

بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين
الأدلة على أن الصانع
واحد
وبعد فمن الأدلة
على أن صانع العالم واحد ـ أما الذي يعتمده أكثر المتكلمين فدليل التمانع.
وهو أنه لو كان
لصانع العالم ثان لوجب أن يكون قديما وإذا كان كذلك ماثله وإذا ماثله صح أن يريد
أحدهما ضد ما يريده الآخر فيقع التمانع كإرادة أن يحرك جسما في وقت وأراد الآخر أن
يسكنه فيه.
وإذا صح ذلك لم
يخل الأمر من ثلاث خصال
إما أن يصح وقوع
مراديهما من غير تضاد ولا تمانع بينهما فيكون الجسم في وقت واحد ساكنا ومتحركا
وهذا محال.
وإما أن لا يصح
وقوعهما ولا شيء منهما فهذا هو التمانع المبطل لوقوع مراديهما وهو دليل على ضعفهما.
وإما أن يقع مراد
أحدهما دون الآخر فهو دليل على أن من لم يقع مراده
ممنوع ضعيف خارج
من أن يكون قديما لأن من صفات القديم أن يكون قادرا لنفسه لا يتعذر عليه فعل
اراده.
فإن قيل لم قلتم
إنه إن كان معه ثان يصح أن يريد ضد مراده؟
قلنا لأن من حق
القادر أن يصح منه الشيء وضده لا سيما إذا كان قادرا لنفسه فإذا كانا قادرين
لأنفسهما صح ما ذكر بينهما.
فإن قيل إن
التمانع لا يقع منهما لأنهما عالمان فكل واحد منهما يعلم أن مراد صاحبه حكمة فلا
يريد ضده.
قلنا إن الكلام
مبني على صحة ذلك دون كونه فإن لم يكن واحد منهما يريد أن يمنع صاحبه فكونه قادرا
يعطي أنه ممكن منه وإن لم يفعل وتصح إرادته ولا تستحيل منه ويحصل من ذلك تقدير
التمانع بينهما وجوازه.
فإن قيل لم ذكرتم
أنهما إذا لم يقع مرادهما جميعا إن ذلك لضعفهما؟
قلنا لتساوي
مقدورهما وعند تساويه لا يكون فعل أحدهما أحق بالوجود من فعل الآخر وفي ذلك إبطال
أفعالهما وهو معنى قول الله عزوجل.
(لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢
فإن قيل فلم قلتم
إن وجود مراد أحدهما دليل على ضعف الآخر؟
قلنا لما في ذلك
من رجحانه في قدرته على صاحبه فلو لا أنه أقدر منه لما وقع مراده دونه وهذا يوضح
عن ضعف من لم يقع مراده.
دليل
آخر
وقد احتج أصحابنا
بدليل التمانع على وجه آخر فقالوا إنهما لو كانا اثنين كان لا يخلو أحدهما من أن
يكون يقدر على أن يكتم صاحبه شيئا أو لا يقدر على ذلك.
فإن كان يقدر
فصاحبه يجوز عليه الجهل ومن جاز عليه الجهل فليس بإله قديم.
وإن كان لا يقدر
فهو نفسه عاجز والعاجز ليس بإله قديم.
دليل
آخر :
ومما يدل على أن
صانع العالم واحد أنه لو كان معه ثان كان لا يخلو أمرهما في فعلهما للعالم من أحد
وجهين:
إما أن أمرهما في
فعلهما للعالم من أحد وجهين :
أما أن كل واحد
منهما فعل جميعه حتى يكون الذي فعله أحدهما هو الذي فعله صاحبه.
أو يكون كل واحد
منهما انفرد ببعض منه.
وفي الوجه الأول
إيجاب فعل واحد من فاعلين وهذا يبطل في فصل
.
وفي الوجه الثاني
إيجاب تميز فعل كل واحد منهما عن فعل الآخر لأن القادر الحكيم إذا فعل فعلا حسنا
لم يجز إلا ليجعله دالا عليه وموسوما به ومميزا عن فعل غيره لا سيما إذا كان داعيا
إلى شكر نعمته وموجبا لمعرفته ولا طريق لأحد إلى معرفته إلا بفعله.
فلما لم يكن فعل
ما شاهدناه من السماء والأرض وغيرهما مما يدل على أن بعضه لواحد وبعضه لآخر وإنما
يدل على أن له فاعلا فقط علمنا أن الفاعل له واحد وهو الله تعالى ذكره.
فإن قيل فإنا نجد
العالم على قسمين جواهر وأعراض وكل واحد من الجنسين مميز عن الآخر فألا دل هذا على
الصانعين؟
قلنا لو كان صانع
الجواهر غير صانع الأعراض لكانا محتاجين بل
عاجزين لأن أحدهما
لا يقدر أن يفعله بانفراده وهو يفتقر إلى صاحبه لاستحالة وجود الجوهر بغير عرض
والعرض بغير جوهر إلا ما انفرد به قوم من إرادة القديم وفناء العالم.
دليل
آخر :
وهو أن العالم لو
كان صانعه اثنين لكانا غيرين وحقيقة الغيرين هما اللذان يجوز وجود أحدهما وعدم
الآخر إما من الزمان أو المكان أو على وجه من الوجوه أو كان يجوز ذلك.
ولسنا نجد أحدا من
ذوي العقول الصحيحة السليمة التي لم تعترضها الشبهة الحادثة تعرف غيرين إلا وهو
يعرف أنها هكذا ولا يعلم شيئين هكذا إلا وهو يعلم أنهما غيران.
