيمان والكفر كالنور والظلمة فقد يكون النور في كل مورد وقد يكون في مورد دون آخر ، ولا ريب في انه متى ما انتفى النور يحل محله الظلمة لا محالة ولا واسطة بينهما ، وهذا معنى ما تقدم من الأخبار من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الى غير ذلك مما ورد فإذا اجتمع الإيمان بالله قلبا والإقرار باللسان والعمل بما أمر الله وترك ما نهى عنه يكون مؤمنا ، وإذا لم يتحقق الإيمان قلبا وتحقق لسانا وعملا يكون منافقا ، وإذا تحقق قلبا ولسنا ولم يتحقق عملا يكون فاسقا وهو لا ينافي إطلاق الكفر العملي عليه أيضا كما في قوله (عليه‌السلام): «أما الرشا في الأحكام فهو الكفر بالله العظيم».

فكل من جهل شيئا من أمور دينه ينقص من إيمانه بقدر جهله ، وكل من أنكر ما يجب عليه تصديقه في الشريعة فله حظ من كفر الجحود إلى أن يصل إلى الجحود المطلق وكل من أظهر بلسانه ما لا يعتقده بقلبه بغير عذر شرعي فله حظ من النفاق إلى أن يصل إلى النفاق المطلق ، وكل من كتم حقا شرعيا بعد معرفته فله حظ من التهود إلى أن يصير كذلك مطلقا ، وكل من استبد برأيه ولم يتبع الشريعة فله حظ من الضلالة إلى أن تتم فيه ، وكل من ارتكب حراما أو ترك واجبا فله حظ من كفر الاستخفاف إلى أن يصل إلى الكفر المطلق إن لم يتدارك ذلك بالتوبة. ولكن من أسلم وجهه لله تعالى واتبع الشريعة المقدسة في جميع ما جاء به وتدارك ذنبه بالتوبة فهو المؤمن حقا.

هذه خلاصة ما يستفاد من الكتاب والسنة بعد رد المجمل إلى المفصل والمتشابه إلى المحكم ، وسيأتي البحث عن ترتب الجزاء على كل واحد مما ذكر.

بحث فلسفي :

لا ريب أنّ الإنسان مركب من جزئين بهما قوامه ، وهما الروح والبدن

فلا فعل للروح إلّا بالبدن كما لا أثر للبدن إلّا بالروح الإنساني. واتفق جميع الفلاسفة على أنّ الأول من عالم المجردات والثاني من عالم المادة. وهذا يحتاج إلى تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

نعم ، قد اختلفوا في خصوصيات هذين التوأمين حتّى وصل الحد بجمع منهم إلى الاعتراف بالقصور عن درك حقيقتهما وخصوصياتهما. وكيف كان فالروح نزلت من مقام شامخ ـ على ما يأتي ـ إلى حضيض المادة. والبدن مستعد إلى العروج من مرتبة الحضيض إلى أوج الروح فصار الإنسان جامعا للكمالين ومركبا من النشأتين فهو بفطرته لا يمكنه إنكار ما وراء المادة.

وقد يوجب أنه بالمادة والماديات انتقاله عن ما ورائها ، ولذا ترى يرجع إلى فطرته في حين وآخر ، فالإيمان بالغيب الذي حث الله تعالى إليه هو إرجاع الإنسان وسوقه الى فطرته والتوجه بمقام روحانيتهم بما أودع الله فيه من استعداده لدرك المعارف واكتساب الكمالات بعد إتمام الحجة عليه وعدم تدنيس ذلك المقام الرفيع باتباع الأهواء المضلة والآراء الباطلة.

وقد اتفق الفلاسفة على أنّ منشأ الإدراكات المعنوية والعلوم الكلية في الإنسان هو العقل ولا ينافي ذلك حصول علوم جزئية من غير طريقه. والعقل حجة في جميع إدراكاته بعد تمامية مقدمات الإدراك ومن جملتها الإيمان بالغيب ، وجميع التشريعات السماوية ، وان تكون المقدمات حاصلة مما أمر به الله تعالى الذي هو الجاعل والمشرع ، فلا بد وأن يكون مجعوله ومشروعه تحت سلطنته واختياره. والا لبطل النظام واختلت الأحكام. فكل إيمان بالغيب لم يحصل من طريق ما أمر الله تعالى به وأذن فيه ، فهو باطل لا اعتبار به ، بل يمكن أن يعاقب صاحبه سواء أكان ذلك في كيفية الإدراك أم خصوصيات المدرك ، ويأتي التفصيل في محله.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هذه الآية كالبيان للإيمان بالغيب جيء بها اهتماما وتأكيدا ، ويمكن أن يقال : إنهم قسم آخر من المتقين وأعيد لفظ «الذين» لتحقيق التمايز بين القسمين وهذا القسم أرقى من القسم الأول لأن أوصافه تقتضي الأوصاف التي أجريت على القسم الأول مع الزيادة

فالقرآن يكون لهم هدى بالأولى.

والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن وسائر ما أوحي اليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما أن المراد بالإنزال الوحي وسيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) المراد الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء.

وفي تقديم القرآن بقوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إشارة إلي فضيلته وجامعيته وكماله ، كما أن قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) تفصيل لقوله تعالى : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، لأن الإيمان بما أنزل اليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشتمل اجمالا على الايمان بما انزل على من قبله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من الأنبياء والمرسلين فإن الشريعة الإسلامية تحتوي على أصول جميع الشرايع السماوية من أصول الدين وأمور استكمالية أخرى ، فهذه الآية عبارة أخرى عن قوله تعالى : «والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله» [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٥].

كما أنّ في تقديم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) على قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) دلالة أيضا على أن إيمان أهل الكتاب بموسى وعيسى (عليهما‌السلام) وكتبهما لا أثر له ما لم يؤمنوا بالقرآن ، وما أنزل على خاتم النبيين لأنه من غير المعقول للإنسان أن يدع الإيمان بما هو كامل أبدي ويلتزم بما كان كاملا في وقته وزمانه فإن الشرايع السماوية تتفاوت في الكمال حسب تفاوت استعداد الإنسان وترقيه في درجات الاستكمال هذا في غير أصول الدين. وأما فيها فالجميع سواء ، إذ لم يختلف الأنبياء في دعوة أقوامهم إلى التوحيد ونبذ الشرك والإيمان بالآخرة فهم في هذه الجهة كنبي واحد وإن جميع الكتب السماوية تجمعها وحدة المبدأ والغرض ، فالإيمان بالله وبما أنزله تعالى لا تبعيض فيه وإلّا فيخرج المؤمن بسببه عن حقيقة الإيمان ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ

يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٦].

فالناس في زمان ظهور دعوة النبي كانوا على أقسام :

الأول : من كان مشركا فأسلم ، فهو من المهتدين ، ومن أصحاب الجنّة.

الثاني : من بقي على شركه ولم يسلم ، فهو كافر ، ومن أصحاب النار.

الثالث : من أظهر الإسلام وأبطن الشرك ، فهو منافق ، ومن أصحاب النار.

الرابع : من كان من أهل الكتاب وآمن بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكان مؤمنا بكتابه غير المنحرف أيضا ، فهو مؤمن ، ومن أهل الجنّة.

الخامس : من بقي على كتابه ولم يؤمن ، فهو كافر ومن أهل النار.

السادس : من آمن بخاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والقرآن وكفر بكتابه السماوي غير المنسوخ في هذه الشريعة ، فهو كافر ومن أهل النّار لأن الإسلام والقرآن يدعوان إلى الكتب السماوية وهي تدعو إلى القرآن والإسلام ولا اختلاف بينهما في الأصول كما عرفت.

قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) : المراد من الآخرة هو عالم جزاء الأعمال والحساب والثواب والعقاب وقد يعبر عنها ب (الدار الآخرة) أيضا في مقابل الدار الدنيا.

واليقين هو مرتبة خاصة من العلم أي : الإعتقاد الجازم المطابق للواقع في الشريعة ، فإنّ للعلم مراتب منها اليقين ، كما قاله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [سورة التكاثر ، الآية : ٥ ـ ٦]. وسيأتي بقية مراتبه إن شاء الله تعالى. واليقين بالآخرة هو أعلى مراتب كمال النفس الإنسانية وبه ينتظم حال المؤمن في الدنيا والآخرة ، ويظهر أثر ذلك في أفعاله وأعماله وأقواله لأنّ اليقين باعث وزاجر.

وإنما ذكر تعالى الضمير المنفصل (هم) تثبيتا لهذه الصفة الخاصة لقسم خاص من المؤمنين إذ ليس كل مؤمن من أهل اليقين بالآخرة.

ويدل على ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة لقمان ، الآية : ٤ ـ ٥] فأكد سبحانه وتعالى من حيث تكرار نفس الآية وتكرار الضمير «هم» فيها تأكيدا بليغا كاشفا عن أهمية المورد.

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

الفلح : الشق والقطع. وأصل الفلاح الظفر بالمقصود والفوز بالمطلوب بعد الكد والاجتهاد فكأنه قد قطع المصاعب حتّى نال مقصوده ولا يطلق إلّا في الخير ، فالمفلحون هم الذين أدركوا وأمنوا مما منه فزعوا في الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإطلاق.

والآية في مقام بيان حال المتقين فإنّ اتصافهم بالصفات المذكورة يقتضي فوزهم بالهداية والفلاح ، وكل من الهدايتين بتوفيق من الله تعالى الأولى بالنسبة إلى الحدوث والثانية بالنسبة إلى البقاء ، أو أن الأولى بالنسبة إلى بعض المراتب والأخرى بالنسبة إلى ما فوقها. وعليه يكون المشار إليه به «أولئك» في الموضعين واحدا وهم المتقون. وقد رتب الفلاح على التقوى في آيات كثيرة ، قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٠] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٠٠] ، وقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [سورة الأعلى ، الآية : ١٤] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وتكرير الإشارة وذكر ضمير الفصل «هم» للدلالة إلى رفعة مقام المفلحين وإعلانا لعظمة شأنهم.

وذكر حرف الاستعلاء في قوله جل شأنه «على هدى» إشارة إلى استيلائهم على الهداية ورسوخها فيهم وشدة تمكنهم منها ، ولا ريب في ذلك فإن المواظبة على شيء والقيام به كما هو حقه يوجب اتصاف النفس به وارتسامه فيها فيصير طبيعة ثانوية ربما تغلب الطبيعة الأولية كما هو المشاهد في بعض النفوس.

كما أن تنكير لفظ «هدى» يفيد العظمة وعدم محدودية الهداية بحد لأنها

مفاضة من ربهم عليهم.

بحث دلالي

إنما ذكر الإيمان بالغيب ابتداء ، لأنه أصل كل إيمان وأساس كل اعتقاد وعمل كما عرفت ثم عقبه تعالى بالصلاة ، لأنها أهم أركان الدين وانها الرابطة بين العبد ومعبوده ؛ ثم ذكر الإنفاق لأنه أعظم صلة بين أفراد الإنسان وبه يحصل التعاون بينهم وتطهر أموالهم ، فالآية باختصارها جمعت بين الأصول الاعتقادية وأهم الأعمال الجوارحية وأعظم الأمور الاجتماعية وهذا من إعجاز القرآن.

كما أنه ذكر تعالى المتقين في مفتتح القرآن العظيم إعلاما بأنّ التقوى هي الأصل الذي تدور عليه الكتب السماوية خصوصا القرآن وما يدعو اليه جميع الأنبياء والمرسلين لا سيما خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فذكر المتقين من باب ذكر المعلول إجمالا وتفصيل علته بعد ذلك والعلة إنما أجملت بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وفصلت ثانية في الآيات التالية.

ثم إنه تعالى ذكر (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) مع أن الآخرة من أفراد الغيب الذي ذكر في أول الآية وذلك لأجل التأكيد والأهمية بالنسبة إلى الآخرة فإن عماد النشأتين ـ الدنيا والآخرة ـ هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان بالله تعالى وبه تنتظم حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. وأيضا إنّ الإيمان بالغيب إجمالا قد لا يكون كافيا في حث الإنسان على العمل الصالح وردعه عن عمل المنكر بخلاف من كان مؤمنا بالآخرة تفصيلا فإن أثره يظهر على أعماله فيكون مراقبا لنفسه ومن ذلك يظهر الوجه في ذكر اليقين في الآية الأخيرة.

واليقين بالآخرة يحصل تارة : بإخبار المعصوم بعد أن قامت الأدلة على عصمته ، وأخرى : بالنظر الصحيح والتفكر والتدبر في آيات الله تعالى وخلق الإنسان وأنّ الدار الدنيا التي هي دار الكون والفساد لا يمكن أن تكون دار النعيم للأبرار أو الجحيم للأشرار فحينئذ يحكم العقل بأنّ وراء هذه الدار

الفانية المتغيرة دار أخرى فيها يثاب المحسن ويعاقب المسيء. ويسمى هذا البرهان في الفلسفة الإلهية ب (البرهان الإنّي).

وثالثة : يحصل من المواظبة على عبادة الله تعالى كما هو حقه وترك مخالفته ، ويشير إليه قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٩] ، فإن المراد باليقين إن كان هو اليقين بالآخرة فيدل على ما ذكرناه بالمطابقة وان كان المراد به الموت فيدل عليه بالملازمة. وسيأتي التفصيل في محله.

وأما اليقين الحاصل من غير هذه الطرق فإن طابق المتيقن به الشريعة الإسلامية فصحيح وإلّا فلا اعتبار به.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

ما تقدم كان في بيان حال طائفة من النّاس وهم المتقون المؤمنون بالغيب ، والمؤمنون بالقرآن ، وبما أنزل من قبل وما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالهداية والفلاح.

وفي هاتين الآيتين بيان حال طائفة أخرى وهم الكافرون المعاندون الذين كانوا لعنادهم وجحدهم للحق أنهم بلغوا أقصى مراتب الغواية والضلال فلا جدوى للهداية فيهم ولا يؤثر فيهم التبشير والإنذار فكان من نتيجة عملهم أن ختم الله على قلوبهم فلا استعداد لها للإيمان وكان لهم الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا). الكفر : ستر الشيء وتغطيته ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده والكفر يستعمل في القرآن في مقابل الشكر قال تعالى : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [سورة لقمان ، الآية : ١٢] ، وفي مقابل الإيمان قال تعالى : (وَقُلِ

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف ، الآية : ٢٩].

والكفر هو ستر الحق اعتقادا أو لسانا أو عملا في مقابل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان واقرار باللسان وعمل بالأركان كما تقدم. وعليه يكون للكفر مراتب كمراتب الايمان فقد يكون الشخص كافرا بالنسبة إلى مرتبة وهو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.

والمراد بالذين كفروا ـ بقرينة السياق ومقابلتهم لأهل اليقين والإيمان في الآية السابقة ـ من ستر الحق مطلقا وتمكّن منه الكفر واستولى عليه بحيث لا يرجى منه الإيمان وكان في علم الله من الراسخين في الكفر ، سواء كان عن عناد وجحود للحق بعد معرفته ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [سورة النمل ، الآية : ١٤]. أو إعراض عنه للحق إما استكبارا عن النظر فيه ، أو لأجل مرض في قلوبهم ، بسبب انهماكهم في الأمور الدنيوية فعمى عليهم كل سبيل ، وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام. فهؤلاء الكفار لما علم الله منهم الجحود للحق والاستهزاء به لم ينفعهم الإنذار والتخويف والآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لكل كافر كذلك في أول الإسلام ومن يأتي بعده ويترتب على ذلك ـ قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ـ ترتب الجزاء على الشرط الحاصل باختيارهم.

(سواء) اسم بمعنى الإستواء. والإنذار هو الإخبار بالشيء ولا يكون إلّا مع تخويف بما يترتب على الإهمال بالشيء.

فيكون المعنى إنّ من كان الكفر عليه مستوليا ولم يكن من المستعدين لقبول الحق والهداية يستوي فيه الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون بعد دعوتهم للحق إذ وظيفة الداعي للحق هي الدعوة اليه ، بلا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد وهذا من الأمور الفطرية إذ كيف ينفع الدواء مع مزاولة المريض أسباب الداء كما لا يفيد النور مع إغماض العين حتّى لا يراه ، ولم يكن ذلك نقصا في الدواء ولا عيبا في النور.

قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). الختم والطبع بمعنى واحد وهو تغطية الشيء والاستيثاق منه لئلا يدخله غيره. والختم على القلب كناية عن عدم انتفاعه بالمعارف الربوبية والحقائق الإلهية وما يترتب عليها في عالم الدنيا والآخرة ، فالختم والطبع وصيرورة القلب في الأكنّة كلها بمعنى واحد ، وهو ما ذكره عزوجل في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) [سورة الأنعام ، الآية : ٢٥] ، وكذلك قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤].

والمراد منه أنّ من تمكن منه الكفر واستحوذ على قلبه فلا يبقى فيه استعداد للإيمان والهداية وعلم الله تعالى انه لا يؤمن باختياره وذلك بسبب ممارسته المعاصي ومزاولته لارتكاب المحذورات ، فتأثر طبعه ونفسه بها وصارت كالطبيعة الثانية له فلا يرجى منه خير وهذا هو المراد من الطبع والختم فيكون ذلك أمرا طبيعيا فهو سنة الله في خلقه ولذا عبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر مفروغ منه وسنة قائمة في من كان كذلك.

وهذه الآية المباركة لا تدل على سلب الإختيار عنهم وانهم مجبورون على الكفر ، بل الختم أو الطبع على القلب حاصل من عملهم وإصرارهم على الكفر ، ويدل على ذلك آيات كثيرة منها الآية المتقدمة الدالة على أن الرين كان بسبب كسبهم المعاصي حتّى غطّت قلوبهم تلك المعاصي ، وكذا قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٣] فإنه يدل على أن الختم حصل بسبب اتخاذه إلهه هواه بحيث أعمى بصره وبصيرته فلا يفيد معه شيء.

وإنما أسند الختم الى نفسه تعالى للدلالة على ما ذكرناه ، ولأنه من نسبة المقدور والمقضي الى القدر والقضاء لا نسبة المعلول إلى علته ، أو نسبة المرضي الى الرضا ، فإن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر والجهالة

والضلالة ، بل هو يقضي ذلك على الخلق بحسب اختيارهم وإرادتهم ، فيكون المقام نظير قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٣].

والحاصل : إن الأمور التكوينية الجارية على مجاريها الطبيعية لها إضافتان اضافة إلى فاعلها المباشري فتنسب إليه أولا وبالذات ، وإضافة الى خالقها بواسطة خلقه للفاعل المباشري فتنسب إليه تعالى ولا يستلزم ذلك الفساد نقصا فيه تبارك وتعالى ، وسيأتي تفصيل البحث إن شاء الله تعالى.

ثم إنه قد ذكر في هذه الآية الختم على القلب مقدما على الختم على السمع ، وفي سورة الجاثية بالعكس ـ كما تقدم ـ حيث قال تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ، الآية : ٢٣] ولا فرق بينهما من هذه الجهة لأن المدارك الظاهرية طريق إلى حصول العلم بالمقصود وفهم المعارف الإلهية. ولذا ذكر الفلاسفة : «من فقد حسا فقد فقد علما» فمن ختم الله على قلبه فقد فقد الفهم والانتفاع من المعارف الإلهية وكان كذلك بالنسبة إلى سمعه إذ لا أثر لسماع لا يدخل في القلب وكذا لو ختم على سمعه فقد أعرض عن فهم الحق فلا يسمع إلّا صوتا وحينئذ يصير السماع لغوا كما هو المشاهد في بعض الناس فهما متلازمان في الجملة سواء عبر بالأصل أم بالعكس.

قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). الغشاوة : الغطاء والحجاب. والمعنى أن أبصارهم لكثرة المعاصي وارتداعهم عن قبول الحق لا تدرك آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس ودلائل وجوده فهي في حجاب ، وانما لم يسند الغشاوة إلى نفسه من حيث ثباتهم على الكفر وارتكابهم المعاصي وفي سورة الجاثية أسندها الى نفسه فقال تعالى : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) وذلك لأنها تنتهي بالآخرة اليه انتهاء المقتضى (بالفتح) الى المقتضي (بالكسر) مع اختيارهم لذلك وعدم كونهم مجبورين عليه.

وإنما ذكر تعالى (عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) مع تحقيق الطبع بالنسبة إليها أيضا ، لكثرة توغلهم في الجهالات فكأن أبصارهم طبع عليها مرة بعد

أخرى ، فعبر تعالى عن المرة الأولى ب (الطبع والختم) ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٨] وعن الثانية ب (الغشاوة) كما في الآية المباركة وما قلنا جار في جميع الآيات المسوقة في هذا البيان.

ويمكن أن يفرق بينهما بأن يقال : إن الطبع والختم إنما هو بالنسبة إلى المعنويات مطلقا والغشاوة بالنسبة إلى الظواهر من حيث إمكان الانتقال منها إلى المعنويات فهذه الجهة مسلوبة عنهم أيضا كما يستفاد ذلك من الآيات المباركة على ما سيأتي.

ثم إنه ليس المراد بالقلب والسمع والبصر في المقام ما هو الموجود في البهائم إذ ليس ذلك مناط الفضل حتى يختم عليه بل المراد منه العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ويغلق به أبواب النيران وقد بينه الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] ، وبقوله جل شأنه : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢]. ويستفاد من ذلك أن الختم على القلب وعلى سائر المدارك إنما يكون بالنسبة إلى عالم الغيب والمعارف الإلهية وذلك لا ينافي بقاء إدراكها بالنسبة إلى الجهات المادية الدنيوية بل نبوغها فيها لتغاير العالمين وتباين النشأتين وعدم ارتباط أحدهما بالآخر فكم من نابغة في الدنيا ليس له حظ في الآخرة وكم من عالم بما يتعلق بالآخرة لا توجه له بأمور الدنيا.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). العذاب بمعنى الحبس والمنع ، ومنه الماء العذب ، أي يمنع عن اختلاط شيء آخر ، أو لأنه يقمع العطش ويمنعه. وهو في القرآن اسم لما يؤلم ويمنع النفس عن جميع مشتهياتها من الخير. والعظيم ضد الحقير ويراد به العظمة من كل جهة كما وكيفا وزمانا ومكانا وهو يشمل

عذاب الدنيا والآخرة قال تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) [سورة الرعد ، الآية : ٣٤] والتنكير لإظهار تعميم العذاب من جميع الجهات التي تتصور فيه وحينئذ فيكون ذكر العظيم من باب أهمية عظمته.

وهاتان الآيتان من القضايا الشرطية المركبة من الشرط والجزاء وقد ثبت في علم الميزان أن جملة من تلك القضايا تكون قياساتها معها ، أي : تصورها يغني عن إقامة البرهان عليها. وسيأتي بيان أن للعذاب ـ في الآخرة ـ حياة وإدراكا. مفصلا إنشاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن علي (عليه‌السلام): «سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم وسمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم ألا تسمع قوله تعالى : (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ)».

أقول : بين (عليه‌السلام) أن الختم والطبع على قلوبهم وقع باختيار منهم لا أن يكونوا مقهورين في ذلك كما تقدم. وقوله : «ليوافق ـ علمه فيهم» ليس هذا العلم من العلة التامة للطبع والختم حتّى يستلزم الجبر كما ذهب اليه جمع ، لقوله (عليه‌السلام) في صدر الرواية «ليوافق قضاؤه عليهم علمه» فحكمه (عليه‌السلام) بأن ذلك من مقتضياته ـ والقضاء بنحو الاقتضاء لا العلة التامة ـ يدفع هذا الاشكال.

قال أبو جعفر (عليه‌السلام): «والله إنّ الكفر لأقدم من الشرك وأخبث وأعظم».

أقول : يظهر من هذه الرواية الشريفة أن الآيتين المباركتين لا تختصان بوقت دون وقت فيكون القدم فيها قدما زمانيا لأن كفر إبليس أقدم من جميع أنحاء الكفر ، ويمكن أن يجعل قدما رتبيا فإن كل شرك مبدوّ بأوهام تحصل للنفس وهي بعض مراتب الكفر في الواقع ومبادئ الشرك فيصير الكفر مبدئا للشرك بعد ذلك.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة

على كفرهم» أقول : وهذا نص في أن الكفر كان باختيارهم فطبع الله على قلوبهم عقوبة عليهم.

وعن الصادق (عليه‌السلام) في وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل قال : «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود ، والجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم : فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية ، وهو قول من يقول : لا رب ولا جنّة ولا نار ، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال : لهم الدهرية ، وهم الذين يقولون وما يهلكنا إلّا الدهر ، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون ، قال عزوجل : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أنّ ذلك كما يقولون ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بتوحيد الله فهذا أحد وجوه الكفر.

وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده ، وقد قال الله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ، وقال الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ، وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزوجل به ، وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ

بِبَعْضٍ) ؛ فكفّرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة ، وذلك قول الله عزوجل يحكي قول ابراهيم : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، يعني تبرأنا منكم ، وقال يذكر إبليس وتبرأه من أوليائه من الإنس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) ، وقال : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، يعني يتبرأ بعضكم من بعض».

أقول : يمكن جعل جميع ما في هذه الرواية من التقسيم العقلي بأن يقال : الكافر إما لا يعتقد بمبدإ أصلا ، وهو الكافر المطلق ويطلق عليه الجاحد بالمعنى العام أيضا ؛ أو يعتقد به في الجملة ثم يجحده وهو كفر الجحود بالمعنى الخاص ، أو يعتقد به ولا يجحده ولكن يكفر بنعمه وهو كفر النعم ، أو يعتقد به ولكن يترك ما أمر الله به وهو كفر ترك الطاعة ويشمل هذا ترك كل واجب شرعي ، أو إتيان كل ما نهى الله عنه. أو يعتقد بذلك كله ولكن لا يبرأ من عدوه ولا يتوالى وليه وهو كفر البراءة. ومن هذا الحديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر على تارك الصّلاة أو على إتيان بعض المحرمات أو التولي لأعداء الله أو التبري من أولياء الله فهذا الحديث هو الجامع لجميع أنواع الكفر ، ولكن الكفر الاصطلاحي الذي يبحث عنه في الفقه الموجب لأحكام خاصة يختص ببعض الأقسام دون الجميع.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

ذكر سبحانه أولا المؤمنين حقا وهم الذين أخلصوا دينهم لله ، ثم ذكر الكافرين حقا وهم الذين محضوا في الكفر. واللازم منهما أنّ هناك قسمين

آخرين هما من أبطن الكفر وأظهر الإيمان وهم المنافقون ، ومن أظهر الكفر وأبطن الإيمان ؛ حيث إنّ للإنسان قلبا ولسانا فيمكن أن يعتقد بقلبه شيئا ويظهر بلسانه خلافه ، ويأتي الثاني عند قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٦].

وفي هذه الآيات يذكر حال المنافقين الذين جعلهم الله تعالى في عرض الكفار في الدنيا فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٣] كما أنه جمعهم في الآخرة فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٠].

وقد عطف هذه الطائفة على الطائفة الثانية لما بينهما من الصّلة والترابط في الكفر بينما قطع الثانية عن الأولى لما بينهما من التباين والاختلاف.

وقد وصف سبحانه وتعالى حال الطائفة الثانية في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية هنا لأنهم أشد ضررا على المسلمين من غيرهم. وانهم فرقة من النّاس توجد في كل عصر وزمان ولا تختص بالمنافقين في عصر التنزيل وإن كانت تتناولهم تناولا أوليا وقد اعتنى الله سبحانه بذكر أوصافهم وتوبيخهم ليتجنب المؤمنون عن كيدهم وإغوائهم وتضليلهم وخبثهم وإلّا فهم من الكافرين لنفي الإيمان عنهم حيث قال تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فالتقسيم ثنائي في الواقع المؤمن ، والكافر. وإنما أهمل سبحانه ذكر أسمائهم لأن من أدب القرآن الستر مهما أمكن ، ولأن الأمر من قبيل القضية الحقيقية شامل لكل من يكون كذلك.

التفسير

ذكر سبحانه جملة من صفات المنافقين في هذه الآيات الشريفة : منها قوله تعالى : (يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فنفى الإيمان عنهم. وإنما خص سبحانه الإيمان بالله واليوم الآخر بالذكر ولم يحك عنهم الإيمان بالأنبياء لاستلزام الإيمان بالمبدأ والمعاد الإيمان بالأنبياء أيضا كما عرفت سابقا.

وما يقال : من أنّ للمنافقين أعمالا حسنة في حد نفسها أيضا فكيف يعدون من الكفار بقول مطلق (مردود) بأنّ الأعمال الحسنة من المنافق إنّما صدرت لأجل أغراضهم الشريرة فلا وجه لترتب الأثر الحسن عليها فنفي حقيقة الإيمان عنهم يجزي عن هذه التكلفات.

ومنها قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). الخدع : المكر. وهو إظهار شيء وإخفاء خلافه ، وهو من أقبح الرذائل وشر الصفات.

وعن بعض الأدباء أن المخادعة من فعل الطرفين وجعلوا ذلك هو الأصل في صيغ المفاعلة وتبعهم جمع من المفسرين ثم قالوا إنّ المخادعة محالة على الله وغير لائقة بالمؤمنين لأنه من فعل المنافقين.

ولكن ذلك مردود بأنّ صيغة المفاعلة إنّما تدل على إنهاء الفعل إلى الغير واقعا أو اعتقادا وأما أنّ الغير يفعل مثل ذلك بالنسبة إلى الفاعل الأول فهو غير مأخوذ فيها ، فقد يكون وقد لا يكون. نعم الجزاء على المخادعة مع الله ورسوله شيء ومخادعة الله ورسوله شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر وإنما ذكرت المخادعة لبيان أن هذا العمل يتكرر عنهم.

وأما مخادعتهم مع الله ورسوله تكون بالنسبة إلى اعتقاد المنافق لا بالنسبة إلى الواقع إذ لا معنى لمخادعة من هو عالم السر والخفيات ومع ذلك نسبها سبحانه الى نفسه ابتداء تسلية للمؤمنين لئلا يثقل تحملها عليهم لشدة صفاء قلوبهم فوحدة السياق نحو تلطف منه تعالى بالمؤمنين كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠] وغير ذلك من الآيات المباركة.

وأما خداعهم مع المؤمنين فبإظهار الإيمان وإخفاء الكفر والعمل رياء وسمعة وذلك لأجل الاطلاع على أسرار المؤمنين واذاعتها لأعدائهم.

قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) اي : ضرر عملهم راجع إليهم فهم المخدعون. وأصل الشعور هو التوجه والالتفات والفطنة بالشيء ولا يقال إلّا في ما دق وخفي ، ولذلك لا يوصف به سبحانه لعدم خفاء شيء عليه.

ومعنى الآية المباركة إن المنافقين لا شعور لهم في إدراك قبح عملهم لفرض أنّ بناءهم على النفاق والفساد وهم مسخرون تحت طبيعتهم الشريرة ، كما في قوله تعالى : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٣].

ثم إنّ مفاد هذه الآية المباركة يجري في جميع الرذائل النفسانية التي طبعت في قلوب أهلها فالمورد وإن كان خاصا ولكن الحكم (وما يشعرون) عام.

قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). المراد بالقلب في الآيات المباركة : منشأ الفهم والإدراكات فينطبق عليه النفس والروح والعقل أيضا. والمرض هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم أو في القلب. والمراد بمرضها ضعف إدراكاتها وعدم تعقلها للدين وأسراره وأحكامه ويجمع ذلك عدم التفقه لها كما قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩].

قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً). يمكن أن تكون هذه الجملة المباركة دعاء عليهم كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٧]. ويمكن أن تكون جريا على سلسلة الأسباب المنتهية إليه تعالى فانه عزوجل بعث الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنزل القرآن وأتم الحجة فكذّبوا بها وأبوا أن يتّبعوه حسدا واستكبارا فزاد ذلك مرضا على مرضهم ، فنسب المرض بالسبب القريب الى اختيارهم وبالسبب البعيد الى إرسال الرسول والدعوة الى الإسلام والكل ينتهي إليه تعالى في سلسلة الأسباب.

وفي تنكير المرض إشارة إلى ثبوت جميع أنواعه حسب مفاسد أخلاقهم واستقرارها في قلوبهم.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ). أي : كان العذاب لأجل كذبهم لأن المنافق كاذب ويستلزم ذلك تكذيبهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلا فرق في قراءة (يكذبون) بين المجرد اللازم والمزيد المتعدي.

وإنما ذكر تعالى خصوص هذه الصفة (كذب) لكونه مصدر كل شر وأساس كل نفاق.

أليم : صفة للعذاب بمعنى المؤلم وإطلاقه يشمل كل ألم وفي أي مرتبة كانت من مراتب العظمة كما يدل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٥] فيكون عذابهم أشد من عذاب الكافرين.

بحث فلسفي :

الشعور هو أدنى مرتبة الإحساس والإدراك وكلما كان إحساسات الشخص وإدراكاته للدقائق أكثر كان شعوره بها أشد وكليات أنواع الإحساسات والإدراكات ثلاثة : عقلية ، وخيالية ـ ومنها الإدراكات الحيوانية ـ ونباتية على ما أثبتها قدماء الفلاسفة والعلم الحديث أيضا ولكل منها مراتب كثيرة غير متناهية لا يحيط بها إلّا الباري جل شأنه.

وكمال الإنسان لنفسه ولغيره إنما هو بالإدراكات العقلية وفي غيرها لا ثمرة مهمة فيها. والإدراكات العقلية على قسمين :

الأول : ما يتعلق بالجهات التشريعية السماوية فهي محدودة ولا بد فيها من موافقتها للكتاب والسنة وعدم مخالفتها والخدعة ـ التي هي النفاق ـ مطلقا مخالفة لها.

الثاني : ما يتعلق بغير الجهات التشريعية كسائر العلوم أو الصنائع فإن الإدراك فيها مرسل غير محدود بحد إذ لأحد للعقل ولا منع للشرع ، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ صفات النفس على أقسام :

الأول : ما كانت صفة لها بحسب ذاتها كان هناك غيرها أولا ، كالحياة والجمال. فالجميل جميل كان هناك غير يراه أولا.

الثاني : الصفات التي تضاف إلى الغير فلا تحقق لها بدونه كالظلم وحسن الخلق والأذى ونحوه ومنها النفاق.

الثالث : الصفات الإضافية المختلفة باختلاف الجهات وسيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

من صفات المنافقين التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات الفساد في الأرض والاستهزاء بالمؤمنين وتوصيفهم بالسفاهة وعدم شعورهم بجهالتهم وتلك الصفات كلها من أخس الصفات وأرذلها التي كانت فيهم.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ). الفساد خروج الشيء عن الاعتدال وتغيره عن سلامة الحال وضده الصلاح. ومادة الفساد في أي هيئة استعملت تدل على المبغوضية والاشمئزاز ، قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٥] ولا سيما هيئة الإفساد ومتفرعاتها فإنّ المتلبس بها مذموم عند الجميع ويقابل ذلك مادة الصلاح ، فإنها في أي هيئة استعملت تدل على المحبوبية والرغبة وميل النفس خصوصا هيئة الإصلاح وما يتفرع منها فإنّها ممدوحة عند الجميع قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨].

وإنما ذكر تعالى القول بلفظ المجهول ليشمل كل ناه عن المنكر رسولا كان أو وليا أو كان من عرض النّاس ، كما أنه سبحانه ذكر الأرض وحدها لأنها محل إفساد المفسدين قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [سورة الروم ، الآية : ٤١].

ثم إنّ الخروج عن الاعتدال والاستقامة الذي هو معنى الفساد تارة يكون بالنسبة إلى الشخص نفسه في ما بينه وبين الله تعالى كالرياء وأخرى بالنسبة إلى شخص آخر مثله كالغش مثلا وثالثة بالنسبة إلى المجتمع كالخيانة بالنسبة إليهم ولهذه الحالات مراتب متفاوتة. وفي الجميع إما أن يكون الشخص متوجها الى ما يفعل أو لا يكون كذلك بل يرى فساده صلاحا وإصلاحا والآية المباركة تبين هذا القسم.

ومعنى الفساد في الآية الشريفة ارتكاب المعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، ويدخل فيها مذام الأخلاق ، وذلك لأنّ أفعال الإنسان إما أن تكون موافقة للشرع ، أو تكون موافقة لموازين الاجتماع وإن كانت مخالفة للشرع ، وثالثة : أن تكون موافقة لمعتقدات الشخص وإن كانت مخالفة للأولين ، والنفاق أو الفساد في الآية المباركة من أحد الأخيرين وقد أكد تعالى بطلان معتقداتهم في قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) بأن لا صلاح في معتقداتهم إذ ليس كل صلاح اعتقادي صلاحا واقعيا.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ). لظهور آثار الفساد في أفعالهم كتفريق المسلمين وإلقاء النفاق بينهم وافشاء أسرارهم.

قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ). لأنّ كثرة انهماكهم في الغي والضلالة أوجبت أنهم يرون باطلهم حقا فنفى الله تبارك وتعالى نسبة الشعور عنهم بكلمة (لا) الظاهرة في نفي نسبة المدخول في مثل المقام والدال على الاستمرار فالآية الشريفة في مقام توبيخ المنافقين والتشنيع عليهم حيث وصفهم بعدم الشعور والإدراك.

ولعل نفي الشعور عنهم مرتين تارة : بقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) وأخرى : بقوله تعالى : (لا يَشْعُرُونَ) للإشارة إلى نفي أصل الشعور عنهم أولا ونفي أنهم لا يشعرون بذلك فيكون من إثبات الجهل لعدم الشعور لهم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). ذكر تعالى صفة أخرى من صفات المنافقين وهي السفاهة وهذه الصفة تلازمهم ولا بد وان يكونوا كذلك لأن من ليس أهلا للحق ولا يقبله من

أهله كان ذلك من الجهل المركب عنده ويرى سوء عمله حسنا كما يرى من سواه فاسدا هالكا. وقد أعيت هذه الفرقة جميع أنبياء الله عزوجل وأوليائه في كل عصر لو لا أن تداركهم العنايات الخاصة الإلهية جل شأنه ، ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١١] ، وقال تعالى : (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [سورة هود ، الآية : ٢٧].

وإنما أتى سبحانه وتعالى القول بصيغة المجهول تنبيها إلى عدم اختصاص القائل بشخص مخصوص بل يشمل كل من أظهر الحق كما تقدم في الآية السابقة.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ). الناس والإنسان والبشر ألفاظ مترادفة معنى لهذا الحيوان الناطق المستوي القامة الذي يتفاوت أفراده بين أوج الكمال وأدنى مرتبة الحضيض فالمراد بهم في المقام من دخل في الإسلام ، وتقدم معنى الإيمان.

قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). السفه : هو الخفة وقلة التمييز بين الخير والشر والنفع والضرر سواء كان في الأمور الدنيوية أو الأخروية ، فمن لا يعرف نفعه من ضره وخيره من شره بالنسبة إلى الجهات الأخروية يعد سفيها بالنسبة إليها ولو كان رشيدا وملتفتا إلى الأمور الدنيوية التفاتا دقيقا ، كما أن كلّ من كان متوجها وملتفتا إلى أموره الأخروية وغير دقيق في أموره الدنيوية يعد عند الناس سفيها ، وهذا نزاع قديم بين الفريقين فأهل الدنيا يعدون أهل الآخرة سفهاء وأهل الآخرة يعدون أهل الدنيا من السفهاء.

ولا نزاع في الحقيقة لأن المراد من السفيه السفه من جهة لا من كل جهة فمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة وان عده بعض أهل الدنيا سفيها بالنسبة إلى بعض جهات الدنيا ومن أراد الدنيا وسعى لها سعيها معرضا عن الآخرة يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة كما في المقام لأنه ترك الحياة الدائمة الباقية لأجل الحياة الزائلة ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). ولا ريب في مطابقة ذلك للواقع لأن كل من ترك الحياة الدائمة وأخذ بغيرها سفيه بلا شك. وإنما عبّر بقوله تعالى هنا (لا يَعْلَمُونَ) وفي الآيات السابقة عبّر تعالى ب (لا يَشْعُرُونَ) تنبيها على أنهم متوغلون في الجهالة وأنّها من سنخ الجهل المركب وتأكيدا لنفي الإدراك عنهم بجميع أنحائه : من نفي الشعور ، ونفي العلم ، ونفي الفقه والعقل كما في قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٤] ، وقوله تعالى : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٣].

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ). هذه الآية المباركة تبين صفة أخرى للمنافقين وهي المداهنة بإظهار شيء وإضمار خلافه ولا تكون هذه إلّا فيمن بلغ في فساد الأخلاق حدا بعيدا فيظهر بوجهين ويتكلم بلسانين يلقى كلا بحسب ما تقتضيه المصلحة وهم يرون ذلك من مصالحهم الفردية والاجتماعية ، وهذه الفئة من المنافقين لم تكن تختص بعصر التنزيل بل توجد في كل عصر وزمان ولا ينافي ذلك الحكاية عنها بصيغة الماضي وتقدم الكلام في ذلك.

وقد بين تعالى أنّ المنافقين يداهنون في دينهم فإذا رأوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون كذبا وزورا وإذا اجتمعوا بشياطينهم قالوا إنا معكم في العقيدة والعمل وإنما نحن نستهزئ بالمسلمين ودينهم وقد فضحهم الله تعالى وأعدّ لهم شديد العقاب.

والمراد بالشياطين هم المتمردون ، من الشطن وهو البعد والتمرد فكلما بعد الإنسان عن الخير والصّلاح وقرب إلى الباطل والفساد يقرب من الشيطان. والمقصود بهم رؤوسهم ، ومن يدبرهم في مذام الأخلاق وشعب النفاق سواء أكانوا من الإنس أم الجن ، كما في قوله تعالى : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٢].

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ كونهم مع أهل الإيمان إنما هو بمجرد المرور والملاقاة فقط ، وأما معيتهم مع الشياطين فكانت بعنوان التفهيم والاستفادة من نواياهم الفاسدة.

ثم إن الخلوة مع الشياطين تارة تكون على نحو الاستفادة وأخذ الآراء الفاسدة والعقائد السيئة وأخرى : تكون لارتكاب الفحشاء والمنكرات وثالثة : تكون على نحو التفكر في ما لا ينفع للدين والدنيا فإن الأوهام والخيالات الفاسدة والأماني الباطلة من أقوى سبل الشياطين المستولية على الإنسان الموجبة لحرمان عقله عن قرب الرحمن وعن علي (عليه‌السلام): «الأماني بضائع النوكى» أي : الحمقى وأما الخلوة معهم لأجل هدايتهم إلى الحق فهي ممدوحة بل قد تجب.

قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). الاستهزاء هو الاستخفاف والسخرية. والمد : هو الزيادة. والطغيان : التجاوز عن الحد. والعمه : التحير.

والمعنى : إن الله سبحانه وتعالى يجازيهم بالعقاب ويعاملهم معاملة المستهزئ بهم ويدعهم ويمهلهم في فعلهم وتسمية ذلك بالاستهزاء من باب التجانس اللفظي فقط كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] ، وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] فإن جزاء الظلم ليس بظلم.

واستهزاء الله تعالى بهم لا يختص بعالم دون عالم ولا بأمر دون آخر فمن ذلك سلب توفيقاته وتأييداته ، أو إجراؤه تعالى أحكام الإسلام عليهم في الدنيا وليس لهم حظ منها في الآخرة وكونهم في الدرك الأسفل من النار وهذا من أشد أنحاء الاستهزاء بهم ويزيدهم في تحيرهم وعدم اهتدائهم للصواب والحق جزاء بما كانوا يعملون وعقوبة لهم على استهزائهم.

وهذه الآية مثل سائر الآيات المباركة التي سبقت مساقها كقوله تعالى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة

يونس ، الآية : ١١] ، وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [سورة المائدة ، الآية : ٦٤] وغيرها من الآيات الشريفة الموافقة لقانون الطبيعة بالنسبة إلى النفوس الشريرة. وتقدم في خداعة الله تعالى لهم بعض الكلام فراجع.

وهذه الآية في مقام التسلية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسائر أنبيائه قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة يس ، الآية : ٣٠] والمؤمنين أيضا ، وحيث أن الاستهزاء بأنبياء الله يرجع إلى الاستهزاء بالله تعالى فنسب جزاء المستهزئين بهم إلى نفسه فقال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقال تعالى : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الزمر ، الآية : ٤٨] فإن إحاطة نفاقهم بهم من لوازم فعلهم والكل يرجع إليه سبحانه وتعالى بنحو الاقتضاء ، كما مر ، فيصح أن يقال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) جزاء لأعمالهم أو (حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). يطلق الاشتراء على الاستبدال مع رجاء النفع أي : أنّ المنافقين استبدلوا الهداية بالضلالة والعمى لغرض من الأغراض الفاسدة الدنيوية فتركوا استعداد فطرتهم فلم تربح تجارتهم وكانوا من الخاسرين. والخسران في هذه المعاملة من الواضحات لكل عاقل بعد التأمل ولو قليلا وقد بين تعالى ذلك في آية أخرى بما هو أظهر فقال سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٥] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٧]. وفي جملة من الآيات المباركة التعبير بالثمن القليل قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النحل ، الآية : ٩٥] وقال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨٧].

ويمكن أن يفرق بين التعبيرين بأنّ استبدال الهداية والإيمان بالضلال

والكفر تارة : يكون لأجل الكفر والجحود والشقاوة المنبعثة عن اقتضاء الذات بمجرد الاقتضاء لا العلية ، وهذا هو استبدال الهداية بالضلالة والإيمان ، بالكفر ، وقد أشار الى ذلك سبحانه وتعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة فصلت ، الآية : ١٧]. وأخرى : يكون الاستبدال لأجل الأغراض الفاسدة الخيالية الدنيوية ، وهذا هو الاشتراء بالثمن القليل ، فإن كل غرض إذا صدر من الإنسان مع قطع النظر عن إضافته إليه عزوجل فهو من المعاملة الخاسرة وإذا صدر منه من جهة إضافته إليه تعالى مع تأييد ذلك بالشرع فهو من المعاملة الرابحة. والمائز بين الغرضين هو الشرع أو العقل المقرر بالشرع ، لما سيأتي في محله من أن نسبة الشرع الى العقل نسبة الصورة إلى المادة ، فكما لا أثر للمادة بدون الصورة فكذا لا أثر للعقل بدون الشرع ، فالعامل بالعقل التارك للشرع يضل في هديه ، والعامل بالشرع التارك للعقل يبطل سعيه ومسعاه ، ويأتي تفصيل هذا الإجمال إن شاء الله تعالى.

ثم إنه يصح أن يكون قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) من باب ذكر اللازم وإرادة نفي أصل الملزوم فيكون المعنى أنه لا تجارة لهم أصلا في الواقع وإن كانت بحسب الظاهر لأنّ التجارة ما كان فيها اقتضاء الاسترباح في الجملة لا ما بنيت على الخسران والضلالة.

وفي الآية المباركة نحو استعارة ومجاز لإسناد الربح الى التجارة ومنه يعلم وجه قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فتصح نسبته إلى تجارتهم الخاسرة او الى جميع شؤونهم التي منها تجارتهم.

بحث روائي :

عن الصادق (عليه‌السلام) «سئل فيما النجاة غدا؟ فقال إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر ، فقيل له كيف يخادع الله؟ فقال (عليه‌السلام) يعمل بما أمر الله عزوجل به ثم يريد به غيره فاتقوا الله واجتنبوا الرياء فإنه شرك بالله

عزوجل إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر حبط عملك وبطل أجرك ولا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

أقول : وقريب من هذه الرواية روايات أخرى كثيرة الظاهرة في حصر النجاة في يوم القيامة في الخلوص والإخلاص وترك المخادعة وهو كذلك لأن المخادعة توجب سلب الأجرة على العمل لفرض أن المخادع يأتي بعمله لغيره تبارك وتعالى فلا أجر له منه.

وعن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فقال (عليه‌السلام): «إن الله لا يستهزئ ، ولكن يجازيهم جزاء الاستهزاء».

أقول : تقدم بيان ذلك.

بحث أخلاقي :

للنفاق سببان الأول السبب الفاعلي الثاني السبب الغائي أما سببه الفاعلي فالعمدة فيه ترجع الى عدم العقيدة بالمبدأ والمعاد أصلا أو قلتها وضعفها فلو اعتقد الإنسان بمبدإ قيوم مراقب له في جميع جهاته وأفعاله لا يحصل منه النفاق الذي هو أم مساوي الأخلاق وكلما اشتد الاعتقاد بالمبدأ واحاطته تعالى يضعف النفاق. والسبب القريب فيه يرجع إلى حب النفس والجاه وقد بينهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

وأما سببه الغائي فلا ريب في أنه ليس له غاية عقلية وإنما تكون له غايات جزئية وهمية خيالية ربما يستنكر نفس المنافق تلك الغاية لو فرض كمال عقله وإيمانه.

وأما شعبه ومراتبه فهي كثيرة منبثة على الجوانح والجوارح فالمنافق يمكن أن ينافق بقلبه كالرياء كما تقدم في البحث الروائي أو بكل واحدة من جوارحه أو بجميعها والوجوه المتصورة في هذه الصفة الشريرة على أقسام :

الأول : كونها من سنخ الطبايع غير القابلة للتغير والتبدل كسائر الطبايع

المودعة في الأشياء كلها من جواهرها وأعراضها التي يصح أن يعبر عنها بالصفة غير القابلة للتخلف والتغيير.

الثاني : كونها من مجرد الاقتضاء الذاتي القابلة للتغير والتبدل والاشتداد والتضعيف.

الثالث : كونها من مجرد الاكتسابيات المحضة بلا علية ولا اقتضاء أبدا.

الرابع : كونها في مبدأ الأمر من مجرد الاقتضاء المحض وصيرورتها بالممارسة من سنخ الطبيعة واللوازم غير المنفكة.

وقال بكل من ذلك قائل من الفلاسفة والمتكلمين ، ويمكن أن يكون جميع ذلك صحيحا إن أراد القائل بالأول مرتبة خاصة من الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة كسائر الطبايع غير الإرادية الاختيارية فإنه لو قيل بها لزم محاذير كثيرة يشكل الجواب عنها كما يأتي التفصيل في محله.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

المثل كالشبه وزنا ومعنى. والمثل هو وصف الشيء وبيان نعوته التي توضّحه.

وكانت الأمثال دائرة بين الأمم خاصة عند العرب بل كان استعمالها يعد من شؤون الفصاحة والبلاغة ، وقد نهج القرآن الكريم في استعمال الأمثال لغرض تفهيم المخاطبين والتكلم معهم بلسانهم المتعارف بينهم وجلب قلوبهم إلى غير ذلك من الحكم والفوائد. وقد اهتم القرآن الكريم بها اهتماما كبيرا ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [سورة الروم ، الآية : ٥٨] ، وقال تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَذَكَّرُونَ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٢٥] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والوجه في ذلك معلوم لأن ذكر المثل يجلي المعاني المعقولة الخفية ويؤثر في النفوس المأنوسة بالمحسوسات ، والنّاس إلى ما ارتكز في غرائزهم أميل وإلى ما يكون دائرا في ما بينهم أرغب وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» وعلى هذا ضرب الله تعالى مثلا للمنافقين أولا بمن استوقد نارا.

وثانيا : بمثل آخر لحال المنافقين فشبه تعالى الإسلام بالمطر لأنه يحيي الأرض بعد موتها والإسلام يحيي القلوب ، وجعل تعالى شبهات المنافقين وأباطيلهم كالظلمات ، وشبه ما في الدين من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق ، وهم في غلو واضطراب وخوف من النّاس : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٤] ، فهذا المثل يشرح حال المنافقين ويبين سوء أعمالهم وفساد أسرارهم فقد أتتهم الحكمة من السماء وفتح الله عليهم أبواب علومه فاعترضوا ذلك بالشبه والآراء الفاسدة (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٧] فحصل بعد هذا العلم الإلهي ظلمات وحيرة في أنفسهم باتباع الشهوات فصاروا في حيرة من أمرهم مترددين هالكين.

التفسير

قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ). المراد باستيقاد النّار هو إيقادها للاهتداء بنورها أو الاستضاءة به كما كان يفعل ذلك في قديم الزمان.

قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ). المراد به الأعم من النور الظاهري الذي كان من إيقاد النار ، والنور المعنوي الذي هو الإسلام كما قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢] فإنّ المنافق لتماديه في الغي والضلالة ومزاولته للأعمال الشريرة حصلت له طبيعة ثانية أوجبت إطفاء نور الفطرة والاعراض عن الإيمان

فأوكله الله الى نفسه وذهب بنوره ويدل على ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [سورة الحديد ، الآية : ١٣] ولهذا النور مقام عظيم سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة له.

قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ). أي صيرهم في الظلمات لا يبصرون شيئا ، ويستفاد من حذف المتعلق وسياق الآية الشريفة أنّ الله تعالى اذهب جميع مراتب النور عنهم في الدنيا والآخرة بل سلب جميع الكمالات الإنسانية فلا يرجى منهم خير.

وإنما قال تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل اذهب الله نورهم لفرض انهم باختيارهم اختاروا الظلمة والعمى فنسب تبارك وتعالى إذهاب النور إلى نفسه لأن الجميع منتسب إليه تعالى بواسطة الأسباب الحاصلة باختيارهم.

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ). أي : لا يرجعون عن الضّلالة الى الهداية لأنه طبع على حواسهم وختم على قلوبهم (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] والمراد من هذا المثل أن المنافقين لم يشعروا بما يفعلون فهم بمنزلة الأعمى الأصم الأبكم لأنهم تمادوا في الغي والضلالة.

قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ). الصيب اسم من أسماء المطر ، ويمكن أن يراد به السحاب لأنه يصيب الفضاء. والرعد هو صوت السحاب ، والبرق هو الضوء اللامع في السحاب. والصاعقة هي النّار العظيمة النازلة من السماء فتصعق ما تنزل به.

ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة أربعة من كائنات الجو وهي : الصيّب ، والرعد ، والبرق ، والصاعقة وتقدم معانيها. وأما حقيقتها

وأسباب حدوثها فقد اختلف فيها فنسب الفريقان إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أسبابا لها ذكروها في الكتب الموضوعة لنقل أحاديثه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وذكر قدماء الفلاسفة الطبيعيين لها أسبابا خاصة مذكورة في الكتب الفلسفية ، وأما علماء الطبيعيات في العصر الحديث فقد ذكروا أمورا تغاير ما ذكره القدماء ، ويظهر من بعض الآيات والأحاديث ـ على ما سيأتي في محله ـ أنّ لها حياة وشعورا وإدراكا خاصة.

والظاهر أنّ ذلك لم يكن من الاختلاف في الحقيقة وإن قصرت عبارات بعض ، فإنّ لكل شيء من موجودات هذا العالم أسبابا ومعدات ومقتضيات وشروطا قد أدرك العقل بعضها ولم يدرك الآخر بعد ، وأنبياء الله تعالى وأولياؤه حيث إنّهم يرون أنّ جميع الحوادث تستند اليه عزوجل والملائكة المدبرين لأمره ينسبون ذلك اليه تعالى وهو الحق الذي لا محيص عنه ، وأما غيرهم فلا يدركون إلّا ما وصل اليه فكرهم مع أنه يمكن أن تكون في الواقع أسبابا أخرى غفلوا عنها وتشبه ذلك حالة المريض الذي اختلفت أنظار النّاس في مرضه فالعالم الروحاني يرى أنّ مرضه نشأ من ناحية دعاء المظلوم الذي ظلمه هذا الشخص مثلا ، والطبيب يقول إنّ مرضه من التهاب بعض أعضاء جسمه مثلا ، والنفساني يرى كدورة نفسه هي السبب ، وأهل المريض يرون أنه كان محموما فشرب الخل مثلا. ولما عاده وليّ من أولياء الله قال : إنّ ممرضك هو يشفيك كما قال تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٠] والجميع صادقون في أقوالهم وآرائهم فإن كل واحد ذكر مقتضيا من مقتضيات المرض وسببا من أسبابه لا أن يذكر العلة التامة ، وبهذا يمكن أن يجمع بين آراء العلماء في العلوم. وربما ننتفع به في غير المقام كما سيأتي.

وحيث إنّ المنافقين من الخائنين والخوف مسلط على الخائن مطلقا فتكون هذه الجملة : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) توبيخا آخر لهم بالملازمة فهم يخافون من موتهم بالصاعقة والرعد ، فيجعلون أصابعهم في

آذانهم ليتحفظوا بذلك بكل ما أمكنهم من أنحاء التحفظ بزعمهم منها.

وللصاعقة والرعد والبرق مراتب فيمكن أن يكون بعض مراتبها موجبا للموت بحسب قرب الوصول إلى الأجزاء الرئيسية من البدن.

قوله تعالى : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ). الإحاطة هي الإحداق بالشيء والمراد الإحاطة من جميع الجهات علما وقدرة وعذابا في الدنيا وعقابا في الآخرة ومن حيث الاستدلال والبراهين ومن حيث الدنيا وجميع العوالم بل هو محيط بما سواه بكل معنى الإحاطة ، كما أن المعنى عام في جميع العصور من عصر التنزيل إلى يوم القيامة ولجميع أصناف الكفر وأفراده ، وفيه دلالة واضحة على أنه بعد احاطته تعالى بهم ليس وراء الكفر والنفاق إلّا الخزي والضلال والهلاك ومع ذلك يمهلهم.

وإحاطته تعالى بما سواه تارة : إحاطة وجودية ، وأخرى : علمية ، وثالثة : فعلية ، فمن الأول قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٦].

ومفهوم الإحاطة والمحاط متقوم بالاثنينية لغة وعقلا. فتوهم وحدة الوجود من مثل هذه التعبيرات في الآيات المباركة ـ كما زعم جمع من الفلاسفة والعرفاء ـ باطل ، فضلا عن وحدة الوجود والموجود كما زعم جمع من خواص العرفاء والفلاسفة ، وسيأتي تفصيل هذه المذاهب وفسادها في محالها إن شاء الله تعالى.

ومن الثاني قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [سورة الطّلاق ، الآية : ١٢] وقوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ ، الآية : ٣] وهذا القسمان من إحاطته يعمان جميع ما سواه من أنحاء الممكنات.

وأما إحاطته الفعلية كقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٥٤] فإن كان المراد بالفعل الخلق والتقدير فهي تعم

جميع ما سواه أيضا. وان كان المراد بها رضاه وسخطه فالأول للمؤمنين والأخير للكافرين والمنافقين ، ومآلهما واحد لأن علمه الأقدس عين ذاته المقدسة على تفصيل يأتي في مباحث العلم إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ). الخطف : هو الأخذ والإذهاب بسرعة. والمراد أن القرآن والآيات البينة والحجج القيمة تشتمل على أدلة قويمة وبراهين قاطعة فيظهر لهم الحق ويلمع في نفوسهم نور الإيمان كالبرق الخاطف يخطف قلوبهم فيزمعون على اتباعه ولكن الشبهات والآراء الفاسدة تعترضهم فيكونون على حيرة من أمرهم.

قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ). لأنّ القرآن والشريعة يشتملان على بيان المصالح النوعية والترغيب إلى الخيرات والتأكيد في دفع المضار وأمثال ذلك وهذا هو الذي يضيء لهم فيمشون فيه.

قوله تعالى : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا). القيام كناية عن التحير ، لأن القرآن وأحكام الدين تزجرهم عن ما يخالف مشتهياتهم النفسانية فيظلم عليهم فيتحيرون في أمرهم.

والآية الشريفة باختصارها تبين أن في الدين ما يصلح للنّاس دنياهم وارشاد لهم إلى أن فيه زجرا لهم عما يفسد حالهم ، فلا تختص هذه الآيات بالمنافقين بل تشمل كل مشكل في الأمور الشرعية النوعية.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ). أي لو شاء الله لجعلهم غير مدركين لشيء. وإنما خص عزوجل السمع والبصر بالذكر ، لأن غالب الإدراكات في نوع النّاس إنما ترجع إليهما ، كما في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨]. ويمكن أن يراد بالسمع والبصر الظاهران فيكون تتمة للمثل نفسه وبالآية الأخرى عدم الإدراك بقرينة قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧١].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). لا يعجز عن شيء لأن كل شيء حادث وكل حادث فهو مخلوق ومعلول له تعالى فله التوحيد في المعبودية وفي الذات وفي الفعل ، وقد تقدم ما يتعلق بالأول في سورة الفاتحة

وأشرنا إلى الثاني في ما سبق وسيأتي القول في الثالث إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فقال : إنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة فمنعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم.

أقول : لا بد وأن يرجع الترك ـ المنفي عن الله سبحانه وتعالى المستلزم لعدم القدرة الذي هو المحال بالنسبة إليه تعالى لفرض عموم قدرته ـ الى فعله سبحانه وتعالى كما ارجعه (عليه‌السلام) الى ذلك وهو التخلية بينهم وبين فعلهم والإمهال لهم في أعمالهم وعدم تعجيل العقاب عليهم ، فيكون كالصبر المنسوب إليه تعالى فإنّه أيضا يرجع إلى عدم تعجيل العقاب لا الصبر الاصطلاحي عندنا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

بعد أن ذكر سبحانه في ما تقدم أصناف خلقه وهم المؤمنون المهتدون الفائزون ، والكافرون الذين اختاروا الكفر فطبع بذلك على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، والمنافقون الذين هم الأخسرون اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. فكما أن الدنيا مجمعهم بالوجود الجمعي والتدريجي في سلسلة الزمان كذلك الآخرة مجمعهم بالوجود الجمعي في الزمان والمكان. دعا سبحانه وتعالى في هذه الآيات النّاس إلى التوحيد والعبادة حتّى تستعد نفوسهم إلى التقوى. ثم عدد جلائل نعمه في السماء والأرض ليرغّبهم إلى التفكر ونبذ الأنداد فلا يستعينوا بغيره عزّ

وجل ، كل ذلك في عبارات يتدفق منها الحنان والعطوفة ، وقد أظهر اهتمامه بهم بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ) ثم ذكر خلق السابقين ليعرف أن الجميع خلقه وهو الخالق والمستحق للعبادة دون غيره وإنما كان الخلق السابق كالمقدمة لخلق المسلمين ثم بين الغاية القصوى للخلق وهي التقوى ثم عدد بعض النّعم النوعية التي تكون من خصائص الربوبية.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ). تقدم في سورة الفاتحة معنى العبادة والرب ، وفي هذه الآية أمر سبحانه النّاس بالعبادة وهي الغاية لخلق الإنس والجن كما قال سبحانه وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٦] وقد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» ولم يبعث الله الرسل إلّا لدعوة أقوامهم إلى العبادة قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [سورة النحل ، الآية : ٣٦].

وإنما اختار من أسمائه المقدسة لفظ (الرب) لاشتمال الربوبية المطلقة على جميع الكمالات الإلهية ، وفيه إشعار بالحنان والرأفة بخلقه. وإنما أمر بالعبادة لأنها تقتضي الإعتقاد بالتوحيد الذاتي أيضا.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). ذكر تعالى خلق الذين من قبلهم لأنهم كانوا يفتخرون بآبائهم بل بعضهم يعبدونهم فقال تعالى : إنهم مخلوقون له كما أنتم مخلوقون له فنفى تعالى جهة الشرك بهذه الكلمة كما بين غاية العبادة وهي التقوى.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً). الفراش والبساط والمهاد لها جامع واحد وهو سهولة الأرض للانتفاع بها بكل معنى يتصور الانتفاع وإنما تفترق هذه الألفاظ بخصوصيات خاصة تأتي الإشارة إليها في محالها. والتعبير بالفراش كما في هذه الآية الشريفة ، والمهاد. كما في قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [سورة النبأ ، الآية : ٦] ، والبساط

كما في قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) [سورة نوح ، الآية : ١٩] دلالة على أنها خلقت كذلك لأجل ملاءمتها لطباع النّاس وألفتهم بها كما يألفون إلى الفراش والبساط والمهاد.

والسماء تطلق على كل ما علا وأظل وعلى مجموع ما فوقنا وللعلو درجات ومراتب ولذا يتصور فيها الجمع وقد ورد في القرآن لفظ «السموات» كثيرا لأن جهات البعد كثيرة جدا ولا سيما بناء على أن البعد غير متناه. والبناء وضع شيء على شيء مع التماسك بينهما.

والمراد به أنه تعالى جعل السماء سقفا متماسكا لئلا تقع على الأرض ويدل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٢] ويمكن أن يراد بالبناء العمران في مقابل الخراب وليس المراد بالعمران والخراب ما ندركه بأبصارنا الظاهرية فقط بل لها معان أخرى لا يحيط بها إلّا الله تعالى ، وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «أطت السماء وحق لها أن تئط فإن ما بها موضع شبر إلّا وملك واضع جبهته عليه عظمة لله تعالى» ، وقد ورد التأكيد عن أئمة الدين في رد من زعم أنها خراب لا عمران فيها وعلى هذا يصح ترتيب نزول الماء من السماء سواء كان البناء بمعنى السقف أو بمعنى العمران كما لا يخفى على أهله.

وقد خلق السماء بأحسن نظام وأجمل صورة وجعل فيها أجراما غير متناهية متماسكة من غير أن يصطدم بعضها ببعض وقد كشف العلم الحديث لهذا السقف آثارا وفوائد كل ذلك يدل على تمام قدرته وعنايته تبارك وتعالى.

وإنما قدم سبحانه وتعالى الأرض لأنها من أنفع الكرات وأعظمها فائدة للإنسان ولأن فيها قيام حياة النبات والحيوان والإنسان ، والذي زاد في فضلها انها مهبط وحي السماء ومحل نشوء الأنبياء ومعبد الأولياء ومسجد أهل الإيمان ومحل تكميل نفوس العقلاء بل لم يخلق سبحانه وتعالى في العالم خلقا أجل نفعا وأعظم فائدة من هذه الكرة الأرضية ولذا كان اهتمامه تعالى بها أكثر واعتناؤه أشد من أي كرة أخرى فإنه سبحانه أعلم بأسرارها ورموزها

وكنوزها. وما يتوهم من أن الأرض كما أنها مجمع المنافع فيها شرور أيضا من أهمها انها محل إضلال الشياطين واغوائهم. غير صحيح بما ثبت في علم الفلسفة من أن الشر القليل لا يمنع عن الخير الكثير الموجود فيها ولم يذكر الأرض بلفظ الجمع في القرآن العظيم وان وردت جمعا في الدعوات المأثورة المعتبرة وقد ذكر السماء مفردا وجمعا في القرآن. نعم ورد في قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١٢] ، ويأتي ما يتعلق بذلك.

ولكن ثبت في الفلسفة القديمة بالبراهين القويمة أن جميع الكرات من النوع المنحصر في الفرد بلا فرق بين الأرض وغيرها ولو فرض تعدد فإنما هو بحسب النوع لا بحسب الأفراد الداخلة تحت نوع واحد ؛ وعلى هذا فإفراد لفظ الأرض في القرآن كإفراد لفظي الشمس والقمر يكون بحسب الدليل ، وسيأتي تتمة البحث وأما إفراد السماء وجمعها فقد تقدم بعض الكلام فيه.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). الماء معروف وهو منشأ الحياة في كل ذي روح سواء كان إنسانيا أو حيوانيا أو نباتيا كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠] والماء أصل حدوثه يكون في العالم العلوي وفي الأرض أمكنة مجعولة إلهية لإبقاء هذه النعمة الكبرى تسهيلا على المنتفعين به فأصل الحدوث من السماء والعلة المبقية في الأرض ، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الآيات المناسبة.

ولا ريب في تقوّم الإنسان بل كل حيوان برزق مخصوص ، والرزق متقوم بالثمرات وهي ما يحصل من النبات وكل نبات متقوم بالماء وهو من السماء وبالأخرة يرجع الرزق اليه تبارك وتعالى وقد أشار سبحانه وتعالى الى ذلك بقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [سورة الذاريات ، الآية : ٢٢].

وقد ذكر سبحانه في هذه الآيات من أصول نعمه نعمة الإيجاد والخلق

لنا ولأسلافنا ونعمة العيش والحياة ونعمة الغذاء ، فعرفنا ذاته المقدسة بآثار رحمته وعظيم نعمه وسعة فضله وغاية قدرته وعظمته.

قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تفريع وتوبيخ للمخاطب العاقل في صورة النهي ، يعني أنه مع علمكم بألطافه تعالى وعناياته عليكم كيف تجعلون له شريكا ومثلا. والند هو المثل والكفؤ والشريك. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه لا ندّ له لكونهم معترفين بأن الله خالقهم ورازقهم والمنعم عليهم والمدبر لأمورهم فلا يقول خلاف علمكم وعقيدتكم. ويجري معنى الآية في كل من يقول بأنّ مجاري الطبيعة مسخرة تحت إرادته تعالى ومع ذلك يعتقد بخلاف ذلك فلا يختص بزمان دون زمان.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

بعد أن ذكر سبحانه أقسام الناس بالنسبة إلى الإيمان والكفر كما تقدم. أمر سبحانه الناس بعبادته لعلهم يصلون إلى الغاية المرجوّة لهم وهي التقوى والتي تستكمل نفوسهم بها لأنه المنعم عليهم بأنواع نعمه. وبما كان له من الربوبية العظمى في خلقه شرع في إثبات النبوة لعبده وبيان ما أنزله عليه وإزالة الشك بأن ما جاء به محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان من عند نفسه فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله. فالآية من أدلة اثبات النبوة ويصح جعلها من أدلة اثبات اعجاز القرآن كما يصح جعلها لهما معا لمكان تلازمهما في جميع مراحل الوجود.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). يعني إذا حصل لكم الشك في أمر القرآن وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بسورة من مثله ، وقد ذكر سبحانه وتعالى المنزل عليه بأحسن لفظ تشريفي يتدفق منه الحنان والعطوفة.

فالسياق سياق العناية بالنسبة إلى كل من المنزل والمنزل عليه وهما متلازمان في جميع مراحل الوجود ، فيسقط بذلك ما أطاله جمع من المفسرين في مرجع ضمير «مثله» وانه يرجع الى العبد أو الى القرآن المعبر عنه بقوله (مِمَّا أَنْزَلْنا) وذلك لأن مقام النبوة التي هي من أجل المقامات الممكنة في البشر إنما يتحقق بنزول القرآن عليه ونزول القرآن لا يكون إلّا بالنسبة إليه فالحقيقة واحدة والفرق اعتباري. نعم لما كان للكتاب الاستقلال المحض وليست النبوة إلّا الدعوة اليه فتكون نسبة الداعي إلى المدعو اليه نسبة اللفظ إلى المعنى ولا أثر في اللفظ بدون المعنى فلا بد وأن يرجع الضمير إلى القرآن ، ويشهد لذلك ما ورد في سائر آيات التحدي قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [سورة الطور ، الآية : ٣٤] ، وقال جلّ شأنه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٣٨] ، وقال تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨].

وقد ثبت في العلوم الأدبية أن الجملة الشرطية تجتمع مع إمكان الشرط وتحققه خارجا بل ومع امتناعه فعلا أيضا ، ولا إشكال في تحقق الريب بالنسبة إلى بعضهم وإمكانه بالنسبة إلى بعضهم الآخر فيصح استعمال الجملة على أي تقدير.

ولفظ (كان) في نظائر المقام منسلخ عن الزمان بل أثبتنا في محله عدم دلالة الفعل على الزمان أصلا وإنما الزمان مستفاد من السياق إن لم تكن قرينة على الخلاف والريب : هو الشك كما تقدم في أول السورة.

وكلمة (من) للتبيين لكثرة وضوح المطلب وأنّ شأن هذا القرآن مما لا يرتاب فيه وأن معارضة الناس هنا معه كمعارضة سحرة فرعون مع عصا موسى ومعارضة نمرود مع إبراهيم الخليل وأنه لا معنى معقول لمعارضة المقهور تحت الطبيعة مع من هو قاهر عليها ، فالتحديات القرآنية انما وقعت لإتمام الحجة على المعاندين لا أن تكون تحديا حقيقيا واقعيا ، ومنه يظهر أن جميع ما ذكروه في التحدي في الكتب الكلامية والتفاسير بالنسبة إلى المعجزات

وخوارق العادة غير صحيح إلّا بالنسبة إلى إتمام الحجة.

والسورة هي بعض الشيء وطائفة منه قلّ أو كثر ، والتحدي بها يقتضي التحدي بأقصر سورة في القرآن ، بل إذا كان ال (ب) للتبعيض يشمل الآية الواحدة أيضا.

ثم إنه ورد التحدي بالقرآن في ثلاثة مواضع غير هذا الموضع : قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨].

وثانيها قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة هود ، الآية : ١٣]. وثالثها قوله جل شأنه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٣٨]. نعم. ذكر تعالى الحديث أيضا فقال سبحانه : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [سورة الطور ، الآية : ٣٤] ولكن المراد هو القرآن فيرجع الى القسم الأول.

ولعل الوجه في اختلاف التحدي بالقرآن تارة بمثله ، وأخرى بعشر سور من مثله ، وثالثة بسورة من مثله اختلاف أشخاصهم فبعض ادعى الإتيان بالمثل ، وبعض ادعى الإتيان بعشر سور مثله ، وبعضهم ادعى الإتيان بسورة مثله ، أو لأجل اختلاف الأزمنة ففي أوائل البعثة اتفقوا على الإتيان بالمثل وبعد ظهور العجز في الجملة ادعوا الإتيان بعشر سور مثله وبعد استقرار العجز تحدوا بإتيان سورة من مثله.

وما يقال : من أنّ المتحدي (بالكسر) هو الله تعالى في جميع معجزات الأنبياء خصوصا معجزة خاتم الأنبياء المعجزة الدائمة الأبدية ، أو أنّه النبي من قبل الله تعالى فيرجع إليه سبحانه أيضا والمتحدّى به في المقام إما هو القرآن أو النبي الصادر منه المعجزة والمتحدى منه هو عامة الخلق ولا بد من السنخية في الجملة بين المتحدي (بالكسر) والمتحدى منه فالملك الجليل العاقل لا يتحدى مع سواد الناس في شيء ، وكذا لا بد منها بين المتحدي (بالكسر) والمتحدى به فمن كانت لديه جوهرة نفيسة منحصرة بالفرد في العالم كله ليس

له أن يتحدى في ذلك من في عرض النّاس فلا موضوع للتحدي الذي أطيل القول فيه من المتكلمين وتبعهم جمع من المفسرين.

مردود أولا : بأنّ أصل التحدي إنّما هو لإتمام الحجة على الأمة لئلا يكون للناس على الله حجة ، وكل ما تحققت هذه الجهة يصح التحدي ومع عدمه فلا موضوع له. وثانيا : بأنه لطف وعناية منه جل شأنه مع الخلق ومما شاة معهم وإظهار لضعفهم مما يتوهمون لذلك.

قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). الدعاء : النداء والاستعانة. والشهداء : جمع شهيد وهو من يعتد بحضوره ممن له اعتبار في القول أو الحل والعقد ، وبعبارة أخرى أهل الخبرة بالشيء. وما دون الله أي ما سوى الله. والمراد أنه إذا كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من هذا القرآن ولو كان بمعونة ما سوى الله فإذا عجزوا عن ذلك يكون ذلك حجة قاطعة على ثبوت أصل الدعوى وهي كون القرآن معجزة إلهية أنزله لإتمام الحجة عليهم.

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا). بيان لثبوت عجزهم وعدم استطاعتهم لما يدعونه ، والجملة الأولى إشارة لإيكال الموضوع الى اختيارهم ، والثانية اخبار واقعي عن الواقع المحقق في علم الله وما هو المتحقق في نظام الطبيعة من عدم ارتباط المحدود المقيد بها بمن هو قاهر عليها إلّا بإرادته تعالى فالنفي الأبدي إنما هو لأجل أن المدعو به يستلزم الخلف وهو محال ذاتي.

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ). الوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار. والنّاس هم الكافرون والعصاة. والحجارة هي حجر الكبريت أو سائر المعادن الحجرية التي تستعمل للوقود بل يمكن أن يراد بها نفس النّاس الكفرة بعضهم بالنسبة إلى بعضهم وهو ما يقتضيه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٨] فيصير الموقود والوقود شيئا واحدا فكل من ازداد طغيانه وتبعه قوم يكون حجارة بالنسبة إلى تابعيه مع وجود الحياة في المتبوع أيضا.

ثم إنه في المقام بحثان :

الأول : إنّ التكليف بالشيء يدور مدار القدرة عقلا وشرعا فلا يصح التكليف بغير المقدور كذلك وفي هذه الآية المباركة أخبر سبحانه بقوله تعالى : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أنه من التكليف بغير المقدور الذي هو باطل. والجواب عن ذلك بأن التكليف إن كان للامتحان ـ كما عرفت ـ أو إتماما للحجة عليهم وأخذا بإنكارهم للنبوة والمعجزة يصح ولو مع العلم بعدم إمكان الامتثال.

الثاني : إنّ العقاب مترتب على مخالفة الله عزوجل وفي المقام لم تتحقق منهم مخالفة حتّى يتعلق بهم العقاب. والجواب يظهر من الجواب السابق فإذا تمت الحجة عليهم بالنبوة وإعجاز القرآن لا بد لهم من التصديق والاعتقاد بهما وحينئذ الريب والشك الحاصل باختيارهم مخالفة توجب استحقاق العقاب.

قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ). ذكر الله تعالى إعداد النّار أو العذاب للكافرين في جملة من الآيات وإعداد الجنة للمتقين كذلك قال سبحانه : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣١] كما قال جل شأنه : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٣] إلى غير ذلك من الآيات ، فيستفاد من الآية أمور :

الأول : أن أصل خلق النّار كان لأجل الكافرين فإذا أطلق في القرآن أنّ النار للفاسقين أو المجرمين لا بد من حملهم على الكافرين بقرينة (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أو أن نارهم غير ما أعدت للكافرين بحسب المرتبة والدرجة.

الثاني : إنها أعدت فيستفاد من لفظ الإعداد سبق الوجود إذ لا يطلق هذا اللفظ على المقارنة الوجودية أو التأخير الوجودي إلّا بالعناية.

الثالث : سنخ هذه الآيات نحو بشارة للمؤمنين بأن النّار لم تعد لهم ـ كما يدل عليها بعض الأخبار على ما يأتي ـ وان دخلوها لبعض معاصيهم

وبينهما فرق واضح. وفي المقام جزاء لإنكارهم للمعجزة الأبدية التي هي القرآن باختيارهم يدخلون النّار التي أعدت لهم.

ثم إنّ الإعداد من الأمور الإضافية وله مراتب متفاوتة كثيرة يقول القائل : أعددت هذه الحنطة لطعامي مثلا أو هذا القماش للباسي أو هذه الأرض لمسكني إلى غير ذلك من الأمثلة ومقتضى ما ورد من الآيات المباركة والأخبار المستفيضة من الطرفين ـ على ما يأتي في محله ـ أنّ الإعداد حاصل من الأعمال والأفعال ، كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الدنيا مزرعة الآخرة» لا أنّ الله تعالى أعد ذلك بذاته الأقدس أولا وبالذات بلا فرق بين درجات المتقين ودركات الكافرين والمنافقين فترجع موجبات الإعداد الى نفس الطائفتين فالمعد (بالكسر) إنما هو نفس المكلف والإعداد يحصل من عمله ، وسيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

وحيث إنّ هذه الآية مفتتح آيات التحدي إلى المعجزة لا بد وان نشير إليها في الجملة.

حقيقة الإعجاز :

الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان على أقسام :

(الأول) : أن لا يستند إلى سبب وهو محال ، لما ثبت بالأدلة العقلية من أنّ حدوث الفعل الاختياري بلا سبب فاعلي محال.

(الثاني) : أن يستند إلى سبب من الأسباب الطبيعية الشايعة وهذا القسم معلوم لكل أحد.

(الثالث) : أن يكون سببه من الأسباب الطبيعية النادرة بحيث لو أمكن الاجتهاد في تحصيلها لظفر بها بلا دخالة خصوصية شخص فيها بل كل من تعلّم الأسباب وأحاط بها أمكن صدور تلك الأفعال منه جريا لقانون السببية والمسببية الجاري في جميع الممكنات. وجميع الأفعال النادرة ، والفنون العجيبة ، بل السحر والشعبذة ونحوهما من هذا القبيل. نعم يختص السحر ونحوه بأنّ لإيحاء بعض النفوس الشريرة دخلا في تحققه في الجملة على ما

يأتي تفصيله في قوله تعالى : (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١].

(الرابع) : أن يكون سببه من الأسباب الغيبية الإلهية فكما أن نظم طبيعي العالم بمجرداته وأعراضه وجميع مادياته لا بد وأن يكون مورد إرادته المطلقة وتحت قيّوميته التامة كذلك تكون تلك الإفاضات المفاضة على الحيوانات ـ التي لا تحصى أنواعها فضلا عن أفرادها ـ بجلب منافعها ودفع مضارها وتوليد المثل ، بل صدور بعض الأفعال الجميلة كما قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٦٨] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك ، وكذا في النباتات من إيحاء جلب المنفعة ودفع المضرة وإيجاد المثل. والإعجاز بنفسه أيضا يكون من هذا القسم فهو من فعله تعالى في أفراد خاصة من الإنسان إقامة للحجة على الجميع وارتباطا لعالم الشهادة بعالم الغيب ، فكما أنّ الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ) بلا سبب في البين أصلا إلّا الإرادة التامة المقدسة ، جعل سبحانه لأنبيائه المعجزات ولأوليائه خوارق العادات بهذا المعنى لمصالح كثيرة.

والفرق بين ما أراده لنفسه وما جعله لغيره من جهات :

الأولى : أنّ الأول لنفسه من نفسه ، والثاني من غيره لغيره.

الثانية : أنّ الأول غير محدود بحد خاص أبدا ، والثاني محدود بخصوص الحد المفاض إليه فقط.

الثالثة : الأول واجب نظامي صدر عن الواجب بالذات ، والثاني واجب نظامي صدر عن الممكن بالذات فعلا وذاتا. وحينئذ يكون قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] لا يختص بخصوص الرمي فقط بل هو جار في جميع معجزات الأنبياء وخوارق عادات الأولياء لأنّ إبراز المعجزة وخارق العادة على أيديهم له دخل في نظام التكوين ، كما أنّ التشريع كذلك بل هو غاية نظام التكوين.

وربما يتوهم من أن ما ذكر صحيح لا إشكال فيه ولكنه مخالف للقاعدة التي تسالموا عليها في الفلسفة من أنه لا بد وأن تكون علة الطبيعي طبيعية ، والمعجزة وخارق العادة في عالم الطبيعة ومنها ، فلا بد وأن تحصل بالعلة الطبيعية. ولهذا التجأ بعض المفسرين إلى القول بأن علتها طبيعية لكن لا يعرفها إلّا من جرت على يده.

نقول : إنّ أصل القاعدة موردها العلل الطبيعية لا الفاعل المختار الذي هو محيط بكل شيء ويفعل ما يشاء ، مع أن جعل المعجزة وخارق العادة من عالم الطبيعة ممنوع بل هما من عالم آخر تظهران في ظلمات الأرض ، ولم يقم دليل على أن كل ما يظهر في عالم الطبيعة ـ من العالم الآخر ـ لا بد أن يكون من الطبيعة ، بل الدليل على خلافه كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وليس ما ذكرناه في معنى المعجزة مبنيا على الحلول ولا على وحدة الوجود والموجود ، لما سيأتي من إثبات بطلان ذلك كله إن شاء الله تعالى ، بل المعجزة وخارق العادة من إيجاد الله تعالى القدرة الخلّاقية ـ في الجملة ـ في من شاء من عباده لمصالح كثيرة تقتضي ذلك. ولا فرق بين المعجزة وخارق العادة من هذه الجهة إلّا أنّ الأولى لا بد وأن تقترن بالتحدي أي : الدعوة إلى المبارزة والمنازعة في الإتيان بمثلها في الناس ، بخلاف الثاني فإنّه قد يصدر عن عبد خمول في فلاة من الأرض لا يعرف ولا يعرفه أحد كالخضر.

فحقيقة الإعجاز قدرة النفس الإنسانية على إيجاد ما يخرق به الطبيعة والعادة والتصرف في هذا العالم بما هو خارج عنه كل ذلك بإقدار من الله تعالى عليه لمصالح متعددة تقتضيها الظروف. هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المعجزة ، وللقوم فيها تفاصيل في كتب الكلام والتفسير.

التحدي ومعناه :

التحدي هو نداء الناس جميعا إما للإتيان بمثل ما يدعيه المدعي أو الاعتراف بالعجز والقصور فتثبت أصل الدعوى لا محالة باعتراف الخصم ، وهو من أحسن الطرق لإثبات المطلوب وإقامة الحجة عليه. وهو

شايع في المحاورات والمخاصمات العرفية من قديم الأعصار خصوصا في الجاهلية ، وتشهد لذلك معلقاتهم على باب الكعبة فإنها كانت للتحدي لإظهار ما يفتخرون به في الفصاحة والبلاغة فجاء القرآن وأبطل ذلك وأتم الحجة عليهم بما كان شايعا لديهم.

فمعنى التحدي دعوة الخصم إلى الإتيان بما أتى به المدعي وبعد ثبوت عجزه باعترافه ثبتت دعوى المدعي لا محالة. فما نسب إلى بعض من أن الله تعالى أعجزهم عن ذلك وصرفهم عن التأمل حوله. مردود : بما عرفت سابقا ولا ريب في عجز ما سواه تعالى عن الإتيان بالقرآن وإنما جيء بالجمل الشرطية لإظهار العجز والتوبيخ وإتمام الحجة وغير ذلك من الدواعي.

إعجاز القرآن :

وجوه إعجاز القرآن كثيرة ومتعددة بل هو من جميع الجهات لأن قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الاسراء ، الآية : ٨٨] خطاب عام لجميع أفراد الإنس والجن بما فيهم من العلماء وارباب علوم شتى وفنون كثيرة فلا بد وان يعم الجميع بما هم كاملون ومخترعون فيه. وبعبارة أخرى : أن دعوة المبارزة والتحدي بالإتيان بالمثل دعوة إلى العقل الإمكاني من حيث هو كذلك وقد ثبت عجزه عن الإتيان بمثله.

وأما الإشكال بأنه لا وجه للتحدي بهذا التعميم ، ثم لا وجه للتحدي من كل شيء. فهو مردود : بأن في القرآن آيات كثيرة دالة على كماله من جميع الجهات قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٩] ، ثم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سورة سبأ ، الآية : ٢٨] فلا بد وأن يكون التحدي عاما من جميع الجهات ومن كل جهة يشمل المتحدى به على الدعوة من تلك الجهة وإلّا لما تمت الحجة كما هو معلوم ، فكل شيء فيه جهة حسن وكمال للفرد أو المجتمع في الدنيا أو النشآت الأخرى يكون القرآن معجزة فيه من حيث بيانه والاستكمال

فيه ، فهو معجزة للفصيح والبليغ في فصاحته وبلاغته ، وللعالم في علمه ، وللفلسفي في فلسفته إلى غير ذلك ، فإذا كانت وجوه الإعجاز كثيرة فنحن نشير إلى المهم منها على سبيل الاختصار إن شاء الله تعالى.

حياة القرآن :

ليس المراد من الحياة في القرآن هي الحياة المعروفة في الحيوان ـ التي هي عبارة عن الحركة الإرادية التي تكون في معرض الزوال والفناء ـ بل المراد منها هي الحياة الحقيقية الواقعية لأن قوام حياة الفرد والمجتمع إنما هو بالكمالات المعنوية الحاصلة لهما والقرآن هو الذي يفيد الكمال الفردي والاجتماعي سواء أكان في هذا العالم أم في عالم آخر.

وبعبارة أخرى : هو الكمال للكل بكل معنى الكمال وهذا هو معنى الحياة التي وردت في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٢] ، وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [سورة النحل ، الآية : ٩٧] ، وقوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٤] ، وقال جل شأنه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [سورة الشورى ، الآية : ٥٢] فإذا كان القرآن روحا بذاته وكان من عالم الأمر يكون منشأ حياة الغير لا محالة ، كما سيأتي تفصيل ذلك.