وهذا يمنع من أن
يكون صانع العالم اثنين لما في ذلك من جواز عدم أحدهما ومن جاز عدمه فليس بقديم
وفي بطلان قدم أحدهما دليل على أنه داخل في جملة المحدثين وأن صانع العالم هو
الواحد القديم ومن خالفنا في حد الغيرين فليوجد لنا
شيئين متفقين على وجودهما ليس هذا حكمهما.
دليل
آخر
وقد اعتمد البلخي
دليلا مفردا على أن صانع العالم واحد لم يحتج أن يذكر فيه تقدير وجود الاثنين
فقال :
الذي يدل على ذلك
أنا وجدنا العالم محدثا ولا بد له من محدث ووجدنا من تجاوز هذا القول بأن المحدث
له واحد فزعم أنه اثنان لا نجد فرقا بينه وبين من زعم أنه ثلاثة وكذلك لا نجد فرقا
بينه وبين من زعم أنه أربعة وكل عدة تجاوزت الواحد لا يقدر القائل بها على فرق
بينه وبين من زاد فيها ولا نجد حجة توجب قوله دون قول خصمه فيها.
فلما فسد قول كل
من ادعى الزيادة على الواحد وليس مع أحدهم رجحان بحجته وتكافأت أقوالهم في دعوى
الزيادة دل على أن الصانع واحد لا أكثر من ذلك ولأن الدليل ثبت على وجود الصانع
ولم يثبت على ما يزيد على واحد.
ثم عارض نفسه فقال
:
إذا قال قائل إنكم
قد تجدون دارا مبنية يدل بناؤها على أن لها بانيا ثم لا يجدون فرقا بين من زاد على
واحد فقال إن بانيها اثنان وبين من قال ثلاثة وكذلك كل عدة حتى لا يتميز بعض
الأقوال على بعض حجة أفتقطعون على أن صانع الدار واحد؟
وانفصل عن هذه
المعارضة بأن قال إن المثبت للدار صانعا واحدا أو صانعين فقد نجد فرقا بينه وبين
من زاد عليه ودليلا على قوله دون قول من خالفه وذلك أن صناع الدار يجوز أن يشاهدهم
من شاهدها ويجوز أن يرد الخبر إليه بعددهم ممن شاهدهم يبنونها.
وليس كذلك صانع
العالم وهذا فرق واضح بين الموضعين ولوضوحه يعلم بطلان مذهب الثنوية على اختلافهم
والنصارى في التثليث ومن جرى مجراهم والحمد لله.
فصل :
من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الخصال من واحد إلى عشرة
وروي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال
خصلة من لزمها
أطاعته الدنيا والآخرة وربح الفوز بالجنة.
قيل ما هي يا رسول
الله؟
قال التقوى من
أراد أن يكون أعز الناس فليتق الله عزوجل ثم تلا :
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)
الطلاق : ٢.
وقال :
المؤمن بين
مخافتين بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين آجل قد بقي لا يدري ما
الله قاض فيه.
وقال صلى الله
عليه وسلم ومن وقي شر ثلاث فقد وقي الشر كله لقلقه وقبقبه وذبذبه.
فلقلقه لسانه
وقبقبه بطنه وذبذبه فرجه.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
أربع خصال من
الشقاء جمود العين وقساوة القلب والإصرار على الذنب والحرص على الدنيا.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
خمس لا يجتمعن إلا
في مؤمن حقا يوجب الله له بهن الجنة النور في القلب والفقه في الإسلام والورع في
الدين والمودة في الناس وحسن السمت في الوجه.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
اضمنوا لي ستا من
أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا اؤتمنتم
واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم و (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)
وقال صلى الله
عليه وسلم :
أوصاني ربي بسبع
أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية وأن أعفو عمن ظلمني وأعطي من حرمني وأصل من
قطعني وأن يكون صمتي فكرا ونظري عبرا
وحفظ عنه صلى الله
عليه وسلم ثمان قال :
ألا أخبركم
بأشبهكم بي خلقا؟
قالوا بلى يا رسول
الله قال أحسنكم خلقا وأعظمكم حلما وأبركم بقرابته وأشدكم حبا لإخوانه في دينه
وأصبركم على الحق وأكظمكم للغيظ وأحسنكم عفوا وأشدكم من نفسه إنصافا.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
الكبائر تسع
أعظمهن الإشراك بالله عزوجل وقتل النفس المؤمنة وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف
المحصنة والفرار من الزحف وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام والسحر فمن لقي
الله عزوجل وهو بريء منهن كان معي في جنة مصاريعها من ذهب.
وقال :
الإيمان في عشرة
المعرفة والطاعة والعلم والعمل والورع والاجتهاد والصبر واليقين والرضا والتسليم
فأيها فقد صاحبه بطل نظامه
فصل :
من فضائل أمير
المؤمنين عليهم السلام والنصوص عليه من رسول الله ص
من جملة ما رواه
لنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي رحمهالله بمكة في المسجد الحرام قال حدثني نوح بن أحمد بن أيمن رحمهالله قال حدثنا إبراهيم بن أحمد بن أبي حصين قال حدثني جدي قال
حدثني يحيى بن عبد الحميد قال حدثني قيس بن الربيع قال حدثني سليمان الأعمش عن
جعفر بن محمد قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أبيه قال أبي أمير
المؤمنين علي عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي أنت أمير
المؤمنين وإمام المتقين يا علي أنت سيد الوصيين ووارث علم النبيين وخير الصديقين
وأفضل السابقين يا علي أنت زوج سيدة نساء العالمين وخليفة خير المرسلين يا علي أنت
مولى المؤمنين والحجة بعدي على الناس أجمعين استوجب الجنة من تولاك واستوجب دخول
النار من عاداك.