والحياة لها أقسام : حياة العقول المجردة على ما أثبتها جمع من الفلاسفة ، حياة الملائكة ـ كما هي المنساق من الكتاب والسنة وسائر الأدلة على ما يأتي تفصيلها ـ على أنواعهم التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى منها سادات الملائكة ـ مثل جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ـ ومنها حملة العرش الكروبيون ، ومنها روح القدس الذي يظهر من الأخبار أنه غير جبرائيل. وحياة القرآن المقدس أفضل ، لأن جميع ما تقدم له حياة من جهة وللقرآن حياة من جميع الجهات ، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

إعجاز القرآن في المعارف الإلهية :

يشتمل القرآن على كثير من العقائد الدينية والعلوم الإلهية والمعارف الربوبية فهو السابق في جميع هذه العلوم وقد شهد بذلك جميع الأئمة الهداة الذين هم أحد الثقلين وجميع علماء المسلمين بل وغيرهم فقد تحدى الناس في التوحيد الفعلي قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة فصلت ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١٠] ، وقال جل شأنه : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الحشر ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة التي يستدل بها من المجعول لإثبات الجاعل ، وليس في البراهين التي أقامها الفلاسفة أظهر وأبين وأتم من هذا البرهان المسمى عندهم ب (البرهان اللمّي) أي العلم من المعلول بالعلة فهو معجزة في إثبات التوحيد الفعلي.

كما أنه معجزة في التوحيد الذاتي الذي هو من أهم مقاصد الفلاسفة وقد كتبوا في ذلك كتبا ، وصنفوا رسائل ولم يأتوا في ذلك شيئا جديدا وما ذكروه إنما أخذوه من القرآن الكريم ، قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [سورة الحج ، الآية : ٢١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وأما توحيد صفاته فقد تعرض الفلاسفة والعرفاء له أيضا وجميعهم اقتبسوا من نور هذا الكتاب العظيم قال تعالى : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة يوسف ، الآية : ٣٠] بناء على ما ثبت في محله من أن الذات ذات جامع لجميع صفات الكمال فنفي الهوية عما سواه إثبات لحصر جميع صفات الكمال بالنسبة إليه ، وسيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وأما المعاد وخصوصيات الحشر والنشر فيغنيك مراجعة الآيات المباركة الواردة فيهما عن تفصيل البيان في ذلك.

وأما النبوءات السماوية فقد ذكرت فيه بجميع جوانبها من معجزاتهم وقصصهم وكيفية معاشرة أممهم معهم. إلى غير ذلك من المعارف التي تأتي الإشارة إليها ، ولا مجال للتعرض لجميعها في المقام.

إعجاز القرآن في تشريع الأحكام :

مما تحدّى به القرآن الكريم هو تشريعه للأحكام المدنية النظامية الفردية والاجتماعية التي لم تكن أفهام البشر تصل الى ما وصل إليه القرآن في ذلك وان طال عليه الزمن وتأتي أهمية هذه القوانين المجعولة وفاؤها لجميع حاجات الإنسان وشمولها لكل جوانب الحياة وعدم تغييرها وتبديلها.

والقول بأنّ حاجات الإنسان تختلف باختلاف الأعصار والأمصار فلا بد أن تكون القوانين المجعولة التشريعية تختلف وتتغير فلا موضوع للتحدي في ما يتغير ويتبدل. (مردود) : بأنّ التغير والتبدل ليس في الكليات وأصل القوانين ، كوجوب عبادة الله تعالى ، وحرمة أكل مال الغير ، ووجوب رد الأمانة ، وحرمة الخيانة وغير ذلك من أصول القوانين التشريعية التي ضبطها الفقهاء في الكتب الفقهية ، ولكن الجزئيات قد تختلف حسب اختلاف الحالات والخصوصيات وهو مما لا بد منه في جعل القوانين فأصل القوانين التشريعية المجعولة من الله تعالى يكون مثل القوانين المسلّمة العقلية كحسن الإحسان ، وقبح الظلم ونظائر ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل.

إعجاز القرآن في العلوم :

يشتمل القرآن الكريم على كثير من العلوم التي تكون في طريق استكمال الإنسان ـ الفردية والنوعية ـ قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة الأنعام الآية : ٥٩] فهو يحتوي من المعارف أجلاها وأرقاها ، ومن العلوم العملية أتقنها وأسناها ، ومن تشريع القوانين أرفعها وأدقها سواء أكان في

العلوم الاجتماعية أم الاقتصادية والإنسانية ومطلق العلوم التكاملية. وكيف لا يكون كذلك فإن علم القرآن بجميع جهاته ينتهي إلى علمه تعالى وهو راجع الى ذاته الأقدس غير المتناهية من كل جهة ، فمن تصور القرآن بهذا النحو من التصور يجزي نفس تصوره عن التحدي بالنسبة إليه فهذا الموضوع من الموضوعات التي يكفي الالتفات في الجملة لمقام ثبوته عن إقامة الدليل على إثباته ، وسيأتي تفصيل المقال في مبحث علمه تعالى إن شاء الله تعالى.

إن قلت : إنّ جملة كثيرة من العلوم والاكتشافات العصرية مما لم يشر إليها في القرآن العظيم مع أنها من أهم مفاخر الإنسان (فإنّه يقال) : إن الذكر والإشارة أعم من أن يكون على نحو الكلية والإجمال أو الجزئية والتفصيل ، وجميع ذلك مما اكتشف مذكور في القرآن بنحو الكلية وإن لم يلتفت إليها إلّا بعد مدة وإن كان العلم بها مخزونا عند أهله. فيستفاد الحركة الجوهرية ـ التي اكتشفوها ـ من قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة النمل ، الآية : ٨٨]. كما أنهم اكتشفوا التلقيح بالرياح ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢]. واكتشاف حركة الأرض من قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [سورة طه ، الآية : ٥٣] ووجود موجودات في السماء من قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بِناءً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢] إلى غير ذلك من العلوم مما لا يسع المقام ذكرها.

إعجاز القرآن في العلم بالغيب :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب فهو المخبر عما جرى على الأمم الماضية في عالم الفناء بأصدق بيان قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٢] كما أخبر عن أمور لم تكن في عصر التنزيل وما يحدث في عالم الدنيا ، ويخبر أيضا عما يجري ويحدث في عالم البقاء ، لأنه من مظاهر علمه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض. فالقرآن من الغيب ، لأنه من الله عزوجل

العالم غيب السموات. وللغيب ، لأنه يدعو النّاس إلى الغيب. وفي الغيب ، لأن حقائقه غائبة عن الإدراكات وإن أحاطت بظواهرها عقولهم وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة أيضا إن شاء الله تعالى.

إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته :

قد ثبت أن العرب في عصر نزول القرآن ولا سيما في مهبط الوحي كانوا أفصح النّاس بحيث لا يدانيهم في ذلك قوم ولا يقربهم في هذه الخصلة رهط ، وكان ذلك من أهم مفاخرهم ، وأشرف مآثرهم وكانت محافلهم تعج بالخطباء والشعراء ، وتعقد الأسواق لذلك ، وقد ضبطت الكتب فروع كلماتهم ودقائق جملاتهم ومع ذلك لم ينقل إلينا إلّا شيء قليل ، وكل من تأمل في هذه اللغة ورأى فيها من الأسرار والدقائق وما عليها من الجمال والبهاء يعترف بالعجز والتحير ، وحينئذ لا بد وأن تكون هذه الصفة ـ أي صفة البلاغة والفصاحة ـ التي كانت شايعة في مهبط التنزيل أقصى هدف سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في إعجاز ما ينزل من الله تعالى إذ لم يكن تحدي كل نبي إلّا بما تميز به قومه ، فنزل القرآن متحديا لهم ببلاغته وفصاحته وأمرهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك واعترفوا بالقصور. وقد نقل أنهم لما سمعوا قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة هود ، الآية : ٤٤] أخذتهم الدهشة والتحير وأمروا بإنزال ما علق على الكعبة المشرفة من القصايد والأشعار.

وربما يقال : إنّ البلاغة والفصاحة كالجمال والملاحة من الغرائز الطبيعية فهي خارجة في الجملة عن الإختيار فلا وجه للتحدي بما هو خارج عنه.

ولكنه فاسد أولا : بأنه يصح التحدي بالنسبة إلى من كانت الفصاحة والبلاغة من غريزته ، ومع ذلك إذا اعترف بالعجز كان بالنسبة إلى المطلوب أتم وأعظم. وثانيا : إنّها وإن كانت من الغرائز في الجملة ولكن للاختيار في أصلها وسائر جهاتها دخل بالوجدان كما هو واضح لا يحتاج الى البيان.

إعجاز القرآن بعدم الاختلاف فيه :

قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء ، الآية : ٨٢] وفي سياقه آيات كثيرة تدل على أنه محفوظ وانه في كتاب مكنون. لم يسلم كتاب من وجود الاختلاف فيه فربما يكون واضحا وقد يكون خفيا لا يدركه إلّا من كان له حظ من العلم إلّا أن القرآن الكريم سلم من وجود الاختلاف فيه والآيات الشريفة تشير إلى برهان قويم وهو أنه قد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية أن الله تعالى واحد ذاتا وصفة وفعلا فالوحدة الحقة الحقيقية تامة بالنسبة إليه عزوجل ، وكلامه واحد من عند واحد لأن عالم المعنى والحقيقة لا تكثر فيه والتكثر إنما يكون في المضاف إليه دون المضاف ، بل لا تكثر في ذات الإضافة أيضا وقد يقرب ذلك بالتمثيل بالشمس في مرتبة الإشراق والإشعاع فيكون المستشرق متعددا لا الإشراق الفعلي الإضافي. فالاختلاف في عالم الحقيقة ـ ولا سيما الحقيقة الحقة الواقعية ـ خلف ، لفرض الوحدة في جميع جهاته ، وكلامه عزوجل من فعله وفعله واحد كوحدة ذاته ، إذ لا حول ولا قوة إلّا بالله العظيم كما اثبتوا ذلك بالبراهين العقلية.

هذا مضافا إلى أنّ كلامه نزل على الفطرة المستقيمة والفطرة واحدة ، فالقرآن واحد لا اختلاف فيه ، هذا بالنسبة إليه عزوجل. وأما بالنسبة إلى غيره فليس فيه إلّا مثار الكثرة ، ومنشأ التغير والاختلاف فيكون فرض الوحدة فيه خلفا.

ثم إنّه قد يعترض أحد بأنّ النسخ الواقع في القرآن ، وما أخذه جمع من متناقضات القرآن هو من الاختلاف فيه.

ولكن نجيب عنه : بأنّ النسخ ليس من الاختلاف بشيء بل هو من شؤون جعل القانون وحدوده ، لأنّ جعل القانون وتشريع الأحكام إنما يكون على طبق المصالح والمقتضيات وهي تختلف في نشأة الكون والفساد ، وليس النسخ إلّا هذا ، على ما يأتي تفصيله.

وأما أخذ المتناقضات فلأنّها إنّما كانت حسب وهم نفس الآخذين لها

وإدراكهم الناقص وليس من النقض الواقعي على القرآن ، كما هو واضح ، فإذا راجعنا ما ذكروه نرى أنّ ما يتخيلونه نقضا إما أن يكون بين عام وخاص ، أو مطلق ومقيد ، أو بين أمرين مختلفين زمانا أو مكانا وغير ذلك مما لا يعد من التناقض والاختلاف. هذا بعض ما يتعلق بالتحدي ولو أردنا بيان التمام لطال الكلام ، ويأتي جملة ما يتعلق به في الآيات المباركة المناسبة لها.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

من سنته تعالى أنه في كتابه الكريم يقرن بين الترهيب والترغيب فكلما يذكر شيئا من مظاهر غضبه يعقبه بشيء من موجبات رحمته ، إتماما للحجة ولئلا ييأس من رحمته أحد وكلما يذكر شيئا من جهات رحمته قفاه بشيء من موجبات غضبه لئلا يتكل على عمله أحد ، ولذا بعد أن ذكر الكفار والمنافقين ، وما أعد لهم من العقاب أردفه ببشارة المؤمنين وما وعد لهم من النعيم.

التفسير

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). البشارة هي الإخبار بما يوجب ظهور آثار السرور في بشرة المخبر وقد تستعمل في الإخبار بالشر أيضا توبيخا وتعييرا كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢١]. وتقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة.

والعمل الصالح من الواضحات عند الناس مفهوما ومصداقا وهو كل ما يحبه الله ويرتضيه ، وقد ذكر سبحانه جملة من مصاديقه في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ

أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ونحو ذلك من الآيات المباركة.

قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). مادة (ج ن ن) تأتي بمعنى الستر. والجنات جمع جنّة وهي البستان الملتف بالأشجار التي فيها أنواع الفواكه والثمار المستترة بالأشجار والمراد بها في القرآن الكريم نعيم الآخرة من باب إطلاق الخاص على العام إما لكماله من جميع الجهات ، أو لعدم الاعتناء بالفاني مع التوجه إلى الباقي.

وما عن بعض اللغويين من أنّ البستان إذا كان فيه الكرم يسمى بالفردوس وإن كان فيه النخيل يسمى جنة. فإن أراد أنه مجرد اصطلاح طائفة خاصة في عصر مخصوص فلا بأس به. وإن أراد التخصيص في أصل المعنى والذات فلا دليل عليه ، مع أنه ورد في القرآن الكريم ما يخالفه قال تعالى : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٩] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [سورة الكهف ، الآية : ١٠٧] والسياق في الجميع واحد.

ثم إنه ورد لفظ الجنّة والجنّات كثيرا في القرآن الكريم بأنحاء الاستعمالات المشعرة باعتنائه تعالى بها اعتناء بليغا ، ولا بد أن يكون كذلك ، لأنّها نعيم أبدي لا يزول وأنّها دار الأبرار والمتقين وهي عوض ما اشتراه الله تعالى من المؤمنين فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] وكلما كان المعوض أعلى وأغلى يكون للعوض المكانة العليا.

قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). تستعمل هذه الجملة في القرآن الكريم مع لفظ الجنات غالبا وتشتمل جميع الأقسام التي يمكن تصويرها في جريان الماء ونبوعه تحت أظلال الأشجار المطابق للأذواق الحسنة المتعارفة بين الناس التي يمتدحونها ويهتمون بها في تزيين جناتهم الدنيوية. وقد نظم ذلك الشعراء بوجوه من النظم في مدح تلك الجنان ، ولم يبين سبحانه خصوصيات الجريان تعميما لجميع مراتب الحسن والكمال.

قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). يحتمل أن يجعل الظرف الأخير في الآخرة : أي ، كلما انتفعوا من ثمارها قالوا هذا ما رزقنا قبل ذلك من ثمار الآخرة فإنها تكون بحيث كلما يقتطف منها ثمرة يعود مكانها مثلها.

ويحتمل أن يجعل الظرف في الدنيا فإنّ ثمار الدارين متحدتان اسما وجنسا ونوعا ، ولكنهما مختلفتان في اللطافة والذوق والالتذاذ ونحوها. ويحتمل أن يراد من الرزق الثاني هو نفس الأعمال الصالحة التي هي بمنزلة البذور لثمار الجنة فيكون المراد إن ثمار الجنة لنا من جزاء أعمالنا ، ومنه يظهر وجه قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) لوجود التشابه بين ما ينتفعون به فعلا وبين جميع الاحتمالات التي تعرضنا لها في الجملة ، فالمراد بالتشابه المعنى الأعم الشامل ، ويشهد للتشابه في الجملة قول الصادق (عليه‌السلام): «كل ما في الدنيا فسماعه أعظم من عيانه وكل ما في الآخرة فعيانه أعظم من سماعه» حيث أثبت (عليه‌السلام) الاتحاد من جهة والاختلاف من أخرى ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٧١] ، فإن من المشتهيات ما اشتهوه في الدنيا وتلذذوا به ، وكذا ظاهر كثير من الآيات التي تعد نعم الجنّة بالأسماء المستعملة المأنوسة.

وأما ما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنّ الله قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر»

وغيره مما في سياق ذلك. فلا ينفي ما ذكر في سائر الآيات والروايات ، لأنها نعم أخرى إما جسمانية ليس في الدنيا لها اسم ولا رسم ، أو من النعم المعنوية التي لا موضوع لها في الدنيا.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ). الأزواج جمع زوج بمعنى القرين ، ويطلق على كل واحد من الذكر والأنثى ، وقد يطلق على الأخيرة الزوجة. والمعنى أن لهم أزواجا مطهرات غاية التطهير ، لأن حذف المتعلق يفيد العموم فهنّ مطهرات من جميع الأقذار الخلقية ـ كالحيض

والنفاس ـ والخلقية كالمكر ، وسائر مساوئ الأخلاق ومستكملات بكل المحامد الجسمانية والنفسانية ، وما ورد في بعض الأخبار أنهنّ مطهرات من الحيض والنفاس إنما هو بيان لبعض المصاديق.

قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ). سيأتي معنى الخلود في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة هود ، الآية : ١٠٨].

بحث دلالي :

ذكر سبحانه في هذه الآية الارتزاق الفردي أولا ، ثم أوكل معرفة ذلك الرزق إلى نفس المنتفعين منه ثانيا في قوله تعالى : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، ثم ذكر الأزواج والاجتماع الجنسي ثالثا وإنما أخره عن الرزق ، لتقدمه على الاجتماع الجنسي تكوينا. وحصر موارد الارتزاق في الثمرات رابعا لجريان نظام التكوين عليها في النشأتين. فهو سبحانه قد بين ؛ كما أن بقاء الإنسان في هذا العالم بالارتزاق كذلك له دخل في تلك النشأة أيضا ولكن لا يعلم أنه دخل بقائي ـ كما في هذا العالم ـ أو دخل تلذذي والبقاء مستند إلى شيء آخر.

إلّا أن يقال : إنّه لا وجه لاستناد البقاء في الآخرة إلى الارتزاق ، لأن الارتزاق من الثمرات في الدنيا إنما هو لأجل الحركة وتحلل قوى الإنسان ، وليس الأمر كذلك في الآخرة.

ولكن يمكن الجواب عنه : بأنه لا وجه لنفي الحركة عن أهل الجنّة والنار لأن بعض لوازم الجسم لا تتغير في جميع النشآت والمفروض ان المعاد جسماني ، كما يأتي وحينئذ يثبت التحلل لهم ، لأنه من لوازم الحركة. نعم ليس لهم فضلات الجسم كالعرق والبول ونحوهما. بل ليس كل تغذية تكون لأجل التحلل كتغذية الجنين في الرحم.

ثم إنّه تعالى ذكر الجنّات بلفظ الجمع ويحتمل فيه وجهان :

الأول : أن يكون لكل واحد منهم جنات.

الثاني : أن يكون لكل واحد منهم جنّة فيصير المجموع جنّات وسياق الآيات والعناية الإلهية تقتضي الأول ، ويأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله عزوجل : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) : «الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن ولا يحدثن».

أقول : تقدم أنه من باب التطبيق.

كما أن ما ورد عن ابن عباس أن قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى آخر الآية المباركة ـ نزل في علي (عليه‌السلام) ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ـ من باب التطبيق لا التخصيص ، كما تقدم منا مكررا.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

بعد أن فرغ سبحانه وتعالى من ذكر بعض أحوال المؤمنين والكفار والمنافقين ، وبيان المثل للأخير ذكر تعالى وجه ضرب المثل لنفسه وبيان الحكمة في ضرب الأمثال ، وأكد ذلك اهتماما منه تعالى للأمثال لكونها أوقع في النفوس كما مر.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها). الحياء : هو انقباض النفس عن الشيء وانزجارها عنه خوفا من اللوم ، ويلازمه ترك ذلك الشيء هذا في الإنسان.

وأما إذا أطلق عليه سبحانه فالمراد به نفس الغاية وهي الترك. فقوله تعالى : (لا يَسْتَحْيِي) أي لا يترك ولا يدع ـ وكذا الكلام في جميع الصّفات التي يلزم من إطلاقها عليه تبارك وتعالى النقص. فيكون استعماله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك ، ولا محذور من جعل الاختلاف في الداعي ، لا في ذات المعنى المستعمل فيه اللفظ.

ويفترق الحياء عن الخجل بأن الثاني من عوارض الجسم الإنساني بخلاف الأول فإنه من صفات الروح ، ولذا عد الحياء من جنود العقل في جملة من الأخبار ، وهناك فروق أخرى مذكورة في علم الأخلاق.

والضرب : يستعمل في معان كثيرة. والمراد به هنا التوصيف والتبيين فضرب الأمثال : توصيفها وبيانها.

و «ما» للإبهام والتنكير ، وما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر والحقارة. ويقال : إن البعوضة أصغر الحيوانات وحياتها في جوعها فإذا شبعت ماتت ، ولكن قد أثبت العلم الحديث أصغر منها.

والمعنى : إنّ الله تعالى لا يترك ولا يرى من النقص ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها ، وإنّما لا يستحي عن ذلك ، للأدلة العقلية الدالة على أنّ كلام الحكيم موافق للحكمة ، سواء أكان كلامه في الشيء الجليل العظيم أم الحقير اليسير أم في ما هو خارج عن عالم الممكنات وحيث إنّ القرآن نزل ليستفيد منه عامة النّاس فلا بد وأن يقترن بالأمثال جريا على طريقتهم لتأنس بها النفس ، وتتم بها الحجة عليهم. وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [سورة البقرة ، الآية ١٧].

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). هذا من باب ذكر العلة والمعلول مشعرا بالمدح والثناء ، لأن علة قولهم «إنه الحق من ربهم» إنما هو إيمانهم الذي معهم واعتقادهم بكلامه تعالى ، وأنه الحق من ربهم ولم يضرب الأمثال إلّا لحكم ومصالح فلا ينظرون إلى المثل والممثل به في الصغر والكبر والضعف والقوة بل ينظرون إلى الممثل (بالكسر) نظرة الحق والعظمة والجلال ، وأن كل مثال صغيرا أو كبيرا هو مثال الحق في الحكمة

والموعظة فلا يمكن أن يكون صغيرا أو حقيرا وإن كان الممثل به كذلك في بعض الجهات.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً). لأنّهم نظروا إلى نفس الممثل به ولا يلتفتون إلى عظمة الممثل [بالكسر] ولا إلى أهمية ما مثّل لأجله ، لجهلهم وعنادهم فأعرضوا عن الحجة كما هو الحال في اختيارهم أصل الكفر والضلال.

قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً). يصح أن تكون هذه الجملة مقولة من الكفار تعييرا وتوبيخا للمثال ، كما يصح أن يكون من قول الله عزوجل أجاب به عن سؤالهم ، وعلى أي تقدير فالسبب في هذا القول هم الكفار ، لأنهم بإنكارهم للإيمان وجهلهم للحقائق حصل لهم الريب بكل ما أنزل الله تعالى.

قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ). الفسق بمعنى الخروج ، وتختلف مشتقاته باختلاف موارد استعمالاته ، وفسق الإنسان خروجه عن طاعة الله تعالى اعتقادا ، أو عملا ؛ لكبيرة أو صغيرة فهو يشمل الجميع بجامع الخروج عن الطاعة.

وعن بعض اللغويين أنه لم يستعمل الفاسق وصفا في كلام العرب إلّا في القرآن الكريم. وفيه بحث ، هذا بحسب اللغة. وأما في اصطلاح الكتاب والسنة فيستعمل الفاسق في مقابل العادل.

والمعنى : أنّ علة إضلالهم هي الخروج عن طاعة الله تعالى ؛ وصولا من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الفعلية بما يعرض على الإنسان فيظهر منه الغي والضلال أو الحق والسداد ، ومنه يظهر الوجه في التعبير بقوله تعالى : (يُضِلُ) ليبين أن ذلك أمر مركوز فيهم ، وراسخ في نفوسهم. ثم إنّ هذه الآية تشتمل على أمور :

الأول : إنما قدم سبحانه الضلالة على الهداية مع تقدم الثانية على الأولى بكل جهات التقدم ، لأن سببها متقدم ، وهو اقتضاء ذاتهم ، وكل من تقتضي ذاته شيئا يبادر به بين الأنام ، ويظهر أثره في الكلام فجيء بالأمثال

لإخراجهم من ظلمات الضلال الى نور الهداية والإيمان.

الثاني : قد ذكر سبحانه لفظ الكثرة في الفريقين ، مشعرا بأنّ المهتدين كالضالين في الكثرة ، مع أنّ الطائفة الأولى هم الأقلون عددا. والوجه في ذلك أن القلة والكثرة إضافية فتصح الكثرة بالنسبة إلى ملاحظة شيء ، والقلة بالنسبة إلى شيء آخر ، فالمهتدون وإن قلوا عددا لكنهم أكثر نفعا وأجل فائدة.

الثالث : أثبتت الآية المباركة أنّ وراء الضلالة والهداية الاقتضائية في الذات هداية وضلالة تحدثان بحدوث ما يطرأ من الأسباب وتتجددان بذلك ، ولذا قالوا : إنّ الضلال والهداية يتجددان بتجدد الأسباب والزمان.

بحث كلامي :

هذه الآية الشريفة مفتتح آيات الكتاب العزيز في الجبر والتفويض فلا بد من البحث فيهما ليمكن إرجاع سائر المواطن اليه. فنقول ومن الله الاستعانة والاستمداد :

إنّ شبهة الجبر والتفويض لم تكن حادثة في الإسلام وإنّما هي قديمة بقدم الإنسان وترجع الى أوائل الخلقة ، كما يظهر من مخاصمة إبليس مع الله تعالى ، فكل من يعتقد بمبدإ غيبي مؤثر في العالم يمكن أن تتولد فيه هذه الشبهة ، وقد قال علي (عليه‌السلام): «عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم» وفسخ العزيمة إنّما وقع من عهد أبينا آدم (عليه‌السلام) فأصل الشبهة من ذلك الحين وإنما تطورت بمرور الزمن فدخلت آراء وشبهات أخرى وبلغت حدا بعيدا من البحث حتّى أفردت لها كتب ورسائل.

وكيف كان فالأفعال الاختيارية الصادرة من الإنسان يحتمل فيها وجوه :

الأول : أنّها صادرة بإرادة الله تعالى واختياره فقط وان العبد بمنزلة الآلة الجمادية وأن الإنسان وفعله مخلوقان لله تعالى وهذا هو الجبر.

الثاني : أنّها صادرة من العبد وباختياره فقط ، ولا دخل فيها لله تبارك وتعالى ، وهذا هو التفويض.

الثالث : الأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين فيكون لكل واحد

منهما دخل بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ، وهذا هو الحق الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ردا على المذهبين السابقين ، فإنّ الأول منهما خلاف الأدلة العقلية والنقلية بل الوجدان ، والثاني يلزم منه التعطيل ، كما ستعرف ذلك فيما سيأتي من التفصيل ، والبحث تارة يقع في الجبر والتفويض ، وأخرى في الأمر بين الأمرين :

الجبر :

مذاهب الجبر ثلاثة : منها : مذهب الأشاعرة ، وهو نفي الإرادة عن العبد مطلقا وانحصارها في الله تعالى ، وأن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى الله بالحقيقة والى العبد بالمجاز.

ومنها : ما ذهب اليه جمع من القول بوحدة الوجود ، بل الوحدة المطلقة فلا اثنينية بين الخالق والعبد حتّى تكون فيه الإرادة والإختيار ، وسيأتي بطلان القول بوحدة الوجود ، بل الوحدة المطلقة ، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.

ومنها : ما ذهب اليه بعض : من أن علم الله تعالى علة تامة لحصول معلوماته ، وفعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد وارادته في فعله أصلا.

وقد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة لله تعالى بالأدلة العقلية والنقلية ، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور :

الأول : أن فعل العبد مقدور لله تعالى ، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى ، وحينئذ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطيل قدرته تعالى ، وإن وقع بقدرتهما معا لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.

والجواب : أن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري فمجرد كون فعل العبد مقدورا له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضا.

الثاني : إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية وان إرادته عين ذاته وهي العلة التامة لتحقق المعلول فلا أثر لإرادة العبد في فعله.

والجواب : أن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات ، لكن

الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه ، بل إرادته عين فعله ، كما في الروايات. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

الثالث : أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممكنات ومنها أفعال العباد سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء لأفعاله وعلمه سبب تام لحصول المعلوم.

والجواب : إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل وليس سببا تاما لحصول المعلوم بوجه من الوجوه بل علمه تعالى تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا ان يتعلق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي : العلم ، والمشيئة ، والإرادة ، والقدرة والقضاء ، والإمضاء ونحوها. وهي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أكان هو الله تعالى أم العبد. والفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزئية ، وكل ذلك من المقتضيات وليست من العلة التامة في شيء ، وهذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية ، وأخرى على نحو الإجمال والارتكاز وهو الغالب ، وسيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم ، منها قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ٩٦] ، وقوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤] ، وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] وأمثال ذلك من الآيات.

ويناقش فيها بوجهين :

الأول : أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عددا وأصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.

الثاني : أن سياق تلك الآيات والقرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا اليه فنفي الرمي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الآية السابقة ـ مثلا ـ إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة ، لا بالنسبة إلى الفعل

المباشري الصادر منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وسيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.

ومجمل القول في الجبر ومذاهبه أنه لم يصادم العقل والنقل فقط ، بل هو مستلزم لنفي الحسن والقبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء. كما أنه يلزم منه نفي الثواب والعقاب الثابتين في جميع الشرائع الإلهية بل يلزم منه تجويز الظلم والجور على الله تعالى إلى غير ذلك من المفاسد.

ولو لا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه ـ كالعزة والذلة ، والغنى والفقر. ولأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي ، يعني أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها ، ولكنه تبارك وتعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة ، فالجبر الاقتضائي لا ينافي الإختيار الفعلي من العبد.

التفويض :

قد عرفت أن المراد من التفويض المنسوب الى المعتزلة هو كون الأفعال مختارة باختيار العباد بلا دخل لاختياره تعالى وأنها تنسب إلى العباد بالحقيقة وإلى الله تعالى بالمجاز وأنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة الله تعالى.

واستدلوا على ذلك بأنه إذا لم يكن الإنسان موجدا لأفعاله لا يصح تكليف العباد ولا المدح والذم ولبطل الثواب والعقاب ، وللزم منه الجبر ، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات والأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

والجواب عن ذلك يظهر من بيان الأمر بين الأمرين.

وقد احتجوا ببعض الآيات الكريمة ، فإن قسما منها تدل على كون الإنسان هو الفاعل لأعماله كقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)

[سورة الطور ، الآية : ٢١]. وقسما منها تدل على أن المطيع يثاب على أعماله الحسنة والمسيء يعاقب بمعاصيه ، قال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة غافر ، الآية : ١٧] ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٨] ، وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠]. وقسما منها تدل على أنه مختار في أفعاله قال تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف ، الآية : ٢٩]. وقسما منها تدل على اعتراف الإنسان بصدور المعاصي منه في الآخرة ، قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٢٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة منطوقا أو مفهوما على أن الإنسان خالف لأفعاله وأنه المسؤول عنها.

والجواب عن ذلك أنّ أقصى ما يستفاد منها أن الإنسان هو الفاعل وعنه يصدر جميع أعماله وأما أنه ليس لإرادته تعالى وقدره وقضائه دخل فيها فلا يستفاد منها ، فهي من هذه الجهة معارضة بالآيات الدالة على أنها من الله عزوجل قال تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة النساء ، الآية : ٧٨]. والآيات الدالة على طلب الاستعانة منه تعالى نحو قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [سورة الحمد ، الآية : ٤]. ولما ورد عن المعصومين (عليهم‌السلام) من قول : «لا حول ولا قوة إلّا بالله» ، فإن الجميع ظاهر في صحة نسبة أعمال العباد إلى الله تعالى ، إما بنحو القضاء كما في السيئات ، أو هو والرضاء معا. كما في الحسنات. وقضاؤه ورضاه ليسا من العلة التامة.

وبالجملة : إنّ الآيات والروايات لا يمكن أن يستفاد منها التفويض الكلي للعباد المقابل للجبر ، ويمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي بأن يقال : إنّ نهاية استغنائه تعالى عن خلقه يقتضي إيكال الإرادة إلى العباد

بعد بيان طريق الحق والباطل ، وإتمام الحجة عليهم ولكنه لم يفعل لمصالح كثيرة ، بل جعل إرادته مسيطرة على إرادة عباده لا على نحو يلزم منه الجبر ، وهذا هو ما يظهر من بيان الأمر بين الأمرين ، كما سيأتي.

الأمر بين الأمرين :

مما تفردت به الإمامية عن سائر الفرق القول بالأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين فقد ورد عن الأئمة الهداة (سلام الله عليهم) أنه «لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين» وهو الحق المطابق للوجدان والبرهان.

والمراد ب (الأمر بين الأمرين) أن الله تبارك وتعالى أودع القدرة في عباده وبها بعد وجود الدواعي يصدر الفعل من الفاعل وينسب الفعل إليه مباشرة ، فهو غير مجبور ، لتعلق قدرته بطرفي الفعل معا. هذا هو المعنى المستفاد من الأخبار الواردة في (الأمر بين الأمرين) ، ولا بد من توضيح ذلك بشيء من التفصيل.

بيان ذلك : إنّ أفعال العباد منحصرة في ثلاثة أقسام : فهي إما من الحسنات ، أو من السيئات ، أو من المباحات. ولا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوم بالانتساب اليه تعالى ، والى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء ، ومن رضائه تعالى بالحسنات وترغيبه إليها والتأكيد في إتيانها والثواب عليها أو العقاب على الترك في بعضها يصح الانتساب إليه تعالى ، ويسمى ذلك بالانتساب الاقتضائي لا يبلغ حد الإلجاء والاضطرار. ومن إذنه تعالى في المباحات وترخيصه لها صح انتسابه اليه تعالى اقتضاء كما هو الحال في الحسنات ، فتحقق بالنسبة إلى الحسنات والمباحات رضاؤه وقضاؤه تعالى إليها.

ومن خلقه تعالى للنفس الأمارة والشيطان صح نسبة السيئات اليه تعالى ، لا بمعنى رضائه بها وترغيبه إليها فيصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في السيئات ، ويجري هذا الوجه في الحسنات والمباحات فإن هذه النسبة توجد في الجميع.

وأما نسبة الفعل إلى الفاعل فإنّ الله تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئات مثلا مع نهيه تعالى وإظهار سخطه وتوعيده عليها وقد فعلها العبد بسوء اختياره ، فينسب إليه الفعل مباشرة كما أن منشأ النسبة إليه تعالى أنه خلق الذات القادرة المختارة مع إبلاغ النهي والتوعيد ، وقد علم بها وقضاها على نحو الاقتضاء لا قضاء الحتم ولا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا ، ولعل هذا أحد معاني قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء ، الآية : ٧٨].

وبعبارة أخرى : إنّ في الحسنات والمباحات تتعدد جهة الانتساب اليه تعالى من الرضاء والقضاء ، والاذن والترغيب ، أو خلق الذات القادرة المختارة ، وفي السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة والقضاء الاقتضائي مع النهي والتوعيد ، كل ذلك موافق لقانون العقل والعدل. ومن ذلك يعلم أن الهداية والضلالة ، بل السعادة والشقاوة ليستا من ذاتيات العبد بحيث لا اختيار له فيها ، ولا من لوازم الذات كلزوم الزوجية للأربعة وإلّا لما كانت قابلة للتغيير والتبديل ، ولبطل التكليف والثواب والعقاب ونحو ذلك من المحاذير ، بل هي من قبيل الأعراض الخارجية القابلة للزوال والتغيير والتي للاختيار فيها دخل مع توفيق وهداية منه تبارك وتعالى.

ومما ذكرناه يجاب عن شبهات القوم ، ويرفع التعارض بين الآيات والروايات ، ولعلماء الإمامية في تفسير الأمر بين الأمرين وجوه أخرى فراجع ، وسيأتي في البحث الآتي مزيد بيان.

بحث روائي :

عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) قالا : «إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها. والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».

وسئلا (عليهما‌السلام) «هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : نعم أوسع مما بين السماء والأرض».

وعن الوشا قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال (عليه‌السلام) : الله اعزّ من ذلك. قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : الله أعدل وأحكم من ذلك ، ثم قال (عليه‌السلام) قال الله تعالى : يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».

أقول : هذه الجملة الأخيرة صريحة في ما ذكرناه آنفا.

وعن الصادق (عليه‌السلام) قال له رجل : «جعلت فداك أجبر الله تعالى العباد على المعاصي؟ قال (عليه‌السلام) : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له : جعلت فداك ففوض الله إلى العباد؟ قال (عليه‌السلام) : لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي. فقال له : جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال : نعم أوسع ما بين السماء والأرض».

أقول : (لم يحصرهم) أي لم يوقعهم في حصر التكليف فيكون نفس تصور التكليف بما هو ، وبيان الجزاء عليه كافيا في نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين. وهذه عادتهم (عليهم‌السلام) في إثبات هذا المدعى بأدلة التكليف والجزاء.

وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) القائل في جواب من سأله عن التوحيد والعدل : «التوحيد أن لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتهمه. فالقائل بأنه خالق للأفعال فقد اتهمه بالظلم ، والقائل بأنه يكلف العباد ما لا يطيقون فقد نسب اليه القبيح ، والقائل بأنه لا يقدر على أعمال عباده وان كل أعمالهم بإرادتهم ولا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز».

أقول : الأول عبارة عن الجبر ، والثاني من لوازم التفويض وترتب اللازمين عليهما واضح.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «ألا أعطيكم في ذلك أصلا لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحدا إلّا كسرتموه؟ إن الله عزوجل لم يطع بالإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه فهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته ، لم يكن عنها صادرا ، ولا منها

مانعا ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل وفعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».

أقول : المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من الله تعالى وهو محسوس لكل أحد ، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته وكم غير مريد يصادفه ما يشتهيه وهذه هي المنزلة بين المنزلتين.

وعن الصادق (عليه‌السلام): «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين»

أقول : تقدم ما يتعلق بكل واحد منها.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «القائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، والمراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا ، وترك ما نهوا عنه ، والإرادة والمشية من الله تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها والرضا لها ، وبالنسبة إلى المعاصي النهي عنها ، والسخط لها والخذلان عليها ، وما من فعل يفعله العباد من خير ، أو شر إلّا ولله فيه قضاء ، والقضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة».

أقول : أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى الله تعالى الظلم ، ومع ذلك يعاقب العبد عليه. وأما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل ارادة الله تعالى. وأما ما ذكره (عليه‌السلام) في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال ، وإلّا فهو عام لجميع الأفعال.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) النقض : هو الفت والفك والفسخ ، ولا يستعمل غالبا إلّا فيما فيه القوة واستعداد البقاء ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) [سورة النحل ، الآية : ٩٢] ، ويتعلق بالميثاق أيضا لأجل كونه محكما يعسر نقضه قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٣].

والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ، وهذه المادة في أية هيئة

استعملت تفيد الالتزام ، والثبات ، والعزيمة.

والمراد بالميثاق : ما يوثق به الشيء ، كالميقات لما يتحقق به الوقت. ويجوز أن يضاف الميثاق إلى الله تعالى ، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به الله تعالى عباده ، كما يجوز أن يضاف إلى العباد وهم الذين قبلوا عهد الله تعالى ظاهرا ثم نقضوه ، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه. ويصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.

والمعنى : إنّه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه وتعالى بيان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافا ثلاثة : هي نقض العهد ، وقطع ما يجب أن يوصل ، والإفساد في الأرض. والمراد بالعهد ما عاهد تعالى به على أنبيائه من المعارف والشرايع الراجعة إلى تربية العباد ، وهو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج والبراهين.

ويصح ان يراد به الأعم من ذلك ومن العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج الله تعالى ، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولا ، أو عملا ، أو اعتقادا كما هو وجداني.

قوله تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

صلة كل شيء بحسبه. والمراد بالأمر الأعم من التكويني والتشريعي فصلة العقيدة بالله ورسله جعلها راسخة في النفس ، وصلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها والمواظبة على إتيانها ، وصلة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو الاهتداء بهديه ، والعمل بما جاء به من ربه وصلة الرحم التآلف والتودد معه ، وكذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض ، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها ، ومضارها ، ونتائجها المترتبة عليها. وتشمل الآية الشريفة جميع ذلك ؛ والتفرقة ـ ولو في الجملة ـ نقض لعهد الله تعالى وميثاقه ، وقطع للصلة ، فمن أنكر الله أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل ، ومن أنكر النبوة وما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة.

قوله تعالى : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). الفساد خلاف الصّلاح وهو

أعم من الفردي والاجتماعي. ، وذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير. والإفساد في الأرض هو إضلال الناس ، مثل الظلم ، والغيبة ، وسيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة ، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحق الخزي في الدنيا ، وعذاب الآخرة ، وهذا هو الخسران المبين ، إذ لا معنى لنقض العهد ، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل ، أو الفساد إلّا الخسران المبين.

بحث روائي :

عن ابن عباس : «لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قالوا «إنّ الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية».

وفي رواية أخرى عنه أيضا : «إنّه لما ذكر الله تعالى آلهة المشركين فقال ؛ (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، قالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء يصنع؟ وضحكت اليهود ، وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله؟ فأنزل الله هذه الآية».

أقول : قد تقدم أن ذلك من باب التطبيق.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

ذكر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين حال الإنسان من مبدأ خلقه إلى ما يؤول اليه أمره ، وأنّ جميع ما في الأرض مخلوق لأجله ومعدّ له ليتمتع بما فيها ، وإنما قدم التوبيخ والملامة على التفضل والعناية لبيان أن كل ما يكون للإنسان من المراتب والأطوار إنما هو من تفضّله تعالى ، لا من اقتضاء

ذاته ، ثم عقب ذلك خلق السموات ليذكّرنا تمام قدرته وحكمته. وربط هاتين الآيتين بالآيات السابقة ظاهر.

التفسير

قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ). تعيير وتوبيخ ؛ يعني أنه لا ينبغي لكم أن تكفروا بالله والحال ان موتكم وحياتكم تحت قدرته وإرادته. وإنما ذكرهما ، لأنهما من الوجدانيات وإنكار خالقهما يرجع إلى إنكار الوجدان والجمع بين النقيضين.

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ). ذكر المفسرون في الموت والحياة أقوالا :

منها : أن المراد بالموت هنا العدم السابق على الوجود أي : كنتم معدومين فأوجدكم ، وظاهر القرآن ينفي هذا الاحتمال.

ومنها : عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة ، كالنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، ونحوها من الأطوار التي تعرض على الإنسان في بدء خلقه حتّى يصير خلقا جديدا.

ومنها : أنّ المراد بها الموت الحكمي ، لا الحقيقي ، إذ الإنسان حين ولادته لا اسم له ، ولا شهرة له عند النّاس ثم يصير مشهورا عندهم ، ولم يأت كل منهم في ما ذكروه بدليل يدل عليه.

والأولى الحمل على الجميع ، فإن للحياة بمراتبها المختلفة من النباتية والحيوانية والإنسانية جامعا قريبا وهو الحركة والحس ، وللموت أيضا بمراتبه الكثيرة جامعا قريبا ، وهو الوقف والسكون ، والله تعالى هو القادر على إيجاد أصلهما وسائر جهاتهما وخصوصياتهما ، فإن الإنسان من بدء خلقه إلى نشوره ووقوفه بين يدي رب العالمين ، وفي جميع أطواره وحالاته ، بل جميع شؤونه وتبدلاته مورد علمه وقدرته وإرادته وهذا هو معنى الربوبية العظمى التي أشرنا إليها في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الحمد ، الآية : ١] وإذا كان هذا شأنه معكم ، وكان لكم التفات إلى هذه الجهة ولو إجمالا كيف تكفرون

بالله ، فتكون هذه الآية الشريفة مثل قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢].

قوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي يميتكم بقبض الأرواح حين انقضاء الآجال ، ثم يحييكم حياة ثانية ثم اليه ترجعون لأخذ جزاء أعمالكم ، هذا بحسب كليات الموت والحياة والرجوع إليه تعالى. وأما بحسب الخصوصيات ـ كالزمان الفاصل بينهما ـ فلا يعلمها إلّا الله تعالى.

والفرق بين الحياة الأولى والحياة الثانية بعد اتحاد المبدأ والمرجع فيهما ، وعدم الفرق بينهما من هذه الجهة : أن الحياة الأولى مؤقتة والثانية أبدية دائمية ، وأن التبدل في الصورة فالأعمال في الدنيا ـ خيرا كانت أو شرا ـ عرض قائم بالغير ، وفي الآخرة جوهر قائم بالذات فالعامل والعمل فيهما واحد ؛ والاختلاف إنما هو في صورة العمل. وأن الحياة الأخرى أكمل من الأولى للإنسان إن عمل صالحا في الدنيا وأدون إن كان شرا ، وسيأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وبعد أن بيّن سبحانه بعض آياته في الأنفس فتفضل على الإنسان بنعمة الإيجاد ، ثم بنعمة الموت ، ثم الحياة ، ثم الرجوع اليه ليصل كل واحد إلى ما أعده لنفسه من الأعمال ذكر سبحانه بعض نعمه في الآفاق.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). بيان لما مر من قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤] ، لأن من لوازم جعل الأرض فراشا للإنسان أن يكون جميع ما في الفراش مهيئا للانتفاع به ، وكذا قوله تعالى : (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج ، الآية : ٦٥].

والخلق بمعنى التقدير المستقيم ، ويستعمل في الإبداع أيضا ، كقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة الفرقان ، الآية : ٥٩] بقرينة قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٧] ؛ وفي إيجاد شيء من شيء كقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [سورة

النحل ، الآية : ٤] ، وكذا قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [سورة العلق ، الآية : ٢] وجميع هذه الاستعمالات من المشترك المعنوي لوجود الجامع القريب فيها ، وهو التقدير المستقيم. والمراد بالخلق هنا التقدير أي : قدّر الله تعالى أن يكون ما في الأرض لأجل انتفاع الإنسان ، والتقدير مقدم عن الإيجاد وكل موجود مقدر ، وليس كل مقدر موجودا ، لجريان البداء في مرتبة التقدير والقضاء ، كما يأتي.

وخلق ما في الأرض إما لأجل الانتفاع به انتفاعا ماديا صحيحا بكل وجه يتصور ، أو عقليا كالنظر والاعتبار ، كما قال علي (عليه‌السلام): «خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به ، وتتوصلوا به الى رضوانه ، وتتوقوا به من عذاب نيرانه».

ثم إنه يستفاد من هذه الآية المباركة ، وغيرها من الآيات كثرة عناية الله تعالى بالإنسان ، وقد افتخر به على سائر خلقه كما في قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] ، بل جعله غاية خلق الموجودات ، وجعل الطبيعة مسخرة بين يديه ، وأفاض عليه من علومها وأسرارها لأن ينتفع بها ويستفيد من جميع ما يمكن الاستفادة منه.

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ). مادة (س وي) تدل على المساواة والمعادلة ، وتختلف الخصوصيات باختلاف الاستعمالات ، فإذا عديت ب (على) أفادت معنى الاستيلاء عن عدل وحكمة ، كما في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه ، الآية : ٥] أي استيلاء علم وحكمة وتدبير وإتقان ، فيكون ما سواه من صنع الله الذي أتقن كل شيء ، وإذا عديت ب (إلى) اقتضى القصد والشروع ، والأخذ المشتمل على أتم أنحاء التدبير ، قال علي (عليه‌السلام): «أخذ في خلقها وإتقانها».

وقد استعملت هذه المادة بهيئاتها المختلفة في القرآن الكريم قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [سورة الأعلى ، الآية : ٢] وقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة ص ، الآية : ٧٢] والخلق أعم من التسوية.

والمعنى : أنه قصد خلق السماء ، وأراد ذلك بأتم أنحاء التدبير وأحسن جهات التنظيم فجعلهنّ سبع سموات متقنات ، وسيأتي بيان عدد السبع في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وفي هذه الآية إشارة إلى أن خلق الأرض قبل خلق السماء. ولكن عرفت أن الخلق غير التسوية ، فإن في الأرض جهات كثيرة وفي السماء أيضا كذلك ، فكل منهما من الأمور الإضافية ويصير خلق تلك الجهات أيضا كذلك. وحينئذ لا منافاة بين ذلك ، وقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [سورة النازعات ، الآية : ٢٧ ـ ٣١] ، فإن خلق السماء في هذه الآية المباركة مقدم من حيث الاستواء والإتمام. وخلق الأرض مؤخر من حيث فعلية نظمها ، وجري أنهارها ودحوها ونحو ذلك. وفي الآية السابقة أن خلق الأرض مقدم من حيث أصل التقدير فلا تضاد بينهما.

قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). الشيء من ألفاظ العموم بل لا أعم منه. وعن بعض اللغويين إن لفظ عليم للمبالغة وليس لمجرد الوصف الثابت. وقد عدّي بلفظ (باء) ، مع أنه متعد بنفسه ، لقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [سورة الممتحنة ، الآية : ١٠] لإظهار الزيادة في العلم والمعلوم.

وفي القرآن آيات كثيرة دالة على إحاطته بما سواه علما وقدرة ومن سائر الجهات ولعل أبلغ هذه التعبيرات بالنسبة إلى المخاطبين قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) [سورة النساء ، الآية : ٣٣] ، إذ الشهود والعيان أخص عندهم من العلم وإن كان لا فرق بينهما بالنسبة إليه تعالى.

بحث فقهي :

استدل الفقهاء بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لإثبات الإباحة المطلقة في جميع الأشياء إلّا ما دل دليل بالخصوص على تحريمه ، وتمسكوا بغيرها من الآيات المباركة أيضا على ما سيأتي ، وبالروايات ، بل والعقل ، وبينوا في علم الأصول ما يتعلق بذلك.

بحث روائي :

عن علي (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ـ الآية ـ قال «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به ، ولتتوصلوا به إلى رضوانه ، وتتوقوا به من عذاب نيرانه. ثم استوى إلى السماء أخذ في خلقها وإتقانها فسويهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم ، ولعلمه بكل شيء علم المصالح ، فخلق شرع ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم».

أقول : ما ورد في هذا الحديث في مقام بيان غاية الخلق وهو المنساق من جملة من الآيات القرآنية على ما تقدم.

وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «خلق الأرض قبل السماء».

أقول : تقدم إجمال بيانه ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

شروع في بيان قصة خلق آدم ، والغاية من خلقه وعصيانه ، وهبوطه إلى الأرض ، وقد تكررت هذه القصة في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، بل وردت في جميع الكتب السماوية ، فتظهر أهميتها لما فيها من الحكم والأسرار ، واعتنائه تبارك وتعالى بالإنسان الذي يمتاز عن غيره من المخلوقات ، لأنه المستعد لبلوغ أقصى درجات الكمال ، ولذلك كان جديرا بالخلافة.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ). المراد بالقول هنا الإلقاء في النفس ، سواء أكان بسبب من الأسباب الظاهرية ، أم الخفية. وليس المراد من

القول المنسوب إليه تعالى في جميع القرآن هو المعنى المعروف أي : الحركات المعتمدة على مخارج الحروف ، وسيأتي شرح ذلك في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

والملائكة : قيل من ألك وهي الرسالة إما لأنّ جميعهم رسل الله إلى ما يرسلهم إليه من تدبير الأمور ، أو تغليبا لاسم عظمائهم وساداتهم ـ وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ـ عليهم ، ولا بأس به لفرض تسخير البقية تحت إرادة العظماء منهم بأمره تعالى.

ولا ريب في وجود الملائكة وقد تكرر ذكرهم في القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية مع شيء من بيان أعمالهم وفي الروايات الواردة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) شرح لبعض خصائصهم وأحوالهم.

وقد استدل الحكماء والفلاسفة بأدلة عقلية على وجود الملائكة منها قاعدة «إمكان الأشرف» المذكورة في الكتب الفلسفية ، ويغنينا عن ذلك ظهورهم لأنبياء الله (عليهم‌السلام) لا سيما أولي العزم منهم ؛ وظهور جبرائيل في صورة دحية الكلبي مروي في كتب الفريقين.

وأما الخلاف في أنهم ذوات مجردة تظهر بأشكال مختلفة كما عليه الفلاسفة ، أو أجسام لطيفة كذلك كما عن غيرهم ، فلا ثمرة في ذلك والنزاع بينهم لفظي.

والملائكة مختلفون في الأشكال والهيئات ، وهم على طوائف متعددة مختلفة محدودة قال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٦٥] ويدل على ذلك بعض الروايات الواردة عن المعصومين وهم يتكاثرون بواسطة بعض الأعمال الصالحة الصادرة من العباد ، كما هو مذكور في كتب الأحاديث ، ومن قطرات النهر المكنون تحت العرش كما في بعض الروايات على ما يأتي.

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) أمران :

الأول : إنما وجه الخطاب إلى النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليعلم الناس أنّ الغرض الأصلي من خلق آدم إنما هو سيد الأنبياء والرسالة التي جاء بها ، وذلك لأن العلة الغائية مقدمة في العلم وإن كانت متأخرة في الخارج ، كما ثبت بالأدلة العقلية ، ويدل عليه بعض الأدلة النقلية ، فأصل الدعوة هي دعوته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإن تعددت الدعاة إليها وتفرقوا في سلسلة الزمان ، ويأتي شرح ذلك عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨]. وفيه تسلية له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بما رأى من الحوادث الواردة على أبيه آدم ، ليصبر على ما يراه من كيد المشركين.

الثاني : إنما قال سبحانه ذلك للملائكة ثم بينه للناس لجهات ؛ منها : إظهار فضل آدم للملائكة ، وتعريفه لهم ، وإعلامهم بمقامه بأن له الخلافة في الأرض.

ومنها : إظهار ما هو المكنون في نفوس الملائكة على أنفسهم ليعترفوا بذلك بالعجز والقصور.

ومنها : الإعلام بأن صنع هذا المخلوق الجديد كان بمباشرته عزوجل بلا مداخلة أحد غيره فيه.

ومنها : بيان أن ليس للإنسان معرفة حقائق الأشياء ، وأسرار الخليقة وحكمها ، فإن الملائكة مع رفعة شأنهم قد عجزوا عن ذلك.

ومنها : أن هذه المحاورة كانت تلطفا منه عزوجل وجبرا لما انكسر من نفوسهم حيث صنع الله الخليفة من الطين الذي هو دونهم بمراتب.

ومنها : إرشاد النّاس إلى المشاورة بينهم في أمورهم ، وأن المشاورة لا تنقص الفرد وإن عظم شأنه ، كما قال تعالى مخاطبا لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩].

كما أنه أعلمنا بأنه قد رضي لخلقه أن يسألوه عما خفي عنهم.

قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). الجعل هو الفعل

والإحداث. والخلافة هي النيابة عن الغير إما لقصوره ، أو زواله أو للتشريف والتشريع والإبلاغ ، وخلافة أنبياء الله تعالى وحججه من القسم الأخير ، وللعلماء في جعل الخلافة في الأرض قولان :

الأول : إنّ الله تعالى جعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض ذهب الله تعالى بهم بعد أن أفسدوا ، وسفكوا الدماء ، واستدلوا بقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) [سورة يونس ، الآية : ١٤] ومن سؤال الملائكة قياسا على ما مضى.

الثاني : إنّ الله جعل آدم خليفته في الأرض ، كما يشهد له قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [سورة ص ، الآية : ٢٦].

والحق أن يقال : إن المستخلف عنه في المقام الأعم مما ذكروه ، فإن الإنسان فيه جهتان : جهة البدن والجسم ، وجهة الروح ، وهو مزيج منهما فقد تعلق جعله تعالى بآدم من جهتين الجسمانية حيث باشر تعالى بنفسه في خلقه ، ونفخ فيه من روحه ، فيكون من هذه الجهة خليفة عن غيره تكوينا ، وأما الجهة المعنوية فقد تعلقت الإرادة الإلهية بجعله خليفة ، كما تعلقت بجعل داود خليفة في الأرض ، ويشهد لذلك ما استفاض عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «إن أول مخلوق على وجه الأرض هو الحجة ، وآخر من يموت هو الحجة» فتكون الخلافة لآدم (عليه‌السلام) من حيث نبوته ، وكونه حجة الله خلافة شخصية ، ومن حيث كونه آدم أبا البشر نوعية ، كما يدل عليه قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) إذ لكل طبقة لاحقة خلافة تكوينية بالنسبة إلى الطبقة السابقة في دار الكون والفساد ، فتكون الخلافتان متلازمتان.

قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). المراد من الفساد المعنى الأعم الشامل للفساد الشخصي والنوعي ، ومن الأول ارتكاب المناهي الإلهية ، ومن الثاني النفاق.

وسفك الدماء : إراقتها بغير حق. والتسبيح التنزيه عن صفات الممكنات ، ومعنى نسبح بحمدك أي : ننزهك عن النقائص ، مقرونا بالثناء

عليك فاجتمع في هذا التعبير صفات الجلال والجمال ، والتقديس بمعنى التنزيه ـ كما عن جمع من اللغويين والمفسرين ـ والتطهير المعنوي عن النقائص ، وقد استعمل في القرآن كل منهما بالنسبة إليه تعالى قال جلّ شأنه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٤].

ويمكن التفريق بينهما بجعل الأول بالنسبة إلى الذات الأقدس ، فهو تعالى منزه عن كل نقص ، والثاني بالنسبة إلى الفعل ، ففعله منزه عن كل نقص ، لكونه صادرا عن الحكمة البالغة. ويمكن أن يقال : إن معنى نقدس لك أي نطهر أرضك من الفساد والمعاصي.

والمعنى : أتستخلف في الأرض من هو على هذه الصفات من الإفساد وسفك الدماء ، ونحن المعصومون نسبح بحمدك ونقدس لك ، فالغاية المتوخاة من جعل الخليفة موجودة فينا دون غيرنا فزعموا أن التسبيح والتقديس فقط هو المقصد الأصلي من الخلق وليس فيهم سبب الفساد ، لأنهم متحدوا القوى وليست لهم قوى متخالفة.

ثم إنه يمكن أن يكون منشأ سؤال الملائكة هذا أحد أمور :

الأول : علمهم بأنّ الدار دار الكون والفساد والإنسان مركب من قوى متضادة متخالفة من الشهوة والغضب ، والقوة والضعف ، ونحو ذلك ، ومن كان هذا حاله وهو في دار الكون والفساد ، والمادة يلازمه سفك الدماء والإفساد ، فيكون قولهم من باب كشف الملزوم عن اللازم وهو صحيح.

الثاني : حصول ذلك من حمل المستقبل على الماضي الذين أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، فحصل لهم العلم بذلك من التجربة.

الثالث : أنّ حب النفس فطري في كل ذي حياة فحبهم لنفسهم أوقعهم في هذا القول ، ولكن هذا الوجه ينافي مقام عصمتهم.

الرابع : أنه بعد إخبارهم بأنه سيجعل في الأرض خليفة عجبوا كيف يمكن أن يكون المصنوع من التراب خليفة رب الأرباب ، مع أنّ الله تعالى أخبرهم أن في ذريته من يفسد ويسفك الدماء ، كما في بعض الأخبار ، وغفلوا

عن الحكمة.

ومن ذلك يظهر أن سؤال الملائكة ليس من الاعتراض عليه تعالى بل كان من مجرد الاستفهام لما خطر في نفوسهم وكان همهم معرفة الحكمة والسر في استخلاف هذا المخلوق ، ولذا سكتوا حين أعلمهم بذلك فقال تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). فأعلمهم بأنه لا نسبة بين العلم الحاصل من الأسباب الظاهرية مع العلم بحقائق الأشياء وأسرارها ، فإن في هذا المستخلف أسرارا لم تكن في غيره ، وكأنهم غفلوا عن أن الخير الكثير لا يمنعه الشر القليل ، فيكون قوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : أعلم أن الشر القليل ـ لو فرض ـ لا يمنع عن الخير الكثير. نظير من يريد أن يصنع سفينة تجري في البحار وتنفع الناس ، فلا يهتم بالحوادث والآفات التي تجري عليها في عالم الكون والفساد.

وفي تقديم آية (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) على قصة آدم تفضل منه تعالى حيث أعد لبني آدم جميع ما في الأرض ، ثم خلقهم كما أعد الجنّة للمتقين قبل ورودهم لها.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بخلق الخليفة في الأرض شرع في هذه الآيات بيان فضله لأنه ملازم لخلقه وحياته وإنما ابتدأ بالتعليم له لتلازم الحياة مع العلم كما سيأتي في البحث الدلالي.

التفسير

قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). وردت هذه الهيئة من مادة العلم في موارد كثيرة من القرآن الكريم قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)

[سورة الكهف ، الآية : ٦٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [سورة النساء ، الآية : ١١٣] ، وقال سبحانه وتعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥١] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢].

والمستفاد من الجميع هو إلقاء المعلم حقيقة ما يريده من العلم إلى الطرف بنحو الإلهام أو الإشراق ـ كما يحكى عن الفلاسفة الإشراقيين ـ دفعة واحدة أو بالتدريج ، بلا فرق في ذلك بين أن لا يكون سبب ظاهري ، أو كان ذلك ، كما في قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣١].

وظاهر الآية المباركة أن التعليم كان مباشريا من الله تعالى بلا واسطة ملك. وكيف لا يكون كذلك وقد اقتضت العناية الإلهية الاهتمام بأول خليقته والمصنوع بيمينه ـ وكلتا يديه يمين كما في الأحاديث ـ والنفخ فيه من روحه كل ذلك ينبئ عن السر العظيم والحكمة التامة في هذا الإنسان فميزه عن سائر خلقه بهذا المقام الخطير بأن علمه ما لم يعلم ، وجعل في نسله هذه القوة العلمية فكان في ذريته الأولياء الذين أشرقوا العالم بأنوار المعارف الإلهية وتفرع عن هذا الأصل جميع العلماء والعقلاء الذين سخروا العالم بعلمهم ودبروا البلاد بعقلهم.

ولم يكن هذا العلم مقتصرا على ألفاظ ومسميات خاصة وهو في هذا المقام العظيم والمنصب الرفيع فقد تعلم كل المعارف الإلهية وماله دخل في استكمال الإنسان في النشأتين ، كما أن التعليم شمل أسرار القضاء والقدر وخواص الأشياء ومنها خواص النبات وعرف موجبات الفرح والسرور وأسباب الحزن والكدر فإن آدم وسائر حجج الله سفراؤه في الأرض ولا بد وان يكون السفير مطلعا على دار سفارته ، ولعل منها ما حكاه الله تبارك وتعالى في قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه ، الآية : ١١٥] فأخبره تعالى بوقوع هذه الحادثة العجيبة منه لكثرة أهميتها في النشأة الدنيوية وسيأتي في البحث الروائي وغيره مزيد بيان.

ولفظ «آدم» سواء كان لفظا عربيا ـ من الأدمة بمعنى السمرة أو من أديم الأرض وهي ظاهرها ـ أو غير عربي ، سهل في النطق وذلك يكشف عن وجود الأنس بين ذريته ولعله لذلك سمي إنسانا لأن الانس من طبعه وفي جبلته أو لكونه وسطا بين الإفراط والتفريط كما أن السمرة وسط بين السواد المحض والبياض كذلك ، والظاهر أن اطلاق هذا الاسم عليه كان من الله تعالى من حين الخلقة لا حين نزوله الى الأرض فهو باسمه وجسمه وروحه مضاف إلى الله تعالى إضافة خاصة.

قوله تعالى : (الْأَسْماءَ كُلَّها). الأسماء جمع اسم وله معان :

الأول : اللفظ الخاص المعروف في مقابل الفعل والحرف مثل سماء ، وأرض ، وبحر ، ونهر الى غير ذلك مما هو في ازدياد على مر العصور ، فيكون التعليم من مجرد اللفظ فقط بلا توجه من المتعلم الى المعنى أبدا ، لا فعلا ولا بعد ذلك ، وهذا يعد من اللغو في المحاورات المتعارفة بين الناس ، فيكون قبيحا بالنسبة إليه تعالى وهو محال ، لاستحالة كل قبيح عليه عزوجل.

الثاني : الأسماء من حيث كونها آلة للتعرف على المسميات والمعاني فتتحقق الإفادة والاستفادة ، كما هو شأن تعلم اللغة التي بها امتاز الإنسان على سائر الخلق ، قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢].

الثالث : المراد من الأسماء ذوات المسميات ، وحقائق الأشياء لوجود خاصية الاسم فيها ، لأن الاسم ما أنبأ عن المسمى ، وجميع تلك الحقائق تنبئ عن آيات الله وجلاله وجماله. أو للترابط الوثيق بين الدال والمدلول بحيث إذا أطلق أحدهما انتقل الذهن إلى الآخر ، كما تقدم.

والظاهر هو المعنى الأخير ، ويتحقق المعنى الثاني لا محالة ، فإنّ المناسب من تعليم الله تعالى آدم الأسماء من حيث كشفها عن حقائق المسميات وجواهرها ، وأعراضها ، ومجرداتها ، ومعرفة ذواتها وخواصها وصفاتها ، فكما أن آدم أبا البشر في مقام الأبوة والبنوة الإضافية صار أصلا لهم

في ما يتعلق بشئونهم الفردية والاجتماعية ومن أهم ذلك معرفة الحقائق وأسمائها ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ، فإنه لو كان المراد هو مجرد الألفاظ فقط لما كان لهذا القول معنى إلّا بالتكلف.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليم دفعيا وفي آن واحد ، أو كان بالتدريج على حسب مجرى الطبيعة التي هي مسخرة تحت إرادته تعالى. ولا بأس بالقول بكل منهما فيكون بالنسبة إلى البعض دفعيا وبالنسبة إلى البعض الآخر تدريجيا ، وفي جميع الحالات يكون التعليم منسوبا إليه عزوجل.

ثم إنه لا وجه لصرف الآية عن التعميم ، والقول بأن التعليم يختص بتلك الأسماء التي كانت مورد حاجة آدم في حياته ، وتعليم غيرها يكون من اللغو أو لزوم ما لا يلزم والله تعالى منزه عن ذلك ، إذ يرد على هذا القول بأن الآية ظاهرة في التعيمم ، مع أن الإحاطة العلمية خصوصا بمثل هذه الإحاطة العلمية الغيبية كمال للنفس وأي كمال أفضل منه بل يعد هذا من معجزات آدم (عليه‌السلام).

ويحتمل أن يكون المراد بعالم الأسماء عالم المثال الذي أثبته بعض الفلاسفة ، ويسمى بعالم الخيال المنفصل أيضا الذي فيه صور جميع الموجودات بأشكالها الخاصة وهيئاتها المختلفة المحدودة بحدودها المعينة كما في الصور الخيالية التي تكون بين التجرد المحض والمادية المحضة واستدلوا عليه بالأدلة العقلية ، وبما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) «أن في العرش صور جميع الموجودات» ، وقد ورد في شرح دعاء ـ يا من أظهر الجميل وستر القبيح ـ «أن العبد إذا فعل فعلا قبيحا ستر الله تلك الصورة بستار لئلا يطلع عليها الملائكة» والمراد بهؤلاء الملائكة بعض حملة العرش ، ويأتي للمقام شواهد عقلية ونقلية.

وعلى هذا يكون إتيان لفظ من يعقل في قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) من باب ذكر الأهم لأنه المقصود الأصلي من خلق الجميع.

بل يمكن أن يقال : إنّ المقصود الأصلي من الأسماء إنما هو مقام

الخلافة الإلهية وأسماء الخلفاء ليكون آدم على بصيرة من أمره من أن الأرض أرضه ، والبشر نسله ، والخلفاء من ذريته ولا سيما سيدهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهذا مما لا ريب فيه فقد روى الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقدم على آدم علما وإن كان مؤخرا خارجا.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ). العرض هو الإظهار على الغير لغرض فيه قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢] ، وقال تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [سورة الكهف ، الآية : ٤٨]. فإذا عدي بالهمزة يكون بمعنى الإدبار والتولي ، كقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٩] وقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [سورة السجدة ، الآية : ٣٠].

والمراد بالعرض على الملائكة توجيه نفوسهم ، والاطلاع على تلك الأشياء إما إلى أعيانها إن كانت موجودة أو أمثالها المحدثة بإرادة منه عزوجل إن لم توجد في الخارج.

وذكر خصوص من يعقل من باب التغليب أو الأفضل كما تقدم ، أو لأجل بيان أن المراد الأصلي إنما هو ذوو العقول ولا سيما الكاملين منهم ، أو لأجل أن جميع موجودات هذا العالم من جماده ونباته وحيوانه له عقل وشعور في عالم الغيب ، وإن خفي ذلك علينا ، ويشير إليه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ، وهذا العالم يسمى بعالم الروحانيين ، وعالم الأشباح والأظلة وبالملكوت الأسفل ، فيكون معنى عرضهم على الملائكة رفع بعض حجب الغيب عنهم ، وفي هذا العالم تكون خزائن الله التي يقول جلّ شأنه فيها : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [سورة الحجر ، الآية : ٢١].

وبالجملة : حجب الغيب كثيرة ، وتحت كل حجاب عالم من العوالم لا

يعلمها إلّا الله عزوجل. وعن جمع من الفلاسفة «أن كلما هناك حي ناطق ولجمال الله دواما عاشق».

قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). الأمر للتعجيز ، وإظهار عجزهم على أنفسهم وعلى غيرهم ، فلا وجه لإشكال جمع من المفسرين من أن أمر العاجز عن الشيء قبيح فيكون محالا عليه تعالى ، لأن ذلك في ما إذا كان الداعي من الأمر هو الإيجاب وأما إذا كان الداعي شيئا آخر من تعجيز ونحوه فلا محذور وهو في القرآن كثير ، وتأتي الإشارة إليه.

والإنباء هو الإخبار يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة ، وبواسطة الحرف أخرى ، كما عن جمع من اللغويين.

والمراد بالأسماء هنا نفس الألفاظ فقط وهو تعجيز شديد ، يعني أنكم إذا لم تقدروا على الإخبار عن مجرد اللفظ فأولى أن تكونوا عاجزين عن معرفة أسرار الأشياء وحقائقها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن ما خطر في نفوسكم أنكم أفضل من آدم وما أظهرتموه من الدهشة في اختيار الخليفة من الإنسان. وليس ذلك من الحسد المبغوض بل هو من حب الكمال الذي هو من الفطريات لكل ذي إدراك ، ولم يسلم من ذلك حتّى أنبياء الله تعالى ، كما تشهد به قصة موسى (عليه‌السلام) مع الخضر ، وسيأتي تفصيلها في سورة الكهف.

ومن ذلك يعلم أن الحكمة في التعليم والعرض هي إظهار فضل آدم (عليه‌السلام) على الملائكة ، وأن الخلافة لا تكون إلّا لمن استجمعت فيه مراتب الاستعداد ولا يعلم بها أحد إلّا الله تعالى.

هذا كله إذا كان المراد بقول الملائكة الاستفهام الحقيقي ، وكان الاستعمال بداعي ذلك أيضا. وأما إذا كان الاستعمال بداعي التنفر والاشمئزاز من المفسدين وسفكة الدماء فهو صحيح ، ويصح انتسابه إلى جميع الملائكة حتّى عظمائهم ، وحملة العرش كما لا يخفى. فيكون قول الله تعالى ناظرا الى عدم إحاطتهم بمراتب الغيوب ، ومقدمة لأمرهم بالسجود لآدم لما ظهر لهم من

فضله بما أفاض الله تعالى عليه علم الأسماء ، وجعله خليفته في الأرض.

وأما ذكر «هؤلاء» بعنوان الإشارة إلى الحاضرين فيمكن أن يكون لبيان رفعة مقام المسميات بخصوص هذه الأسماء دون غيرها فكأنهم حاضرون في جميع العوالم ، وقد عبّر عن خصوص هذه المسميات جمع من الفلاسفة بأرباب الأنواع ، وجمع آخر بالمثل الأفلاطونية.

قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). كلمة «سبحانك» تقال في مقام التوبة كما في قوله تعالى : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٨٧] ، وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣].

وأما قوله تعالى : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) اعتراف منهم بالعجز والقصور ، وان علمهم لا يحيط بجميع المسميات وفيه ثناء على الله تعالى ، لأنهم أثبتوا العلم له عزوجل ونفوه عن غيره وأنه المفيض عليهم بالعلم على قدر القابليات والاستعدادات.

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). تأكيد منهم على حصر العلم بالنسبة إلى ذاته ، وللحكمة بالنسبة إلى فضله ومادة (ح ك م) في أية هيئة استعملت تفيد الإتقان والإحكام والإتمام. وأصل الحكمة منه تعالى معرفة الأشياء ، وإيجادها بالإحكام والإتقان الواقعي ، وهي منبعثة عن العلم بالحقائق. وإذا أطلقت بالنسبة إلى الإنسان ففي اصطلاح الفلاسفة : هي العلم بحقائق الأشياء على حسب الطاقة البشرية. وفي اصطلاح المفسرين : معرفة الأشياء وفعل الخير وقالوا منه قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [سورة لقمان ، الآية : ١٢] ، ويأتي في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٩] بعض الكلام.

وإذا أضيفت الى القرآن كقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [سورة القمر ، الآية : ٥] فانما يراد بها الاشتمال على الآيات والقوانين المحكمة. ويطلق الحكم على الحكمة أيضا ، كما نسب إلى النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصمت حكم وقليل فاعله».

ومن هذا الجواب يستفاد أنّ سؤالهم لم يكن من الخصومة والجدال بل كان سؤال مستفسر مستوضح ، ولذا رجعوا إلى ما كان قد غفلوا عنه ، وفوّضوا الأمر إليه تعالى بعد ما تبين لهم الحال.

وفي هذه الآية المباركة جملة من الآداب بين السائل والمجيب ففيها إيماء إلى أن الإنسان يجب أن لا يغفل عن كونه مخلوقا ناقصا مهما بلغ من الكمال ، وأن لا يأنف من الاعتراف بالجهل إذا كان لا يعلم ، وأن لا يكتم العلم إذا كان يعلم ، ويجب عليه أن يحفظ مقام معلمه في تواضع وأدب.

قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ). أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها ، وإيكال تعليم الملائكة الى آدم (عليه‌السلام) يدل على أفضلية مرتبة الخلافة عنهم. وقد نادى الله سبحانه جملة من أنبيائه في القرآن العظيم بأسمائهم العلمي فقال تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) [سورة هود ، الآية : ٤٨] ، وقال تعالى : (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٥] ، وقال تعالى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) [سورة القصص ، الآية : ٣١] ، وقال تعالى : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦]. وأما سيد الأنبياء فلم يخاطبه عزوجل إلّا بأوصافه فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [سورة الأنفال ، الآية : ٦٤] أو (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [سورة المائدة ، الآية : ٤١] و (طه) و (يس) فيكون له سبحانه وتعالى معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أدب ، وللرسول معه عزوجل حالات خاصة.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ). يدل على أن استكمال الملائكة بالعلم إنما يكون بواسطة أنبياء الله وحججه ولا محذور فيه بل الأدلة العقلية والنقلية تؤيد ذلك.

ولعل من اسرار نزول الملائكة في ليلة القدر ـ أو مشايعتهم لبعض السور حين نزولها على النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ هو الاستفادة مما ينزل على النبي ، أو ولي الأمر ، وعلى هذا يكون بين الملائكة اختلاف في الفضل حسب كثرة حشرهم ومخالطتهم مع الأنبياء والحجج وقلته ، وللكلام

تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). أي قلت لكم إني أعلم ما غاب من أنظاركم وعلومكم ، فاحتج عليهم بإثبات علم الغيب له تعالى ونفيه عنهم فلن أخلق خلقا عبثا. وإنما ذكر تعالى غيب السموات والأرض فقط ولم يذكر عالم الشهادة ، لشمول الأول له بالأولى ، مع أن جميع العوالم شهادة بالنسبة إليه تعالى ، والتقدم والتأخر بالنسبة إلى الزمان وهو محيط بالزمان والزمانيات.

ثم احتج عليهم بأنه عالم بما يبدون وما يكتمون ، لأنه ـ كما ذكرنا سابقا ـ أضمروا في نفوسهم أحقيتهم للخلافة ، لكونهم يعبدون ربهم ويقدسونه فلم يخلق خلقا أكرم عليه منا.

والظاهر ـ كما يدل عليه بعض الأخبار ويأتي في البحث الروائي نقلها ـ أنّ المراد هم جميع الملائكة ، ويحتمل أن يكون المراد هو خصوص الشيطان من جهة كونه داخلا في عموم الخطاب ، لأنه كان داخلا فيهم صورة فيكون من باب إطلاق الجمع وإرادة الفرد منه ، وهو صحيح واقع في القرآن الكريم والمحاورات.

بحوث المقام

بحث دلالي :

لا ريب في دلالة الآيات المباركة على فضل العلم ، وأنه الغرض الأقصى من خلق الإنسان وجعل الخليفة ، إذ لا معنى للخلافة الإلهية بل مطلقها إلّا علم الخليفة في ما يستخلف فيه وتدبيره الحاصل بالعلم أيضا ، فيكون العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات كلها ، كما أنه العلة لإيجادها ، ففي مثله تجتمع العلة الغائية والفاعلية.

كما يستفاد منها فضل الإنسان ، لأنه لا فضل إلّا بالعلم ، ولا علم يستعمل في دقائق الكون ، وأسرار التكوين ورموزها إلّا في الإنسان وقد سخر

الكون بعلمه ولم يخلق الله تعالى العالم إلّا له ، كما يأتي ذلك في الآيات الكثيرة ؛ فمبدأ الخلق إنما هو من العلم وغايته للعلم وتدبيره إنما هو بالعلم ، فالجهل والجهلاء بمعزل عن مبدإ الخلق وغايته وتدبيره ويكون كالجزء الفاسد من العالم ، ويأتي شرح هذا العلم وتفصيله في الآيات المستقبلة إن شاء الله تعالى.

ومن هذه الآيات المباركة يستفاد فضل آدم (عليه‌السلام) على الملائكة ، لأن الله تعالى جعله معلما للملائكة وفضل المعلم على المتعلم واضح.

وتعليم الأسماء لآدم (عليه‌السلام) بمنزلة كتاب سماوي أنزله الله تعالى على آدم (عليه‌السلام) وبه تحدى الملائكة فأظهروا العجز والقصور ، كما جعل الكلام العربي معجزة لنبيّنا الأعظم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يستفاد من الآيات الشريفة أن هذه المحاورة إنما كانت بين الله تعالى وبين ملائكة الأرض الذين وكّلوا في شؤونها ، وكان قد خفي عليهم وجه الحكمة في خلق آدم (عليه‌السلام) دون غيرهم من ملائكة السماء وعظمائها كالكروبيين وحملة العرش ، وإن كان الإطلاق يقتضي ذلك إلّا أن الإعتبار يقتضي الأول ، كما سيأتي في البحث الروائي فإن المراجعة إنما كانت في الأرض ، لا في السماء وإنّ آدم (عليه‌السلام) خليفة الله خلق من الأرض ـ لأنه من طين ومن حمإ مسنون ـ وفي الأرض لأنه خليفة الله في الأرض وللأرض كما هو شأن جميع الأنبياء والرسل ، فلا وجه لتوهم كون الخلق في السماء إلّا قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) وبعض الأخبار ، وسيأتي ما يتعلق بذلك.

بحث روائي :

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام): «ما علم الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء».

أقول : يستفاد من هذه الأخبار أن علم الملائكة ليس من علم الغيب ، بل حاصل من المدارك الجزئية الخارجية ، وأما أن مداركهم الجزئية كعين مداركنا الجسمانية ففيه تفصيل يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي التفسير عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). ما هي؟ قال (عليه‌السلام) أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض».

وفيه عنه (عليه‌السلام) أيضا في قول الله عزوجل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). ما ذا علمه؟ قال : الأرضين والجبال ، والشعاب والأودية ، ثم نظر إلى بساط تحته. فقال : وهذا البساط مما علمه».

وفي التفسير أيضا عن داود بن سرحان قال : «كنت عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فدعا بالخوان فتغدينا ، ثم دعا بالطشت والدستشان (أي : محل غسل اليد) فقلت : جعلت فداك قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الطست والدستشان منه؟ فقال (عليه‌السلام) الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا».

وفي تفسير العسكري عن السجاد (عليه‌السلام): «علمه أسماء كل شيء».

أقول : الأمثلة التي ذكرها (عليه‌السلام) من باب المثال لما كان موجودا في زمان آدم (عليه‌السلام) ، لا الحصر.

وفي المعاني عن الصادق (عليه‌السلام): «ان الله عزوجل علّم آدم (عليه‌السلام) أسماء حججه (عليهم‌السلام) كلها ، ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة».

أقول : يظهر من هذا الحديث كجملة من الأحاديث المستفيضة أن الأرواح سابقة على الأجسام ؛ وفي الحديث المعروف بين الفريقين عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». ومن ذهب الى أرباب الأنواع ، أو المثل الأفلاطونية فإن أراد بقوله مثل

ما ذكره (عليه‌السلام) في هذا الحديث فلا بأس به ، وان أراد به غير ذلك فلا بد في إثباته من الرجوع إلى أدلتهم المذكورة في الفلسفة الإلهية والتأمل فيها.

وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ، فقالت الملائكة في أنفسها : ما كنّا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق اليه. فقال الله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، فيما أبدوا من أمر الجان ، وكتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش».

ومثله عن علي بن الحسين وزاد فيه «فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش ، وأنها كانت من عصابة من الملائكة ـ وهم الذين كانوا حول العرش لم يكن جميع الملائكة ـ الى أن قال (عليه‌السلام) : فهم يلوذون حول العرش الى يوم القيامة».

أقول : تقدم في البحث الدلالي ما يدل على ذلك.

وفي العلل عن الصادق (عليه‌السلام): «أنّه سئل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أخبرني عن آدم لم سمي آدم؟ قال : لأنه خلق من طين الأرض وأديمها».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

ثم إنّ في المقام بحثين آخرين ـ أحدهما : بحث خلقة آدم (عليه‌السلام) وقد بينه تعالى في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن بيانا وافيا لهذا الخلق العجيب ، ثم شرحته السنّة المقدسة شرحا وافيا وطريق العلم به منحصر بهما ، لقصور ما سواهما مطلقا عن درك ذلك لأنه من الغيب المختص علمه به تعالى وإظهاره يكون بإخباره عزوجل.

ثانيهما : بحث الطينة والميثاق ، وتعرض له المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ

ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] والأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين ، وهو أيضا من الغيب المختص به عزوجل ، ولا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالى بلا واسطة ، أو بواسطة أنبيائه وأوليائه تعالى ، وقد وردت الأخبار في ذلك عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام).

والطينة الواردة في السنّة الشريفة على قسمين :

الأول : ما كانت علة تامة منحصرة لكون مآلها إلى الجنّة بلا دخل للتكليف والإختيار فيها أصلا ، أو كون مآلها الى النار كذلك.

الثاني : ما كانت مقتضية لذلك مع دخل شرائط أخرى في كل منهما حتّى تصير إلى الجنّة أو النار. ولا بد من حمل جميع ما وردت في الطينة من الأخبار على القسم الثاني ، دون الأول ، لظواهر الكتاب ـ على ما يأتي ـ والسنّة ، وأدلة عقلية نشير إليها في محالها إن شاء الله تعالى.

بحث اجتماعي :

من أعظم ما أنعم الله تعالى على الإنسان نعمة البيان والنطق فقال عزوجل في مقام الامتنان عليه : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢] فلو لا اللغة والبيان لم يتحقق للإنسان اجتماع ولاختل أساس التشريع ، وبالأخرة لم يقم له نظام الدنيا والآخرة ؛ فلا يمكن تحديد هذه النعمة بحد ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [سورة الروم ، الآية : ٢٢] حيث جعل تعالى اختلاف الألسنة من الآيات.

والكلام في اللغة يكون من جهات متعددة ففيها التاريخية ، والأدبية والعلمية ، والاجتماعية وغير ذلك ، وقد وضع العلماء لكل واحدة من تلك الجهات كتبا كثيرة.

والذي يهمنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ

الْأَسْماءَ كُلَّها) في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى الله عزوجل ، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة ـ كما في سائر نعمه عزوجل ـ بإلهام منه تعالى مباشرة ، أو بالتعليم.

والوجوه المحتملة كثيرة وقال بكل منها جمع وهي :

الأول : أنّها كانت من مجرد أصوات ذات دلالات وضعية فقط فتعدت عن تلك المرتبة بالتكرار حتّى وصلت إلى مرتبة الدلالة الاستعمالية فصارت ألفاظا خاصة كاشفة عن معان مخصوصة.

الثاني : أنّها كانت من ألفاظ ذات دلالات وضعية منشؤها الفطرة الإنسانية ، كالألفاظ التي يستعملها الصبي غير المميز ، أو تستعمل له فتعدت بكثرة الاستعمال عن تلك المرتبة إلى المرتبة الكاملة ، كما هو مقتضى السير التكاملي في كل شيء. ولا يخفى بعد هذين الوجهين عن الآية الكريمة ، مضافا إلى ما فيهما من التعسف.

الثالث : أنّها مركبة من الوجهين في بدو الأمر ؛ فحصل التكامل بما يحصل التكامل في سائر الأشياء. ويرد عليه ما أورد على الوجهين السابقين.

الرابع : أنّها حصلت أصولها بتعليم الله تعالى ، والبقية بنحو ما مر.

الخامس : أنّها حصلت جميعها بتعليم الله عزوجل لآدم فانتشرت في ذريته بحسب مقتضيات الأزمنة والأمكنة.

والوجه الأخير وإن كان يلائم المستفاد من الآية الكريمة ، وبعض الأخبار التي تقدم ذكرها في البحث الروائي. فإن الجمع المحلى باللام المفيد للعموم في «الأسماء» وتأكيده بلفظ «كل» الواقعين في الآية الكريمة يشملان جميع الأسماء الواقعة في سلسلة الزمان إلى انقراض العالم ، وفي جميع اللغات واللهجات ، وقد أحاط بها آدم (عليه‌السلام) إحاطة فعلية.

وهو وإن لم يكن من قدرة الله تعالى ببعيد ، ولكنه مشكل جدا وبعيد من الأذهان ، ولو كان الأمر كذلك لكانت معجزة آدم (عليه‌السلام) أجلى وأرفع من معجزات جميع الأنبياء.

فالحق أن يقال : إنّ المراد من الجمع والتأكيد الإضافي منهما أي ما كان في عصر خلق آدم (عليه‌السلام) ، وما كان مورد احتياجه في مدة حياته ثم بعد ذلك استحدثت لغات ولهجات وألفاظ بالجعل والوضع تخصيصا أو تخصصا ، وهذا هو الذي يمكن استفادته من مجموع الروايات بعد رد بعضها إلى بعض ، وهو قريب من الأذهان ، وبه يمكن الجمع بين بعض الوجوه المتقدمة.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

بعد أن جعل الله تعالى آدم (عليه‌السلام) خليفة له ، وبيّن فضله بما علّمه وجعله معلما لملائكته أمرهم بالسجود له ، وهذه فضيلة أخرى لآدم (عليه‌السلام).

التفسير

السجود هو التذلل والخضوع ، وفي الشريعة وضع الجبهة على الأرض خضوعا لله تعالى ، وبينه وبين المعنى اللغوي جامع قريب في التذلل. وهو تارة اختياري تعبدي على الوجه المعروف لدى المسلمين يوجب الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة ، كقوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [سورة النجم ، الآية : ٦٢]. وأخرى : تسخيري تكويني. كسجود المخلوقات كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد ، الآية : ١٥].

ومادة (بلس) سواء أكانت عربية أم معربة تدل على الحزن العارض من شدة اليأس ، ويلازمه اليأس من الروح والراحة. قال تعالى : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٤٤] ولعل حزن إبليس الدائم. ويأسه الأبدي حصل من قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٤] فإن الرجم واللعن الأبدي من منبع الجود والرحمة من المبغوضات لكل ذي شعور.

والإباء : شدة الامتناع ، إذ كل إباء امتناع ، دون العكس ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كلكم في الجنّة إلّا من أبى».