يا علي والذي
بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية لو أن عبدا عبد الله تعالى ألف عام ما قبل
الله ذلك منه إلا بولايتك وولاية الأئمة من ولدك وأن ولايتك لا تقبل إلا بالبراءة
من أعدائك وأعداء الأئمة من ولدك بذلك أخبرني جبرئيل عليهم السلام (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ
فَلْيَكْفُرْ).
وحدثنا الشيخ أبو
الحسن بن شاذان قال حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن متويه المقري قال حدثنا أحمد
بن محمد قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا علي بن عثمان قال حدثنا محمد بن فرات عن
محمد بن علي عن أبيه عن الحسين بن علي عن أبيه قال قال رسول الله ص:
علي بن أبي طالب
خليفة الله وخليفتي حجة الله وحجتي وباب الله وبابي وصفي الله وصفيي وحبيب الله
وحبيبي وخليل الله وخليلي وسيف الله وسيفي وهو أخي وصاحبي ووزيري ووصيي حجته حجتي
ومبغضه مبغضي ووليه وليي وعدوه عدوي وزوجته ابنتي وولده ولدي وحربه حربي وقوله
قولي وأمره أمري وهو سيد الوصيين وخير أمتي.
وحدثنا الشيخ أبو
الحسن بن شاذان قال حدثني خال أمي أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمهالله قال حدثنا علي بن الحسين قال حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه
قال حدثني أحمد بن محمد قال حدثني محمد بن الفضيل عن ثابت بن أبي صفية عن أبي حمزة
قال حدثني علي بن الحسين عن أبيه قال حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله فرض عليكم
طاعتي ونهاكم عن معصيتي وأوجب عليكم اتباع أمري وفرض عليكم من طاعته طاعة علي بن
أبي طالب بعدي كما فرض عليكم من طاعتي ونهاكم عن معصيته كما نهاكم عن معصيتي وجعله
أخي ووزيري ووصيي ووارثي وهو مني وأنا منه حبه إيمان وبغضه كفر محبه محبي ومبغضه
مبغضي وهو مولى من أنا مولاه وأنا مولى كل مسلم ومسلمة وأنا وهو أبوا هذه الأمة
فصل :
من كلام أمير
المؤمنين عليهم السلام وآدابه في فضل الصمت وكف اللسان
من علم أن كلامه
من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
من كثر كلامه كثر
خطؤه ومن كثر خطؤه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه ومن مات
قلبه دخل النار.
إذا فاتك الأدب
فالزم الصمت.
العافية في عشرة
أجزاء تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله عزوجل.
كم نظرة جلبت حسرة
وكم من كلمة سلبت نعمة.
من غلب لسانه أمره
قومه.
المرء يعثر برجله
فيبرأ ويعثر بلسانه فيقطع رأسه ولسانه احفظ لسانك فإن الكلمة أسيرة في وثاق الرجل
فإن أطلقها صار أسيرا في وثاقها.
عاقبة الكذب شر
عاقبة.
خير القول الصدق
وفي الصدق السلامة والسلامة مع الاستقامة.
لا حافظ أحفظ من
الصمت.
إياكم والنمائم
فإنها تورث الضغائن.
هانت عليه نفسه من
أمر عليه لسانه.
الصمت نور.
إن الله عزوجل جعل صورة المرأة في وجهها وصورة الرجل في منطقه.
مختصر التذكرة بأصول
الفقه
استخرجته من كتاب
شيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه وقدسسره.
(بسم الله الرحمن
الرحيم)
الحمد لله أهل
الحمد ومستحقه وصلاته على خيرته المصطفين من خلقه سيدنا محمد رسوله الدال بآياته
على صدقه وعلى أهل بيته الأئمة القائمين من بعده بحقه.
سألت أدام الله
عزك أن أثبت لك جملا من القول في أصول الفقه مختصرة لنكون لك تذكرة بالمعتقد في
ذلك ميسرة وأنا أسير إلى محبوبك وأنتهي إلى مرادك ومطلوبك بعون الله وحسن توفيقه.
اعلم أن أصول
أحكام الشريعة ثلاثة أشياء كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده صلوات الله عليهم وسلامه.
والطرق الموصلة
إلى علم المشروع في هذه الأصول ثلاثة
أحدها العقل وهو
سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار.
والثاني اللسان
وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام.
وثالثها الأخبار
وهي السبيل إلى إثبات أعيان الأصول من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة ع.
والأخبار الموصلة
إلى العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار خبر متواتر وخبر واحد معه قرينة تشهد بصدقه وخبر
مرسل في الإسناد يعمل به أهل الحق على الاتفاق.
ومعاني القرآن على
ضربين ظاهر وباطن.
والظاهر هو
المطابق لخاص العبارة عنه تحقيقا على عادات أهل اللسان كقوله سبحانه :
(إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
فالعقلاء العارفون
باللسان يفهمون من ظاهر هذا اللفظ المراد.
والباطن هو ما خرج
عن خاص العبارة وحقيقتها إلى وجوه الاتساع فيحتاج العاقل في معرفة المراد من ذلك
إلى الأدلة الزائدة على ظاهر الألفاظ كقوله سبحانه :
(أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ).
فالصلاة في ظاهر
اللفظ هي الدعاء حسب المعهود بين أهل الفقه وهي في الحقيقة لا يصح منها القيام
والزكاة هي النمو عندهم بلا خلاف ولا يصح أيضا فيها الإتيان وليس المراد في الآية
ظاهرها وإنما هو أمر مشروع.
فالصلاة المأمور
بها فيها هي أفعال مخصوصة مشتملة على قيام وركوع وسجود وجلوس.
والزكاة المأمور
بها فيها هي إخراج مقدار من المال على وجه أيضا مخصوص وليس يفهم هذا من ظاهر القول
فهو الباطن المقصود.