والكبر والاستكبار والتكبر هو الإعجاب بالنفس ، وهو على قسمين : مذموم ـ كأن يظهر الشخص من نفسه ما ليس له ، ويكون من أقبح القبائح إذا كان على الله تعالى ـ وممدوح ـ وهو ما إذا جهد الشخص أن يصير كبيرا في ما أذن الله تعالى فيه ورضي به. وكلا القسمين وردا في القرآن.

فمن الأول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٣] إلى غير ذلك من الآيات.

ومن الثاني مفهوم قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٦] ، ومثله قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٢٠] ، ويشهد له قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٣]. فالمراد منه أنه تعالى فوق ما سواه من كل جهة فيكون تكبره جلّ شأنه كعزته وجماله ، وحينئذ يكون من قبيل صيغ المبالغة أي : أنه تعالى في غاية الكبرياء والعظمة بحيث لا يدرك ذلك فيكون إطلاق المتكبر عليه وصفيا انطباقيا. ومن السنّة فكثيرة منها قولهم (عليهم‌السلام) : «إنّ الله أذن للمؤمن في كل شيء ولم يأذن له أن يذل نفسه» وغير ذلك من الروايات.

ثم إنّ سجود الملائكة لآدم (عليه‌السلام) يتصور على وجوه :

الأول : أن يكون السجود شكرا لله تعالى لهذه النعمة العظمى بعد أن عرفوا منزلة آدم (عليه‌السلام) فينطبق عليه التهنئة لآدم (عليه‌السلام) قهرا.

الثاني : أن يكون السجود الشكر لله تعالى مع قصد التهنئة تبعا لشكره تعالى.

الثالث : السجود لله محضا وجعل آدم (عليه‌السلام) قبلة ، كما نسجد

شكرا لله تعالى إلى القبلة.

الرابع : السجود الحقيقي لآدم في مقابل السجود لله تعالى.

الخامس : السجود لله تعالى فقط وجعل ذلك من الضميمة الخارجية الراجحة كالصّلاة في المسجد مثلا. هذه هي الاحتمالات الثبوتية.

وأما في مقام الإثبات فقد دل الدليل العقلي والنقلي على أن السجود غاية التذلل والخشوع ، ولا يكون إلّا لمن هو في غاية العظمة والجلال وبناء على هذا يتعين الوجه الأخير.

ويمكن أن يقال : إنه بعد أمره تعالى بالسجود لآدم (عليه‌السلام) يسقط جميع تلك الاحتمالات ، إلّا الوجه الرابع ، لظهور الآية المباركة فيه.

ولكن يجاب عنه بأن ظهور الآية في ذلك الوجه ممنوع بعد وجود تلك الاحتمالات ، خصوصا بعد ورود الرواية على أنه كان من سجدة الشكر لله تعالى.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لما يقال من أنّ السجود عبادة ذاتية فلا يصلح إلّا لمن هو معبود بالذات.

فإنه يرد عليه أولا : أنه لا وجه لكونه عبادة ذاتية وإلّا لما أضر به الرياء ، لأن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف ، مع اتفاق فقهاء المسلمين وظهور نصوصهم في أن كل عبادة أتي بها رياء تكون باطلة ، بل يأثم فاعلها وهو شامل للسجدة رياء. نعم لا ريب في أنه يغاير سائر العبادات في اعتبار قصد القربة شرطا زائدا على قصد أصل ذاتها ؛ وله نظائر كثيرة ـ كقراءة القرآن والدعاء ونحو ذلك ـ وقد أثبتنا ذلك في الفقه فيكون قصد الرياء مانعا عن تحقق العبادة ، لا أن يكون قصد القربة شرطا لتحققها ، لأن العمل بذاته مقتض لذل العبودية ما لم يكن مانع في البين.

وثانيا : بعد أن أذن الله تعالى وأمر بالسجود لا فرق بين كونه عبادة ذاتية أو قصدية ، لأن الذاتية ـ على فرضها ـ اقتضائية لا منطقية غير قابلة للتخلف ، هذا بحسب الاحتمال. وأما الروايات فهي مختلفة وسيأتي نقلها في

البحث الروائي.

هذا ويمكن أن نقول بأنّ سجود الملائكة لآدم (عليه‌السلام) يكون كاشفا عن تسخير الله تعالى أشرف مخلوقاته له وهم الملائكة الذين جعلهم الله تعالى حفظة للإنسان ، ووكّلهم في شؤون الأرض فيكون تسخير غيرهم لآدم (عليه‌السلام) بالأولى ، وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). المراد بالملائكة هنا جميعهم لوجود القرينة على التعميم في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٠] وهذه الآية كسابقتها تبين فضل آدم (عليه‌السلام) على غيره ، فإن السجود ـ سواء كان حقيقيا أو لم يكن كذلك ـ يستلزم أفضلية المسجود له من الساجد.

ثم إنّ للعلماء والمفسرين كلاما في حقيقة إبليس. فعن جمع إنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن اتصف ببعض صفات الملائكة واستدلوا بقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف ، الآية : ٥٠] وأنه تعالى بيّن حقيقته في ما حكاه الله تعالى عنه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢] وحينئذ يكون الاستثناء منقطعا.

وعن جمع آخرين أنه كان من الملائكة وتمسكوا بظاهر الآية فإنه كان مشمولا لأمره تعالى للملائكة بالسجود فيكون الاستثناء متصلا.

والصحيح أن يقال : إنه لا ريب في مباينة إبليس مع الملائكة وشموله للأمر لا يستدعي كونه منهم ، فإنه ذات خبيث مفسد لأحد لفساده دلّس على الملائكة الروحانيين حتّى ظنوا أنه منهم.

وقد اقتضت الحكمة الإلهية في خلقه لمصالح ليس في وسع البشر دركها ـ كما في سائر ما خلقها الله تعالى ـ ولعله منها أنه أحد طرفي الإختيار في الإنسان ، فإن الله يدعو إلى الجنّة والمغفرة وهو يدعو إلى النار والإنسان بينهما فإن شاء نبى دعوة الله وإن شاء لبى دعوة الشيطان ، وهذا هو الأمر بين الأمرين

الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في مقابل الجبر والتفويض ، كما تقدم.

ومنها : أنه بمنزلة الكلب الحاجب يمنع عن وصول غير الأهل الى الحرم الربوبي.

ومن ذلك يعرف أنّ كفر إبليس لم يكن حادثا بعد الامتناع عما أمره الله تعالى ، وتركه للسجود ، فإنّ ظاهر قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) والمستفاد من كيفية مخاطبته مع الله تعالى أنّه كان كافرا أظهر الإيمان للملائكة فاعتبروه منهم ، إذ كان مدة من عمره من المتعبدين الساجدين ، كما شرحه أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في بعض خطبه في نهج البلاغة.

وعليه هل يكون كفره كفر جحود ، أو كفر عصيان؟ ظاهر قوله تعالى : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢] فإنه أعجب بنفسه وأظهر كبره ، وظاهر حلفه في قوله تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٢] أنّ كفره كفر عصيان ، لا جحود إلّا أن يقال : إنه لا اعتبار بقول من كان ذاته الكذب والخديعة ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك كله.

ثم إنّ الأمر بالسجود في هذه الآية المباركة مطلق ، وفي آية أخرى معلق على النفخ ، كما قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [سورة ص ، الآية : ٧٢] ، والمستفاد من مجموع الآيات والروايات أنه لا بد من حمل المطلق على المقيد ، كما هو الشأن في جميع المحاورات ، فلا يكون هنا أمران أحدهما قبل النفخ ، والآخر بعده ويأتي في البحث الروائي ما يناسب ذلك.

وهل كان سجودهم في السموات أو في الأرض؟ يظهر من قول علي (عليه‌السلام) أنه كان في الأرض فإنه قال : «أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة لما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة» ، وذلك لا ينافي كون موضع الكعبة مطاف الملائكة من بدء خلقها ، لأنّ الكلام في خصوص السجود.

بحث روائي :

في قصص الأنبياء عن أبي بصير قال : «قلت لأبى عبد الله (عليه‌السلام) سجدت الملائكة ووضعوا جباههم على الأرض؟ قال : نعم تكرمة من الله تعالى».

أقول : هذا يختص بملائكة الأرض ، وأما ملائكة السماء وحملة العرش فلا يعلم كيفية سجودهم ، ولا يستفاد من هذا الحديث ذلك.

وفي تحف العقول عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّ السجود من الملائكة لآدم إنّما كان ذلك طاعة لله ، ومحبة منهم لآدم».

أقول : تقدم وجه ذلك.

وفي الإحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام): «إنّ يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عن معجزات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مقابلة معجزات الأنبياء (عليهم‌السلام) فقال : هذا آدم أسجد الله له الملائكة فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي (عليه‌السلام) : لقد كان ذلك ، ولكن أسجد الله لآدم الملائكة ، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزوجل ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ، ورحمة من الله له».

أقول : هذه الرواية ظاهرة في أنّ السجود كان لله تعالى ، ومحبة لآدم (عليه‌السلام) كسابقه فقوله (عليه‌السلام): «أنّهم عبدوا آدم» مدخول النفي أي لم يكونوا كذلك.

العياشي عن جميل بن دراج قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن إبليس أكان من الملائكة ، أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال (عليه‌السلام) : لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها ، وكان الله يعلم أنه ليس منها ، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ، ولا كرامة ، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر. وقال كيف لا يكون من الملائكة؟ والله يقول للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). فدخل عليه الطيار فسأله وأنا

عنده فقال له : جعلت فداك قول الله عزوجل : يا أيّها الذين آمنوا في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟ فقال (عليه‌السلام): نعم يدخلون في هذه المنافقون والضلّال ، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول : تقدم ما يتعلق به ، وهذا الحديث شاهد للجمع بين ما يظهر منه أن إبليس كان من الملائكة ، وما يكون ظاهرا أنه ليس منهم.

وفيه أيضا عن جميل بن دراج عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من أمر السماء؟ قال (عليه‌السلام) : لم يكن من الملائكة ، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ، وكان مع الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها ، وكان الله يعلم أنّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان».

وفي تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث «فقيل له : كيف وقع الأمر على إبليس ، وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال (عليه‌السلام) : كان إبليس منهم بالولاء ، ولم يكن من جنس الملائكة ، وذلك أنّ الله خلق خلقا قبل آدم وكان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء وكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم».

وفي الكافي سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام): «عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه‌السلام) الكفر أقدم ، وذلك أن إبليس أول من كفر وكان كفره غير شرك ، لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله ، وإنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك».

وفيه أيضا عن موسى بن بكر الواسطي قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه‌السلام) : ما عهدي بك تخاصم الناس؟! قلت : أمرني هشام بن الحكم أن أسألك عن ذلك. فقال لي : الكفر أقدم وهو الجحود ، قال الله تعالى لإبليس : أبى واستكبر وكان من الكافرين».

أقول : تقدم ما يصلح لشرح ذلك ، والمراد من قوله : «وهو الجحود» لا بد

وأن يحمل على جحود الطاعة ، لا جحود أصل الذات.

وفيه أيضا عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه‌السلام): «إن أول من كفر بالله حيث خلق الله آدم كفر إبليس حيث رد على الله أمره ـ الحديث ـ»

أقول : هذا شاهد لما قلناه آنفا.

القمي : «خلق الله آدم فبقي سنة مصورا ، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول : لأمر مّا خلقت. فقال العالم (عليه‌السلام) : فقال إبليس : لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته ـ إلى ان قال ـ ثم قال الله تعالى للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) ، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد».

أقول : هذا ظاهر في أمرين : أحدهما : أنه كان بانيا على معصية الله في هذا الموضوع.

الثاني : أنّ السجود لآدم (عليه‌السلام) كان كالمغروس في أذهانهم قبل خلقه في الجملة.

وعنه أيضا عن الصادق (عليه‌السلام): «الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها. قال (عليه‌السلام) فقال إبليس : رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، فقال جلّ جلاله : لا حاجة لي في عبادتك ؛ إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد».

أقول : قد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن عبادة المعبود لا بد وأن تكون من حيث ما أراده المعبود دون ما يريده العابد ، فالعبادة : هي فعل ما عيّنه المعبود فقط. وأما ما يخترعه العابد من عند نفسه ، أو لا يعلم أنها مجعولة من قبل المعبود ، فمقتضى القاعدة العقلية ـ وهي قاعدة وجوب دفع الضرر ، خصوصا إذا كان عقابا ـ هو بطلان العبادة ، وعدم صحة نسبة العبادة المشكوكة اليه. فما ذكره إبليس في الحديث باطل من حيث حكم العقل أيضا كسائر خطواته.

في المعاني عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام): «كان اسمه الحارث

سمي إبليس ، لأنه أبلس من رحمة الله».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه‌السلام) في حديث : «إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فزعه أمر فأنزل الله تعالى قرآنا يتأسى به ، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس أبى ، ثم أوحى الله يا محمد إني أمرت فلم أطع فلا تجزع أنت أمرت فلم تطع».

أقول : هذا من الحكم في خلق إبليس ، وقد تقدم بعض ما يتعلق بذلك.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

بعد أن فرغ الله تبارك وتعالى عن بيان بعض الجهات النوعية لخلق الإنسان حيث جعل الخلافة الإلهية فيهم ، وعلّم الخليفة الأسماء كلها وجعله معلما لملائكته شرع عزوجل في بيان بعض الجهات الشخصية لآدم (عليه‌السلام) فأسكنه الجنّة إجلالا له وراحة وامتحنه ببعض التكاليف.

التفسير

قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ). السكون : مقابل الحركة. وهو من الأمور الإضافية ، فتارة : سكون عن مطلق الحركة ولو في محل نفس الشيء ، فيقال : سكن الماء عن الجريان ، وسكنت النفس عن الحركة ، قال تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً)

[سورة الأنعام ، الآية : ٩٦]. وأخرى : في مقابل الحركة عن محل إلى آخر ، ومنه المسكن فإن الساكن له الحركة في مسكنه والتردد في حوائجه ، فيطلق على محله المسكن والإسكان ، وثالثة : يراد ترك حركات خاصة ، من التكبر ، والتجبر ، والترف ونحوها ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» فذات المعنى في الجميع واحدة ، والاختلاف يحصل من أطوار الاستعمالات ، وقد استعملت في القرآن ويأتي نقلها إن شاء الله تعالى.

والمستفاد من هذه الآية وسائر الآيات المتضمنة لهذه القصة أن خلق زوجة آدم (عليه‌السلام) كان قبل دخول الجنّة فدخلاها معا إتماما للنعمة التي منها الأنس والاستيناس لا سيما في الجنّة التي أعدت للترفه بكل لذة.

ثم إنّ في المقام بحثين :

الأول قد فصل خلق آدم (عليه‌السلام) في الكتاب والسنة بما لا مزيد عليه وأوضح في الجملة أيضا بما لا يبقى معه محل للارتياب ولكن لم يرد في الكتاب العزيز ما يستفاد منه كيفية خلق زوجته حواء إلّا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [سورة النساء ، الآية : ١] ؛ وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٩]. ولعل السر في ذلك أن من أدب القرآن الستر في النساء ، مع أنه يكفي بيان خلق آدم عن ذلك.

وكيف كان فالآيات المتقدمة : مجملة لا يعلم المراد منها. نعم ورد في بعض الأخبار أنها خلقت من ضلع آدم (عليه‌السلام) ، وقد ورد في الحديث : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج» ، وسيأتي نقل الأخبار في البحث الروائي.

والوجوه المتصورة في هذه الأخبار ثلاثة : الأول : قطع عضو من آدم (عليه‌السلام) وهو الضلع الأيسر بعد إتمام خلقته ، ونفخ الروح فيه ، وخلق زوجته من هذا العضو المقتطع.

الثاني : نفس الوجه السابق قبل نفخ الروح فيه ، فإنه بعد تمامية الهيئة والمادة قطع العضو وخلق منه زوجته. وهذان الوجهان بعيدان جدا ، وفيهما من القبح ما لا يخفى.

الثالث : أنه بعد خلق آدم (عليه‌السلام) من الطينة فضل منها شيء بحيث لو استعملت في آدم (عليه‌السلام) لكان استعمالها في ضلعه الأيسر ، فكان خلق زوجته من هذه الفضالة فالطينة واحدة فيهما والتبعية متحققة.

والوجه الأخير هو المتحصل مما وصل إلينا من الأخبار في تفسير الآيات الشريفة ، وهو الموافق للذوق السليم ، والعقل المستقيم. ويمكن أن يراد من قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٩] ذلك ولا ينافي ما اخترناه في الآيتين المتقدمتين ، لأن المستفاد مطلق المشابهة الجنسية بعد ملاحظة جميع الآيات ، فإن قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [سورة الروم ، الآية : ٢١] قرينة لما ذكرناه وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع في المقام.

البحث الثاني : في جنة آدم (عليه‌السلام) وقد اختلفت آراء العلماء والمفسرين فيها ، وعمدة الأقوال ثلاثة :

القول الأول : إنّها جنّة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين في الآخرة واستدلوا بأنها ذكرت في الآيات السابقة ، وظواهر بعض الأخبار.

وهذا القول ممتنع ، لأنه من قبيل تقديم المعلول على العلة ، لأن نعيم الجنة ، وعذاب الجحيم إنما يحصلان بالعمل كما هو ظاهر الآيات والأحاديث ، بل إن الجنّة والنار قيعان محض وإنما تعمران بالأعمال كما في الحديث ، ولم يصدر من آدم (عليه‌السلام) وحواء عمل بعد حتّى تكون لهما جنة الآخرة. مع أن مجرد الإطلاق لا يكفي في الانطباق على جنة الخلد ما لم تكن قرينة على الخلاف إلّا إذا أرادوا من جنّة الخلد ما يأتي بيانه.

القول الثاني : إنّها من جنان البرزخ وادعي الكشف لإثباته بل عن

بعض من يدعيه أنه دخلها ولم يزل يدخلها.

وهذا باطل لما ثبت في محله من أن دعوى الكشف لا تستقيم إلّا بأمرين : الأول : كون من يدعيه كاملا من حيث العلم بالفلسفة الإلهية ، والعمل بالأحكام الشرعية. والثاني : ورود تقرير من الشرع لما كشف. وكل ذلك ممنوع في من يدعي الكشف في المقام. نعم لا ريب في وجود أصل عالم البرزخ بنصوص متواترة يأتي نقلها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

القول الثالث : إنّها جنة من جنان الدنيا خلقها الله تعالى لإسكان آدم (عليه‌السلام) وحواء. وهذا هو المتعين بل منصوص عليه في الجملة كما يأتي في البحث الروائي.

وقد أيد هذا القول بأمور :

أحدها ـ أنها لو كانت جنة الخلد لما وقع فيها تكليف ، لأنها دار النعيم والراحة لا دار التكليف.

الثاني : أنّها لو كانت جنة الخلد لما خرج منها آدم (عليه‌السلام) وحواء لفرض أنها دار الخلد.

الثالث : أنّ الجنّة الموعود بها لا يدخلها إلّا المؤمنون المتقون فكيف يدخلها إبليس.

الرابع : أنّها لو كانت جنّة الخلد كيف يقول الشيطان لآدم (عليه‌السلام) : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [سورة طه ، الآية : ١٢٠] ، فإنّه ليس له أن يقول ذلك.

ولكن يمكن المناقشة في هذه الأمور بأن ذلك كله صحيح إذا كان المراد من جنّة الخلد هي التي أعدت للمتقين بعد الحشر والنشر والفراغ من الحساب. وأما قبل وقوع ذلك وكون المورد من مادة الجنّة فقط فلا دليل على امتناع ما ذكروه من عقل أو نقل ، فيكون نظير ما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» وقوله

(صلى‌الله‌عليه‌وآله): «منبري على ترعة من ترع الجنّة» ، مع أنه يحضر في تلك الروضة المقدسة البر والفاجر.

وكيف كان فالجنّة هي من جنان الدنيا أعدها الله تعالى لآدم (عليه‌السلام) وحواء إجلالا لهما ولاحتياجهما إلى الغذاء والراحة ، ويرشد الى ذلك ما ذكرناه سابقا من أن آدم (عليه‌السلام) خلق من الأرض وفي الأرض وللأرض ، وقد سخر الله تعالى له الأرض والسماء بعد تعليمه الأسماء كلها وجعله خليفة فيها. نعم وقع الكلام في محل هذه الجنّة ، ويأتي بعد ذلك بيانه إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يكون المراد من جنة الخلد ما ذكرناه ، ومن جنة البرزخ ما ذكره الفلاسفة : من أن لجميع الموجودات نحو وجود برزخي في مقابل سائر أنحاء وجوده قد يظهر ذلك لأهله ، كما يظهر جملة من الموجودات في عالم النوم للنائم.

قوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما). الأكل معروف ، ويعبر عنه بمطلق الصرف والإنفاق أيضا كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٩] ويمكن تأييد هذا ببعض الأخبار الواردة في المقام. والرغد : الطيب الواسع الهنيء ، ويمكن أن يكون قوله تعالى : (حَيْثُ شِئْتُما) تأكيدا لمعنى الرغد إذا لوحظ الرغد بالمعنى الأعم من السعة في المكان والزمان ، وسائر الخصوصيات والجهات ، فتدل على الإباحة المطلقة إلّا الشجرة الخاصة ؛ وأن ذلك هو معنى رغد العيش لغة ، فيستفاد منه التوسعة في جميع وسائل النعمة والراحة لهما.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ). القرب المنهي عنه في المقام كناية عن كثرة الاهتمام بترك المنهي عنه ، فكأنه تعالى نهى عن الاقتراب منه فضلا عن ارتكابه وهو كثير في القرآن الكريم والمحاورات الصحيحة قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥١] ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٢] ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٤] فيكون محصل المعنى التأكيد

والمبالغة في ترك الأكل من الشجرة ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٢].

ويمكن أن يكون النهي عن نفس القرب موضوعية خاصة ، لأن من يقترب إلى المبغوض يوشك أن يقع فيه كما قال علي (عليه‌السلام) «المعاصي حمى الله ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

ولم يبين سبحانه الشجرة التي نهى آدم (عليه‌السلام) عنها ، وقد اختلفت الروايات في تعيينها ، وتفاوتت أقوال المفسرين فيها بين الإفراط والتفريط ، فعن بعض أنها شجرة الكافور ، وعن آخر أنها السنبلة ، وعن ثالث أن البحث عنها لغو لا فائدة فيه. فإن كان مستند هذه الأقوال الروايات الواردة في المقام فهي قاصرة سندا ، ولم يحرز كونها لبيان الواقع ، وإن كان غيرها فلم يعلم حجيته.

نعم ، في بعض الأخبار أنّها من شجرة الخلد ، وهو مخالف لما في أخبار أخرى تدل على أنّ الجنّة من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ـ كما سيأتي ـ وتقدم شرح ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّها كانت مثالا لحقيقة الدنيا ، فإنّها تظهر لأنبياء الله تعالى وأوليائه بأشكال مختلفة ، فتارة : في صورة الامرأة كما ظهرت لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ليلة المعراج وظهرت لعلي (عليه‌السلام) ، وأخرى : ظهرت لآدم (عليه‌السلام) وحواء في صورة الشجرة وقد نهى الله عن قربها ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (فَتَشْقى) [سورة طه ، الآية : ١١٧] أي تقع في تعب الدنيا ، كما أن التأمل في مجموع الآيات والروايات الواصلة إلينا في قصة آدم (عليه‌السلام) تدل على أن النهي عن الدنو إلى الدنيا والاقتراب منها لذلك لا سيما لمن اتصف بالخلافة الإلهية ، وسيأتي في البحث الروائي تتمة الكلام.

وكيف كان فإن النهي كان لمصالح كثيرة منها : الإشارة إلى أن الإنسان لم يخلق للبقاء في تلك الجنة ، بل خلق للأرض ، وفي الأرض ومنها ، كما عرفت ، فلا بد وأن تقع هذه المخالفة وكم كانت لها فوائد وآثار لآدم

(عليه‌السلام) وذريته فلولاها لما حظي بمقام الاصطفاء ولما ظهرت آثار حكمته البالغة في خلق الإنسان وغير ذلك من الحكم والمصالح.

قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ). الظلم هو عدم النور وللظلمة مراتب كثيرة فهي تتحقق بإتيان الكبيرة ، أو الصغيرة ، أو ترك الأولى وربما تتحقق في الغفلة عن الله تعالى. والمراد به في المقام الظلم على النفس ، لأن ارتكاب ما لا يرتضيه المعبود ولو على نحو التنزه بالنسبة إلى بعض لا يناسب العبودية المحضة ، فيستفاد من ذلك أن النهي كان من مجرد الإرشاد إلى ما يترتب على ارتكابه من آثار ، كما هي مذكورة في قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [سورة طه ، ١١٨].

فيكون المعنى إنك إن خرجت منها تمنع نفسك من الكرامة والنعيم ، وتلقى هذه المصاعب وهي عبارة أخرى عن الشقاء والتعب الملازم لدار الدنيا ، كما قاله تعالى في آية أخرى ، فلا يكون الارتكاب موجبا لترتب العقاب الأخروي.

قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها). مادة (ز ل ل) تدل على الاسترسال في الشيء بلا تعمد وقصد ولو كان بسبب الترغيب من الغير مكرا وخديعة ، كما في المقام ، فإن الشيطان حملهما على الأكل من الشجرة بما وسوس لهما في قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [سورة طه ، الآية : ١٢٠] ، وقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٠] وقسمه لهما : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢١].

ثم إن الآيات الواردة في المقام ثلاث :

الأولى : هذه الآية وهي لا تدل على وقوع مكروه منهما عن عمد واختيار حتّى يبحث عن أنه كبيرة أو صغيرة ، أو من مجرد ترك الأولى. فهي إرشاد محض إلى ترتب أثر الارتكاب عليه ترتب اللازم على الملزوم. وأما أن هذا اللازم مكروه له تعالى أو غيره فلا يستفاد ذلك منها.

الثانية : قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ

عَزْماً) [سورة طه ، الآية : ١١٥] وهي أصرح في عدم صحة نسبة العمد اليه ، فيكون نظير قصة ذي الشمالين مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) التي رواها الفريقان الدالة على نسيان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الصلاة المحمول على الإنساء ، لمصالح كثيرة.

الثالثة : قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [سورة طه ، الآية : ١٢١].

والحق إن لنفس استعمال هذه العناوين موضوعية خاصة في آدم لمصالح كثيرة ، منها أن لا يخطر في قلب آدم الكبر ، لأنه خليفة الله تعالى ، وأنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء ، وأسجد الملائكة له ، فيكون استعمال العناوين المتقدمة في الآيات المباركة من الله تعالى في آدم (عليه‌السلام) نحو إصلاح تربوي ومعنوي له ، لا أن يكون المراد الواقعي منها بقرينة سائر الآيات والروايات.

قوله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ). أي من النّعم التي شرحها الله عزوجل في قوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) ، وتدل الآية المباركة على أنه لم يخرج عما أعده الله تعالى له من مقام خلافته ، وتعليم الأسماء ، وهذه قرينة أخرى على أن الصادر منهما لم يكن معصية. ثم إن الآية المباركة مترتبة على سابقتها ترتب المسبب على السبب.

قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). الهبوط : النزول من العلو إلى ما دونه ، والمراد به هنا النزول من المحل الذي لا عناء فيه إلى دار التعب والفناء ، والكدورة والشقاء ، ولا اختصاص لذلك بآدم (عليه‌السلام) وحواء ، بل هو جار في مطلق الإنسان ، وقد أثبت ذلك علماء الأخلاق والفلسفة والعرفان.

وربما يتوهم : أنّ الآية تدل على أنّ الخلق كان في السماء فنزل آدم (عليه‌السلام) منها إلى الأرض. ولكنه مردود بأنّ الهبوط أعم من ذلك فإن معناه النزول من محل مرتفع مطلقا كما في قوله تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ) [سورة هود ، الآية : ٤٨] ، وقوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً)

[سورة البقرة ، الآية : ٦١]. وأما الأخبار فيأتي ما يتعلق بها عند نقلها.

والأمر بالهبوط هنا تكويني ، كما في قوله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٦٩] ، وقوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) [سورة هود ، الآية : ٤٤] ، وقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النحل ، الآية : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ويصح أن يكون تشريعيا لوجوب الهجرة عقلا وشرعا لإعلاء كلمة الله تعالى كما كان شأن جميع الأنبياء والرسل والأولياء ، فكما أنّ للهبوط دخلا في نظام التكوين تكون للهجرة دخل في نظام التشريع فهذا الأمر تكويني من جهة وتشريعي من جهة أخرى.

ومورد الخطاب إما آدم (عليه‌السلام) وإبليس ، وإتيان الإثنين بلفظ الجمع شائع ، ويشهد له قوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها) [سورة طه ، الآية : ١٢٣] ، أو هما مع حواء ، أو الذرية ، وقد وردت بالنسبة إلى بعضها روايات ، ولا فائدة في البحث عن ذلك بعد تحقق المقصود وهو الهبوط بالنسبة إلى الجميع والمعاداة بينهم.

وهذه العداوة تكوينية اقتضائية حاصلة من التنافي والتباين بين الأنواع المختلفة ، والصفات المتغائرة ، وما الدنيا إلّا جمع المتخالفات وتفريق المجتمعات ، وهي دار الكون والفساد.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ). هذا بيان حكمة ارشاد آدم (عليه‌السلام) الى ترك الأكل ، وهناك حكم أخرى تأتي في الآيات المناسبة لها.

والمستفاد من هذه الآية المباركة أن الأرض هي الغاية من حياة الإنسان فقط فقد خلق آدم (عليه‌السلام) للأرض للتمتع بخيراتها والبقاء فيها إلى وقت محدود. وأنها دار الأضداد والعداوة والشقاء تكوينا ، لكونها دار الكون والفساد ، وهداية خلفاء الله تعالى وإغواء الشياطين.

كما أنّ هذه الآيات وغيرها مما ورد في قصة آدم (عليه‌السلام) تدل على أن هؤلاء الثلاثة كان يرى أحدهم الآخر قبل الهبوط قال تعالى : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [سورة طه ، الآية : ١١٧] ، وقال تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) [سورة طه ، الآية : ١٢٠] وغير ذلك من الآيات والروايات ، وأما بعد الهبوط فلا يراه إلّا بعض أنبياء الله تعالى وأوليائه.

قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). التلقّي : القبول والأخذ بعد البيان والذكر. والمراد بالكلمات هنا كل ما يكون له أثر في رفع الحزازة الحاصلة من المخالفة ، فهي راجعة إلى إظهار توبته ، وندامته ، واستغفاره ، ويمكن تطبيقها على الدعوات التي ألهمها الله تعالى لآدم (عليه‌السلام) ، كقوله عزوجل : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٣] وغير ذلك مما يأتي في الروايات ، فإنه يكون من باب التطبيق أيضا.

قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

التوب : هو الرجوع. فإذا وصف به الله تعالى يكون إما بمعنى إلهام التوبة إلى العبد وتوفيقه لها ، أو بمعنى رجوع الله وإقباله على العبد بعد مخالفته وعصيانه. وإذا وصف به العبد يكون بمعنى الندم عما فعل ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كفى بالندم توبة» ولا يلزم أن تكون التوبة من الذنب ، بل تصح عن التوجه إلى غير الله تعالى ولو كان مباحا فإن «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

وكل توبة من العبد تلازم أمورا ثلاثة : الأول ـ توفيق الله عبده للتوبة برجوعه تعالى عليه بعد العصيان ، قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة التوبة ، الآية : ١١٨].

الثاني : توبة العبد وندمه عن المعصية.

الثالث : قبوله تعالى توبة العبد ، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها.

والتواب إما بمعنى قبول التوبة عن عباده كثيرا بحسب كثرة التائبين أو أنه عزوجل يقبل توبة العبد الواحد وإن صدر الذنب عنه متعددا ، أو يكون بمعنى كل منهما ، وجميع ذلك صحيح.

والجمع بين وصفي التواب والرحيم فيه إيماء إلى أنه تعالى يتفضل على التائب ، مضافا إلى العفو والمغفرة بالإحسان إليه.

وفي مثل هذه الآية المباركة دلالة واضحة على أن الله تعالى هو الذي يلهم عباده التوبة ويقبلها ، وأن بابها مفتوح من حين هبوط آدم (عليه‌السلام) إلى انقراض العالم ، بل التوبة من أهم ما انتفع به الإنسان من الهبوط إلى الأرض ، فإنه تعالى جعل من حكمته التوبة والعصيان قريني الإنسان كفرسي الرهان ، فهذه الآية المباركة في مقام بيان بعض حكم الهبوط وفي الآية التالية البعض الآخر.

قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). قد ذكر سبحانه وتعالى الهبوط مرتين :

الأولى ـ لبيان أصل الهبوط من الجنّة إلى دار الشقاء والعناء والعداء ، كما عرفت.

والثانية : لبيان الغاية من هذا الهبوط وهي ظهور سعادة السعداء ، وشقاوة الأشقياء فالآية تبين الغرض من الخلق ، وأنّه كان في الأرض ، والخطاب هنا ظاهر في الجميع أي : آدم (عليه‌السلام) وذريته.

ويمكن أن يقال : إنّ الهبوط الأول من حيث الجهات المادية الجسمانية أي الدنيوية. والهبوط الثاني من حيث الاستكمالات المعنوية في سلسلة الصعود إلى المقامات العالية الإنسانية ، ولذا ذكره تعالى بعد التوبة والرجوع إلى الله عزوجل ، وأنه الغاية القصوى من الهبوط ، وذكر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). بعنوان مستقل لئلا يتوهم أحد أنه غاية الهبوط أيضا ، بل هو أمر اختياري حاصل لمن اختار ذلك بعمده واختياره.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). جملة خبرية في مقام الإنشاء ، يعني أنّ من اتبع هدى الله تعالى ينبغي أن لا يخاف من غيره ، ولا يحزن لما فات عنه ، لأنّ متابعة العبد لهداية الله تعالى توجب انقطاعه اليه وهو يستلزم نفي الحزن والخوف عنه في الدارين ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٧] ، وكذا قوله تعالى : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، هذا من جهة المتابعة. وأما من جهة العبودية فيعرضه الحزن ، لأنه ما بين الخوف والرجاء ، كما في كثير من الروايات.

والمراد بالهداية في هذه الآية المباركة جميع الشرائع السماوية كل بحسب زمانه وعصره. والمراد من المتابعة هنا الالتزام بها عملا واعتقادا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). مادة كفر في مطلق استعمالاتها تدل على الستر ـ كما تقدم ـ سواء أكان متعلقه أصل الإيمان أم الطاعة فيساوق الفسق من هذه الناحية ، أم عن الشكر فيساوق الكفران. والتكذيب خلاف التصديق ، وكل منهما أعم من القول والفعل. وآيات الله علاماته كتوحيده وعبادته ومعاده من حيث الثواب والعقاب فيثبت بتكذيب كل واحد منها كفر الجحود. وإنما ذكر تعالى الكفر الخاص أي التكذيب بعد العام أي مطلق الكفر ، لينبه على الجحود الذي هو موجب للخلود في النار.

ثم إنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق آدم (عليه‌السلام) هنا ، وفي سورة الأعراف ، وسورة طه أن له مراحل عشرة ولا تخلو ذريته عنها أيضا.

الأولى : مرحلة ما قبل نفخ الروح وهي بمنزلة الجنين في سائر أفراد الإنسان.

الثانية : مرحلة نفخ الروح وهي بمنزلة تكريم المولود وهي حالة اعتناء

الله تعالى بآدم (عليه‌السلام) وتعظيمه وأمره بسجود الملائكة له.

الثالثة : مرحلة التربية ، وهي تعليم الله تعالى الأسماء كلها لآدم (عليه‌السلام) ، وهي بمنزلة تعليم الوالدين وتربيتهما للولد.

الرابعة : مرحلة بيان الفضل وهي مرحلة السجود لآدم (عليه‌السلام) وإظهار فضل المسجود له على الساجد ، وهذه المرحلة توجد في ذريته ، وهي حياة التفاضل والتفاخر.

الخامسة : مرحلة التمتع واللعب وهي مرحلة إسكان آدم (عليه‌السلام) الجنة.

السادسة : مرحلة تزاحم الأهواء ، والأفكار ، والآمال وهي مرحلة ارشاد آدم (عليه‌السلام) إلى ترك الأكل من الشجرة التي قلنا إنها بمنزلة الوجود المثالي للدنيا لئلا يقع في متاعبها ومشاقها ، وهي مرحلة التميز في أفراد الإنسان.

السابعة : مرحلة التمايل الجنسي وتوليد المثل ، وهي مرحلة ظهور السوأة (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [سورة طه ، الآية : ١٢١] ، وهي ظاهرة في أفراد الإنسان.

الثامنة : مرحلة العيش والبقاء الدائمي المستفاد من تعليق قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) [سورة طه ، الآية : ١١٨] على ترك الأكل من الشجرة ، والعيش والبقاء غير الدائمي المستفاد من قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٦].

التاسعة : مرحلة التكليف والعمل إما في طريق الهداية والإيمان أو الكفر والخسران.

العاشرة : مرحلة النتائج إما الثواب ، أو العقاب.

هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان كما مرت على آدم (عليه‌السلام) أول خليقته ، ويمكن إرجاعها إلى ثلاث مراحل : مرحلة

الأجنة ، مرحلة الطفولة ، مرحلة الرشد والكمال ، وتنطوي في كل مرحلة سائر الحالات المتقدمة وتجري هذه المراحل في النوع البشري وأصول المجتمعات أيضا.

بحوث المقام

بحث روائي :

في الكافي والعلل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «سألته عن جنة آدم؟ فقال : من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا».

أقول : لا يستفاد من هذه الرواية مكانها وإنما يستفاد انها كانت من جنات الدنيا ، ولا بد من التأمل في ذيل هذه الرواية : «ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا» لأن جنات الآخرة لا يخرج أهلها منها بعد عملهم وعمرانهم لها ، وأما أن الحكم كذلك قبل العمل وقبل كل شيء ففيه بحث وتفصيل.

في تفسير القمي : «سئل الصادق (عليه‌السلام) عن جنّة آدم من جنات الدنيا أم من جنات الآخرة؟ فقال : كانت من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنات الآخرة ما أخرج منها أبدا».

أقول : تقدم ما يتعلق بها في سابقها.

العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام): «(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) يعني : لا تأكلا منها».

أقول : قد مر أنه يمكن إرادة نفس القرب أيضا اهتماما بالنهي فيكون ذكر الأكل من باب ذكر النتيجة.

تفسير العسكري في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ). شجرة العلم شجرة علم محمد وآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذين آثرهم الله عزوجل به دون سائر خلقه ، فقال تعالى : لا تقربا هذه الشجرة ؛ شجرة العلم ، فإنها لمحمد وآله خاصة ، دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلّا

هم ـ ثم قال (عليه‌السلام) ـ وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر ، والعنب ، والتين ، والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة. فلذلك اختلف الحاكمون لذكر الشجرة ، فقال بعضهم : هي برة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي تينة ، وقال آخرون : هي عنابة».

أقول : أما ذيل الحديث فيؤيد ما قلناه : من أن الشجرة كانت مثالا للدنيا وما فيها بحسب الوجود المثالي. وأما صدره فيمكن حمله على أن لبعض تلك الأشجار نحو أثر خاص لم يظهر ذلك إلّا لبعض أولياء الله تعالى ، كما يدل عليه ما ورد في بعض أخبار الطينات.

في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي : «قلت للرضا (عليه‌السلام) : يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها ، فمنهم من يروي أنها الحنطة ، ومنهم من يروي أنها العنب ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟ فقال (عليه‌السلام) : كل ذلك حق. قلت : فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال يا ابن الصلت : إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا».

أقول : لا ريب في أن تلك الجنّة ولو كانت من الدنيا لها خصوصية ليست تلك الخصوصية في جميع جنات الدنيا ، ومن جهة قلة التزاحم والتنافي في تلك الجنّة أو عدمهما ، فيصح أن تحمل شجرة منها أنواعا من الثمار ، فلا تنافي بين هذه الرواية وبين ما قلناه سابقا ، وقد دلت روايات أخرى متعددة على أنها شجرة الحنطة ، ولا تنافي ما تقدم.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه‌السلام): «إن لله إرادتين ومشيتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلب مشيتهما مشية الله؟!! وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشية الله».

وفيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «أمر الله ولم يشأ وشاء ولم

يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ؛ ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل».

أقول : بيان مثل هذه الأخبار يحتاج إلى شيء من الشرح والتفصيل موكول إلى محله. المعروف بين العلماء أن الإرادة إنما هي الشوق المؤكد الحاصل بعد التصور والتصديق ، وهذا في إرادة المخلوق واضح لا ريب فيه ؛ وحيث إن هذا المعنى في الذات الأقدس الربوبي يستلزم كون الذات محل الحوادث وهو ممتنع ، ولذا جعل الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) الإرادة بجميع مقدماتها من صفات الفعل لا الذات وصرحوا بأن المشية والإرادة محدثة ، وبذلك تنحل جميع الإشكالات الواردة على إرادته تعالى التي وقع الفلاسفة في اضطراب عظيم في الجواب عنها ، لأنهم ذهبوا إلى أن الإرادة في مرتبة ذاته الأقدس والاختلاف بين الصفات إنما يكون في المفهوم دون المصداق. ولعلنا نتعرض لمذهبهم والجواب عنه في الموضع المناسب.

وعن جمع من أكابر المحققين إرجاع الإرادة فيه عزوجل إلى الرضاء ، وابتهاج الذات بالذات ، وفصل القول في ذلك ، وهذا القول وإن كان حسنا ثبوتا ، ولكن لا ربط له بالإرادة ، ويحتاج إلى تكلف وعناية.

ثم إنّ الإرادة إما تكوينية أو تشريعية ، فإن تعلقت بفعل ذات المريد فهي تكوينية ، وإن تعلقت بفعل الغير وكانت كإيجاد الداعي لأن يفعل الغير ذلك الفعل بحيث لو لا هذا الداعي لا يفعله تكون تشريعية. فتكون إرادته تعالى بالنسبة إلى النظام الأتم الأكمل من الأولى ، وبالنسبة إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل من الثانية ، هذا بحسب الظاهر ، وأما بحسب الواقع والحقيقة فالثانية ترجع إلى الأولى ، فإن من أحسن النظام وأتمه وأكمله في عالم التكوين إنزال الكتب وإرسال الرسل.

وأما قوله (عليه‌السلام): «أمر الله ولم يشأ» فالمراد بالأمر الأمر التشريعي الظاهري ، والمراد بمشية العدم المشية التكوينية الاقتضائية كما أن المراد بنهي آدم (عليه‌السلام) النهي الإرشادي الظاهري والمراد بمشية الأكل المشية التكوينية الاقتضائية ، وفي كل ذلك مصالح لا تعد ولا تحصى.

وعليه يحمل ما في الرواية الأخرى : «إن لله إرادتين ومشيئتين» وهذه الروايات صريحة في أن ما صدر من آدم (عليه‌السلام) لم تكن من المعصية ، كما عرفت. والمراد من قوله «ونهى آدم عن أكل الشجرة» أي القرب منها ، كما تقدم ، وسيأتي في بعض الروايات التصريح بذلك.

وفي العلل عن الباقر (عليه‌السلام): «والله لقد خلق الله آدم للدنيا ، وأسكنه الجنّة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه».

أقول : وهذه الرواية نحو شرح وبيان لجميع الأخبار الواردة في المقام وهي دليل على ما قلناه مرارا : من أن آدم (عليه‌السلام) من الأرض وللأرض.

في إكمال الدين عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إن الله عزوجل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها ، وهو قول الله عزوجل : ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما».

أقول : يصح أن يراد بالنسيان الإنساء يعني : أنساه الله تعالى لتجري مقاديره الأزلية ، كما مر في حديث ذي الشمالين في صلاة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

العياشي في تفسيره عن أحدهما (عليهما‌السلام) «وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان»؟ فقال : «إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين».

أقول : هذا الحديث قرينة واضحة ـ لما تقدم من الأخبار ـ على أن المراد بالنسيان الإنساء.

في العيون عن علي بن محمد بن الجهم قال : «حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى (عليه‌السلام) فقال له المأمون : يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟

فقال : بلى. قال : فما معنى قول الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)؟ قال : إن الله تعالى قال لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ). وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين ، ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ، ولا مما كان من جنسها ، فلم يقربا تلك الشجرة ، ولم يأكلا منها ، وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما ، وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة. وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ، ولم ينهكما أن تأكلا منها إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ، ولم يكن آدم وحواء شاهدين قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا ، فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار ، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم ، فلما اجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ، وقال عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

أقول : مثل هذه الروايات الواردة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) خصوصا مولانا الرضا (عليه‌السلام) في الجواب عن الإشكالات التي أوردت على عصمة الأنبياء (صلوات الله عليهم) لا يختص بأن يجيب بها الإمام (عليه‌السلام) ، بل يمكن أن يجاب بكل وجه صحيح يجمع به بين الأدلة الدالة على العصمة ، ومثل هذه الآيات الموهمة للتنافي بينها وبين العصمة ، ولنا أن نجيب عن الإشكال في هذا المجال بكل ما يقبله الطبع السليم والذهن المستقيم. ولكن في رواية ابن الجهم جهات من البحث :

(الأولى) : في سند الحديث علي بن محمد بن الجهم وقد ضعفه كل من تعرض له فلا اعتبار بمثل هذا الحديث ، وسياق المتن يدل على أنه ليس من الإمام (عليه‌السلام) ، خصوصا من مثل مولانا الرضا (عليه‌السلام) ، بل هو من المفتعلات عليه.

(الثانية) : قوله : «وإنما أكلا من غيرها» مخالف لصريح الآية المباركة

الدالة على أن الأكل كان من نفس الشجرة المنهي عنها ، كما تقدم.

(الثالثة) : قوله : «وكان ذلك قبل النبوة» مخالف لإجماع أهل البيت والإمامية من عصمة الأنبياء مطلقا ، كما سيأتي في البحث الكلامي فلا بد من طرح الحديث.

وعن أبي الصلت الهروي في الأمالي قال : «لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه‌السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والصابئين وسائر أهل المقالات ، فلم يقم أحد حتّى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا ، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له : يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال : بلى. قال : فما تعمل بقول الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ـ إلى أن قال ـ فقال مولانا الرضا (عليه‌السلام) : ويحك يا علي اتق الله ، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تتأول كتاب الله عزوجل برأيك ، فإن الله عزوجل يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). أما قوله عزوجل في آدم : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه ، وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عزوجل ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

أقول : وهذا الحديث شاهد لما قلنا في الحديث السابق وقوله : «فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفته في بلاده» ظاهر بل ناص في عدم صدور المعصية منه من حين نفخ الروح فيه كما تدل عليه نصوص مستفيضة أن أول ما خلقه الله عزوجل هو الحجة ، وآخر من يذهب من الدنيا هو الحجة.

وأما قوله : «وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض» تقدم ما يتعلق به من أنه ليس من النهي الموجب للمعصية الاصطلاحية وإنما هو ارشاد إلى عدم وقوعه في متاعب الدنيا ومشاقها ، كما مر.

علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «أن موسى سأل ربه أن يجمع بينه وبين آدم (عليه‌السلام) فجمع ، فقال له موسى (عليه‌السلام) : يا أبت ألم يخلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك الملائكة ، وأمرك ان لا تأكل من الشجرة ، فلم عصيته؟ فقال : يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي؟ قال : بثلاثين ألف سنة. فقال : هو ذاك. قال الصادق (عليه‌السلام) : فحج آدم موسى».

أقول : رواه الفريقان ، كما في كنز العمال عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومعنى الرواية احتج آدم على موسى وغلب عليه ، والمراد بوجدان خطيئة آدم قبل خلقه التقدير الاقتضائي لله تبارك وتعالى باختيار آدم (عليه‌السلام).

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) وأنا حاضر : كم لبث آدم وزوجته في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ، ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك ، فو الله ما استقر فيها إلّا ست ساعات من يومه ذلك حتّى عصى الله تعالى ، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ). فاستحى آدم فخضع وقال : ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ، قال الله لهما : اهبطا من سماواتي الى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي».

أقول : تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم (عليه‌السلام) ، وقوله : «وصيرا بفناء الجنة» يستفاد من هذه الجملة أمران : الأول : تكرر الهبوط ـ كما في غيرها من الروايات ـ الأول إلى فناء الجنّة ، والثاني منها إلى الأرض.

الثاني : يمكن أن يستفاد منه أن الشيطان لم يدخل الجنّة بعد ترك السجود ، بل كان في فناء الجنّة فحصلت مكالمة بينه وبين آدم في هذا المكان.

روى الصدوق عن أبي جعفر عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «إنما كان لبث آدم وحواء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتّى أهبطهما الله من يومهما».

أقول : تقدم في الحديث السابق أن زمان الاستقرار في الجنّة كان ست ساعات ، ولا تنافي بينهما إذ الحصر ليس حقيقيا حتّى يحصل التنافي ، بل هو إضافي وتقريبي.

في تفسير العسكري : «كان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنّة وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه ولم يعلم أن إبليس قد اختفى بين لحييها ، فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس ـ الحديث ـ».

أقول : وفي رواية أخرى الطاووس ، وكيف كان فقد ذكر الثعبان من حيوانات جنّة آدم في التوراة في قضية الهبوط ، ولعل هذا الحديث وأمثاله مع هذا التعبير مأخوذ منها. وقد ذكرنا سابقا أن إبليس كان يرى آدم ويتكلمان مشافهة فلا معنى للاختفاء والاستتار.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : «اهبطوا بعضكم لبعض عدو فهبط آدم على الصفا ، وإنما سميت الصفا ، لأن صفوة الله نزل عليها ونزلت حواء على المروة ، وإنما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها».

أقول : الروايات مختلفة في محل هبوط آدم وحواء ولا ريب ولا إشكال في أن بعد الهبوط الأول كانت منازل متعددة ، فيمكن الجمع بين تلك الروايات بجعل كل منزل مهبطا له فيكون الهبوط طوليا لا عرضيا.

وفي الإحتجاج : «في احتجاج علي (عليه‌السلام) مع الشامي حين سأله : عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال : واد يقال له سرنديب سقط فيه آدم (عليه‌السلام) من السماء».

أقول : ظهر وجهه مما تقدم في الحديث السابق.

في الكافي عن أحدهما (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل («فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) قال : لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين. لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين. لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم».

أقول : وفي مثل هذا المعنى روايات أخرى مستفيضة عن الخاصة والعامة ، وجميع ذلك من باب التطبيق للآية المباركة ، ولقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

وروى الصدوق في قول الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). قال : «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين».

أقول : ونحو ذلك أخبار أخرى كثيرة ، وتقدم أنه من باب التطبيق على كل ما يمكن أن يتقرب به إلى الله تعالى.

وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال : «سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ فتاب عليه».

وفي الدر المنثور عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه الى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلّا غفرت لي ، فأوحى الله اليه ومن محمد؟ قال : تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى الله اليه : يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك».

أقول : ذيل الحديث منقول من الفريقين ، ومر في روايات كثيرة كما تقدم بعضها.

بحث كلامي :

أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء والرسل (عليهم‌السلام) من الكفر مطلقا ، ولكنهم اختلفوا في بعض الصغريات. وعمدة الأقوال ثلاثة :

الأول : القول بالعصمة مطلقا من جميع الذنوب ، وفي جميع الحالات وهذا هو مذهب الإمامية.

الثاني : القول بالعصمة من الكبائر مطلقا ، وأما الصغائر فإنها جائزة عليهم سهوا. وهذا هو مذهب المعتزلة.

الثالث : القول بالعصمة عن الكبائر عمدا ، ولكنها جائزة عليهم سهوا ، وهذا هو مذهب الأشاعرة. وهناك أقوال أخرى نادرة أجمع المسلمون على بطلانها.

ولم يستدل أصحاب هذين القولين بدليل يصح الاعتماد عليه إلّا ما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهره نسبة الظلم والمعصية إلى بعض الأنبياء (عليهم‌السلام) ، وسيأتي أنه ليس على ظاهره ولا بد من تأويله.

والرأي المناسب لمقام النبوة والرسالة هو القول بعصمتهم مطلقا ـ كما ذهب اليه الإمامية ـ من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها ، عمدا وسهوا قبل البعثة وبعدها. وقبل أن نذكر الأدلة لا بد من بيان معنى العصمة على سبيل الإيجاز ، والتفصيل موكول الى محله.

العصمة : بمعنى المنع والإمساك يقال : عصم عن الشيء أي منعه وأمسكه. ومنه قوله تعالى حكاية عن ابن نوح : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [سورة هود ، الآية : ٤٣] أي : يمنعني منه. والمعصوم هو الممنوع عن فعل المعصية بلا إلجاء واضطرار حتّى ينافي الإختيار ، وإلّا كان العادل أحسن من المعصوم وبعبارة أخرى : إنها عناية خاصة ، وتوفيق من الله تعالى لبعض عباده ، لعلمه الأزلي بصفاء طينتهم وجوهرهم من دون أن يكون ذلك من العلة التامة كسائر عناياته وتوفيقاته عزوجل بالنسبة إلى عباده ، فقد يوفق عبدا لصلاة الليل مثلا ، أو فعل

الخيرات ، وقضاء الحاجات أو الاتصاف بالأخلاق الفاضلة ونحو ذلك ، لا على وجه القهر والإلجاء والضرورة ، بل على نحو إيجاد الداعي إليها.

ثم إنهم استدلوا بأدلة كثيرة على عصمتهم مطلقا لا يخلو بعضها عن المناقشة ، أو رجوع بعضها إلى الآخر. وأحسن تلك الأدلة أمران :

(الأول) : أن حجية القول والفعل والتقرير ـ كما هو المفروض ـ تنافي ارتكاب المنهي عنه عند الله تعالى وعند العباد فيكون ذلك خلقا باطلا بالضرورة.

بيان ذلك : إن العبد إذا كان يرى نفسه حاضرا بين يدي المولى ويحس بشهوده ظاهرا وباطنا كيف تصدر عنه المعصية وهو في هذه الحالة في غيبة منه؟! ورسل الله تعالى يدركون بصفاء طينتهم أنّهم دائما في حضرة القدس يرون مظاهر جماله وجلاله وآثار حكمته ورحمته فلا يخطر في بالهم حالة أنهم في غيبة عن الله تعالى فيها. وهذا معنى ما ورد في أحاديثنا : «إن المعصوم مع القرآن والقرآن معه» فإن المراد بالمعية هي المعية الحضورية الالتفاتية العملية. كما أن المراد بالقرآن جميع الشرائع الإلهية بالنسبة إلى الأنبياء السابقين.

هذا مضافا إلى أن صدور المعصية يوجب تنفر الطباع منهم ، ويصغر شأنهم في أعين الناس ، ويسهل اعتراضهم عليهم مما ينافي حكمة بعث الأنبياء والرسل (عليهم‌السلام) ، بلا فرق بين صدور المعصية قبل البعثة أو بعدها ، كما هو المشاهد في من وصل إلى مرتبة من العدالة.

(الثاني) : الآيات القرآنية الدالة على طهرهم وقداستهم وتأييدهم بروح القدس ، واتصافهم بجميع الأخلاق الفاضلة مما يجعلهم القدوة الحسنة والمثل الأعلى لجميع الناس ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٠] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧٢] ، وقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٠] إلى غير ذلك من

الآيات المباركة.

وبناء على ما تقدم لا بد من تأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة مما يوهم ظاهره خلاف العصمة ، وسيأتي ذلك في مواضعه.

فقد ذكرنا أن ما ورد في آدم (عليه‌السلام) كقوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) لا يدل على صدور المعصية منه ، كما أن قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ظاهره الظلم على نفسه بوقوعه في مشقة الدنيا لا الدخول في النار.

وأما قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه ، الآية : ١٢١] فإنه ليس المراد منه صدور العصيان والغواية منه (عليه‌السلام) ، بل إن لنفس استعمال هذه الألفاظ موضوعية خاصة ، فإن مقام آدم (عليه‌السلام) الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وعلّمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه الجنّة ربما يوجب في نفسه بعض الخطرات المنافية لمقامه (عليه‌السلام) فعصمه الله تعالى بذلك ، وقد يوجب ذلك كله غلو ذريته فيه فيعبدونه فأذهب الله تعالى عنهم ذلك الغلو بما تقدم من الألفاظ.

وكذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه ، الآية : ١١٥] ، فإن عهود الله تعالى ومواثيقه على الأنبياء والمرسلين على قسمين : عهد عام بالنسبة إلى جميع الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨١] ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧]. وعهد خاص بكل نبي حسب الظروف والخصوصيات الزمانية والمكانية التي تحيط بذلك النبي ، والمائز بين القسمين هو القرائن وما يستفاد من السنّة المعتبرة الواردة في حالات الأنبياء (عليهم‌السلام).

والظاهر في المقام هو الثاني ، لأنّ ترك العزم بالنسبة إلى الميثاق العام لا يعقل ، فإنه خلف مع فرض النبوة. نعم هو معقول بالنسبة إلى العهود الخاصة

الظاهرة في الإرشاد ، كما في المقام.

بحث فلسفي

صريح الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن العظيم وجميع الفلاسفة الإلهيين من المسلمين وغيرهم على بديع صنع الله في الإنسان وأنه مخلوق حادث خلقه الله تعالى من الطين بهذه الهيئة المتميزة عن سائر المخلوقات استقلالا من دون أن يكون مرتقيا من مخلوق آخر ـ نباتا أو حيوانا ـ وتقتضي ذلك قاعدة «إمكان الأشرف» التي أسسها الفلاسفة في سلسلة الخليقة ، فإن أقرب الموجودات إليه تعالى وأشرفها لديه لا بد وأن يقع في سلسلة الفيوضات الإلهية الأول فالأول عند نزول الفيض منه عزوجل حتّى يصل المستفيض إلى أدنى مرتبة الحضيض ، إذ لا ريب في أنه تعالى كامل بذاته وصفاته وفعله فلا يتصور نقص في جهة من جهاته عزوجل.

وما يتوهم من النقص في الأفعال يرجع إلى أمرين :

أحدهما ـ عام للجميع ، وهو الإمكان ، والاحتياج ، فإنّ ما سواه ممكن محتاج إليه عزوجل.

والثاني : من خصوصيات أفراد الممكنات ، ومقتضى تمامية فعله تعالى أن يكون أول مخلوقاته أشرفها ثم بعد ذلك الأشرف فالأشرف في سلسلة الأنواع الكلية التي يكون نوعها منحصرا في الفرد حتّى يصل الخلق إلى الماديات التي هي منشأ التكثر والانتشار.

إن قلت : نعم قاعدة «إمكان الأشرف» متفق عليها بين الفلاسفة ـ المسلمين منهم واليونانيين ـ وتقتضيها جملة من الأدلة النقلية أيضا ولكنها مخالفة لظاهر الآية المباركة (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [سورة البقرة ، الآية : ٣١] ، وظاهر جميع الكتب السماوية من خلق الدنيا ـ والمسميات ـ في الجملة قبل خلق آدم (عليه‌السلام) كما عرفت في البحث الروائي السابق.

قلت : مورد القاعدة إنما هو فيما إذا كانت السلسلة واحدة ففي سلسلة

المجردات والروحانيين أول ما خلق الله العقل ، ثم الأشرف فالأشرف حتّى يصل إلى آدم (عليه‌السلام) ، وفي سلسلة الماديات والأعراض يكون الأشرف فالأشرف أشياء أخرى تقدم بعضها في تفسير سورة الحمد في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ). ويمكن أن تكون السلسلة الأخيرة متقدمة من بعض الجهات على بعض أفراد السلسلة الأولى ، إذ لا تنافي في ذلك.

وتوهم : أن أصل القاعدة إنما يتم بناء على لزوم السنخية بينه جل شأنه وبين خلقه ، وقد أبطلتها الشرائع المقدسة فلا موضوع لقاعدة «إمكان الأشرف» أصلا.

غير صحيح ، لأنه لا ربط للسنخية بهذه القاعدة أبدا لما أثبتناه في الفلسفة الإلهية من أنّ السنخية على فرض اعتبارها إنما هي في الفاعل الموجب لا في الفاعل المختار ، والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) جعلوا إرادته تعالى عين فعله حتّى لا يلزم توهم هذه المحاذير.

فاحتمال تطور الإنسان عن ذي حياة آخر فاسد كما عرفت ، هذا كله في فعل الله عزوجل.

وأما فعل المخلوق أي سلسلة استكمال المفاض عليه ، يكون الأمر بالعكس فيتعلق الخلق بالداني أولا ثم يترقى إلى مرتبة الكمال لفرض أنه مستكمل بغيره مطلقا ، قال تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] وللبحث تتميم يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ولكن ذكر بعض الفلاسفة الطبيعيين استنادا الى قانون العلية في الأمور الطبيعية ، وأنّ كل حادث طبيعي لا بد أن يستند إلى سبب طبيعي كذلك ، وقد تفرع عن هذا القانون الأصل المنسوب إلى داروين القائل بالنشوء والارتقاء والتكامل وبقاء الأصلح ، فقد ذكر أن الإنسان لم يصل إلى هذه المرحلة الفعلية من الكمال إلّا بانتقاله من المراتب الدانية ، وأنّ في مسيره هذا قد رأى من التحولات والتبدلات الكثيرة التي نتج منها القضاء على الفرد

الضعيف ، وبقاء الفرد المستعد للكمال.

والمسلمون بل جميع المليين في غنى عن هذا القول بعد تصريح كتبهم المقدسة باستقلالية خلق الإنسان ، بل إنّ الطبيعة من جميع جهاتها مقهورة تحت إرادته وهو بديع السموات والأرض.

مع أن هؤلاء الفلاسفة أثبتوا للطبيعة اتفاقيات ونوادر فليكن هذا الخلق منها ، ولا محذور فيه كما في سائر الاتفاقيات.

كما أنّ داروين وأنصاره لم يبينوا لنا متى حصل هذا التحول في الإنسان ، وما هي الحلقة التي انتقل منها إلى الفرد الكامل.

مع أنّ لنا أن نتسائل منهم هل أن ذلك كان بحسب نظام الطبيعة فقط مع قطع النظر عن المدبر الحكيم والخالق العليم؟ وهذا محال ، لأن انقلاب نوع بعد تعينه النوعي ـ روحا وجسما ـ إلى نوع آخر مستحيل إلّا بالاستحالة ، ولا يقولون بها. أو بالتناسخ الذي أثبت الكل بطلانه.

إن قيل : إنّ مسألة النشوء والارتقاء لا تخرج عن مسألة الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أكابر محققي الفلاسفة.

يقال : بين المسألتين فرق كبير لا ربط لإحديهما بالأخرى ، كما يظهر بالتأمل وسيأتي شرح الأخيرة في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.

إن قلت : إنّهم يدعون العثور على جماجم وعظام مضى عليها أكثر من مائة الف سنة الدالة على التطور في بعضها ، وهذا لا يناسب ما ضبطه أهل التواريخ والسير من جميع الفرق من المدة القليلة الماضية على هبوط آدم (عليه‌السلام) إلى الأرض.

أقول : إنه لا بد وأن يتأمل في أصل الدعوى ؛ وعلى فرض الصحة يمكن أن يكون ما عثروا عليه من تلك الجماجم والعظام من الآدميين ما قبل خلق آدم (عليه‌السلام) فإنه آخر الآدميين في العوالم الدنيوية وقبله آدم الى سبعين آدم كما في الحديث ، ولا يعلم مقدار تلك الأزمنة ولا مقدار الفاصل بين الآدميين ، ولا كيفيتهم إلّا الله تعالى.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان وحالاته وأطواره خاطب طائفة خاصة وهم اليهود ـ وبدأ بذكرهم ، لأنهم أقدم الطوائف التي أرسل فيهم الأنبياء والرسل ، وأنزل فيهم الكتب ، وهم أول طائفة من الأمم هبطوا من ذروة المقام الإنساني الى درك حضيض البهيمية ، وهم السابقون في نقض عهد الله ، مصرين على ذلك ، وملتزمين بغيهم وجحودهم لا يرتدعون برادع أرضي أو سماوي أتعبوا أنبياء الله بغيهم ولجاجهم وشق على سيد المرسلين فسادهم وإفسادهم ، وهم أشد الناس عداء للمؤمنين ، ومن سنة الله تعالى المداراة مع العصاة بكل ما أمكن ـ كما سيأتي في الآيات الشريفة ـ فقد تكرر ذكرهم في القرآن لعلهم يرشدون.

التفسير

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). إسرائيل مركب من كلمتين [إسراء] بمعنى العبد ، أو الصفوة ، أو القوة ـ على ما يأتي في البحث الروائي ـ و [ائيل] بمعنى الله تعالى ومعناه عبد الله أو صفي الله ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مكررا. وإنما ذكرهم سبحانه بهذا التعبير تحريضا لهم بالتحلي بمكارم الأخلاق ونبذ مساويها ، لأنهم يرون أنفسهم من أهل صفوة الله والعبودية له عزوجل ، فلا ينبغي لهم هذا النحو من اللجاج والعناد والفساد ، كما في قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٢].

و (الذكر) بمعنى الاستحضار سواء كان باللسان أو القلب أو هما معا ، فمن الأول قوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [سورة الأنبياء

، الآية : ٥٠] ، ومن الثاني قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٢] ، ومن الأخير قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠] ، وكذا قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) [سورة النساء ، الآية : ١٠٣] ، وفي الحديث : «كانت الأنبياء إذا حزبهم أمر فزعوا الى الذكر» وفي بعض الأخبار «الصلاة» بدل الذكر ، ويشهد له قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٥].

والآية لم تعين هذه النعمة التي اختصهم الله تعالى بها ولكنه عزوجل كرّم بني إسرائيل بأعظم أنحاء النعم كما قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١١] فجعلهم من أولاد الأنبياء ووسمهم بالوسام الجليل حيث جعلهم من ذرية إبراهيم الخليل وفضلهم على الأمم ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٠] ، واصطفاهم بالنبوة زمنا طويلا وفيهم من أنبياء أولي العزم موسى وعيسى (عليهما‌السلام) ، وأنزل فيهم التوراة التي هي أقدم الكتب السماوية وأعظمها بعد القرآن الكريم قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٦]. وبالجملة فقد أعطاهم الله تعالى من كل ما سألوه فلا بد أن يذكروا هذه النعم التي اختصوا بها ، ولكنهم قابلوا ذلك بالكفران والإساءة وأعرضوا عما أمروا به فكفروا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد ما جائتهم البينات.

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). الوفاء ضد الغدر ، وهو الحفظ والإتمام وعدم النقض ، وكثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام ، وقوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ، ويستعمل من باب التفعيل أيضا ، وقال تعالى في شأن خليله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم ، الآية : ٣٧] أي بذل غاية جهده في جميع ما طولب به من الله تعالى ، وهو من أجل مقامات الخلة.

والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال والاهتمام به ، وهو من الصفات الإضافية ، له تعلق بالعاهد والمعهود اليه والمعهود به إلّا أن في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل ، وفي الثاني كذلك إذا كان مع العوض ، كما يكون من الإضافة الى المفعول أيضا.

والفرق بين العهد والميثاق هو أن الثاني أخص من الأول ، لأنه العهد المؤكد بأنحاء التأكيدات والتوثيقات ، سواء أكان بين الله تعالى وبين خلقه أم بين خلقه بعضهم مع بعض ، ومادة (وث ق) تدل على كمال التثبت.

والمعنى : أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء والرسل من المواثيق والطاعات والعبودية ، وهي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها ، ومن جملة ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ). والوفاء بالعهد مطلقا سواء أكان من النّاس ام من الله تعالى يرجع إلى مصلحة النّاس أنفسهم.

وإنما سمى سبحانه ذلك عهدا وأوجب وفاءه على نفسه ، تحننا منه وترغيبا لعباده إلى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط فيصير المقام نظير آية الاشتراء : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] مع أن السلعة والمشتري وقدرته وارادته من الله تعالى ولذلك نظائر كثيرة يأتي التعرض لها. ويمكن أن يكون الترتيب في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) من قبيل ترتب المعلول على العلة ، لا من ترتب وفاء أحد المتعاوضين على وفاء الآخر.

قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). الرهب هو الخوف المشوب بالاضطراب. وتقديم الضمير المنفصل يفيد الحصر ، أي لا بد أن يكون الخوف من الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير ، والمطلع على الضمائر والظواهر ، فإن الرهبة إن كانت لأجل عظمة المرهوب منه وجلاله فلا نهاية لهما فيه عزوجل ، وإن كانت لأجل علمه بموجبات السخط والعقاب فلا يعزب عن علمه شيء في السموات والأرض ، وإن كانت لأجل قهاريته التامة فهي من أخص صفاته ، وعهوده هبات منه عزوجل فيكون نقضها عظيما.

ثم إنّه شرع في بيان جملة من عهوده المباركة على بني إسرائيل وهي الإيمان بالله تعالى والقرآن المشتمل على تصديق سائر الكتب السماوية ، وعدم الكفر ، والمحافظة على آيات الله تعالى وعدم تبديلها ، وتقوى الله ، وعدم كتمان الحق ، وعدم خلطه بالباطل. وهذه هي من أهم العهود الإلهية وأصولها على عباده ، ولا اختصاص لها بطائفة دون أخرى ، وإن كانت تختص ببعض الأحكام الفرعية.

والعهود الإلهية وإن كانت تعد من الأمور التشريعية لكن كل تشريع له دخل في نظام التكوين ، لأن جميع جهات التشريع ترجع إلى تربية الإنسان الذي هو المقصد الأقصى من نظام التكوين فيرجع التشريع اليه.

قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

تفصيل بعد إجمال ، فإن قوله تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) يشمل الإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلّا أنه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم وتعظيما لأمره ، وهذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على إخبار موسى (عليه‌السلام) بشريعة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لأن كل شريعة سابقة لا بد أن تخبر بالشريعة اللاحقة كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن ، وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع ، وقد ذكرنا في ما سبق أن الشرائع الإلهية وإن تعددت بحسب الظاهر إلّا أنها متحدة في أصول العقائد والأحكام التي ترجع إلى تربية الإنسان وسعادته في الدارين.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ). لأنكم أعرف بحقيقة هذا الدين بعد أن كان الإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مذكورا في التوراة ـ كما سيأتي ـ وأن هذا القرآن مصدق لما معكم فمن بادر منكم إلى الكفر يكون أشد خزيا ومنقصة ، ويكون من أئمة الكفر في ملته ، كما أنّ من بادر من أهل الكتاب الى الإيمان بالله والرسول يكون أول مؤمن به.

قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً). المراد بالاشتراء هنا مطلق المبادلة ، والثمن القليل هو الدنيا وما فيها ، لأنها تنفذ وآيات الله تعالى

لا تنفذ ، وكل من قدّم هوى نفسه على رضاء الله تعالى فقد اشترى بآيات الله ثمنا قليلا ، لأنه خسر رضوان الله تعالى ، وعن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق نطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق نطق عن الشيطان فقد عبده» وتشمل مثل هذه الأخبار تبديل آيات الله بجميع الأغراض الدنيوية. والمراد بآيات الله تعالى مطلق تشريعاته في معارف الدين وأحكامه.

قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). بوفاء العهد واتباع الهدى وترك الركون الى الدنيا. وهو يدل على وجوب التقوى وانحصارها بالنسبة إليه تعالى المستفاد من تقديم الضمير المنفصل.

وقوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). اللبس هو الخلط والتغطية ، أي لا تخلطوا الحق الذي أنزلناه بالباطل الذي تفعلونه. ولبس الحق بالباطل يستلزم كتمان الحق لا محالة ، وقد أفرده تعالى بالذكر ، اهتماما به وتبيينا لكل واحد من المتلازمين بالذكر ، ولا تكتموا الحق بعدم بيانه مع الحاجة الى البيان ، وذلك يتصور على وجوه : إظهار الحق في صورة الباطل وبالعكس ، كتمان الحق مع الحاجة إلى بيانه ، الافتراء على الله تعالى ، والجميع من القبائح ومن شعب النفاق ، مع أنكم تعلمون الحق وما تعلمون من لبس الحق بالباطل وكتمانه والافتراء على الله.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). بعد أن أمرهم الله تعالى بالإيمان أمرهم بأهم وظائف العبودية وهي الصلاة على ما قررتها الشريعة ، ثم أمرهم بأهم الوظائف الاجتماعية وهي الزكاة بما قررتها الشريعة من بذل المال والسعي في الحوائج ، بل زكاة الجاه. ثم أمرهم بالركوع مع الراكعين ، لأن العبادة الاجتماعية أهم من العبادة الفردية لما فيها من المصالح الكثيرة. والمراد بالركوع إما الركعة ويكنى به عن الصلاة ، لأنه أهم أركانها أو لأجل أنّ الركوع كان أشق عليهم من السجود فذكره تبارك وتعالى بالخصوص ، أو للإشارة إلى نبذ عبادتهم والإتيان بهذه العبادة الجديدة.

بحث روائي :

عن ابن بابويه في العلل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «ويعقوب إسرائيل ومعنى إسرائيل عبد الله لأن أسراء هو عبد وئيل هو الله عزوجل» وروى في خبر آخر : «إن أسراء هو القوة وايل هو الله فمعنى إسرائيل قوة الله عزوجل».

أقول : قد ورد في التوراة الوجه الأخير والمراد بالقوة هنا قوة يعقوب من حيث اعتماده على ربه فيرجع إلى المعنى الأول لأن عبودية الأنبياء (عليهم‌السلام) تكون عن اعتمادهم من كل جهة على الله تبارك وتعالى مطلقا وذلك يستلزم لهم القوة.

وعن القمي عن جميل عن الصادق (عليه‌السلام): «قال له رجل : جعلت فداك إن الله تعالى يقول أدعوني أستجب لكم وإنّا ندعوا فلا يستجاب لنا قال (عليه‌السلام) لأنكم لا توفون بعهد الله لو وفيتم لله لوفى الله لكم».

أقول : يظهر منها ومن سائر الروايات المتواترة أن لاستجابة الدعاء شروطا كثيرة سيأتي بيانها في قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [سورة المؤمن ، الآية : ٦٠].

وعن العياشي عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن قول الله عزوجل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة قال : هي الفطرة التي افترض الله على المؤمنين».

أقول : قريب منه روايات أخرى ، وهذا كله من باب التطبيق.

وعن ابن عباس في قول الله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) : «نزل في رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وهما أول من صلّى وركع».

أقول : في ذلك روايات أخرى مستفيضة من الفريقين.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

ذكر سبحانه في هذه الآيات من أفعال اليهود وفسادها أنهم كانوا يدعون الى الإيمان وتلاوة الكتاب ، وقد وصفوا أنفسهم بالعدل ، وخالفوا إلى غيره ، ووبّخهم على هذا الفعل توبيخا شديدا ، والخطاب وإن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام إلى جميع من يأمر بالحق ولا يعمل به ، وهو من أعظم القبائح النظامية في الاجتماع ، ثم أمرهم سبحانه بالرجوع إليه والاستعانة بالصبر والصّلاة ونبذ ذلك العمل الشنيع.

التفسير

قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). البر : هو سعة الخير ، ويطلق على كل خير من الإحسان. والنسيان غيبة الشيء عن النفس بعد حضوره فيها ومنه قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٦٤] ، إذ لا يعقل النسيان ممن كان ما سواه حاضرا لديه. ويستعمل بمعنى مطلق الترك أيضا ، قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩]. وهو أخص من السهو والغفلة.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ). التلاوة : القراءة لكن لوحظ في الأولى معنى المتابعة ، لأن الحروف المقروءة تتتابع بعضا بعضا ، وفي الثانية لوحظ معنى الجمع ، لأن القراءة تستلزم جمع الحروف.

والعقل من العقال ، لأنه يربط صاحبه عن ارتكاب القبائح. ويحرّضه على إتيان المحاسن ، وهو ضد الجهل ، وله إطلاقات كثيرة في السنّة بل واصطلاح الفلاسفة ، ويأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة.

ومفهوم العقل من أبده الأشياء ولكن كنهه في غاية الخفاء ، فهل هو جوهر مجرد روحاني متعدد الأفراد حسب تعدد أفراد العقلاء يقبل الشدة

والضعف. أو أنه عرض قائم بالغير. أو أنه من مراتب وجود النفس الإنساني. أو أن له وجودا واحدا فرديا كالشمس إلّا أن له إشراقات على النفوس. أو أنه إشراق حاصل للنفس من عالم آخر غير عالم الجواهر والأعراض. أو أن جميع ذلك صحيح بحسب اختلاف النفوس ومراتبها. أو أن الكل باطل ولا يحيط به الناس ، بل العلم به منحصر بالله تعالى؟

وغاية ما يدرك أنّه القوة المميزة بين الحسن والقبح ولم يزل الموضوع مورد البحث منذ وجود العاقل على وجه البسيطة ولا يزال كذلك والقدر المسلّم به أنه موجود ومتعقل خارجي وقع مورد جعل الله تبارك وتعالى وإرادته وخطابه ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

والخطاب وإن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام يشمل الجميع وأشد معاتبة الآمرون بالمعروف التاركون له ، والناهون عن المنكر الفاعلون له حتّى نفى الله تعالى عنهم العقل بلسان التوبيخ والتأنيب ، وهو كذلك لأن من أول مرتبة العقل والكمال العقلي هو مطابقة القول للفعل ، بل يعد ذلك من الأمور النظامية الاجتماعية فإن نظام المجتمع يقوم بالقانون والعمل به وبدونه يكون خرقا للنظام وإشاعة للفساد. كما أنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أحق باتباع ما يأمرونه ، والانتهاء عما ينهون عنه ، لأن الحجة عليهم أتم ، فإن من لم ينسلخ عن شهوة نفسه كيف يتمكن من إزالة الشهوة عن غيره ، ولذا ورد التأكيد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) بقولهم : «كونوا دعاة الى الله بغير ألسنتكم». وقد ثبت في الفلسفة ، وفي الأحاديث الكثيرة على أن للحركات القلبية والجذبات النفسية آثارا خاصة في النفوس ، بل قد يكون الشخص في عين أنه ينهى بلسانه مثلا يكون تأثيراته النفسية أقوى من النهي اللساني على النفوس.

وهذه الآيات تتضمن قاعدة محاورية من صحة خطاب الأبناء بما يفعل الآباء ، أو خطاب الآباء بما يفعل الأبناء ، أو خطاب الجميع بما يفعل البعض.

قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى

الْخاشِعِينَ). بعد أن ذكر سبحانه من سوء أفعالهم ونفى العقل عنهم فلم تنفعهم تلاوة الكتاب أرشدهم إلى استكمال أنفسهم بالكمالات الظاهرية والواقعية بالاستعانة بالصبر والصّلاة وحيث إن بني إسرائيل كانوا مسبوقين بالصبر على المتاعب والشدائد ، وظهر لهم أثر صبرهم في الاستيلاء على عدوهم (فرعون وقومه) ، قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٧]. وكذا في الصّلاة التي اعتادوا عليها فظهر لهم بعض آثارها ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] فحثهم الله تعالى على ما وجدوا أثره بأنفسهم من إدمان الاستعانة بالصبر والصّلاة ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٣].

والاستعانة : طلب العون كما تقدم في سورة الحمد (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والمراد هنا جعل الصبر والصّلاة وسيلة لإفاضة الله تعالى عليهم ما يهمهم من المقاصد وتدل الآية المباركة على أن الاستعانة بهما توصل إلى كل خير نوعيا كان أو شخصيا كليا أو جزئيا.

والصبر هو كف النفس عن الهوى مع مراعات تكليف المولى ، وهو من أهم مكارم الأخلاق ، بل لا فضيلة إلّا وللصبر فيها دخل.

ثم إنّ استعانة الإنسان إما أن تكون من نفسه بنفسه ، أو من نفسه بغيره ، والأول هو الصبر ، ومن الثاني الصّلاة. والاستعانة بالصبر هي فعل الطاعات وترك المحرمات ، وقد يراد منه الصوم لأنه الإمساك وكف النفس عن المفطرات فيكون من صغريات المعنى اللغوي ففي الحديث : «إنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان إذا حزبه أمر استعان بالصوم والصّلاة» ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «الصبر الصيام وإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم ، فإن الله تعالى يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة».

والاستعانة بالصّلاة استعانة بالله تعالى ، لأنها تنهى عن الفحشاء

والمنكر ، وأنها من أقوى الأسباب وأشدها تأثيرا في قضاء الحوائج وتيسير الأمور.

وإنما قدم تعالى الصبر على الصّلاة ، لأنها لا تقبل إلّا بالتقوى ، وهي لا تحصل إلّا بالصبر على ترك المحرمات ، فيكون من تقديم المقتضي [بالكسر] على المقتضى [بالفتح].

والآية على اختصارها تشتمل على جميع الكمالات الإنسانية الفردية والاجتماعية ، والعامل بها حائز لجميعها ولكثرة عظمة الأمر واحتوائه على المشاق قال تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) والضمير يرجع إلى الصّلاة فإنها شاقة وكبيرة عظيمة ، لأن الوقوف بين يدي الله تعالى مع الالتفات إليه صعب جدا إلّا على الخاشعين المخبتين لله الذين نبذوا جميع ما سواه وراء ظهورهم ، وأنهم في مقام الأنس بربهم فلهم به أشواق ، ومنه تعالى لهم جذبات فهانت عليهم متاعب الدنيا وصعابها.

والخشوع والخضوع هما التواضع والتذلل والمسكنة في مقابل الاستكبار ، وهما من الكمالات النفسانية منبعثان من القلب على الجوارح. ويفترق الأول عن الثاني في إطلاقه على الصوت والبصر ، قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [سورة طه ، الآية : ١٠٨] ، وقال تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) [سورة القلم ، الآية : ٤٣] ويحصلان على القلب إما من الإخبات إليه تعالى والخشية منه ، أو من تصور عظمة الله تعالى والمداومة عليه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ). وصف سبحانه الخاشعين بما يبين كثرة خوفهم ووجلهم منه عزوجل بحيث لا تستقر لهم حالة. والملاقاة هي وصول أحد الطرفين إلى الآخر ، والمراد بها هو لقاء أهوال يوم القيامة وشدائدها ، أو لقاء جزاء أعمالهم يوم الحساب ، أو الفوز بلقاء عظمة الله وجلاله الذي هو أجل المقامات التي هي دون حد الوجوب وفوق الممكنات وغير ذلك مما يمكن أن يقع مورد التلاقي المختلف باختلاف مراتب الكمالات المعنوية. وفيه تحبيب منه تعالى

بالنسبة إلى المؤمنين الخاشعين وإنذار للعاصين المذنبين.

وأنهم اليه راجعون لتوفية جزاء أعمالهم بما قدموه من صالح الأعمال. والتعبير بالرجوع من حيث كونه تعالى مبدأ الكل فيكون منتهاه أيضا.

والظن : مرتبة من الإعتقاد ، وهو مما يضعف ويشتد ، ويعبر عن الثانية ب (اليقين) والمائز بينهما القرائن الخارجية أو الداخلية ، قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ٢] أي حصل لهم اليقين بذلك وكذا في المقام فإن مقام الخشوع لا يناسب إلّا مع اليقين فلا تنافي بينه وبين قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤].

ولعل في التعبير بالظن إشارة إلى أن الخاشعين اكتفوا بالظن فاشتد خوفهم منه وهانت عليهم مشاق الدنيا فكيف بمن تيقن بالملاقاة ، وتوبيخ منه بالنسبة إلى هؤلاء الآمرين بالبر الذين ينسون أنفسهم بأنهم لم يتمكنوا من تحصيل الظن من تلاوة الكتاب ليحملهم على العمل الصالح ، أو لأن لشدة كونهم في مقام الخوف والرجاء لا يعتمدون على يقينهم لما يرد عليهم ، فعبر تعالى بالظن سوقا للكلام على مراد المخاطب ، ويشهد لذلك قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقن الوصول إلى رضوان الله تعالى حتّى يكون وقت نزع روحه ـ الحديث ـ». ويصح أن يراد بكلام واحد وجوه متعددة باعتبارات مختلفة.

إن قيل : اللقاء والملاقاة من صفات الأجسام الخارجية وهو تعالى منزه عنها ، فلا يناسب الإطلاق عليه عزوجل.

يقال : إن اختصاص اللقاء بالأجسام أول الكلام فقد ورد في قوله تعالى : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [سورة الطور ، الآية : ٤٥] مع أن اليوم ليس بجسم ، ومع ورود التنصيص بذلك في الكتاب الكريم فلا وجه لهذا الإشكال ، وإنما حصل الإشكال من كثرة الأنس بالماديات وإلّا فالتلاقي في عالم الرؤيا وعالم البرزخ واقع حقيقة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٧] وقال تعالى : (قَدْ

خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) [سورة الأنعام ، الآية ٣١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. والأولى الحمل على العموم بحسب مراتب الإيمان ودرجاته ، فالتلاقي تلاصق اثنين سواء كانا من الجواهر أو الأعراض أو المجردات ، مع سبق البعد ظاهريا أو معنويا أو منهما معا ، وسواء كان البعد من جهة أو من جهات ، والتلاصق كذلك.

بحث روائي :

القمي في الآية : «نزلت في القصّاص والخطّاب ، وهو قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام): وعلى كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على الله ، وعلى رسوله ، وعلى كتابه».

أقول : هذا من باب التطبيق على أحد الموارد لا التخصيص.

وفي مصباح الشريعة عن الصادق (عليه‌السلام): «من لم ينسلخ عن هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه إذا لم يكن بهذه الصّفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه ، ولا ينتفع الناس به ، قال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). ويقال له : يا خائن أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك».

أقول : ما ذكره (عليه‌السلام) مطابق للوجدان ، كما لا يخفى على أهله.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام): «كان علي (عليه‌السلام) إذا أهاله أمر فزع ؛ قام إلى الصّلاة ، ثم تلا هذه الآية واستعينوا بالصبر والصّلاة».

وفي الفقيه عنه (عليه‌السلام) أيضا في الآية : الصبر الصيام ، وإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة ، فليصم فإن الله تعالى يقول : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، يعني الصيام».

وعن العياشي عن الصادق (عليه‌السلام): «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله

فيهما ، أما سمعت الله يقول : واستعينوا بالصبر والصّلاة».

أقول : أما الاستعانة بالصبر في الأمور الدنيوية والأخروية فلها أثر في الأمور التكوينية ، فضلا عن الاختيارية ، والصوم من أحد تلك المصاديق. وأما الاستعانة بالصّلاة فهي استعانة وتوجه إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب ، وبذلك يحصل تكميل النفس فضلا عن حصول المراد.

وعن ابن بابويه عن علي (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ، يعني يوقنون أنهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب والعقاب ، والظن هاهنا اليقين».

وعن العياشي عن الصادق (عليه‌السلام): «اللقاء البعث والظن هاهنا اليقين».

أقول : لا ينافي تفسير الظن باليقين من جهة وبقائه على معناه الحقيقي من جهة أخرى ، كما استظهرناه من الآية المباركة.

وفي تفسير الإمام العسكري (عليه‌السلام): «يقدرون ويتوقعون أنهم يلقون ربهم اللقاء الذي هو أعظم كرامته لعباده».

أقول : تقدم أن ملاقاة العبد لربه أرفع المقامات وأجلها ، وهي من حدود وجوب الوجود.

وعن ابن عباس : «أنّ الآية نزلت في علي (عليه‌السلام) وعثمان بن مظعون ، وعمار بن ياسر ، وأصحاب لهم».

أقول : هم من صغريات موارد تطبيق الآية.

بحث أخلاقي :

الصبر هو أم الفضائل ، وأصل مكارم الأخلاق ، ومنه تتفرع كل موهبة ومكرمة ؛ فكما أن الحي القيوم أم الأسماء الحسنى ومنهما تتفرع سائرها ، كذلك يكون الصبر ، فهو حقيقة المقاومة مع المكاره والشهوات والمشتهيات ، والاستقامة مع ما يرتضيه العقل والشرع من محاسن

الأخلاق ، والوصول إلى المعارف والكمالات ، والمواظبة على الواجبات وترك المحرمات.