وأنواع أصول معاني
القرآن أربعة
أحدها الأمر وما
استعير له لفظه
وثانيها النهي وما
استعمل فيه لفظه.
وثالثها الخبر مع
ما يستوعبه لفظه.
ورابعها التقرير
وما وقع عليه لفظه
وللأمر صورة محققة
في اللسان يتميز بها عن غيره في الكلام وهي قولك افعل إذا ورد مرسلا على الإطلاق
وإن كانت هذه اللفظة تستعمل في غير الأمر على سبيل الاتساع والمجاز كالسؤال
والإباحة والخلق والمسخ والتهديد.
والأمر المطلق
يقتضي الوجوب ولا يعلم الندب إلا بدليل.
وإذا علق الأمر
بوقت وجب الفعل في أول الوقت وكذلك إطلاقه يقتضي المبادرة بالفعل والتعجيل ولا يجب
ذلك أكثر من مرة ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليل.
فإن تكرر الأمر
وجب تكرار الفعل ما لم تثبت حجة بأن المراد بتكراره التأكيد.
فأما الأمران إذا
عطف أحدهما على الآخر فالواجب أن يراعى فيهما الاتفاق في الصورة والاختلاف فإن
اتفقا دل ذلك على التأكيد وإن اختلفا كان لهما حكمان.
والقول في الخبرين
إذا تساويا في الصورة كالقول في الأمرين.
وامتثال الأمر مجز
لصاحبه ومسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه.
وإذا ورد لفظ
الأمر معاقبا لذكر الحظر أفاد الإباحة دون الإيجاب كقول الله تعالى
(فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) الجمعة : ١٠.
بعد قوله (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) الجمعة : ٩.
وإذا ورد الأمر
بفعل أشياء على طريق التخيير كوروده في كفارة اليمين فكل واحد من تلك الأشياء واجب
بشرط اختيار المأمور وليست واجبة على الاجتماع ولا بالإطلاق.
وما لا يتم الفعل
إلا به واجب كوجوب الفعل المأمور به وكذلك الأمر بالمسبب دليل على وجوب فعل السبب.
والأمر بالمراد
دليل على فعل الإرادة.
وليس الأمر بالشيء
هو بنفسه نهي عن ضده ولكنه يدل على النهي عنه بحسب دلالته على حظره.
وباستحالة اجتماع
الفعل وتركه يقتضي صحة النهي العقلي عن ضد ما أمر به.
وإذا ورد الأمر
بلفظ المذكر مثل قوله يا أيها الذين آمنوا ويا أيها المؤمنون والمسلمون وشبهه فهو
متوجه بظاهره إلى الرجال دون النساء ولا يدخل تحته بشيء من الإناث إلا بدليل سواه.
فأما تغليب المذكر
على المؤنث فإنما يكون بعد جمعها بلفظهما على التصريح ثم يعبر عنهما من بعده بلفظ
المذكر.
ومتى لم يجر
للمؤنث بما يخصه من اللفظ فليس يقع العلم عند ورود لفظ المذكر بأن فيه تغليبا إلا
أن يثبت أن المتكلم قصد الإناث والذكور معا بدليل.
فأما الناس فكلمة
تعم الذكور والإناث.
وأما القوم فكلمة
تعم الذكور دون الإناث.
وإذا ورد الأمر
مقيدا بصفة يخص بها بعض المكلفين فهو مقصور على ذي الصفة غير متعدية إلى غيره إلا
بدليل كقوله تعالى
(يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) المدثر : ٢
وإذا ورد بصفة
تتعدى المذكور إلى غيره من المكلفين كان متوجها إلى سائرهم على العموم إلا ما خصه
الدليل كقوله عزوجل
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) الطلاق : ١.
والأمر بالشيء لا
يكون إلا قبله لاستحالة تعلق الأمر بالموجود.
والأمر متوجه إلى
الطفل بشرط البلوغ.
وكذلك الأمر
للمعدوم بشرط وجوده وعقله الخطاب.
ويصح أيضا توجه
إلى من يعلم من حاله أنه يعجز في المستقبل عما أمر به أو يحال بينه وبينه أو يخترم
دونه كما يجوز في ذلك من مصلحة المأمور في
اعتقاده فعل ما
أمر به واللطف له في استحقاقه الثواب على نيته وإمكان استصلاح غيره من المكلفين
بأمره.
فأما خطاب المعدوم
والجمادات والأموات فمحال والأمر أمر بعينه ونفسه.
فأما النهي فله
صورة في اللسان محققة يتميز بها عن غيره وهي قولك لا تفعل إذا ورد مطلقا.
والنهي في الحقيقة
لا يكون منك إلا لمن دونك كالأمر.
والنهي موجب للترك
المستدام ما لم يكن شرط يخصه بحال أو زمان.
فأما الخبر فهو ما
أمكن فيه الصدق والكذب وله صيغة مبنية يتفصل بها مما يخالفه في معناه وقد يستعار
صيغته فيما ليس بخبر كما يستعار غيرها من صيغ الحقائق فيما سواه على وجه الاتساع
والمجاز قال الله عزوجل:
(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) هو من الآية ٩٧ من آل عمران.
فهو لفظ بصيغة
الخبر والمراد به الأمر بأن يؤمن من دخله.
والعام في معنى
الكلام ما أفاد لفظه اثنين فما زاد.
والخاص ما أفاد
واحدا دون سواه لأن أصل الخصوص التوحيد وأصل العموم الاجتماع وقد يعبر عن كل منها
بلفظ الآخر تشبها وتجوزا قال الله تعالى :
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الحجر : ٩.
فعبر عن نفسه
سبحانه وهو واحد بلفظ الجمع.