وقد اعتنى الله تعالى به اعتناء بليغا ، فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة موضع ، ولم يرد فضيلة أكثر ذكرا منه فيه ، وقد تكرر الأمر به ، قال تعالى : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة هود ، الآية : ١١٥] ، وقال جل شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٠٠] ، وقال عزوجل : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [سورة غافر ، الآية : ٥٥]. وورد الأمر بالاستعانة به في قوله تعالى : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٣].

والاستعانة بالصبر في الأمور التكوينية استعانة بأسبابها الظاهرية والمعنوية ، وكلها ترجع إلى مراعاة حصول المسببات عند حصول أسبابها المقتضية لها ، واستنتاج النتائج من المقدمات المعدة لها ، وترك المبادرة الى نقض هذا الأمر العقلي النظامي ، فإنه يؤدي إلى خلاف المطلوب.

وفي الأمور الاختيارية فهو إما على ما تكره النفس ، أو على ما تحبه ، والأول عبارة عن مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها وثباتها في مقابلها ، وعدم تأثرها ، وعدم انفعالها ، وقد يعبر عن ذلك بالشجاعة وسعة الصدر أيضا. والثاني عبارة عن مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانية والغلبة عليها بالعقل والفكر ، وكل ذلك من الحكمة العملية التي اهتم الفلاسفة ، وعلماء الأخلاق بشرحها ، فما ورد في السنة المقدسة من «أن الصبر مفتاح الفرج» مطابق للقاعدة العقلية ، لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه.

وقد أشار نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى عظيم منزلته لما سئل عن الإيمان ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «هو الصبر» ، كما جعله جزء الإيمان ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الإيمان نصفان فنصف صبر ، ونصف شكر» ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من

الصبر». وعن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له».

والصبر من صفات الأنبياء والمرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم والاهتداء بهديهم ، قال تعالى مخاطبا للرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) [سورة الأنعام ، الآية : ٣٤] ، وقال تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٨٥] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤] ، فكما أن الصبر من أهم مقومات حياتهم (عليهم‌السلام) فهو من أقوى محققات شؤونهم ، فما بعث الله تعالى نبيا ولا أرسل رسولا ، بل ولم يفض علما على عالم إلّا وكان الصبر أليفه حتّى صار النصر حليفه ، وقد تحمل من المشاق حتّى صار شهير الآفاق ، وذلك من سنة الله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [سورة الفتح ، الآية : ٢٣].

وقد عدّ الصبر في السنّة المقدسة من جنود العقل وضده من جنود الجهل ، فهو من حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين ، ومن حيث إنه الإيمان ، أو جزء الإيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين ، وحائز للدرجتين ، فله دخل في الأمور الطبيعية فإن مراتب استكمالها لا تتم إلّا بالتدرج وعدم العجلة ـ وإن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها ـ ولذلك ترى أن بذور النباتات والأشجار لا تصل إلى مرتبة الكمال إلّا بالتدرج ، وقد ورد في الحديث : أن ذكر ستة أيام في خلق السموات والأرض إنما كان لتعليم العباد التأني والصبر ، وإلّا فهو قادر على خلقهنّ في أقل من ذلك.

فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد والظفر بالمطلوب إن توفرت بقية الشرائط ، قال علي (عليه‌السلام): «لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به

الزمان» فليس للصابر إلّا أن يظفر بالمقصود ، أو بما أعدّه الله تعالى له من الأجر المحمود.

وتقدم في تعريف الصبر أنه : حبس النفس عن الهوى مع مراعاة تكليف المولى ، بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب والممكن ، وأنواعه وأقسامه ، بأن يقال : «هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن نوعيا كان أو شخصيا» فيشمل صبر الواجب ، حيث أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى على ما روي عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وما ورد في الحديث القدسي ، وفي الحديث : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عزوجل» ، وفي دعاء المجير وغيره «يا صابر» ، فإنه يتفرع منه الحلم والعفو ، والرفق والمداراة كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات والجهات ، فيختلف معناه كذلك فلا نحتاج إلى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي ، أي عدم التعجيل في عقوبة العصاة ، كما عن جمع من المفسرين واللغويين.

والصبر في الإنسان قد يكون من طبيعته وجبلته فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد عليه من المكاره ويتحمل من المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها. وقد يكون بالاكتساب والمصابرة ، وهذا أفضل من القسم الأول ، وهو موضوع منازل السائرين إلى الله تعالى في سيرهم وسلوكهم ، وأهم عمادهم في التخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل والتجلية بالتخلق بأخلاق الله تعالى ، وبقية الدرجات من الفناء والطمس ، والمحو ، والمحق وغيرها مما شرحه أهل الفلسفة العملية والعرفاء.

كما أن الصبر عن الشيء تارة يكون مع وجود المقتضي وفقد المانع خارجا ، وأخرى مع الميل النفساني وعدم المقتضي ، وثالثة مع الميل ووجود المانع ، وتختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب.

وللصبر أنواع وأفراد كثيرة كلها من الفضائل ، ولكل فرد اسم خاص به ، وضد مختص به ، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة وضده الجبن. وفي المصيبة الصبر ـ بقول مطلق ـ وضده الجزع ، وفي الحوادث المضجرة رحابة

الصدر وضده الضجر ، وفي الكلام كتمانا وضده الإذاعة والإفشاء ، وإن كان الصبر عن المفطرات سمي صوما وضده الإفطار ، وعن شهوة البطن والفرج سمي عفة وضده التهتك ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلما ويضاده التذمر ، وإن كان عن حطام الدنيا سمي زهدا وضده الحرص ، وفي المأكل والمشرب سمي قناعة وضده الشره ، وقد سمّى الله تعالى كل ذلك صبرا ، وأشار إليه سبحانه في قوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧].

والصبر لا يتحقق إلّا مع عقد القلب عليه والعزيمة على الاستمرار عليه ، وإلّا فإن صرف وجود الشيء لا أثر له ، وإنما الأثر يترتب على البقاء وهو يحصل بالصبر والمصابرة والاستقامة على تحمل المكاره ولذلك كان الصبر من عزائم الأمور فقال تعالى : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [سورة لقمان ، الآية : ١٧] وعن علي (عليه‌السلام): «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر ، عوّد نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر».

ثم إنّ الصبر تارة : يكون بتوفيق من الله وللتقرب اليه ، وفي مرضاته كصبر الأنبياء والمرسلين ولا سيما سيدهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وهذه أعلى درجات الصبر ، ويترتب عليه الثواب العظيم المعد للصابرين ، وأخرى : يكون بتوفيقه تعالى ، وليس لله تعالى. بل لأجل أغراض صحيحة أخرى ، وثالثة : لا يكون بتوفيقه أيضا وإن كان لأجل أغراض صحيحة أخرى والغفلة عنه عزوجل ، والثواب يتحقق في الجميع لأن الصبر بنفسه محبوب له تعالى.

وربما يكون اختلاف الثواب والجزاء عليه في القرآن الكريم لأجل اختلاف درجات الصبر ، فهو تعالى يخبر تارة : بأنه : (يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٦] ، ومحبته تعالى لشيء من أعلى المقامات وأجلها ، وأنه مع الصابرين ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٦] ، وأنه بشر الصابرين ، فقال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)

[سورة البقرة ، الآية : ١٥٥]. وأنه خير لهم ، فقال تعالى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٦].

وأخرى : يخبر بأن لهم الثواب الجزيل قال تعالى فيهم : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٧].

ويخبر ثالثة بمضاعفة الأجر لهم ، قال تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٥٤].

ورابعة : أنّ لهم الأجر بلا حساب ، قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر ، الآية : ١٠] ، وعن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : إني لأصبر من غلامي هذا ، ومن أهلي على ما هو أمر من الحنظل ، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

والصبر من الصفات ذات الإضافة ، فإذا لوحظ بالنسبة إليه تبارك وتعالى يكون محبوبه ومورد بشارته ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى الصابر يكون من جهات كماله ومكرمة له ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى الاجتماع يكون مورد التحبب والتودد والعناية. وهو في كل شيء بحسبه بشرط أن لا يصل إلى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعا أو عرفا وعقلا ، وإلّا فلا يكون صبرا مرغوبا ، كالصبر على هتك العرض ، أو المال ، أو النفس وهو قادر على دفع المظالم. وعليه ينقسم الصبر حسب الأحكام التكليفية الخمسة.

وقد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «خير الخير ما كان عاجله» وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «عجلوا بموتاكم إلى مضاجعهم» ، وفي نصوص كثيرة التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ ؛ والتعجيل بإتيان الصّلاة في أول وقتها ، إلى غير ذلك من الموارد التي تستحب العجلة فيها.

ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانية فضلا كبيرا ، فعن الباقر

(عليه‌السلام): «الصبر صبران ، صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبر الورع عن محارم الله» سواء أكان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها ، أو مع إمكان التهيئة ، أو مع عدمهما معا ، والصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس والهوى وترك متابعة الدنيا ، والأولان يرجعان في الحقيقة إلى ترك حب الدنيا ، بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار التجنب عنها ، ومذام الأخلاق مدار التقرب منها ، وقد تواتر عن نبينا الأعظم : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وعلامة تقوية الصبر وتضعيف حب الدنيا هي كثرة التفكر في الدنيا وفنائها وانها أقوى الحجب عن الوصول إلى المعنويات ، بل أصل الحجب الظلمانية عن المعارف الربوبية ، والأخلاق الإلهية.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

كرر سبحانه وتعالى تذكيرهم بالنّعم عليهم ، إتماما للحجة ، وإثباتا لاستحقاقهم الطعن واللوم ، فإنهم مع كثرة نعم الله تعالى عليهم بالغوا في الجحود بالإسلام وإنكار ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد اقترن في الآية السابقة الوعد بوفاء العهد لهم إن هم وفوا بعهده تعالى ، وفي هذه الآية قرنه سبحانه بالخوف عن عذاب الآخرة ، فجمع سبحانه بين الرجاء والخوف.

التفسير

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). تقدم معناه ، وهو تأكيد لما سبق وتمهيد لما يأتي ، ومثل هذه الآيات تدل على وجوب شكر المنعم ، وتحقق العصيان في كفران النعمة وكتمانها ، وخصوصية المورد لا توجب تخصيص الحكم العام ، فإن القرآن : «نزل على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة». كما قال علي (عليه‌السلام).

قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). ذكّرهم سبحانه بهذه

النعمة بالخصوص لينبههم على أنهم أولى بالإيمان بالإسلام. والعالمين وإن كان مطلقا ، ولكن يراد به خصوص عالمهم فإنّه فضّلهم على غيرهم بكثرة الأنبياء منهم ، وكثرة المعجزات فيهم ونزول التوراة عليهم ، ولكن ذلك لا يمنع أفضلية غيرهم عليهم ، فإن الأدلة العقلية والنقلية دلت على أفضلية خاتم الأنبياء على جميعهم وأفضلية أمته على سائر الأمم ، إذ السير التكاملي في كل شيء خصوصا في البشر يقتضي فضيلة الأمة اللاحقة على السابقة ، ولقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١١٠] والسنّة المستفيضة الدالة على ذلك ، وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً). أي : واخشوا ذلك اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب ، فتكون نظير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [سورة لقمان ، الآية : ٣٣] ، فيكون سياق هذه الآيات سياق القضايا المنتفية بانتفاء الموضوع. والعوالم الاستكمالية التي ترد على الإنسان أنواعها على قسمين :

الأول ـ ما يكون الاستكمال والكمال فيه فرديا فقط ، من دون دخل للأسباب الاختيارية فيه ، كالعوالم التي ترد على الإنسان قبل وروده إلى الدنيا ـ كالنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والجنين في عالم الرحم ـ فهو يسير فيه بالسير الطبيعي منفردا ، قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٤].

الثاني : ما يكون اختياريا بجميع أطوارها ـ من جمعها ، وكثرتها وقلتها ، وفقدانها ـ دخل في الاستكمال والكمال ، فيكون دار الأسباب من جميع الجهات ، وقد جرى علم الله تعالى الأزلي وقضاؤه وقدره في ذلك «وأبى الله أن لا يجري الأمور إلّا بأسبابها» كما في الحديث فكم من شجاع يغلب غيره بسلاحه ، وكم من صانع يقهر غيره بصنعه إلى غير ذلك مما لا يحصى.

ويختلف عالم الآخرة عن ما يتقدمه من العوالم بوجهين :

الأول : أنّ الكمال في الآخرة وعدمه فردي فقط ، فصاحب العمل الصالح له مقام خاص به يختلف باختلاف مراتب العمل من دون أن يكون في البين تسبب أسباب ، وتهيئة أمور فيها ، لكونهما في الدنيا ، ويظهر أثرها في الآخرة.

الثاني : أنّ فيها تنحصر الملكية والمالكية والملك في الله تعالى فلا ملك إلّا له ، ولا مالك إلّا هو ، ولا ملك إلّا وهو قائم به عزوجل فتنقطع بذلك الأسباب والمسببات الاختيارية وغيرها ، بل هو تعالى كذلك في جميع العوالم ، إلّا أنه جرت إرادته الكاملة على تسبب الأسباب الظاهرية ، ليجري النظام الأحسن على أكمل الوجه ، وأتم الحكمة. نعم باب الشفاعة مفتوح ، لكنه محدود بحدود خاصة ، كما ستعرف فلا حكم إلّا حكمه ولا ملك إلّا ملكه ، فقياس الآخرة على الدنيا كما تراه بعض الأمم ـ منهم اليهود ـ حيث يتوهمون دفع المكروه والعذاب عن النفس بالفداء ، أو الشفاعة ، أو مناصرة بعض له ، أو دفن بعض الأثاث لينتفع بها في مهماته الأخروية كما كان ينتفع بها في الدنيا ، كل ذلك باطل ، فإن في الآخرة تنقطع الأسباب إلّا سبب واحد وهو العمل الصالح في الدنيا ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٨].

(إن قيل) : تدل الأخبار الكثيرة على أنه يلحق بالميت كل خير يهدى اليه من دار الدنيا حتّى أنه قد يكون في ضيق فيوسع الله عليه بذلك كما يأتي.

(قلت) : فرق واضح بينهما ، فإن ما يلحق بالميت من الصدقات والخيرات إنما يصرف في سبيل الله تعالى فيصل ثوابها اليه لا محالة لا أن ينتقل نفس المال إلى الميت ، ودفن المال والسلاح لا يستفيد منه الميت على فرض أن الله تعالى يعيده في الآخرة.

نعم ، ورد في بعض الروايات أن الشهيد يدفن بثيابه ولا ينتزع منه شيء ، قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في شهداء بدر : «زمّلوهم بدمائهم فإنهم يبعثون معها يوم القيامة» وذلك لأنه رمز الحياة الأبدية والنعمة السرمدية فلا تزال تبقى معه أبدا.

فالأقسام المتصورة في عمل الإنسان في الدنيا والآخرة أربعة :

الأول : تأثير عمل كل فرد يعمله في الدنيا لنفسه في الآخرة ـ إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ـ وهذا كثير ، وهو الذي تدل عليه الكتب السماوية ، ويكون المناط عليه في المعاد.

الثاني : تأثير عمل الشخص في الآخرة لنفسه فيها. وهذا غير صحيح كما عرفت ، فإن الآخرة دار الجزاء ، لا دار الأعمال إلّا ما ورد بالنسبة إلى بعض الأعمال ، ففي الحديث : أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة : «اقرأ وارق» ، بناء على أن قرائته للقرآن سبب لارتقاء درجاته فيها ، وما ورد في من مات في حال تعلمه للقرآن فإنه «يبعث الله تعالى من يعلّمه القرآن في قبره».

الثالث : أن يؤثر عمل شخص في الدنيا لشخص في الآخرة وهو كثير ، وقد دلت الأدلة الكثيرة على انتفاع الأموات بما يهدي إليهم الأحياء من الخيرات والتبرعات ولا سيما الأرحام فيهم حتّى ورد أنه : «ربما يكون في ضيق فيوسع الله تعالى عليه بذلك الخير الذي يوصل اليه من الدنيا» خصوصا إذا كان بتسبب من نفس الميت ، ففي الحديث المعروف بين الفريقين : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، ومصحف يقرأ فيه ، وولد صالح يستغفر له».

الرابع : تأثير دعاء الميت لأحد في دار الدنيا ، وهذا القسم أيضا واقع ، وقد ورد في الأولاد : «أنّ الولد ربما يكون بارا لوالديه ويصير عاقا بعد موته». فيدعو الميت على الولد في عالم البرزخ فيصير بها عاقا. هذا إجمال الأقسام ويأتي تفصيلها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّ ارتباط العوالم بعضها مع بعض ثابت عقلا ونقلا وإن كان خصوصيات هذا الارتباط غير معلومة إلّا لعلام الغيوب ، وقد يفيض الله تعالى لمعة من إشراقاته الى بعض أوليائه فيتعلم أسرار التكوين بقدر ما يفاض عليه من المبدأ الفياض ويستفيض من فيض وجوده حتّى مراتب الانبساط والانقباض.

قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ). لأنّ أصل الشفاعة منوطة بإذن الله تعالى ، وقبولها إنما يكون منه تعالى ، قال عزوجل : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [سورة طه ، الآية : ١٠٩] ، لأن جميع موجبات الشفاعة التي فصلت في الكتاب والسنة الشريفة من مظاهر إرادته ورضاه. فيظهر التوحيد العملي حينئذ بجميع مظاهره وشؤونه ويضمحل الشرك بجميع معانيه. ولا منافاة بين نفي الشفاعة في مورد وإثباتها في آخر لأن في القيامة مواقف ، وعقبات ، وحالات ، ويأتي البحث عن الشفاعة في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥].

قوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ). العدل : بمعنى الاستواء والمماثلة ويختلف باختلاف الجهات ، فيقال : هذا عادل : أي : متشبث بدينه. وهذا عدله أي مثله في جهة من الجهات ، سواء من جنسه أو من غير جنسه ، وقد يفترق بفتح العين في الأول وكسره في الثاني قال تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [سورة المائدة ، الآية : ٩٥] أي ما يساويه في جهة التكليف ، وقال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «بالعدل قامت السموات والأرض»أي بالتساوي في الجهات التكوينية التي لا يعلمها إلّا الله تعالى والجهات الاختيارية التي أمر الله تعالى بها عباده.

والمراد بالعدل هنا الفدية ، قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ) [سورة الحديد ، الآية : ١٥] أي لا فداء من أحد لأحد يوم القيامة إن استطاع أن يأتي بالفدية ، وكذا لا توبة هناك ، قال تعالى : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) [سورة الفرقان ، الآية : ١٩] والصرف هو التوبة.

قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). النصرة بمعنى المعونة والتقوية أي : لا أحد يمنعهم من العذاب ، لأن النصرة منحصرة بالله تعالى وبالعمل الصالح وهما خالصان للمؤمنين ، لانقطاع النصرة عن جميع الممكنات وانحصارها في الواجب بالذات ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الروم ، الآية : ٤٧] ومن بعد عنه تعالى فقد حرم نفسه عن

نصرته مطلقا ، قال تعالى : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٤] ، وقال تعالى : (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [سورة الشورى ، الآية : ٨].

وبعبارة أخرى : إنّ النصرة متوقفة على القدرة عليها ولا قدرة كذلك إلّا لله تعالى في ذلك اليوم.

وهذه الآيات رد على مزاعم اليهود من أنهم أحباء الله تعالى ، وأنهم شعبه المختار وأبناؤه ، وأنّ الله تعالى يشفع لنا يوم القيامة وينصرنا من العذاب ، فنفى الله عنهم ذلك قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨].

بحث روائي :

في تفسير العسكري في قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي فعلته بأسلافكم فضلتهم دينا ودنيا».

أقول : سيأتي بيان ذلك.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى في ما تقدم من الآية «وإنما فضلهم على عالمي زمانهم بأشياء خصهم».

وعن ابن بابويه «قيل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما العدل؟ قال : الفدية. قيل : ما الصرف يا رسول الله؟ قال : (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : التوبة».

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى بعض نعمه العامة على بني إسرائيل مقرونا ببيان بعض إرشاداته لهم ذكر سبحانه في هذه الآيات المباركة جملة من نعمه

الخاصة ـ منا عليهم ـ ولا ريب في أن ذلك من موجبات الرغبة لو كان المنعم عليه من أهل الرغبة إلى نعم الله تعالى.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ). مادة (ن ج و) تدل على الانفصال والانقطاع عن الشيء والخلاص منه. وقد استعملت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة جامعها يرجع إلى ما ذكرناه.

والآل والأهل بمعنى واحد إلّا أن الأول أخص من الثاني ، لأنه لا يضاف إلّا لذوي القدر والشرف ، بخلاف الثاني فإنه يضاف إلى كل شيء وضيعا كان أو شريفا ، زمانا كان أو مكانا أو شيئا آخر. والجامع القريب بينهما هو الرجوع ، فآل الرجل من يرجع إليه في قرابة ، أو رأي ، أو نحو ذلك.

وفرعون لقب كان يطلق على كل من ملك مصر ـ كقيصر لملك الروم ، وتبّع لملك اليمن ، وخاقان لملك الترك ، وكسرى لملك الفرس ـ وفرعون كلمة غير عربية مركبة من لفظين مصريين (ير) و (عون) : أي البيت الأعظم ، فصارت علما لملوك مصر قبل الميلاد بأكثر من ألف سنة ، وهو مثل (الباب العالي) المستعمل في سلاطين آل عثمان ، وقد ورد هذا اللفظ في الكتب المقدسة كثيرا ، كما ورد في القرآن العظيم في ما يزيد على سبعين موضعا ، وقد ضبط التاريخ أسماءهم وصفاتهم ، وأعمالهم إلى أن ذهب الله تعالى بهم ، كما قال عزوجل : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٧].

قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ). السوم هنا الكلفة والمشقة ، فسامه أي : كلفه. وسوء العذاب ؛ أي أشقه وأذله والمعنى : أنّهم كانوا يذيقونكم كل ما يتصورون من المشاق والمتاعب الشديدة.

وقد وصف سبحانه وتعالى هذا العذاب تارة : بالبلاء العظيم فقال جلّ شأنه : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [سورة

الأعراف ، الآية : ١٤١]. وأخرى : بالعذاب المهين ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [سورة الدخان ، الآية : ٣٠] ، وشرحه علي (عليه‌السلام) في خطبته فقال : «فاعتبروا بحال ولد إسماعيل ، وبني إسحاق ، وبني إسرائيل (عليه‌السلام) فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم يجتازونهم عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر أذل الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا ظل ألفة يعتمدون على غيرها ، فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء أزل (أي شدة) وإطباق جهل».

ثم بين سبحانه بعض ذلك العذاب بقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ).

الاستحياء الاستبقاء ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وقعة بدر «اقتلوا المشركين واستحيوا شراخهم» أو «شرخهم» ، أي شبابهم الذين ينتفع بهم في الخدمة يعني : أنهم كانوا يقتلون الذكور ، ويستبقون النساء ، وكان قصدهم من ذلك إذلالهم وإبادتهم بقطع نسلهم ، أو إبقاء النساء للانتفاع بهنّ بكل ما أمكن من أنحاء الاستمتاعات. وأدب القرآن اقتضى التعبير بلفظ جامع وإلّا لأحد لظلم هذا المتجبر المدعي للألوهية المتسلط على بني نوعه ، وقد قال تعالى عن ظلم فرعون وجبروته في آية أخرى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٤] ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لحصر بعض المفسرين ظلمه في شيء محسوس.

وإنّما ذكر تعالى النساء بدل البنات في مقابل الأبناء للتغليب ومجاز المشارفة ، وقد يقال : إن معنى استحياء النساء أي يطلبون فروجهنّ لأن الحياء الفرج. وفيه : أن الحياء بهذا الإطلاق يختص بالفرج من ذوات الخف

والظلف ـ كما صرح به ابن الأثير ـ فلا يشمل الإنسان.

ولكن كل ما قيل من هذه الاحتمالات في قصة فرعون وبني إسرائيل يناسب ما نسب إليهم من السيئات.

قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). البلاء الإختيار والامتحان ، ويستعمل في الخير والشر ، قال سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [سورة محمد ، الآية : ٣١] ، فهو إما إنعام أو انتقام ، وربما يكون إنعاما لقوم ، وانتقاما من آخرين وهو كثير في سنة الله الجارية في هذا العالم ، ولذا عبّر تبارك وتعالى بكلمة (ربكم) لأن الربوبية العظمى تقتضي ذلك.

قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ). الفرق والفلق هو الانفراج ، ولكن الأول مع الفصل ، والثاني مع الإنشقاق. وفرق البحر انفصال بعضه عن بعض مع بقاء الجسم السيال على سيلانه ، وهو من أعظم المعجزات لموسى (عليه‌السلام) كما شرحه الله تبارك وتعالى بقوله جلّ شأنه : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٣] والطود هو الجبل.

والبحر هو الاتساع والانبساط ، ومنه سمي البحر بحرا ، وهو من الموضوعات الإضافية التشكيكية ، فالبحر المحيط بالدنيا بحر ، ودجلة والفرات أيضا بحر بالنسبة إلى السواقي ، والمراد به هنا هو بحر القلزم [البحر الأحمر] على المعروف.

والباء في قوله تعالى : (بِكُمُ الْبَحْرَ) للسببية ، لأن عبورهم في البحر بإعجاز منه جل شأنه صار سببا لفرق البحر ، فلا تنافي بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٣] لأنه أيضا سبب منه تبارك وتعالى ظهر في عصا موسى ، فهم كانوا السبب الغائي لفرق البحر ، والعصا كانت بمنزلة السبب الفاعلي ، والكل منه تبارك وتعالى.

وأما احتمال أن فرق البحر وهذه الآيات الباهرة كانت من مجرد مجاري الطبيعة من المد والجزر ونحوهما ، كما عن بعض المفسرين المنكر للمعجزات وخوارق العادات. فهو ساقط مطلقا ، لكونه مخالفا لنص الآيات القرآنية ، وما ذكر مفصلا في التوراة ، كما لا يخفى على من راجعها.

قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). النجاة هي الانفصال والخلاص ، واستعمل هنا في مقابل الغرق. وأصل الغرق هو التجاوز عن الحد المعتبر في الشيء وغالب استعمالاته في القرآن إنما هو بالنسبة إلى فرعون وآله ، وقوم نوح ؛ والأول إضافي ، والثاني كلي عالمي ؛ والنظر : هو الإقبال إلى الشيء فإن كان بالقلب يسمى فكرا واعتبارا ، وان كان بالعين يسمى نظرا ورؤية ، وإن كان باليد سمي لمسا إلى غير ذلك من مصاديق معنى الإقبال والتوجه بالمعنى العام.

وإنما ذكر تعالى آل فرعون ولم يذكر غرق نفسه ، لأن المراد من الآية هو استيصالهم رأسا فيشمل غرق نفسه أيضا ، مع أن ذكره في آيات أخرى يغني عن ذكره هنا ، قال تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٩٠].

وإنما ذكر سبحانه وتعالى (النظر) لأنه بالنسبة إلى هلاك العدو وغرقه سرور عظيم لبني إسرائيل فتكون النعمة عليهم أتم وأعظم.

وفي هذه الآيات المباركة اعتبار عجيب لمن اعتبر ، فإن فرعون افتخر بملك مصر ، وجريان الأنهار من تحته فأغرقه تعالى وأهلكه في ما افتخر به ، وهذه هي سنة الله تعالى في كل من غفل عنه وجعل همه في غيره جل شأنه ، قال تعالى : «وعزتي وجلالي وعلو شأني ، وارتفاع مكاني لأقطعن أمل كل مؤمل غيري ، ولأكسونه ثوب المذلة والأياس».

بحث اجتماعي :

ثم إنّ هنا بحثا اجتماعيا ، وحاصله أنه يمكن إرجاع كل اختلاف واقع بين أفراد الإنسان ـ ومنه الاختلاف بين بني إسرائيل وقوم فرعون ـ إلى أحد

أمور :

الأول : السبب الاجتماعي ، كالاختلاف في العادات والتقاليد والأخلاق والحضارات.

الثاني : السبب الاقتصادي ، فإن الاختلاف في مراتب الغنى والفقر يوجب التعاند والتنازع بين أفرادها.

الثالث : السبب العقائدي ، فإن لكل قوم دينا ومعتقدا يغائر ما لقوم آخرين وكل يريد بسط عقيدته على الآخرين. وهناك بعض الأسباب الخفية ـ شخصية أو نوعية ـ لا يعلمها إلّا الله تعالى. وجميع هذه الأسباب من أطوار المجتمع البشري التي أشار إليها تعالى في قوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) [سورة نوح ، الآية : ١٤] فجعل جل شأنه ذلك من أبرز علامات وجوده وأظهر آيات ثبوته. وهذه الأسباب جميعها اجتمعت بالنسبة إلى بني إسرائيل والطواغيت الفرعونية ، فإن بني إسرائيل كانوا مقهورين تحت ظلم الفراعنة وعبيدا لهم.

بحث تاريخي :

تعبر التوراة عن الإسرائيليين ب (العبريين) وترجع كلمة (عبري) إلى عهد إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) ، فقد أطلق الكنعانيون هذه التسمية على إبراهيم ، ثم اتسعت فشملت جميع أسرته فصاروا يعرفون بالعبريين.

وغير خفي أن هذه التسمية لم تكن تختص باليهود ، بل كانت تطلق على القبائل التي عبرت الأنهار إلى أرض كنعان ، فالعبريون هم الأقوام الدخيلة على الكنعانيين الذين كانوا في حرب معهم ولأجل ذلك لم يرد في القرآن الكريم اطلاق العبريين على اليهود.

وقد عاش هؤلاء مع الكنعانيين زمنا طويلا وأخذوا من الأخيرة عاداتهم وتقاليدهم حتّى كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا إلّا في العقيدة فإنهم كانوا يعبدون الإله الواحد دون الأصنام ، بخلاف الكنعانيين ولم يمض من الوقت كثير حتّى أصبح العبريون قبيلة كبيرة يمتهنون الرعي ينتقلون من مكان إلى

مكان يبحثون عن المراعي الخصبة حتّى حل الجدب والمجاعة في أرض كنعان وما جاورها ، فكان لا بد لهم من الهجرة إلى مصر التي عرفت بوفور نعمها وكثرة مياهها ، ولم تكن مصر غريبة عنهم فقد دخلها أبوهم إبراهيم من قبل.

وأول من دخل مصر من بني إسرائيل هو يوسف بن يعقوب (عليهما‌السلام) وانضم اليه إخوته وعشيرته كما بيّن سبحانه وتعالى قصتهم في سورة يوسف. وعاشوا فيها زمنا طويلا ، فتكاثر نسلهم وازداد عددهم عاما بعد عام. والمذكور في التوراة أنّ ذرية هذه الجماعة هي التي خرجت من مصر بعد مرور أكثر من أربعة قرون بسبب اضطهاد فرعون وقومه لهم.

والإسرائيليون في مصر كانوا في عزلة تامة عن المصريين لا يختلطون معهم ، ولذلك لم يتعرض لهم المصريون بسوء حتّى ازداد نسلهم وكثرت أموالهم فأصبحوا مصدر قلق لملوك مصر واشتد هذا القلق في عهد رمسيس (١٣٠٠ ـ ١٢٣٣ قبل الميلاد) الذي يعد من أعظم الفراعنة قدرة ومنعة ، فقد تغلب على أعداء مصر وجلب منهم عددا كبيرا إليها ، وأسرف في البناء فكان من نتائجه أن نصف ما بقي من العمائر المصرية تعزى إلى أيام حكمه ، وراجت التجارة في عهده وازدادت ثروة المصريين ، وقد أظهر العداء لبني إسرائيل وكان لذلك أسباب عديدة كان من أهمها أنهم عرفوا بخيانتهم للعهد والإفساد لدى المصريين وكان ذلك نتيجة انعزالهم وابتعادهم عنهم وامتناعهم عن قبول عقيدتهم.

وقد نقل التاريخ أنّ هذا الملك جمع قومه وسألهم عما يفعله ببني إسرائيل فنصحوه باستعبادهم حتّى يتغيروا عما هم عليه ، فإن للعبودية أثرا كبيرا في إذلال النفس وتغييرها. وقد أخذ بنصيحتهم فاستعبدهم إلّا أنه لم يتحقق له ما يريده ، واستبطأ أثر الاستدلال فعمل على انقراضهم حتّى نمى اليه أنهم يريدون التآمر عليه فازداد قسوة عليهم فأذلهم وسخرهم في الأعمال الشاقة كالبناء وحصرهم في ساحات العمل ووكل بهم من يتبعهم حتّى لا يجدوا فسحة للراحة ، فقد عانوا من هذا الوضع أشد العذاب وانتشرت فيهم

الأوبئة والأمراض ، ولكنه لم يكتف بذلك لما رأى ازدياد نسلهم فسنّ قانونا يقضي بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل واستبقاء نسائهم ، كما ورد في الحديث أيضا : «إنّ فرعون لما بلغه أنّ بني إسرائيل يقولون يولد فينا رجل يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده كان يقتل أولادهم الذكور ، ويدع الإناث» وكان قصده من ذلك تزويج المصريين بهنّ ونقض كيانهم المستقل بانقراضهم ، أو أن يفعل بهنّ ما يشاء لاذهاب حيائهنّ كما حكى عنه عزوجل في القرآن العظيم ، وكان موسى (عليه‌السلام) من مواليد هذا العهد فبعثه الله تعالى نبيا إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان وإطلاق الإسرائيليين ليعبدوا إلههم فأبى ولم يستجب له كما قال تعالى : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الأعراف : الآية : ١٠٤ ـ ١٠٥].

ولكن فرعون شدد عليهم الأمر فازداد ظلمه بهم ، ويشير إلى ذلك ما ورد في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى انبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل ، ويزيد النكال بهم ، وقد تبرم بنو إسرائيل من هذا الوضع الجديد ، كما قال تعالى : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٩] فتهيأ موسى للخروج من مصر.

وقد قيل في سبب الخروج أمور كثيرة ، فقيل : إن فرعون أذن لهم بالخروج بعد أن شكى قومه إليه من الوباء المتفشي بينهم ، ثم ندم فرعون على ذلك فأتبعهم ـ وقيل إن موسى أمر نساء بني إسرائيل أن يأخذن حلي نساء القبط ، كما ورد في التوراة فأمرهم بالخروج فأتبعهم فرعون.

وكيف كان فقد سار بهم موسى حين بلغ ساحل البحر الأحمر عند خليج السويس ، ولكن فرعون اتبعهم حتّى طلع عليهم عند شروق الشمس فأيقن بنو إسرائيل بالهلاك ، قال تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٠] وقاد موسى جيشه وعبر بهم إلى الشاطئ الشرقي بعد أن ضرب بعصاه البحر (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [سورة

الشعراء ، الآية : ٦٣] وأبى فرعون إلّا متابعتهم فعند ما توسط البحر هو وجنوده انطبق عليهم البحر فغرقوا جميعا وخرجت جثة فرعون لتكون لمن بعده عبرة ، كما حكى تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [سورة يونس ، الآية : ٩٢] وهي محفوظة إلى الآن في مقبرة الفراعنة (الأهرام) في المتحف المصري. وكان خروجهم من مصر حوالي سنة ١٢١٣ قبل الميلاد ـ بعد أن أقاموا فيها من عهد يوسف ٤٣٠ ـ في شهر أبيب [الشهر الحادي عشر من السنة القبطية] كما هو المذكور في التوراة.

وكان بنو إسرائيل الذين انطلقوا مع موسى جيشا كبيرا ، وقد ذكر في التوراة أن عددهم كان يقارب ٠٠٠ / ٦٠٠ نسمة ـ وإن كان في هذا العدد شيء من المبالغة.

وقد اختلف المؤرخون في فرعون الذي خرج في عهده الإسرائيليون فقيل : إنه رمسيس الثاني ، وقيل : إنه منفتاح. والصحيح أنّ عهد الاضطهاد كان في ملك رمسيس الثاني ، وعهد الخروج كان في ملك منفتاح ، وسيأتي بقية قصصهم في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

هذه الآيات كسابقتها في مقام تعداد النّعم على بني إسرائيل وهي تشتمل على نزول التوراة التي هي من أعظم النّعم عليهم ، لأنها من أهم الكتب السماوية بعد القرآن وان قوبلت منهم بالرد والكفران ، وعبادة العجل.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

الوعد : معروف ، وقد استعملت مادة (وع د) بجميع هيئاتها في القرآن

الكريم ، وتستعمل في الخير تارة : وهو كثير ، قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٩] وقال تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [سورة النساء ، الآية : ٩٥]. وفي الشر أخرى : كقوله تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الحج ، الآية : ٧٢]. وفيهما معا ثالثة : كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [سورة فاطر ، الآية : ٥].

والإيعاد والوعيد يستعملان في الشر ، قال تعالى : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) [سورة ق ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٤]. وخلف الوعد بالخير قبيح ولكن لا قبح في خلف الوعيد.

والمعروف بين الأدباء وتبعهم المفسرون ان كل واحد من الوعد وخلفه خير يتصف بالصدق والكذب وهو بالنسبة إلى خلف الوعد باطل ، لأنه من مقولة الفعل والعمل لا من مقولة اللفظ والقول إلّا أن يريدوا الإلحاق الحكمي لا الموضوعي. وكذا بالنسبة إلى نفس الوعد فإنه قد يستعمل في مقام الإنشاء لا الإخبار.

ثم إنّ المفسرين ذكروا تبعا لأهل اللغة أنّ المواعدة من الطرفين فلا بد من قيام المصدر بهما ، وقد ذكرنا في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩] أنّ أصل المفاعلة لا تدل إلّا لإنهاء المصدر إلى الغير سواء قام الغير بهذا الفعل أو لا ، ولا بد في تعيين ذلك من التماس القرينة.

ولما اجتاز بنو إسرائيل البحر ـ كما تقدم ـ سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم فواعده ربه فضرب له ميقاتا ، وقد ذكر الميعاد في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا ، وفي آية ١٤٢ من سورة الأعراف ، وفي آية ٨٠ من سورة طه.

وكان مكان الميعاد هو الجانب الأيمن من طور سيناء قال تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [سورة طه ، الآية : ٨٠].

وأما زمان الميعاد فهو ذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة كما يستفاد ذلك من الروايات الواردة على ما يأتي ، ويقتضيه الإعتبار أيضا ، لأنه زمان قبول توبة آدم (عليه‌السلام) ، ومن أشهر الحج ومن أشهر الحرم ، وزمان ورود وفد الله تعالى من أطراف الأرض الى المواقيت المكانية فاتحد الميقاتان : المكاني ، والزماني ، وهما مقام تجلي عظمة الله تعالى لأمة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما تجلى لموسى بن عمران ، وقد أدرك (عليه‌السلام) الميقاتين أحدهما جانب الطور الأيمن وثانيهما ما حكاه أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام): «أحرم موسى من رملة ، ومر بصفائح الروحاء محرما يقود ناقته بخطام من ليف عليه عباءتان تطوانيتان يلبّي وتجيبه الجبال».

والأربعون هي مجموع المدة ، ويمكن أن يكون في أصل التشريع ثلاثين ليلة فزيد عليه إتمام العشرة ، لأن أفعاله جلّت عظمته تتغير بتغير المصالح والمقتضيات ، ولذلك تقع مورد البداء والنسخ ، كما يأتي تفصيله ، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢] فذكر تعالى هنا الأربعين باعتبار مجموع الوعدين.

وكانت الغاية المطلوبة من هذا الميقات هي الانقطاع عن جميع العلائق والتوجه التام إلى رب الخلائق ليستعد بذلك للاستشراق والتجلي وتلقي المعارف والتوراة ، وعن جمع كثير من العرفاء أنه قد كان لكل نبي ميقات زماني ومكاني مع ربه يختلف ذلك باختلاف حالاتهم ودرجاتهم ومنهم من ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بإشارات مختلفة ، ومنهم من لم يذكره.

وإنّما خص سبحانه وتعالى الليالي بالذكر دون الأيام إما لأن الليالي أولى واجمع للمناجاة معه جل شأنه ، أو لأن الليل أسبق من اليوم لأنها غرر شهور العرب التي وضعت على سير القمر وظهور الهلال ، أو لأن الليل يشتمل تمام اليوم دون العكس.

ويمكن أن يكون ذكر الليالي لأجل بيان أن موسى (عليه‌السلام) كان يوصل صومه بالليل ولو اقتصر على ذكر خصوص اليوم لما أفاد هذا المعنى

وفي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام): «ان موسى (عليه‌السلام) كان حين ذهابه إلى المناجاة يمضغ ورق شجرة ويطرحه تحرزا عن رائحة فمه حين مناجاته مع ربه ، فأوحى الله تعالى اليه : يا موسى لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك».

ولكن عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) النهي عن صوم الوصال ، مع أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصوم صوم الوصال ، فقيل له : «كيف ذلك يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟! فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني ربي».

و (موسى) اسم غير عربي مركب من لفظين : [مو] وهو الماء و [شا] وهو الشجر ، سمي بذلك لأن التابوت الذي وضعته أمه فيه وألقته في البحر امتثالا لوحي الله تعالى إليها : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) [سورة القصص ، الآية : ٧] وجد عند الشجر فسمي باسم الماء والشجر.

وعن جمع من المفسرين واللغويين إبدال الشين بالسين المعجمة ، ويشهد لهم بعض اللغات العبرية ، وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه‌السلام).

وقد ورد اسمه (عليه‌السلام) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة وست وثلاثين موضعا ، وشرح الله تعالى حالاته بالتفصيل من ولادته الى هجرته من مصر ونشر دعوته بما لم يشرح حال نبي من أنبيائه بمثل ذلك.

وأما جعل الميعاد في الأربعين فلأن الإخلاص لله عزوجل في هذا المقدار من الزمان له موضوعية خاصة ، ولهذا العدد آثار معينة كما يشهد به وجدان أهل الحال ، وثبت ذلك في الفلسفة العملية وعلم الأخلاق ، وقد قرره نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله : «من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وأنطق بها لسانه».

وأما ذكره بعنوانين ثلاثين ، والإتمام بالعشر في آية أخرى ، قال تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ

لَيْلَةً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢] فلأجل أن للعشر الأخير من الأربعين الإخلاصية آثارا خاصة لا تحصل في سائر عشراتها السابقة ، وتأتي تتمة الكلام في البحث الفلسفي الأخلاقي.

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ). الاتخاذ : الافتعال والجعل ، سواء كان بمعنى عبادتهم للعجل أم جعله إلها : والعجل : ولد البقر ، وإنما عبر به إما لعجلة السامري اتخاذه إلها وعبادته له ، أو لعجلة موسى في إفنائه دفعا للشر ؛ كما قال تعالى : (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) [سورة طه ، الآية : ٩٧] فكان جعله إلها وافناؤه بالتعجيل.

والمعنى : اتخذتم العجل إلها بعد غياب موسى عنكم ، وذهابه إلى الميعاد لأخذ التوراة ، وهذا من عجيب حالهم حيث قابلوا النعمة بأقبح أنواع الخيانة للعهد وأشد أفراد الجناية على النفس ، لأنهم استبدلوا التراب برب الأرباب ، وما رأوه في العجل من الخوار بالعزيز الجبار وسيأتي تفصيل قصة العجل وعبادته في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). العفو : إنما يصدق بالنسبة إلى استحقاق العقاب أيضا ، ولكنه لم يصل إلى الفعلية إمهالا منه في عقوبة عباده ، فلا بد وأن تشكروا على هذه النعمة ، أي عدم العجلة في العقوبة حتّى تختاروا إما البقاء على الكفر أو الاهتداء فتتحقق العقوبة بالنسبة إلى الأول ، دون الأخير.

قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).أي : اذكر نعمة أخرى لبني إسرائيل وهي من أهم النّعم ، المعنوية والظاهرية ، الفردية والنوعية وهي نزول التوراة كتاب يفرق بين الحقّ والباطل ، فيه تفصيل كل شيء ، وسبب للاهتداء الى الحق المبين والصراط المستقيم ، كما قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٥] فقد حصل من الميعاد

أمران : أحدهما خير الأمور ، وهو من الله تعالى ، والثاني شر الأمور وهو عبادة العجل وكان من الشيطان ، لقانون مقابلة كل حق بباطل حسب ما اقتضته المقادير الإلهية في الأمور النوعية ، بل الشخصية أيضا.

والفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل. وهذا وصف لكل كتاب سماوي ، وشريعة إلهية ، قال تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣]. ويمكن أن يكون المراد بالفرقان المعنى الوصفي الشامل للجميع لا خصوص المعنى العلمي للقرآن.

كما يمكن أن يراد من الفرقان هنا المعنى الجامع لكل ما يفرق بين الحق والباطل من التوراة ، وفرق البحر ، وسائر الآيات والمعجزات التي فرق بها بين الحق والباطل.

وكلمة (لعل) إذا استعملت في كلامه تعالى تكون بداعي محبته تعالى لمدخولها ورضائه واشفاقه بالنسبة إليه ، لا بمعنى الترجي الحقيقي لاستحالته بالنسبة إليه عزوجل ، إذ كيف يتصور فيه ذلك وهو عالم الغيب والشهادة من جميع الخصوصيات مما هو موجود وما مضى وما هو آت ، فكل شيء حاضر لديه ، وعن جمع من المفسرين أنها بمعنى «كي» التعليلية.

وفي هذه الآيات المباركة تعجيب منهم فإنّه مع ظهور الآيات الكثيرة لبني إسرائيل ، ليتدبروا فيها ، ويعتبروا منها ، ويعملوا بما أمرهم الله تعالى به ، لكنهم قابلوا تلك بالكفران ، ونقض ما أمرهم الله تعالى فكفروا برسالة خاتم النبيين.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أمر مركوز في أنفسهم وهو انهم كانوا يتوقعون أن يكون خاتم النبيين من بني إسرائيل ، لتتم لهم الحركة الدينية ابتداؤها وانتهاؤها لكن جعلها الله تعالى في بني إسماعيل فحصلت المعاداة الفطرية بينهم.

وعلى أية حال ففي هذه الآيات إشارة إلى بعدهم أيضا عن مقام الشكر والاهتداء ، لإفراطهم في اللجاجة والعصيان.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ). أي اذكر لبني إسرائيل ما فاله موسى لهم. والظلم الحاصل من عبادة العجل عظيم بتمام معنى العظمة ، لأنه شرك وقد وقع بعد الآيات الكثيرة الواقعة من الله تعالى ، فكأنهم سقطوا من السماء إلى الأرض بظلمهم هذا ، ومن درجات المقربين إلى أسفل السافلين. ولذلك كان ظلما عظيما على أنفسهم بعد تمامية الحجة عليهم حيث صاروا كفارا جاحدين ، وحكمهم شديد في شريعة التوراة والقرآن ، فقول موسى (عليه‌السلام) : «إنكم ظلمتم» إخبار لهم عن كفرهم وجحودهم وهم اعترفوا بذلك ولم يحك القرآن الاعتراض منهم على موسى (عليه‌السلام) في ذلك ، مع بنائهم على الاعتراض واللجاج.

والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه وواحده [امرؤ] والمعروف بين أهل اللغة اختصاصه بالرجال ، دون النساء ، قال تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [سورة الحجرات ، الآية : ١١] ، وقال زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقد يراد من القوم النساء أيضا ، لقرينة تدل عليه قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٣] ومعلوم أن الرسالة تعم الرجال والنساء.

وهو في المقام منادى مضاف حذف منه الياء وأصله يا قومي. وخطاب موسى لقومه إنما كان بأمر منه تعالى ، وإنما فعل ذلك إجلالا لشأن موسى (عليه‌السلام) ، وأن خطابه كخطاب الله تعالى معهم ، ولا بد وان يكون كذلك ، لأن كلام النبي (عليه‌السلام) في جهات التشريع وتربية أمته نفس كلام المنبأ عنه وإلّا لغي التشريع المبني على النبوءة الإلهية ، فقد ورد في حق نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم ، الآية : ٤] وهذا الحكم يجري فى جميع أنبياء الله

تعالى كل في أمته ومورد نبوته.

قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ). البارئ مثل الخالق لفظا ومعنى ، لكنه أخص من الثاني من جهات ثلاث :

الأولى : اختصاصه بالإطلاق على الله عزوجل ، ولا يطلق على غيره إلّا بالعناية.

الثانية : اختصاصه في كون متعلقه الحيوان ، يقال : خالق الخلق وبارئ النسمات.

الثالثة : اختصاص مورده بالأمور الدقيقة التي لا يحيط بها إلّا علّام الغيوب. فهو أخص من الخالق والمصور ، قال تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٤].

والبارئ من الأسماء الحسنى. والتعبير به في هذه الآية المباركة إشارة إلى نهاية جهلهم ، حيث اختاروا عبادة الحيوان المعروف بالغباوة في مقابل من هو بارئ لذاته ومن ذاته ، وتقدم معنى التوبة في آية : ٣٧.

قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). بيان للتوبة ، أي : ليقتل من لم يعبد العجل من عبده ، ولعل التعبير ب «أنفسكم» اشارة الى ملاحظة التراحم بينهم لئلا يتسرعوا الى القتل ، لأن بينهم كانت وحدة القرابة والدين ، وليس المراد قتل الإنسان نفسه [الانتحار] كما في بعض التفاسير ، بل قتل بعضهم بعضا لما قلنا من وجود الوحدة بينهم ـ هذا في شريعة موسى (عليه‌السلام) ، وأما في الشريعة المقدسة السمحاء فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما أنعم الله على عبده بعد الإسلام أفضل من التوبة» ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كفى بالندم توبة» ، أو : «إن الإسلام يجبّ ما قبله».

والأمر بالقتل في الآية المباركة يتصور على وجوه :

الأول : القتل العشوائي ـ كالسباع الضارية التي يتكالب بعضهنّ على بعض ـ بلا فرق فيه بين البر ، والفاجر ـ أي عابد العجل ـ كما في جملة من

التفاسير ؛ وهذا وإن أمكن ثبوتا ، بل ورد نظيره في شمول العذاب للمذنبين وغيرهم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكنه بعيد عن حالتهم ، فإنها كانت حالة بدائية أي أول دخولهم في شريعة موسى (عليه‌السلام) ، فهي تقتضي الجلب والمداراة ، لا الدفع والتضييق.

الثاني : نفس القسم الأول مع اقتضائهم ذلك بأنفسهم لا بإيجاب من الله تعالى عليهم ابتداء ـ فيكون الأمر تقريرا لما سألوه ـ وهو غير بعيد ، خصوصا من الإسرائيليين الذين ينسب إليهم كل غث وسمين ، كما عن جمع.

الثالث : إنّ الأمر من الله تعالى كان امتحانيا ، كما في قضية إبراهيم خليل الله وذبح ابنه إسماعيل فلم يقع قتل في البين ، وإنّما وقع الاستسلام والامتحان موقعه.

الرابع : ما تقدم منا من قتل الأبرياء لعبدة العجل ، وسيأتي في البحث الروائي ذلك أيضا.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ). أي توبتكم بقتلكم لأنفسكم طاعة لله ، ومطهرة لكم ، وكفارة لذنبكم فيرتفع العقاب الأخروي بذلك ، وفي تكرار لفظ البارئ اشارة إلى أنه جل شأنه يتدارك هذا القتل بلطفه وعنايته.

قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). لأنّ ذلك مقتضى كونه بارئا ومحيطا بدقائق الأمور وأسرارها ومنعما عليهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عام لجميع المذنبين ولجميع الشرائع الإلهية ، فقد وردت هذه الجملة في أغلب قصص الأنبياء (عليهم‌السلام) بل جميعها ، فيستفاد أنه لم يجعل الله تعالى دينا إلّا وقرنه بقبول توبة المذنبين ، وهذا هو النظام الأحسن الذي يرتضيه العقل ، ويدل عليه النقل أيضا.

بقي شيء : وهو أن عبادة العجل كانت شركا بالله تعالى ، وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ٤٨]. ويمكن الجواب عنه : بأن تحمل الآية على ما إذا مات

مشركا ، لا ما إذا تاب وندم كما في عبدة العجل ، فإنّهم بقتل أنفسهم وتسليمهم لذلك ، وقبول توبتهم لم يبق موضوع للسؤال بعد ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وربما يقال : إن بين قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وبين قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تهافتا فإنه بعد عفوه تعالى عنهم لا يبقى مجال للتوبة. نقول : يؤخذ بكل منهما من جهة لا من جميع الجهات ، فإن كل مجتمع يقع فيه المنكرات ـ أصولا أو فروعا ـ أو هما معا ـ تتحقق أصناف ثلاثة : الأول : من يردع المنكر ويحاربه. الثاني : من يفعل المنكر ويأتي به. الثالث : من يهم بفعل المنكر ولم يفعله. والأول في هذه القضية كان منحصرا في موسى وهارون ، والثاني من اتخذ العجل إلها ، والثالث من همّ بالاتخاذ ولم يتخذه. والأخير مورد العفو ، والثاني مورد التوبة ، والأول هو الرادع الإلهي.

بحث روائي :

عن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) قال (عليه‌السلام): «كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ، ثم بدا لله فزاد عشرا ، فتم ميقات ربه الأول والآخر أربعين ليلة».

أقول : يأتي ما يتعلق بالنسخ والبداء تفصيلا إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير العسكري : «لما فرج الله عن بني إسرائيل أمره الله عزوجل أن يأتي للميعاد ويصوم ثلاثين يوما ، فلما كان في آخر الأيام استاك قبل الفطر ، فأوحى الله عزوجل اليه : يا موسى أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك صم عشرا أخر ولا تستك عند الإفطار ، ففعل ذلك موسى ، فكان وعد الله عزوجل أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة».

أقول : هذا نحو تحبّب واحترام بالنسبة إلى الصائم لئلا يشمئز أحد من خلوق فمه.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : «أن موسى

(عليه‌السلام) لما خرج الى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم : «(يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فقالوا : كيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى : اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سكين ، أو حديدة ، أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا. فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلّى بهم موسى (عليه‌السلام) وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتّى نزل جبرائيل ، فقال قل لهم يا موسى ارفعوا القتل ، فقد تاب الله عليكم فقتل عشرة آلاف وأنزل الله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

أقول : وقريب منه ما في تفسير العسكري ، وقد وقع القتل من غير العابدين للعجل على العابدين له بأمر من موسى (عليه‌السلام) ، ويجوز للنبي أن يوكل بعض مقدمات القتل إلى من يشاء ، وكان ذلك توبة منهم. والحصر في العدد غير حقيقي فلا ينافي الحديث الآتي.

وفي الدر المنثور عن علي (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية ـ قال (عليه‌السلام): «قالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال موسى (عليه‌السلام) : يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه والله لا يبالي من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل ، وتيب على من بقي».

أقول : تقدم في الرواية السابقة وجه ذلك.

بحث فلسفي (عملي):

لا ريب في أنّ إفاضاته تعالى غير متناهية ، وليست هي محدودة بحد خاص ، والتحديد إنما هو في المفاض عليه فإن العطيات بقدر القابليات والإفاضات إنما هي محدودة بحدود الاستعدادات. وعلى هذا فإن المستفيض قد يشمله الفيض العام (مطلق الوجود) وقد يشمله الفيض الخاص ، كما أنه

ربما يستفيد من الفيض الأخص ، والأخير يتوقف على أمور خاصة شرعية ـ كالرياضات والعبادات ـ توجب تهيئة النفس للإفاضة بالفيض الأخص ، بلا فرق بين الأنبياء والمرسلين وغيرهم ، فإن خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع أنّه من أكمل النفوس وأتمها وأقربها إلى ربّ العالمين تحصل من عباداته لله تعالى ومجاهداته فيه جل شأنه حالات لم تكن له قبل ذلك.

والقابلية للاستفاضة إنما تحصل بانقلاع النفس عن العلائق الجسمانية والحواجب الظلمانية ، وانقطاعها إلى الله تعالى وتصفية مرآتها عن الغبار ومحو جميع الأنداد والأغيار ، فإن لذلك الأثر العظيم في حصول الانس وتجلي القلب بأنوار القدس فيتجلى الله تعالى على قلبه بنور عظمته ، وإليه أشار نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : «من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وأنطق بها لسانه».

والغرض من الميقات والميعاد هو ذلك ، وقد تقدم أنه قال جمع من العرفاء : إن لكل نبي وولي ميقاتا مخصوصا.

وإنّما ذكر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الرواية الصباح ليلازم العبد على الصمت والسكوت إلّا عن الحق ، لأن اليوم والصباح مظنة الخلطة مع النّاس والتكلم معهم في أمور الدنيا ، وفي الحديث : «من رأيتموه سكوتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة».

ثم إنّ للميقات والميعاد مظاهر مختلفة فقد كان ميقات موسى في أربعين ليلة وفي جانب الطور الأيمن كما عرفت ، وأما مواقيت خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد جعل لأمته مواقيت خمسة مكانية كمواقيت الحج والعمرة وزمانية كأشهر الحج أو هما معا فيما إذا اتفقتا معا ، وهي من علامات رسالته ومعجزات نبوته ؛ وفيها يتبرأ كل مسلم من الشرك والأنداد ويطرح الأغيار والأضداد ويتهيأ تهيئة الأسير الذليل بين يدي الرب العظيم ليتجلى الله تعالى عليهم عشية عرفات فيحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم فكان من إحدى مظاهر تجليات الله تعالى لعباده يوم القيامة ؛ وآخر كلام موسى (عليه‌السلام) مع ربه في الميقات «سبحانك تبت إليك».

وأما أول كلام أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وآخر كلامهم إنما هو تبشيرات الوصول والمواجهة : «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».

ويفترق ميقات موسى بن عمران عن ميقات أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن الأول شخصي والآخر نوعي ، وأنّ الثاني كان ميقاتا قبل خلق الخلق ، ولكن الأول صار ميقاتا بورود موسى (عليه‌السلام) اليه.

ومن المواقيت أيضا لأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مواقيت الصلاة التي يحضرون فيها لدى الله تعالى في أوقات صلواتهم وتوجهاتهم إليه بقلوبهم وأبدانهم كما يشير إليه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصّلاة معراج المؤمن» كما أن الاعتكاف الحاصل لهم في المساجد كذلك بل اجتمع فيه الميقات الزماني والمكاني والحالي أيضا.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى بعض نعمه على بني إسرائيل مع كفرانهم لها ذكر جل شأنه في هذه الآيات المباركة بعضها الآخر ، وبيّن فيها بعض الوقائع التي وقعت عليهم أيضا ، كما ذكر فيها ما ينفعهم في صلاح حالهم.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). أي : اذكروا ما قلتم لموسى (عليه‌السلام) لن نصدقك حتّى نرى

الله جهرة ، وهذا بيان لقصة أخرى من قصصهم وهي من أعظم مظاهر جهلهم ، وكانت عقوبة هذا الجهل من أعجل العقوبات التي حلت بهم.

والإيمان بمعنى التصديق يتعدى باللام ، كما في المقام ، وبالباء كما في قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٣]. والرؤية هنا الإدراك بالقوة الحسية البصرية ، وتستعمل بمعنى العلم وما يدرك في عالم الرؤيا أيضا ، والجهر معناه العلانية ، والمراد به ظهور المدرك (بالفتح) معاينة في القوة الحسية إما في البصر ، كقول القائل : رأيته جهارا ، أو السمع كقوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه ، الآية : ٧] ، وأكد بالجهر للفرق بين رؤية العيان وغيرها.

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). تقدم في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩] معنى الصاعقة ، وهي النار المحرقة ، قال تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) [سورة الرعد ، الآية : ١٣] ، وقد يراد بها الصوت الشديد الموجب للموت ، قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٨] ، وتأتي بمعنى العذاب ، كما في قوله تعالى : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [سورة فصلت ، الآية : ١٣].

واحتمالات الصاعقة في هذه الآية المباركة هي : إما أن تكون من العذاب الأخروي جزاء لغيّهم ولجاجهم. وفيه : أنه خلاف ما في الكتب السماوية من أن العذاب الأخروي متوقف على أمور معينة يأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، أو تكون نحو عذاب دنيوي ، جزاء لعنادهم ولجاجهم. وفيه : أنه خلاف ما جرت عليه عادة الله تعالى من التأني والإمهال في التعذيب والتأخير فيه إلّا ان يخصص المقام ، أو أن الصاعقة حصلت من آثار عظمته وجلاله وكبريائه جل شأنه فتكون من سنخ قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [سورة مريم ، الآية : ٩١] فهي أمر وضعي تكويني ، وتأثير الأقوال ، والأفعال غير

المرضية لله تعالى في عالم التكوين يستفاد من الكتاب العزيز والسنة المستفيضة كما يأتي ، بل تدل عليه الأدلة العقلية أيضا على ما يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

والنظر فيها تقليب البصر أو البصيرة لإدراك الشيء. واستعماله في الأول أكثر عند العامة ، وفي الثاني أكثر عند الخاصة. وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على كل منهما فمن الثاني قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٥] ومن الأول قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٧] وقد استعمل في المقام بمعنى مطلق الإدراك الشامل لكل من المعنيين بحسب شعورهم وإدراكهم فيكون نحو تخويف وتشديد لما سألوه من موسى (عليه‌السلام).

وقصة سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى مذكورة في التوراة ، وهي أن طائفة من بني إسرائيل اعترضوا على موسى وهارون وقالوا لماذا اختصا بالكلام مع الله تعالى مع أنهما إنما حظيا هذه المنزلة ، لكونهما من ولد إبراهيم (عليه‌السلام) وهذه النعمة تعم بني إسرائيل كلهم فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذهم الى خيمة العهد ، وهي خيمة نصبها موسى لنفسه وأمر بتقديسها وسميت بخيمة الزمان أيضا ، فانشقت الأرض وابتلعت قسما منهم وأحرقت الناس القسم الآخر.

ولكن نقل ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه‌السلام): «أن بني إسرائيل قالوا لن نؤمن لك بأنّ الله أرسلك وكلمك حتّى نسمع كلام الله تعالى فاختار منهم سبعين رجلا فلما سمعوا كلام الله قالوا لن نؤمن بأنه كلام الله حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا» ، وسيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

ويستفاد من الجمع بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣] أن سؤال موسى لرؤية الله تعالى لم يكن لنفسه ومن عند نفسه ، بل كان لبني إسرائيل ، ولذا لم يكن مشمولا

للصاعقة الموجبة للموت والبعث بعده ، بل قال تعالى في حقه (عليه‌السلام) (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣] ، وسيأتي التفصيل في سورة الأعراف.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). البعث بمعنى الإثارة والإرسال والتوجيه. وقد استعملت مادته في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، ويجمع جميع هذه الاستعمالات أحد أمور ثلاثة :

أحدها : الإيجاد من العدم إلى عالم الدنيا ، كقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣١] ، بناء على أنه أول غراب بعث من العدم إلى الوجود ، كما هو الظاهر.

ثانيها : الإحياء بعد الإماتة ، كقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [سورة الحج ، الآية : ٧].

ثالثها : البعث إلى المقاصد الصحيحة كبعث الرسل ، قال تعالى : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٩].

والمعروف بين المفسرين أن الأول مختص بالله تعالى ، ويستعمل الأخيران في غيره أيضا ، لأن بعض أولياء الله تعالى يحيي الموتى ، وأما البعث في الحوائج فهو شايع عند الناس.

أقول : إن اختصاص الأول بالله تعالى منصوص في قوله عزوجل لعيسى (عليه‌السلام) : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [سورة المائدة ، الآية : ١١٠] إلّا أن يقال : إنه من تبديل الصورة ، لا الإيجاد من العدم المحض.

والمراد بالبعث هنا المعنى الثاني أي بعثوا بعد الموت لعلهم يشكرون هذه النعمة عليهم ، ولكنهم قابلوها بالكفران.

وهذه الآية المباركة دليل على مذهب الإمامية من الرجعة ، واستدلوا بجملة من الآيات المباركة هذه إحداها ، ويأتي تفصيل ما ذهبوا اليه إن شاء الله تعالى.

وفي هذه الآيات إيماء إلى النهي عن التعمق في ذات الله جلت عظمته بل استحقاق العقاب عليه ، وقد وردت عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في النهي عن التعمق في ذاته عزوجل روايات كثيرة ، فعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلّا تحيرا» ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فإذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا».

قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ). ذكر سبحانه وتعالى بعض نعمه التي منّ بها على بني إسرائيل وهي نعمة التظليل ، وذلك أنهم لما خرجوا من مصر وأرادوا الأرض المقدسة اجتازوا صحراء لا ظل فيها ولا شجر فكان يصيبهم حر شديد فشكوا إلى موسى (عليه‌السلام) فأرسل الله تعالى إليهم الغمام لتظلّهم عن حر الشمس ، كما هو مذكور في التوراة.

والظل هو الستر وكلما يستر عن الضياء يسمى ظلا ، قال تعالى في وصف أهل الجنّة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [سورة المرسلات ، الآية : ٤١] والفيء أخص منه ، لاختصاص إطلاقه بما زالت عنه الشمس فقط ، وليس كل ظل هو فيئا. والغمام هو السحاب والقطعة منه غمامة ، وإنما سمي غماما ، لأنها تستر السماء فيصير معنى الغمام والظل والستر واحدا ويفرّق بالاعتبار ، وتظليل الغمام لهم إنما وقع في التيه.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى). هذه نعمة اخرى من النّعم التي منّ بها على بني إسرائيل. والمنّ هو الإحسان والخير ، ويقع تارة ، بالفعل ، وهو حسن وكثير في القرآن ، وأخرى بالقول وهو مستقبح عند الناس إلّا عند كفران النعمة ، ولذا قالوا : «إذا كفرت النعمة حسنت المنة». والسلوى هو كلما يتسلى به الإنسان ومنه التسلي في المصيبة ، وفلان

في سلوة من العيش أي : في رغده. والإنزال بمعنى الخلق والإيجاد ، وحيث يصدر كل منهما من مبدأ عال بكل معنى العلو يصح إطلاق الإنزال عليه ، كما في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥].

والمعنى : أنزلنا عليكم الخيرات والبركات ، وما يوجب رغد العيش ويشهد لهذا التعميم ذيل الآية الشريفة (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فإنها في مقام الامتنان.

وقد فسر المنّ بعض المفسرين بأنه مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس لأجل الاستفادة منها ، والسلوى : بالسمانى وهو طائر معروف. وهذا يكون من باب التطبيق ، لا بيان المعنى الحقيقي ، ويأتي شرح ذلك في قصة التيه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). الطيب ما تستطيبه النفس ، وهو من الأمور الإضافية فرب طيب يستطيبه قوم دون آخرين ، وذكر كلمة «من» في الآية الشريفة لهذه الجهة.

أي : ليأكل كل منكم ما يشاء ويستطيبه. وسياقها يدل على وفور النعم وكثرتها ، ولكنهم قابلوها بالكفران والمعاصي كما أشارت إليه الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). في هذه الآية الشريفة إشارة إلى أمر وجداني وهو كل من كفر بنعمة أسديت اليه فقد ظلم نفسه ، لأن ذلك سبب لانقطاع تلك النعمة وزوالها ، أو يستوجب عذاب الله تعالى ، ومما ظلموا به أنفسهم جحودهم لله تعالى الذي هو من أعظم الظلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ). مادة (ق ر ي) تأتي بمعنى الجمع فيصح إطلاقها على كل مجمع إطلاقا حقيقيا. وروي أنّ بعض القضاة دخل على علي بن الحسين (عليه‌السلام) فقال (عليه‌السلام) : «أخبرني عن قول الله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) ما يقول فيه علماؤكم؟ قال : يقولون إنها مكة فقال (عليه‌السلام) وهل رأيت سرق

في موضع أكثر منه بمكة؟ قال : فما هو؟ قال (عليه‌السلام) إنما عني الرجال. قلت : فأين ذلك من كتاب الله؟ فقال (عليه‌السلام) : ألم تسمع قول الله تعالى : فكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله».

أقول : وعلى هذا لا داعي إلى الحذف والإضمار كما عليه الأدباء وتبعهم جمع من المفسرين ، لأنه مع صحة المعنى الحقيقي لا تصل النوبة إلى المجاز والحذف.

ثم إنّ المراد بالقرية هنا مطلق المدينة ، وهما والبلد نظائر لغة وإن كان قد يفرق بين القرية والبلد عرفا ، فيقال : القرية للمجمع الصغير من الناس ، والقصبة لما هو أكبر منها ، والبلد لما هو أكبر منهما.

ولم يعين القرآن هذه القرية إلّا أن المعروف بين المفسرين أنها كانت بيت المقدس ، وهو المروي عن ابن عباس. وعن بعض أنها أريحا ، وهي من حدود بيت المقدس فيرجع إلى الأول ، ويشهد له قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٢١]. وهذه نعمة أخرى منّ بها الله عليهم حيث أباح لهم دخول القرية بعد زوال التيه عنهم ، فيكون الأمر إرشاديا لا تكليفيا وسيأتي تتمة الكلام بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً). الرغد هو السعة والكثرة ، وإطلاقه يشمل السعة في كل شيء كالرغد في أنواع النّعم والرغد في المكان والزمان وغير ذلك في مقابل كل ضيق يفترض.

وحيث إنّ دأب القرآن أنّ آياته المباركة يبين بعضها بعضا فلفظ الرغد وإن ذكر في هذه الآية الشريفة ولم يذكر في سورة الأعراف آية ١٦١ ولكن إذا لا حظنا الآيتين معا يكون كأنه ذكر فيهما معا.

قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً). لما أمرهم سبحانه وتعالى بالدخول إلى القرية المقدسة بيّن لهم كيفية الدخول وآدابه ، ولأجل هذا قدم قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) على قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ)

بخلاف ما ورد في سورة الأعراف.

والسجود هنا بمعنى الخضوع والخشوع المناسب لمن يدخل الأرض المقدسة ، وهو تأديب إلهي في كيفية دخول بيت المقدس ، ويصح تعديه الى كل بيت من بيوت الله تعالى ، وقد وردت في السنة المقدسة أمور كثيرة في آداب دخول المسجد الحرام والكعبة المقدسة تعرّض لها فقهاء الفريقين في الكتب الفقهية.

والمعروف في الباب أنّها من أبواب بيت المقدس يسمى بباب حطة (باب التوبة) ويمكن أن يراد بالباب مطلق مدخل الشيء سواء كان من الأبواب المعهودة المادية أم المعنوية ، أي : أبواب استكمالات النفس الإنسانية مطلقا ـ وإطلاق الباب على هذا المعنى شايع كثير فقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ومن أراد العلم فليأت الباب» فالأنبياء والأوصياء والعلماء بالله العاملون أبواب معرفة الله تعالى ، وطرق الهداية إليه ، ولا بد من الخضوع لهم لاستكمال النفوس الناقصة وهذا ما تقتضيه الفطرة فليس ما في هذه الآية المباركة أمرا خارجا عن حكم الفطرة وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «نحن باب حطتكم» وهذا مطابق لما تقدم فباب الحطة والعلم الإلهي واحد.

ولم يعلم أن هذا الأمر في الآية المباركة كان في شرع موسى (عليه‌السلام) على نحو الندب كما في شرعنا أو على نحو الوجوب ، وظاهر الأمر يقتضي الأخير لو لا سياق الأدبية ، وترتب العقاب على خصوص الذين بدّلوا القول.

قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). يعني : قولوا ـ عند دخولكم الباب خاشعين متواضعين لله تعالى ـ اللهم حط عنا ذنوبنا بتشرفنا ببيتك ، وسلكنا مسلك أهل عبادتك فإذا فعلتم ذلك بدخول الباب والتوبة نغفر لكم خطاياكم الكثيرة وقد وعدهم بمزيد الإحسان وهذا من سنته عزوجل ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [سورة يونس ، الآية : ٢٦] فلا تختص الآية الكريمة بموردها ، بل

تشمل كل من ترك ما لا يرتضيه تعالى ودخل في ما يرضاه عزوجل.

قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) التبديل : التغيير سواء كان في أصل المادة أم في الهيئة أم في بعض جهاتهما. وسواء كان في الإعتقاد أم في مجرد اللفظ أم فيهما معا ، وتبديل ما أنزله الله تعالى حرام بحكم الفطرة ، وقد أجمع المسلمون على عدم صحته في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية ، ومنه تبديل ألفاظ القرآن الكريم ولو حرفا واحدا ، فإنه لا يجوز بلا ريب ولا إشكال.

والمعنى : أنهم غيروا ما أمروا به فخالفوه ولم يتبعوه وكان لهذا التبديل مصاديق مختلفة عند اليهود فإنهم خالفوا الأمر بالاستغفار والتوبة والسجود في بيت المقدس وبدلوه إلى شيء آخر.

وللمفسرين في تعيين المبدل إليه في السجود والحطة أقوال : فذكر بعضهم أنهم قالوا بدل «حطة» حنطة في شعرة ، وقال آخر انه بهاطا ، أو بحاطا ، أو هطا سمهاثا إلى غير ذلك. وبدلوا الأمر بالسجود أنهم زحفوا على أستاههم ، وكيف كان فقد وقع التبديل والمخالفة في ما أمروا به فشملهم العذاب ، وهذا جزاء كل مستهزئ بآيات الله وأحكامه.

قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ). يستعمل الرجز بمعنى الاضطراب الموجب للعذاب ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الطاعون رجز عذّب به بعض الأمم» ، وعن بعض اللغويين الرجز والرجس متقاربان كالبزاق والبصاق. والرجز (بالضم) عبادة الأوثان وهو يناسب المعنى الأول. ولم يذكر سبحانه وتعالى نوع العذاب ، وإنما ذكر بعض المفسرين أنه الطاعون فمات منهم أربعة وعشرون ألفا من كبارهم وشيوخهم وبقي الأبناء فانتقل عنهم العلم والعمل فمات الكبراء والشيوخ بالطاعون ومات الباقون بالجهل المركب الذي هو أشد من الطاعون ، وإنما كرر الظالمين في الآية المباركة إما لأجل تخصيص الرجز بالظالمين ، أو تعظيما للأمر وإظهار قبح ظلمهم.

قوله تعالى : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). ابتلى اليهود بأنواع من العذاب

جزاء بما كانوا يفسقون بمخالفة الأوامر الإلهية ، وسيأتي في سورة الأعراف تمام قصتهم إن شاء الله تعالى.

بحث دلالي :

يمكن أن يكون تظليل الغمام إشارة إلى مقام تجلّي صفاته المقدسة جلت عظمته لخلّص عباده ، وإنزال المن والسلوى إشارة إلى المقامات الحاصلة لهم من التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل. وكلوا من طيبات ما رزقناكم إشارة إلى قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» ، وفي قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) إشارة إلى قوله تعالى : «من دنا إليّ شبرا دنوت إليه ذراعا ومن دنا إليّ ذراعا دنوت منه باعا ، ومن دنا إليّ باعا دنوت إليه هرولة» ، وقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْبابَ) إشارة إلى باب الرضا بالقضاء الذي هو باب الله الأعظم ، وقوله تعالى : (سُجَّداً) إشارة إلى ظهور التجليات من عالم الغيب. والقرآن ذو وجوه والمطلوب هو عدم الجزم بما ظهر من الاحتمال وإيكال العلم إلى العليم المتعال.

ثم إنّ ذكر حالات بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين آية من سورة البقرة ، وذكر قصصهم في القرآن الكريم ، وبيان لجاجهم وعنادهم مع أنبيائهم ، وتعذيبهم بأنواع العذاب لما في ذلك من التسلية للنبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بما كان يلقاه من مشركي العرب ، وإيماء إلى أن من أصرّ على جهله وعناده في إنكار الحق بعد ظهوره يرى ما رآه بنو إسرائيل من العذاب ، لوجود التشابه بينهما ، فلا بد من العبرة بما جرى عليهم ، ونبذ مساوي الأخلاق والاهتمام بإصلاح النفوس فإن الله تعالى لم يحك لنا قصص الماضين إلّا للاعتبار بها.

بحث روائي :

في تفسير القمي في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : «هم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه‌السلام)

ليسمعوا كلام الله تعالى فلما سمعوا الكلام قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى الله جهرة. فبعث الله عليهم صاعقة فاحترقوا ثم أحياهم الله بعد ذلك وبعثهم أنبياء ، فهذا دليل على الرجعة في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنه قال : لم يكن في بني إسرائيل شيء إلّا وفي أمتي مثله».

أقول : يظهر من الحديث ـ على فرض صحته ـ أنّ هؤلاء السبعين كانوا من خواص أصحاب موسى «عليه‌السلام» لاختياره لهم ، كما يأتي في الرواية اللاحقة وكانوا عالمين بشريعته ، وإصرارهم على الرؤية إنما كان لأجل أن يصلوا الى هذا المقام الرفيع أي الرؤية وترفع درجتهم عند الناس في ترويجهم لشريعة موسى (عليه‌السلام) ، ونزول الصاعقة عليهم واحتراقهم نحو تأديب إلهي لهم لإصرارهم في سؤالهم ، فليست الصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، بل انها تأديبية وإحيائهم وبعثهم أنبياء ، لأجل أنهم كانوا عارفين بخصوصيات شريعة موسى (عليه‌السلام) والظاهر أنهم كانوا جميعا أنبياء في عصر واحد كجمع من علماء أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في عصر واحد لأنهم كانوا يبلّغون أحكام التوراة.

واما ذيل الحديث فيدل عليه روايات كثيرة من الفريقين على أن كل ما وقع في بني إسرائيل يقع في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويشهد لذلك قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٢] وهذا شأن جميع ذوي العقول التي انحصرت إدراكاتهم على الحس والمحسوسات ، وتأتي الإشارة إلى الآيات الدالة على الرجعة والأخبار الدالة عليها.

وفي العيون عن الرضا (عليه‌السلام): «إنهم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه‌السلام) وصاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه كما رأيته. فقال لهم : إني لم أره. فقالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)».

أقول : تقدم في الرواية السابقة ما يتعلق بهذه الرواية.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ـ الآية ـ لما عبر بهم موسى البحر نزلوا في مفازة ، فقالوا : يا موسى أهلكتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل فيها ، ولا شجر ، ولا ماء فكانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس ، وينزل عليهم بالليل المنّ فيأكلونه ، وبالعشي يجيء طائر مشوي فيقع على موائدهم فإذا أكلوا وشبعوا طار عنهم».

أقول : على فرض صحة الحديث يكون هذا من سنخ أطعمة الجنة التي تكون لها حياة خاصة.

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله عزوجل (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). قال (عليه‌السلام): «إنّ الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته ، حيث يقول : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يعني الأئمة». وقريب منه ما عن أبي الحسن الماضي (عليه‌السلام).

أقول : أما قوله (عليه‌السلام) إنّ الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ، فإن الظلم بمعنى المظلومية من صفات الممكن وهو تعالى منزه عن ذلك.

وأما الظلم بمعنى الفاعل فهو مضافا إلى أنه من صفات الممكن أيضا متقوم بالاحتياج وهو تعالى منزه عنهما.

وأما قوله خلطنا بنفسه يعني : جعلنا من مظاهره تعالى على العباد ، لأن أنبياء الله تعالى وأولياءه أدلاء عليه وكل دليل مظهر لمدلوله فيكون الخلط بهذا المعنى.

وأما قوله (عليه‌السلام) فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ، إذ لا معنى لولاية الله تعالى من كل جهة وإطاعته إلّا أن يكون الظلم عليهم ظلما على الله تعالى.

وعن ابن بابويه عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : الكمأة من المنّ الذي نزل على بني

إسرائيل ـ الحديث ـ» ، ومثله ما رواه البرقي عن الصادق (عليه‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : هذا من باب التطبيق ، ويظهر أن للمنّ مصاديق منها ما ورد في الحديث. والكمأة شحم الأرض.

وفي تفسير العياشي عن الرضا (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ). قال (عليه‌السلام) : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : نحن باب حطتكم».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك ، وقريب منه ما ورد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حق علي.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة بعض القضايا المهمة الواقعة في بني إسرائيل في عهد موسى (عليه‌السلام) تذكيرا بنعمه عليهم فقابلوا ذلك بالكفران والعناد للحق فعوقبوا بالذلة والمسكنة وغضب من الله تعالى.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ). الاستسقاء طلب الماء وذلك أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وقعوا في صحراء قفر فأصابهم ظمأ

شديد فاستعانوا بموسى (عليه‌السلام) فطلب من الله تعالى أن يسقيهم ، كما سبق أنهم طلبوا من موسى (عليه‌السلام) أن يظلّهم من حر الشمس فظلل عليهم الغمام ، وطلبوا الطعام فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى ، وجميع هذه الآيات وقعت في التيه ، وسيأتي تفصيل قصتهم في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ). أي أمرنا موسى (عليه‌السلام) أن يضرب الحجر بعصاه.

وقد ذكر بعض المفسرين أنّ هذا الحجر لم يكن حجرا معينا ، بل أي حجر ضربه (عليه‌السلام) انفجر منه الماء ، ولكنه مخالف لظاهر الآية المباركة بل كان حجرا معينا من أحجار الجنّة على ما روي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، فإنه قال : «ثلاثة أحجار من الجنّة : مقام إبراهيم وحجر بني إسرائيل ، والحجر الأسود». وهو موجود لدى خاتم الأوصياء (عليه‌السلام) وسيكون لهذا الحجر شأن من الشأن عند ظهوره (عليه‌السلام) ، ويشهد له ما في التوراة فإنه عبر عنه في سفر الخروج ب (الصخرة) ، وستأتي تتمة الكلام في البحث الروائي.

وعصا موسى (عليه‌السلام) معروفة في الكتب السماوية وقد كانت مظهرا لمعجزات كثيرة وأصلها من آس الجنّة كان آدم (عليه‌السلام) حملها معه من الجنّة إلى الأرض ، كان طولها عشرة أذرع على طول موسى (عليه‌السلام) ولها شعبتان تتوقدان نورا في الظلمة وكانت تتوارث مع الأنبياء وأوصيائهم حتّى دفعها شعيب إلى موسى بن عمران (عليه‌السلام) وهي موجودة الآن ، وستظهر حتّى تلقف أساس الظلم والعدوان على يد خليفة من خلفاء الرحمن إن شاء الله تعالى وفي جميع ذلك روايات معتبرة يأتي التعرض لها.

قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً). الإنفجار : الإنشقاق وكل انفجار مسبوق بالانبجاس ولا عكس. وقد ذكر سبحانه وتعالى في آية أخرى الانبجاس ، فقال جل شأنه : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ

اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٠] ويمكن الجمع بينه وبين المقام باختلاف المراتب شدة وضعفا ، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. وكانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره ، كما في الآية المباركة.

قوله تعالى : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ). العلم إما بإلهام منه عزوجل ذلك لهم ، أو بجعل من موسى (عليه‌السلام) أو بالتباني على ذلك ليختار كل أناس مشربهم فلا يقعوا في التنافس والتزاحم.

قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ). المراد من الرزق هنا هو الحاصل من عالم الغيب كما مر أي : كلوا مما رزقكم الله من المن والسلوى واشربوا مما فجرناه من الصخرة. وقد تقدم في أول السورة معنى الرزق.

قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). العيث : شدة الفساد ، أي : لا تبالغوا في الفساد في الأرض. وفي الآية المباركة إيماء الى أن كل فساد في الأرض عظيم وشديد ، أو أن الفساد يجب أن يتحرز حتّى عن موهومه فضلا عن مظنونه ومعلومه.

وورود النهي عقيب الإنعام فيه إيماء أيضا إلى أن النعمة يجب أن لا تكون سببا لفسادهم ؛ فلا يقابلوها بالغي والكفران. ويعرف من ذلك أن فساد بني إسرائيل وتبديلهم نعم الله تعالى بالكفران لا ينفك عنهم وقد طبعوا على ذلك ، كما شاهد ذلك نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مشركي قريش ويهود عصر التنزيل.

ثم إنّ حكم الآية عام لا يختص بخصوص المورد كما في كثير من الآيات ، ولعله لذلك التفت من سياق الكلام السابق إلى سياق آخر.

والأمر بالأكل والشرب للإباحة لجميع ما لم ينه الشارع عن أكله وشربه ، ولعامة أفراد الناس.

وظهور الماء من الحجارة بعصا موسى (عليه‌السلام) مذكور في التوراة

والقرآن الكريم ، كما أن ظهور الماء من أنامل نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مذكور في كتب الفريقين ، ومن الواضح أن الثاني أشد معجزة من الأول.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي : واذكر ما قاله بنو إسرائيل لموسى : إننا لن نصبر على المنّ والسلوى حيث لم يجدوا بديلا عنهما. وهذا يدل على قصور هممهم وانها مقتصرة على الماديات وعدم قابليتهم لنعم عالم الغيب فقد استولى على طباعهم السخرية والعناد فكان هذا السؤال منبعثا عن طبيعتهم.

والطعام : كل ما يتغذى به وغلّب استعماله في الحنطة لأجل الغلبة الاستعمالية وإلّا فقد يستعمل في الماء أيضا ، قال تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٩] ، وعن نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وصف ماء زمزم : «طعام طعم وشفاء سقم».

والطعام اسم يطلق على ما يؤكل ويشرب وقد وردت مادة (ط ع م) في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (هُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤] وقال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) [سورة المائدة ، الآية : ٩٣] ، وقال جلّ شأنه في وصف النار : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) [سورة المزمل ، الآية : ١٣]. والطعم (بالفتح) هو ما يؤديه الذوق ، قال تعالى في وصف الجنّة : (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) [سورة محمد ، الآية : ١٥] ، فهذه المادة قرينة الإنسان في جميع نشآته إلى الخلود ؛ وربما يستعمل في المعنويات أيضا ، قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [سورة عبس ، الآية : ٢٤] وفسر في الأخبار إلى علمه الذي يتعلّمه الإنسان. فالطعم (بالضم) الأكل ، و (بالفتح) عرض قائم بالقوة الذائقة.

والمراد بالواحد الوحدة النوعية ، فإن الطعام كان مركبا من المنّ والسلوى وأنه يتكرر كل يوم فذلك ينافي الوحدة الشخصية.

وفي عدم صبرهم على طعام واحد يحتمل وجهان : الأول : ملالة الذوق

لأن لكل جديد لذة. الثاني : المراد الوحدة في الآكلين مع أن فيهم الأغنياء والفقراء ومن هو أدون ، وهذا لا يناسب مقامهم الدنيوي ، وكل ذلك يرجع إلى قصور عقولهم ، كما ذكرناه.

قوله تعالى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها). الدعاء هنا بمعنى السؤال من الله تعالى والطلب منه وإفراد الخطاب في قوله تعالى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) لما علموا من أنس موسى (عليه‌السلام) بربه ، ورأفته تعالى بموسى (عليه‌السلام) فكانوا يعلمون الاستجابة منه ، وتحريضا لموسى (عليه‌السلام) للتأكيد في السؤال.

والبقل : كل نبات لا ينبت أصله وفرعه في الشتاء والمراد به ما يطعمه الإنسان من طيب الخضروات.

قوله تعالى : (وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها).

القثاء نبات معروف وهو الخيار ، كما أن العدس والبصل معروفان. والفوم هو الحنطة ، روي ذلك عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، وهو قول أكثر المفسرين. وقال جمع إنه الثوم أبدلت الثاء فاء ، وهو المشاكل للبصل.

قوله تعالى : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

الاستبدال طلب شيء بدلا من آخر ، أي : أتستبدلون الذي هو خسيس بالمن والسلوى الذي هو خير منه؟! واستبدالهم الدنيء بالخير واضح ، لأن المن والسلوى ينزلان عليهم من عالم الغيب من غير تعب وعناء ، وجميع ما سألوه إنما كان يخرج من الأرض بالتعب والمشقة وبذل الجهد حتّى يتغذوا به ، وانهما كانا أطيب وألذ مما سألوه.

قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ).