وقال سبحانه :
(الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ
إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران : ١٧٣.
وكان سبب نزول هذه
الآية أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليهم السلام قبل وقعة أحد إن أبا سفيان قد جمع
لكم الجموع فقال أمير المؤمنين عليهم السلام (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ).
فأما اللفظ المعبر
به عن العام فهو كقوله عزوجل :
(وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) الحاقة : ١٧
وإنما أراد به
الملائكة.
وقوله :
(يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الانفطار : ٩
يريد يا أيها
الناس.
وكل لفظ أفاد من
الجمع ما دون استيعاب الجنس فهو عام في الحقيقة خاص بالإضافة كقوله عزوجل.
(فَتَحْنا عَلَيْهِمْ
أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الانعام : ٤٤
ولم يفتح لهم
أبواب الجنات ولا أبواب النار
وقوله :
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) البقرة : ٢٦
وإنما أراد بعض الجبال.
وكقول القائل
جاءنا فلان بكل عجيبة والأمثال في ذلك كثيرة وهو كله عام في اللفظ خاص مقصور عن
الاستيعاب.
فأما العموم
المستوعب للجنس فهو ما أفاد من القول نهاية ما دخل تحته وصح للعبارة عنه في اللسان
قال الله عزوجل :
(وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ)
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧
فأما الألفاظ المنسوبة
إلى الاشتراك فهي على أنحاء:
فمنها ما هو مبني
لمعنى سائغ في أنواع مختلفات كاسم شيء على التنكير فهو وإن كان في اللغة موضوعا
للموجود دون المعدوم فهو يعم الجواهر والأجسام والأعراض غير أن لكل ما شمله مما
عددناه أسماء على التفصيل مبينات يخص كل اسم نوعه دون ما سواه ومنها رجل وإنسان
وبهيمة ونحو
ذلك فإنه يقع على
كل اسم من هذه الأسماء على أنواع في الصور والهيئات وهو موضوع في الأصل لمعنى يعم
جميع ما في معناه.
ومن الألفاظ
المشتركة ضرب آخر وهو قولهم عين ووقوع هذه اللفظة على جارحة البصر وعلى الماء
والذهب وجيد الأشياء وصاحب الخير وميل الميزان وغير ذلك فهذه اللفظة بمجردها غير
مبنية لشيء مما عددناه وإنما هي بعض المسمى وتمامه وجود الإضافة أو ما يقوم مقامها
من الصفة المخصوصة.
وإذا ورد اللفظ
وكان مخصوصا بدليل فهو على العموم فيما بقي تحته مما عدا المخصوص ويقال إنه عام
على المجاز لأنه منقول عما بني له من الاستيعاب إلى ما دونه من المخصوص.
وحقيقة المجاز هي
وضع اللفظ على غير ما بني له في اللسان فلذلك قلنا إنه مجاز.
وإذا ورد لفظان
عامان كل منهما يرفع حكم صاحبه ولم يعرف المتقدم منهما من المتأخر فيقال إن أحدهما
منسوخ والآخر ناسخ وجب فيها الوقف ولم يجز القضاء بأحدهما على الآخر إلا أن يحضر
دليل.
وذلك كقوله سبحانه
:
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً
إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) البقرة : ٢٤٠.
وهذا عموم في جميع
الأزواج المختلفات بعد الوفاة.
وقوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً)
البقرة : ٢٣٤.
وهذا أيضا عام
وحكمهما متنافيان فلو لا أن العلم قد أحاط بتقديم إحداهما فوجب القضاء بالمتأخرة
الثانية منهما لكان الصواب هو الوقف دون الحكم بشيء منهما.
وكذلك إذا ورد
حكمان في قضية واحدة أحدهما خاص والآخر عام ولم
يعرف المتقدم من
المتأخر منهما ولم يمكن الجمع بينهما وجب التوقف فيهما
مثل ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
لا نكاح إلا بولي
والرواية عنه من
قوله :
ليس للولي مع
البنت أمر
وهذا يخص الأول
وفي الإمكان أن يقضى عليه في الأول في كل واحد منهما يجوز أن يكون الناسخ للآخر
فيعدلنا عنهما جميعا لعدم الدلالة على القاضي منهما وصرنا إلى ظاهر قوله عزوجل :
(فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) النساء : ٣
وقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) في إباحة النكاح بغير اشتراط ولي على الإطلاق.
الخاص والعام
وإذا ورد لفظ في
حكم وكان معه لفظ خاص في ذلك الحكم بعينه وجب القضاء بالخاص وهذا مثل الأول ومثاله
قول الله عزوجل :
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) المؤمنون : ٥ و ٦.
وهذا عام في
ارتفاع اللوم على وطء الأزواج على كل حال والخصوص قوله سبحانه
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) البقرة : ٢٢٢.
فلو قضينا بعموم
الآية ارتفع حكم آية المحيض بأسره وإذا قضينا بما في الثانية من الخصوص لم يرتفع
حكم الأولى العام من كل الوجوه فوجب القضاء بآية التخصيص منهما ليصح العمل على ما
بيناه بهما.
وإذا سبق التخصيص
اللفظ العام أو ورد مقارنا له فلا يجوز القول بأنه ناسخ لحكمه لأن العموم لم يثبت
فيستقر له حكم وإنما خرج إلى الوجود مخصوصا فأوجبه في حكم الخصوص.
والنسخ إنما هو
رفع موجود لو ترك لأوجب حكما في المستقبل.
والذي يخص اللفظ
العام لا يخرج منه شيئا دخل تحته وإنما يدل الدليل على أن التجوز لم يرد من معنى
ما بني له الاسم وإنما أراد غيره وقصد إلى وضعه على ما بني له في الأصل.