قد تقدم معنى المصر وهو في الأصل بمعنى الانقطاع والفصل لأن المحل صار منقطعا ومنفصلا عن غيره بالعمارة والسكنى.

والمراد بها مصر من الأمصار ، وقيل : إنها مصر المعروفة ، ويجوز تنوينها لصرفها ، ولا دليل على كلا القولين.

وكيف كان فالأمر للتعجيز ، لأنه لا يمكنهم الدخول في مصر من الأمصار ، لأن الله تبارك وتعالى كتب عليهم التيه ولا يمكنهم القتال لضعف عزائمهم وجبن نفوسهم ، وأن الأرض التي هم فيها جدباء لا ينبت فيها البقل والزرع.

قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ). الضرب يأتي لمعان كثيرة تتميز بالقرائن ، والمراد به في المقام هو اللزوم والإلزام من قولهم : «ضرب المولى الخراج على عبيده» أي ألزمهم ، وذلك أحسن الاستعمالات. والذلة : الصغار والهوان ، والمسكنة : الخضوع الشديد وفقر النفس ، لأن الفقر أسكن الشخص وقلل حركته. وهما أعم مما إذا كانتا في النفس ، أو في المال ، أو في سائر الجهات.

والله جل شأنه عاقبهم بالذلة والمسكنة ، لأنهم كفروا بأنعم الله فقد أذلهم الله تعالى باستيلاء سائر الأمم عليهم.

والمتيقن من الضمير في (عليهم) اليهود في عصر موسى (عليه‌السلام) الذين آذوه ، ومن آذوا منهم نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ويمكن إرجاعه إلى جميع الأعصار ، كما دلت عليه التواريخ ويأتي في الآيات المناسبة بيان ذلك.

قوله تعالى : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ). البوء بمعنى الرجوع ، وباءوا أي رجعوا وانقلبوا ، ويستعمل في القرآن غالبا في الشر ، قال تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٠] ، وقال تعالى : (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٢].

والغضب إن أضيف اليه سبحانه وتعالى فهو عقابه بالنسبة إلى من عضب عليه ، وإن أضيف الى الخلق فهو حالة توجب الإضرار وهي من الحالات المذمومة ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اتقوا الغضب ، فإنه شعلة من نار جهنم يلقى صاحبها في النار».

نعم إذا كان الغضب لله تعالى فهو محمود ، ومنه بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقدم بعض الكلام في سورة الفاتحة عند قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).

وقد بين تعالى السبب في إذلالهم ومسكنتهم وغضبه عليهم بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) فرجعوا بكفرهم وعصيانهم إلى غضبه تعالى رجوعا دائميا ، فإن كل غضب لا بد له من سبب بخلاف الرحمة ، فقد تواتر عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أن رحمته سبقت غضبه» وليس المراد بالسبق الزماني منه ، بل السبق الإيجادي التكويني ، فإن ما سواه منه عزوجل ومن رحمته ، فكل من يعصي الله سبحانه وتعالى فقد رجع من رحمته إلى غضبه وعقابه بعمده واختياره بعد فتح جميع أبواب الرحمة على الفاعل المختار ، فيستحق الخزي والعار في حكم العقل ، وحكم الشرع.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ).

أي : أنّ ما حل بهم من الذل والمسكنة ، واستحقاق غضب الله تعالى كان بسبب كفرهم وتكذيبهم لآياته جلّ شأنه. والمراد بآيات الله تعالى المعجزات الباهرات التي شاهدوها من موسى (عليه‌السلام) والكفر بها رجوع بغضب على غضب ، لأن كفران كل آية من آياته يوجب غضبا منه عزوجل ؛ ويجوز أن يكون المراد الكفر بالمعجزات وقتل النبيين أو إنكار الإنجيل والقرآن.

والأولى إرادة العموم ليشمل جميع ما ذكر مع ترك الواجبات وفعل المحرمات ، وتشهد لذلك الروايات الدالة على أن الإصرار على المعاصي الصغيرة من الكبائر ، ولا اختصاص لذلك ببني إسرائيل فقط ، بل يشمل أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعدم التخصيص بالمورد كما هو المتعارف.

قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ). الأنبياء جمع النبي ، كالأقوياء جمع القوي. والنبأ هو الخبر ، ولكنّه أخص من مطلق الخبر ، لاختصاصه بالإخبار عن الغيب بواسطة إنسان رفيع الشأن وعظيم المنزلة.

والمشهور بين اللغويين وتبعهم المفسرون أنّ مبدأ اشتقاق النبي مهموز. وعن بعض اشتقاقه من النبوة من غير همز ، وهي الارتفاع لأن مقام النبي رفيع جدا ، ولا ينافي ذلك لزومه الإخبار عن الله تعالى فبعض عبّروا بنفس اللازم وهو الاخبار ، والبعض الآخر عبروا بالملزوم وهو رفعة المقام ، ويمكن تأييده

بثقل الهمزة في كلام العرب حتّى نسب إليهم (عليهم‌السلام): «لو لا أن جبرائيل نزل القرآن بالهمزة ما همّزنا أهل البيت» ، ومنه يظهر حكم تخفيف الهمزة في القرآن كله ، وعليه كلما دار بين قراءة شيء بالهمزة أو بغيرها تكون القراءة بغيرها أولى. وروي أنّ رجلا جاء إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : «يا نبيء الله ـ بالهمزة ـ فقال : لست بنبيء الله ـ وهمز ـ ولكني نبيّ الله ـ بغير همز ـ». ويأتي النبي بمعنى الطريق ، وسمي الرسول به ، لاهتداء الخلق به كالطريق.

وعلى أية حال النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بلا واسطة بشر ، سواء كانت له شريعة كموسى وعيسى ومحمد (صلّى الله عليهم) ، أم لم تكن له شريعة كيحيى مثلا. والرسول هو الإنسان المخبر عن الله تعالى وكانت له شريعة ، سواء كانت مبتدأة كآدم (عليه‌السلام) أم ناسخة كشريعة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة.

وإنّما وصف الله سبحانه قتل النبيين بغير الحق ، وهو كذلك إذ لا يعقل أن يكون قتل الأنبياء بالحق ، فالقيد ليس باحترازي فهو إما لأجل تعظيم الذنب الذي اقترفوه ، وزيادة الشنعة عليهم. أو من باب تقرير زعمهم واعتقادهم ، يعني مع أنكم تعتقدون ان هذا القتل كان بغير حق فكيف تقدمون عليه مع هذا الاعتقاد ، وقد قتلوا من أنبياء الله تعالى أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ). العصيان معروف وهو خلاف الطاعة. والاعتداء تجاوز كل شيء ، ويحتمل أن يكون لفظ الإشارة الثانية في الآية المباركة تأكيدا للأولى فيها ، أي ذلك الذل والمسكنة والغضب كان بسبب عصيانهم لأوامر الله تعالى وخروجهم عن حدود ما أنزله الله تعالى. ويحتمل أن ترجع الإشارة إلى الأخير ، أي أن قتلهم الأنبياء كان بسبب عصيانهم واعتدائهم.

ويستفاد من قوله تعالى : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أن الاعتداء صار عادة لهم وطبعا وخلقا لديهم ، وهذا أمر لا يختص باليهود بل كل من استولى عليه العصيان والمخالفة والاعتداء على حدود الله تعالى يستحق غضب الله تعالى

واذلاله فيكون ذيل الآية الشريفة حكما عقليا لا يختص بأمة دون أخرى.

بحوث المقام

بحث روائي :

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) قال (عليه‌السلام): «والله ما قتلوهم بأيديهم ، ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها وصار قتلا واعتداء ومعصية».

أقول : المراد من القتل أعم من المباشر والتسبيب ، وفي ذلك روايات كثيرة ، بل يستفاد ذلك من نفس الآية المباركة ، وربما يكون السبب أقوى.

وعن القمي : «كان مع موسى حجر يضعه في وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فينفجر منه اثنتا عشرة عينا ـ كما حكى الله تعالى ـ فيذهب كل سبط في رحله وكانوا اثني عشر سبطا».

أقول : تعبير القرآن المبين وهذا الخبر بالحجر أولى من تعبير التوراة بالصخرة لأن الحجر يمكن حمله معهم ـ كما في هذه الرواية ـ دون الصخرة فإنها تطلق على الحجارة الكبيرة التي لا تحمل إلّا مع المشقة.

وفي تفسير العسكري عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «احذروا الانهماك في المعاصي ، والتهاون بها ، فإن المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتّى توقعه في ما هو أعظم منها ، فلا يزال يعصي ويتهاون ويخذل ويوقع في ما هو أعظم مما جنى».

أقول : ما ورد في هذه الرواية وجداني لكل من أرخى عنان النفس في المعاصي ، وسلك في أي مسلك شاء وأراد ، وتدل عليه الروايات الكثيرة ، واستفاد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذلك من قوله تعالى : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

بحث فقهي وكلامي :

قد استدل بالآية الشريفة (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) على إباحة الأشياء وحليتها وجعلوها أصلا عبروا عنه بأصالة الإباحة العقلية والنقلية وقد حررنا البحث عنه في كتابنا [تهذيب الأصول] فلا وجه للتعرض هنا بعد ذلك.

كما استدل بها على أنّ الرزق يطلق على الحلال فقط لأن الأمر يدل على الإباحة في المقام ، وحيث لا يتصور الإباحة في الحرام فلا يصدق عليه الرزق.

ولكن يرد عليه أنّ من شرط ظهور اللفظ في شيء إحراز كون المتكلم في مقام بيان ذلك الشيء وإقامة الحجة عليه ، وهو غير محرز في المقام ، ويكفي في عدم صحة التمسك بالإطلاق الشك في ذلك على ما هو المتعارف في المحاورات ، وقد حررنا ذلك في أصول الفقه ، ويأتي في الآيات المناسبة ما يتعلق بالرزق إن شاء الله تعالى.

بحث فلسفي :

ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة جملة من المعجزات التي صدرت من موسى (عليه‌السلام) وهي كلها من صنع الله تعالى وإذا نسبت اليه تعالى لا يتصور فيها التحديد والتقييد بوجه من الوجوه لعموم قدرته ، فالحد بالنسبة إلى الكمال الأتم المطلق من كل جهة ـ من ذاته وبذاته ولذاته ـ لا يتصور له معنى معقول ، ولكن إذا لوحظ ذلك كله بالنسبة إلى المورد والمتعلق لا بد أن يحد بحد الإمكان الذاتي إذ المستحيل بالذات يقصر عن أن يقع مورد المعجزات وخوارق العادات ، لقصور في المتعلق لا أن يكون القصور في القدرة ، وقد سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «هل يقدر الله على أن يجعل الدنيا في بيضة بحيث لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة؟ فقال (عليه‌السلام) إن الله قادر ، ولكن هذا لا يكون» ، فاتفق العقل والنقل على خروج الممتنعات عن مورد المعجزات وخوارق العادات ، وإنما يكون موردها الممكنات الذاتية ، وإن كانت ممتنعة عادة بالأسباب العادية لكنها ممكنة

بالقدرة القاهرة الربوبية. ومنه يعلم الوجه في المعجزات الصادرة عن الأنبياء لا سيما نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وهذا مراد جمع من الفلاسفة والمتكلمين وتبعهم بعض المفسرين القدماء من أن المعجزة تجري بأسبابها الطبيعية ، أي أنها تجري في الممكنات الذاتية ، لا الممتنعات بأسبابها الطبيعية الظاهرة لمن جرت على يده المعجزات الخفية على غيره بل غير القابلة للظهور له.

ومع ذلك إنّه تبارك وتعالى سلك في جريان الإعجاز مسلك الأسباب الظاهرية ، حفظا للنظام الأحسن الجاري في الأسباب والمسببات ، فإنه تعالى أبى أن تجري الأمور إلّا بأسبابها ، ولذا كان جريان الماء بضرب الحجر بالعصا ، وحمل مريم ابنة عمران بتمثل الروح الأمين لها وتسبيح الحصى في يدي نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، مع أنه تبارك وتعالى قادر على إيجاد هذه الأمور بغير تلك الأسباب أيضا.

ومما ذكرنا يظهر أنّ جميع القوانين العلمية ، والمخترعات الحديثة وما يلحقها بعد ذلك لا ربط لها بالمعجزة وخارق العادة أصلا ، لأنها تجري وفق قوانين علمية ، أو عملية ثابتة مطردة حاصلة من التجربة بخلاف المعجزة فإنها سنة جديدة لم يألفها الإنسان ، ولا يعرف لها قاعدة مطردة ، وإنما تكون بإذن الله تبارك وتعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

بعد أن ذكر تعالى بعض أحوال اليهود وتعداد النّعم عليهم وكفرهم وعنادهم عن الحق شرع في بيان أحوال المؤمنين من اليهود والنصارى والصابئين الذين عملوا الصالحات ، وما وعدهم بجزيل الأجر.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا). المراد بالذين آمنوا من اتخذ الدين القيم كما قال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] وليس المراد به خصوص المسلمين الذين صدقوا محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ويدل على التعميم ذيل الآية الشريفة فيكون ذكر الأصناف الثلاثة تخصيصا بعد التعميم ، وتفصيلا بعد الإجمال.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا). أي الذين صاروا يهودا نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب ، وأبدلت الذال دالا تخفيفا في الاستعمال ، وهو اسم جمع واحده يهودي ، كالروم والرومي. وقد استعملت مادة (ه ود) بهيئاتها في القرآن الكريم ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة الحج ، الآية : ١٧] ، وقال تعالى : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٥] ، وقال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٤] وهذه المادة تأتي بمعنى الرجوع والتوبة ، قال تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٦] أي : تبنا. سميت اليهود بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل ، أو الرجوع عن شريعة موسى (عليه‌السلام) أو الرجوع عن الإسلام ، والكل صحيح في الجملة بالنسبة إليهم حسب الاختلاف الواقع بينهم ، وقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة واختلفوا بعد عيسى بمأتي سنة». وتأتي بمعنى السكون والموادعة والتأني في الحركة.

ويستفاد من قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] أن الإيمان بتوراة موسى (عليه‌السلام) والتسليم بشريعته أخص من مطلق التهود في تلك الأعصار القديمة فضلا عن هذه الأعصار ، ويشهد لذلك ما نقل في التاريخ أن بني إسرائيل ارتد أكثر أسباطهم إلى الشرك وعبادة الأوثان من بعد سليمان ، ثم بادوا بالقتل والأسر فلم يبق منهم اسم ولا رسم. والذين بقوا على صورة التوحيد والشريعة على

تقلب في ذلك أيضا هم الموسوية وهم أسباط يهوذا أو من تبعهم كسبط بنيامين ، فصار عنوان اليهود علما لمن ينتمي إلى الملة الموسوية.

قوله تعالى : (وَالنَّصارى). جمع نصراني أو نصران كسكارى وسكران. واشتقاقه إما نسبته إلى قرية «الناصرة» كان ينزلها عيسى (عليه‌السلام). أو من تناصرهم. أو من قول الحواريين نحن أنصار الله كما حكى عنهم تبارك وتعالى : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [سورة الصّف ، الآية : ١٤].

قوله تعالى : (وَالصَّابِئِينَ). ورد لفظ الصابئين في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا ، وفي سورة المائدة قال تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) [الآية : ٦٩] ، وفي سورة الحج قال تعالى : (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى) [الآية : ١٧] ويمكن أن يكون تقديمهم بلحاظ تقدم زمانهم على النصارى ، والتأخير عنهم بلحاظ أخذ جملة من أحكامهم من النصارى.

ومادة (ص ب ا) تأتي بمعنى الميل ، فالصابي من خرج ومال من دين إلى دين آخر ، ولذا كان المشركون يقولون لمن أسلم : قد صبا. والصابئون هم الذين خرجوا من أهل الكتاب.

وقد اختلف المفسرون والفقهاء في الصابئين هل أنهم من أهل الكتاب أم لا؟ وعلى الثاني هل هم من المشركين أم لا؟ ويمكن أن يستظهر من ذكرهم في القرآن في سياق أهل الكتاب أنهم منهم موضوعا أو حكما ، ويستفاد من إجماع الفقهاء على صحة أخذ الجزية من الصابئة ـ فإن تم هذا الإجماع ـ يدل على أنهم من أهل الكتاب لعدم جواز أخذ الجزية من غير أهل الكتاب.

وقيل : إنّ كل يهودي ترك دينه وأراد أن يتنصر ، أو كل نصراني ترك دينه وأراد أن يتهود سمي صابئيا. وهذا القول مردود فإن للصابئين دينهم وعقائدهم وعاداتهم المتميزة عن غيرهم. والحق أن يقال : إن الدين إما سماوي ، أو وضعي افتعالي محض ، أو مركب منهما والصابئة اسم نوعي للأخير ، وسيأتي مزيد بيان في البحث الروائي والبحث التاريخي العقائدي.

قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً). بيان لمعنى الإيمان ، وحقيقته هي الإيمان بالمبدأ والمعاد ويلزمهما الإيمان بالرسالات السماوية أيضا ، والعمل الصالح على طبق الشريعة المقدسة فيكون العمل الصالح من لوازم الإيمان بالرسالة ، فإن العمل الصالح لا يعرف إلّا من قبل أنبياء الله وبأمر منه عزوجل كل في ظرفه ما لم ينسخ بغيره.

وهذه الآية وما في سياقها ظاهرة في أمرين :

أحدهما : ما ذهب إليه أصحابنا ودلت عليه النصوص من أن العمل الصالح جزء الإيمان.

ثانيهما : أن المناط كله في الإيمان ـ الذي تترتب عليه الآثار الدنيوية والاخروية ـ إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ، فإن من كان كذلك لم يتعد حدود الله ، ولم يتوان في طلب الحق ومرضات الله ولا تأخذه لومة لائم أو نزعة باطل ، فلا أثر لقولهم : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٥] كما لا أثر لقول اليهود : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ولا لقول النصارى كذلك ، وقد تقدم بعض الكلام في معنى الإيمان في أول سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). أي إنّ جزاء إيمانهم ، وثواب عملهم الصالح معدّ عند ربهم ، وهذا من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة. وذكر (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لبيان أنه يستحيل أن يتغير ويتبدل للأدلة العقلية والنقلية الدالة على أن ما عنده تعالى غير قابل للتغيير والتبديل وكفى بذلك فخرا لأهل الإيمان أن يكون لهم ذخيرة باقية عند ربهم ، فيكون لذاته تعالى معية قيومية مع عباده قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] وبعناياته الخاصة توفيقات وتأييدات لهم ، وفي جزائه لأعمالهم خزائن يضاعف لمن يشاء.

قوله تعالى : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). أي لا خوف عليهم من المتوقع ، ولا حزن على الواقع ، ونفي ذاتهما يقتضي نفي جميع ما يتصور

فيهما من الأفراد أبدا بجميع مراتبهما من الخارجية والعقلية والخيالية ، فإن الحضور المطلق المستفاد من قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقتضي نفي الخوف والحزن بالنسبة إليه ، فالنفي نفي موضوعي وهي من القضايا التي قياساتها معها ، فإن الوصول إلى مرتبة الكمال التام والمستغرق في فيوضات الكمال المطلق بالذات لا يتصور فيه نقص حتّى يتعلق به الخوف والحزن ، ولا ريب أن منشأهما وجود النقص في الجملة.

إن قيل : إنّ المراتب متفاوتة فالنقص حاصل ولو بالنسبة إليها. (يقال) هذا من قبيل لوازم الذات غير الملتفت إليها فلا يتعلق بها الحزن ، لأن مورده الالتفات والقصد.

بحث روائي :

عن ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه‌السلام) في النصارى : «أنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر».

أقول : تقدم وجه اشتقاق ذلك أيضا.

وفي المعاني عنه (عليه‌السلام): «إن اليهود سمي باليهود ، لأنهم من ولد يهوذا بن يعقوب».

وفي تفسير القمي : «الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون ، وهم قوم يعبدون الكواكب والنجوم».

أقول : يأتي بيان مذهبهم.

وفي الدر المنثور عن سلمان الفارسي قال : «سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن أهل دين كنت معهم ، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) ـ الآية ـ.

بحث تاريخي عقائدي

الصابئة ـ كما في جملة من التواريخ ـ قوم يدينون بالإله الواحد يتعصبون للروحانيات لتقربهم إلى الله يعبدون الكواكب ، وبعضهم يعبدون

التماثيل ، ويقال : إن بيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئة وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم النبي نوح (عليه‌السلام) ، ويدّعي الصابئون أن من أنبيائهم عاذيمون ، وهرمس. وقيل : إن عاذيمون هو شيث ، وهرمس هو إدريس. وقيل : إن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب ع) أي غطس ثم أسقطت العين ويشير بذلك الى فرقة المعمدانيين ـ كما ستعرف ـ وقيل : إنه كان لإدريس ـ وهو أخنوخ على ما في التوراة ـ ابن كان يسمى (صاب) واليه تنسب الصابئة. وقد كان هذا الدين منتشرا في بلاد كثيرة وبعث الله فيهم الأنبياء والرسل ، وقد أخذ هذا الدين أمورا كثيرة من الأديان الإلهية وتأثر بالمعتقدات الوثنية.

وهم على فرقتين متميزتين :

الأولى : الفرقة المنديائية ، وهي فرقة يهودية نصرانية أخذت من تعاليم اليهودية والمسيحية ، فأخذت شعيرة التعميد من نصارى يوحنا المعمدان ، وتأثرت بالمجوسية ، وأخيرا أخذت بعض تعاليم الإسلام. والظاهر أن الصابئة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن في مواضع ثلاثة هي هذه الفرقة.

الثانية : الفرقة الحرانية نسبة إلى صابئة حران ، وهم فرقة وثنية انتحلت بعض أحكام أهل الكتاب ليمكنهم العيش في بلاد الإسلام وينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لأهل الكتاب ، وقد تفرقت هاتان الفرقتان إلى فرق متعددة لا حاجة إلى ذكرها.

وتتميز الصابئة عن سائر المذاهب بشدة أحكامهم وقسوة تعاليمهم ولأجل ذلك أعرض الناس عن الدخول فيها ، وانكمشت على نفسها فلم يبق منهم إلّا القليل ، ويتركب دين الصابئة من أمرين :

الأول : الإيمان بالإله الواحد صانع العالم وهو رب الأرباب وإله الآلهة ، مدبر ، حكيم ، قادر ، ومقدس عن جميع صفات مخلوقاته يعجز الخلق عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يتقرب إليه بالوسائط المقربين وهم الروحانيون المطهرون المنزهون عن المادة والماديات ، فهم مبرأون عن القوى الجسدانية والحركات المكانية والتغييرات الزمانية ، قد جبلوا على التقديس والتسبيح ،

ويقولون : إنهم المتوسطون في الاختراع وقالوا : إنه لا يمكن أن يكون الإنسان مورد فيض الروحانيات وعنايتهم إلّا بحصول المناسبة بينه وبينها ، ولا تتحقق هذه المناسبة إلّا بتطهير النفس عن الرذائل وتهذيبها عن العلائق الشهوية والغضبية والتحلي بالكمالات. وبعبارة أخرى : تحلي النفس بالكمالات وتخليها عن الرذائل والشهوات ، ولا يحصل ذلك إلّا بالعمل الشاق ، وسيأتي بعض تلك الأعمال.

وبعض الصابئة يقولون بوحدة الوجود فقالوا : إن الخالق واحد كثير أما الواحد ففي الذات وأما الكثير فلأنه يحل في مخلوقاته ويتكثر بالأشخاص ، وقالت الصابئة إنّ الله أجل من أن يخلق الشر والقبائح والأقذار والمخلوقات الحقيرة المؤذية ـ كالعقارب والخنافس والحيات ـ بل هي كلها واقعة ضرورة اتصال الكواكب سعادة ونحوسة واجتماعات العناصر صفوة وكدورة ، فما كان من سعد وخير فهو الصفوة وتنسب إليه عزوجل ، وما كان من نحس وكدر وشر فلا ينسب إليه بل هي حاصلة إما اتفاقا أو ضرورة.

والروحانيات كثيرة عند الصابئين فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها وهياكلها فإنها مدبرات هذا العالم ، وحيث لم يتمكنوا من معاينة هذه المدبرات السبعة صنعوا لها هياكل وتقربوا إليها ، ومنها الجواهر العقلية الروحانية ، وقد بنوا لكل من هذه الأسماء والأفلاك السبعة هياكل واشكالا تقربوا إليها ، فمنها هيكل العلة الأولى ، ودونها هيكل العقل ، وهيكل الضرورة ، وهيكل النفس كلها بأشكال خاصة مختلفة كما صنعوا كذلك هياكل الكواكب السبعة. وقالوا : إن نسبة الروحاني إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد وفعل الروحانيات إنما هو تحريك تلك الهياكل لتحصل من تحريكها انفعالات في الطبايع والعناصر ، والروحانيات إما كلية فيكون تأثيرها كليا أو جزئية فالتأثير جزئي ، ويقولون : إن لكل ظاهرة طبيعية ملكا يكون مدبرا لها.

ثم إنّ بعض الصابئين لما رأوا أن هياكل الأفلاك السبع دائمة التغير تطلع وتغرب ، ترى ليلا ولا ترى نهارا ، وضعوا لتلك الهياكل اشخاصا وتماثيل لتكون نصب أعينهم ، ويتوسلون بها إلى الهياكل وهي إلى الروحانيين وهم

إلى صانع العالم ، وهذه هي الفرقة الوثنية من الصابئة وقد بقيت إلى العصور المتأخرة كما تقدم. ومن هنا جاء اختلاف المفسرين والعلماء فخلطوا هذه الفرقة بالفرقة الأولى التي تنفي الوثنية والروايات الواردة في أنها يهودية أو نصرانية مجوسية مسلمة كما مر في البحث الروائي تشير إلى هذه الفرقة التي هي من أهل الكتاب دون الفرقة الوثنية.

الأمر الثاني : الأعمال. وقد تقدم أنّ الصابئة قالوا إنه لا يمكن التوسل بالروحانيات إلّا بالتخلية والتحلية ، ولا تحصلان إلّا بالأعمال ، وهي مختلفة عند فرقهم وشاقة ، فالصابئة كلهم يصومون ، ويصلون ثلاث صلوات : أولها عند طلوع الشمس ثمان ركعات ، والثانية عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات في كل ركعة ثلاث سجدات ويتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار ، وأخرى : في التاسعة. والثالثة في الساعة الثالثة من الليل ، كما يصلون على طهر ووضوء خاص وهم يغتسلون من الجنابة ، ومس الميت ، ويحرمون أكل لحم الخنزير والكلاب ، والطيور ذوات المخالب ، والحمام ، ونهوا عن السكر والشراب وعن الاختتان ، وأمروا بالتزويج بولي وشهود ، ونهوا عن تعدد الزوجات ، ولا يبيحون الطلاق إلّا بحكم الحاكم ، وقد حرم بعضهم أكل البصل والجريث والباقلاء.

وقد أمروا جميعا بتقريب القرابين متعلقه بالكواكب وأجناسها وهياكلها ، واختلفوا في طبيعة الأضاحي حتّى وصل عند بعضهم التضحية بالبشر.

والحاصل مما وصل إلينا من حالاتهم أن الصابئة فرق مختلفة فبعضهم أخذوا بشريعة موسى ، وبعضهم أخذوا بشريعة عيسى ، وبعضهم وثنيون والكل يظهرون الإسلام والتغييرات والتبدلات كثيرة في دينهم مع صعوبات كثيرة تنافي سائر الأديان ، ولذا قلّ الدخول في دينهم فصار عرضة للزوال والانحلال. هذا ما ضبطته التواريخ بعد رد بعضها إلى بعض. وأما الصابئون حين نزول القرآن فيستظهر من الآيات ترددهم أيضا بين الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام والله العالم بالحقائق.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة احتجاجاته بنعمه المترادفة على بني إسرائيل ، وذمائم أخلاق بني إسرائيل مثل نكثهم لعهود الله تعالى ، ومواثيقه ، وتعنتهم في إتيان أوامر الله تعالى كما فعلوا في ذبح البقرة ، ثم وصفهم جل شأنه بضعف الإيمان والقساوة بعد ما رأوا من الآيات والمعجزات ، وقد أورد سبحانه وتعالى هذه القصص وأحوال بني إسرائيل ليذكّرنا بما جرى فيهم فنعتبر بها ، ويثير اليهود للإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ). الميثاق هو العهد المؤكد ، ومواثيق الله تعالى عهوده مع عباده المؤكدة بحكم العقل

الفطري الدال على لزوم شكر المنعم ، وقد تقدم في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٠] بعض الكلام فراجع. والمراد بالطور هو طور سيناء الجبل المعروف الذي كلم الله عليه موسى (عليه‌السلام).

وهذه الآية المباركة تفسير لقوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧١]. والنتق هو الجذب أو القلع ، وهو يتصور على وجهين : الأول : أن يكون بسبب الزلزلة الحادثة في الأرض. الثاني : أن يكون ذلك بنفسه معجزة من الله تعالى بلا واسطة سبب طبيعي من زلزلة ونحوها ، ويمكن تأييد الثاني بظهور كونه معجزة مستقلة ، وتأتي في سورة الأعراف بقية الكلام.

وما يقال : من أن رفع الجبل نحو إكراه لهم على الإيمان والعمل بالتوراة ، وهذا باطل عقلا وشرعا.

غير صحيح لأنهم علموا أن هذا نحو إعجاز من الله تعالى ، لا أن يكون إكراها على الإيمان به ، لفرض بقاء اختيارهم بعد ذلك وأمرهم بالأخذ بالتوراة بقوة ، ويستفاد ذلك من سياق الآية.

وهذه الآية الشريفة كانت بعد نزول التوراة ، وأخذ الميثاق منهم لكي يعملوا بها بقوة واجتهاد.

قوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ). أي : خذوا الكتاب الذي أنزلناه إليكم بعزيمة وجد واجتهاد. والمراد بالقوة الأعم من الظاهرية الجسمانية والقوة النفسانية المعنوية بقرينة ذيل الآية الشريفة وسيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك ، والمورد وان كان خاصا لكن الحكم عام لجميع أمم الأنبياء ، ولا سيما خاتمهم الذي يكون دينه مبتنيا على الدوام والتأبيد.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). المراد بالذكر هو حفظه علما وعملا لا مجرد الذكر اللساني ، فإنه لا ينفع ما لم يكن مقرونا بالعمل كما في الروايات المستفيضة ، ويدل على ذلك قوله تعالى فيها : (لَعَلَّكُمْ

تَتَّقُونَ) إذ التقوى لا تترتب إلّا على العمل بما يحصل منه التقوى ، لا على مجرد التلاوة فقط ، فيكون المقام من باب ترتب المعلول على العلة يعني : أن العمل به يوجب التقوى. ومن جملة ما أمروا بتذكيره وصف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والإيمان به.

وكلمة الترجي تدل على إيكال الموضوع إلى اختيارهم ومحبوبية التقوى عند الله تعالى ، لما مر مكررا من أن الترجي المستعمل في القرآن يؤتى به بداعي محبوبية متعلقه.

قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). التولي : هو الإعراض والإدبار عن الشيء أي : أنهم أعرضوا عن التوراة من بعد ما أخذ منهم الميثاق على العمل بها.

قوله تعالى : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ). المراد من فضله تبارك وتعالى هو الإمهال ، وعدم التعجيل في العقوبة ، والرحمة هي الإلهام بالتوبة وقبولها. والخسران هو ذهاب رأس المال ، وهو في الإنسان عبارة عن الحقيقة الإنسانية الجامعة لجميع الكمالات.

والمعنى : أنه لو لا إمهال الله تبارك وتعالى لكم ، وجريان سنته على عدم التعجيل في الأخذ بالمعاصي ، وقبول توبتكم بعد ذلك لكنتم من الخاسرين ، أما الخسران بالنسبة إلى أصل الإيمان بالله تعالى فمعلوم أنه مستند إلى اختياركم ، وأما الخسران بالنسبة إلى أصل الإنسانية فلأنها متقومة بالإيمان به جلّ شأنه ، فالخسران يتحقق حينئذ فيهم بالنسبة إلى النشأتين.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ). العلم هنا عبارة عن المعرفة الشخصية. والاعتداء هو التجاوز عن الحد اللازم ، فيشمل ارتكاب المحرمات العقلية ـ كأنحاء الظلم ـ والشرعية كارتكاب المناهي الإلهية. ومادة (س ب ت) تدل على القطع ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) [سورة النبأ ، الآية : ٩] أي : جعلنا النوم قطعا للحركات ، وسببا للراحة والسكون. ويوم السبت معروف في أيام الأسبوع وهو عيد اليهود ،

والأحد عيد النصارى ، والجمعة عيد المسلمين فذات هذه الأيام أعياد لهؤلاء ، سواء قلنا بكونها اسماء لها من العهد القديم ـ كما يظهر من بعض الآثار ـ أو أنها حدثت بعد قرون كثيرة كما عن جمع.

والمعنى : ولقد عرفتم الذين تجاوزوا عما أمرهم الله تعالى وارتكبوا ما نهاهم عنه في يوم السبت ، وذلك أن الله تعالى جعل لهم وظائف في هذا اليوم بالنسبة إلى الصيد وجهات أخرى فلم يعملوا بها ، وسيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف.

قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). القردة جمع قرد وهو حيوان معروف. وخسأ بمعنى الطرد والإبعاد عن مذلة وحقارة ، ولذا يستعمل في طرد الكلب ، ومن يراد إهانته كقوله تعالى للمجرمين في جهنم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٠٨] أي : ابتعدوا عن مذلة وسخط. والأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢].

وصيرورتهم قردة بحسب القلب معلوم لا إشكال فيه ، لأنه المتيقن من جميع ما ورد في المقام من النصوص والتفاسير إنما البحث في أنهم هل مسخوا إلى صورة القردة أيضا أولا؟ نسب الأول إلى جمهور المفسرين ، ولا بأس به ، لأن الله تعالى قادر على كل شيء.

إن قلت : صيرورتهم بحسب الصورة قردة مخالفة لسنة الله تعالى في عباده لابتنائها على الإمهال في الأخذ بالعقوبة ، مع أنه لو مسخوا قردة كيف يكون ذلك عبرة لغيرهم؟

قلت : أما الأول فلإمكان أن تكون المعصية على حد لا تليق بالإمهال فحكمته تعالى اقتضت الأخذ بها وهي غير معلومة لغيره عزوجل.

وأما الثاني : فلفرض بقاء التعرف الإجمالي بين الممسوخين وغيرهم فيصير ذلك عبرة للآخرين.

قوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً

لِلْمُتَّقِينَ). النكال : بمعنى المنع ، وتسمى العقوبة نكالا لأنها تمنع النّاس عن ارتكاب ما يوجبها. والمراد بما بين يديها الأقوام المحاذون لها الذين لم يعاقبوا بعقوبتهم. وما خلفها الأمم اللاحقة لهم. والوعظ التخويف بكل ما يفعل الله تعالى بالعصاة.

وإنما خص الله تعالى المتقين إما لأجل أنهم يعلمون بأن الله لا يفعل ذلك إلّا مع الحكمة والاستحقاق. أو لأجل أن الموعظة تزيدهم بصيرة وايمانا وتقدم بعض الكلام في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢].

وفي سنخ هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عما كان يقاسيه من رذائل أخلاق أمته في زمان حياته وما يعانيه بعد ارتحاله فإنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) شاهد يعلم بما يجري في أمته ، وحكم هذه الآية عام فإنها تشتمل على ترتب سخط الله تعالى بمخالفته في الدنيا ، وحصول المسخ وتعقيب ذلك بالنكال والموعظة ، ففيها دلالة واضحة على تعميم الحكم لجميع الأزمان والأمم ولا تختص بأمة دون أخرى ، لما ذكرنا غير مرة أن المورد لا يكون مخصصا. نعم إنّ الله تعالى قد يمهل لمصالح كثيرة ولكنه لا يهمل ، ومسخ الصورة وإن لم يكن له موضوع في أمة خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إجلالا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولكن حكم مسخ القلوب ممكن بحسب الأخبار الكثيرة والبراهين العقلية ، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

ثم إن بعض المفسرين استدل بهذه الآية المباركة على عدم جواز الحيلة في الأحكام الشرعية الإلهية مطلقا ، لأن اليهود إنما استحقوا هذه العقوبة لأجل احتيالهم في الحكم الإلهي. والمناقشة في هذا الاستدلال واضحة ، لأن معنى الحيلة الشرعية : اجتهاد الفقهاء في إخراج الموضوع المحرم عن انطباق عنوان الحرام عليه إما تخصيصا أو تخصصا إلى عنوان محلل يدل على حليته الدليل الشرعي ، وهذا معنى قول أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام): «نعمت الحيلة الفرار من الحرام إلى الحلال» وقول الصادق (عليه‌السلام): «ما أعاد الصلاة قط فقيه يحتال فيها ويدبرها حتّى يصححها» وذكرنا تفصيل البحث في موارد من الفقه.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً). شروع في بيان قصة البقرة ، وبها سميت هذه السورة. البقرة واحدة البقر اسم جنس ، الأنثى والذكر فيه سواء. وقيل البقرة اسم للأنثى والثور اسم للذكر ، كالرجل والمرأة ، والجمل والناقة. ومادة (بقر) تأتي بمعنى الشق والتوسع لأنه يشق الأرض ويوسعها للزراعة. وسمي الرابع من أولاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باقرا لأنه يشق العلم شقا ، وفي الحديث : «نهى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن التبقر في المال» أي التوسع فيه.

والمنساق من مجموع الآيات المباركة أن قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [سورة البقرة ، الآية : ٧٢] مقدم على قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) تقدم العلة على المعلول ، وإنما أخّر في ظاهر الكلام لمراعاة الفنون الأدبية المحاورية التي منها : الاهتمام بذكر المقدم وتهيئة النفوس للإصغاء اليه فيكون أدعى للبحث عن معرفة السبب ، وجعله كلاما مستقلا في توجيه الأسماع والأذهان ، واشتياق السامع اليه ومثل ذلك في القرآن كثير.

ومنها : توجيه الخطاب ابتداء إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعدم ذكر البقرة في التوراة فلم يكونوا مأنوسين به.

قوله تعالى : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً). الهزء : السخرية واللعب والاستخفاف ـ وهذا القول دليل على جهلهم بقدرة الله تعالى ، وعدم درك عقولهم بحياة المقتول بضرب بعض البقرة به ـ وفسقهم بعدم الاعتناء بأحكام الله تعالى فإن الواجب عليهم تنفيذ أوامره جل شأنه.

وهيئة الهزء كهيئة الكفؤ تقرأ بوجوه أربعة : بضم الوسط ، أو سكونه ، وكل منهما إما مع الهمز أو بدونه ، وجميعها لغات صحيحة تصح القراءة بها ، لكن الأرجح أن يقرأ بالهمزة مع ضم الوسط ، والأدون مع الواو وإسكان الوسط ، والمعروف ترك الهمزة مهما أمكن كما تقدم. والمسألة فقهية مذكورة في بحث القراءة من الصّلاة فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). العوذ والعياذ هو الالتجاء عما يخاف من شرّه واستعمال هذا اللفظ في القرآن كثير ، وهو إما

قولي أو حالي أو عملي أو بالجميع ، والتجاء الأنبياء والأولياء من القسم الأخير ، لشدة انقطاعهم اليه عزوجل ، ولعل من أشده قول مريم ابنة عمران : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [سورة الفلق ، الآية : ١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة فالالتجاء إلى الله تعالى لا بد أن يكون حاليا وعمليا ، لا أن يكون من مجرد القول فقط.

والجهل تارة يطلق على ما يقابل العقل ، وأخرى : على فعل ما لا ينبغي فعله إلّا من الصغير وبعض مراتب الشبان ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ٨٩] وهو ملازم للمعنى الأول.

ويمكن أن يستدل بمثل هذه الآية المباركة على عصمة الأنبياء لأن الاستهزاء والسخرية قبيحان لا ينبغي صدورهما منهم خصوصا إذا كانا في مورد أحكام الله تعالى.

قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). الدعاء في هذه الآيات بمعنى طلب الحاجة ويجوز في ضمير البقرة كل من التذكير والتأنيث. وقد سألوا من موسى (عليه‌السلام) ان يسأل ربه ان يبين صفات البقرة.

قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). الفارض المسنة. والبكر ما لم يستفحله الفحل ، وضربة بكر أي قاطعة. وعن ابن فارس : «كانت ضربات علي (عليه‌السلام) أبكارا إذا اعتلى قد ، وإذا اعترض قط». والعوان النصف وهو التوسط بين السنين أي : ان البقرة متوسطة في السن ليست بكبيرة لا تحمل ، ولا صغيرة لم تحمل.

وقوله تعالى : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ). تأكيدا للأمر الأول وفيه من التنبيه على ترك التعنت.

قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ). الفاقع صفة كمال للصفرة كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة أي : خلصت صفرته يقال : أسود حالك ، وأحمر قانئ ،

وأبيض ناصع ، وأخضر ناضر ، وأصفر فاقع. وكلها صفات مبالغة لهذه الألوان. وقد نقل أن الصفرة الشديدة توجب السرور ، وتجلي البصر ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتّى يبليها».

قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ). تشديد آخر منهم على أنفسهم ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنهم أمروا بأدنى بقرة ، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وايم الله لو لم يستثنوا ما اهتدوا إليها أبدا». والمنساق من هذه الآية المباركة أنها في مقام بيان صفات فعلها ، والآية السابقة في مقام بيان صفات جسمها.

والمعنى : إنّ وجوه البقرة تتشابه فأرادوا زيادة التمييز ، وقوله تعالى : (إِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) استثناء منهم ، وهذا هو المراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لو لم يستثنوا ويقولوا إن شاء الله لما تبينت لهم إلى آخر الأبد».

قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها). الذلول من البهيمة ما كانت منقادة ومعتادة للعمل أي : صعبة ليست معتادة لعمل إثارة الأرض ، ولا تطاوع لأن يسقى بها الزرع أو يستقى عليها والمراد بالمسلّمة أي : سلمها الله تعالى من العيوب. و (لا شِيَةَ فِيها) أي لونها متحد ليس فيه اختلاف وتعدد كما في بعض الأبقار وأصله من الوشي وهو خلط اللون باللون.

قوله تعالى : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ). أي : إنك بينت الحق ، لظهور الأوصاف التي بيّنها موسى (عليه‌السلام) في ما وجدوها من البقرة.

قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ). لكثرة ثقل ذلك التكليف عليهم بما شددوا على أنفسهم ، أو لغلاء ثمنها ـ كما في بعض الروايات على ما يأتي في البحث الروائي ـ أو خوفا للفضيحة وكيف كان فهو يدل على امتهانهم لأوامر الله تعالى ، وإنما أمروا بالذبح دون ضرب الحي لئلا يقعوا في الضلالة أكثر.

قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها). هذه الآية المباركة مقدمة معنى وإن تأخرت في اللفظ لما عرفت و «ادّارأتم» أصله تدارأتم أي : اختلفتم وتنازعتم ، فأدغمت الياء في الدال ، لأنهما من مخرج واحد ، وزيدت الف الوصل حذرا من الابتداء بالساكن كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٨] ، وكذا قوله تعالى : (إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٨] ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) [سورة يس ، الآية : ٤٩].

ومادة درأ تأتي بمعنى الدفع ، ومنه قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [سورة القصص ، الآية : ٥٤] ، وتأتي بمعنى الجلب والملائمة ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس» ، وكذا قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أمرت بمداراة النّاس كما أمرت بأداء الفرائض». ويمكن أن يكون من الدرء بمعنى الدفع أي : يدفع الإنسان عن أخيه ظلما يوجب التفرقة بينهما ويحمله على الإلفة والموافقة.

ومعنى الآية المباركة : إنّ بعضكم قتل نفسا فتخاصمتم وتدافعتم في شأنه فصار كل واحد يدفع عن نفسه التهمة. وقد نسب القتل إلى اليهود في عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأنهم من نسلهم ، وتصح في المحاورات النسبة إلى اللاحقين بفعل السابقين.

قوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). أي : أنه تعالى يظهر جميع ما تكتمونه من أسراركم وتهمة بعضكم لبعض.

قوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها). يعني : اضربوا المقتول ببعض البقرة المذبوحة. ولم يعين سبحانه وتعالى هذا البعض فيكتفى بضرب أي جزء كان ، ولكن للمفسرين في تعيينه تفاصيل غير مستندة إلى مدرك صحيح ، ولا دليل صريح ، فالأولى الإغماض عن التعرض لها.

وإنما أمرهم بالضرب من دون أن يضرب موسى (عليه‌السلام) بنفسه ، لأن الفعل إذ كان صادرا منهم فهو أبين لقطع النزاع كما يظهر من ذيل الآية الشريفة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى). أي : كما أنه أحيى المقتول بعد موته كذلك يحيي كل ميت. وهذا من تنظير الكلي المعقول على الجزئي المحسوس ، وإثبات للمدعى الكلي بإحساس بعض جزئياته ، إذ الكليات إنما تستكشف عند عامة النّاس من الجزئيات ، ولذا اشتهر «من فقد حسا فقد علما».

قوله تعالى : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). أي : أنه فعل ذلك من الاحياء بعد الإماتة ، وما ترتب على ذلك من فصل الخصومة وإظهار القاتل لعلكم تفقهون وتدركون أنّ الله تعالى قادر على إحياء مطلق الأموات حيوانا كان أو نباتا كما قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [سورة الحديد ، الآية : ١٧] فتدبروا في آيات الله تعالى فاعتبروا بها وامنعوا أنفسكم من العصيان ، واتباع الأهواء والشهوات.

قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) القسوة الصلابة والشدة والرداءة والغلظة ، ولم تستعمل في القرآن الكريم غالبا إلّا مضافة إلى القلب ، فيكون المعنى الغلظة والصلابة عما من شأنه أن يكون رقيقا ، قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢].

وقسوة القلب من أشد الأمراض النفسية الروحية بل أصلها وأمها ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام لغير ذكر الله تقسي القلب ، وإنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي» ، والقلب المتصف بالقساوة كمرآة عليها حجاب غليظ لا يرى فيها صورة أصلا ، وسيأتي تفصيل المقال فيه إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد أن رأيتم الآيات والمعجزات ودلائل التوحيد والرسالة وعرفتم الحق.

قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). كلمة «أو أشد» يصح أن تكون بمعنى التنويع أي : أن بعض القلوب كالحجارة وبعضها الآخر أشد منها ، أو باعتبار الحالات ففي بعض الحالات يكون القلب كالحجارة ، وفي بعضها الأخرى يكون أشد فحينئذ يصح الكلام بالنسبة إلى المتكلم والسامع.

كما يجوز أن تكون بمعنى الترديد ، أو بمعنى بل ، والكلام حينئذ سيق مساق فهم السامع.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). الأنهار جمع نهر بسكون الهاء وفتحه كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [سورة القمر ، الآية : ٥٤] والفتح أفصح ، ولذا لم يستعمل في القرآن مفرد الأنهار إلّا مفتوحة العين ، ولم يرد بسكونها فيه. وتقدم معنى الإنفجار في قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [سورة البقرة ، الآية : ٦٠] و «يشقق» أصله (يتشقق) أدغمت التاء في الشين.

ذكر سبحانه وتعالى أنّ الحجارة ينفجر منها الأنهار كالعيون في الجبال فتعود منفعته على الحيوان والنبات. وأن بعض الحجارة يتشقق فيخرج منها الماء ، كالأحجار التي ينبع منها الماء قليلا كان أو كثيرا ، وأن منها لما يهبط من خشية الله تعالى ، لأن جميع الموجودات مسخرة تحت إرادته وقدرته عزوجل ، قال تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة الجمعة ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [سورة الرعد ، الآية : ١٣].

والخشية هي الخوف ولكنها أعم منه موردا ، لاطلاقها على الجمادات أيضا ، وأخص منه مفهوما لأنها الخوف المشوب بالتعظيم ، بخلاف مطلق الخوف. وللخشية والخوف منه تعالى مراتب كثيرة جدا وبعض مراتبها يختص بالعلماء بالله تعالى قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : «يعني بذلك من يصدّق فعله قوله ، ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم وإن شق الشعر في المتشابهات» هذا بالنسبة إلى الفاعل المختار ، وأما بالنسبة إلى سائر الموجودات من الجماد والنبات والحيوان فحيث أن الخشية منه عزوجل من لوازم ربوبيته العظمى وقيمومته فتتصف جميع تلك الموجودات بالخشية منه تعالى ، قال جلّ شأنه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة

الحشر ، الآية : ٢١] ولم يدل دليل عقلي أو نقلي على أن مفاهيم الألفاظ لا بد وان تختص بعالم الإنسان وبما نتعقله من المعاني ، بل هي عامة لجميع العوالم كل على حسب وجوده ، بل الأدلة العقلية والنقلية تدل على الخلاف ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وقد حدث في بني إسرائيل جميع ما تقدم من الآيات فقد انفجر الماء من الحجارة واندك الجبل ورفع فوقهم كأنه ظلة. وفي ذلك كله توبيخ وتحقير عجيب لهم ولمن يكون قاسي القلب ، فإنه مع رؤية جميع تلك الآيات الباهرات ودلائل الحق والتوحيد لا تؤثر في قلبه فقد جعلوا القلب الذي له المحل الأعلى في مصاف أخسّ الأشياء بمساوئ الأخلاق ورذائلها فلا تجدي فيه المواعظ والحكم.

إن قيل : بعد قدرة الله تعالى على تسخير الحجارة وما هو أصلب منها فهو قادر على تسخير القلوب أيضا. (يقال) : تسخير القلوب تكوينا تحت إرادته تعالى بلا إشكال ، ولكن اختياره لا بد وأن يكون تحت إرادة صاحب القلب ليتم بذلك نظام التشريع والجزاء كما تقدم.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). مادة (غ ف ل) تأتي بمعنى ذهاب التوجه الفعلي الحاصل للنفس عن الشيء بعد حصول العلم به في الجملة ، وتستعمل في مورد السهو والنسيان أيضا ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة ، وقد ورد في آيات كثيرة قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٣٢] ، وقال جلّ شأنه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٢].

والغفلة إما من الخلق عن الله تعالى ، أو عنه تعالى عن خلقه. والثاني مستحيل إذ كيف تعقل الغفلة عمن كان ذاته بذاته العلم والحياة ، والقيمومة المطلقة على ما سواه ، إلّا إذا رجعت الغفلة فيه تعالى إلى عدم التعجيل في الجزاء وإمهاله في العقاب ، وهذا صحيح وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية عليه ، وقد اشتهر : «إن من أفضل أخلاق الكرام تغافلهم عما يعلمون من مساوئ

غيرهم» فهذا تغافل ممدوح. ولكن إطلاقه على الله تعالى غير مأذون فيه شرعا.

وأما الأول وهو غفلة النّاس عن الله تعالى ، وهذا القسم معلوم لكل من رجع إلى نفسه ، بل يمكن أن يرجع بعض مراتبها إلى الكفر.

ثم إنّه لا ريب في اتصاف الإنسان بالسهو والنسيان والغفلة ، ولكن هل يتصف الحيوان بها؟ فيه بحث عند الفلاسفة والعلماء ولنا فيه كلام سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

فالاعتقاد بحضوره تعالى وشهوده مع عمل كل عامل وعلمه الأزلي بجميع الخصوصيات يقتضي أن تكون الحالة غير ما نرى والعمل غير ما نعمل.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من مجموع هذه الآيات المباركة الواردة في قصة البقرة أمور :

الأول : استهزاؤهم بأوامر الله تعالى ، وامتهانهم لما جاء به الأنبياء (عليهم‌السلام) ولقد كان الواجب عليهم التسليم بما جاء به موسى (عليه‌السلام) وكان جزاؤهم أن شدد الله تعالى عليهم ونسبهم إلى الجهل وشبّه قلوبهم بالحجارة.

الثاني : مرجوحية كثرة السؤال والمداقة بالنسبة إلى الأحكام ، بل إنها توجب التشديد في الأحكام ، وقد يوجب العقاب وغضب الله تعالى ، قال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠١] ، وورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إن الله كره لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال» وغير ذلك من الروايات.

الثالث : إنّما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من الأنعام والحيوان إما

اختبارا لهم ببقاء حب العجل وتعظيمهم له ، أو تحقيرا لهذه الدابة لأن البقرة كانت من جنس معبودهم فأراد سبحانه وتعالى أن يبين أنها لا تقدر أن تدفع عنها السوء فضلا عن العابدين لها ، أو لأجل أنهم كانوا يعدون البقرة من أعظم القربات حتّى أنهم جعلوا لها بيتا لا يدخله إلّا خيارهم بكيفية خاصة فأمرهم الله تعالى بذلك تقريرا لعادتهم في ما يتقربون عند حوائجهم اليه تعالى.

الرابع : إن ما ورد من التخصيصات في البقرة كما تقدم في الآية الشريفة لأجل أن منشأ الحياة ـ ولو كان جسمانيا ـ لا بد أن لا يتخصص سوى الإضافة إلى الله تعالى ، وأن لا يدعي أحد في القرون التالية أن ما يملكه من البقرة من نسل تلك البقرة التي أحيي بها الموتى فهذه البقرة كانت منفية الصفات والخصوصيات كما تقدم.

الخامس : التنبيه على تمام قدرته تعالى ، فإن من أوضح الواضحات أنه لا يمكن إحياء ميت بتلاقي جسمين لا حياة فيهما ، فلا بد وأن تكون الحياة في القتيل بعد ضربه ببعض البقرة من عالم الغيب المحيط بعالم الشهادة ، كما يدل عليه قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) في ذيل الآية المباركة ، حيث حصر الإحياء بذاته الأقدس فكان الإحياء من المعجزات.

السادس : ما ورد من الآيات المباركة في هذه القصة الإعتبار العظيم ، والتسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما كان يلقاه من يهود عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومشركي قريش ، وتكفي في إتمام الحجة عليهم لنبوة خاتم الأنبياء لاعترافهم بأنها ليست من تعليم بشري وإنما هي من وحي سماوي. ولكن (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً) [سورة النحل ، الآية : ١٤] فاستحقوا بذلك العذاب الأليم.

ثم إنه يمكن أن يكون في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إشارة إلى العزوف عن حطام الدنيا وزخارفها ، ولا يتحقق ذلك إلّا بالاستيلاء على الشهوات النفسانية التي هي أقوى من البقرة ، ولا تصل النفس الإنسانية إلى أسرار عالم الغيب والشهادة إلّا بإماتة تلك الشهوات ، وكيف يعقل أن تنكشف الأسرار وتتجلى الأنوار مع وجود تلك الحجب ، وقال نبينا الأعظم (صلّى الله

عليه وآله): «لو لا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» وستأتي بقية البحث في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

العياشي عن إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول الله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب؟ قال (عليه‌السلام) : فيهما جميعا».

أقول : المراد بالقوة في القلوب رسوخ ملكة الإيمان في قلبه بحيث تمنعه عن المحارم ، وقد تقدم ما يتعلق بالرواية أيضا.

عن القمي في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قال : «ان موسى (عليه‌السلام) لما رجع إلى بني إسرائيل ومعه التوراة لم يقبلوا منه فرفع الله جبل طور سيناء عليهم وقال لهم موسى : لئن لم تقبلوا ليقعن الجبل عليكم وليقتلنكم فنكّسوا رؤوسكم».

أقول : لا يخفى انه معجزة من معاجزه (عليه‌السلام) وهي في مقام تخويفهم ، ولا ينافي ذلك بقاء اختيارهم في الإيمان فاستسلموا اختيارا.

عن العياشي عن الحلبي في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) قال (عليه‌السلام) «اذكروا ما فيه واذكروا ما في تركه من العقوبة».

أقول : في الحديث اشارة إلى ما في الامتثال من الثواب ، وفي المخالفة من العقاب.

عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) قال (عليه‌السلام): «لما معها ، ينظر إليها من أهل القرى. ولما خلفها ، قال (عليه‌السلام) : ونحن ، ولنا فيها موعظة».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام): «ونحن ، ولنا» ليس خصوص الإمام (عليه‌السلام) ، بل جميع من تتلى عليه هذه الآيات.

وعن العياشي عن ابن فضال قال سمعت أبا الحسن (عليه‌السلام) يقول. «إنّ الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وإنما كانوا يحتاجون الى ذنبها فشدد الله عليهم».

أقول : هذا مطابق للقاعدة وهي تحقق الإجزاء بمطلق الامتثال للمأمور به ، ويأتي في الرواية الثانية ما يؤيده. وأما تعيين الذنب فلأنه من أجزاء البقرة ، ولكن الظاهر من الحديث أن فيه موضوعية خاصة.

وفي الدر المنثور قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لو لا أنّ بني إسرائيل قالوا : وإنا (إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ما أعطوا أبدا ولو انهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت منهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم».

وروى العياشي عن أحمد بن أبي نصر البزنطي قال : «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) يقول : «إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه ، فقالوا لموسى (عليه‌السلام) : إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله؟ قال : ايتوني ببقرة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ) يعني : لا صغيرة ولا كبيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم ، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ، ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل ، فقال : لا أبيع إلّا بملء مسك ذهبا ، فجاؤا إلى موسى (عليه‌السلام) ، وقالوا له ذلك ، فقال : اشتروها ، فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ، ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها ، فلما فعلوا ذلك حيي المقتول ، وقال : يا رسول الله إن ابن عمي قتلني

دون من يدّعى عليه قتلي ، فعلموا بذلك قاتله ، فقال لرسول الله موسى (عليه‌السلام) بعض أصحابه : إن هذه البقرة لها نبأ ، فقال (عليه‌السلام) ما هو؟ قالوا : إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه وإنه اشترى بيعا فجاؤا إلى أبيه والأقاليد (مقاليد) تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره ، فقال له أحسنت هذه البقرة فهي لك عوضا لما فاتك ، قال : فقال له رسول الله موسى (عليه‌السلام) : «أنظر إلى البر ما بلغ لأهله».

أقول : مقتضى إطلاق الآية المباركة ـ كما هو صريح الأخبار ـ وإن كان هو الاكتفاء في ذبح البقرة بكل ما يسمى بقرة كما هو مقتضى القاعدة في مطلق الخطابات التي سيقت هذا المساق. ولكنه مشكل بل ممنوع إلّا فيما إذا أحرز أن المتكلم في مقام بيان ماله دخل في مراده من كل جهة ، ولا وجه لاحراز ذلك في المقام ، بل هو محرز العدم أما بالنسبة إلى الله تعالى فلعلمه جل شأنه بأنه سترد على هذه البقرة قيود تصيّرها منحصرة في الفرد وأما بالنسبة إلى المخاطبين فلبنائهم على التشكيك والتدقيق في مطلق أمورهم العادية فكيف بمثل هذا الأمر الذي هو من أهم الأمور الخارقة للعادة والقاطعة للخصومة فالتقييد والانحصار في الفرد ظاهر من سياق حال أصل التكليف وأحوال المكلفين والتمسك بالإطلاق في مثل هذا النحو من البيان غير مأنوس في المحاورات العقلائية بل مأنوس العدم.

إن قيل : كيف وهذا مصرح به في الروايات من أنهم لو عمدوا إلى ذبح أي بقرة لكفى؟ (يقال) : أولا : إنّها غير نقية السند. وثانيا : إنّها ليست في مقام بيان خصوصيات القضية ، بل في مقام بيان مذمة التعمق والمداقة في خصوصيات التكليف ، ويأتي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠١].

ويمكن الجمع بين الأخبار ورفع المنافاة بينها أنهم لو عمدوا وذبحوا مطلق البقرة نسخ الحكم الأول عنهم لمصلحة المبادرة إلى الامتثال وترك المداقة ، ومنه يظهر ما في جملة من التفاسير من التطويل.

وفي تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إن رجلا من خيار

بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأة فيهم فأنعمت له وخطبها ابن عم لذلك الرجل وكان فاسقا رديا فلم ينعموا له فحسد ابن عمه الذي أنعموا له فقعد له فقتله غيلة ، ثم حمله إلى موسى (عليه‌السلام) فقال : يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل قال موسى : من قتله؟ قال : لا أدري وكان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى (عليه‌السلام) فاجتمع اليه بنو إسرائيل فقال : ما ترى يا نبي الله؟ وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة ، وكان له ابن بار وكان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه وكان نائما وكره ابنه أن ينبهه وينغّص عليه نومه ، فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته ، فلما انتبه أبوه قال له : يا بني ماذا صنعت في سلعتك؟ قال : هي قائمة لم أبعها ، لأن المفتاح كان تحت رأسك فكرهت أن أنبهك وانغص عليك نومك ، قال له أبوه : قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك وشكر الله لابنه ما فعل لأبيه ، وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة»

أقول تقدم البحث عنه في الخبر السابق.

بحث تاريخي :

لم ترد قصة البقرة بهذا التفصيل في التوراة وإنما ورد فيها حكم كلي فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الحادي والعشرين ما هذا لفظه : «إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل ، فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير ، وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ، ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة ، وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم ، وأعيننا لم تبصر به اغفر لشعبك بني إسرائيل الذي فديت يا رب ، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل

فيغفر لهم الدم فتنزع الدم البري من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب» والظاهر من ذلك أنه كان من بقايا قصة معلومة مبينة عندهم دخلتها يد التحريف والتضييع وكم لهم من هذه التحريفات وقد صحح القرآن هذه القصة بالكيفية المذكورة ثم شرحتها الأخبار الواردة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) كما تقدم في البحث الروائي.

بحث فلسفي :

تضمنت الآية الشريفة عقوبة من العقوبات التي حلت على بني إسرائيل فقد مسخهم الله تعالى على صورة القردة والخنازير ، وتقدم ما يتعلق بها. والمسخ هو من أقسام التناسخ الذي كان مورد البحث بين الفلاسفة امتناعا وجوازا منذ القدم. وقد أثبت الممتنعون ـ وهم أكابر الفلاسفة ـ استحالته ، سواء كان صعوديا [من مطلق الحيوان إلى الإنسان] أو نزوليا أو عرضيا ، ولكن استدل المجوزون بأدلة عقلية ونقلية من الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، فاستدلوا بمثل هذه الآية المباركة (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وما سيقت مساقها كقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٠] والنصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة ، مثل ما ورد في صلاة الجماعة : «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار» بل قيل إنه ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ.

والحق أن يقال : إنّ هنا موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر أحدها : التناسخ وهو عبارة عن انتقال نفس من بدن ـ كان بينهما اتحاد في مدة من الزمان ، قليلة كانت أو كثيرة ـ إلى بدن آخر وحصول الاتحاد بينهما. وله أقسام صعودي ونزولي وعرضي كما مر.

الثاني : تجسم الملكات وظهورها عن كل نفس في بدن يناسب تلك الملكات ، والصفات النفسانية في الخارج بصور تناسبها. ولا ربط لأحد الموضوعين بالآخر.

والذي ينفيه أكابر الفلاسفة وأجمع المسلمون على نفيه إنما هو التناسخ

لا تجسم الملكات ، وما أثبته جمع بالبرهان إنما هو الثاني وادعى أهل العرفان فيه الشهود والعيان ، والسنة المقدسة مشحونة به لا سيما في أبواب المعاد ، فقوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أو قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٠] قول وجعل تكويني في جعل ملكاتهم وصفاتهم السيئة التي تكون في نفوسهم ، ونشأت عليها أبدانهم في قالب هذه الحيوانات المناسبة لفعالهم وملكاتهم ، فالروح والملكات عين ما كانت في السابق لكن اقتضت الحكمة الإلهية ظهورها في قالب الإنسان مدة ثم ظهورها في قالب يناسب تلك الصفات والملكات في مدة أخرى ، فالحقيقة واحدة والمظاهر مختلفة بإرادة الله تعالى وجعله.

ومن ذلك يظهر أن تجسم النفس بصور صفاتها وأخلاقها لا ربط له بمسألة التناسخ ، وبطلان الثاني لا يستلزم بطلان الأول.

ثم إنّ أساس مذهب التناسخ يدور مدار أحد أمور ثلاثة : إما قدم النفوس ، أو كون النفوس المجردة كالماديات التي تعتورها التغييرات والتبدلات ، أو النقص في قدرة الله تعالى وتضييقها بقدر عقولهم. والكل باطل ، فلا تناسخ لا في عالم الدنيا ، ولا في عالم الغيب أي دار السعادة والشقاوة ، ولا في عالم العقول المحضة ، ويأتي تفصيل ذلك كله إن شاء الله تعالى.

وعلى فرض تحقق المسخ الاصطلاحي فما هو الموجود من القردة والخنازير ليس من نسل المسوخ لما دل من النصوص على أن المسوخ لا بقاء لها بعد ثلاثة أيام وما هو الموجود ـ ويطلق عليه المسوخ ـ إنما يكون مثلهم لا أن يكون من نسلهم ومما اتفق عليه المسلمون أنه ليس في القردة والخنازير من هو من أولاد آدم (عليه‌السلام).

وخلاصة الكلام : المسخ إما في الظاهر أو في الباطن أو فيهما معا وكل هذه الأقسام إما في هذا العالم أو في عالم الآخرة أو فيهما معا وما كان في الدنيا إما أن يكون نسله مثله بعد المسخ أو يكون مثله قبل المسخ فيكون آدميا أو ينقطع نسله بالمرة بل يهلك نفسه بعد قليل من زمان مسخه ولكل من هذه الأقسام تفصيلات ربما نتعرض لها في ضمن الآيات المستقبلة.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

هذه الآيات المباركة تدل على اخباره جل شأنه للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه باليأس عن إيمان اليهود وعدم أهليتهم للإيمان بالله ورسوله ولو ظاهرا لما فيهم من الكيد والخيانة للرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومكرهم بتحريف كلام الله تعالى بكل ما تمكنوا وقد أوعدهم الله تعالى بالويل والنار.

التفسير

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ). الطمع : تعلق النفس بما تعتقد فيه النفع ، وبمعناه الأمل والرجاء إلّا أن الطمع أقوى منهما. وتستعمل المادة في الخير والشر ، وأكثر استعمالاتها في الثاني ولذا يعد من الصفات الذميمة. والهمزة للإنكار ، وفيه إيماء باستبعاد ايمانهم به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واليأس منه ، والخطاب للرسول والمؤمنين أي : كيف تطمعون أن يؤمن اليهود وهم من أهل السوء والعناد ـ وقلوبهم قاسية كالحجارة ـ ولهم سابقة في الكفر والتحريف لكلام الله تعالى. ولقد كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

والمؤمنون شديدي الحرص على إيمانهم لأسباب عديدة منها انهم من أهل الكتاب وهم على معرفة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودينه لما ذكر في كتابهم.

قوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ). الفريق اسم جمع لا واحد له ، والمراد به من له القدرة على التحريف سواء كان من الأحبار والعلماء أو من تبعهم في ذلك وإن لم يكن منهم موضوعا ، وإن كان ظاهر الآية يختص بالطائفة الأولى.

والمراد بسماع كلام الله تعالى ما أدركوه بقوة السمع سواء كان عند خطاب الله لموسى (عليه‌السلام) أو منه إليهم أو من أنبيائهم وكلامه تعالى سواء كان من التوراة أو ما ورد في أوصاف خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله). والتحريف التبديل والتغيير حسب مشتهيات النفس ، سواء كان في اللفظ أو في المعنى أو في المحل ـ بأن ينقل اللفظ من موضعه إلى موضع آخر ـ والكل حرام عقلا وشرعا إلّا إذا ورد إذن من قبل الشارع كما في تغيير القراءة فيه وهو لا يعد من التحريف الاصطلاحي ، ويأتي تفصيل ذلك كله إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أي : من بعد ما عرفوه وفهموه وتمت الحجة عليهم وهذا معنى قوله تعالى في الآية المباركة : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤١] أو عن (مَواضِعِهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١٣] وهم يعلمون بأنّهم يحرّفون ويكذبون على الله تعالى. وذلك نص على تعمدهم وسوء قصدهم. وفي هذين القيدين من التشنيع لفعلهم ما لا يخفى.

وحكم الآية المباركة عام يجري في كل من يحرّف كلام الله حسب مقاصده وإن لم يكن من اليهود فيشمل أهل البدع والآراء والمقاييس ولو كانوا من المسلمين.

ومعنى الآية المباركة أنه كيف تطمعون في إيمانهم وقد كان لهم سلف يفعلون السوء وقد جبلوا على العناد والإصرار على الضلال وكان من أفعالهم

الشنيعة أنهم كانوا يحرفون كلمات الله تعالى هذا حال سلفهم وأما أحوال الحاضرين فهي لا تتخطى عمن تقدمهم كما بيّن ذلك سبحانه وتعالى في الآيات التالية.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا). بيّن سبحانه وتعالى صفة أخرى من ذمائم أخلاقهم وشعب نفاقهم أي : إذا واجه اليهود أصحاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اعترفوا بالإسلام وقالوا : إنا آمنا برسولكم ـ كما آمنتم به ـ بحكم التوراة من البشارة ببعثته ولكن قولهم ذلك كان على سبيل النفاق.

قوله تعالى : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ). الفتح في الأصل إزالة الأغلاق والأشكال سواء كان ذلك في الأمور المادية أو المعنوية أو الاعتبارية وقد استعمل في القرآن الكريم بجميع مشتقاته ، قال تعالى : (يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سورة سبأ ، الآية : ٢٦] وقال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٩] أي : عنده ما يفتح به أبواب الرحمة على الخلق وكل نبي فاتح لامته أبواب المعارف الإلهية ويبين الأحكام للناس ، ومنه اطلاق الفاتح على الحاكم والفتح على الحكم والقضاء ، والفتاح على القاضي. والمراد به هنا ما كان مبينا في التوراة. ويستفاد منه انهم كانوا يزعمون أن ذلك سرّ لهم خاصة.

ومادة (ح د ث) تأتي بمعنى الكون بعد العدم ، سواء كانت البعدية ذاتية أم زمانية. والحديث بمعنى الكلام والخبر ، وإنما يفترق بالاعتبار فيسمى حديثا باعتبار حدوثه وتجدده ؛ وقد أطلق الحديث على نفس القرآن أيضا ، قال تعالى : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) [سورة النجم ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٨١].

والمعنى : أنه إذا خلا بعضهم ببعض يذم من أظهر منهم ما كان في التوراة من البشارة بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصفاته والأمر باتباعه.

قوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ). مادة (ح ج ج) تأتي بمعنى

القصد ، والمحاجة أن يقصد كل واحد رد الآخر بدليل معتبر. أي إنكم إذا أظهرتم للمؤمنين ما في التوراة يصير حجة عليكم من المسلمين فيحاجوكم به ، وليس هذا إلّا النفاق.

قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ). يحتمل أن يكون قول الأحبار والرؤساء لمن أظهر منهم الإيمان أي : أفلا تعقلون أن هذا الحديث يوجب إتمام الحجة للمسلمين على بني إسرائيل. ويحتمل أن يكون الخطاب من الله تعالى للمؤمنين أي : أفلا تعقلون أنّ بني إسرائيل منافقون في أقوالهم وأعمالهم وأنهم لا يؤمنون فلا تعتمدوا على ما يصدر منهم.

قوله تعالى : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ). الإسرار خلاف الإعلان ، وللإسرار مراتب كثيرة قال تعالى : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه ، الآية : ٧]. وعن بعض أهل اللغة ـ وتبعه بعض المفسرين ـ أنه من الأضداد لقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٣] أي أظهروا الندامة ولكنه مردود لأنه خلاف ظاهر الآية المباركة كما يأتي في محلها. نعم يمكن أن يكون شيء واحد سرا من جهة وإظهارا من جهة أخرى فهو من الصفات ذات الإضافة ، قال تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) [سورة التحريم ، الآية : ٣] ، وقال جلّ شأنه : (إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) [سورة نوح ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [سورة الرعد ، الآية : ٢٢]. وعلى أية حال فهذه الآية المباركة من القضايا التي يكون دليلها معها بعد تصورها ؛ وفيها توبيخ وتقريع لكل من يعلم بالحق ولا يحقه أو يعلم بالباطل ولا يبطله فضلا عن أن يظهر خلافه في كل منهما ، فإنه تعالى حاضر لدى القلوب فلا بد أن تكون القلوب حاضرة لديه حضورا عمليا لا اعتقاديا فقط ، إذ لا أثر للاعتقاد بدون العمل.

وهذه الآية المباركة من الآيات التي تدل على إحاطته تعالى بما سواه وهذه الإحاطة واقعية فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة ، ولذا عقّب سبحانه وتعالى علمه الإطلاقي بما سواه بالألوهية المطلقة تارة ، فقال جل

شأنه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٣]. وأخرى : علقه على ذات الألوهية ، فقال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٢٣] ويأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ). الأمي من لا يكتب ولا يقرأ وهو صفة ذم ، وقد تكون من صفات المدح كما في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنه كان أميا ولكن علمه الله تعالى من لدنه جميع المعارف وجهات التشريع. والأماني جمع أمنية : وهي التصورات التي لا حقيقة لها ولا واقع وإن ظن أن لها واقعا وحقيقة.

وهذه الجملة تحتمل معنيين :

الأول : أن كتاب الله تعالى يشتمل على أشياء لا حقيقة لها بزعمهم ويشهد له قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٥].

الثاني : أن يكون المراد أنه لاحظ لهم من معنى الكتاب ومراد كلامه تعالى ، وهمهم إنما يكون في غير ذلك. وإنما عبر بالامنية لأنه لا يتجاوز الوهم والخيال الذي هو أنزل العوالم ولا يمكن أن يصل إلى مراده تعالى الذي هو من عالم الغيب ، فيكون من أدلة النهي عن تفسير كلام الله بالرأي. وتأتي بمعنى القراءة أيضا أي لا يعلمون الكتاب إلّا قراءة اللفظ من دون التعدي إلى فهم المعنى الحقيقي. وهؤلاء هم الفريق الثاني من اليهود الذين لاحظ لهم من الكتاب إلّا الأكاذيب والمفتعلات ، وهم المأوّلون لكتاب الله على طبق آرائهم وأمنياتهم التي ليس لها أصل صحيح. وأما الفريق الأول فهم المحرفون لكتاب الله تعالى.

قوله تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). المراد بالظن الوهم أي ليس حظهم من الكتاب إلّا ما يتوهمونه من الأغراض الفاسدة كما يأتي في ذيل الآية المباركة.

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ

عِنْدِ اللهِ). ذكر سبحانه وتعالى فريقين من اليهود وهم المحرفون لكتاب الله تعالى ، والمأوّلون له. وبقي قسم ثالث وهم المفترون على الله تعالى.

الويل : لفظ جامد لا تثنية فيه ولا جمع. والويلات جمع ويلة لا الويل. ومعناه شدة الشر والحزن والعذاب والهلكة ، وقد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعين موضعا كلها مقرونة بما يدل على الذم والحزن والمكروه ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إن الويل واد في جهنم بين الجبلين» وهذا من باب التطبيق لا بيان المعنى الحقيقي. وقد كرر اللفظ في المقام ثلاث مرات لشدة عظم المعصية وتغليظا لفعلهم وهو كذلك عقلا ، فإن الافتعال والجعل من غير من له حق الجعل فعل شنيع وفيه خطر عظيم فأفعال هذه الفرق الثلاث وهم : المحرفون ، والمأولون ، والمفترون ، فيها قبح عقلي وكل ذلك داخل في الظلم الذي يحكم بقبحه العقل فلا اختصاص له بقوم دون آخرين.

وإنّما أضاف الله تعالى الكتابة إلى اليد مع أنها لا تكون إلّا بها تبيينا للموضوع كما في قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [سورة يس ، الآية : ٣٥] وفي المحاورات : «رأيته بعيني» و «سمعته باذني». وإشارة إلى تحقير الموضوع يعني أن ما يفعل باليد لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى فإن ما عنده ليس إلّا الحقائق الواقعية التي تجل عن تدخل القوى الإمكانية فيها. ويمكن أن يكون فيه إيماء إلى إيكال الأمر إلى أنفسهم اي : أنه مع أنكم تعلمون أنه من مفتعلات أنفسكم كيف تنسبونه إلى الله تعالى.

ويراد من الكتاب الذي كتبته أيديهم الأعم مما كتبوه قبل بعثة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو حينها أو بعدها ، ومن ذلك ما روي أن أحبارهم عمدوا إلى التوراة وحرفوا ما ورد في صفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً). ليس المراد بالاشتراء خصوص الشراء مقابل سائر النقل والانتقال بل المراد به التبديل ، ووصف سبحانه وتعالى الثمن بالقلة إما لأجل فنائه وإن كان كثيرا أو لأجل أن الحق لا يقابل بأي ثمن

فإن كل ما في الدنيا إن قوبل بإزالة الحق عن مقره وإظهار الباطل لكان ذلك قليلا في مقابل هذا الذنب العظيم قال تعالى : (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٢] وأنى للنفوس المأنوسة بالماديات معرفة آيات الله جلت عظمته وقيمها الواقعية ، وهذه الآية المباركة شارحة لقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠١].

وكرر سبحانه وتعالى الوعيد ـ في هذه الآيات المباركة ـ ثلاث مرات إما لأجل عظمة الجرم وشناعته كما مر ، أو لأجل صدور ثلاث جرائم عظيمة هي أصل التغيير ، نشره بين الناس ، وأخذ الرشوة وإعمال الأغراض الشريرة في التغيير ، فقال سبحانه.

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). أي : لهم عذاب شديد لأجل التحريف ولأجل الأغراض الفاسدة وفعل المعاصي.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة خصلة من خصالهم السيئة وضربا من غرورهم وادعائهم أنهم من أبناء الله وأحبائه فلا بد وأن تكون مدة العقاب قليلة. وقيل : إن أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام وقيل : أنها تمسهم أربعين يوما ، وهي المدة التي عبدوا فيها العجل. والمس واللمس بمعنى واحد ، إلّا أن الثاني أعم موردا من الأول ، فيصح أن يقال : التمست الكتاب فلم أجده ولا يصح أن يقال : مسست الكتاب فلم أجده ، قال تعالى : (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) [سورة الجن ، الآية : ٨] ولا يصح استعمال مسسنا السماء ، لأن المنساق منه اللصوق والمقارنة الحقيقية بين الماس والممسوس ، وأكثر ما تستعمل مادة (م س س) في القرآن إنما هو في السوء والضر والمكروه ، وقد تستعمل في الخير أيضا ، قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)

[سورة المعارج ، الآية : ٢١].

وربما تعترض غالب النفوس شبهة دوران مدة العقاب مدار مدة العصيان فإذا كانت مدة العصيان محدودة فلا بد وأن تكون الأولى أيضا محدودة فلا وجه للزيادة فضلا عن الخلود والأبدية ، وقد ذكرت هذه الشبهة في علم الفلسفة والكلام والحديث ، ودفع عنه بأجوبة متعددة سيأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ). تقدم معنى العهد وهو حفظ الشيء وإحكامه ومراعاته حالا بعد حال ، والعهد إما بين الله تعالى وبين خلقه وهو كثير ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [سورة يس ، الآية : ٦٠]. وكل ما بيّنه رسوله الباطني ـ وهو العقل ـ من حسن الإحسان وقبح الظلم ، وجميع ما بيّنه أنبياؤه ورسله الظاهرية بواسطة الوحي السماوي يكون من عهود الله تبارك وتعالى على عباده. وإما ما بين العباد بعضهم مع بعض ، وهي المعاملات التي يقوم بها النظام وجميع هذه الأقسام واجب الوفاء بها عقلا وشرعا.

ومعنى الوجوب على الله تعالى حسن فعله وقبح نقضه ، وكلما كان كذلك فهو واجب عليه قال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] ، وقال تعالى : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ).

قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ). مركب من مقدمتين واضحتين يعترف الخصم بإحديهما وتثبت في حقه الأخرى لا محالة أي : إن كان لكم في دعواكم عهد من الله تعالى فلن يخلف الله عهده وهم يعترفون بعدمه فينسبون إليه ما لم يقله.

قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). أي : تقولون ما لا دليل لكم عليه ، وهذه نتيجة واضحة لعدم إثبات عهد الله إليهم ، فنفى الله تعالى عنهم العلم والمعلوم تنبيها على كمال غباوتهم ولا تختص هذه الآية بقوم دون آخرين بل تجري في كل من تمنى على الله أمرا غير مشروع وافترى عليه في ذلك.

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً). بلى : كلمة تستعمل غالبا مع النفي فتزيله ويثبت نقيضه قال تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] فأثبتوا الربوبية فكانوا مسلمين ـ بخلاف نعم فإنه تقرير غالبا ـ وعليه لو قالوا : نعم لكانوا كافرين ، وإذا قيل : ما عندي شيء فقال المخاطب بلى فهو رد لكلامه ، وإذا قال : نعم فهو تقرير هذا مع عدم القرينة في البين وإلّا فتتبع هي لا محالة.

فكلمة «بلى» في المقام رد لما زعموه أي : ليس الأمر كما ذكرتم بل تمسكم النار كما تمس غيركم وتخلدون فيها.

ومادة «كسب» استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فأضيفت تارة إلى القلب فقال تعالى : (يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٥] ، والى الأيدي أخرى فقال جل شأنه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [سورة الشورى ، الآية : ٣٠] ، وإلى النفس ثالثة قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [سورة المدثر ، الآية : ٣٨] والمرجع في الجميع واحد لعدم الفرق بين النسبة إلى الذات أو الى اليد. وأصل المادة تستعمل في طلب النفع ، سواء كان واقعيا أم وهميا أم خياليا ، ويعتبر الاستمرار فيه في الجملة ، فلا يقال لمن اشترى شيئا لطلب النفع مرة : إنه كاسب إلّا بالعناية. وهذا من إحدى عناياته تبارك وتعالى في ما استعملت فيه هذه الكلمة في القرآن الكريم فلم يرتب الحكم على صرف الوجود غالبا إلّا في الشرك.

والسيئة الفعل القبيح وهي ضد الحسنة وتشمل جميع القبائح من الصغائر والكبائر والشرك ، فإن أريد بها في المقام الشرك ـ كما عن جمع من المفسرين ـ يكون قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) بيانا للشرك الذي يكون خطيئة محيطة بالإنسان. وإن كان المراد بها مطلق السيئة فيكون المراد بالإحاطة اشتدادها حتّى يصير صاحبها من أهل الخلود في النّار.

قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). الإحاطة : الغلبة والاستيلاء. والخطيئة الحالة الخاصة الحاصلة

من مطلق الذنب الموجبة للخلود أو الشرك ـ أو ما يكون مثله ـ بقرينة الإحاطة والخلود في النار. وذكر الخطيئة دون السيئة إشارة إلى أن تكرر السيئة يوجب إحاطة الخطيئة وصدورها عنه ولو لم تكن عن التفات تفصيلي حينها بعد أن كان أصل السبب عن عمد واختيار منه.

ودخول أصحاب الخطايا في النار والخلود فيها كدخول الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنّة والخلود فيها مطابق للبراهين العقلية ـ كما يأتي ـ فإن من أحاطت به خطيئته يكون من الأشقياء ومن كان كذلك فهو مخلد في النار ، كما أن من آمن وعمل صالحا يكون من السعداء وكل من كان كذلك فهو مخلد في الجنّة.

ثم إن إحاطة الخطيئة بالإنسان تكون على أقسام : من أهمها الشرك والكفر بالله تعالى فإنهما يحيطان على القلب والجوارح ، قال تعالى : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٢] وقال جلّ شأنه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [سورة مريم ، الآية : ٣٧] ومنها متابعة الذنب للذنب بحيث تستولي السيئة على مجامع قلبه فتتبدل فطرته الأولية إلى فطرة أهل الجحيم والنار مع فرض عدم تخلل التوبة والندم وما يوجب الكفران في البين وقال تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٠] وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عزوجل : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). ومنها الاستخفاف والاستهانة بأوامر الله تعالى ونواهيه المؤدي إلى الاستهزاء بالدين قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الروم ، الآية : ١٠] وغير ذلك من الأقسام التي يكون المناط فيها كله تبديل الذات المقتضية للسعادة إلى الشقاوة في مرتبة الاقتضاء فتتغير الذات من كثرة مزاولة السيئات والمعاصي ، وعدم المبالاة بها ، كما يصير الجبان بكثرة مزاولة الحروب شجاعا فمقتضيات

الذات تتغير بالملكات وهي تحصل بتكرر الأفعال.

وما قيل : إنّ الذاتي لا يتغير ولا يتبدل (مردود) بأن ذلك في الذاتي المنطقي وما هو لازم الماهية ، لا الذاتي في العرف والشرع اللازم للوجود لجهات خارجة عن الذات والماهية ، ويأتي تفصيل ذلك كله في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أصحاب النار ذكر هنا أصحاب الجنّة وهم الّذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات وهذا من سنته تبارك وتعالى فإنه يقرن بين الترهيب والترغيب وهو من بديع حكمته.

وهاتان الآيتان المباركتان تشبهان الآية السابقة وهي : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٢] في أن كلا منهما في مقام بيان أن الخلود في الجنّة والنار إنما هو للسعداء والأشقياء دون مجرد التسمية بالأسماء. والفرق أن الآيتين الأخيرتين في مقام بيان ترتب الخلود في الجنّة على السعداء والخلود في النّار على الأشقياء ويلزم الأثر للتسمية ، والآيتين الأوليين في مقام بيان عدم الأثر للتسمية أولا فيلزمه الخلود في الجنّة للسعداء والخلود في النّار للأشقياء.

بحث روائي :

في المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا) قال : «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنهى كبراؤهم عن ذلك ، وقالوا : لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيحاجوهم به عند ربهم ؛ فنزلت الآية» ، وقريب منه ما رواه القمي.

أقول : تقدم أنّ ذلك تحريف في ما أنزل الله ومكر وخديعة.

وعن القمي أيضا في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) : «قال بنو إسرائيل : لن تمسنا النار ، ولن نعذب إلّا الأيام المعدودات التي عبدنا فيها العجل فرد الله عليهم».

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك.

وفي تفسير العسكري في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال (عليه‌السلام): «السيئة المحيطة به أن تخرجه عن جملة دين الله وتنزعه عن ولاية الله تعالى وتؤمنه من سخط الله وهي الشرك بالله ، والكفر به ، وبنبوة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وولاية علي وخلفائه (عليهم‌السلام) ، وكل واحدة من هذه سيئة تحيط به أي تحيط بأعماله فتبطلها وتمحقها».

وفي الكافي عن أحدهما (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) : «إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» ، وقريب منها ما رواه الشيخ بأسناده عن علي (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : في ذلك روايات مستفيضة بل متواترة وكلها من باب المصداق والتطبيق ، وتشمل جميع الأعمال الباطلة لفقد شرط من شروطها.

ثم إن الأفعال الصادرة عن الإنسان إما مباشرية له فقط ، أو تسبيبية منه ، أو مركبة منهما ، والجميع إما من الحسنات والخيرات أو من الشرور والسيئات ، ولا ريب في أنه يجزي جزاء الحسنات على الأفعال الحسنة مطلقا ، بل مقتضى قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠] تضاعف الجزاء. وأما السيئات فإن كانت فعلا مباشريا فيعاقب عليها ما لم تمح بالتوبة بشروطها. وأما إذا كانت الأفعال تسبيبية منه ، فقد قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ما تواتر عنه : «من سنّ سنّة حسنة فله أجر من عمل بها ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزر من عمل بها» ، وتشهد لذلك الأدلة العقلية وتحريف كلام الله تعالى وآياته وتغيير السنّة المقدسة النبوية هو من القسم الأخير.