وليس يخص العموم
إلا دليل العقل والقرآن والسنة الثابتة.
فأما القياس
والرأي فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما ولا يخصان عاما ولا يعمان
خاصا ولا يدلان على حقيقة.
ولا يجوز تخصيص
العام بخبر الواحد لأنه لا يوجب علما ولا عملا وإنما يخصه من الأخبار ما قطع العذر
لصحته عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أحد الأئمة ع.
وليس يصح في النظر
دعوى العموم بذكر الفعل وإنما يصح ذلك في الكلام المبني والصور منه المخصوصة فمن
تعلق بعموم الفعل فقد خالف العقول وذلك أنه إذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم
لم يجب الحكم بذلك على أنه أحرم بكل نوع من أنواع الحج من إفراد وقران وتمتع وإنما
يصح الإحرام بنوع منها واحد.
وإذا ثبت عنه
عليهم السلام أنه قال لا ينكح المحرم وجب عموم حظر النكاح على جميع المحرمين مع
اختلافهم فيما أحرموا به من إفراد وقران وتمتع أو عمرة منقولة.
وفحوى الخطاب هو
ما فهم منه المعنى وإن لم يكن نصا صريحا فيه بمعقول عادة أهل اللسان في ذلك كقوله عزوجل
(فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) الإسراء : ٢٣.
فقد فهم من هذه
الجملة ما تضمنته نصا صريحا وما دل عليه بعرف أهل
اللسان من الزجر
عن الاستخفاف بالوالدين الزائد على قول القائل لهما أف وما تعاظم عن انتهارهما من
القول وما أشبه ذلك من الفعل وإن لم يكن النص تضمن ذلك على التفصيل والتصريح.
وكقولهم لأمر يخص
لا تبخس فلانا من حقه حبة واحدة وما يدل ذلك عليه بحسب العرف بينهم والعادة من
النهي عن جميع البخس الزائد على الحبة والأمثلة في ذلك كثيرة.
فأما دليل الخطاب
فهو أن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى في الذكر دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة
مما هو داخل تحت الاسم بخلاف ذلك الحكم إلا أن يقوم دليل على وفاقه فيه كقول النبي
صلى الله عليه وسلم :
في سائمة الإبل
زكاة
فتخصيصه السائمة
بالزكاة دليل على أن العاملة ليس فيها زكاة.
ويجوز تأخير بيان
المراد من القول إذا كان في ذلك لطف للعباد وليس ذلك من المحال.
وقد أمر الله قوم
موسى أن يذبحوا بقرة وكان مراده أن تكون على صفة مخصوصة ولم يقع البيان مع قوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً) بل تأخر عن ذلك وانكشف لهم عند السؤال بحسب ما اقتضاه لهم
الصلاح وليس ينافي تأخير البيان القول بأن الأمر على الفور والبدار وذلك أن تأخير
البيان عن الأمر الموقت أو قرينة من برهان هو غير الأمر المطلق العري من القرائن
الذي ظن أنه يقتضي الفور والبدار ولا يجوز تأخير بيان العموم لأن العموم موجب
بمجرده الاستيعاب فمتى أطلقه الحكيم ومراده التخصيص ولم يبين ذلك فقد أتى بألغاز
وليس هذا كتأخير بيان المجمل من الكلام وبينها فرق.
أسماء
النكرة
والأسماء النكرة
موضوعة في أصل اللغة للجنس دون التعيين فإذا ورد
الأمر بفعل يتعلق
بنكرة وجب إيقاعه على ما يستحق بمعناه سمة الجنس سوى ما زاد عليه.
فمن ذلك ما يفيد
أقل ما يدخل تحت الجنس كقول القائل لغيره تصدق بدرهم فامتثال هذا الأمر أن يتصدق
بدرهم كائنا ما كان من الدراهم.
وليس النهي
بالنكرة كالأمر بها لأن الأمر هاهنا يقتضي التخصيص والنهي يقتضي العموم.
ولو قال النبي صلى
الله عليه وسلم لأحد أصحابه لا تدخرن درهما ولا دينارا لاقتضى ذلك أن لا يدخر
منهما عينا.
ولو قال له تصدق
بدرهم ودينار لأفاد ذلك أن يتصدق بهما ولا يلزمه أن يتجاوزهما.
وليس القول بأن
الأمر بالنكرة يقتضي أن يفعل أي واحد كان من الجنسين بمفسد ما تقدم من القول في
تأخير البيان عن قوم موسى عليهم السلام لما أمروا بذبح بقرة بلفظ التنكير لأن
حالهم يقتضي أن مع الأمر لهم بذبحها قد كانت لهم قرينة اقتضت التوقف والسؤال في
سؤالهم ذلك على ذلك.
ولو تعرى الأمر من
القرينة لكان مجرد وروده بالتنكير يقتضي الامتثال في أي واحد من الجنسين.
ومن هذا الباب أن
يرد الأمر بلفظ التثنية والتنكير كقوله أعط فلانا درهمين فالواجب الامتثال في أي
درهمين كانا على معنى ما تقدم من القول.
ومنه أن يرد الأمر
بلفظ الجمع المنكر كقوله تصدق بدراهم فليس يفيد ذلك أكثر من أقل العموم وهو ثلاث
ما لم يقع التبيين.
في
العموم وصيغه
واعلم أن العموم
على ثلاثة أضرب فضرب هو أصل الجمع المفيد لاثنين فما زاد وذلك لا يكون إلا فيما
اختصت عبارة الاثنين به في العدد فهو عموم من حيث الجمع.
والضرب الثاني ما
عبر عنه بلفظ الجمع المنكر كقولك دراهم ودنانير فذلك لا يصح في أقل من ثلاثة.
والضرب الثالث ما
حصل فيه علامة الاستيعاب من التعريف بالألف واللام وبمن الموضوعة للشرط والجزاء
فمتى قال لعبده عظم العلماء فقد وجب عليه تعظيم جميعهم وإذا قال من دخل داري
أكرمته وجب عليه إكرام جميع الداخلين داره.
والأسماء الظاهرة
ما استغنت في حقائقها عن مقدمة لها.
والكنية ما لم يصح
الابتداء بها وحكم الكناية العموم والخصوص حكم ما تقدمها.
والعطف والاستثناء
إذا أعقب جملا فهو راجع إلى جميعها إلا أن يكون هناك دليل يقصرها على شيء منها.
وما ورد عن الله
سبحانه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة الراشدين عليهم السلام من
بعده على سبب أو كان جوابا عن سؤال فإنه يكون محكوما له بصورة لفظه دون القصر له
على السبب المخرج له عن حكم ظاهره.
وليس وروده على
الأسباب بمناف لحمله على حقيقته في الخطاب في عقل أو عرف ولا لسان.
وإنما يجب صرفه عن
ظاهره لقيام دلالة تمنع من ذلك من التضاد.
في
الحقيقة والمجاز
والحقائق
والمجازات إنما هي في الألفاظ والعبارات دون المعاني المطلوبات.
والحقيقة من
الكلام ما يطابق المعنى الموضوع له في أصل اللسان.
والمجاز منه ما
عبر به من غير معناه في الأصل تشبيها واستعارة لغرض من الأغراض وعلى وجه الإيجاز
والاختصار.
ووصف الكلام
بالظاهر وتعلق الحكم به إنما يقصد به إلى الحقيقة منه.
والحكم بالاستعارة
فيه إنما يراد به المجاز.
وكذلك القول في
التأويل والباطن إنما يقصد به إلى العبارة عن مجاز القول واستعارته حسبما ذكرناه.
والحكم على الكلام
بأنه حقيقة أو مجاز لا يجوز إلا بدليل يوجب اليقين ولا يسلك فيه طريق الظنون.
والعلم بذلك من
وجهين أحدهما الإجماع من أهل اللسان والآخر الدليل المثمر للبيان.
فأما إطلاق بعض
أهل اللغة أو بعض أهل الإسلام ممن ليس بحجة في المقال والفعال فإنه لا يعتمد في
إثبات حقيقة الكلام.
فمتى التبس اللفظ
فلم يقم دليل على حقيقة فيه أو مجاز وجب الوقف لعدم البرهان.
وليس بمصيب من
ادعى أن جميع القرآن على المجاز وظاهر اللغة يكذبه ودلائل العقول والعادات تشهد
بأن جمهوره على حقيقة كلام أهل اللسان.
ولا بمصيب أيضا من
زعم أنه لا يدخله المجاز وقد خصمه في ذلك قوله سبحانه
(فَوَجَدا فِيها
جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) الكهف : ٧٧.
وغيره من الآيات
والواجب أن يقال إن منه حقيقة ومنه مجاز.
الحظر
والإباحة :
فأما القول في الحظر
والإباحة فهو أن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما
يجوز ورود السمع
فيها بإباحته ولا بحظر ما يجوز وروده فيها بحظره ولكن العقل لم ينفك قط من السمع
بإباحته وحظره.
ولو ألزم
الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرهم إلى موافقة ما يقبح في عقولهم
من استباحة ما لا سبيل لهم إلى العلم بإباحته من حظره وإلجائهم إلى الحيرة التي لا
تليق بحكمته.
القياس
والرأي :
وليس عندنا للقياس
والرأي مجال في استخراج الأحكام الشرعية ولا يعرف من جهتها شيء من الصواب ومن
اعتمدهما في المشروعات فهو على الضلال.
النسخ
:
والعقول تجوز نسخ
الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة والكتاب بالسنة والسنة بالكتاب غير أن السمع ورد بأن
الله تعالى لا ينسخ كلامه بغير كلامه بقوله
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) البقرة : ١٠٦.
فعلمنا أنه لا
ينسخ الكتاب بالسنة وأجزنا ما سوى ذلك.
الخبر
والحجة في الأخبار
ما أوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحة مخبرها ونفي الشك فيه والارتياب.
وكل خبر لا يوصل
بالاعتبار إلى صحة مخبره فليس بحجة في الدين ولا يلزم به عمل على حال.
والأخبار التي يجب
العلم بالنظر فيها على ضربين
أحدهما التواتر
المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك أو ما يقوم مقامه في الاتفاق.
والثاني خبر واحد
يقترن إليه ما يقوم مقام المتواتر في البرهان على صحة مخبره وارتفاع الباطل منه
والفساد.
والتواتر الذي
وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حد قد منعت العادة
من اجتماعهم على الكذب بالاتفاق كما يتفق الاثنان أن يتواردا بالإرجاف وهذا حد
يعرفه كل من عرف العادات.
وقد يجوز أن ترد
جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم ومخارج كلامهم وما
يبدو في ظاهر وجوههم ويبين من تصورهم أنهم لم يتواطئوا ليتعذر التعارف بينهم
والتشاور فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا على صدقهم ورافعا للإشكال في
خبرهم وإن لم يكونوا في الكثرة على ما قدمناه.
فأما خبر الواحد
القاطع للعذر فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره
وربما كان الدليل حجة من عقل وربما كان شاهدا من عرف وربما كان إجماعا بغير خلف
فمتى خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها على صحة خبره فإنه كما قدمناه ليس بحجة ولا
موجب علما ولا عملا على كل وجه.