بحث فقهي :

قد استدل بالآية المباركة : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) على حرمة أخذ الأجرة على تدوين المصحف الشريف وحرمة بيعه ، وأصل المسألة مذكورة في الكتب الفقهية ، وقد استدلوا على الحرمة أيضا بأدلة أخرى لكنها قاصرة عن إثباتها فمقتضى الأصول والأدلة والقواعد الجواز إلّا أن يدل دليل معتبر بالخصوص على الحرمة وقد ذكرنا التفصيل في الفقه ومن أراد المزيد فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى أحوال بني إسرائيل وما أنعم عليهم بأنواع النعم وما ظهر فيهم من المعجزات الباهرات شرع في تعداد ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق وهي أمور عقلية نظامية تنظم شؤونهم الفردية والاجتماعية الدنيوية والأخروية ، ويترتب على مخالفتها والاستخفاف بها الأحكام الوضعية والتكليفية. وإنما كرر جل شأنه ميثاق بني إسرائيل لأنهم أول من قامت فيهم الحركة الدينية ولعلهم يشكرون هذه النعمة ، ويدينون بما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تعظيما لشأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واهتماما باتباعه وتسلية له

لئلا يتأثر من لجاجهم وانكارهم ، فإنهم جبلوا على ذلك.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ). الأخذ : الاستيلاء والتحصيل والحيازة ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة جدا بالنسبة إليه تعالى وإلى خلقه ، وكذا في السنة المقدسة فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي». وتقدم معنى الميثاق وهو العهد المؤكد والعقد المستحكم. والموثوق به في الآيات المباركة أمور كلها مما يستقل العقل بحسنها ، واجتمعت الشرايع السماوية عليها.

والمعنى : اذكر ايها الرسول ما أخذناه من المواثيق عليهم ، وقد بيّن سبحانه وتعالى هذه المواثيق بما يأتي.

قوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ). جملة خبرية في مقام الإنشاء وهذا أبلغ في الطلب وآكد أي : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [سورة النساء ، الآية : ٣٦] وهو غاية كمال العقل وأولى درجة الرقي إلى المقامات العالية التي لا حد لها ولا نهاية.

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). أي أمرناهم بالإحسان إلى الوالدين ، وهو حكم حسن يحكم به ذوو العقول لو لم يحكم بحسنه كل ذي شعور ؛ وقد قرن سبحانه وتعالى الوالدين بالتوحيد في هذه الآية المباركة ، وفي جملة من الآيات قال تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥١] ، وقال جلّ شأنه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [سورة الإسراء ، الآية : ٢٣]. وذلك ، لأن النشأة الأولى أو الخلق وإن كان من الله تعالى ولكن دوام بقاء عالم الإنسانية بالوالدين ، كما أن منشأ التربية الحقيقية من الله تعالى ، لأنه الرب على الإطلاق وجميع ما سواه مربوب له ، ثم بعد ذلك في النظام الأحسن تكون التربية من جهة الوالدين ، ولذا قرن الشكر لهما

بشكره تعالى فقال جل شأنه (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٤].

والتربية تارة : تكون جسمانية وهي التي يقوم بها الوالدان ، ويتم بقاء النوع الإنساني بها. واخرى : تربية معنوية وهي التي بها تقوم الحياة الأبدية ، ويقوم بها الأنبياء والأولياء والعلماء ، ولا ريب في أفضلية الثانية من الأولى واهميتها.

وإنما اطلق تعالى الإحسان إلى الوالدين ، لأنه مما يختلف باختلاف الاعصار والأمصار والحالات كما هو معلوم ، ويتم الإحسان إليهما بمعاشرتهما بالمعروف ، ورعايتهما ، وامتثال أوامرهما والتواضع لهما.

وكيف كان فأفعال الإنسان بالنسبة إليهما على أقسام ثلاثة : الأول ما أدرك أنه حسن ، والثاني ما أدرك أنه سيئ ، والثالث ما تردد في انه من الحسن أو السيئ ، ويصح الأول بالنسبة إلى الوالدين ، ولا يجوز الثاني ، وفي الأخير تفصيل يطلب من الفقه.

قوله تعالى : (وَذِي الْقُرْبى). القربى هي القرابة أي : امرناهم بالإحسان إلى القرابة وهو مما تحكم به الفطرة أيضا ، لأن بحفظ القرابة يتحقق نظام الأسرة ، والاجتماع الذي هو من أهم مقاصد النوع الإنساني فالإحسان إليها يقوي أواصر تلك القرابة ويصلحها.

قوله تعالى : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ). اليتم هو الانفراد ومنه قولهم درة يتيمة ، وقول الصادق (عليه‌السلام): «والله نحن اليتامى» واليتيم في الإنسان من فقد الأب ، وفي البهايم من فقد الأم ، وفي الطيور فيهما. وتقدم معنى المسكين وهو من أسكنته الحاجة ، وأطلق سبحانه وتعالى الإحسان إليهم ، لما مر آنفا في الإحسان الى الوالدين ، وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). التفات في الكلام وعدول في الخطاب لأهمية المورد بعد أن أمر سبحانه وتعالى بالإحسان الى أفراد مخصوصين ـ وهم الوالدان والأقربون ، واليتامى والمساكين ـ أكد ذلك بحسن

المعاشرة والقول الجميل وكل ما هو حسن للناس ولا بد من تقييد ذلك بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو اجمع كلمة لحفظ النظام ، واحسن ما يجلب به قلوب الأنام ، فعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «قولوا للنّاس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم» وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق به أيضا.

وهذه المواثيق لم تكن تختص بطائفة خاصة بل هي أمور فطرية حكم بحسنها العقل وحث عليها الشرع ، فلو عمل بها النّاس لعمت الإلفة وزالت البغضاء والتنافر بينهم ، وانقاد الكل للكل ، واضمحل العدوان بين أفراد الإنسان ، وبلغ المجتمع الإنساني إلى ذروة المجد والشرف ، ولكنهم عمدوا إلى الشقاق والنفاق فتولوا عن الحق إعراضا فصاروا لما لا يتوقعون أغراضا.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). بيّن سبحانه وتعالى معنى العبادة التي تقدمت في صدر الآية المباركة ليبطل جل شأنه افتعال المفتعلين لأن العبادة لا بد أن تستند بجميع خصوصياتها إلى الشارع. والإقامة ـ كما تقدم ـ المواظبة على إتيان الصّلاة تامة الأجزاء وجامعة للشرائط ، وهي أقوى صلة بين الله تعالى وعباده ، ومن أهم السبل في إصلاح النفس ، لما تشتمل على الإخلاص لله تعالى ، والخشوع لعظمته. كما أن الزكاة أقوى صلة بين الأغنياء والفقراء ثم بينهم وبين الله تعالى ، ففيها إصلاح المجتمع. والزكاة أيضا من الأمور العبادية فلا بد أن تستند خصوصياتها إلى الشرع ، وإن كان مطلق الصدقة محبوب بالفطرة لدى الأمم.

قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ). بيان لما وقع منهم من عدم الوفاء بالميثاق ومعارضتهم له بالنفاق. والتولي هو الإعراض والمعروف انه إذا عدّي بنفسه يكون بمعنى الولاية والمحبة والإقبال وإذا عدّي بعن كان بمعنى الإعراض والإدبار ، والقرينة في المقام على الثاني : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ). وغالبا ما استعمل لفظ التولي في القرآن الكريم إلّا وعقّب بالإعراض مبالغة في الترك والتولي ، وقد كان لتوليهم مظاهر مختلفة ذكر سبحانه وتعالى جملة منها في الآيات المتقدمة وسيأتي في الآيات اللاحقة بعضها الآخر.

والمراد بالمستثنى في قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) بعض اليهود الذين أقاموا على دينهم ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في حكايته عن الشيطان (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣] ونسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «العالمون هالكون إلّا العاملين ، والعاملون هالكون إلّا المخلصين ، والمخلصون على خطر».

ثم إنّ التوجه إلى شيء يلازم الإعراض عما يضاده وينافيه ، فهما من الصّفات ذات الإضافة بينهما التلازم شدة وضعفا ، أو كمالا ونقصا فمن توجه إلى شيء من حيث هو مع قطع النظر عن أنه صنع الله تعالى ومظاهر آياته ومورد قضائه ورضائه ، فقد أعرض عن الله تعالى بقدر ما توجه اليه ، وأما إذا كان توجهه اليه من حيث انه مورد رضائه وطلبه لا يعد ذلك إعراضا عنه تعالى ، بل توجها إليه تعالى ، وهما يتحققان بالقلب ، إذ لا يمكن أن يتحقق التوجه إليه تعالى بالجسم لما ثبت في الفلسفة من امتناع الجهة بالنسبة إليه عزوجل ، قال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٦]. والإعراض القلبي عنه عزوجل يكون إما بعدم الإعتقاد به ، أو عدم سماع أحكامه ، أو عدم العمل بها بعد الاستماع ، أو الاستهزاء بآياته ، أو التولي عن أنبيائه ورسله والقائمين مقامهم في التشريع. وفي الأخير يتحقق الإعراض القلبي والجسماني معا ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وقد نسب إلى جمع من المفسرين أن هذه الآية المباركة منسوخة واختلفوا في تعيين الناسخ ، فقد ذهب جمع إلى أن قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) منسوخ بآية السيف ، وهي قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٩] وهو منسوب إلى ابن عباس وقيل غير ذلك.

والحق أن الآية المباركة في مقام بيان أصل القانون وتشريع الحكم ،

وذكرنا أن مضمونها أحكام فطرية حكم بحسنها العقل إلّا أن لها قيودا مذكورة في الكتاب ، فليست الآية منسوخة وإلّا لعمّ النسخ كل تقييد لمطلق ، أو خاص لعام ، والحديث الوارد في المقام عن الصادق (عليه‌السلام) كما سيأتي محمول على ما ذكرناه إن تم اعتباره.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ). ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة جملة من المنهيات التي أخذ العهد من بني إسرائيل باجتنابها ، كما ذكر في سابقها مما أمروا بها. والسفك والصب والإهراق بمعنى واحد. والنفس ـ بالسكون ـ بمعنى الروح ، وهما شيء واحد وإن اختلفا مفهوما ، وهي اشرف ما في الإنسان وقد تحيرت العقول فيها ولم تزل مورد بحث العلماء واجتهادهم ، وغاية ما وصل العلم فيها مع بذل الجهود الجبارة أنها مبدأ الحياة والحركة ، ولكنهم لم يقدروا أن يتوصلوا إلى الحقيقة ، بل كلما ازداد الجهد فيها في تعاقب القرون ازداد الإنسان بعدا عنها وازدادت غموضا ، ولذا قالوا : إنّ قوله (عليه‌السلام): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» من التعليق على المحال إن لوحظ بالنسبة إلى الحقيقة ، وأما إذا لوحظ باعتبار الآثار فهو متيسر بحسب مراتب الإدراكات والاستعدادات والنفس ـ بالفتح ـ الهواء الداخل في البدن والخارج منه وبه قوام الحياة وتأتي بمعنى الفرج ، ومنه ما نسب إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إني أجد نفس الرحمن من اليمن».

وفي قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) التفات إلى الحاضرين ترغيبا لهم إلى الإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي يبين ما أخذ عليهم من المواثيق.

والديار جمع الدار ، سميت به لدورها على ساكنها وهي من الأمور التشكيكية الإضافية ، فالدنيا مع سعتها دار الفناء ، والآخرة مع عدم انتهائها دار البقاء ، ودار المسكين التي لا تسع مدّ رجليه دار أيضا. والدّيار ـ بالتشديد ـ من سكن الدار.

والمعنى : وإذ أخذنا منكم العهد أن لا يسفك بعضكم دم بعض ولا

يخرج بعضكم بعضا من ديارهم بغير الحق مباشريا كان أو بالتسبيب وكل منهما من القبائح العقلية ، ولذا اعترفوا وشهدوا بذلك.

وإنّما عبّر سبحانه بالنفس وجعل غير الشخص كأنه نفسه مبالغة في النهي ، وتأكيدا في الترك ولأنهم أمّة واحدة بينهم روابط القرابة والمصلحة والدين ، فما يصيب واحدا منهم كأنما يصيب الأمة ، وأراد سبحانه وتعالى بذلك تعليم حفظ الوحدة بين الأفراد مهما أمكنهم كقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [سورة النور ، الآية : ٦١].

قوله تعالى : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ). الإقرار هو الإخبار الجازم بما هو لازم. والشهادة من الشهود وهو الحضور الذي لا شك فيه. والمعنى انكم أقررتم بالميثاق والعهد ؛ وتشهدون بما فعلتم به من الهتك والنقض.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ). إخبار عن نقضهم للعهد ، والخطاب إلى يهود عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبيان لما نقضوه من سفك الدم وإخراج صاحب الدار من داره ، وفيه إشارة إلى ما كان بين اليهود في عصر النبي من التنافر والتعاند والقتل والأسر والعدوان وسيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

قوله تعالى : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). التظاهر التعاون ، وهو مشتق من الظهر بمعنى المعين ، قال تعالى : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨]. والإثم والوزر والمعصية بمعنى واحد. والعدوان التجاوز عن الحد ، وفي المقام هو الإفراط في الظلم. أي أنه كان منكم من يعاون الظالم على إخوانه من اليهود بالإثم والعدوان أي القتل والأسر والإخراج من الديار.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ). أسارى جمع أسير ، وهو كل مأخوذ قهرا. وقد يطلق الأسارى على من في الوثاق ، والأسرى على من في اليد بلا وثاق وتفادوهم من الفداء وهو طلب الفدية. والمعنى أنه يفدي كل فريق من اليهود أسرى أهل ملته وإن كان من أعدائه ، ثم يعتذرون عن ذلك بأن دينهم أمرهم بفداء الأسرى من

بني إسرائيل. وليس ذلك إلّا من الاستهزاء بأحكام الله تعالى ، والإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر ، فانه لو كان كذلك فلم يقتل بعضكم بعضا ويخرج بعضكم الآخر من دياره وهو محرّم عليهم في دينهم ، وقد نهاهم الله تعالى عن ذلك كما ذكره تعالى.

قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ). توبيخ وتأنيب أي : أنّكم إذا كنتم مؤمنين فما بالكم تؤمنون ببعض الكتاب وهو فداء الأسرى ، وتكفرون ببعض وهو حرمة القتل ، وإخراج اهل الديار من ديارهم. وفداء الأسير حسن لا ريب في محبوبيته بشرط أن لا يكون الفادي هو السبب في أسره ، وإلّا كان تبعيضا في الإيمان ، وكفرا بأحكام الله ، ولذا توعّد سبحانه على من كان كذلك بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة. والتعبير بالكفر إشارة إلى استهزائهم بحكم الله وجحودهم له ، وإلّا فإن مجرد ترك العمل ببعض الأحكام لا يوجب الكفر وإن أوجب الفسق.

قوله تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ). الخزي هو العذاب والهوان. قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٢] والتعبير بالرد إشارة إلى أن مسيرهم في المبدأ والمنتهى واحد ، من العذاب إلى العذاب.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). لا تخفى عليه خافية فقد أعد لكل عمل جزاءه ، وقد تقدم معنى ذلك ، وفيه زجر شديد لهم ، وفي مثل هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمّا كان يلقاه من اليهود ، وارشاد لأمته إلى نبذ ما فعله اليهود وإلّا أصابهم ما أصاب اليهود.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ). بيان لقبح أفعالهم ، وقبحهم في تبديل الحياة الأبدية الشريفة بالحياة الزائلة الخسيسة بتركهم أحكام الله تعالى ، واستهزائهم بآياته وفسقهم ، ومثل هذا التبديل مما حكم العقل بقبحه ، وأجمعت الشرايع الإلهية على التنديد به ، قال تعالى في شأن الآخرة : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [سورة العنكبوت ، الآية :

٦٤] ، وقال جل شأنه في الدنيا : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٨] وقد وردت أخبار كثيرة عن المعصومين (عليهم‌السلام) في ذم الدنيا وطالبها والترغيب إلى الآخرة ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ما اشتهر عنه : «الدنيا ميتة وطالبها كلاب» إلى غير ذلك من الأخبار التي يصعب ضبطها.

إن قيل : إنه كيف تكون الدنيا كذلك وأنها مزرعة الآخرة ولولاها لم تتحقق الجنان العالية ولا الوجوه الناضرة. (يقال) : إذا لوحظت الدنيا من حيث نفسها فهي قبيحة مذمومة. وإذا لوحظت من حيث وقوعها في طريق الآخرة بما ارتضاه الله تعالى فهي ممدوحة بل هي من بعض مظاهر الآخرة ظهرت في هذا العالم لمصالح كثيرة على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). الخفيف معروف ، وهو من المعاني الإضافية فربما يكون شيء واحد خفيفا من جهة وثقيلا من جهة أخرى ، قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «قول لا إله إلّا الله خفيف على اللسان ثقيل في الميزان». وهو في المقام بمعنى التسهيل ، كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «من استخف بصلاته فلا يرد عليّ الحوض» أي تساهل فيها. ويستعمل في القرآن غالبا مقرونا بالخلود ، قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨٨] ويمكن أن يستفاد الخلود في المقام من قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأنهم بأعمالهم قد سدوا على أنفسهم أبواب رحمته تعالى فلا ينصرهم ناصر ، فيكون عدم النصر مساوقا للخلود في النار ، وتقتضيه مناسبة الحكم والموضوع أيضا.

وذكر كلمة الفاء في قوله تعالى (فَلا يُخَفَّفُ) قرينة على أن مدخولها مترتب على أفعالهم من باب ترتب المعلول على علته ، كما في قول القائل تحركت اليد فتحرك المفتاح.

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قال : «أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين».

وفي الكافي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : «قولوا للناس حسنا ، ولا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو».

وعن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، فإن الله يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين ، المتفحش ، السائل الملحف ، ويحب الحليم الحيي العفيف المتعفف». ومثله ما رواه في الكافي والمعاني :

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : «نزلت هذه الآية في أهل الذمة ، ثم نسخها قوله عزوجل : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.

وعن العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا : «إن الله بعث محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بخمسة أسياف : فسيف على أهل الذمة ، قال الله تعالى : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) نزلت في أهل الذمة ، ثم نسختها أخرى قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية».

أقول : المراد من النسخ في المقام ليس المعنى المصطلح فيه كما يأتي في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٦] بل المراد التقييد والتخصيص ، كما يقيد بقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] ، وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠].

وفي تفسير العسكري في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)

«أقيموا الصّلاة بتمام ركوعها وسجودها ، ومواقيتها ، وأداء حقوقها. وآتوا الزكاة من المال ، والجاه ، وقوة البدن».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك في أول سورة البقرة.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في وجوه الكفر في القرآن قال : «الرابع من الكفر : ترك ما أمر الله ، وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ـ الى قوله تعالى ـ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فكفّرهم بترك ما أمر الله ، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال عزوجل : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) ـ الآية ـ».

أقول : ترك ما أمر الله تعالى له مراتب : مجرد الترك مع الإعتقاد به واقعا ، والترك مع عدم الإعتقاد ، والترك مع الاستهزاء ، والأخيران يوجبان الكفر ، والأول موجب للفسق كما فصلنا ذلك في الفقه فراجع كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام].

بحث دلالي :

هذه الآيات المباركة وغيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم في قصص بني إسرائيل وأحوالهم كلها تشير إلى وحدتهم وترابطهم حتّى كأن الكلام عن الأبناء والآباء واحد فيهم ، وأن اللاحق نفس السابق في العمل ، فاعتبر القرآن أنّ جزاء الجميع واحد وإن كان العمل صادرا عن بعضهم ، وليس ذلك إلّا لأجل وجود الترابط الوثيق بين أفراد اليهود فلهم وحدتهم في الدين والنسب والاجتماع وغيرها حتّى ليعدّ الفرد اليهودي عنوانا مشيرا إلى أمته ، وله من الأخلاق والعادات ما لغيره من اليهود ، فقد اتفقت طباعهم واتحدت نفوسهم وقلّما تكون هذه الظاهرة الاجتماعية في الأمم والجماعات. فكان خطاب القرآن مع اليهود في عصر التنزيل كالخطاب مع اليهود في غير عصرهم.

ولعل السر في إصرار القرآن على استعمال هذا الأسلوب من الخطاب

هو اعتبار هذه الأمة من أحوال الماضين ، فإن الله تعالى لم يذكر لنا أحوالهم إلّا للاعتبار بها ، أو لأجل بيان أن سنة الله تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون متكافلة متعاونة يسعى كل فرد في إسعاد أمته ، ويعتبر سعادته بسعادتها ، وفي ذلك آيات وروايات كثيرة يأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

من أهم العهود والمواثيق الإنسانية مع الله تبارك وتعالى إرشاده إلى المعارف الإلهية التي فيها الكمال الإنساني ولم يتمكن البشر أن يبلغ ذلك إلّا بمرشدين من قبله تعالى وهم الرسل والأنبياء بما أنزل عليهم من الكتب والأحكام. وقد جرت سنته تبارك وتعالى أن يرسل الرسل بعضهم إثر بعض لئلا ينسى الإنسان ما عهد إليه ربه ولا يكون في حيرة وضلالة. ومما أنعم تعالى على بني إسرائيل أن أرسل إليهم عددا من الرسل لينبئوهم بما عهد إليهم ربهم ويجددوا المواثيق عليهم ، فلم يكن منهم إلّا الإصرار على الكفر والعصيان ذلك لأنهم اتبعوا الشهوات فقست قلوبهم ، فاستحقوا اللعن والعذاب الأليم بما كانوا يفعلون.

التفسير

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ). المراد من الكتاب هو التوراة الكتاب المقدس أول الكتب السماوية. والتقفية هي الارداف والمتابعة كلفظ تترى ، قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [سورة المؤمنون ، الآية : ٤٤] أي متتابعا. والمعنى : لقد أرسلنا موسى وأعطيناه التوراة ثم أتبعنا بعد موته رسلا على شريعته يجددون العهد يأمرون وينهون. وعن جمع إن عدد الرسل بين موسى وعيسى اربعة آلاف. وعن آخرين إنهم سبعين ألفا ، منهم من ذكرت أسماؤهم في القرآن مثل داود وسليمان. ويونس والياس واليسع وذي الكفل ويحيى. وزكريا (عليهم‌السلام). ومنهم من لم تذكر أسماؤهم منهم يوشع صاحب دعاء السمات المعروف عندنا. وقال أبو عبد الله (عليه‌السلام): «إذا دعوتم الله بالأنبياء المستعلنين فادعوه بالأنبياء المستخفين».

قوله تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ). البينات : الحجج القيّمة ، والبراهين الواضحة ، فتشمل الإنجيل وجميع معجزات عيسى (عليه‌السلام) وهي التي ذكرها الله تعالى في سورتي آل عمران والمائدة.

وعيسى بالسريانية أيشوع ـ بتقديم الهمزة ثم الياء والشين المعجمة ـ ومعناه السيد أو المبارك ، وهو من الأنبياء اولي العزم وصاحب الكتاب المقدس ، وشريعته ناسخة لكثير من شريعة موسى (عليه‌السلام) مصدق للتوراة ، ومبشر برسالة احمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [سورة الصف ، الآية : ٦] ولهذا خصه الله تعالى بالذكر في المقام بعد موسى (عليه‌السلام).

قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). التأييد : التقوية والإعانة. والقدس ـ بضم الدال أو سكونه ـ الطهارة والتطهير عن كل ما يوجب النقص ، ويأتي بمعنى الكمال الأتم ، وبهذا المعنى يكون من أسمائه الحسنى. فيقال

«يا قدوس». وروح القدس هو جبرائيل الذي ينزل على الأنبياء (عليهم‌السلام) ومنه يستمدون العلوم النازلة من الله تعالى على البشر ، فتطهر النفوس المستعدة عن أدناس الرذائل وتبلغ إلى ما أعدت لهم من درجات الفضائل. وتأييد عيسى (عليه‌السلام) بروح القدس كان من أول حمل امه به إلى أن رفع إلى السماء كما يأتي بعد ذلك. هذا ولكن يظهر من جملة من الأخبار أن روح القدس غير جبرائيل ، وهو مع الأنبياء والأوصياء (عليهم‌السلام) يستمدون منه وأما بالنسبة إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو بدء سلسلة النزول وختم سلسلة الصعود ، فمقتضى المستفيضة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «أول ما خلق الله روحي [أو نوري]» أن يكون جبرئيل يخدمه لا أن يكون مؤيّدا بجبرئيل ، وفي المقام تفصيل نتعرض له في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ).

الهوى : الميل إلى الشيء ، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه الى النار إذ يستعمل غالبا في الشر وفيما ليس بحق. والمعنى : أنكم تتبعون أهواءكم حتّى في اتباع رسل الله ، فمن كان منهم موافقا لهواكم تتبعونه ، وتخالفون من لا يكون كذلك.

قوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ). أي أنكم كذبتم فريقا من الرسل ، كعيسى (عليه‌السلام) ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتقتلون فريقا آخر منهم كيحيى وزكريا (عليهما‌السلام) وغيرهما. ومن إيراد الفعل بالمضارع يستفاد استمرارهم على هذا الفعل الشنيع فصار العناد والجحود سجية لهم.

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ). الغلف ـ بسكون اللام ـ جمع الأغلف ـ وبضمه ـ جمع غلاف ـ كحمر وحمار ـ بمعنى الغطاء. ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في موردين : أحدهما هنا ، والآخر في قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) [سورة النساء ، الآية : ١٥٥] وكلاهما ورد في شأن اليهود وفي مقام ذمهم والطعن فيهم والمراد به على التقديرين أنهم قالوا قلوبنا مملوءة من علم التوراة فلا نحتاج

إلى شريعة جديدة ، أو أن قلوبنا في حجاب وغلاف لا نفهم ما جاء به الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، كما قال تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [سورة فصلت ، الآية : ٥] استخفافا بما أنزله الله تعالى وغرورا بما عندهم. والمعنيان متلازمان كما لا يخفى ، وهذا القول ـ كسائر أقوالهم وأفعالهم القبيحة ـ من مظاهر استكبارهم. ولا يختص ذلك باليهود بل يصدر من كل من يزعم كمالا لنفسه ـ وهو فاقد له ـ فيغتر بما عنده ، وقد ردّ الله عليهم ، وأبطل مزاعمهم.

قوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ). اللعن : الطرد والمعنى إن سبب نفورهم عن الإيمان ليس ما قالوه بل هو كفرهم وعنادهم كما جبلت عليه نفوسهم مما أوجب طردهم وبعدهم عن كل خير ، ومنه الإسلام.

قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ). قليلا صفة للمصدر أي : إيمانا قليلا ، والتنوين فيه للتنكير ، و «ما» نكرة تفيد تأكيد الإبهام أو زيادته أي : يؤمنون ايمانا قليلا يكون بحكم العدم من حيث الكمية والكيفية. ويستفاد منه أنه لما كان سبب لعنهم وطردهم عن رحمته تعالى هو كفرهم ولجاجهم وعنادهم المنطبعة عليه نفوسهم فهم قوم قد كتب عليهم الشقاء فلا يرجى منهم خير ، ولا يؤمل منهم ايمان إلّا إذا أدركته بركة التوفيق منه عزوجل فيفيء الى فطرته ، فيؤمن ، وإن كان ذلك قليلا جدا.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). بيّن سبحانه وتعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاق بني إسرائيل ، وهي من مظاهر استكبارهم وبغيهم ، أي لما جاءهم القرآن بما فيه من الدلائل على أنه من عند الله تعالى مصدق لما معهم من التوراة المشتملة على التوحيد والمعارف الإلهية ، المبشرة بالقرآن ورسالة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا). الاستفتاح الإستنصار ، ومنه الحديث كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «يستفتح بصعاليك المهاجرين» أي يستنصر بهم كما ورد في حديث آخر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : «إنما نصر الله هذه الأمة

بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» والمعنى : يستنصرون بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وشريعته على المشركين ، ويأملون لأن يستظهروا به على من سواهم من المشركين.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). أي : فلما جاءهم ما كانوا قد عرفوه من أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ورسالته وقرآنه جحدوا به ، حسدا منهم واستكبارا ، فكان جزاؤهم أن كتب الله عليهم اللعن والطرد من رحمته. وكفرهم هذا من كفر الجحود ـ ككفر إبليس ـ الذي هو من أشد أنواع الكفر. ولا يختص حكم هذه الآية المباركة باليهود بل يشمل كل من أنعم الله عليه ثم أنكرها ولو بعدم أداء شكرها ، ويأتي في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [سورة النحل ، الآية : ٨٣] ما ينفع المقام. وفي تكرار قوله تعالى : (لَمَّا جاءَهُمْ) تأكيد للذنب وتهويل له.

قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ). بئس كلمة تستعمل في جميع أنحاء الذم ، كما أن نعم كلمة تستعمل في جميع أنحاء المدح. و «ما» نكرة مبهمة بمعنى مطلق الشيء أي بئس شيء اشتروا ، ويجوز أن تكون موصولة أي بئس الذي اشتروا به. والشراء والاشتراء بمعنى واحد ، ويستعمل كل منهما في البيع والشراء ، ويأتي بمعنى مطلق المبادلة. أي : بئس ما فعلوه من تبديل النفس التي من حقها أن تقابل بالإيمان ، والمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ، والأعمال الصالحة لتكون لها السعادة في الدارين ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] ولكنهم بدلوها باختيارهم بأخس الأمور وذمائم الأخلاق والكفر بما أنزل الله تعالى حسدا منهم واستكبارا ، فجلبوا لأنفسهم شقاوة الدارين ، وهذا حال من أعرض عن الله تعالى. وفي الآية المباركة تسفيه لأحلامهم ، وتوبيخ لهم.

قوله تعالى : (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). البغي هنا هو الفساد. ويتضمن معنى التجاوز عن الحد والطلب ،

ويختلف باختلاف المتعلق. ويستعمل في الخير والشر. وفي مورد الإطلاق ينصرف إلى الشر ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٨] ، وقال جلّ شأنه : (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة الشورى ، الآية : ٤٢] ومن مفهومه يستفاد البغي بالحق ، وفي الحديث : «إن الله يحب بغاة العلم» أي طلاب العلم ورواده. وفي الحديث أيضا : «أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم».

وجملة (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) في موضع نصب بيان للبغي أي : أن سبب كفرهم إنما هو البغي الذي جبلت عليه نفوسهم ، وكانت له أسباب متعددة منها كراهة أن ينزل الله تعالى من فضله على من يشاء من عباده ، وقد حملهم الحسد على أن يحتفظوا لأنفسهم الحركة الدينية ، والقول بأنهم شعب الله المختار بأن لا يعترفوا بنبي في غير ملتهم وحسدهم هذا وكفرهم نظير كفر إبليس بالله تعالى ، وحسده على آدم (عليه‌السلام) فهو الذي شيد أساس الكفر والجحود ، وتبعه اليهود فالحقيقة واحدة والمظاهر مختلفة.

قوله تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ). تقدم ما يتعلق به. والمراد انهم رجعوا إلى غضب على غضب بتكرار المعاصي منهم وان كل سوء اعتقادي يصدر من الإنسان ثم يصدر منه سوء آخر كذلك فهو من الغضب على الغضب ، فلا وجه لجعل الغضب الأول هو الذي استوجبوه بالكفر بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والغضب الثاني هو الذي لحقهم من عبادة العجل ، أو غضب الله عليهم من أجل الكفر مع المعرفة وغضبه الآخر من أجل حسدهم وعنادهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرها المفسرون ، بل يشمل جميع المخالفات الإلهية المتكررة التي توجب الغضب المستمر عليهم ، ولذلك مصاديق مختلفة فإن كل من يختار دينا باطلا ثم يتركه ويدخل في دين باطل آخر ، أو من يرتكب مخرما تكليفيا ثم يعقبه بمحرم تكليفي آخر يختلف مع الأول في النوع ، أو يرتكب محرما تكليفيا آخر متفق مع الأول في النوع من الكبائر ، أو كان من الصغائر من دون أن يتخلل بين ارتكاب المحرمات تكفير وتوبة ، فجميع هذه الصور تكون داخلة في هذه الآية

المباركة ، وإن الفاعل يستوجب غضبا على غضب على حسب مراتب الذنب كبيرة أو صغيرة.

قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ). الهوان بمعنى الذلة وهو إما ممدوح عند الخالق والمخلوق ، وذلك في ما إذا طرح الإنسان عن نفسه جميع أنحاء الأنانية والتكبر كما قال تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٣] وهو من الخلق الكريم ، والروايات في مدحه متواترة ، ويكفي في حسنه سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفائه المعصومين (عليهم‌السلام) وقد روى الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «المؤمن هيّن ليّن».

وإما مذموم وهو ما إذا حصل عن استخفاف الغير للإنسان واستذلاله له في غير ما اذن فيه الشرع ، ولا ريب في أنه مرجوح بل حرام ، وأما إذا كان بإذن منه ففيه تفصيلات مذكورة في الفقه.

والمراد به في المقام ذلك الذل والإهانة الحاصلان للإنسان من ارتكابه المعاصي والمحرمات الإلهية ، والكفر الموجب لخلوده في النار. وفي جعل الظاهر موضع المضمر ـ فلم يقل : ولهم عذاب مهين ـ إشارة إلى بيان التعليل في خلودهم في النار وهو الكفر.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا). ذكر سبحانه وتعالى مظهرا آخر من مظاهر استكبارهم وغرورهم ، وقد سبق أن قالوا : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) لم نفهم الإيمان ، ولا نعقل ما يدعو إليه الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهنا ذكر تعالى اعتذارا آخر منهم والرد عليهم. أي : إذا قيل لليهود آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالوا بغيا واستكبارا : نؤمن بالذي أنزل علينا من التوراة ولا نؤمن بغيرها ، وفي قوله تعالى : (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) إشارة إلى أن المناط هو الإيمان بالذي أنزله الله تعالى سواء كان على موسى (عليه‌السلام) أو محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّ الأنبياء إنما هم مبلغون عن الله تعالى. وفيه رد لمزاعم اليهود وغيرهم من أن الإيمان لا بد وأن يكون بالذي أنزل على نبي

معين ، كما أن فيه إيماء إلى أن الإيمان بجميع الرسل والأنبياء أخذ بنحو الوحدة فمن لم يؤمن بواحد منهم فكأنه لم يؤمن بالجميع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٦].

قوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ). مادة (وري) تأتي بمعنى الستر في الجملة سواء دلت عليه بالمطابقة كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [سورة ص ، الآية : ٣٢] ، وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٦] ، أو بالالتزام كما في المقام ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم منها الخلف والأمام وغيرهما. والجامع القريب بين تلك الاستعمالات ما ذكرناه.

فما عن بعض اللغويين من أنها من الأضداد تستعمل في الخلف والأمام خلط بين المفهوم والمصداق ، وكم لهم من هذا النحو من الاخلاط في اللغة كما لا يخفى.

والمعنى : إنهم يكفرون بما عدا ما أنزل عليهم من القرآن وهو الحق الذي لا ريب فيه جاء مصدقا لما معهم. وفيه من الإشارة إلى سفاهتهم وخبطهم في دعواهم ما لا يخفى ، فإنهم لو كانوا مؤمنين بما أنزل عليهم لاستلزم الإيمان بالقرآن ، لأن التوراة تشتمل على البشارة بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما أنزل عليه ، وأن القرآن مصدق للتوراة في كثير من الأحكام ، وأنّهم إذا كانوا مؤمنين كذلك فلما ذا يقتلون أنبياء الله تعالى؟! مع أن التوراة تعظّم شأنهم ، وتنهى عن مطلق القتل فضلا عن قتل الأنبياء ، فإيمانهم بما أنزل عليهم والكفر بما سواه إن هو إلّا تناقض في القول والاعتقاد واتباع الشهوات.

قوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ

مُؤْمِنِينَ). إلزام لهم بالحجة أي : انكم تتبعون الشهوات والأهواء ، لأنه إذا كنتم صادقين في إيمانكم بما أنزل على الأنبياء فلما ذا تقتلونهم ، فإنهم لم يدعوكم إلّا إلى الإيمان والعمل الصالح ، ونهوكم عن القتل مطلقا.

وفي إسناد القتل الى اليهود في عصر التنزيل ، مع أنه وقع من أسلافهم ما تقدم كرارا من أنّهم أمة واحدة ، وأنهم في الطباع والعادات والأخلاق كنفس واحدة فاقتضى صحة خطاب الأبناء بما فعل الآباء.

بحث روائي :

في «الكافي» عن الصادي (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) قال : «كان قوم في ما بين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعيسى (عليه‌السلام) ، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام ، بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويقولون : ليخرجنّ نبيّ وليكسرنّ أصنامكم ليفعلنّ بكم ما يفعلنّ ، فلما خرج رسول الله كفروا به».

أقول : يمكن أن يجمع بين هذه الرواية والروايات الآتية الظاهرة في اليهود إما بتقييد هذه الرواية بها ، أو أنهم قوم آخرون غير اليهود.

وعن القمي : «كانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أيها العرب هذا أوان نبي يخرج من مكة وكانت مهاجرته بالمدينة ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات ، ويركب الحمار العريّ ، وهو الضحوك ، القتّال يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر ، لنقتلنكم به يا معشر العرب قتل عاد. فلما بعث الله نبيه بهذه الصّفة حسدوه وكفروا به ، كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية».

أقول : يمكن أن اليهود قد استظهروا صفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحالاته من التوراة.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ ...) الآية قال (عليه‌السلام) : «كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع ؛ فمرّوا بجبل يقال له : حداد ، فقالوا : حداد وأحد سواء ، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء ، وبعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر. فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم ، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم : أمر بكم ما بين عير وأحد ، فقالوا له : إذا مررت بهما فآذنّا لهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة ، قال : ذلك عير وهذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له : قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت.

وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر : انا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا ، فكتبوا إليهم : إنا قد استقرت بنا الدار ، واتخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم ، واتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ تبّع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه ، فقال لهم : إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلّا مقيما فيكم ؛ فقالوا : ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي ، وليس ذلك لأحد حتّى يكون ذلك ، فقال لهم : فإنّي مخلّف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده. فخلف حيين تراهم : الأوس والخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم : أما لو بعث محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا ، فلما بعث الله محمدا آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) وقريب منه ما في الدر المنثور عن ابن عباس.

أقول : «عير وأحد» : جبلان بالمدينة كما ورد في أخبار التقصير في الصّلاة أيضا ، وفي الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «حرّم ما بين عير واحد».

ونقل الواحدي عن ابن عباس : «كان يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر ، فعادت اليهود بهذا الدعاء ، وقالت : اللهم إنّا نسألك

بحق النبي الأمي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم ، قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء ، فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كفروا به فأنزل الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بك يا محمد ـ الى قوله تعالى ـ فلعنة الله على الكافرين».

وفي الدر المنثور عن ابن عباس أنه قال : «كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يستفتحون الله يدعون الله على الذين كفروا ، ويقولون : اللهم إنّا نستنصرك بحق النبي إلّا نصرتنا عليهم ، فينصرون ، فلما جاءهم ما عرفوا : يريد محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يشكوا فيه كفروا به» وقريب من ذلك روايات أخرى.

أقول : عن بعض المفسرين الإشكال في هذه الروايات الأخيرة أولا : بقصور السند. وثانيا : بوهن الدلالة ، لأنه لا وجه لإقسام الله تعالى مع أنه لا حق في البين حتّى يقسم به ، لأنّ الكل مخلوقه ومملوكه تعالى.

ولكنه غير صحيح أما الأخبار فلأنها مستفيضة بين الفريقين ، بل متواترة معنى كما لا يخفى على الفاحص المتتبع ، فلا موضوع لتضعيف السند. وأما إقسام الله تعالى فإقسام العظيم بما هو شريف ومحترم لديه تعالى ، والقسم بالعزيز من العرف المحاوري بين جميع أفراد الإنسان وعليه جرت محاورة الكتاب والسنة ، قال تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٧٢] ، وقال تعالى عن إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٢] ، وفي الحديث إن الله تعالى قال : (وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل أمل غيري).

وأما أنه لا حق في البين حتّى يقسم الله تعالى به فلا وجه له ، لأن الحق هو الثابت الواقع المتحقق فالله عزوجل هو الحق المحض وجميع ما سواه حق له ، لأنه مالك كل شيء وخالقه واليه مرجع الجميع ، وأي معنى للحقّية يتصور أشد وأعلى من ذلك؟! وهو تعالى جعل لبعض عباده حقا على نفسه الأقدس تشريفا وتعظيما لهم ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)

[سورة الروم ، الآية : ٤٧] ، وفي الحديث : «حقّ على الله تعالى أن لا يعصى في مكان إلّا وأظهرها للشمس ليطّهرها» والأحاديث في موضوع جعل الله تعالى حقا لخلقه على نفسه خصوصا عباده المخلصين كثيرة جدا ، وخاتم النبيين من أفضلهم ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال : وإنما نزل هذا في قوم اليهود ، وكانوا على عهد محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يقتلوا أنبياء الله بأيديهم ، ولا كانوا في زمانهم ، وإنما قتل أولياؤهم الذين كانوا من قبلهم ، فنزّلوا بهم أولئك القتلة فجعلهم الله منهم وأضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم وتولوهم».

أقول : تقدم وجه ذلك في البحوث السابقة فلا وجه للتكرار ،

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

تبين هذه الآيات المباركة أخذ الميثاق والتشديد فيه ثم كفرهم وارتدادهم ، ورد لأمانيّهم الباطلة من أنهم أبناء الله تعالى وأن الدار الآخرة لهم دون غيرهم ، والذم بأنهم أحرص النّاس على الحياة الدنيا.

التفسير

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ). البينات جمع بيّنة ، وهي الدليل الواضح. والمراد بها الدلائل الواضحة والبراهين الظاهرة ، وهي إما

عقلية ، أو حسية ، أو هما معا ، وبينات موسى (عليه‌السلام) هي التوراة ، وما ذكره تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [سورة الإسراء ، الآية : ١٠١] ، وهي العصا ، والسنون ، واليد ، والحجر ، والدم ، والطوفان ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر وسيأتي التفصيل في سورة الإسراء. وهي آيات باهرات تدل على وحدانيته تعالى فلا مجال للشك والريب بعد مجيئها.

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ). أي أنكم بعد أن وضح لكم الحق وظهر صدق موسى (عليه‌السلام) في ما يدعيه من توحيد الله تعالى ، وأنه هو المعبود المطلق عدلتم إلى عبادة العجل واتخذتموه إلها لكم وأنتم ظالمون ، وأي ظلم أعظم من الشرك بالله تعالى ، والارتداد عن دينه ، وفيه من التوبيخ والتقريع العظيم لهم ويستفاد من هذه الآية المباركة أن الظلم الواقع منهم إنما كان بعد الإمهال لهم بالنظر في تلك الآيات البينات ، وإتمام الحجة ، وحينئذ يكون ظلمهم أعظم.

قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا). تقدم شرح مثله في الآية المباركة ـ ٦٣ من هذه السورة إلّا أن في الآية السابقة ذكر سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) وهنا أمرهم بالفهم ، والمعنيان متقاربان ، فإن المراد من الذكر هو المذاكرة والحفظ كما أن المراد من السمع هو الفهم والعمل بالمسموع لا خصوص الدرك الظاهري من دون ترتيب الأثر عليه ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢١] فإن السماع الحقيقي الذي يترتب عليه نظام الإفادة والاستفادة ، والتعليم والتعلم ، بل جميع الكمالات إنما هو العمل بالمدرك إن كان حقا لا نفس الإدراك من حيث هو ، إذ ليس فيه كمال حتّى يذكر ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٥] وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [سورة الزمر ، الآية : ١٨] وغير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة. ولعل ذكر السمع هنا لصحة إردافه بقوله تعالى : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وإلّا فالسمع والذكر في الحقيقة واحد كما عرفت.

قوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا). التفات من الحاضر إلى الغيبة وهذا كقوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٥] إلّا أن المقام يدل على سرعة النقض. أي : أنهم قبلوا الميثاق ولكنهم خالفوه ولم يعملوا به ، والظاهر أن ذلك كناية عن بيان حالهم وسرعة عصيانهم. وقيل : إنه من ظاهر مقالهم. وعلى أي تقدير ففيه توبيخ ، ورد لمزاعمهم حيث قالوا (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [سورة البقرة ، الآية : ٩١] ، وهذا أيضا من فضائحهم ، إذ كيف يقبلون أمرا يعلمون أن فيه سعادتهم ، ثم يبادرون إلى إنكاره وعصيانه.

قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). الإشراب المخالطة والامتزاج ، وهو كناية عن انهماكهم في حب العجل حتّى كأنه خالط قلوبهم كما يخالط الصبغ الثوب ، أو كما يدخل المشروب في بدن الإنسان أي أنهم بسبب كفرهم قد انهمكوا في حب العجل ، وذلك لأن كثرة ملازمة الشيء ومحبته توجب صيرورة القلب والإرادة مظهرا من مظاهره ، وقد اشتهر : «أنّ حب الشيء يعمي ويصم» ، وفي الحديث : «يحشر النّاس على نياتهم يوم القيامة» وفيه أيضا : «من أحب شيئا حشره الله معه» وإشراب القلوب لما هو المحبوب وجداني لكل ذي قلب خولط قلبه بغير ذكر الله تعالى.

ويرجع حب بني إسرائيل للعجل إلى ما كانوا عليه من الوثنية في مصر ، فانه كان لهذا الحيوان منزلة عظيمة عند المصريين ، وسيأتي في سورة الأعراف تفصيل القصّة.

قوله تعالى : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). توبيخ وتقريع عظيم لهم أي بئس الإيمان إيمانكم الذي يأمركم بعبادة الأوثان ، ونقض العهود ، وقتل الأنبياء ، فأعمالكم التي هي أثر الإيمان تدل على نفي الإيمان الذي أمركم الله تعالى فإنّه يأمركم بتوحيده تعالى ونبذ الأوثان ، وطاعة الأنبياء ، واحترام العهود. وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) للتنزيل والمجاراة مع المخاطبين ، وإلّا فلا إيمان لهم حقيقة وهذا الحكم لا يختص باليهود ، بل يشمل كل أمة أمرهم الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح فخالفوا الله تعالى

واتبعوا أهواءهم ، فيقال للمسلمين العاملين على غير طريقة القرآن. إنكم آمنتم بالقرآن فبئسما يأمركم به إيمانكم أنكم آمنتم بأهوائكم فلستم بمؤمنين إذ لا بد أن يظهر أثر إيمانكم بالقرآن في أعمالكم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ). الزام لهم بالحجة ، فإنهم ادعوا دعاوى باطلة كما حكاها الله تعالى في القرآن الكريم كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٨٠] ، وقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ، وأنهم شعب الله المختار وادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم ، فرد الله تعالى عليهم وأكذبهم ، فقال تعالى : قل لهم إن كانت دعاويكم صادقة وأن الدار الآخرة مع ما فيها من الثواب والنعيم مختصة بكم فتمنوا الموت ، لأنه يوصلكم إلى ذلك النعيم ، فإن من علم أنه من أهل النعيم كان الموت أحب اليه من الحياة في الدنيا التي لم تبرح عن الشقاء والأذى ، ولم يعقل من الإنسان أن يؤثر الشقاوة على السعادة ، مع أنهم يفرون من الموت ويحبون الحياة ، وهذا من التناقض بين القول والفعل الذي لا ينبغي صدوره من العاقل. فإن معيار حب الآخرة حبا صادقا حقيقيا هو التحرز عن جميع العلائق والانقطاع الى رب الخلائق ، كما قال ذلك علي (عليه‌السلام) في خطبه المباركة لا سيما الخطبة المعروفة في وصف المتقين وقد نسب إليه (عليه‌السلام) أنه قال : «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» وكذلك يكون الذين أماتوا شهواتهم في الدنيا الفانية فأحبوا الحياة الأبدية في الدار الآخرة.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). أي إن كنتم صادقين في دعاويكم ، وفيه إيماء إلى كذب دعواهم.

قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). كناية عن مطلق العمل السيئ سواء كان بالجوارح أو الكفر والضلال. وهذا الاستعمال شايع في المحاورات. أي : إنهم يعرفون مصيرهم بما قدموه من سيئات الأعمال ، وما اجترحوه من موبقات الخطايا والضلال ، فلن يتمنوا الموت

أبدا. ويظهر من ذلك فساد حالهم وبطلان مقالهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). أي إنّ الله يعلم أنهم ظالمون لا تخفى عليه أعمالهم ونواياهم لو جحدوا ذلك ، وفيه من التهديد والتوعيد ما لا يخفى.

ثم إنّ التمني على أقسام : فتارة : يكون وهميا خياليا لا حقيقة له بوجه من الوجوه ، وهذا ضرب من الكذب ، ومن علامات الحمقى كما في الحديث. وأخرى : يكون تمنيا حقيقيا مقرونا بتهيئة الأسباب فإما أن يصل إلى الغاية ، أو لا يصل إليها لخروجها عن تحت اختياره فإن الله تعالى على كل شيء محيط ، وفي الحديث «العبد يدبّر والله يقدّر» وثالثة : ما يكون متعلقا بعالم الآخرة ونعيمها مع تهيئة الأسباب وتقديم الأعمال ، وهذا هو التمني المطلوب عقلا وشرعا ، وهو من مقاصد القرآن وسائر الكتب الإلهية ، فإنه من الإسراع في الوصول إلى المشتاق بل هو الغرض الأفضل على الإطلاق ، والتخلص من دار النوائب والمكاره والوصول إلى دار السعادة والراحة. ورابعة : التمني لدار الآخرة مع عدم تهيئة النفس وعدم تقديم الأعمال ، وهذا القسم مذموم عقلا وشرعا بل باطل عند كل ذي شعور له قوة التمييز بين الصحيح والسقيم. وتمني اليهود من هذا القسم ، ولذا أنكره تعالى عليهم.

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ). الحرص شدة طلب الشيء والإفراط فيه ، بيّن سبحانه وتعالى حقيقة حالهم فإنه بعد أن ذكر أنهم لن يتمنوا الموت أبدا قال سبحانه : إنهم يحبون الحياة ويؤثرون البقاء ولهم في ذلك حرص شديد ليس لهم في النّاس من نظير ، وهذا واضح لمن انغمر في الماديات وسلبت قواه وغرّته الحياة الدنيا وزبرجها فاتخذ إلهه هواه فلم يؤمن بما وراءها شيئا ، وهم الذين حكى الله تعالى عنهم في قوله : (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٨٦]. وتنكير الحياة للتحقير أي : يحبون البقاء في الحياة ولو كانت حياة بؤس وشقاء ، أو كانت قليلة ، لأنه يعلم بأنه يرد إلى أشد العذاب.

قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا). أي إنّهم أحرص النّاس على الحياة حتّى من المشركين الذين ينكرون المعاد والحياة بعد الموت سواء كانوا من مشركي العرب أو غيرهم.

وإنما خصهم بالذكر لأنّهم لا يعرفون غير الحياة الدنيا ، ولا علم لهم بالبعث والحساب كما حكى الله تعالى عن قولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٣٧].

فما عن بعض المفسرين من أن المراد بها المشركون الذين جرت عادتهم على الدعاء للعاطس بقولهم : «عش الف سنة» إنما يكون من باب التطبيق لا التخصيص.

قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ). مادة (ود د) تستعمل بمعنى المحبة ، وتطلق على الله تعالى حينئذ قال عزوجل : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [سورة البروج ، الآية : ١٤] ، وتستعمل بمعنى التمني وهو كثير في القرآن الكريم ومنه المقام.

ومادة (ع م ر) ـ بسكون الميم أو ضمها. أو فتح العين وسكون الميم ، وإن كان هذا الأخير يختص بالقسم قال تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٧٢]. مأخوذة من العمارة أي عمارة البدن في الحياة الدنيا ، أو عمارة الدنيا للكون فيها ، أو عمارة الآخرة للارتحال إليها ، أو عمارة الجميع وهي أفضلها. أي : يتمنى كل واحد منهم أن يعمّر في الحياة الدنيا ألف سنة أو أكثر ، لأنه يعلم أن البقاء في الدنيا مع الآلام والمشاق خير له من الآخرة فإن فيها العذاب. ولكنه لا يعقل أن هذه المدة القليلة المحدودة لا تنفعه ولا تدفع عنه العذاب ، إذ لا بد من الإيمان والعمل الصالح.

وإنما عبّر تعالى بألف سنة إما لأجل أنه مثال لكثرة العمر كما أن لفظ سبعين كان مثالا للكثرة في العشرات مثل قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٨٠] ، أو لأجل أنه نوع تقبيح لهم في مبالغاتهم ومقترحاتهم

الدائرة بينهم ، أو لأن الألف آخر أسماء مراتب الأعداد.

والسنة : مأخوذة من سنه كما عن بعض ، وعن آخرين أنها مأخوذة من سنو بالواو بقرينة سنوات ، والظاهر أن هذا خلط بين هاء السكت ومادة أصل الكلمة كما يظهر للمتأمل في استعمالات هذا اللفظ ، فلا فرق بين الاستعمالين.

قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ). الزحزحة : الإزالة عن المقر ، والتنحية عنه ، وفي الحديث : «من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا». أي : ليس طول العمر من حيث هو موجبا للخروج عن العذاب بل المناط كله إنما هو العمل الصالح واكتساب الحسنات وترك السيئات.

وإنما كرر تعالى كلمة «أن يعمر» ولم يأت بالضمير لبيان أن مقصوده الأهم وقوع طول العمر خارجا ، لا مجرد تمني ذلك ولو أتى بالضمير لم يكن ظاهرا فيه.

قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). المراد بالبصر عند الإطلاق عليه عزوجل العلم ، وإنما خصه بالذكر ، لبيان كمال الإحاطة بالدقائق التي لا تدرك إلّا بالبصر. وفيه تهديد عجيب وتوعيد غريب لمن هو غافل عن السعادة الأبدية ، ولا يتحفظ على عمره ولا يصرفه إلّا في ما لا يرتضيه تعالى ، فإن الإنسان إنما خلق في الدنيا لكي يعيش فيها برهة من الزمن ثم يغادرها إلى دار أخرى هي مقر له فيحصد ما عمله مدة حياته في الدنيا ، فإما أن تكون الدار الآخرة هي دار الراحة والسكون والسعادة ، أو تكون دار الشقاء والعذاب ، فما يحصله الإنسان من خلقه إنما يكون في عمره ، فلا بد وأن يبذله في تحصيل السعادة الأبدية ولا يصرف هذه الجوهرة الثمينة في ما لا فائدة فيه ، أو تكون الفائدة منحصرة بالدنيا الفانية. ونعم ما نسب إلى علي (عليه‌السلام): «بقية عمر المؤمن لا قيمة لها ، يدرك بها ما فات ويحيي بها ما أمات» فيكون محبته للحياة لأجل أن يدفع عن نفسه موجبات الشقاوة ويكتسب فيها أسباب السعادة

الأبدية ، وكراهته للموت لأنه يوجب فراق الأحباب والانقطاع عن الأصحاب. وفراق الأليف مما لا يرتضيه بالطبع كل وضيع وشريف ، ولذا ورد كراهة تمني الموت ولا بأس بأن يقول : «اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وأمتني إذا كان الممات خيرا» كما ذكر في الحديث ، وفي غير هاتين الصورتين حب الحياة إن رجع إلى حب الدنيا فيكون مذموما ومن الأمراض المهلكة ، ولا بد من علاجها ، وسيأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن القمي في قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) : «أي أحبوه حتّى عبدوه».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

وعن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى أيضا قال : «فعمد موسى (عليه‌السلام) فبرد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فذره في اليم. قال : فكان أحدهم ليقع في الماء وما به إليه من حاجة فيتعرض بذلك الرماد فيشربه ، وهو قول الله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)».

أقول : رواه الفريقان ، ولو فرض صحة سنده يكون المراد إن الشرب الظاهري بيان وكاشف عن حبهم للعجل ؛ فتتم الحجة عليهم بذلك.

وعن القمي أيضا في قوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن في التوراة مكتوب إن أولياء الله يتمنون الموت ولا يرهبونه».

أقول تقدم مثل ذلك عن علي (عليه‌السلام).

بحث أدبي :

عن جمع من الأدباء ـ وتبعهم بعض المفسرين ـ أنّ كلمة (لو) تستعمل في معان : الأول : للسببية بين الشرط والجزاء.

الثاني : لامتناع الجواب بدون الشرط.

الثالث : التعليق في المستقبل كقوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) [سورة النساء ، الآية : ٩].

الرابع : أن تكون مصدرية بمنزلة (إن) المصدرية. وأكثر وقوعها كذلك بعد (ود ، ويود) ويفترقان في أن مدخول (لو) بعيد الحصول أو ممتنع إما في نفسه أو بحسب العادة أو إبرازه بصورة البعيد أو الممتنع بخلاف (إن) كقوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٦] ، وقوله تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ)

(يُضِلُّونَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٨] ، وقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢] وفي غير ذلك تأتي أن المشددة المفتوحة ، أو إن الساكنة المصدرية مكانها.

الخامس : للعرض كقولهم : «لو تنزل عندنا فتصيب منا خيرا».

السادس : للتقليل كقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اتقوا النّار ولو بشق تمرة».

السابع : التمني كقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٨] ، وقولهم «لو تأتيني فتحدثني» والفرق بينها وبين (لو) المصدرية التي لم يكن فيها معنى التمني أنّ ما بعد الفاء بعد لو التي للتمني يكون منصوبا بخلاف ما بعد لو المصدرية.

ويستفاد من ذلك أنها من المشترك اللفظي ، ولهم في ذلك نظائر كثيرة ، والحق أنّ ذلك من خلط المستعمل فيه بدواعي الاستعمال ، فإن شأن أداة الشرط مطلقا إنما هو جعل متلوّها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وأما الخصوصيات فإنما تستفاد من جهات أخرى. وقد حصل هذا الخلط من الخليل في كتاب العين ومن غيره ، فتعدد دواعي الاستعمال معلوم وتعدد الوضع والمستعمل فيه مشكوك فيرجع فيه إلى الأصل.

إن قيل : إن هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليها (يقال) تعدد

الدواعي وجداني عند المستعملين وتعدد الوضع والمستعمل فيه يحتاج إلى دليل وهو مفقود بل الأصل ينفيه.

إن قيل : إن باب المجاز واسع وكلما زيد في الكلام مجازاته واستعاراته يزاد في حسنه (يقال) : إن رجع ذلك إلى ما قلناه فهو حسن ، وإن رجع إلى ما اشتهر بينهم من ملاحظة ما اعتبروه في المحاورات والاستعارات فالأصل والوجدان ينفيان ذلك كله ، وقد فصلنا القول في علم الأصول فراجع هناك.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

تبين هذه الآيات المباركة جملة أخرى من المساوئ الاعتقادية والأخلاقية لهم كعداوتهم للملائكة والرسل بلا سبب معقول لذلك بل بمجرد الأوهام الفاسدة ثم بيان عنايته تبارك وتعالى للنّاس ، وأنه لا يكون عدوا إلّا للكافرين الذين يستحقون تلك العداوة باختيارهم.

التفسير

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ). العدو ضد الصديق. وجبرئيل اسم أعجمي ليس من الألفاظ العربية ، ولذا كثرت فيه اللغات ـ كما في غيره من الألفاظ غير العربية التي تكثر فيها اللهجات ـ حتّى أنهاها بعضهم إلى ثلاث عشرة لغة.

بيّن سبحانه وتعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاقهم فقد افتروا على

أمين وحي الله عزوجل بأنه ملك ينزل الحرب والدمار ، والشدة والفناء ، وأنه أنذر بخراب بيت المقدس ، وأنه يفعل من عند نفسه بخلاف غيره من الملائكة. فرد سبحانه وتعالى عليهم بأنّ هذا الملك وغيره من الملائكة مسخرون تحت إرادة الله تعالى المهيمن على الجميع الفعّال لما يشاء فلا يفعلون إلّا ما ارتضاه الله تعالى ، ولا يقضون إلّا ما أحبه عزوجل ، قال تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [سورة التحريم ، الآية : ٦]. وإذا كانت أفعال جبريل مستندة إليه عزوجل فيلزم أن تكون عداوتهم له عداوة الله تعالى ويرشد إلى ذلك ذيل الآية المباركة «بإذن الله» أي إنّ كل ما ينزله جبريل على رسول الله وسائر الأنبياء إنما يكون بإذن من الله تعالى لا من عند نفسه.

قوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ). التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وهو من أحسن بدايع الفصاحة. والضمير في «نزله» يرجع إلى القرآن المستفاد من قرائن الحال وذلك يدل على رفيع شأنه فكأنه لشهرته لم يذكره في المقال وفيه من الإيماء إلى شرف جبريل (عليه‌السلام) وذم أعدائه. والمراد من «إذن الله» علمه وإرادته ، وإنما ذكر سبحانه القلب لأنه موضع تلقي العلم والمعارف والكمالات. وخص قلب نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأنه خاتم الأنبياء وأشرفهم ، بل غاية أصل الخليقة وسيدها والإشارة إلى أن ما نزل على الأنبياء السابقين كموسى وعيسى (عليهما‌السلام) من أشعة ما نزل على قلبه ولمعات من هذا النور العظيم ، فكما أن ذاته الأقدس غاية الخلق يكون كتابه المقدس غاية الكتب المقدسة السماوية. والغاية مقدمة في العلم وإن تأخرت في الوجود كما ثبت في الفلسفة.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). أي : إن القرآن الذي أنزله جبريل على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مصدق لما تقدم من الكتب الإلهية وهدى وبشرى للمؤمنين ، وتقدم شرح ذلك في أول هذه السورة. ونزيد هنا أن الهداية والبشارة متلازمتان في جميع أطوار وجودهما ومراتب ظهورهما في الدنيا والآخرة والعمل. وسياق الآية المباركة يدل على أن لها شأنا

وسببا لنزولها ، وسيأتي في البحث الروائي الكلام عنه.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ). مادة (ع د و) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد المعين في الشيء ، وللتجاوز موارد كثيرة ، فإذا كان التجاوز في الميل القلبي يطلق عليه العداوة والمعاداة ، وفي الاقتصار في المشي يطلق عليه العدو ، وفي المرض يطلق عليه العدوى وفي المعاملات والمجاملات يطلق عليه العدوان والتعدي والاعتداء ، إلى غير ذلك من موارد استعمالاته في المحاورات. وقد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بجملة كثيرة من متفرعاتها ، وهي بالمعنى الحقيقي ممتنعة بالنسبة إليه عزوجل ، إذ لا يعقل التجاوز بالنسبة إلى من هو غير متناه من حيث القدرة والغلبة والقهارية. نعم يصح بالمعنى الاعتقادي ، وهو يرجع إلى مخالفته في الإعتقاد والعمل. هذا وإن أرجعنا عداوته إلى عداوة أنبيائه وأوليائه يصح بالمعنى الحقيقي أيضا ، وكذلك إن أرجعناها إلى عقابه.

وإنّما أضاف سبحانه وتعالى العداوة إلى نفسه تشريفا لملائكته ورسله وأوليائه ، وفي الحديث : «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» وقد وردت آيات وروايات دالة على حسن مخالطته تعالى مع عباده على ما يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى ، وليس المراد بالمخالطة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ ، بل ما قاله علي (عليه‌السلام): «داخل لا بالمجانسة ، وخارج لا بالمباينة ، فبينونته تعالى بينونة صفة لا بينونة عزلة». كما أنّ في ذكر نفسه أولا ثم الملائكة والرسل إشعارا بعدم الفرق في هذه العداوة بينه تعالى وبينهم ، لأنهم مظاهر آياته وأولياء خلقه ووسائط فيضه.

قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ). تقدم وجه اشتقاقهما. واتفق جميع الفلاسفة على أنّ الملائكة ذوات مجردة ليست من الماديات إلّا أنّ فلاسفة المسلمين ذكروا أنّها جواهر مجردة ، والمتكلمون منهم يقولون : إنّها أجسام لطيفة لعدم ثبوت الجواهر المجردة عندهم. وشبهوا الأجسام

اللطيفة بالأجسام التي نشاهدها في عالم النوم ، وما يوجد في الذهن. وحيث إن وجود الملائكة لا يتوقف على المادة وتهيئة الأسباب فيكفي في إيجادها مجرد الأمر الإلهي ، وهي بجميع أقسامها من عالم الأمر (أي : ما يوجد بمجرد أمره تعالى من غير توقف على المادة والزمان ونحوهما) فمنها مالها مراتب ومنازل كالمدبرات أمرا ، والنازعات ، والفارقات ونحو ذلك ، ومنها ما ليس كذلك وقد اصطلح على تسمية الكل بالملائكة ، وعلى تسمية من له شأن من الشأن بالملك ، فكل ملك ملائكة وليس كل ملائكة ملك فنسبة الملك (بفتح الميم واللام) إلى البقية كنسبة الملك (بكسر اللام) إلى الرعية ، ويأتي تفصيل أحوال الملائكة وشؤونها وأفعالها في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ). إنّما خصهما تعالى بالذكر إعلانا بعلوّ شأنهما وتشريفا لهما ، أو لأنّ اليهود إنما خصوصهما بالذكر فقالوا : إنّ جبريل ملك الإنذار والعذاب ، وميكال ملك الرحمة فنزلت الآية ردا عليهم بأن معاداة أحدهما هي معاداة الآخر ومحبتهما كذلك. وإلّا فهما من سادات الملائكة ، وهم أربعة : جبريل الذي هو موكل بإفادة العلوم للذوات المستعدة لكل علم وفن وصنعة. وميكائيل موكل بالأرزاق. وإسرافيل موكل بإفاضة الأرواح لكل ذي روح. وعزرائيل موكل بقبض الأرواح ، ولكل من هؤلاء الأربعة أعوان وجنود لا يعلمها إلّا الله تعالى وهو المهيمن على الجميع.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ). أي : أنّ من كان كذلك لا يكون إلّا كافرا به تعالى والله عدو للكافرين ، وعداوته لهم عبارة عن سخطه تعالى عليهم وعقابه لهم ، وهم الظالمون لأنفسهم وكفى بذلك خزيا.

وفي الآية إشارة إلى أن عداوة الله لا تتحقق إلّا بسبق عداوة العبد له تعالى ، فهو كالموضوع لعداوته عزوجل ، والموضوع متقدم على ما يلحقه ؛ فبينهما ملازمة الجزاء والشرط. كما أن في الآية المباركة من الوعيد الشديد والذم لمعادي الملائكة لا سيما جبرئيل فإن اليهود وإن كانوا لا

يدعون معاداة جميع الملائكة ولكنه في الواقع كذلك فإن عداوة أحدهم تكون عداوة للكل. وفي وضع الظاهر موضع الضمير في قوله تعالى : (لِلْكافِرِينَ) إشارة إلى أن العلة في العداوة هي الكفر.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ). الآيات البيّنات أي الأدلة الواضحة التي لا ريب فيها على صدق نبوته من القرآن وسائر المعاجز.

قوله تعالى : (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ). الفسق الخروج يقال : فسق الرطب أي خرج عن قشره ، وكل من خرج عن طاعة الله تعالى فهو فاسق ، وله مراتب كثيرة تتفاوت بين الشدة والضعف ففسق الكفر مرتبة منه ، وفسق الكذب والغيبة المتداولين بين النّاس فسق أيضا. وهو الجامع بين المعاصي الكبيرة والصغيرة الواردة في الكتاب والسنة المشروح في علمي الفقه والأخلاق. بل يمكن القول بأن الفسق حجاب للقلب عن استشراقاته المعنوية من المبدأ القيوم ، فإما أن يعم الحجاب جميع القلب أو يكون حجابا عن بعضه فيكون كنقطة سوداء في القلب تتغير زيادة ونقيصة ، فإذا صدرت من الكافر معصية. كالكذب مثلا اجتمع فيه قبحان وخطيئتان : قبح الكفر وخطيئته وقبح الكذب وخطيئته ، ويأتي التفصيل في المحل المناسب.

والمعنى : إنّ معك أيّها النبي العظيم آيات بينات تدل على صدق دعواك وكل من أنكرها يكون خارجا عن الحق وقد استحب الكفر عنادا ، وعلى هذا يصح أن يراد بالكفر والفسق العقليان منهما أيضا لا خصوص الشرعي ، لأن رد تلك الآيات البينات خروج عن طريقة العقل والعقلاء ونور الفطرة في رد الآيات البينات من غير دليل وحجة بل بمجرد العناد والجحود والتقليد الأعمى.

قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). الواو في «أو» حرف عطف تصدر بأداة الاستفهام الدالة على التوبيخ والتقريع لعادتهم في نقض العهود. والعهد ما يلزم مراعاته وحفظه والقيام به والمراد

به عهودهم مع الأنبياء والرسل. والنبذ هو طرح الشيء لقلة الاهتمام والاعتناء به.

قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). فيه إيماء إلى ما قد يتبادر من لفظ الفريق القلة منهم ، فذكر سبحانه أن أكثرهم لا يؤمنون ، وهو في مقام التعليل لما يصدر عنهم من الأفعال القبيحة ونقض العهود ، يعني أنهم ينقضون العهد ، لأن أكثرهم لا يؤمنون. ويستفاد من هذه الآية المباركة عدم الوثوق بهم لاعتيادهم على نقض العهود ، وعدم رجاء الإيمان من أكثرهم.

كما يستفاد منها ذم الكثير والأكثر ، كما ورد في ما يقرب من مأة آية قال تعالى : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [سورة الحج ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٩] إلى غير ذلك من الآيات المباركة بخلاف القليل والأقل ، فقد ذكروا بالمدح قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سورة سبأ ، الآية : ١٣] ، وقال تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ٤٦] ولو تأمل شخص في أحوال عامة النّاس رأى أن ذلك حق مطابق للواقع ، وتدل على ذلك أقوال الأئمة (عليهم‌السلام) ففي الحديث : «المؤمنة أعز من المؤمن ، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر ؛ ومن رأى من أحدكم الكبريت الأحمر؟!».

وفي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإخبار له بإدبار الأكثر عنه.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). تقدم معناه في الآية ٨٩ أي : لما جاءهم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الرسول من عند الله تعالى المصدّق لجميع ما أنزله الله تعالى من التوراة والإنجيل المشتملين على التوحيد وسائر المعارف الإلهية ، والأحكام التشريعية ، وصفات الرسول الذي وعدوا وبشّروا به وأنه من آل إسماعيل ، فإن أصول الأحكام واحدة وإن ظهرت تارة في صحف إبراهيم ، وتوراة موسى أخرى ، وإنجيل عيسى (عليهم‌السلام) ثالثة ، وقرآن

نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رابعة فمن نبذ واحدا منها فقد نبذ الجميع ، فالكل مصدّق للكل ، والجميع شريعة واحدة.

قوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ). نبذ الشيء وراء الظهر كناية عن ترك العمل به وكفرهم به. والمراد بكتاب الله مطلقه الأعم من التوراة والإنجيل والقرآن.

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ). تنزيل لعلمهم منزلة الجاهل المقصّر في العصيان واستحقاق العقاب ، وفيه من المبالغة في الترك والإهمال ، ما لا يخفى. يعني أنكم مع علمكم بأنه الحق فقد نبذتموه وراء ظهوركم فلم تحرّموا حرامه ولم تحللوا حلاله ، فصار الجحود أشد ، والعقاب أكثر.

بحث روائي :

القمي في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) : «إنما نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّ لنا في الملائكة أصدقاء وأعداء فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من صديقكم ، ومن عدوكم؟ فقالوا : جبرئيل عدونا ، لأنه يأتي بالعذاب ولو كان الذي ينزل عليك القرآن ميكائيل لآمنّا بك ، فإن ميكائيل صديقنا ، وجبريل ملك الفضاضة والعذاب ، وميكائيل ملك الرحمة».

أقول : رواه الفريقان ، وفي الدر المنثور قريب من ذلك.

وفي المجمع في الآية أيضا قال ابن عباس : «كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المدينة سألوه ، فقالوا : يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : تنام عيناي وقلبي يقظان ، قالوا : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا : صدقت يا

محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيهما علا ماؤه كان الشّبه له. قالوا : صدقت يا محمد. فأخبرنا عن ربك فما هو؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى : قل هو الله أحد ـ إلى آخر السورة ـ فقال له ابن صوريا : خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك ؛ أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : جبرئيل. قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب ، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء ، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك».

رواه الطبرسي في الإحتجاج عن جابر بن عبد الله. ورواه أيضا في الدر المنثور.

أقول : أما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): تنام عيني وقلبي يقظان. فقد نقل مستفيضا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو كذلك بحسب ما أثبتوه من حضوره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عند ربه دائما ، كما يدل عليه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ما رواه الفريقان : «إني لست كأحدكم أبيت عند ربي فيطعمني ربي ويسقيني ربي» والمراد منهما الإفاضات المعنوية والجذبات الواقعية الرحمانية ، فلا يعقل حجاب لقلبه بمثل النوم والغفلة ونحوهما ، ويشهد له ما هو من خصائصه من أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه وأنه لا ظل له ، وتأتي تتمة الكلام في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالى.

وأما قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل» فقد أثبت العلم الحديث ذلك أيضا كما يأتي مفصلا.

وفي الدر المنثور : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) قال ابن عباس : «هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية بينه فنتبعك بها فأنزل الله تعالى الآية».

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

بيّن سبحانه وتعالى بعض أعمالهم الفاسدة ، كالافتراء على أنبياء الله تعالى ، والسحر ، ثم أبطل ذلك وحكم بكذبهم وأمر باتباع طريق الحق ، وأن التقوى خير لهم مما هم عليه.

التفسير

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ). اختلفت أقوال المفسرين في هذه الآيات المباركة فصارت معترك الآراء والاحتمالات وقلّما يوجد مثلها في سائر الآيات الشريفة ، ومع ذلك فهي على فصاحتها وبلاغتها لم يعترها من تلك الاحتمالات إجمال ولا في حسن نظمها وفصاحتها كلال ، وليس ذلك إلّا من تقدير العليم الحكيم. ونحن نشير إلى ما يستفاد مما هو الظاهر منها.

فنقول : مادة (ت ب ع) تأتي بمعنى التقفية في الأثر ، والاقتداء والمتابعة سواء كان ذلك في الحق أو الباطل كقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٨]. والضمير يرجع إلى اليهود [الذين عمدوا الى هذه المتابعة سواء كانوا من يهود عهد سليمان أو من غيرهم ، بل يشمل غير اليهود أيضا ممن ينطبق عليه عنوان المتابعة]. وتتلوا إن كان بمعنى مطلق القراءة والبيان فالأمر واضح ، وإن كان بمعنى قراءة ما نزل من عالم الغيب على حسب دعوى الشياطين وزعمهم بأن ما يقرءون إنما هو من

الغيب ، لكن بعد إثبات كفرهم في ذيل الآية الشريفة تكون هذه الدعوى منهم كاذبة لا محالة.

والمراد بالشياطين الأعم من شياطين الإنس والجن على حد قوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٢] ويحتمل أن يكون المراد خصوص شياطين الجن ، فإن شياطين الانس بمنزلة القوى العاملة لها.

والمراد بملك سليمان عهده وأهل مملكته ، ولعل ما في التعبير به إشارة إلى غلبة السحر والكهانة في ذلك الزمان حتّى استولى على ملك سليمان. وذلك لأن اليهود زعموا أن ملك سليمان إنما قام على أساس السحر والكهانة والطلسمات ونحو ذلك من الحيل التي نسبوها إليه كذبا وافتراء ، فغلبت على النّاس واعتادوا عليها واتخذوا السحر وسيلة إلى مقاصدهم وأغراضهم ، أو ليتوصلوا بها إلى الملك كما توصل سليمان به بزعمهم. وهذا يدل على شدة انغماسهم في الماديات. وإعراضهم عن الحقائق وأحكام الله تعالى وأنبيائه ورسله ، وهو لا يختص باليهود فإن كل قوم أعرضوا عن آيات الله واتبعوا أهواءهم ولم يقتدوا بالعلماء الداعين إليه تعالى صاروا مرتعا للشياطين ووساوسهم فيعملون كلما يشاءون في إبطال الحق وإفشاء الباطل وذلك هو الخسران المبين.

و «على» في قوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) تصلح أن تكون بمعنى (في) أي في ملك سليمان أو بمعنى (مع) كما في قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٤] أي على ألسنة رسلك ، أو معهم.

قوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). لأنّ إفشاء الباطل في عهده أو على ملكه من الشياطين لا دلالة فيه على أن سليمان اعتقد بالباطل بوجه من الوجوه بل إثبات النبوة له يمنع عن ذلك مطلقا ، وفيه تبرئة من الله لسليمان وإثبات الكفر لمن نسب اليه السحر.

والمراد بالكفر المنسوب إلى الشياطين الكفر المطلق فيصير المقام

بالنسبة إليهم ، من باب التطبيق لا التخصيص ، أو بيان غاية قبح السحر. ثم بيّن تعالى بعض وجوه كفرهم بما ذكره جل شأنه.

قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ). ليفتنوهم عن دينهم ويضلوهم عن سبيل الحق ، وفي الآية المباركة إشارة إلى قبح السحر بل إيجابه الكفر ، وقد عبّر في الأحاديث عن السحر بالكفر ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «السحر والشرك مقرونان» ، وعن علي (عليه‌السلام): «من تعلم شيئا من السحر ـ قليلا أو كثيرا ـ فقد كفر».

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ). الملكين (بفتح اللام) تثنية الملك [بالفتح] ، وهي القراءة المشهورة ، وصريح بعض الروايات كما يأتي في البحث الروائي ، وقرأ بعضهم ملكين (بكسر اللام) تثنية الملك ، ولم يعهد ذلك في التاريخ ، ولو كان لشاع وبان ، وقد ذكروا في توجيه ذلك أمورا لم يقم عليها دليل من العقل أو النقل فالأولى الإعراض عن ذكرها.

وكيف كان فهما ملكان بعثهما الله تعالى لإتمام الحجة على شعب بابل ليعلّموا مضار السحر ، ويدفعوا به عن سحر السحرة وكيد الشياطين ، ولعل ذلك كان مقدمة لظهور دعوة أنبياء الله تعالى ، وإيذانا بزوال دعوة الشياطين إلى السحر والكهانة ونحوهما من الأباطيل ، وسيأتي معنى الإنزال.

قوله تعالى : (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ). بابل هي المدينة المعروفة في العراق عاصمة البابليين أعظم مملكة في المعمورة في ذلك الحين. وقد دلت التواريخ على أنها كانت أقوى مركز للسحر والكهانة في تلك الأعصار ، بل ليس في الحضارات كلها حضارة أغنى في الخرافات من الحضارة البابلية. كما أنها كانت مركزا تجاريا هاما يؤمها التجار فكانت مورد اختلاف النّاس من أطراف العالم لأغراضهم الدنيوية ، ولذلك كثر تردد أنبياء الله (عليهم‌السلام) إليها لإظهار الحجة والبيان عليهم في كل فرصة يجدونها ، فالقادسية (بانيقا) موجودة حتّى الآن قرب بابل ، وهي محل رعي

أغنام إبراهيم خليل الرحمن (عليه‌السلام) كما أن تل نمرود الذي ألقي الخليل منه في النار معروف في هذه المدينة وإنّ مقام إدريس وإبراهيم موجودان في مسجدي الكوفة والسهلة ، وعن أبي جعفر (عليه‌السلام) في وصف مسجد الكوفة : «إنها سرة بابل» ، وقبر هود وصالح (عليهما‌السلام) مشهوران في ظهر الكوفة. وعن علي (عليه‌السلام) في وقعة الخوارج أنه (عليه‌السلام) لما وصل إلى أرض بابل قال : «هذه أرض ملعونة قد عذّبت في الدهر مرتين وهي تتوقع الثالثة ، وهي إحدى المؤتفكات ، وهي أول أرض عبد فيها وثن» فاقتضت المصالح التكوينية والتشريعية أن يتم الله تعالى الحجة على أهل تلك الديار بما تقتضيه الظروف وأحوال العباد فأراد سبحانه وتعالى أولا أن يميز لهم الإرادة الوهمية الشيطانية والإرادة الغيبية الإلهية ، ثم التدرج في المعارف الإلهية بما تقتضيه الحكمة المتعالية.

وهاروت وماروت اسمان أعجميان وهما ملكان نزلا من السماء في صورة الإنسان وكانا بين النّاس مدة من الزمان فعلا ذكرهما وشاع أمرهما ، وكثرت مراودة النّاس إليهما حتّى صارا بمنزلة ملكين لهم. وقيل : إنهما من البشر كانا من أهل صمت ووقار. والظاهر أن أصحاب هذا القول نظروا إلى هذين الملكين بعد تجسمهما بصورة البشر فلا نزاع في البين. وقد أنزل الله تعالى هذين الملكين لتعليم الناس السحر وإنذارهم عن مضاره فيحذروا عن سحر السحرة وكيد الشياطين ، وكان ذلك لمصالح كثيرة ، منها : التمييز بين المعجزة والسحر ، وأن الأولى من الله تعالى ، والثاني من الشيطان وأعوانه. فالمراد بالإنزال في الآية المباركة إنما هو نحو من الإلهام ، وإنما ألهمهما الله تعالى ذلك لدفع المفاسد المترتبة على السحر ، لا لموضوعية فيه حتّى يكون من الإلهام الفاسد.

قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ). مادة (فتن) تأتي بمعنى الاختبار والامتحان سواء في الخير أو الشر ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥]. والمراد بها في المقام مطلق الاختبار ، لأنهم إنما نسبوا إلى سليمان (عليه‌السلام) السحر وافتروا عليه بأن تسخيره للجن والإنس وغيرهما إنما كان بواسطة السحر

حتّى غلب على أهل عصره ، وكاد أن يذهب معجزة أنبياء الله تعالى رأسا ، فأنزل الله الملكين يعلمان النّاس السحر ، ليفرقوا بين الحق والباطل مع تصريحهما لمن كان يتعلمه بأن ما يتعلمه إنما هو لأجل الامتحان والاختبار ، ودفع كيد الشياطين والتفرقة بين الحق والباطل ، وأن السحر كفر فلا تكفر بتعلمك له كما ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك.

قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).

ذكر سبحانه مصداقا من مصاديق السحر لأجل كونه من أهمها الشايع بينهم.

قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). لفرض أن جميع الموجودات من خيرها وشرها مورد قضائه وقدره فلا يخرج أثر السحر عن تقديره تعالى وقضائه ، لئلا يبطل نظام القضاء والقدر وجعل المسببات مترتبة على أسبابها حسب ما اقتضته الطبيعة ، وما يختاره الفاعل المختار.

قوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ). النفع ما يتوصل به إلى الخير ، فهو خير وضده الضر. وقد استعمل ذلك في القرآن الكريم كثيرا ، قال تعالى : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) [سورة الحج ، الآية : ١٢] وهو لفظ عام يشمل جميع موارد النفع في الدنيا والآخرة ، بل يطلق عليه سبحانه وتعالى فمن أسمائه المقدسة (يا ضار يا نافع) قال تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [سورة يس ، الآية : ٧٣] ، وقال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٩] إلى غير ذلك من موارد الاستعمال في القرآن الكريم ، فيطلق على الواجب والجوهر والعرض في الدنيا أو الآخرة.

ثم إنّ النفع والضر إما واقعيان حقيقيان ، وهما المنساقان منهما في استعمالات القرآن. أو وهميان خياليان قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦] وغالب أمور الدنيا مبنية على الوهم والخيال.

والمعنى : إنهم يتعلمون من السحر ما كان فيه ضرر عليهم في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلعدم إحاطة المعلم بالواقعيات ، ولا كون العلم من الوسائل إليها ، فإن المنفعة الوقتية الخيالية التي يجلبها من السحر مع ما فيها من الإيذاء لسائر النّاس لا تعد خيرا أصلا لا سيما إذا كان جزاؤه عظيما. واما في الآخرة فمع كون المعلوم قرين الكفر بالله تعالى فلا بد وأن يكون إثمه عظيما ، فقد أوقعوا أنفسهم في الخسران والنقصان بسوء اختيارهم. وفي نفي المنفعة بعد إثبات المضرة إشارة إلى وجود منفعة مّا في السحر ولكنها قليلة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). اللام للتوكيد وإن كانت في محل القسم. ولفظ (من) موصولة يصلح فيه الجنس والإفراد والجمع ، والضمير يعود إلى السحر. والخلاق النصيب من الخير ، يستعمل في القرآن في نصيب الآخرة.

والمعنى : إنّ الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين واختاروا السحر وسيلة لنيل مقاصدهم ، واستبدلوا ما في التوراة بذلك ونبذوه وراء ظهورهم يعلمون أنه ليس لهم في الآخرة نصيب ، لفرض وجود العقل فيهم وتمييزهم بين الخير والشر ، والنفع والضر ، وإتمام الحجة عليهم بدعوة الأنبياء وتحريم السحر عليهم فما بذلوه بإزاء تعلمهم السحر واتّباعه هو دينهم وآخرتهم. والقضية من القضايا العقلية التي لا اختصاص لها بقوم دون آخرين ، وهي استبدال الخير بالشر.

قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). أي : ولبئس ما استبدلوا به أنفسهم ، لأنهم عرّضوا أنفسهم للهلاك والعذاب الدائم بما رضوا بالسحر ـ لو كانوا يعلمون علما فعليا بأنهم باعوا أنفسهم بأخسّ الأثمان وأقبحها. وفي الآية المباركة من الفصاحة ما لا يخفى على من تأمل فيها ، وتقدم نظيرها في الآية ٩٠ من هذه السورة.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ). مادة

(ث وب) تأتي بمعنى الرجوع في جميع متفرعاتها ، وسمي الجزاء ثوابا لأنه رجوع العمل بوجوده الحقيقي الواقعي إلى العامل. قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزال ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ٣٦] وغلّب استعمالها في مقابل العقاب.

والمعنى : أنهم لو استبدلوا السحر ، واتباع الشياطين بالإيمان والتقوى لكان ثواب الله على أفعالهم الصالحة خيرا لهم من جميع ما اكتسبوه من أفعالهم. وتنكير المثوبة لبيان أنّ أقل ما يصدق عليه الثواب هو خير لهم مما عملوه.

قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). المراد به العلم الفعلي ولو إجمالا أي : أنّهم لو كانوا يلتفتون إلى أنّ الإيمان بالله والتقوى أعلى درجات الكمالات في الإنسان ، وجزاء ذلك أغلى كل جزاء لعلموا قبح ما بدّلوه.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات المباركة أمور :

الأول : أنّ الله تعالى لم يبين حقيقة السحر في هذه الآية الشريفة ، وأجمل الأمر ، وإنما وصفه سبحانه في آية أخرى أنه تخييل وضرب من الخداع النفسي ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه ، الآية : ٦٦] ، وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١١٦] ولعل الحكمة في ذلك أنه أوكل معرفة الحقائق المكتسبة إلى بحث الإنسان وجهده في تحصيلها ، وقد ذكرنا في قصة الخليقة ما يتعلق بالمقام.

الثاني : يستفاد من الآية المباركة أن السحر كان من الأمور العادية يتعلمه النّاس في تلك الأعصار ، وهذا من جملة الفروق بينه وبين المعجزة فإنها ليست كذلك ، وسيأتي مزيد بيان في البحث الآتي.

الثالث : لعل الوجه في إنزال السحر على الملكين دون الأنبياء (عليهم‌السلام) إما لأجل أن الملكين كانا محشورين في الناس يعرفان كيد الشياطين ومكر السحرة ، أو لجلالة مقام الأنبياء (عليهم‌السلام) لئلا يتهمهم النّاس بما لا يليق بهم.

الرابع : تدل الآيات المباركة على أن في عمل السحر معرضية للكفر ولا ريب فيه لأن الأنس بما هو من شؤون الشيطان يوجب البعد عن ساحة الرحمن.

الخامس : الآية الشريفة تنص على أن تعليم الملكين للسحر إنما كان لغرض إفساد سحر السحرة ، وبيان السحر والمعجزة. وفيها إشارة إلى أن التفريق بين المرء وزوجه وغيره من الأعمال الفاسدة إنما هو من عمل النّاس ، وليس من تعليم الملكين ، وأنه كان ذلك من سوء اختيارهم ومنه يظهر السر في اختفاء جملة من العلوم ، والاسم الأعظم وبعض الدعوات المستجابة.

السادس : إنّ في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) من الإيحاء النفسي للإنسان بأن لا يتأثروا بسحر السحرة فإنه ليس لهم تلك القوة الغيبية التي تؤثر على النفوس ، بل أعمالهم تستند على ضرب من الخداع والتخييل ، فما يحصل من المسببات المستندة إلى أسبابها إنما تكون بإذن من الله تعالى وقدره وقضائه.

السابع : يظهر من هذه الآية المباركة وما في سياقها من الآيات الشريفة أن العلوم التي يتعلمها الإنسان على أقسام ، منها ما ينفع لدينه ودنياه ، ومنها ما يضر بهما ، ومنها ما ينفع لدنياه ويضر بدينه ، ومنها ما يكون عكس ذلك ، ومنها ما لا نفع فيه أصلا وإنما هو من صرف الوقت في ما لا يعنيه ولا يفيده والمائز بين هذه الأقسام هو الكتاب الكريم ، والسنة المقدسة ، وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفائه المعصومين (عليهم‌السلام) أحاديث كثيرة تعين بعض العلوم النافعة للنّاس ، ولعل أجمعها قول نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنما العلم

ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة وما خلاهنّ فهو فضل» فذكر (صلى‌الله‌عليه‌وآله) علم المبدأ والمعاد من أصول العقائد ، وعلم التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ، وعلم مسائل الحلال والحرام ، وشرايع الأحكام. فبيّن (صلى‌الله‌عليه‌وآله) العلوم الدخيلة في استكمال الإنسان في عوالمه الثلاثة (عقله وروحه وبدنه) وقد جمعها علي (عليه‌السلام) في عبارة موجزة : «العلم أكثر من أن تحيطوا به فخذوا من كل شيء أحسنه» هذا كله في العلم الذي له دخل في الكمال المطلق ، والسعادة الأبدية. وأما العلوم والصنايع والفنون فالناس بالفطرة يتوجهون نحوها ، فإن الدار دار الاستكمال والخروج من القوة إلى الفعلية فلا يحتاج إلى ترغيب من مرغب إلهي أو غيره ، فإن الساكن إنما يتحرك نحو المطلوب بالفطرة ، ولذلك لم يعهد تفصيل ذلك في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، نعم أشير إليها في قوله تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [سورة القصص ، الآية : ٧٧] ، وما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» فالإنسان خلق لأجل الاستكمال والسعادة ولا ينفك عن ذلك ، وداعيه وقائده والمرغب إليه إما هو الله تعالى وأنبياؤه وأولياؤه ، أو يكون هي الفطرة التي هي جزء من السير التكاملي الموجود فيه. وفي المقام تفصيل يأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

الثامن : ليس في قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) دلالة على أن مطلق السحر مما أوحي الى الملكين حتّى تدل بالملازمة على إباحته ، لأن الإنزال من الله تعالى أعم من ذلك خصوصا إذا كان من باب دفع الأفسد بالفاسد.

بحث روائي :

الطبرسي في الإحتجاج عن الصادق (عليه‌السلام) وقد سئل من أين علم الشياطين السحر؟ قال : «من حيث عرف الأطباء الطب بعضه. تجربة ، وبعضه علاج».

أقول : الحديث موافق للاعتبار وهو شارح لجميع أخبار الباب مع غض النظر عن الأسناد.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) عن الباقر (عليه‌السلام) في حديث : «فلما هلك سليمان (عليه‌السلام) وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ، ثم دفنه تحت سريره ثم استثاره لهم فقرأه ، فقال الكافرون : ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيّه ، فقال الله جلّ ذكره : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان» ورواه القمي أيضا.

أقول : هذا الحديث شاهد على حمل قوله تعالى : (ما تَتْلُوا) على الافتراء والافتعال ، وهو شايع في الاستعمال ، يقال : ما قلت وما تلوت أي : ما افتريت. والمراد من إبليس كل مصدر للشر والفساد.

وفي العيون في حديث الرضا (عليه‌السلام) مع المأمون : «وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علّما النّاس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ، ويبطلوا كيدهم ، وما علّما أحدا من ذلك شيئا إلّا قالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعلمونه بين المرء وزوجه قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

أقول : هذا الحديث أيضا مبيّن وشارح لظاهر الآية المباركة ولجميع ما ورد في الباب من الأخبار ، كما أنه ظاهر في الكفر العملي مضافا إلى كفرهم الاعتقادي ، والسحر قد يكون من الكفر العملي وقد يكون من الكفر الاعتقادي أيضا وقد فصلنا ذلك في الفقه. وهناك روايات أخرى بين مفصلة وغيرها مروية عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفائه المعصومين أعرضنا عن ذكرها لأن سياقها يدل على عدم صدورها عن المعصومين (عليهم‌السلام) بل هي من المفتعلات كما هو الظاهر منها ، وعلى فرض

صحة بعضها لا بد من رد علمه إلى أهله.

وفي العيون أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) في تفسير قوله تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال (عليه‌السلام): «لأنهم يعتقدون أن لا آخرة ، فهم يعتقدون أنها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم أي لا نصيب لهم في دار بعد الدنيا ، فهم مع كفرهم لا خلاق لهم فيها».

أقول : ظاهر الحديث نفي الخلاق بنفي الموضوع أي : لا يعتقدون بأصل الآخرة ، ولكنهم على قسمين : قسم يعتقدون بها وينكرونها عملا ، وقسم آخر لا يعتقدون بها أصلا ، فنزّل (عليه‌السلام) الأول منزلة الثاني لعدم الأثر لمجرد الاعتقاد بلا عمل.

بحث علمي :

السحر ضرب من ضروب التأثير النفساني وهو علم كسائر العلوم له قواعده وأحكامه وقد ورد في القرآن الكريم في ما يقرب من ستين موضعا وأكثره ورد في قصص موسى (عليه‌السلام) وفرعون ولم يبين سبحانه وتعالى حقيقته ـ كما هو دأبه جلّ شأنه في الحقائق العلمية ـ ليرجع الإنسان إلى نفسه في البحث عنها والاجتهاد في تحصيلها والارتقاء في العلم كما عرفت سابقا وإذا تتبعنا موارد استعمالات لفظ السحر نرى أنه يأتي بمعنى الافتتان والفتنة ، وفي الحديث : «ان من البيان لسحرا». وهذا هو المعنى الدارج عند العامة حينما يتعجبون من شيء ويفتتنون به. يقال : سحرتنا الطبيعة عند مشاهدة بديع صنع الله تعالى فيها. ويقال : سحرنا جماله إذا افتتن به وأمثال ذلك.

وأما السحر بالمعنى العلمي فهو ضرب من التأثير النفسي المشوب بالفتنة ، وإظهار ما ليس بواقع بصورة الواقع المعبّر عنه في القرآن الكريم بالتخييل والخداع ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه ، الآية : ٦٦] ، وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١١٦] فإن الإرهاب المقارن مع

التخييل والخداع له الأثر النفسي في الإنسان.

والعلوم من ناحية الموضوع تنقسم إلى أقسام :

الأول : ما كان موضوعه المادة والماديات كالعلوم الطبيعية.

الثاني : ما كان موضوعه الروح وما وراء المادة وهذا القسم يختلف من حيث تجرد موضوعه عن المادة بالكلية ، كالعلوم الإلهية ، أو لم يكن كذلك كالعلوم التي تبحث عن الملائكة والأرواح ونحوهما.

الثالث : ما كان موضوعه مزيجا من المادة والروح كعلم السحر والطلسمات ، والنيرنجات وأمثال ذلك ، فإنها من دون اتصالها بالأرواح لا أثر لها ، كما أنها لو لم تستعن بأمور خاصة لم يتأثر الطرف المقابل كحركات في اليد أو في العين أو تحريك في اللسان أو رموز في الكتابة او تدخين وغير ذلك. نعم من شدة اعتماده على الأثر النفسي يمكن لنا أن نقول انه في جوهره عمل نفسي له آثار مادية ، ولذا لا يمكن أن يأتي تحت تجربة وإلّا كان وهما في وهم. ومن الواضح أن الأثر النفسي لا يمكن أن يتحقق إلّا في محل قابل ومستعد لقبول ما يصدر عن الساحر ، ولذلك كان تأثيره في الإنسان محدودا بالفرد الناقص من حيث المعرفة والكمال وأما الإنسان الكامل فلا أثر للسحر فيه ، ولم يعهد أن نبيا من أنبياء الله تعالى تغلّب عليه السحر وأثّر فيه ما ورد في سحر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلنا فيه كلام يأتي في محله. ومن ذلك يعلم وجه انتشار السحر في الأمم البدائية التي يكثر فيها الجهل والإعتقاد بالخرافات.

ثم إنّ إنفاذ السحر وتأثيره في النفوس الضعيفة يتوقف على قوة الساحر وثبات في العزيمة ، وأكاذيب يستعين بها على التأثير في وعي المسحور ووهمه يشبه في ذلك بعلم التوهم ـ علم التنويم المغناطيسي ـ المبني على التأثر في وهم الأفراد ويستفيد الساحر من الأكاذيب والمفتعلات ما لا يستفيده من غيرها ، وهو إنما بلغ إلى هذه المرتبة بفضل ما كان يعتقده النّاس في السحر والسحرة من ان لهم التصرف في كل شيء وتصدر عنهم أعمال عظيمة كإحياء الأموات ، أو إصابة الناس

بالأمراض ، فكانوا يخافون منهم كخوفهم من الله تعالى. ولم تسلم الأمم الراقية في هذه الأعصار عن هذه الخرافات حتّى جعلوا للساحر منزلة اجتماعية عظيمة يتوصلون بهم لإنجاح مقاصدهم. وساعد ذلك ما يدعيه السحرة من أنهم قادرون على استحضار الأرواح فيسألونها عما يريدونه أو يأمرونها بأعمال خاصة ، أو أنهم قادرون على إطلاق الرياح وإنزال الأمطار أو يعرفون حوادث المستقبل ويعلمون مقاصد الإله الى غير ذلك من الأكاذيب فيتأثر النّاس بها فينطبع في نفس الواهم أن الأرواح تستجيب إلى أوامر الساحر ولما كان كل ذلك من الوهم ذهب بعض العلماء إلى أنه ليس للسحر حقيقة إلّا ما يؤثّر في الوهم والخيال.

ولقد كان موقف الأديان الإلهية والأنبياء (عليهم‌السلام) والكتب السماوية من السحر واضحا فكان أكبر همهم هو إرجاع الإنسان إلى تمييزه وعقله ، وإبطال ما كان يحيط بالسحرة من العظمة والكبرياء ، وأما القرآن الكريم فقد أبطل السحر من جهتين :

الأولى : إزالة الأثر النفسي للسحر والسحرة فقال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٢] فنفى سبحانه وتعالى عن السحرة القوة الغيبية ، وكم لهذا الكلام الشريف من الأثر النفسي المعاكس للسحر ، وأباطيل السحرة ، فإن الإنسان إذا اعتقد ان جميع الممكنات تحت إرادته تعالى وقضائه وقدره ، وهو القيوم المطلق ولا يقدر أحد ان يتصرف في شيء إلّا بإرادته تعالى كان لهذا الاعتقاد الأثر الكبير في نفسه ، فلا يبقى مجال حينئذ لأباطيل السحرة.

ولعل من حكم إنزال الملكين ـ هاروت وماروت ـ هو تعريف الناس بأعمال السحرة ، وإبطال ما أثاروه حولهم من الإشاعات ، وتهيئة النفوس لتلقي المعارف الإلهية كما عرفت.

الجهة الثانية : هدم صرح السحر حينما قال سبحانه وتعالى بأنه ضرب من الخداع والتخييل ، وان الساحر لا يفلح في أمره مهما حاول إظهار الجد في عمله. وهذا لا ينافي إثبات الحقيقة له في الجملة بل إثبات

الوجود هو إثبات للتحقق له ، فإن الوجود مساوق للشيئية والتحقق ، قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [سورة المدثر ، الآية : ٢٤] والمراد من الأثر في الآية المباركة الإتباع على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، فإنه مما لا ينكر ظهور بعض الأعمال وخرق العادة على يد الساحر ولو بحسب وجدان المسحورين ، ومن نفى عنه الحقيقة إنما أراد نفي الحقيقة بالنسبة إلى الواقع كالمعجزة والكرامة ، وهذا مسلّم لا ريب فيه.

ثم إنّ تأثير السحر في الإنسان ضرب من تأثير القوى الفعّالة فيه. كتأثير الكواكب في الأرض بما فيها الإنسان مما لا ينكره أحد ، كما أن تأثير الملائكة المقربين أيضا كذلك. وتأثير الأنبياء والأوصياء وبعض الصالحين بما يصدر منهم المعاجز وخوارق العادات لا يشك فيه عاقل. ومنها تأثير العين والإصابة بها فإنه لا يرتاب فيها أحد وان اختلف العلماء في كيفية تأثيرها ، وفي الحديث : «لو كشف عن القبور لرأيتم أكثر موتاكم من العين» ، وسيأتي تفصيل الكلام في سورة القلم إن شاء الله تعالى.

نعم الفرق بين ما يصدر من الأنبياء والأولياء والعلماء الذين حذوا حذوهم وبين ما يصدر من الشياطين وتابعيهم من السحرة والكهنة واضح ، فإن بينهما فرقا بحسب الذات والمنشأ والغاية.

توضيح ذلك : إنّ الإنسان في عالم الدنيا قائم بالاختيار. وأما عالم الآخرة فهو عالم جزاء الفاعل المختار ، فلو لا الاختيار لبطل العالمان والاختيار بما هو اختيار متعلق بطرفي الفعل ـ الخير والشر ، أو الهداية والضلالة ـ ولكل منهما قائد ودليل. والأنبياء (عليهم‌السلام) ومن يتلو تلوهم أدلاء الهداية وأئمتها. والشياطين ومن يحذو حذوها قواد الشر والفساد وأدلاؤهما. ونظر كل واحد من القائدين والدليلين هو الإنسان لا غير ، فالمعجزات والكرامات وخوارق العادات المنبعثة عن القدرة الإلهية غير المتناهية كلها من الأنبياء والأوصياء والأولياء الذين أقدرهم الله تعالى على تلك الأمور وهي سلاسل يجرّ بها النّاس إلى الجنّة ، وفي مثلها قال نبينا

الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل». والسحر والكهانة والشعبذة وأمثالها من الحيل كلها من الشياطين وهي سلاسل يجرّ بها إلى النّار. فذات المعجزة من طرق الهداية وذات السحر ونحوه من طرق الضلالة. كما أن منشأ الأولى صفاء النفس وارتباطها مع الله تعالى وإفاضته جل شأنه على الفرد ، ومنشأ الثاني كدورة النفس وخبثها وارتباطها مع الشياطين. ومع ذلك لم يكن للسحر تأثير إلّا بإذن الله تعالى وقدرته ، فإنه القيوم المطلق على جميع الممكنات (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ ، الآية : ٣].

ثم إنّهم ذكروا للسحر أنواعا كثيرة تختلف في التأثير شدة وضعفا. ولكن يمكن لنا القول بأن تلك الأنواع خلط بين السحر وغيره ، فقد ذكروا منها الاستعانة بالأرواح الطاهرة السماوية ، والنفوس الفلكية فإن مثل ذلك لا يعدّ من السحر أبدا. فإن الشخص لا يصل إلى هذه المرتبة إلّا إذا كانت نفسه طاهرة وكاملة ، كما أن الاستعانة بالأدوية أو بعض الآلات ، أو الأخذ بالعين فإنها لا تسمى سحرا أيضا وإن اثّرت اثره ، كما لا يخفى على من تتبع الكتب ، فالسحر كما عرفت هو الاستعانة بالأرواح الأرضية كالشياطين والأجنّة إما بالتسخير ، أو بأفعال خاصة.

كما أنّ تسخير الأرواح ـ سواء تعلقت بذوات الأرواح أو بالنفوس الفلكية أو غيرها. أو تبديل عنصر إلى عنصر آخر ـ سواء كان بآلة أو غيرها ، كل ذلك ممكن عقلا وواقع خارجا ، وإن لم يترتب عليه حرام فهو جائز شرعا ، وليس ذلك من السحر في شيء ، بل هي من سبل استكشاف المجهول ولا يمكن ذلك إلّا بتهيئة النفس وإعدادها بأعمال شاقة. كما أن من طرق استفادة السر المكنون علم الحروف والنجوم وهما ليسا من السحر أيضا ، بل نسب الأول إلى الأئمة الهداة (عليهم‌السلام). وسمي بالجفر ، وهو من العلوم الشريفة كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينفع.

بحث فقهي :

المحرمات في الشريعة المقدسة تارة : تكون المفاسد فيها شخصية فقط كشرب السم مثلا ، وأخرى : تكون شخصية ونوعية كالظلم وثالثة : تكون منهما مضافا إلى معرضية المعارضة مع النبوات السماوية كالسحر ، وحيث إن العقل يستقل بقبح الجميع خصوصا الأخيرتين فلا بد وأن تكونا محرمتين في جميع الشرايع الإلهية ، فالسحر محرم في شريعتي موسى وعيسى (عليهما‌السلام). وقد ورد في سفر اللاويّين الإصحاح التاسع عشر من التوراة : «لا تلتفوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع [النفاثات في العقد] فتتنجسوا» ، وقال في الإصحاح العشرين منه : «وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة ، فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه».

ثم إنه قد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ـ الآية على جواز تعليم السحر وتعلّمه ، لأن المنزل هو الله تعالى ، والملك معصوم ، فلا يعقل أن يكون محرما.

وفيه : إن التأمل في مجموع الآية الشريفة صدرها وذيلها يدل على ان الاستدلال بها على الحرمة أولى من الاستدلال بها على الجواز ، فإنها قد عدت السحر في عرض الكفر فكيف يستدل بها على الجواز؟ نعم قد يعرض الجواز لعناوين خارجية ، كما تزول حرمة الكذب لعروض عناوين توجب رفع الحرمة. والمسألة محررة فى الكتب الفقهية.

بحث كلامي :

لا ريب في أنّ ما يفاض على الممكنات لا بد أن ينتهي إليه سبحانه وتعالى بنحو الاقتضاء ، للأدلة العقلية والنقلية ، ففي الأثر المعروف ـ المنقول متواترا بين الفريقين ـ عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا إله إلّا الله وحده وحده وحده» فإن الوحدة الأولى إشارة إلى وحدة الذات ، والثانية تشير إلى وحدة الصفات أي سلب جميع النقائص عنه تعالى ، وفي الثالثة إشارة إلى وحدة الفعل أي أنه مبدأ الكل ، وأنه لا

حول ولا قوة إلّا به ، فهذه الجملة المباركة جامعة لأنحاء التوحيد ، ولكن ذلك لا ينافي قانون الأسباب والمسببات فان الله تعالى أبى ان يجري الأمور إلّا بأسبابها ومن ذلك يعلم وجه انتساب المعجزة ، وخوارق العادات ، والكرامات والسحر والطلسمات إليه تعالى. وقد فرق الفلاسفة والمتكلمون بين المعجزة والسحر بعد اتحادهما في أنهما صادران من عالم آخر غير عالم المادة : وأنّ هدفهما هو الإنسان لا غير بوجوه عديدة :

الأول : بحسب المنشأ ، فإن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير بعد صفائها وارتباطها مع الله تعالى ، والاستفاضة من القدرة الإلهية. والسحر ينبعث عن نفس خبيثة مرتبطة مع الشياطين كما تقدم.

الثاني : الفرق بحسب الذات ، فإن المعجزة من طرق الهداية والصّلاح والخير ولا تصدر إلّا من النفوس الخيّرة ، بخلاف السحر فإنه من طرق الضلال والغواية والشر ، ولا يصدر إلّا من النفوس الشريرة.

الثالث : الفرق بحسب الغاية ، فإن الغاية من المعجزة هي الدعوة إلى الحق وتثبيت دعوى الأنبياء ، ولذا تكون مقرونة غالبا مع التحدي فلا تصدر من الكاذب. وأما السحر فإن الغاية منه الشر والإضرار.

الرابع : إن الشخص الذي تجري على يديه المعجزة ذو نفس كاملة قد اجتهد صاحبها في القيام بمراد المحبوب اعتقادا وعملا عن علم بأصول الشريعة وفروعها يدعو إلى الحق ، وهو يعمل بما يدعو إليه ، فإن لمثل هذه النفوس إرادة قوية ولها خلاقية في الجملة لانبعاث إرادتهم عن إرادة العليم الحكيم ، إما مباشرة كالأنبياء والأوصياء ، أو بواسطتهم كعباد الله الصالحين. وهذا بخلاف السحر ونحوه فإن صاحبه لا يكون كذلك ، بل له نفس شريرة كدرة لا يصدر منها الخير ، مرتبطة مع الشياطين ومن يحذو حذوها.

الخامس : المعجزة ليست مكتسبة ولم تكن لها قواعد مطردة ، بل هي تصدر حسب إرادة الله تعالى ، فإما أن تكون خارقة للعادة واقعا وظاهرا ، أو بحسب الظاهر وإن كانت في الواقع مطابقة لقانون السببية

والمسببية. وأما السحر فهو علم له قواعده وأحكامه يصدر عن تعلم وتجربة. وهناك فروق أخرى أغمضنا النظر عن ذكرها ، فإن الأمر وجداني ظاهر لكل من رجع إلى وجدانه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

ذكر سبحانه وتعالى جهالة أخرى من جهالات اليهود وهي من مظاهر تحريفهم للكلام عن مواضعه ، وسوء أدبهم مع الأنبياء (عليهم‌السلام) ثم بيّن العلم الحق بعد أن أبطل بعض العلوم في الآيات السابقة وجعله كالكفر وبدأ أولا ببعض آداب التعلم ، ووجّه الخطاب للمؤمنين تشريفا لهم وإيذانا بعلو التعليم والتعلم ، ولما كان في هذا الأمر ارتباطا بينهم وبين اليهود.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). ذكر هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يزيد على ثمانين آية نزلت جميعها في المدينة. وفي جملة كثيرة من الأحاديث أنه ما أنزلت آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعليّ رأسها وأميرها. وعن علي (عليه‌السلام) «ليس في القرآن يا أيّها الذين آمنوا إلّا وفي التوراة يا أيها المساكين» ويأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

ويشمل الخطاب كلا من الحاضرين في مجلسه والغائبين بل المعدومين أيضا ، لأنه متعلق بالعنوان من حيث كونه طريقا إلى المعنون. وإنما ذكر الإيمان في متعلق الخطاب ، لأجل الترغيب إليه وتحريض النّاس إلى الاتصاف به ابتداء ثم العمل بما يتعلق به ، فيكون مثل هذا الخطاب أشد في جلب القلوب وآكد في الدعوة إلى المطلوب ، وله نظائر كثيرة في

كلام الفصحاء من العرب وغيرهم.

قوله تعالى : (لا تَقُولُوا راعِنا). لفظ «راعنا» سواء كان من المراعاة أو من الرعونة ، أو شيئا آخر ، ليس استعماله من الأدب المحاوري ، وفي خطاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بذلك من الجفاء وسوء الأدب لأنه يأتي بالمعنى الذي بيّنه تعالى بقوله جلّ شأنه (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) [سورة النساء ، الآية : ٤٦] وذلك لأن مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقام المعلم الهادي ولا بد للمتعلم من حفظ الأدب معه ، ونبذ كل ما هو مشتبه الإهانة والهتك فضلا عن معلومهما. ويحترز عن إظهار منزلة لنفسه عند المعلم فإنه من الإهانة والجفاء بمقامه.

والمعروف أنّ هذه الكلمة سب بالعبرانية ، كما ورد في بعض الروايات. وقال شيخنا الأستاذ البلاغي (رحمة الله عليه) : «قد تتبعت العهد القديم فوجدت أن كلمة «راع» ـ بفتحة مشالة إلى الألف ، وتسمى عندهم (قامص) ـ تكون بمعنى الشر أو القبيح ومن ذلك ما في الفصل الثاني والثالث من السفر الأول من توراتهم. وبمعنى الشرير واحد الأشرار ، ومن ذلك ما في الفصل الأول من السفر الخامس ، وفي الرابع والستين والثامن والسبعين من مزاميرهم ، وفي ترجمة الأناجيل بالعبرانية. و «نا» ـ ضمير المتكلم ـ في العبرانية تبدل الفها واوا أو تمال إلى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا ونحو ذلك» فتكون الكلمة في لغتهم «راعينو» موافقة للعربية في نبرتها ولهجتها ، ويكون النهي عن استعمالها لئلا يتخذها اليهود ـ الذين عرفوا بسوء الأدب مع أنبيائهم ـ وسيلة للسب والطعن في الدين فيقتدون بالمؤمنين في اللفظ ، ويقصدون المعنى الفاسد منه.

قوله تعالى : (وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا). أي : أمهلنا حتّى نفهم ما تقول ، أو راقبنا في إدراكنا وأقبل علينا. وهذه الكلمة خير من الكلمة الأولى فإنها تفيد ما كانوا يريدونه ، وتنفي ما كانت توهمه الكلمة الأولى. واسمعوا

أي : افهموا ما يبين لكم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيتحقق حينئذ حقيقة الاستفادة والتعلم.

قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ). أي : أن من فعل ذلك منكم ولم يسمع قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخالف أمره يصير كافرا وللكافرين عذاب اليم بلا فرق بين اليهود وغيرهم فان حكم الآية المباركة عام ، إذ هو من الأحكام الفطرية الحسنة التي يحكم بحسنها العقلاء ، ولا بد من مراعاة ما ورد فيها من الآداب على جميع المتعلمين والمستفيدين. وتشير الآية المباركة إلى مدح كون المستفيد والمتعلم في مقام الفهم والإدراك ، وحسن التماسه ذلك من المعلم ، كما تشير إلى أنّ إفادة المفيد لا بد وأن تكون بقدر استعداد المستفيد والمتعلم وعلى قدر القابليات ، وتدل على ذلك النصوص الكثيرة ، وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم النّاس على قدر عقولهم».

قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). أي : ما يحب الذين كفروا من اليهود والنصارى ولا من المشركين أن ينزل عليكم أيّ خير. وكلمة «من» تفيد الاستغراق لوقوعها في حيّز النفي وفي إتيان كلمة «ربكم» إشارة إلى عطفه تعالى على هذه الأمة.

والمراد من الخير في المقام كل خير دنيوي وأخروي فيشمل منصب النبوة وما يلزمها من المعارف والكمالات الإنسانية المنبعثة عن هذه الشريعة المقدسة الغراء. والسبب في حسد الكفار والمشركين على المؤمنين هو تمني الكفار أن تكون فيهم الحركة الدينية فلا يتعدى إلى غيرهم. وأما المشركون فلأن الإسلام يهدد كيانهم ، ويخيّب آمالهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). تقدم معنى الرحمة في سورة الحمد ، ويراد منها في المقام بقرينة «ب» التبعيضية خصوص تلك الرحمة التي أنزلت على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن تبعه من

المؤمنين وهي النعمة الكاملة الدائمة الأبدية والكمال الأتم المطلق ، وهي حقيقة الإيمان التي مثلت في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم أشرقت منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على تابعيه وأمته الجامعة للرحمة الرحمانية والرحيمية.

قوله تعالى : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). ذكرت هذه الجملة المباركة في موارد كثيرة من القرآن الكريم ، كما وردت مادة (ف ض ل) في مواضع أخرى منه ، قال تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣] ، وقال جلّ شأنه : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٥١] ، وقال تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٩] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة ، ومن أسمائه الحسنى المباركة «يا دائم الفضل».

وأصل هذه المادة تستعمل في الزيادة على ما يلزم على المعطي إعطاؤه ، وعلى ما يستحقه المعطى له ، فيكون إحسانا وزيادة فلا تطلق على عوض المال والعمل. نعم إذا أعطي زيادة على المثل أو القيمة أو المسمى كان فضلا. ومواهب الله تعالى على جميع خلقه من هذا القبيل على فرض الاستحقاق فضلا عن أنه لا وجه لأصل الاستحقاق ، فهي فضل وتفضل منه عزوجل سواء كان بالنسبة إلى المعنويات أو الماديات أو بالنسبة إلى النشآت الأخرى.

وفي الآية المباركة رد على الكفار والمشركين وعلى جميع الحاسدين بما يبين جهلهم أي أنه لا يمنعه مانع ، ولا يحوله حسد حاسد من اختصاص رحمته بمن يشاء من عباده حسب ما يراه من المصلحة فإنه ذو الفضل العظيم.

بحث روائي :

العياشي عن علي بن الحسين (عليهما‌السلام): «ليس في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وفي التوراة يا أيها المساكين» ورواه الصدوق عن علي

(عليه‌السلام) أيضا.

وعن أحمد بن حنبل في المسند عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما أنزل الله آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعليّ رأسها وأميرها».

وفي ينابيع المودة أخرجه موفق بن احمد عن مجاهد وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وقال موفق في المناقب رواه جماعة من الثقات هم الأعمش والليث وابن أبي ليلى وغيرهم عن مجاهد وعكرمة ، وعطا عن ابن عباس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي الصواعق أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما أنزل الله آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعليّ أميرها وشريفها».

وقال الإربلي في كشف الغمة نقل ذلك عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس وحذيفة. وفي حلية النعيم إن النّاس يروون هذا الحديث.

أقول : نقل ذلك عن الإمامية بطرق متواترة ، وهو حق لا ريب فيه لأن عليا (عليه‌السلام) أعلم النّاس بالقرآن ، وبجهات الإيمان بإجماع المسلمين ، فتكون الروايات الواردة في الآيات المتفرقة في حق علي (عليه‌السلام) من باب الانطباق.

وفي ينابيع المودة عن أبي الحسن والضحاك وعلقمة : «ان كل شيء من القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فانه نزل بالمدينة».

أقول : مثل هذه الرواية موافقة للاعتبار ، لأن مكة المكرمة بدء نزول الوحي كانت بمنزلة المادة للإيمان وفي المدينة المنورة تحققت الصورة ، فيصح توجيه الخطاب حينئذ.

وعن الشيخ في التبيان عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى «راعنا» إنها كلمة سب.

الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) ـ الآية وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعجبهم ذلك. وكان راعنا في كلام اليهود السب القبيح ، فقالوا : إنا كنّا نسب محمدا سرا ، فالآن أعلنوا السب لمحمد ، فكانوا يأتون نبي الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيقولون : يا محمد راعنا ويضحكون ففطن بها رجل من الأنصار وهو سعد بن عبادة ـ أو سعد بن معاذ ـ وكان عارفا بلغة اليهود ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه. فقالوا : ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) ـ الآية.

أقول : الرواية حسب الإعتبار صحيحة وتقدم وجه ذلك كما ذكرنا عن بعض مشايخنا.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أنه ينزل الرحمة والوحي على من يشاء من عباده بيّن سبحانه وتعالى استيلاءه على الحكم بكل ما يشاء من النسخ والإثبات ، لأنه مالك السموات والأرض وعلى كل شيء قدير ، وفي الآيات المباركة رد لمزاعم اليهود الذين يحدّدون قدرته تعالى بحد خاص ، وقد ذم سبحانه وتعالى أيضا توجيه كل سؤال ينبعث عن قصور العقول إلى رسوله الكريم كما فعلت اليهود بالنسبة إلى موسى (عليه‌السلام). وهذا في الواقع يكون ذما للتقليد عن الكفار.

التفسير

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ). النسخ يأتي بمعنى إزالة شيء بشيء يتعقبه ، يقال نسخت الشمس الظل ؛ ونسخ الظل الشمس ، ونسخ الشيب الشباب ، ويستلزم ذلك أمور :

الأول : النقل كما يقال نسخت الكتاب ، وقال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٩] وهو عبارة عن نقله وضبطه.

الثاني : مجرد الإزالة إذا لوحظ بالنسبة إلى المنسوخ فقط وعن بعض المفسرين أن منه قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [سورة الحج ، الآية : ٥٢] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف ، والظاهر بطلانه لتذييل الآية المباركة بقوله تعالى : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي يزيل ما ألقاه الشيطان وهو الباطل ويثبت الحق وأما نسخ التلاوة فسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى.

الثالث : الإثبات إذا لوحظ بالنسبة إلى الناسخ فقط.

الرابع : هما معا إذا لوحظ بالنسبة إليهما معا فيكون بمعنى التبديل أيضا ، ومنه اصطلاح العلماء في النسخ المبحوث عندهم أي تبديل ما كان ثابتا من الحكم الشرعي بدليل معتبر على خلافه. والتناسخ المعروف عند أهله أيضا من النقل والإزالة كما لا يخفى.

ومن ذلك يعلم أنّ تخصيص العمومات ، وتقييد المطلقات ، والقرائن العامة أو الخاصة على خلاف الظاهر ليس من النسخ في شيء لا موضوعا ولا حكما.

والآية هي العلامة ، وتطلق على تمام الآية وعلى الجزء منها ، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١١٣] ، وقال تعالى : (أَلَمْ

يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) [سورة الزمر ، الآية : ٧١].

والمراد بها العلامات الدالة على وحدانيته تعالى ، وصفاته المقدسة وأفعاله الحسنى ، والأنبياء ، والقرآن ، وسائر المعجزات فلا تختص بخصوص الآيات المباركة القرآنية ، ويستفاد هذا التعميم من قوله تعالى في ذيل الآية المباركة (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقال الشاعر :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وإن كان شأن النزول ـ كما في بعض التفاسير ـ آيات الأحكام الواردة في القرآن ، وقد ذكرنا مرارا أن شأن النزول من باب التطبيق لا التخصيص. فهي قابلة للشدة والضعف فربما يكون شيء آية له تعالى من جميع جهاته وقد يكون من جهة. والنسخ قد يتعلق بالجميع وقد يتعلق بالبعض.

قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها). من النسيان حذف حرف العلة للجزم بالعطف على «ننسخ» والفعل «انسى ينسي» بمعنى ترك الحفظ إما لقصور ، أو تقصير ، أو عن علم وتعمد ، لحكم ومصالح تترتب عليه. ومن الأول قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦] ، وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان».

ومن الثاني قوله تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [سورة الجاثية ، الآية : ٣٤] ، وقوله تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) [سورة السجدة ، الآية : ١٤] ، وقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩] والتقصير إنما هو من العبد لا منه تعالى ، فإنه يجازي المقصرين حسب تقصيرهم. ومن الأخير قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) أي نترك حفظ الآية لمصالح.

وترك الحفظ تارة : لعدم الوحي مع وجود المقتضي له ، لمصالح في الترك تغلب على المقتضي. وأخرى : ترك الحفظ عن قلب نبينا الأعظم

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع صدور الوحي اليه. وثالثة : بالإزالة عن قلوب المخاطبين مع صدور الوحي على لسان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ويصح الجميع بالنسبة إليه عزوجل فان ما سواه تحت إرادته. واستعمال النسيان في ما ينبغي أن ينسى كثير ، وفي المثل المعروف «احفظوا أنساءكم» أي التزموا بأنسائها وعدم الالتفات إليها وعدم ترتيب الأثر عليها ، وهي عبارة عن ذمائم الصفات التي يرتكبها الشخص في المجتمع على الغير أو يرتكبها الغير عليه.

وقال بعض المفسرين إن قوله تعالى : (نُنْسِها) أي نؤخرها من الإنساء ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «صلة الرحم مثراة للمال ، ومنسأة للأجل» ، ويقال : نسأ الله أجلك ، وقد انتسأ القوم إذا تأخروا ، أو تباعدوا.

ويمكن المناقشة فيه : بأن الكلمة لو كانت من الإنساء بمعنى التأخير لما جاز حذف الياء ، لأنها ليست حرف علة والقراءة المشهورة على خلافه ، مضافا إلى أن التأخير ملازم للترك أيضا.

ولا تنافي بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [سورة الأعلى ، الآية : ٦] لأن الأخير بحسب التأييد الإلهي ، والأول بحسب ذات الطبيعة البشرية. بل يمكن أن يقال : إن الآية المباركة لا تشمل نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالنسبة إلى القرآن ، لأنه مؤيد بروح القدس ومتصل بالمبدأ القيوم. نعم في الموضوعات الخارجية ورد الإنساء بالنسبة إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [سورة البقرة ، الآية : ٣٦] فراجع.

قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها). اي نأت بخير من تلك الآية المنسوخة في الأثر ، وأنفع منها في الإقناع والصّلاح وفق المصالح ، لأن الدار دار التكامل ، وأفعال الله تعالى مبتنية على المصالح التكاملية مع اقتضاء علمه الأتم وحكمته البالغة في ذلك أيضا.

قوله تعالى : (أَوْ مِثْلِها). في التأثير ليتذكر الإنسان ما قد نسيه

منها.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). هذا بمنزلة التعليل لاستيلائه تعالى على النسخ والإنساء ، فإنّ قدرته التامة غير المحدودة تقتضي ذلك ، وهو قرينة على أن المراد من الآية ليس خصوص القرآن ، بل تشمل كل آية دالة على وحدانيته وصفاته الحسنى ، فتشمل المعجزات الباهرات ومنها القرآن الكريم الدالة على نبوة أنبياء الله تعالى.

والخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تشريفي ، ولأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمفرده بمنزلة الجميع ، ولبيان طريق الاستدلال له حتّى يتعلم منه الجميع. ويعتبرونه الواسطة بينهم وبين الله تعالى. والاستفهام تقريري وهو أبين في الإثبات من نفس الاستدلال.

ثم إنه تعالى أراد تثبيت ايمان المؤمنين لئلا يتأثروا بشبهات الكافرين فأقام الدليل الآخر على تمام قدرته.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). أي أنه مالك لهما خلقا وإيجادا ، وإرادة وتدبيرا ، والنّاس كلهم عبيده يفعل ما يشاء فيهم ويحكم ما يريد لا يعجزه شيء. والخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تشريفا والمراد به غيره.

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). التفات في الخطاب من الإفراد إلى الجمع لما ذكرناه والولي هو القائم بالأمر ومدير الرعية ومدبر أمورها. والنصير من يطلب النصرة والتقوية منه. أي : إنّ وليكم وناصركم هو الله تعالى وحده وهو يفعل فيكم بما تقتضيه حكمته البالغة ولا يفوته أحد ، فهو الذي يقدر الإنسان على العمل بنحو الاقتضاء ، كما أنه المالك للثواب والعقاب فيكون تعالى مبدأ الكل ومنتهاه.

والآية من الأدلة العقلية على تمام قدرته وكمال إرادته ، وكما لها نظير في الآيات القرآنية ، وفيها إشارة إلى لزوم انقطاع العباد إليه تعالى لانحصار الولاية فيه والإعانة منه عزوجل فهو مسبب الأسباب بما يشاء وإن كان جعلها تحت اختيار العبد وقدرته فلا بد وأن يكون السعي من العبد والنصرة

منه عزوجل ، فإن وافقت نصرته تعالى لسعي العبد فذلك هو الفوز العظيم وإن تخلفت فهو الخسران المبين.

قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ). أم هنا منقطعة بمعنى بل ، وتتضمن الاستفهام فتكون إضرابا عن عقائدهم الفاسدة بما هو أفسد. والمراد بالسؤال كل سؤال لا يصدر عن فكر وروية بل يصدر عن عناد ولجاج ، ويكون منشؤه الجهل المركب. وقد بيّن سبحانه وتعالى بعض تلك الأسئلة في آيات أخرى ، فقال تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٠] والمراد بالسائل كل من تصدى له سواء كان من الكفار أو المشركين أو المنافقين.

والسؤال في الآية المباركة عام يشمل ما وقع في عصر البعثة بالنسبة إلى اصل حدوث الشريعة وما يقع بعدها إلى يوم القيامة كما قال تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠١] واستنكار إرادتهم للسؤال يستلزم استنكار وقوع المراد بالأولى ، فهي أشد من تقبيح المراد والذم عليه ، فيصير نظير قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٨٣] فنفى تعالى اصل تحقق المراد منهم بنفي اصل الإرادة.

قوله تعالى : (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ). فقد طلب فرعون وقومه من موسى (عليه‌السلام) الآيات الواحدة تلو الأخرى ولم يؤمنوا بها استكبارا منهم وعنادا ، وكذلك فعل بنو إسرائيل فإنهم سألوا موسى (عليه‌السلام) أن يريهم الله تعالى جهرة كما حكى الله تعالى عنهم ، فقال عزوجل : (إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٥٥] ، وقال تعالى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٨] وغير ذلك من اقتراحات بني إسرائيل على موسى (عليه‌السلام) من قبل.

وقيل : إن بعضهم سأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن يجعل

لهم ذات أنواط كما كان عند أقوام آخرين. فحقيقة الجهل المركب واحدة وان اختلفت مظاهرها. وقد أخبر نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا. ولا ريب أن تلك الأسئلة لا تصدر إلّا ممن طبع على اللجاج والعناد ، وعدم الإعتقاد بما جاء به الأنبياء ، ولذا أنكر عليهم سبحانه وتعالى.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ). التبديل هو جعل شيء بإزاء شيء آخر بدلا منه. والسواء هو الوسط ، وسواء السبيل الصراط المستقيم. أي إن من عاند أنبياء الله تعالى ولم يؤمن بما جاؤا به بكثرة السؤال فقد اختار الكفر على الإيمان ، ومن كان كذلك فقد ضل عن الصراط المستقيم.

والمراد بالتبديل حقيقته الأعم من أن يكونوا قد قصدوا ذلك أو لم يقصدوه ، وهذه العناية لم توجد في التعبير بالشراء والاشتراء الواقعين في آيات اخرى.

والسرّ في ذلك ما ثبت في الفلسفة العملية من أن أفعال العباد وإن كانت معلولة للإنسان لكنها مع كونها كذلك لها جهة علّية في نفس الفاعل ، فتكون مؤثرة فيه بنحو من الأنحاء فيصير علة لعمله ، وعمله علة مؤثرة فيه أيضا ، فإذا كان العمل الصادر من الإنسان خيرا أثّر فيه وأوجب صفاء نفسه ونورا في قلبه ، وإن كان شرا أوجب ظلمة وكدورة فيها حتّى تصل إلى ما قاله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤] وحينئذ يرى الفاعل أثر فعله في هذه الدنيا فلا اختصاص لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزال ، الآية : ٨] بالآخرة بل يعم جميع العوالم ، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة التي تأتي الإشارة إليها في محلها. وعليه فإذا لم يسلك الصّراط المستقيم انسلاكا اعتقاديا أو عمليا فقد ضل عن سواء السبيل.

بحوث المقام

بحث روائي :

في تفسير العياشي : «عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) «فقال (عليه‌السلام) الناسخ ما حوّل ، وما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن بعد قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال (عليه‌السلام) : فيفعل الله ما يشاء ، ويحوّل ما يشاء مثل قوم يونس إذ بدا له فرحمهم ومثل قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) قال (عليه‌السلام) «أدركهم برحمته».

أقول : ما ورد في الأحاديث في أصل النسخ وفي الناسخ كمية وكيفية كثير جدا ومتواتر بين الفريقين ، وما ذكره (عليه‌السلام) في هذا الحديث في النسخ بالمعنى العام أي مطلق التحويل والتغيير الشامل للبداء أيضا كما صرح في الرواية التالية صحيح لا إشكال فيه ، وتقدم في تفسير الآية ما يدل عليه أيضا.

وأما قوله (عليه‌السلام): «وما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن» يحتمل فيه معنيان ـ الأول : صدور الوحي إلى قلب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم إنساء ما اوحي اليه قبل بيانه لمصالح فيه. الثاني : ثبوت المقتضي في عالم الغيب للوحي ثم ترك الوحي أصلا لمصالح فيه أيضا. والمنساق من الحديث المعنى الأخير ، لأنه باق على غيبه المكنون ، وعدم صدوره عن مرتبة الغيب إلى مرتبة اخرى من وحي وغير ذلك ، وهذا وجه حسن.

وفي تفسير العياشي عنه (عليه‌السلام) أيضا : «إن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ونجاة قوم يونس».

أقول : كون البداء من النسخ بحسب المعنى اللغوي وهو مطلق التحويل صحيح لا إشكال فيه ، لكن المنساق من مجموع الروايات الواصلة

إلينا أن مورد النسخ التشريعيات ، والبداء مورده التكوينيات ، وهذا الاختلاف بحسب المتعلق لا بحسب الذات.

وروي أيضا : «إن موت إمام وقيام آخر مقامه من النسخ».

أقول : ظهر وجهه مما تقدم من أن النسخ بمعنى مطلق التحويل أي تحويل الامامة من إمام إلى امام آخر.

وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ منها قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) نسخه قوله عزوجل : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي للرحمة خلقهم.

أقول : إن المراد من النسخ بالمعنى الأعم أي مطلق التحويل وإلّا فخلق الجن والإنس ليعبدون أي ليأمرهم بالعبادة كما في جملة من الأخبار ، وهو عبارة اخرى عن خلقهم للرحمة بعد امتثال الأمر.

وفيه أيضا قال (عليه‌السلام): ونسخ قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) قوله تعالى : (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ).

أقول : هذا من سنخ التخصص بالنسبة إلى الآية الأولى. ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) لفرض الخروج الموضوعي.

فما في بعض التفاسير من المنافاة بأنه لا وجه لتخصيص القضاء الحتم مغالطة بين التخصيص والتخصص. مع أنه لو كان القضاء الحتم تحت اختياره تعالى من كل جهة حدوثا وبقاء يصح التخصيص بالنسبة إليه أيضا ، وإنما أظهره تعالى بصورة التعميم والحتم لمصالح في ذلك.

وعن الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ـ الآية : إن المشركين قالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه

بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ أما هذا القرآن إلّا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه وهو كلام يناقض بعضه بعضا فأنزل الله تعالى هذه الآية ونزل أيضا : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ).

أقول : إن ما قاله المشركون نشأ من عدم فهمهم للقواعد العرفية الدائرة بينهم.

وفي الدر المنثور عن قتادة : «كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة ، وما يشاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه ؛ فقال الله تعالى يقص على نبيه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي».

أقول : هذه الرواية لا تناسب مقام النبوة وحفظه لما يوحى اليه كما عرفت سابقا.

وعن الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ـ الآية ـ : «نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اجعل لنا الصفا ذهبا ، وسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : يدل على ذلك ما تقدم من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا».

بحث كلامي :

استدل بعض المفسرين بالآية الشريفة (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) على إمكان النسخ ووقوعه في القرآن الكريم ، وذكرنا ان المراد من النسخ في الآية المباركة غير المعنى المصطلح فيه ، بل هو بالمعنى الأعم. ولتوضيح ذلك لا بد من البحث فيه ولو على سبيل الإجمال.

معنى النسخ :

النسخ في اللغة هو الإزالة ويلازمها النقل والإبطال بالوجوه والاعتبار

كما ذكرنا سابقا وبهذا المعنى كان معروفا في عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما بعده فكانوا يطلقونه على التخصيص والتقييد بل على كل قرينة دلت على الخلاف كما عرفت.

واما بحسب اصطلاح العلماء فالمشهور بينهم أنه بيان انتهاء أمد الحكم الثابت سابقا. وتوضيح ذلك أن كل حكم إذا لوحظ بالنسبة إلى حكم آخر يتصور على وجوه :

الأول : الخروج الموضوعي أي الاختلاف بين الحكمين من ناحية الموضوع ، كخروج السؤال والالتماس عن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [سورة المائدة ، الآية : ١] فإنهما ليسا من العقود في شيء واصطلح العلماء على هذا القسم بالتخصّص.

الثاني : الخروج الحكمي مع بقاء الموضوع كخروج البيع الخياري عن العموم المتقدم فإنه بيع مع أنه لا يجب الوفاء به ، واصطلح عليه بالتخصيص.

الثالث : بقاء الموضوع والحكم على حالهما ، ولكن جعل الحكم كان محدودا بحد معين في عالم الإنشاء ، والتشريع ، وإنشاء الحكم بصورة الدوام والاستمرار لمصلحة ما ، فإذا انتهت مدة الحكم أقيم حكم آخر مقامه وهذا هو النسخ ، والفرق بين القسمين الأخيرين أن التخصيص خروج فردي وتحديد في الأفراد والحالات ظاهرا ، والنسخ تحديد في الأزمان في الواقع لا ان يكون التحديد في ظاهر الدليل ، وإلّا كان تقييدا أو تخصيصا ، بل الحكم أنشئ بصورة الدوام ولكنه في عالم التشريع مقيد إلى وقت معين. ولذا قيد العلماء في التعريف الحكم بالثابت أي : الثابت في الواقع ، وأما الثابت في الخارج فلا يرتبط رفعه خارجا بالنسخ ، لأن فعلية كل حكم تدور مدار تحقق موضوعه في الخارج فإذا وجد يترتب عليه الحكم لا محالة ، وإذا ارتفع يرتفع الحكم الفعلي ، وهذا لا ربط له بالنسخ بوجه من الوجوه ، ولا إشكال فيه من أحد.

حقيقة النسخ والحكمة فيه :

لا ريب أن القوانين مطلقا ـ سواء كانت إلهية أو وضعية ـ تابعة للمصالح والمفاسد أي : أنها وضعت لتحقيق مصالح الإنسان ودرء المفاسد عنه ، فقد تقتضي المصلحة جعل القانون ثم تقتضي مصلحة أخرى رفعه أو تغييره ، وهذا مما تعارفت عليه القوانين الوضعية ، فإذا وضع الحاكم حكما لتنظيم العلاقات الفردية أو الاجتماعية ثم يرى عدم الفائدة في تطبيقه ، أو أنه لا يحقق المصالح المتوخاة من جعله يلغي ذلك القانون أو يصلحه بقانون آخر. ولم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف عليه بين الناس ، بل لنا أن نقول أن النسخ كسائر ما يعرض على القانون من العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد. والمجمل والمبين من لوازم جعل القانون بحيث لا يمكن تصويره إلّا ومعه أحد تلك اللوازم.

والنسخ بهذا المعنى معلوم عند كل أحد لا ينبغي الإشكال فيه وهو بالنسبة إلى القوانين الوضعية صحيح ، فإن الواضع الجاهل بحقيقة الحال لا يعرف متى ينتهي وقت العمل بالقانون الذي وضعه ومتى يتغير ، ولكن ذلك لا يصلح في النسخ بالنسبة إلى القوانين الإلهية فإنه يستلزم الجهل بالنسبة إلى الشارع المقدس ، وهو مستحيل ، فلا بد وأن يستند النسخ إليه سبحانه وتعالى بوجه صحيح ، وعمدة الوجوه المحتملة هي :

الأول : إبداء الحكم بصورة الدوام لمحض المصلحة في الإنشاء والتشريع ، ثم تتبدل المصلحة الظاهرية إلى مصلحة واقعية في المتعلق والمجعول تقتضي نسخ ما أنشئ أولا ، نظير التكاليف الامتحانية.

الثاني : كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحد معين في الواقع ولكن إنشاء الحكم بصورة الدوام لمصلحة في ذلك ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة يقتضيها الوقت. وإنما ظهر من الحكم الثاني ان الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حده ، وتبدل الأحكام بتبدل المصالح والمفاسد مما يشهد بصحته الوجدان والبرهان.

الثالث : كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات في الإنشاء

والمتعلق والدوام ، ثم تبدلت تلك المصلحة بأخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول ونسخه ، فيكون مثل التخصيص إلّا أنه تخصيص زماني كما عرفت.

الرابع : كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك وإنما أنشئ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان حكم الناسخ في ظرفه وجميع هذه الوجوه صحيحة في نسخ الله تعالى لأحكامه المتعالية ، ولا يستلزم منها أي نقص بالنسبة إليه عزوجل.

والحكمة في النسخ واضحة بعد ما عرفت ، لأنه من مظاهر ربوبيته تعالى العظمى ، فإنه عزوجل لم يكلف عباده إلّا بالتدريج والإمهال متلطفا بهم ، ومراعيا أحوالهم ، فكانت الشرايع الإلهية خطوات متصاعدة في رقي الإنسان ، وتربيته تربية تدريجية متكاملة ، فالنسخ يرجع إلى سياسة العباد والتعهد بهم ، كما أنه يظهر مقدار طاعة الإنسان ، فهو نوع من الامتحان ليميز الخبيث من الطيب. وهو بالأخرة من مظاهر علمه الأتم وحكمته البالغة ، فهو والبداء يتفقان في أنهما يكشفان عن علمه السابق إلّا أن الثاني مورده التكوينيات ، والأول مورده التشريعيات فهو عالم بحقائق الأمور ومحيط بكل شيء ولكن اقتضت حكمته البالغة أن تكون التكاليف على التعاقب والتدريج ، ومن ذلك يظهر إمكان النسخ ذاتا بالنسبة إليه تعالى ، وعدم الإشكال فيه بوجه من الوجوه.

النسخ ووقوعه :

ذكرنا أنّ النسخ واقع في القوانين الوضعية ، وأجمع المسلمون على وقوعه شرعا. وأدل دليل على إمكان الشيء ذاتا هو وقوعه ، فيمكن ادعاء إجماع العقلاء على جوازه في الجملة ، ولكن خالف في ذلك اليهود ، والنصارى ، وهم بين منكر لأصل جوازه ، أو منكر لوقوعه في شريعة من الشرايع ، واستدلوا على ذلك بأمرين :

الأول : أن النسخ يستلزم جهل الباري عزوجل ، أو عدم حكمته لأنّه إن علم سبحانه بأنّ المصلحة في الناسخ وأنّه يرفع المنسوخ فلا وجه

لإظهاره ، إذ لا مصلحة فيه ، وكل تشريع لم تكن فيه المصلحة يكون منافيا للحكمة. وإن لم يعلم بالناسخ حين إظهار المنسوخ يكون جهلا منه وهو ممتنع بالنسبة إليه.

والجواب : أنّ الله تعالى عالم بالناسخ والمنسوخ ولكن اقتضت المصلحة لإظهار المنسوخ بصورة الدوام ، ويكون الناسخ كاشفا عن انتهاء مدة حكم المنسوخ وقيام غيره مقامه ، لمصالح في الوضع والرفع تختلف باختلاف الجهات والمقتضيات كما عرفت.

والظاهر أنّ الإشكال المزبور نشأ من جعل النسخ من مراتب علمه تبارك وتعالى الذي هو عين الذات الأقدس ، وكل تغيير في العلم يستلزم التغيير والتبديل في الذات.

والحق أنّ النسخ من مراتب الإرادة التي هي عين فعله سبحانه وهو قابل للتغير والتبديل مع علمه تعالى بذلك ، ولا يلزم من ذلك أي محذور.

الثاني : إنّ رفع الحكم الواقع وإزالته لا يمكن فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه ، كما ثبت في الفلسفة.

والجواب : أنّ ذلك من قياس الإرادة الإلهية على إرادة الفاعل المختار الممكن ، وهو باطل لأن فعل الفاعل المختار إذا صدر عنه خرج عن تحت اختياره فلا يمكن تغييره عما وقع عليه. وأما الإرادة الإلهية فالمراد تحت إرادته حدوثا وبقاء ، وإيجادا وإفناء لا سيما بناء على ما ثبت في الفلسفة المتعالية أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث ، ولعلنا نتعرض لهذه المسألة في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وهناك وجوه أخرى استدلوا بها على إنكار النسخ إمكانا ووقوعا أغمضنا النظر عنها لوضوح بطلانها.

ويمكن أن نقول : إنّ الغاية من إنكار النسخ هي رد الشرايع السماوية لا سيما شريعة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والاحتفاظ لأنفسهم بالحركة الدينية ، وهذا ضرب من غرورهم وجهلهم ، والإيمان

ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر ، كما حكى الله تعالى في كتابه المجيد. وكيف يحق لهم الإنكار وهم يذعنون بأن شريعتهم نسخت الشرايع السابقة ، ثم كيف يمكن لهم ادعاء استحالة النسخ مع وقوعه في كتب العهدين وهو كثير نذكر منه موردين. أحدهما من العهد القديم ، والثاني من العهد الجديد.

الأول : ورد في الباب الثاني والعشرين من سفر التكوين أن الله تعالى أمر إبراهيم (عليه‌السلام) بذبح إسحاق (عليه‌السلام) ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل ، فقد ورد فيه : «ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه ، فناداه ملاك الرب من السماء وقال : ابراهيم ابراهيم فقال : ها أنا ذا. فقال : لا تمد يدك إلى الغلام ، ولا تفعل به شيئا ، لأني الآن علمت أنك خائف الله ، فلم تمسك ابنك وحيدك عني ، فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه». وكذلك ورد في الإصحاح التاسع من سفر التكوين : أن كل دابة كانت مباحا في شريعة نوح ثم نسخت في شريعة موسى ، فقد ورد فيه : «كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع».

الثاني : ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثامن من الرسالة العبرانية «فإذا قال جديدا عتق الأول ، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال». وذكر ياييل في تفسير هذه الآية : «هذا ظاهر جدا أنّ الله يريد أن ينسخ العتيق بالرسالة الجديدة الحسنى فلذلك يرفع المذهب الموسوي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه» إلى غير ذلك مما ذكروا من موارد النسخ التي تزيد عن ثلاثين موردا وإنما لم نتعرض لها خوفا من الإطالة.

شرائط النسخ :

يظهر من ما تقدم شروط النسخ : وهي ثلاثة :

الأول : أن يكون النسخ في الأحكام الشرعية ، فلا يقع في غيرها إلّا

بالعناية والمجاز ، كما سيأتي.

الثاني : أن يكون النسخ بدليل شرعي سواء كان من القرآن أو السنة أو الإجماع القطعي. فلا يكون من النسخ موارد ارتفاع الموضوع أو انتفاء الشرط.

الثالث : أن يكون دليل الناسخ ناظرا إلى الحكم المنسوخ ومعارضا له تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينهما ، فيكون كاشفا عن رفعه ، فليس كل تناف بين الدليلين أو الحكمين من النسخ ، ولذا وقع الخلاف في كثير من الآيات المباركة التي ادعي النسخ فيها ، وهي ليست كذلك بل من التقييد أو التخصيص ، وسيأتي البحث عن كل آية في محلها إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ الناسخ والمنسوخ يتصوران بحسب الاحتمالات العقلية ثلاثة أقسام : تقارنهما زمانا ، تقدم الناسخ على المنسوخ ، تقدم المنسوخ على الناسخ ، والمتعارف من النسخ ، والمنساق منه في الكتاب والسنة هو الأخير. والأولان من مجرد الإمكان الذاتي.

نسخ الشرايع :

ذكرنا أنّ النسخ ـ في الجملة ـ من لوازم جعل القانون ، سواء كان إلهيا أو وضعيا ، فلا يختص بشريعة دون أخرى فهو واقع في الشرايع السابقة كشريعة موسى (عليه‌السلام) ، وشريعة عيسى (عليه‌السلام) بلا فرق بين أن يكون في شريعة واحدة أو في لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة ، راجع كتب العهدين تجد الأمثلة على كلا القسمين ، وقد ذكرنا سابقا ما يدل على ذلك.

وأما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية ، وناسخة لجميعها ، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩] وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ

الْخاسِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨٥] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وقد ذكرنا أن الشرايع الإلهية خطوات متكاملة في سبيل رقي الإنسان ، وأنها مدارج كماله ، فهي تبتدئ من الأمور الفطرية المودعة في الإنسان الذي بها يتميز عن سائر المخلوقات حتّى تصل إلى أقصى درجات الكمال من جميع الجوانب ، فكل شريعة من الشرايع الإلهية خطوة من خطوات تلك التربية الحقيقية الإلهية حتّى تصل إلى الصرح الشامخ الإسلامي الذي يكون جامعا لجميع الحقائق والكمالات ، قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة ، قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : فانا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء» ، وفي حديث آخر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٥] وغيرها من الآيات المرغبة إلى اتباع ملة إبراهيم لأنها كالمادة القريبة للملة الإسلامية وهي متمم صورتها.

ولا بد أن يعلم أنّ النسخ في الشرائع الإلهية يقتصر على تلك الأحكام الشرعية التي تتبدل بحسب المصالح والظروف ، فيكون تبدل الأحكام في الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في شريعة الإسلام من الصحة والمرض ، والسفر والحضر. وفقد بعض الشروط ووجدانه ونحو ذلك.

فلا مجرى للنسخ في أصول الدين ، وكذا بالنسبة إلى الأحكام العقلية التي يحكم بحسنها جميع العقلاء والتي كشف عنها الشارع المقدس وكذلك بالنسبة إلى مهمات فروع الدين ـ كأصل الصّلاة والصوم والزكاة

ونحوها ـ ويدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة ، قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [سورة الشورى ، الآية : ١٣].

فما قيل : إنّ الأصل في كل شريعة أن تنسخ ما قبلها ، وقد نقل أنه : «لم تكن نبوة قط إلّا تناسخت». فإن أريد منه على نحو الجملة أو الإجمال فهو صحيح لا ريب فيه ، كما تقدم. وأما إذا أريد منه على نحو الكلية فهو باطل ، بل لنا أن نقول إنّ كل شريعة لاحقة مقرّرة للشريعة السابقة إلّا إذا علم بنسخها أو بطلانها.

أقسام النسخ :

قد ذكر العلماء للنسخ أنواعا وأقساما ، والمهم منها ما كان مرتبطا بأركانه وهي : المنسوخ ، والناسخ ـ ولا يخفى أن الناسخ هو الله تعالى ويطلق على الدليل مجازا ـ ومورد النسخ. ويظهر حكم بقية الأقسام ضمنا.

التقسيم الأول : ينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أنواع ثلاثة :

الأول : أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بمثله. وهذا لا إشكال فيه عقلا ، وواقع كثيرا ، كما يأتي في هذا الكتاب.

الثاني : أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بالسنة المعتبرة ، او الإجماع القطعي ، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه عقلا ونقلا ، وخالف في ذلك بعض العلماء فذهب إلى أن نسخ الكتاب الشريف لا يكون إلّا بمثله ، واستدل بقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٦] بتقريب أن الله تعالى أسند إتيان الناسخ إلى نفسه عزوجل وما يأتيه هو القرآن فقط. وهذا الاستدلال موهون جدا ، فإن السنة المقدسة أيضا من الله تعالى ، قال عزوجل : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم ، الآية : ٣].

الثالث : نسخ الحكم الثابت بالقرآن بالخبر الواحد ، وفي جوازه وعدمه قولان : نسب إلى المشهور الثاني ، والمسألة محررة في الأصول.

التقسيم الثاني : باعتبار المنسوخ وذكروا له حالتين.

الأولى : نسخ الحكم الثابت بعد حضور وقت العمل به ، وهو واقع بلا ريب ولا إشكال.

الثانية : نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به وفيه قولان : قول بعدم صحته ، لعدم الفائدة والمصلحة فيه ، وقول آخر بالصحة ، وهو المشهور بين الإمامية.

وأورد على القول الأول بأن المصالح والمفاسد لا يعلمها إلّا الله تعالى ولا ملزم أن يعلمها كل أحد ، مع إمكان دعوى مصلحة الامتحان والابتلاء فيه. نعم الغالب في النسخ أن يكون بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ، ولكن ليس ذلك من المقومات الذاتية له ، فالمدار على وجود المصلحة سواء كان بعد حضور وقت العمل ، أو في أثنائه ، أو قبله.

ثم إنّهم ذكروا أنّ الحكم الناسخ (تارة) يكون أخف من الحكم المنسوخ مثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] بعد تحريم الجماع ، والأكل والشرب بعد النوم في ليلة الصيام (وأخرى) يكون مساويا له مثل نسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة المقدسة. (وثالثة) : يكون أشد مثل نسخ حد الزنا بالحبس في البيت ، والتعنيف بالحد مائة جلدة والرجم.

ولا إشكال في الأقسام الثلاثة إمكانا ووقوعا ، بل يمكن تحقق النسخ بلا بدل وإيكال الأمر إلى البرائة العقلية. إن قيل : إن هذا مناف لظاهر قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). يقال : الحكم البتي العقلي يكون من (مثلها) لفرض أنها مقررة بالكتاب والسنة.

التقسيم الثالث : النسخ في القرآن ، وهو أنواع ثلاثة :

الأول : نسخ الحكم فقط ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه ، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم ، وهو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال تعالى : (يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [سورة المجادلة ، الآية : ١٢] ويأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء الله تعالى. وخالف في ذلك بعض المفسرين ، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وهو مردود عقلا ونقلا.

الثاني : نسخ التلاوة فقط والمشهور بين العامة وقوعه في القرآن الكريم. واستدلوا بآية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فقالوا : إن هذه الآية لم يعد لها وجود في القرآن ، مع أن حكمها ثابت.

والحق عدم وقوع هذا النوع من النسخ ، بل يعد ذلك من التحريف الذي أجمعت الإمامية على نفيه في القرآن زيادة ونقيصة ، وما استدلوا به أخبار آحاد معارضة بروايات أخرى كثيرة تدل على أن الآية ليست من القرآن ، مضافا إلى عدم وجود المصلحة فيه إن لم تكن فيه المفسدة.

الثالث : نسخ الحكم والتلاوة وذهب جمهور المفسرين إلى إمكانه واستدلوا على وقوعه بما ورد عن عائشة أنها قالت : «كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهن في ما يقرأ من القرآن».

ويرد عليه ما أورد على النوع السابق ، مع أنه لا يتصور معنى معقول للنسخ في هذا النوع ، وسوف نتعرض لمسألة تحريف القرآن في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

ثم إن سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها ، أو المنسوخ أربعة أقسام :

القسم الأول : السور التي لم يدخلها ناسخ ولا منسوخ كسورة الفاتحة ، ويوسف ، ويس ، والإخلاص وغيرها ، وقيل : إنها ثلاث وأربعون سورة.

القسم الثاني : السور التي فيها ناسخ ومنسوخ وهي : البقرة ، آل عمران ،

النساء ، المائدة وغيرها من السور التي عدّوها.

القسم الثالث : السور التي فيها ناسخ وليس فيها منسوخ وهي الفتح ، الحشر ، المنافقون وغيرها من السور التي ذكروها.

القسم الرابع : السور التي فيها منسوخ ، وليس فيها ناسخ وهي طه والرعد وغيرهما من السور التي عدّوها.

ولكن في هذا التفصيل خلاف بين المفسرين ، وسيأتي تفصيل كل ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

وقد حصر بعض المفسرين جميع الآيات المنسوخة في عشرين آية ومع ذلك فيه بحث.

بحث دلالي :

قد تكرر قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ) [في آيتي : ١٠٦ ـ ١٠٧] ويمكن أن يكون الوجه في ذلك تعدد منشأ النسخ والإزالة فأطلق تارة بالنسبة إلى الأعراض والاعتباريات ، وأخرى بالنسبة إلى الجواهر والذوات كما قالت اليهود بالنسبة إلى كل منهما ، فزعموا أن قدرته تعالى محدودة بالإحداث فقط فإذا حدث يخرج عن تحت قدرته جل شأنه ، كما حكى الله تعالى عنهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٤] فأبطل تعالى في المقام كل ذلك ، وحكم بأن الأشياء كلها تحت قدرته حدوثا وبقاء أما الحدوث فبقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأما البقاء فلقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ثم إنّ إطلاق الآية المباركة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يشمل جميع آياته عزوجل من حيث أحكامه تعالى ، ومن جهة جماله وجلاله ، فكل شيء له آية من الجواهر والأعراض في الأرضين والسموات ، وله عزوجل في ذلك كله إبداع وإنشاء ، فهي من الأمور التشكيكية شدة وضعفا ، كمية وكيفية ، فنسخه تعالى يشمل جميع ذلك كله

بحيث لأحد للناسخ ولا حد للمنسوخ ولا يحيط بكل واحد منهما إلّا هو تعالى ، وفي كل شيء له آية ، وكل شيء له فيه نسخ وتغيير وتبديل ، ولا معنى لما أثبته أكابر الفلاسفة من أن مناط الحاجة هو الإمكان حدوثا وبقاء إلّا هذا ، كما لا معنى لكونه تعالى مهيمنا على ما سواه ، على الإطلاق ، وإن عنده خزائن الأشياء كلها وما ينزلها إلّا بقدر معلوم إلّا هذا.

والنسخ قد يتعلق بتمام الآية أو الحكم كله ، وأخرى ببعض الجهات دون البعض ، والثاني لا ينافي بقاءها من سائر الجهات ، وسيأتي التفصيل في هذه المباحث في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى مكائد اليهود ومكرهم بالنسبة إلى المسلمين بيّن تعالى في الآية الأولى أن سبب ذلك هو الحسد ـ وخبث نفوسهم ـ الذي لا ينفك عنهم ، ثم وعد المسلمين بالنصر وأمرهم بالإيمان والعمل الصالح لئلا يتأثروا بشبه المنكرين وتشكيك الكافرين ، ثم ذكر جل شأنه بعض أمانيهم الفاسدة الأخرى وهو انحصار دخول الجنّة باليهود أو النّصارى ، وقد أبطل ذلك تعالى بالدليل العقلي وهو أن الجنّة لا تكون إلّا بالعمل الخالص ، بل هي نفس العمل الخالص فقطع أمانيهم بذلك.

التفسير

قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً). مادة (ود د) تأتي بمعنى المحبة وتستعمل في التمني أيضا ، لأنه مشتمل على المحبة ومتضمن لها. أي : تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يرجعوكم عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ، كما قال تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٣].

قوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ). الحسد تمني زوال نعمة عمن يستحقها سواء أرادها لنفسه أولا ، بخلاف الغبطة التي هي تمني مثل تلك النعمة للنفس من دون إرادة زوالها عن الغير. والأول مذموم ، والثاني محمود ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد»وفي الحديث القدسي : «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون».

والمعنى : أن حبهم لإضلالكم عن الإيمان ، وإرجاعكم إلى الكفر سببه الحسد الكائن في نفوسهم من بعد ظهور الحق بأن محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو النبي الموعود المبشّر به في كتبهم ، وإتمام الحجة عليهم بالآيات التي أتى بها. وفي قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) إيماء إلى أن ما يصدر عنهم إنما هو من سوء سرائرهم وفساد أخلاقهم لا أن يكون عن غبطة لحق ، أو غيرة عليه ، أو شبهة ونحو ذلك.

والآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي ، وهو أن كل طائفة إذا اعتنق أفرادها أمرا وصار ذلك الأمر مألوفا عندهم يحبون أن يكون غيرهم على طريقتهم ، لا سيما إذا وجد ما يخالف ذلك القديم فيتصدون له ويعارضونه بكل ما أمكنهم وينتهي ذلك إلى الحسد الكائن في النفوس فيكون ذلك من عند أنفسهم بعد ظهور الحق.

وفي قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إشارة إلى هذا الأمر الطبيعي المغروس في الفطرة في بداية ظهوره ، كما أن في قوله

تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) [سورة النساء ، الآية : ٨٩] إشارة إلى ذلك بنحو مطلق.

قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا). العفو : ترك المؤاخذة على الذنب. والصفح : إزالة أثره عن النفس ، والاعراض عن المذنب بصفحة الوجه ، وهما والتجاوز بمعنى واحد ، وهي من مكارم الأخلاق. أي عاملوا النّاس بمكارم الأخلاق من العفو والصفح والإغماض عنهم وحسن المعاشرة معهم حتّى يشتد أمركم ، وتغلب شوكتكم ، ويمكّنكم الله منهم فتعملوا فيهم بما هو الصّلاح.

وفي الآية المباركة إيماء إلى أن المسلمين مع قلتهم حين ذاك هم أصحاب القدرة والمنعة ، فإن العفو والصفح إنما يطلبان من القادر. وفيها البشارة بالغلبة وتأييدهم بالعناية الإلهية.

قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ). من القتل ، أو الطرد والجلاء ونحو ذلك. والمراد من الأمر الأعم من التشريعي وهو الجهاد والتكويني.

وفيه البشارة للمؤمنين بوعدهم التأييد والنصر والغلبة ، كما أن فيه التهديد للكافرين على أن لا يتعرضوا للمسلمين بسوء فإنهم في حصن الله تعالى.

والسياق يدل على أن الصفح والعفو محدود بزمان خاص بقرينة آيات أخرى وردت في الجهاد والقتال ، فهذه الآية المباركة منسوخة بتلك الآيات ، بل نفس هذه الآية الشريفة مغياة بغاية خاصة فلا معنى للنسخ الحقيقي حينئذ.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). تأكيد للوعد الذي وعده للمؤمنين.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). بعد أن أمرهم بالعفو والصفح ، والمداراة مع الأعداء ليأمنوا من كيدهم ظاهرا ويجلبوا قلوبهم إلى الإسلام واقعا أمرهم تعالى بأقوى أسباب الاتصال بينهم وبين الله عزّ

وجل والتمسك بأوثق عرى الإسلام ليحصل ارتباطهم مع خالقهم وهي الصّلاة ، فإنها من أقوى دعائم الدين وأبرز مظاهر إسلام المسلمين ، فيتنزه العبد بمناجاة الله تعالى عن إتيان الفواحش والمحرمات ، وأمرهم بإيتاء الزكاة ، وصلة الأغنياء للفقراء ، وفي ذلك من الوحدة والايتلاف ورفع التفرق والاختلاف ما لا يخفى ، وقد تقدم تفسير هذه الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ). أي : إنّ ما تعملونه في دار التكليف والعمل محفوظ عند الله فلا يرغب عامل عن العمل ، ولا يعتريه ريب فكل خير يصدر منكم تجدون جزاءه عند ربكم ، فالدعوة عامة ، والرحمة تامة ، والوفاء ثابت ، فإنه تعالى هو الذي يأخذ منكم ذلك ولا يتصور أن يضيع ما أخذه كما قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٨] وهذه الآيات المباركة وما في سياقها صريحة في ظهور نفس العمل من حيث هو في الدار الآخرة ، وفيها تأكيد لتثبيت النفوس على رؤية نفس العمل إلّا أنه يربّى كما يشاء الله تعالى وفي الحديث : «كما يربّي أحدكم فصيله». وسيأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). قد تكررت هذه الآية الشريفة في القرآن كثيرا ، وفي بعضها بدئت بالإعلام قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣] وهو يدل على علمه الإحاطي بالجزئيات ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ ، الآية : ٣] ومنه يظهر بطلان ما نسب إلى جمع من الفلاسفة من نفي علمه تعالى بالجزئيات لتوقف العلم بها على الآلات الجسمانية ، وهو تعالى منزه عنها فأرادوا التنزيه فوقعوا في التعطيل ، ومثل ذلك كثير ، وسنعود إلى تفصيل المقال في مباحث العلم إن شاء الله تعالى.

وفي الآية المباركة من الترغيب على إتيان الأعمال الصالحة ، والترهيب عن

المعصية ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). عطف على قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وفي الكلام اختصار بديع ، وإيجاز حسن. أي : قالت اليهود لن يدخل الجنّة إلّا من كان يهوديا ، وقالت النصارى كذلك في أنفسهم واشتراكهما في المقول أوجب جمعهما في القول وهذا زعم كل من يدعي الإعتقاد بدين وهو غافل عن أحكامه ، أو جاحد معاند.

وإنّما عبر سبحانه وتعالى بكلمة «هود» دون التعبير باليهود ، لأن هود قوم منهم يقولون لا يقبل الله توبة عبد إلّا من كان منهم ، ولذا خصهم بالذكر ، ولكن الظاهر أن جميع اليهود يقولون بذلك ، ولعل التعبير كان باعتبار منشأ الحدوث.

ولازم كلام كل من الطائفتين نفي دخول المسلمين الجنّة.

قوله تعالى : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ). أي أنّ قولهم ذلك من مجرد أمنياتهم التي لا تتجاوز عن الخيال ولا واقع لها بوجه ، والمقام من مصاديق قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٨] وهذه من جملة تلك الأماني.

قوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). تكذيب لهم ومطالبتهم بالبرهان على دعواهم ، وهذا شأن كل دعوى فإنّها لا تقبل إلّا مع إقامة برهان على صدقها ، وإلّا كانت دعوى كاذبة.

قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). بلى : كلمة رد لما زعموه ، وتقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٨٢].

مادة (س ل م) تدل على السلامة من العيب والنقص والخلوص بلا فرق بين كون العيب والنقص من الجسمانيات أو المعنويات ، في الدنيا أو في الآخرة ، قال تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة

الأنعام ، الآية : ١٢٧] ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٩]. واستعمالات هذه المادة كثيرة بهيئات مختلفة ، ومنها الإسلام لخلوصها ، وتخليصه للمعتقد به عن المعايب والنواقص المعنوية.

والمراد بأسلم في المقام التوجه والخضوع ، والصدق والتخليص كما قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في معنى الخلوص : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

والوجه مستقبل كل شيء وأشرفه ، وطريق الوصول إليه ، ويطلق على الذات أيضا. والمراد هنا عمل الجوانح ، وأعمال الجوارح ، فيكون المعنى من أخلص دينه لله تعالى اعتقادا وعملا وهو محسن في عمله ، فيكون المناط كله في السعادة الأبدية هو الإيمان والعمل ، وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم في مواضع متعددة بعبارات مختلفة نفيا واثباتا ونظير هذه الآية المباركة قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٥].

قوله تعالى : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة ، فإن من أخلص وجهه لله اعتقادا وعملا وأحسن في عمله له أجره ولا خوف عليهم من المتوقع ، ولا يحزنون على الواقع ، وذلك من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع. وفي قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِ) دلالة على أن الأجر محفوظ عن التغيير والتبديل ، كقوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [سورة النحل ، الآية : ٩٦] ، مضافا إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك.

ثم إنّ إسلام الوجه لله عزوجل بالتوجه اليه ، وسلوك طرق مرضاته والخضوع والانقياد له تعالى ، والإقبال عليه ، وصرف النظر عن غيره والمواظبة على الإخلاص يجعل الفاعل في المحل الأعلى من الكمالات المعنوية ، ويجلو جوهر النفس عن الرين والفساد ، ويمنع عن استيلاء الأغيار عليها ، فيفتح له باب إلى الغيب المحجوب فيرى ما في نفسه من

المساوئ والعيوب. وتقدم أن النفس فاعل للعمل ، والعمل مؤثر في النفس ، ويأتي في آيات أخرى مزيد بيان لذلك.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ). أي : ادعى كل فريق أن صاحبه ليس على شيء. وذلك أن أصحاب كل نحلة ودين لا يرون غيرهم على حق ، وهذا الاختلاف قديم جدا يرجع إلى أوائل الخليقة ومنذ حدوث الاجتماع الإنساني ، فكل طائفة ترمي الطائفة الأخرى بالباطل ، بل نرى ذلك بين المذاهب المختلفة من دين واحد فضلا عن الأديان المختلفة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

ولو تأملنا في المنشأ الحقيقي لذلك فإنه لا يرجع إلّا إلى الوهم والخيال ، وطرح العقل المؤيد بالشرع ، وتغليب الهوى مع أن الحق واحد في جميع الأديان الإلهية التي يجمعها أنها من الله الواحد وكتاب منزل منه تعالى ، وأنه لا يوجد دين سابق إلّا ويبشر بالدين اللاحق ، كما أن الأخير متمم للسابق ، وما عدا ذلك فهو من الوهم والخيال ، فتراهم يكفرون بأنبياء الله تعالى ورسله وكتبه وعليه جرت طريقتهم حتّى صار يعد من الأمور الاجتماعية بين البشر وكم كان جديرا بالإنسان أن يرجع إلى فطرته ، ويهتدي بهدي عقله وينبذ الاختلاف والعناد حتّى يرى ما كان يجلبه من الخير والصلاح ولم يصل إلى ما وصل إليه من الانحطاط والإفتراق ، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.

قوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ). أي : أنّهم قالوا ذلك وهم يتلون التوراة والإنجيل وفيهما ما يأمرهم بخلاف ما يقولون فإن أحد الكتابين يدعو إلى الآخر ، وكلاهما يدعوان إلى القرآن كما أن الأخير يدعو إليهما ، فما بالهم ينقضون كتابهم ولا يعملون بدينهم وفي ذلك من التوبيخ ما لا يخفى.

قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ). أي : إنّ

الذين لا يعلمون من الحق شيئا يقولون مثل قولهم سواء كانوا من المشركين أو الكفار ، بل يشمل كل من لا يعلم بالحق ولا يعمل به وغلب عليه هواه ولو كان من المسلمين.

إن قيل : إنّ الآية المباركة تدل على ذم التقليد ، وقد جرت سيرة المسلمين عليه خلفا عن سلف. (يقال) التقليد تارة يكون عن حجة معتبرة وبحجة كذلك وأخرى لا يكون كذلك والثاني باطل ومذموم دون الأول.

قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). أي أنّ الجميع يرجع إليه وينتهي الحكم إليه ، فهو الحاكم بينكم في هذا الاختلاف ، ويحكم لمن كان منكم على الصراط المستقيم.

بحث روائي :

في الدر المنثور في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ الآية أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويحرّض عليه كفار قريش في شعره ، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يؤذون النبي وأصحابه أشد الأذى ، فأمر الله تعالى نبيّه بالصبر على ذلك والعفو عنهم ، وفيهم أنزلت (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

وفيه أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ـ الآية «نزلت في يهود أهل المدينة ، ونصارى أهل نجران ، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى (عليه‌السلام) والإنجيل ، وقالت لهم النصارى : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بموسى (عليه‌السلام) والتوراة فأنزل الله تعالى هذه الآية».

وقريب من ذلك ما رواه في المجموع عن ابن عباس ، وما روي عن

الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام).

أقول : مع الغض عن أسانيد الأحاديث لا يمكن الاعتماد على متونها ، لأن النصارى مطلقا يعترفون بالتوراة ، ونبوة موسى (عليه‌السلام) ، لأنّ الإنجيل متمم للتوراة ، ومشتمل على كثير من أحكامها.

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : العفو والصفح عن المذنبين والصبر على أذى الأعداء وانتظار الفرصة لتهيئة العدة للغلبة عليهم.

الثاني : لا يمكن أن تتحقق الغلبة على الأعداء ما لم يوثق عرى الإيمان بين العبد وبين الله تعالى ، ثم توثيق الروابط بين الأغنياء والفقراء وتحقق الوحدة الاجتماعية ليكونوا يدا واحدة على الأعداء.

الثالث : العلم بأنّ ما يصدر من العبد من خير مذخور عند الله تعالى ، وأن جزاء عمله حاضر لديه عزوجل ، مما يوجب سكون النفس في العزيمة فلا يؤثر فيه تشكيك المبطلين وشبه المفسدين. ويزيد في ذلك شهود الله تعالى لأعمال العباد ، ومراقبته لعبيده ، وربوبيته العظمى لهم مما يجعل الإنسان مواظبا على ما يصدر منه من الأعمال والأقوال.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات والفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة الله تعالى وطاعته عزوجل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما ، والآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا والسنّة فوق حد التواتر بين المسلمين ، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل والفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل والحقيقة ، دون مجرد التسمية فقط ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ

وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٤].

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى مثالب اليهود والنصارى بيّن تعالى في هذه الآية المباركة بعض ما وقع منهم من الظلم النوعي ـ بأن منعوا المساجد أن يتعبد فيها ـ ثم أوعدهم الله تعالى بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ، وردّ عليهم بأنه لا يحده مكان ولا جهة فيجوز لكل إنسان أن يعبد الله تعالى في أي مكان واية جهة فإن الله تعالى واسع المغفرة عليم بطاعة عباده.

التفسير

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). المساجد هي الأماكن المحررة للعبادة والسجود له تعالى ، بل يمكن أن يراد بها ، مضافا إلى ذلك عباد الله المخلصين الذين أفنوا جميع شؤونهم وحيثياتهم في طاعة الله تعالى وعبادته بكل معنى العبودية فصاروا من مظاهر آيات الله كالمساجد وعبادته ، فيكون المراد من منعهم عن ذكر اسم الله تعالى السعي في تشتت حالهم ، وتفرق بالهم ، وهجرانهم الأهل والديار ، وتشديد الرد عليهم ليسكتوا عن إظهار الحق ، وإزالة الباطل فتاهوا في الأرض بلا سند ولا ذنب غير أنهم يقولون (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣١] بل لا يبعد التعدي إلى مطلق ما أعد لذلك كعرفات والمشعر الحرام ومنى.

ووجه كونه أظلم من غيره ، لأنه جمع في المساجد حق الله تعالى

وحق الناس ، فوقع الظلم بالنسبة إلى الحقين فيكون المنع عن ذكر اسمه فيها ظلما نوعيا ، وتترتب عليه المفاسد فيكون أظلم.

والمنع من ذكر اسم الله تعالى فيها أعم من أن يكون بالمباشرة أو التسبيب ورب سبب أقوى من المباشر.

والمراد بالذكر الأعم مما كان باللسان ، أو القلب ، أو الجوارح كالصّلاة مثلا ، ويشمل كل عبادة لله تعالى ولو كانت بمجرد الإمساك كالصوم في المسجد مثلا ، فإن الجميع داخل تحت عنوان ذكر الله تعالى إلّا أن ظهوره في البعض أكثر من الآخر ، وذلك لا ينافي ظهور الإطلاق. كما أن المراد من اسمه تعالى الأعم أي كل ما تصح به الإشارة إليه عزوجل وكان له تعالى.

قوله تعالى : (وَسَعى فِي خَرابِها). المراد به إما تهديمها كما وقع من بعض العتاة والجبابرة ، أو تعطيلها عن إقامة الشعائر فيها ، وحكم الآية المباركة عام لا يختص بفرد خاص. وما ورد في شأن النزول فقد ذكرنا مرارا أنه من باب التطبيق. وللمفسرين في المقام تفاسير غريبة لا يخفى بطلان بعضها.

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ). يمكن أن يراد بدخولهم خائفين الإخبار عن مستقبل حالهم بعد استيلاء المسلمين ، وتسلطهم عليهم ، وطردهم عنها ، كما في فتح مكة ، وفي الآية المباركة إشارة إلى منعهم عن دخول المساجد. أو أن يراد به الإخبار عن حالهم الفعلي من أنهم في خوف واضطراب أي : من صدر منه هذا الظلم يخاف على نفسه في الجملة ولو كان كافرا ، لأنه يرى نفسه محاربا له تعالى مباشرة. ويحتمل أن يكون تعجيبا منهم ، وتوبيخا لهم أي : أنه ما كان لهم إلّا أن يدخلوها خاشعين لله تعالى خائفين من عقابه تعالى لا أن يدخلوها مفسدين مخربين فانها وضعت لعبادة الله تعالى.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). الخزي بمعنى الإهانة والاستخفاف والانكسار ، وقد استعملت

هذه المادة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا والآخرة قال تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [سورة التوبة ، الآية : ٦٣] ، وقال تعالى : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [سورة فصلت ، الآية : ١٦] ، وقال تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) [سورة الحج ، الآية : ٩] وقد ظهر خزيهم في عام الفتح بكسر أصنامهم ، وخذلانهم ، وتسفيه أحلامهم ، وتشتت دولتهم ، ولحوقهم الذل والهوان إلى غير ذلك مما أعد الله تعالى للظالمين فكيف بمن كان أظلم.

ولهم في الآخرة عذاب عظيم بما أعده الله تعالى للمحاربين مع الله ورسوله ومنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وما يترتب عليه من الفساد فالآية من القضايا العقلية.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). المشرق موضع الشروق ، والمغرب موضع الغروب ، وهما أمران إضافيان يختلفان باختلاف حركة المنظومة الشمسية ، فتحقق المشارق والمغارب لا محالة ، ولذا قال تعالى في آية أخرى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [سورة المعارج ، الآية : ٤٠]. وأما الاعتدالي منهما اثنان قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [سورة الرحمن ، الآية : ١٧] ، والكل ملكه ، ومن مظاهر آياته تعالى.

وإنما خص جل شأنه المغرب والمشرق بأنهما ملكه عزوجل ، لأنه يستلزم مالكيته تعالى لجميع الجهات ملكية حقيقية ، فإن الكل تحت سلطانه وربوبيته فالمتوجه إليهما متوجه إليه تعالى.

قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). المراد بالتولي هنا الإقبال والتوجه اليه عزوجل. وقد تقدم معنى الوجه في قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٤]. والمراد به في المقام التوجه.

و «ثمّ» تستعمل في المحل البعيد سواء كان بعيدا عن العقول والأفكار ، أو بعيدا مكانيا ، ويدل على الأول قول الصادق (عليه‌السلام): «من تعاطى ثمّ هلك» حيث يدل على خطر التفكير في ذات الله تعالى ، وعلى الثاني قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٠] وكذا المقام.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). متعلق وسع يصح أن يكون كل ما يضاف إليه عزوجل من ملكه ، وعلمه ، وحكمته ، وقدرته وإحاطته وتدبيره ، قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥] ، وقال تعالى : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٠] ، وقال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٦] ، وقد ذكر (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) في عدة آيات ، ولعل هذا التعبير في الآيات المباركة عبارة عن عدم التناهي في جميع صفات كماله وجماله كما أثبته الفلاسفة المتألهون. أي : ان الله تعالى واسع في رحمته ولطفه بالمتوجه إليه في عبادته.

ومفاد الآية المباركة قاعدة كلية وهي أنّ الله تعالى لا يختص بمكان ولا تخصه جهة خاصة وهو منزه عن أي جهة ومكان ، فهو واسع لا يحده مكان إلّا أن حكمته المتعالية اقتضت لمصالح أن يخص بعض الأمكنة بالاستقبال في موارد خاصة في الشريعة المقدسة وفي غيرها يرجع إلى عموم هذه الآية الشريفة ، فما ورد في تفسير الآية المباركة أنها نزلت في صلاة النافلة إنما هو من باب التطبيق ، ومما يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة ، فإن سياقها يدل على توسيع موضوع التوجه اليه عزوجل ، وأنه غير محدود بحد ، أو مكان خاص بل المناط كله هو التوجه إليه تعالى وأما سائر الخصوصيات ـ من المكان والزمان ونحوهما ـ فهي مطلوب آخر ربما يسقط لعذر أو ضرورة ويظهر من ذلك وجه ارتباطها بالآية السابقة ، فإنه تعالى بعد أن ذم من منع المساجد أن يذكر فيها اسمه ذكر تعالى أنه لا يحده مكان وجهة خاصة.

بحث روائي :

عن القمي في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) إنما نزلت في قريش حين منعوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «دخول مكة» ورواه في المجمع عن الصادق (عليه‌السلام).

أقول : هذا الحديث مما يدل على إطلاق المسجد على مكة كما في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [سورة الإسراء ، الآية : ١] مع الاتفاق على أن المعراج كان من بيت أم هاني. والظاهر أنه من باب التطبيق لا التخصيص.

وفي المجمع عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) قال : «إنه أراد جميع الأرض ، لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : جعلت لي الأرض مسجدا ، وترابها طهورا».

أقول : هذا تنزيل صحيح ، لأن كل من منع من طاعة الله تعالى وعبادته بأي وجه كان يدخل في حكم الآية وإن لم يكن داخلا في منطوقها.

وعن ابن عباس ومجاهد في الآية المتقدمة أنها «نزلت في الروم لأنهم غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابها حتّى كانت أيام عمر فأظهر الله عليهم المسلمين ، وصاروا لا يدخلونها إلّا خائفين».

أقول : إن صح الحديث يكون من أحد موارد التطبيق.

وعن قتادة والسدي إنها نزلت في بختنصّر وأصحابه «غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم».

أقول : على فرض صحة السند يكون متنه مخالفا لما هو المعلوم من التواريخ من تأخر النصارى عن بختنصر بقرون عديدة ، فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الأحاديث.

وعن القمي عن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) «أنها نزلت في صلاة النافلة

تصليها حيث توجهت إذا كنت في سفر. وأما الفرائض فقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) يعني الفرائض لا يصليها إلّا إلى القبلة».

أقول : صدر الحديث ورد في بيان بعض المصاديق ، كما سيأتي في البحث الفقهي ، وأما ذيل الحديث فهو في صلاة الفريضة في حال الإختيار ، وأما حال الاضطرار والتحيّر فلها أحكام خاصة مذكورة في الفقه ، فلا وجه لاحتمال الناسخية والمنسوخية بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] ، لاختلاف موردهما بالنصوص المستفيضة ، بل المتواترة التي هي شارحة للقرآن.

وفي الدر المنثور عن مجاهد لما نزلت (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر ، الآية : ٦٠]. قالوا : إلى أين؟ فأنزلت : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

أقول : هذا أيضا من أحد موارد التطبيق.

وعن الواحدي عن ابن عباس : «هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)».

أقول : تقدم أنه لا وجه لاحتمال النسخ ، لاختلاف المورد فلا بد من طرح هذا الخبر.

بحث فقهي :

قد يستدل بقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) على عدم جواز دخول الكفار والمشركين في المساجد بتقريب أنه إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يمكّنون الكافر حينئذ من دخولها.

والصحيح أنّ الآية الشريفة لوحدها لا تدل على ذلك إلّا بضميمة

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٨] وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان» بعد الإجماع على عدم الفرق بين المشرك وغيره من الكافرين وكذا سائر المساجد من هذه الجهة كما يأتي في قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣١].

ثم إنّه قد يتمسك بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) على جواز التوجه إلى غير القبلة في عدة موارد وقد ذكرنا ان ذلك من باب التطبيق ، وهي :

الأول : جواز صلاة النافلة على الدابة أينما توجهت ، كما في صحيح حريز عن أبي جعفر (عليه‌السلام): «أنزل الله هذه الآية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) في التطوع خاصة ، وصلّى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إيماء على راحلته أينما توجهت به ، حيث خرج إلى خيبر وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره». وروى مسلم عن ابن عمر : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه» ورواه في الدر المنثور عن جماعة.

الثاني : صحة صلاة الخوف والتحير ، كما روى زرارة عن الصادق (عليه‌السلام): «لا يدور إلى القبلة» وروى الترمذي عن ابن ربيعة : «كنّا مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ؛ فصلّى كل رجل منّا على حياله ، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنزلت : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

الثالث : جواز سجود التلاوة لغير القبلة ، رواه الصدوق في العلل عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام): «يسجد حيث توجهت دابته».

الرابع : عدم قضاء صلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة فقد روى في الفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) ، وتمسك الجمهور برواية ابن ربيعة المتقدمة ، وفيه تفصيل ذكرناه في الفقه.

وهناك موارد أخرى تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام) ومن شاء فليرجع اليه.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

ذكر سبحانه وتعالى من قبائح عقائدهم ومساويها حيث نسبوا الولد إليه تعالى وردّ الله عزوجل عليهم متدرّجا بحسب فهم المخاطبين فحكم أولا أنه غني مطلق لا يحتاج إلى شيء من خلقه ، وثانيا أن خلقه خاضع لإرادته ، وثالثا أنه خلق الخلق من غير مثال ، فلا يعقل نسبة الولد اليه.

التفسير

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). الاتخاذ من الأخذ ، وضمّن هنا معنى الجعل والإحداث نظير قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٨] والقائل بذلك اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب كما حكى الله تعالى عنهم في كتابه المجيد ، قال تعالى : (قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى : (قالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠٠] ، بل قد صدر عن غيرهم من أصحاب الديانات ، حيث جعلوا زعماء ديانتهم أبناء الله تعالى مولودين منه سبحانه وتعالى ، وذلك لأنهم يرون أن ذلك كمال لمن يعظمونه ، وهذا من غاية جهلهم حيث يزعمون أن كل ما يكون كمالا لهم يكون كمالا لله تعالى ، كما قال علي (عليه‌السلام) : «ولعل نمل الصفا يزعم أن لله زبانيتين».

قوله تعالى : (سُبْحانَهُ). من التسبيح وهو التنزيه المشوب بالعظمة والتعجب ، قولا ، وفعلا ، قلبا وتسخيرا ، قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ

السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤]. وسبحان مصدر كغفران لا يستعمل إلّا مضافا فإن أصله «سبحته سبحانا» فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى ضمير المفعول وقام مقامه. ويستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عزوجل ، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية.

قوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). شروع في الرد عليهم فحكم بأنه غني لا يحتاج إلى أحد ، وأنّ كل ما في السموات والأرض مملوك له بالإيجاد والاختراع ، ومن كان كذلك لا يتصور الولد بالنسبة اليه. هذا إذا كان المراد بالولد معناه اللغوي العرفي أي النسبي ، منه ، وأما إذا كان المراد الاتخاذي منه ـ كما هو الظاهر من لفظ الاتخاذ في جملة من الآيات المباركة المشتملة على عنوان (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [سورة يونس ، الآية : ٦٨] ، وقال تعالى : (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٠] فيكون مثل قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٥] ، ونظير قوله تعالى : (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ـ فيمكن أن تصح النسبة حينئذ ، إذ يكفي فيها أدنى مناسبة فضلا عن أعلاها. وهو باطل أيضا لأن مناط اتخاذ الولد الحاجة وهو تعالى منزه عنها ، لأنه الكمال الأتم والغني المطلق فلا يعقل الاحتياج بالنسبة إليه ، وهذا الوجه يجري في القسم الأول أيضا ، مضافا إلى ما سيذكره سبحانه وتعالى في ما بعد.

قوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ). القنوت بمعنى الدعاء والعبادة والخضوع ومرجع الكل إلى الأخير. ولكن للخضوع مظاهر مختلفة أي : ان الكل خاضع لإرادته ومنقاد لسلطانه ، وذلك ينافي أن يتخذ ولدا ، لأن المعبودية المطلقة مناط للاستغناء المطلق وولادة شيء من شيء مناط الاحتياج ، وهما لا يجتمعان ، فجميع ما سواه تعالى يشهد له بتنزهه عن الولد ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤].

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). بديع مبالغة في الإبداع ، وهو إيجاد الشيء بصورة مخترعة بلا مادة ، ولا آلة ، ولا مكان ولا سبق مثال وهو مختص به عزوجل. وبالنسبة إلى غيره فهو مطلق إحداث الشيء من غير سبق الوجود ، فإن كان في الدين فهو البدعة المحرمة ، لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النّار».

ثم إنّ بداعته تعالى وكونه بديع السموات والأرض لا يختص بنوع دون نوع ، بل يشمل جميع الموجودات بأقسام جواهرها ـ من الأنواع والأصناف ـ وأنواع أعراضها وأوصافها ، ففي كل ذات من الذوات له تعالى بدائع كثيرة في أصل ذاته ، وعوارضها المحفوفة بها التي ربما لا تحصى بعد ، ولا حصر لذلك ، فيرجع هذا الاسم فيه عزوجل إلى ربوبيته العظمى المطلقة في كل ذرات الوجودات ، وكلياتها وأجزائها وجزئياتها.

وجملة : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لم تذكر في القرآن إلّا في موردين ، وكلاهما في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى ، أحدهما هنا ، والثاني قوله تعالى ؛ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠١] ، وهو برهان متين جدا ، فإنه من كان مبدعا للسموات والأرض وخالقا لهما وموجدا لجميع ما فيهما يمتنع انتساب الولد اليه ، إذ لم يوجد من مخلوقاته مجانس له حتّى ينسب إليه تعالى.

قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). مادة (ق ض ي) قد ذكر لهما معان ، أنهاها بعض اللغويين إلى عشرة ، وتبعهم بعض المفسرين. ويمكن إرجاع بعضها إلى بعض ، وقد خلط فيها بين الموضوع له والمستعمل فيه ، بل خلط بين دواعي الاستعمال وتعدد المستعمل فيه ، ولعل المعنى الواحد الساري في الجميع : الفعل ، بالمعنى العام الشامل للحتم ، والحكم ونحوهما ، فقضاؤه حكم وحتم وفعل ، هذا بالنسبة إلى مطلق القضاء الذي هو من فعل الله تعالى. وأما ما هو في مقابل

القدر ، فقال الصادق (عليه‌السلام): «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل. فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر».

أقول : هذه كلها من فعل الله تعالى ومطابقة للبراهين العقلية كما سيأتي التفصيل في محله إن شاء الله تعالى.

والأمر : الشيء كما قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢] وجملة (كُنْ فَيَكُونُ) تامة لا تحتاج إلى الخبر ، وهي كناية عن إرادته تعالى والمراد بالأمر «كن» هو الإيجاد ، ولا تعبير أليق من هذا التعبير الذي يكون أقرب إلى الفهم ، وإلّا فليس في البين صوت يقرع ، ولا نداء يسمع ، بل كلامه تعالى عين إرادته وإرادته عين فعله. والسر في هذا التعبير ـ المعبر عنه في الاصطلاح بالأمر التكويني ـ هو إعلام النّاس نهاية السرعة في الخلق ، وعدم انفكاك المعلول عن العلة التامة من دون تقدم وتأخر ، لا زماني ـ لأن إرادته فعله ـ ولا رتبي إلّا في فرض العقل. وقوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ليس من القضايا التعليقية المحضة ، بل هي من القضايا التي سيقت لبيان تحقق الموضوع ، كقوله «الشمس طالعة فالنهار موجود» فتكون قضية «إذا طلعت الشمس فالنهار موجود» بيانا للقضية الأولى.

وأشار سبحانه في هذه الآية المباركة إلى كفاية الأمر في تحقق شيء ، وأنه إذا أراد شيئا يوجد ذلك الشيء من دون تهيئة مقدمات ، وتسبيب أسباب فالأشياء طوع إرادته ، فالتوالد محال من جانبه.

ثم إنّه قد وقع قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) بعد القضاء تارة قال تعالى : (سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة مريم ، الآية : ٣٥] ، وبعد الإرادة أخرى ، قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢] ، والمراد بالقضاء هو القضاء المبرم ، والإرادة هو الفعل. كما أن المراد بالأمر (كن) هو الإيجاد ، كما مر هذا في غير الأمور التي جرت عادته تعالى فيها على تهيئة الأسباب وتقديم

المقدمات التي بينها التقدم والتأخر الزماني ، والسبق واللحوق الذاتي ، كنفس الزمان وما يكون مثله في الحصول التدريجي ، إذ كل آن من الزمان الذي هو بين العدمين مورد إرادته تعالى ، ومورد قوله (كُنْ فَيَكُونُ) وكذا جميع الممكنات من المتدرجات وغيرها ، بناء على ما هو الحق من أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث ، ففي كل آن له تعالى شأن جديد ، وفعل حادث في جميع مخلوقاته ، فلا يشغله شأن عن شأن بل شؤونه غير متناهية بالنسبة إلى خلقه.

بحث روائي :

في الكافي عن هشام الجواليقي : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول سبحان الله ما يعني به؟ قال (عليه‌السلام) تنزيهه».

أقول : أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به ، وهذا هو معناه العرفي واللغوي أيضا.

وفي الكافي وبصائر الدرجات عن سدير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال (عليه‌السلام): «إن الله ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السموات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سموات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

أقول : يمكن أن يكون الاستدلال كناية عن أنه إذا لم يكن ثمّ شيء غير الماء فلا شيء حتّى يوجد الأشياء على مثاله ، مع أن الماء لم يعلم أن المراد به هو الماء الجسم الخارجي ، أو أنه كناية عن إظهار ملكه وسعة رحمته بالماء الذي هو مادة الحياة فيعم المجردات ، وسيأتي تتمة الكلام عند ذكر الآية الشريفة.

وفي الكافي والتوحيد عن صفوان بن يحيى : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال (عليه‌السلام) : الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل. وأما

من الله تعالى فإرادته للفعل إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يروي ، ولا يهتم ، ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همهمة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما أنه لا كيف له».

أقول : الروايات في بيان أن الإرادة فيه تعالى صفة الفعل كثيرة جدا. كما أن الفرق بين صفة الفعل ، وصفة الذات واضح وقد أشرنا إلى ذلك في سورة الحمد.

وأما قوله (عليه‌السلام) «بلا لفظ ولا نطق ـ إلخ» فهو كناية عن نهاية السرعة في الخلق والإيجاد كما ورد في رواية أخرى : «كن منه تعالى صنع وما يكون منه هو المصنوع».

بحث كلامي :

اتفق المتكلمون على عدم المجانسة بين الله تعالى وبين مخلوقاته واستدلوا عليه بأدلة كثيرة منها قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكما وردت فيه روايات متواترة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ، وهو المستفاد من أقوال أكابر محققي الفلاسفة الإلهيين. وخلاصة ما ذكروه في ذلك يرجع إلى ما ورد عن علي (عليه‌السلام): «بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة» ولا يصح أن ينسب إليهم القول بالسنخية والمجانسة ، فإنه لا يمكن أن يلتزموا بلوازمها ، مع جلالة مقامهم ، وقد تقدم بعض الكلام في آخر سورة الحمد. وعلى هذا فينتفي موضوع الولد له تعالى رأسا ، لأنّه مستلزم للسنخية والمجانسة ، وهي ممتنعة بالنسبة إليه.

فالآية المباركة تدل على امتناع المدّعى بوجوه :

الأول : قوله تعالى : (سُبْحانَهُ) فإنه دليل إجمالي على تنزهه عن جميع ما لا يليق به ، فإنه أحدي الذات ، واحدي الصفات ليس كمثله شيء. كما ورد في سورة الإخلاص ، فقد روي أنه جاء نفر من اليهود إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقالوا : «انسب لنا ربك؟ فأنزل الله

تعالى سورة الإخلاص».

الثاني : قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه يدل على أن مناط اتخاذ الولد هو الحاجة وبعد كون ما سواه ملكا له كيف يعقل الحاجة بالنسبة إليه تعالى حتّى يتخذ ولدا؟!! الثالث : قوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي خاضعون لربوبيته وعظمته ولا يعقل نسبة الولد اليه مع شهادة ما سواه على تنزيهه ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤].

الرابع : قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهذا دليل تفصيلي على نفي المدعى ، بيانه : أنه تعالى مبدع الخلق ومبدؤه بلا سبق مثال ونظير ، ولا احتياج الى روية وتفكير ، ولا تعب ، ولا لغوب فهو مستغن عن الغير ، فلا يحتاج إلى الولد.

الخامس : قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) دليل آخر تفصيلي لنفي الولد شرحه في قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠١] ، وذلك لأن الولدية بحسب نظام التكوين تتوقف على صاحبة وجرت سنة الله تعالى في خلقه على هذا النظام ، فإذا لم تكن له صاحبة كيف يعقل الولد له عزوجل ، فجميع هذه الآية المباركة متدرجة على حسب فهم المخاطبين.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ

عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

أورد سبحانه وتعالى في ما تقدم من الآيات المباركة بعض شبه الكافرين والمنكرين لوحدانيته وقدرته تعالى ، وأقام الحجة على بطلان دعاويهم. وفي هذه الآيات المباركة يذكر سبحانه المنكرين لنبوة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غرورا ، وعنادا ، ويقيم الحجة عليهم ، فذكر أولا من أنكر نبوته بكثرة السؤال عنادا واستخفافا بدين الله تعالى ، ثم وجّه الكلام إلى الكفار فأمرهم بالإيمان وان هدى الله أحق ان يتبع وذكر أن طائفة منهم يرجى الإيمان منهم وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم ذكّرهم بنعمه وما يترتب على أفعالهم في يوم الآخرة.

التفسير

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ). لو لا كلمة تستعمل على وجهين :

أحدهما : امتناع الشيء لأجل الغير مثل قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سورة سبأ ، الآية : ٣١] ويلزمه حذف الخبر ، لقيام الجواب مقامه.

الثاني : بمعنى «هلا» للعرض والطلب ، ويتعقبه الفعل كقوله تعالى : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [سورة طه ، الآية : ١٣٤] ، والفارق بينهما القرائن المحفوفة بالكلام ، وفي المقام تأتي بالمعنى الأخير. والمراد من الذين لا يعلمون هم الذين لا يعلمون حكمة الله تعالى ، ولا يقرون بنبوة نبيّه مع دلالة الآيات الظاهرة لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين.

ولعل التعبير بنفي العلم ، وعدم إثبات الجهل لهم مماشاة معهم لئلا ينفروا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا سيما أن جمعا من القائلين

كانوا من رؤساء القوم وكبرائهم.

والمعنى : هلا يكلمنا الله تعالى كما يكلم رسوله أو ينزل علينا الآيات الخاصة التي اقترحناها كما حكاها عنهم في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٠] ولم يكن ذلك منهم إلّا للعناد والجحود ، فإن في ما أنزل الله تعالى على نبيه دلالات واضحة ، ومعجزات باهرة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي : أن مثل هذه الاقتراحات الفاسدة قالها الذين من قبلهم في الأمم الماضية فقد اقترح اليهود والنصارى على أنبياء الله تعالى الآيات عتوا واستكبارا. وقد حكى تعالى جملة منها في ما تقدم من الآيات.

قوله تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). التشابه هو التماثل أي : أن قلوبهم تماثلت في الضلال والكفر والجهل فإن الجهل وعدم العلم حقيقة واحدة وإن اختلفت مظاهرها ، فإنهم جميعا يتشابهون في مكابرة الحق وإيذاء أنبياء الله تعالى.

قوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). اليقين أخص من مطلق العلم ، يقال : علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، وفي الحديث : «لم يقسّم الله شيئا بين الناس أقل من اليقين» ويأتي الفرق بينهما بعد ذلك ، والمراد به من يطلب العلم واليقين مما يوجبه من الآيات ولديهم الاستعداد لذلك.

والمعنى : إنّا أظهرنا الآيات مع رسولنا بدلالات واضحة وكافية بما لا يدع مجالا للشك والريب إلّا من كان من أهل الأهواء والعناد والضلال. وقد أعرض سبحانه وتعالى عن جوابهم إما لأجل أنهم ليسوا من أهل العلم والمعرفة ، أو لأجل أن سؤالهم لا يليق بالجواب. ولو فرض أن الآيات جرت على حسب أهوائهم ومقترحاتهم ، فإنه مضافا إلى كون بعضها من المستحيلات عقلا كسؤال رؤية الله تعالى ونزوله جل شأنه لصارت أمورا عادية ليس فيها أي دلالة على المعجزة والحجية ، فلا بد من مراعاة النظام

الأحسن والتدبير الأتم الأكمل في كل عصر بالنسبة إلى جميع أفراد الإنسان بما يوافق الحكمة البالغة كما أشار اليه سبحانه وتعالى في الآية التالية.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً). البشير المخبر بالخير وتستعمل المادة في الشر أيضا قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الإنشقاق ، الآية : ٢٤]. والنذير المخبر بما فيه خوف ، وكلاهما يتحققان في أنبياء الله وأوليائه الناطقين عنه سبحانه المبشرين بثوابه والمنذرين عن عقابه.

والمراد بالحق هو القرآن وجميع التشريعات السماوية النازلة على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الموجبة لسعادة الدنيا والآخرة ، ويمكن أن يكون المراد به الأعم من كون نفس الإرسال بالحق والمرسل له أيضا كذلك للملازمة بينهما كما هو المعلوم.

يعني : إنا أرسلنا النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالحق وفي الحق ، والحكمة في هذا الإرسال أن يكون بشيرا بالرحمة والثواب لمن يتبع الحق ونذيرا بالعقاب لمن خالف.

قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ). الجحيم هي النار إذا اضطرمت وشب وقودها وقد أعدها الله تعالى في الآخرة للغاوين قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨١] أي لا تسئل عن أصحاب الجحيم الذين استحقوها بسوء اختيارهم لم اختاروا الجحيم؟ ولا يضرك تكذيبهم فلا يضيق صدرك عليهم بعد أن قمت بالوظيفة ، وأتممت الحجة عليهم ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٢] وفي ذلك تسلية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وهذه الآية الشريفة وما في سياقها مطابقة للعقل الفطري من تحقق الإختيار في الفاعل المختار ، فإن الله تعالى إنما بعث رسله مبشرين ومنذرين وعلى الإنسان أن يأخذ العلم الذي يهديه وماله دخل في استكماله

وما يوجب سعادته في الدارين ، فباختياره يصعد إلى الدرجات كما أن به ينزل إلى الدركات ، والمعلم غير مسئول عن ذلك بعد بذل جهده في التربية والتعليم ، وهذا أمر قد جرت عليه السيرة العقلائية في التعليم والتعلّم الدائرين بينهم.

قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). الرضاء من المبينات العرفية ، ويستعمل بين الخالق والمخلوق ، وبين المخلوقين بعضهم مع بعض قال الله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ، وقال تعالى : (فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٤] وهو من أهم ما يقوم به النظام.

ومادة (م ل ل) تأتي بمعنى الإملاء والإثبات ، قال تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢] فالملة إنما هي الشريعة التي أثبتها الله لعباده على ألسنة رسله وأنبيائه ، وهي والشريعة سيان وأما مع الدين فهما واحد مصداقا ، وأعم في الاستعمال ، يقال : دين الله تعالى ، ودين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودين زيد ، ولا يقال في الملة ذلك إلّا ملة الله تعالى ، ويصح نسبتها إلى النبي المشرع ، قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) وقال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] ، ولعل السر في ذلك أنه روعي في إطلاق لفظ الملة إبلاغ التشريعات الإلهية السماوية ، وهذا يختص بالنبي دون غيره ثم اتسعت حتّى استعملت في الأديان الباطلة أيضا ، وكاد المجاز أن يغلب الحقيقة ، فقيل : «الكفر ملة واحدة».

والآية ظاهرة في اليأس عن إيمانهم بعد أن كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يطمع في إسلامهم ، بل كان يرجو مبادرتهم إلى الإيمان ، لأن الإسلام دين التوحيد ودين الفطرة فيوافق ما هم عليه في الجملة. ولذلك كبر على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إعراضهم وجحودهم ، وكان سبب ذلك أنّهم كانوا يعتبرون دينهم هو الهدى فقط ، وما سواه باطل ، فهم أحق بهذا الأمر من غيره فلا بد من اتباع ملتهم ، أو كان السبب أنهم كانوا يزعمون أنهم

أبناء الله وأحباؤه فلا يعقل اتباع غيرهم مع الاختلاف في الملة ، أو أنهم كانوا يرون أنفسهم أصحاب قوة ومنعة ، وجاه وثروة وغيرهم على ضعف ورفض القوي لما يدعو إليه الضعيف ـ ولو كان حقا ـ أمر مركوز في النفوس ، وكل ذلك من مظاهر عتوهم واستكبارهم ولذا رد الله تعالى عليهم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى). لأنّ الله تبارك وتعالى هو العالم بالهداية وطرقها والقادر على جزاء متبعيها ، وليست الهداية من المقترحات النفسانية ، فلا بد وأن تنتهي اليه تعالى علما وجزاء وتقدم معنى الهداية فراجع سورة الفاتحة.

قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). قضية شرطية ، ومن المعلوم أن صدق القضية الشرطية إنما هو بصدق الملازمة ، لا بتحقق الموضوع ، وانطباق الجزاء على الشرط المذكور فيها بالنسبة إلى مورد الخطاب أو المخاطب ، فيكون مفاد القضية أن متابعة الهوى والآراء الباطلة توجب الخذلان من الله تعالى فالآية المباركة نظير قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٥]. أي أن الشرك يوجب حبط العمل ، فإتيان الجملة بصورة الشرطية تفيد معنى خاصا.

مادة (ه وي) تأتي بمعنى السقوط وتستعمل في ميل النفس إلى الأمور والشهوات الباطلة فتهوي بصاحبها الى كل داهية في الدنيا ، وإلى النار في الآخرة ، وقد تقدم ما يتعلق بها أيضا.

والمعنى : لئن اتبعت أهواءهم وعقائدهم الفاسدة بعد ما جاءك من العلم بالحق يترتب عليك الجزاء الذي أوعد به الله تعالى.

قوله تعالى : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). أي : أنه يوجب الخذلان من الله تعالى فليس لك ولي يتولى شؤونك في الدنيا والآخرة ولا نصير ينصرك من عذاب الله تعالى كما قال جلّ شأنه في آية أخرى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ)

[سورة الرعد ، الآية : ٣٧] والخطاب وإن كان موجها إلى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ولكن يراد به أمته ، لأنه تعالى يعلم بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا يفعل ذلك فيكون إرشادا للإنسان إلى أن متابعة الهوى توجب الحرمان عن نعمه تعالى وإفاضاته ، فلا بد من متابعة الحق ولا تأخذه فيها لومة لائم ، لأنه يعلم بأنّ الله هو ولي أمره وناصره ، وإلّا لم يكن لائقا بعبوديته تعالى فيستحق أشد العذاب.

وفي الآية المباركة إشارة إلى أن جميع المعارف الحقة ـ أصولا وفروعا ـ لا بد أن تستند اليه تعالى وما سواها يكون من الأهواء الفاسدة والمفسدة فيجب طرحها وعدم متابعتها.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). مادة (تلى) تأتي بمعنى المتابعة ولها مراتب ودرجات ترتقي من القول فقط إلى أقصى درجات المتابعة في القول والفعل والوجود وسائر الجهات. والمراد بحق التلاوة هي التي توجب فهم الكتاب والتفقه فيه واتباع احكامه وقد وردت روايات كثيرة في أن المراد بها ترتيل آياته والتفقه به والعلم بأحكامه» وسيأتي في البحث الروائي ذكرها دون مجرد الترتيل مع المخالفة العملية وإلّا فهو استهزاء به واستخفاف بالله تعالى ولذا قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رب تال القرآن والقرآن يلعنه» والآية تتضمن قاعدتين عقليتين قررتهما الكتب السماوية.

الأولى : أنّ الاعتقاد بالحق ، والعمل به يوجبان كمال النفس وارتقاءها إلى المقامات المعنوية ، والفوز بالدرجات الأخروية.

الثانية : أنّ الكفر بالحق ، وترك العمل به يوجبان الخسران.

وفي الآية المباركة إعلام للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنه ربما يكون في أهل الكتاب من يرجى إيمانهم وهم الذين يتلون التوراة والإنجيل حق التلاوة فيتدبرون آياتهما ويتعلمون أحكامهما.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). أي : من يكفر بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من بعد علمه بالحق فهو الذي خسر السعادتين

الدنيوية والأخروية وذلك هو الخسران المبين.

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). إرجاع ختم الكلام إلى بدئه وهو من محسنات البيان فقد سبق أن ذكّر سبحانه وتعالى بني إسرائيل أنواع نعمه ، وهنا ختم بتذكيرهم لها أيضا لتتم الحجة عليهم أو غير ذلك من المصالح ، وما عن بعض المفسرين من إنكار التكرار في القرآن فسيأتي البحث عنه في مستقبل الكلام ، وقد تقدم تفسير الآية الشريفة في آيتي ٤٠ و ٤٧ فراجع.

ونزيد هنا أنه قد ورد في قوله تعالى مخاطبا لأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٢] وذكر تعالى في خطابه لبني إسرائيل : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) فمن اختلاف التعبير يستفاد علوّ منزلة المسلمين عن غيرهم فإن الذكر تعلق بهم بالذات الأقدس الربوبي ، وهو أعلى المقامات ، بخلاف بني إسرائيل. فإن الذكر تعلق فيهم بالنعمة ، وذلك لكثرة انغمارهم في الجهات المادية ، وإعراضهم عن الحق فورد الخطاب على ما ارتكزت عليه نفوسهم ، وكم فرق بين من تعلقت نفسه بنعمة المنعم وبين من تعلقت نفسه بذات المنعم.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). تقدم تفسيرها في آية ٤٨ إلّا أنّ الأولى مغايرة مع الثانية في تقديم قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ). والوجه في ذلك أن مورد الأولى في مقام تحلية النفس بالفضائل النفسانية أولا ثم أمر الغير بها ثانيا. ومورد الثانية إنكارهم لنبوة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلّا باتباعه لهم وقد ختم سبحانه وتعالى الكلام مع اليهود بذلك.

بحث روائي :

عن الشيخ الطوسي في قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) : «إنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان مجتهدا في طلب ما

يرضيهم ليقبلوا إلى الإسلام ويتركوا القتال. فقال الله تعالى له : دع ما يرضيهم فإنهم لن يرضوا عنك».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال (عليه‌السلام): «الوقوف عند الجنّة والنار».

أقول : وهو حق لا ريب فيه ، لأن حق التلاوة عبارة عن العلم بالمتلو والعمل به كما يأتي في الرواية الآتية.

وعن الديلمي في الإرشاد عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال (عليه‌السلام) يرتلون آياته ويتفقهون به ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه. ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه ، وأضاعوا حدوده. وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ).

وعن الكليني والعياشي عن أبي ولاد عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) قال (عليه‌السلام): «هم الأئمة».

أقول : لأن العلم بحقيقة القرآن والعمل بجميعه إنما يتحقق فيهم وبهم ، وهذا من باب التطبيق كما مر.

بحث دلالي :

المستفاد من مجموع الآيات المباركة الواردة في ذم اليهود والنصارى وغيرهما أنه ليس لذاتهم بل لأفعالهم الاختيارية الشنيعة ، وقد اتفق جميع الفلاسفة بل وغيرهم على أن السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين للإنسان كذاتية

النطق له ، كما أنهما ليستا من لوازم الذات كذاتية الزوجية للأربعة ، بل هما من لوازم وجوده الخارجي التي تحصل بالاختيار. نعم للقضاء والقدر الإلهي دخل فيهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة كدخلهما كذلك في أكثر ـ بل جميع ـ ما يتعلق بالإنسان فبالعمل يصير الإنسان سعيدا مستحقا للثواب ، كما أن به يصير شقيا مستحقا للعقاب ، وهذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في هذا الباب بعد رد بعضه إلى بعض ، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

فالشقاوة التي لحقت باليهود والنصارى إنما حصلت من أفعالهم الشنيعة مما أوجبت قساوة قلوبهم كما حكى الله تعالى عنهم في الآيات المباركة السابقة والذم تعلق بهم لأجل هذه الجهة فإذا وجدت في أي طائفة أوجبت شقاوتهم وبعدهم عن ساحة الرحمن بلا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين ، بل هي من المسلم أقبح فإن نبيهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم ، ولأنّ السير التكاملي في الإنسان يقضي أن يأخذ بعبر الماضين فلا يفعل ما فعلته الأمم السابقة مما أوجب شقاوتها وهلاكها ، ولذا كان جرائم المسلمين ومذام صفاتهم أقبح عند الله من جرائم غيرهم من سائر الأمم ، كما أن أفعالهم الحسنة أفضل.

والحمد لله أولا وآخرا.

المحتويات

فهرس

مواهب الرحمن في تفسير القرآن

المقدمة.......................................................................... ٥

البسملة وتفسيرها................................................................ ٩

الاسم واشتقاقه................................................................. ١٠

لفظ الجلالة [الله] وما ذكره أهل اللغة فيه.......................................... ١٢

معنى لفظ الجلالة وما ورد عن الفلاسفة............................................ ١٢

اشتقاق صفتي الرحمن والرحيم والفرق بينهما بوجوه والمناقشة فيها...................... ١٥

موارد استعمال كل من الصفتين في القرآن.......................................... ١٥

بحوث المقام

بحث دلالي : وفيه أقسام المسميات في الاسم ، وأن البسملة إضافة تشريفية ، وأن أسماءه تعالي توقيفية        ١٨

بحث فقهي: وفيه أن البسملة جزء من القران ويستحب الإجهار بها................... ٢٠

بحث روائي: وفيه ما ورد في شأن البسملة.......................................... ٢١

[سورة الحمد آية ١ ـ ٤]

الحمد ومعناه والفرق بينه وبين غيره................................................ ٢٣

الرب : ومعناه وهو الأم في أسمائه المقدسة ، ولم يرد في القرآن دعاءاً إلا مبدوأ باسم الرب. ٢٥

العالمين : ومعناه وتحدیده........................................................ ٢٧

أقسام العوالم ، وأن له تعالي المعية في جميعها........................................ ٢٨

المالك : ومعناه ومشتقاته........................................................ ٣٠

اليوم : ومعناه في القرآن......................................................... ٣١

الدين : ومعناه ووجه التخصيص به في سورة الحمد.................................. ٣٢

[سورة الحمد آية ٥ ـ ]

العدول من الغيبة إلى الخطاب في الآية............................................. ٣٣

العبادة : ومعناها وحصرها ل له تعالي والفرق بينها وبين غيرها.

أثر العبادة وأقسامها ودواعيها.................................................... ٣٤

الاستعانة : ومعناها وأنها منحصرة بال له تعالي ، وهي اختيارية وغير اختيارية........... ٣٦

تأخير العبادة والاستعانة عن صفة «مالك يوم الدین»............................... ٣٧

وجه إتيان العبادة والاستعانة بلفظ الجمع........................................... ٣٧

الهداية : ومعناها ومراتبها وأنهامن صفات الفعل لا صفة الذات والفارق بينهما...........

الهداية على قسمين :........................................................... ٣٩

الصراط : ومعناه وتقومه وأنواعه.................................................. ٣٩

النعمة : ومعناها................................................................ ٤١

الهداية واجبة عقلا ، وأنها من مختصاته تعالى ، وأقسام سبلها ، وأنواع الهداية............ ٤٢

مبدا الصراط ومنتهاه............................................................ ٤٤

الفرق بين الصراط والسبل. الصراط ومراتب وجوده................................. ٤٤

الغضب والضلال : ومعناهما..................................................... ٤٥

بحث روائي: وفيه ما ورد في فضل السورة وامتیازها عن غيرها ، وما ورد في تفسير آياتها ووجه تسميتها بالسبع المثاني     ٤٦

بحث دلالي: وفيه ما تتضمن السورة من المعارف وما فيها من أدب العبودية............. ٥١

بحث فقهي : وفيه أن قوام الصلاة بفاتحتة الكتاب ، وحكم التأمين بعدها

وهل يجوز قصد الإنشاء بالآيات المباركة؟.......................................... ٥٣

بحث فلسفي: وفيه نفي السنخية بين العلة والمعلول في الفاعل المختار.................. ٥٤

[سورة البقرة آية ١ ـ ٥]

وجه تسمية السورة بالبقرة وأنها من أهم السور القرآنية............................... ٥٧

الحروف المقطعة في أول السور.................................................... ٥٧

اسم الإشارة وشأنه في الآية المباركة................................................ ٦٠

الكتاب : ومعناه وأن فيه ما يستهدف الإنسان في حياته............................. ٦٠

معنى التقوى والمراد منها في الآية المباركة وأنها فوق الإيمان............................. ٦٢

الإيمان : وأقسامه وأنه من الصفات التشكيكية..................................... ٦٤

الغيب : ومعناه ومصاديقه خارجاً وفي القرآن....................................... ٦٧

الرزق ومعناه................................................................... ٦٧

الإنفاق ومعناه وأقسامه.......................................................... ٦٩

بحث روائي: وفيه ما ورد في معنى الغيب والإنفاق................................... ٧١

بحث كلامي : وفيه أن التصديق بسيط ومباديه مركب وهل العمل بالوظائف المقررة جزء من الإيمان؟ ٧٣

بحث فلسفي وفيه أن الإنسان لا يمكن له إنکار ما وراء المادة (الغيب) بفطرته.......... ٧٤

السر في تكرار «الذين» في الآية المباركة وكذا تقديم القرآن على غيره................... ٧٥

بحث دلالي: وفيه أن الترتيب بالإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بعدها من إعجاز القرآن ٧٩

[سورة البقرة ٧ ـ ٦]

الكفر ومعناه واستعماله في القرآن................................................. ٨٠

وجه نسبة ختم القلب إلى الله تعالى............................................... ٨٢

المراد من القلب والسمع والبصر في الآية العذاب ومعناه في الآية....................... ٨٤

بحث روائي : وفيه ما ورد عن سبق علمه تعالی بالكفر وأنه أقدم من الشرك وما ورد في وجوه الكفر  ٨٥

[سورة البقرة ـ ]

نفي الإيمان بالمبدا والمعاد عن المنافقين.............................................. ٨٨

المخادعة ومعناها وتقومها وصحة نسبتها إلیه تعالی................................. ٨٩

القلب ومعناه في القرآن.......................................................... ٩٠

بحث فلسفي : وفيه أن الشعور في الإنسان من مراتب الإحساس والإدراك وكلياتهما منحصرة في ثلاثة أنواع    ٩١

[سورة البقرة ١٦ ـ ١١]

الفساد ومعناه.................................................................. ٩٣

السفاهة ومعناها................................................................ ٩٤

السر في العدول من عدم الشعور إلى عدم العلم..................................... ٩٥

المراد من الشيطان في الآية المباركة................................................. ٩٥

الاستهزاء ومعناه ونسبته إليه تعالی................................................ ٩٦

الاشتراء ومعناه الفرق بين التعبير باشتراء الضلالة بالهدي والاشتراء بالثمن القليل........ ٩٧

بحث روائي وفيه ما ورد من أن النجاة للإنسان في عدم مخادعة الله ، وأن نسبة الاستهزاء إليه تعالی يعني جزاء المستهزیء به      ٩٨

بحث أخلاقي وفيه سبب النفاق وشعبه والوجوه المتصورة فيه.......................... ٩٩

[سورة البقرة ـ ]

المثل ومعناه ووجه استعماله في القرآن............................................ ١٠١

اختلاف المقتضيات لا يوجب الاختلاف في الحقيقة............................... ١٠٣

الإحاطة ومعناها وأقسامها بالنسبة إلیه تعالی، وتقوم مفهومها بالأثنينية ينافي مذهب وحدة الوجود   ١٠٤

بحث روائي وفیه أن الله تعالي لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه.................... ١٠٦

[سورة البقرة ـ ٢]

السماء وإطلاقه الأرض وأنه أنفع مما سواه........................................ ١٠٨

الند ومعناه................................................................... ١١٠

[سورة البقرة ـ ٢٤]

مرجع الضمير في الآية المباركة إلى القرآن......................................... ١١٠

مواضع ذكر التحدي بالقرآن. وجه اختلاف التحدي بالقرآن....................... ١١٢

الجواب عن إشكال أن التحدي غير مقدور فكيف يتعلق التكليف أو العقاب به؟..... ١١٣

ما يستفاد من الآيات المباركة................................................... ١١٤

حقيقة الإعجاز وما أورد عليها والجواب عنه...................................... ١١٥

التحدي بالقرآن ومعناه إعجاز القرآن............................................ ١١٧

حياة القرآن.................................................................. ١١٩

القرآن وإعجازه في المعارف الإلهية................................................ ١٢٠

إعجاز القرآن في العلوم........................................................ ١٢١

القرآن وإعجازه في العلم والغيب................................................ ١٢٢

إعجاز القرآن في بلاغته وفصاحته............................................... ١٢٣

القرآن وإعجازه بعدم الاختلاف فيه............................................. ١٢٤

[سورة البقرة آية ٢٥]

البشارة ومعناها............................................................... ١٢٥

معنى الجنة.................................................................... ١٢٦

متعلق الظرف في الآية المباركة................................................... ١٢٧

بحث دلالي وفيه أن الترتيب في الأية المباركة جرى للنظام في النشأتين والوجه في التعبير ب (الجنات)  ١٢٨

بحث روائي وفيه ما ورد في الأزواج المطهرة ،وأن الآية نزلت في شأن أفراد خاصة....... ١٢٩

[سورة البقرة ٢٦ ـ ]

الحياء ومعناه ونسبته إلى الله تعالي............................................... ١٢٩

الفرق بينه وبين الخجل......................................................... ١٣٠

ما يستفاد من الآية المباركة..................................................... ١٣١

بحث کلامي وفيه شبهة الجبر والتفويض وأنها لم تكن حادثة في الإسلام..............

الأفعال الاختيارية على أقسام................................................... ١٣٢

الجير ومذاهبه................................................................. ١٣٣

أدلة القائلين بالجبر والجواب عنها................................................ ١٣٣

التفويض ومعناه............................................................... ١٣٥

أدلة التفويض والجواب عنها.................................................... ١٣٥

الأمر بين الأمرين والمراد به..................................................... ١٣٧

بحث روائي وفيه ما ورد في بطلان الجبر والتفويض................................. ١٣٨

نقض العهد ومعناه............................................................ ١٤٠

الصلة ومعناها................................................................ ١٤١

بحث روائي................................................................... ١٤٢

[سورة البقرة ـ ]

المراد من الموت والحياة في الآية المباركة............................................ ١٤٣

الخلق ومعناه.................................................................. ١٤٤

الاستواء ومعناء في القرآن...................................................... ١٤٥

دلالة الآية المباركة على خلق الأرض قبل خلق السماء.............................. ١٤٥

بحث فقهي.................................................................. ١٤٦

بحث روائي وفيه حكمة خلق الأرض قبل خلق السماء............................. ١٤٧

[سورة البقرة آية ـ ]

معنى القول المنسوب إليه تعالی................................................. ١٤٧

الملائكة واشتقاقها ووجودها.................................................... ١٤٨

ما يستفاد من قوله تعالي : «وإذ قال ربك للملائكة»............................. ١٤٨

ما ذكر في جعل الخلافة في الأرض.............................................. ١٥٠

المراد من التسبيح والتقديس في الآية المباركة....................................... ١٥٠

منشا سؤال الملائكة ، وأنه ليس من الاعتراض.................................... ١٥١

[سورة البقرة ـ ٣]

التعلم ومعناه................................................................. ١٥٢

تعليم آدم المعارف الإلهية كان بمباشرة منه تعالی................................... ١٥٣

الاسم ومعناه والمراد منه في الآية المباركة........................................... ١٥٤

تعليمه للأسماء لا يختص بأسماء عالم المثال واثباته واحتمال أن المراد من عالم الأسماء ذلك ١٥٥

العرض ومعناه والمراد منه في الآية المباركة.......................................... ١٥٦

الحكمة ومعناها والمراد منها في القرآن............................................ ١٥٨

استكمال الملائكة بواسطة الأنبياء............................................... ١٥٩

بحث دلالي وفيه أن العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات ، وأن تعليم الأسماء لآدم بمنزلة كتاب بيّنه تعالي وأن الملائكة كانت في الأرض............................................................................ ١٦٠

بحث روائي وفيه ما ورد في شأن علم الملائكة وتعليم آدم الأسماء وغير ذلك مما ورد في تفسير الآيات  ١٦١

بحث في الطينة والميثاق......................................................... ١٦٤

بحث اجتماعي في اللغة........................................................ ١٦٤

[سورة البقرة آية ـ ٣٤]

السجود ومعناه............................................................... ١٦٦

الوجوه المتصورة في سجود الملائكة............................................... ١٦٧

حقيقة إبليس................................................................. ١٦٩

بحث روائي وفيه ما ورد في كيفية سجود الملائكة ومحل السجود...................... ١٧١

ما ورد في حقيقة إبليس ، وغير ذلك من الروايات الواردة في تفسير الآيات............

[سورة البقرة ٣٥ ـ ]

زوجة آدم وكيفية خلقها........................................................ ١٧٤

جنة آدم وما ورد فيها من الأقوال................................................ ١٧٦

حقيقة الشجرة المنهي عنها..................................................... ١٧٨

ارتكاب آدم ل لأكل وحكمه في القرآن.......................................... ١٨٠

الأمر بالهبوط تكويني ويصح أن يكون تشريعياً.................................... ١٨٢

توبة آدم..................................................................... ١٨٣

الوجه في تكرار الهبوط في الآية المباركة............................................ ١٨٤

المراحل التي مر عليها آدم تجري في النوع البشري وأصول المجتمعات................... ١٨٥

بحث روائي وفيه ما ورد في حقيقة جنة آدم وحقيقة الشجرة المنهي عنها............... ١٨٧

الإرادة ومعناها وإضافتها إلى الله تعالي وأنها من صفات الفعل لا الذات ، لبث آدم في الجنة ومقداره وكيفية دخول الشيطان للجنة ومكان سقوطه عنها إلى غير ذلك مما ورد من الروايات في تفسير الآيات المباركة........ ١٨٨

بحث كلامي وفيه معنى العصمة والأقوال في عصمة الأنبياء والآيات المنافية لها......... ١٩٦

بحث فلسفي وفيه أن الإنسان مخلوق حادث لا أنه مرتق من مخلوق آخر. وبيان قاعدة «إمكان الأشرف» وبطلان ما أورد عليها من المناقشة...................................................................... ١٩٩

بطلان ما ذهب أليه بعض الفلاسفة من أن كل حادث طبيعي لا بد وأن بد وأن

يستند إلى سبب طبيعي كذلك................................................. ٢٠٠

الفرق بين مسألتي النشو والارتقاء والحركة الجوهرية................................. ٢٠١

[سورة البقرة ٤٠ ـ ٤٣]

إسرائيل ومعناه................................................................ ٢٠٢

معنى الذكر في القرآن.......................................................... ٢٠٣

الوفاء والعهد ومعناهما.......................................................... ٢٠٤

بحث روائي وفيه ما ورد في معنى إسرائيل ،وأن سبب عدم استجابة الدعاء إنما هو لعدم الوفاء بعهده تعالی     ٢٠٧

[سورة البقرة ٤٤ ـ ٤٦]

العقل ومفهومه............................................................... ٢٠٨

ظاهر الأية المباركة خطاب عام يشمل جميع الأمرين بالمعروف التارکین له..............

الاستعانة ومصاديقها.......................................................... ٢١٠

الظن ومعناه.................................................................. ٢١١

بحث روائي وفيه أن الآية المباركة وقعت في القصاص والاستعانة بالصلاة والصوم في الأمور الشديدة ، وما ورد في معنى الظن     

بحث أخلاقي وفيه تعريف الصبر وأنواعه وأنه من صفات ذات الإضافة وهو أم الفضائل ٢١٤

[سورة البقرة ٤٧ ـ ٤]

الآية تدل على وجوب شكر المنعم.............................................. ٢٢٠

العوالم الاستكمالية التي ترد على الإنسان أنواعها على قسمين واختلاف عالم الآخرة عما سواه بوجهين        ٢٢١

الأقسام المنصورة في عمل الإنسان وارتباط العوالم بعضها مع بعض................... ٢٢٣

بحث روائي وفيه ما ورد في معنی قوله تعالیى : «وإني فضلتكم على العالمين» ومعنى العدل في الآية المباركة      ٢٢٥

[سورة البقرة ٤٩ ـ ٥]

فرعون : لقب مركب من لفظين................................................ ٢٢٦

بحث اجتماعي وفيه أن دوافع الاختلاف بين أفراد الإنسان وجماعاته ترجع إلى أحد أمور ثلاثة       ٢٢٩

بحث تاريخي وفیه منشا إطلاق العبريين على الإسرائيليين وتاریخ دخولهم مصر وكيفية عيشهم فيها وخروجهم عنها      ٢٣٠

[سورة البقرة ٥١ ـ ٥٤]

الوعد وموارد استعماله وحقيقته................................................. ٢٣٣

میعاد موسی ومعناه وزمانه ومكانه واتحاد الميقاتين له............................... ٢٣٤

الغاية المطلوبة من الميقات...................................................... ٢٣٥

وجه اختصاص الليالي بالذكر في الميعاد........................................... ٢٣٥

موسی : وتعد د ذكره في القرآن وأنه علم مركب من لفظين......................... ٢٣٦

وجه حصر الميعاد في الأربعين................................................... ٢٣٦

ما حصل من الميعاد........................................................... ٢٣٧

استحالة الترجي بالنسبة إليه تعالی.............................................. ٢٣٨

بحث روائي................................................................... ٢٤٢

بحث فلسفي وفيه أن الإفاضات الإلهية محدودة بحدود الاستعدادات وكيفية حصول القابلية للاستفاضة وأنها الغرض الأصلي من الميقات............................................................................ ٢٤٣

مواقيت الإسلام وافتراقه مع میقات موسى (عليه السلام)........................... ٢٤٥

[سورة البقرة ٥٥ ـ ٥٩]

الصاعقة واحتمالاتها في الآية المباركة قصة سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى

البعث ومعناه وموارد استعماله في القرآن.......................................... ٢٤٦

المن والسلوى ومعناهما.......................................................... ٢٤٩

القرية ومعناها في الآية المباركة................................................... ٢٥٠

المراد من السجود في الآية المباركة مطلق الخضوع................................... ٢٥٢

التبديل ومعناه وحكمه......................................................... ٢٥٣

بحث دلالي وفيه أن الآيات المباركة يمكن أن تكون إشارة إلى مقامات خاصة.......... ٢٥٤

بحث روائي وفيه ما ورد في الرجعة وأن الذين أخذتهم الصاعقة واحترقوا أحياهم الله تعالى وبعثهم أنبياء. وما ورد في تفسير الغمام والمن والسلوى ، وأن ال له أجل من أن يظلم إلى غير ذلك من الروایات الواردة في الآية المباركة ٢٥٤

[سورة البقرة ٦٠ ـ ٦]

شأن الحجر الذي استسقی به موسی (عليه السلام) لقومه وعصاه.................. ٢٥٨

الطعام ومعناه في القرآن........................................................ ٢٦٠

الغضب ومعناه ونسبته إليه تعالی............................................... ٢٦٢

النبي واشتقاقه ومعناه.......................................................... ٢٦٣

بحث روائي وفيه ما ورد في معنى القتل والحجر وأن المعاصي توجب الخذلان على صاحبها ٢٦٥

بحث فقهي وكلامي وفيه أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وإطلاق الرزق في الآية المباركة على الحلال. بحث فلسفي في حقيقة المعجزة............................................................................ ٢٦٦

[سورة البقرة آية ـ ٦]

اليهود والنصارى والصابئة ومعناها واشتقاقها...................................... ٢٦٨

حقيقة الإيمان................................................................ ٢٧٠

بحث روائي وفيه ما ورد معاني اليهود والنصارى والصائبين........................... ٢٧١

بحث تاريخي عقائدي في حقيقة الصابئة وبيان آرائهم وفرقهم........................ ٢٧١

[سورة البقرة ٦ ـ ٧٤]

رفع الجبل فوق اليهود لا يستلزم الإكراه في الإيمان................................. ٢٧٦

المسخ بحسب الصورة والقلب................................................... ٢٧٦

الآيات المباركة تسلية ل لنبي (صلى الله عليه وآله)................................. ٢٧٨

الحيل الشرعية ومعناها والاستدلال بالآيات المباركة على عدم جوازها................. ٢٧٨

وجه تأخير آية عن آية ٦٧................................................ ٢٨٠

الهزء وقرائتها.................................................................. ٢٨٠

الخشية ومعناها............................................................... ٢٨٥

الغفلة ومعناها ومواردها........................................................ ٢٨٦

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة الواردة في قصة البقرة أمور :............

بحث روائي وفيه ما ورد من الروايات في الآيات المباركة وقصة ذبح البقرة تفصيلا ، وأن التقييد فيها ظاهر من سیاق حال أصل التكليف وأموال المكلفين ، وما أورد على ذلك من الروايات المنافية لذلك..................... ٢٨٩

بحث تاريخي وفيه كيفية ذكر قصة البقرة في التوراة................................. ٢٩٢

بحث فلسفي في التناسخ وتجسم الملكات......................................... ٢٩٣

[سورة البقرة ٧٥ ـ ]

الأسرار ومعناه ومراتبه وأن الآية المباركة تدل على إحاطته تعالى للعوالم إحاطة واقعية.... ٢٩٨

الأمي والأماني ومعناهما وما يحتمل في الآية المباركة منهما............................ ٢٩٩

فساد مزاعم اليهود من النار أن لا تمسهم إلا أياماً معينة........................... ٣٠١

الخطيئة وإحاطتها بالإنسان وأقسام ذلك......................................... ٣٠١

بحث روائي وفيه ما ورد في الآيات المباركة وتفسيرها. وأن الأفعال على أقسامها إما من الشرور أو من الخيرات  ٣٠٥

بحث فقهي وفيه حكم الاستدلال بالآية المباركة على حرمة بيع المصحف وتدوینه...... ٣٠٧

[سورة البقرة ـ ٨٦]

السر في اقتران الإحسان بالوالدين مع التوحيد.................................... ٣٠٨

التولي ومعناه واستعماله في القرآن................................................ ٣١٠

في بیان عدم نسخ آية ..................................................... ٣١١

بحث روائي وفيه ما ورد في تفسير الآيات المباركة من الروايات........................ ٣١٦

بحث دلالي وفيه بيان الوجه في أن الخطاب في القران مع اليهود في عصر التنزيل وأن ما حدث منهم كان في أسلافهم   ٣١٧

[سورة البقرة ـ ]

الرسل بين موسي وعیسی (عليهما السلام) وعددهم.............................. ٣١٩

روح القدس ومعناه في القرآن.................................................... ٣١٩

الهوان ومعناه في القرآن......................................................... ٣٢٤

الإيمان بجميع الأنبياء والرسل إنما يتم بنحو الواحدة................................ ٣٢٤

بحث روائي وفيه ما ورد في كيفية هجرة اليهود إلى المدينة ، وأنهم كانوا يقسمون الله بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) لنصرتهم على مقاتليهم والمناقشة في تلك الروايات والجواب عنها.................................. ٣٢٦

[سورة البقرة ـ ٩٦]

البينات ومعناها وما أعطي لموسي (عليه السلام) من الآيات البينات................. ٣٢٩

التمني وأقسامه............................................................... ٣٣٣

بحث روائي وفيه ما ورد من الروايات في معنی قوله تعالى : «واشربوا في قلوبهم العجل».. ٣٣٦

بحث أدبي................................................................... ٣٣٦

[سورة البقرة ٩٧ ـ ١٠١]

جبرائيل وشأنه عند اليهود...................................................... ٣٣٨

الملائكة وحقيقتها............................................................. ٣٤٠

وجه اختصاص جبرائيل وميكائيل في الآية المباركة بالذكر........................... ٣٤١

الفسق ومعناه................................................................. ٣٤٢

بحث روائي وفيه ما ورد في شأن نزول قوله تعالی : «من كان عدوا لجبریل»........... ٣٤٤

[سورة البقرة ١٠٣ ـ ١٠٢]

ملك سليمان والمراد منه........................................................ ٣٤٦

بابل وشأنها في التاريخ بين المدن................................................. ٣٤٨

هاروت وماروت وأنهما ملكين.................................................. ٣٤٩

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآية المباركة أمور :................................ ٣٥٢

بحث روائي وفيه ما ورد من الروایات في تفسير الآية المباركة وشأن نزولها............... ٣٥٤

بحث علمي وفيه حقيقة السحر ، وتقسيم العلوم حسب أقسام موضوعها............ ٣٥٦

تأثير السحر في النفس......................................................... ٣٥٦

إزالة الأثر النفسي عن السحر في القرآن......................................... ٣٥٦

الفرق بين ما يصدر من الأنبياء وما يصدر عن الشياطين........................... ٣٥٩

بحث فقهي وفيه أن السحر حرام في جميع الشرايع السماوية ، وأقسام المحرمات........ ٣٦١

بحث كلامي وفيه أن ما يفاض على الممكنات ينتهي إليه تعالي ، والفرق بين المعجزة والسحر بوجوه عديدة    ٣٦١

[سورة البقرة ١٠٤ ـ ١٠٥]

كلمة راعنا ومعناها واشتقاقها................................................... ٣٦٤

الخير ومعناه وسبب حسد الكفار والمشركين للمؤمنين.............................. ٣٦٥

بحث روائي وفيه إنه ليس في القرآن «يا أيها الذين آمنوا» إلا وفي التوراة «یا أيها المساكين» ، وما أنزل الله «يا أيها الذين أمنوا» إلا وعلي (عليه السلام)

رأسها وأميرها ، وما ورد في معنى كلمة راعنا عند اليهود من السب................... ٣٦٦

[سورة البقرة ١٠٦ ـ ١٠٨]

النسخ ومعناه وما يستلزمه من الأمور............................................. ٣٦٩

الآية ومعناها في القرآن........................................................ ٣٦٩

المراد من السؤال في الآية المباركة................................................. ٣٧٣

الوجه في التعبير بالتبديل دون غيره في آية .................................. ٣٧٤

أفعال الإنسان معلول نفسه ولها علية في النفس أيضا.............................. ٣٧٤

بحث روائي وفيه ما ورد في معنى النسخ والنسيان في القرآن وأن البداء من النسخ....... ٣٧٥

بحث کلامي وفيه إمكان النسخ................................................. ٣٧٧

معنى النسخ.................................................................. ٣٧٧

حقيقة النسخ والحكمة فيه..................................................... ٣٧٩

النسخ ووقوعه................................................................ ٣٨٠

شرائط النسخ................................................................ ٣٨٢

نسخ الشرابع................................................................. ٣٨٣

أقسام النسخ................................................................. ٣٨٥

أنواع النسخ في القرآن......................................................... ٣٨٥

سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها أو المنسوخ.............................. ٣٨٦

بحث دلالي وفيه وجه تکرار قوله تعالي : «ألم تعلم» وأنه لا حد للناسخ والمنسوخ ، وتعلق النسخ ببعض جهات الآية دون تمامها ٣٨٨

[سورة البقرة ١٠٩ ـ ١١٣]

الآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي................................................ ٣٩٠

ظهور العمل بنفسه ورؤيته في الدار الآخرة بطلان ما ذهب أليه بعض الفلاسفة من نفي عمله تعالى بالجزئيات ٣٩٢

بحث روائي وفيه ما ورد في قوله تعالى : «ودّ كثير من أهل الكتاب» النازل في كعب بن الأشرف اليهودي. وما ورد في تفسير قوله تعالى : «وقالت اليهود ليست النصاری على شيء»................................... ٣٩٦

بحث دلالي وفيه ما تضمنته الآية الشريفة من الأمور............................... ٣٩٧

[سورة البقرة ١١٤ ـ ١١٥]

المساجد ومعناه وما يمكن أن يراد منها في الآية المباركة.............................. ٣٩٨

عدم التناهی في صفات كماله وجماله مما يستفاد من الآية المباركة..................... ٤٠١

بحث روائي وفيه ما ورد من الروايات في تفسير الآيات المباركة........................ ٤٠٢

بحث فقهي : وفيه ما استدل على عدم جواز دخول الكفار والمشركین المساجد وما استدل بقوله تعالي : ولله المشرق والمغرب الآية على جواز التوجه إلى غير القبلة في عدة موارد......................................... ٤٠٣

[سورة البقرة ١١٦ ـ ١١٧]

الأخذ وما يتضمن فيه من المعني في الآية المباركة................................... ٤٠٥

البديع ومعناه في القرآن........................................................ ٤٠٧

القضاء والأمر ومعناهما......................................................... ٤٠٧

بحث روائي وفيه ما ورد في تفسیر «سبحان الله وبديع السموات والأرض»............ ٤٠٩

بحث كلامي وفيه ما استدل على عدم المجانسة بینه تعالی وبين مخلوقاته ، كذا امتناع اتخاذ الولد له سبحانه وتعالی      ٤١٠

[سورة البقرة ١١٨ ـ ١٢٣]

كلمة «لولا» واستعمالها في القرآن.............................................. ٤١٢

المراد من قوله تعالي : «حق تلاوته» وما تضمنه من القاعدة........................ ٤١٧

الفرق بين الخطابين لأمة محمد (صلى الله عليه وآله) وبني إسرائيل في الآية

المباركة....................................................................... ٤١٨

بحث روائي : وفيه ما ورد من الروايات في تفسير الآيات المباركة...................... ٤١٨

بحث دلالي وفيه أن الآيات الشريفة الواردة في ذم اليهود وغيرهم من الملل ليست لذاتهم وإنما لأفعالهم الفاسدة الحاصلة بالاختيار ٤١٩

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ١

المؤلف: آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الصفحات: 439
  • المقدمة 5
  • البسملة وتفسيرها 9
  • الاسم واشتقاقه 10
  • لفظ الجلالة [الله] وما ذكره أهل اللغة فيه 12
  • معنى لفظ الجلالة وما ورد عن الفلاسفة 12
  • اشتقاق صفتي الرحمن والرحيم والفرق بينهما بوجوه والمناقشة فيها 15
  • موارد استعمال كل من الصفتين في القرآن 15
  • بحوث المقام
  • بحث دلالي : وفيه أقسام المسميات في الاسم ، وأن البسملة إضافة تشريفية ، وأن أسماءه تعالي توقيفية        18
  • بحث فقهي: وفيه أن البسملة جزء من القران ويستحب الإجهار بها 20
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في شأن البسملة 21
  • [سورة الحمد آية 1 ـ 4]
  • الحمد ومعناه والفرق بينه وبين غيره 23
  • الرب : ومعناه وهو الأم في أسمائه المقدسة ، ولم يرد في القرآن دعاءاً إلا مبدوأ باسم الرب. 25
  • العالمين : ومعناه وتحدیده 27
  • أقسام العوالم ، وأن له تعالي المعية في جميعها 28
  • المالك : ومعناه ومشتقاته 30
  • اليوم : ومعناه في القرآن 31
  • الدين : ومعناه ووجه التخصيص به في سورة الحمد 32
  • [سورة الحمد آية 5 ـ ۷]
  • العدول من الغيبة إلى الخطاب في الآية 33
  • العبادة : ومعناها وحصرها ل له تعالي والفرق بينها وبين غيرها
  • أثر العبادة وأقسامها ودواعيها 34
  • الاستعانة : ومعناها وأنها منحصرة بال له تعالي ، وهي اختيارية وغير اختيارية 36
  • تأخير العبادة والاستعانة عن صفة «مالك يوم الدین» 37
  • وجه إتيان العبادة والاستعانة بلفظ الجمع 37
  • الهداية : ومعناها ومراتبها وأنهامن صفات الفعل لا صفة الذات والفارق بينهما ۳۸
  • الهداية على قسمين : 39
  • الصراط : ومعناه وتقومه وأنواعه 39
  • النعمة : ومعناها 41
  • الهداية واجبة عقلا ، وأنها من مختصاته تعالى ، وأقسام سبلها ، وأنواع الهداية 42
  • مبدا الصراط ومنتهاه 44
  • الفرق بين الصراط والسبل. الصراط ومراتب وجوده 44
  • الغضب والضلال : ومعناهما 45
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في فضل السورة وامتیازها عن غيرها ، وما ورد في تفسير آياتها ووجه تسميتها بالسبع المثاني     46
  • بحث دلالي: وفيه ما تتضمن السورة من المعارف وما فيها من أدب العبودية 51
  • بحث فقهي : وفيه أن قوام الصلاة بفاتحتة الكتاب ، وحكم التأمين بعدها
  • وهل يجوز قصد الإنشاء بالآيات المباركة؟ 53
  • بحث فلسفي: وفيه نفي السنخية بين العلة والمعلول في الفاعل المختار 54
  • [سورة البقرة آية 1 ـ 5]
  • وجه تسمية السورة بالبقرة وأنها من أهم السور القرآنية 57
  • الحروف المقطعة في أول السور 57
  • اسم الإشارة وشأنه في الآية المباركة 60
  • الكتاب : ومعناه وأن فيه ما يستهدف الإنسان في حياته 60
  • معنى التقوى والمراد منها في الآية المباركة وأنها فوق الإيمان 62
  • الإيمان : وأقسامه وأنه من الصفات التشكيكية 64
  • الغيب : ومعناه ومصاديقه خارجاً وفي القرآن 67
  • الرزق ومعناه 67
  • الإنفاق ومعناه وأقسامه 69
  • بحث روائي: وفيه ما ورد في معنى الغيب والإنفاق 71
  • بحث كلامي : وفيه أن التصديق بسيط ومباديه مركب وهل العمل بالوظائف المقررة جزء من الإيمان؟ 73
  • بحث فلسفي وفيه أن الإنسان لا يمكن له إنکار ما وراء المادة (الغيب) بفطرته 74
  • السر في تكرار «الذين» في الآية المباركة وكذا تقديم القرآن على غيره 75
  • بحث دلالي: وفيه أن الترتيب بالإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بعدها من إعجاز القرآن 79
  • [سورة البقرة 7 ـ 6]
  • الكفر ومعناه واستعماله في القرآن 80
  • وجه نسبة ختم القلب إلى الله تعالى 82
  • المراد من القلب والسمع والبصر في الآية العذاب ومعناه في الآية 84
  • بحث روائي : وفيه ما ورد عن سبق علمه تعالی بالكفر وأنه أقدم من الشرك وما ورد في وجوه الكفر  85
  • [سورة البقرة ۸ ـ ۱۰]
  • نفي الإيمان بالمبدا والمعاد عن المنافقين 88
  • المخادعة ومعناها وتقومها وصحة نسبتها إلیه تعالی 89
  • القلب ومعناه في القرآن 90
  • بحث فلسفي : وفيه أن الشعور في الإنسان من مراتب الإحساس والإدراك وكلياتهما منحصرة في ثلاثة أنواع    91
  • [سورة البقرة 16 ـ 11]
  • الفساد ومعناه 93
  • السفاهة ومعناها 94
  • السر في العدول من عدم الشعور إلى عدم العلم 95
  • المراد من الشيطان في الآية المباركة 95
  • الاستهزاء ومعناه ونسبته إليه تعالی 96
  • الاشتراء ومعناه الفرق بين التعبير باشتراء الضلالة بالهدي والاشتراء بالثمن القليل 97
  • بحث روائي وفيه ما ورد من أن النجاة للإنسان في عدم مخادعة الله ، وأن نسبة الاستهزاء إليه تعالی يعني جزاء المستهزیء به      98
  • بحث أخلاقي وفيه سبب النفاق وشعبه والوجوه المتصورة فيه 99
  • [سورة البقرة ۱۷ ـ ۲۰]
  • المثل ومعناه ووجه استعماله في القرآن 101
  • اختلاف المقتضيات لا يوجب الاختلاف في الحقيقة 103
  • الإحاطة ومعناها وأقسامها بالنسبة إلیه تعالی، وتقوم مفهومها بالأثنينية ينافي مذهب وحدة الوجود   104
  • بحث روائي وفیه أن الله تعالي لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه 106
  • [سورة البقرة ۲۱ ـ 2۲]
  • السماء وإطلاقه الأرض وأنه أنفع مما سواه 108
  • الند ومعناه 110
  • [سورة البقرة ۲۳ ـ 24]
  • مرجع الضمير في الآية المباركة إلى القرآن 110
  • مواضع ذكر التحدي بالقرآن. وجه اختلاف التحدي بالقرآن 112
  • الجواب عن إشكال أن التحدي غير مقدور فكيف يتعلق التكليف أو العقاب به؟ 113
  • ما يستفاد من الآيات المباركة 114
  • حقيقة الإعجاز وما أورد عليها والجواب عنه 115
  • التحدي بالقرآن ومعناه إعجاز القرآن 117
  • حياة القرآن 119
  • القرآن وإعجازه في المعارف الإلهية 120
  • إعجاز القرآن في العلوم 121
  • القرآن وإعجازه في العلم والغيب 122
  • إعجاز القرآن في بلاغته وفصاحته 123
  • القرآن وإعجازه بعدم الاختلاف فيه 124
  • [سورة البقرة آية 25]
  • البشارة ومعناها 125
  • معنى الجنة 126
  • متعلق الظرف في الآية المباركة 127
  • بحث دلالي وفيه أن الترتيب في الأية المباركة جرى للنظام في النشأتين والوجه في التعبير ب (الجنات)  128
  • بحث روائي وفيه ما ورد في الأزواج المطهرة ،وأن الآية نزلت في شأن أفراد خاصة 129
  • [سورة البقرة 26 ـ ۲۷]
  • الحياء ومعناه ونسبته إلى الله تعالي 129
  • الفرق بينه وبين الخجل 130
  • ما يستفاد من الآية المباركة 131
  • بحث کلامي وفيه شبهة الجبر والتفويض وأنها لم تكن حادثة في الإسلام ۱۳۲
  • الأفعال الاختيارية على أقسام 132
  • الجير ومذاهبه 133
  • أدلة القائلين بالجبر والجواب عنها 133
  • التفويض ومعناه 135
  • أدلة التفويض والجواب عنها 135
  • الأمر بين الأمرين والمراد به 137
  • بحث روائي وفيه ما ورد في بطلان الجبر والتفويض 138
  • نقض العهد ومعناه 140
  • الصلة ومعناها 141
  • بحث روائي 142
  • [سورة البقرة ۲۸ ـ ۲۹]
  • المراد من الموت والحياة في الآية المباركة 143
  • الخلق ومعناه 144
  • الاستواء ومعناء في القرآن 145
  • دلالة الآية المباركة على خلق الأرض قبل خلق السماء 145
  • بحث فقهي 146
  • بحث روائي وفيه حكمة خلق الأرض قبل خلق السماء 147
  • [سورة البقرة آية ـ ۳۰]
  • معنى القول المنسوب إليه تعالی 147
  • الملائكة واشتقاقها ووجودها 148
  • ما يستفاد من قوله تعالي : «وإذ قال ربك للملائكة» 148
  • ما ذكر في جعل الخلافة في الأرض 150
  • المراد من التسبيح والتقديس في الآية المباركة 150
  • منشا سؤال الملائكة ، وأنه ليس من الاعتراض 151
  • [سورة البقرة ۳۱ ـ 3۳]
  • التعلم ومعناه 152
  • تعليم آدم المعارف الإلهية كان بمباشرة منه تعالی 153
  • الاسم ومعناه والمراد منه في الآية المباركة 154
  • تعليمه للأسماء لا يختص بأسماء عالم المثال واثباته واحتمال أن المراد من عالم الأسماء ذلك 155
  • العرض ومعناه والمراد منه في الآية المباركة 156
  • الحكمة ومعناها والمراد منها في القرآن 158
  • استكمال الملائكة بواسطة الأنبياء 159
  • بحث دلالي وفيه أن العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات ، وأن تعليم الأسماء لآدم بمنزلة كتاب بيّنه تعالي وأن الملائكة كانت في الأرض 160
  • بحث روائي وفيه ما ورد في شأن علم الملائكة وتعليم آدم الأسماء وغير ذلك مما ورد في تفسير الآيات  161
  • بحث في الطينة والميثاق 164
  • بحث اجتماعي في اللغة 164
  • [سورة البقرة آية ـ 34]
  • السجود ومعناه 166
  • الوجوه المتصورة في سجود الملائكة 167
  • حقيقة إبليس 169
  • بحث روائي وفيه ما ورد في كيفية سجود الملائكة ومحل السجود 171
  • ما ورد في حقيقة إبليس ، وغير ذلك من الروايات الواردة في تفسير الآيات ۱۷۱
  • [سورة البقرة 35 ـ ۳۹]
  • زوجة آدم وكيفية خلقها 174
  • جنة آدم وما ورد فيها من الأقوال 176
  • حقيقة الشجرة المنهي عنها 178
  • ارتكاب آدم ل لأكل وحكمه في القرآن 180
  • الأمر بالهبوط تكويني ويصح أن يكون تشريعياً 182
  • توبة آدم 183
  • الوجه في تكرار الهبوط في الآية المباركة 184
  • المراحل التي مر عليها آدم تجري في النوع البشري وأصول المجتمعات 185
  • بحث روائي وفيه ما ورد في حقيقة جنة آدم وحقيقة الشجرة المنهي عنها 187
  • الإرادة ومعناها وإضافتها إلى الله تعالي وأنها من صفات الفعل لا الذات ، لبث آدم في الجنة ومقداره وكيفية دخول الشيطان للجنة ومكان سقوطه عنها إلى غير ذلك مما ورد من الروايات في تفسير الآيات المباركة 188
  • بحث كلامي وفيه معنى العصمة والأقوال في عصمة الأنبياء والآيات المنافية لها 196
  • بحث فلسفي وفيه أن الإنسان مخلوق حادث لا أنه مرتق من مخلوق آخر. وبيان قاعدة «إمكان الأشرف» وبطلان ما أورد عليها من المناقشة 199
  • بطلان ما ذهب أليه بعض الفلاسفة من أن كل حادث طبيعي لا بد وأن بد وأن
  • يستند إلى سبب طبيعي كذلك 200
  • الفرق بين مسألتي النشو والارتقاء والحركة الجوهرية 201
  • [سورة البقرة 40 ـ 43]
  • إسرائيل ومعناه 202
  • معنى الذكر في القرآن 203
  • الوفاء والعهد ومعناهما 204
  • بحث روائي وفيه ما ورد في معنى إسرائيل ،وأن سبب عدم استجابة الدعاء إنما هو لعدم الوفاء بعهده تعالی     207
  • [سورة البقرة 44 ـ 46]
  • العقل ومفهومه 208
  • ظاهر الأية المباركة خطاب عام يشمل جميع الأمرين بالمعروف التارکین له ۲۰۹
  • الاستعانة ومصاديقها 210
  • الظن ومعناه 211
  • بحث روائي وفيه أن الآية المباركة وقعت في القصاص والاستعانة بالصلاة والصوم في الأمور الشديدة ، وما ورد في معنى الظن      ۲۱۳
  • بحث أخلاقي وفيه تعريف الصبر وأنواعه وأنه من صفات ذات الإضافة وهو أم الفضائل 214
  • [سورة البقرة 47 ـ 4۸]
  • الآية تدل على وجوب شكر المنعم 220
  • العوالم الاستكمالية التي ترد على الإنسان أنواعها على قسمين واختلاف عالم الآخرة عما سواه بوجهين        221
  • الأقسام المنصورة في عمل الإنسان وارتباط العوالم بعضها مع بعض 223
  • بحث روائي وفيه ما ورد في معنی قوله تعالیى : «وإني فضلتكم على العالمين» ومعنى العدل في الآية المباركة      225
  • [سورة البقرة 49 ـ 5۰]
  • فرعون : لقب مركب من لفظين 226
  • بحث اجتماعي وفيه أن دوافع الاختلاف بين أفراد الإنسان وجماعاته ترجع إلى أحد أمور ثلاثة       229
  • بحث تاريخي وفیه منشا إطلاق العبريين على الإسرائيليين وتاریخ دخولهم مصر وكيفية عيشهم فيها وخروجهم عنها      230
  • [سورة البقرة 51 ـ 54]
  • الوعد وموارد استعماله وحقيقته 233
  • میعاد موسی ومعناه وزمانه ومكانه واتحاد الميقاتين له 234
  • الغاية المطلوبة من الميقات 235
  • وجه اختصاص الليالي بالذكر في الميعاد 235
  • موسی : وتعد د ذكره في القرآن وأنه علم مركب من لفظين 236
  • وجه حصر الميعاد في الأربعين 236
  • ما حصل من الميعاد 237
  • استحالة الترجي بالنسبة إليه تعالی 238
  • بحث روائي 242
  • بحث فلسفي وفيه أن الإفاضات الإلهية محدودة بحدود الاستعدادات وكيفية حصول القابلية للاستفاضة وأنها الغرض الأصلي من الميقات 243
  • مواقيت الإسلام وافتراقه مع میقات موسى (عليه السلام) 245
  • [سورة البقرة 55 ـ 59]
  • الصاعقة واحتمالاتها في الآية المباركة قصة سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى
  • البعث ومعناه وموارد استعماله في القرآن 246
  • المن والسلوى ومعناهما 249
  • القرية ومعناها في الآية المباركة 250
  • المراد من السجود في الآية المباركة مطلق الخضوع 252
  • التبديل ومعناه وحكمه 253
  • بحث دلالي وفيه أن الآيات المباركة يمكن أن تكون إشارة إلى مقامات خاصة 254
  • بحث روائي وفيه ما ورد في الرجعة وأن الذين أخذتهم الصاعقة واحترقوا أحياهم الله تعالى وبعثهم أنبياء. وما ورد في تفسير الغمام والمن والسلوى ، وأن ال له أجل من أن يظلم إلى غير ذلك من الروایات الواردة في الآية المباركة 254
  • [سورة البقرة 60 ـ 6۱]
  • شأن الحجر الذي استسقی به موسی (عليه السلام) لقومه وعصاه 258
  • الطعام ومعناه في القرآن 260
  • الغضب ومعناه ونسبته إليه تعالی 262
  • النبي واشتقاقه ومعناه 263
  • بحث روائي وفيه ما ورد في معنى القتل والحجر وأن المعاصي توجب الخذلان على صاحبها 265
  • بحث فقهي وكلامي وفيه أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وإطلاق الرزق في الآية المباركة على الحلال. بحث فلسفي في حقيقة المعجزة 266
  • [سورة البقرة آية ـ 6۲]
  • اليهود والنصارى والصابئة ومعناها واشتقاقها 268
  • حقيقة الإيمان 270
  • بحث روائي وفيه ما ورد معاني اليهود والنصارى والصائبين 271
  • بحث تاريخي عقائدي في حقيقة الصابئة وبيان آرائهم وفرقهم 271
  • [سورة البقرة 6۳ ـ 74]
  • رفع الجبل فوق اليهود لا يستلزم الإكراه في الإيمان 276
  • المسخ بحسب الصورة والقلب 276
  • الآيات المباركة تسلية ل لنبي (صلى الله عليه وآله) 278
  • الحيل الشرعية ومعناها والاستدلال بالآيات المباركة على عدم جوازها 278
  • وجه تأخير آية ۷۲ عن آية 67 280
  • الهزء وقرائتها 280
  • الخشية ومعناها 285
  • الغفلة ومعناها ومواردها 286
  • بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة الواردة في قصة البقرة أمور : ۲۸۷
  • بحث روائي وفيه ما ورد من الروايات في الآيات المباركة وقصة ذبح البقرة تفصيلا ، وأن التقييد فيها ظاهر من سیاق حال أصل التكليف وأموال المكلفين ، وما أورد على ذلك من الروايات المنافية لذلك 289
  • بحث تاريخي وفيه كيفية ذكر قصة البقرة في التوراة 292
  • بحث فلسفي في التناسخ وتجسم الملكات 293
  • [سورة البقرة 75 ـ ۸۲]
  • الأسرار ومعناه ومراتبه وأن الآية المباركة تدل على إحاطته تعالى للعوالم إحاطة واقعية 298
  • الأمي والأماني ومعناهما وما يحتمل في الآية المباركة منهما 299
  • فساد مزاعم اليهود من النار أن لا تمسهم إلا أياماً معينة 301
  • الخطيئة وإحاطتها بالإنسان وأقسام ذلك 301
  • بحث روائي وفيه ما ورد في الآيات المباركة وتفسيرها. وأن الأفعال على أقسامها إما من الشرور أو من الخيرات  305
  • بحث فقهي وفيه حكم الاستدلال بالآية المباركة على حرمة بيع المصحف وتدوینه 307
  • [سورة البقرة ۸۳ ـ 86]
  • السر في اقتران الإحسان بالوالدين مع التوحيد 308
  • التولي ومعناه واستعماله في القرآن 310
  • في بیان عدم نسخ آية ۸۳ 311
  • بحث روائي وفيه ما ورد في تفسير الآيات المباركة من الروايات 316
  • بحث دلالي وفيه بيان الوجه في أن الخطاب في القران مع اليهود في عصر التنزيل وأن ما حدث منهم كان في أسلافهم   317
  • [سورة البقرة ۸۷ ـ ۹۱]
  • الرسل بين موسي وعیسی (عليهما السلام) وعددهم 319
  • روح القدس ومعناه في القرآن 319
  • الهوان ومعناه في القرآن 324
  • الإيمان بجميع الأنبياء والرسل إنما يتم بنحو الواحدة 324
  • بحث روائي وفيه ما ورد في كيفية هجرة اليهود إلى المدينة ، وأنهم كانوا يقسمون الله بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) لنصرتهم على مقاتليهم والمناقشة في تلك الروايات والجواب عنها 326
  • [سورة البقرة ۹۲ ـ 96]
  • البينات ومعناها وما أعطي لموسي (عليه السلام) من الآيات البينات 329
  • التمني وأقسامه 333
  • بحث روائي وفيه ما ورد من الروايات في معنی قوله تعالى : «واشربوا في قلوبهم العجل».. 336
  • بحث أدبي 336
  • [سورة البقرة 97 ـ 101]
  • جبرائيل وشأنه عند اليهود 338
  • الملائكة وحقيقتها 340
  • وجه اختصاص جبرائيل وميكائيل في الآية المباركة بالذكر 341
  • الفسق ومعناه 342
  • بحث روائي وفيه ما ورد في شأن نزول قوله تعالی : «من كان عدوا لجبریل» 344
  • [سورة البقرة 103 ـ 102]
  • ملك سليمان والمراد منه 346
  • بابل وشأنها في التاريخ بين المدن 348
  • هاروت وماروت وأنهما ملكين 349
  • بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآية المباركة أمور : 352
  • بحث روائي وفيه ما ورد من الروایات في تفسير الآية المباركة وشأن نزولها 354
  • بحث علمي وفيه حقيقة السحر ، وتقسيم العلوم حسب أقسام موضوعها 356
  • تأثير السحر في النفس 356
  • إزالة الأثر النفسي عن السحر في القرآن 356
  • الفرق بين ما يصدر من الأنبياء وما يصدر عن الشياطين 359
  • بحث فقهي وفيه أن السحر حرام في جميع الشرايع السماوية ، وأقسام المحرمات 361
  • بحث كلامي وفيه أن ما يفاض على الممكنات ينتهي إليه تعالي ، والفرق بين المعجزة والسحر بوجوه عديدة    361
  • [سورة البقرة 104 ـ 105]
  • كلمة راعنا ومعناها واشتقاقها 364
  • الخير ومعناه وسبب حسد الكفار والمشركين للمؤمنين 365
  • بحث روائي وفيه إنه ليس في القرآن «يا أيها الذين آمنوا» إلا وفي التوراة «یا أيها المساكين» ، وما أنزل الله «يا أيها الذين أمنوا» إلا وعلي (عليه السلام)
  • رأسها وأميرها ، وما ورد في معنى كلمة راعنا عند اليهود من السب 366
  • [سورة البقرة 106 ـ 108]
  • النسخ ومعناه وما يستلزمه من الأمور 369
  • الآية ومعناها في القرآن 369
  • المراد من السؤال في الآية المباركة 373
  • الوجه في التعبير بالتبديل دون غيره في آية ۱۰۸ 374
  • أفعال الإنسان معلول نفسه ولها علية في النفس أيضا 374
  • بحث روائي وفيه ما ورد في معنى النسخ والنسيان في القرآن وأن البداء من النسخ 375
  • بحث کلامي وفيه إمكان النسخ 377
  • معنى النسخ 377
  • حقيقة النسخ والحكمة فيه 379
  • النسخ ووقوعه 380
  • شرائط النسخ 382
  • نسخ الشرابع 383
  • أقسام النسخ 385
  • أنواع النسخ في القرآن 385
  • سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها أو المنسوخ 386
  • بحث دلالي وفيه وجه تکرار قوله تعالي : «ألم تعلم» وأنه لا حد للناسخ والمنسوخ ، وتعلق النسخ ببعض جهات الآية دون تمامها 388
  • [سورة البقرة 109 ـ 113]
  • الآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي 390
  • ظهور العمل بنفسه ورؤيته في الدار الآخرة بطلان ما ذهب أليه بعض الفلاسفة من نفي عمله تعالى بالجزئيات 392
  • بحث روائي وفيه ما ورد في قوله تعالى : «ودّ كثير من أهل الكتاب» النازل في كعب بن الأشرف اليهودي. وما ورد في تفسير قوله تعالى : «وقالت اليهود ليست النصاری على شيء» 396
  • بحث دلالي وفيه ما تضمنته الآية الشريفة من الأمور 397
  • [سورة البقرة 114 ـ 115]
  • المساجد ومعناه وما يمكن أن يراد منها في الآية المباركة 398
  • عدم التناهی في صفات كماله وجماله مما يستفاد من الآية المباركة 401
  • بحث روائي وفيه ما ورد من الروايات في تفسير الآيات المباركة 402
  • بحث فقهي : وفيه ما استدل على عدم جواز دخول الكفار والمشركین المساجد وما استدل بقوله تعالي : ولله المشرق والمغرب الآية على جواز التوجه إلى غير القبلة في عدة موارد 403
  • [سورة البقرة 116 ـ 117]
  • الأخذ وما يتضمن فيه من المعني في الآية المباركة 405
  • البديع ومعناه في القرآن 407
  • القضاء والأمر ومعناهما 407
  • بحث روائي وفيه ما ورد في تفسیر «سبحان الله وبديع السموات والأرض» 409
  • بحث كلامي وفيه ما استدل على عدم المجانسة بینه تعالی وبين مخلوقاته ، كذا امتناع اتخاذ الولد له سبحانه وتعالی      410
  • [سورة البقرة 118 ـ 123]
  • كلمة «لولا» واستعمالها في القرآن 412
  • المراد من قوله تعالي : «حق تلاوته» وما تضمنه من القاعدة 417
  • الفرق بين الخطابين لأمة محمد (صلى الله عليه وآله) وبني إسرائيل في الآية
  • المباركة 418
  • بحث روائي : وفيه ما ورد من الروايات في تفسير الآيات المباركة 418
  • بحث دلالي وفيه أن الآيات الشريفة الواردة في ذم اليهود وغيرهم من الملل ليست لذاتهم وإنما لأفعالهم الفاسدة الحاصلة بالاختيار 419