الإجماع
:
وليس في إجماع
الأمة حجة من حيث كان إجماعا ولكن من حيث كان
فيها الإمام
المعصوم فإذا ثبت أنها كلها على قول فلا شبهة في أن ذلك القول قول المعصوم إذ لو
لم يكن كذلك كان الخبر عنها بأنها مجمعة باطلا فلا تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه.
الاستصحاب
:
والحكم باستصحاب
الحال واجب لأن حكم الحال ثبت باليقين وما ثبت فلن يجوز الانتقال عنه إلا بواضح
الدليل.
اختلاف
الأخبار :
والأخبار إذا
اختلفت في الألفاظ فلن يصح حمل جميعها على الحقيقة من الكلام إذا أريد الجمع
بينهما على الوفاق وإنما يصح حمل بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز حتى لا يقدح
ذلك في إسقاط بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز فلا بد من صحة أحد البعضين
وفساد الآخر أو فساد الجميع.
اللهم إلا أن يكون
الاختلاف فيها يدل على النسخ الذي لا يكون إلا في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم دون
أخبار الأئمة عليهم السلام فإنهم ليس لهم تبديل شيء من العبارات ولا نسخ.
وقد أثبت لك أيدك
الله جمل ما سألت في إثباته وأوردته مجردا من حججه ودلالته ليكون تذكره لك
بالمعتقد كما ذكرت ولم أتعد فيه مضمون كتاب شيخنا المفيد رحمهالله حسبما طلبت والحمد لله على أهل الجود والإفضال وصلاته على
سيدنا محمد رسوله المنقذ بهدايته من الضلال وعلى آله الطاهرين أولي الرفعة
والجلال.
فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام
من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
استرشدوا العقل
ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.
قوام المرء عقله
ولا دين لمن لا عقل له.
سيد الأعمال في
الدارين العقل.
لكل شيء دعامة
ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته لربه.
اغد عالما أو
متعلما أو مستمعا أو محدثا ولا تكن الخامس فتهلك.
نضر الله امرأ سمع
منا حديثا فأداه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع.
العلم أكثر من أن
يحصى فخذ من كل شيء أحسنه.
إذا هممت بأمر
فتدبر عاقبته فإن كان خيرا فاسرع إليه وإن كان شرا فانته عنه.
صل من قطعك وأحسن
إلى من أساء إليك وقل الحق ولو على نفسك.
اعتبروا فقد خلت
المثلات فيمن كان قبلكم.
كن لليتيم كالأب
الرحيم.
واعلم أنك تزرع كل
ما تحصد.
اذكر الله عند همك
إذا هممت وعند لسانك إذا حكمت وعند يدك إذا قسمت.
ومن
كلام أمير المؤمنين عليهم السلام :
عليكم بالدرايات
لا بالروايات همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الدراية.
تزاوروا وتذاكروا
الحديث إلا تفعلوا يدرس.
أشد الناس بلاء
وأعظمهم عناء من بلي بلسان مطلق وقلب مطبق فهو لا يحمد إن سكت ولا يحسن إن نطق.
إياكم وسقطات
الاسترسال فإنها لا تستقال.
تعز عن الشيء إذا
منعته لقلته ما صحبك إذا أعطيته.
من لم يعرف لوم
ظفر الأيام لم يحترس من سطوات الدهر ولم يتحفظ من فلتات الزلل ولم يتعاظمه ذنب وإن
عظم.
وسئل عن الحرص ما
هو فقال
هو طلب القليل
بإضاعة الكثير.
وقال العاقل
يستريح في وحدته إلى عقله والجاهل يتوحش من نفسه لأن صديق كل إنسان عقله وعدوه
جهله.
العقول ذخائر
والأعمال كنوز النفوس أشكال فما تشاكل منها اتفق والناس إلى أشكالهم أميل.
ومن
كلام الحسين عليهم السلام :
قوله يوما لابن
عباس
يا ابن عباس لا
تكلمن فيما لا يعنيك فإنني أخاف عليك فيه الوزر ولا تكلمن فيما يعنيك حتى ترى
للكلام موضعا فرب متكلم قد تكلم بالحق فعيب ولا تمارين حليما ولا سفيها فإن الحليم
يقليك والسفيه يرديك ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا مثل ما تحب أن
يقول فيك إذا تواريت عنه.
واعمل عمل رجل
يعلم أنه مأخوذ بالإجرام مجزي بالإحسان والسلام.
وبلغه عليهم
السلام كلام نافع بن جير في معاوية قوله إنه كان يسكته الحلم وينطقه العلم فقال
عليهم السلام :
بل كان ينطقه
البطر ويسكته الحصر.
كلام
الإمام الصادق ع :
وعن الصادق جعفر
بن محمد عليهم السلام قوله :
الملوك حكام الناس
والعلماء حكام على الملوك.
وقوله :
أحسنوا النظر فيما
لا يسعكم جهله وانصحوا لأنفسكم وجاهدوا في طلب ما لا عذر لكم في جهله فإن لدين
الله أركانا لا ينفع من جهلها شدة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته ولا يضر من عرفها
فدان به حسن اقتصار ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزوجل
.
وقوله :
ما كل من نوى شيئا
قدر عليه ولا كل من قدر على شيء وفق له ولا كل من وفق له أصابه فإذا اجتمعت النية
والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمت السعادة.
وقوله في الحث على
التوبة :
تأخير التوبة
اغترار وطول التسويف حيرة والاعتلال على الله هلكة والإصرار على الذنب أمن به لمكر
الله (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)
الأعراف : ٩٩.
من
كلام غير الأئمة عليهم السلام :
ومما ورد عن غير
الأئمة عليهم السلام قول بعض علماء العرب :
العقل أمير والعلم
نصير والحلم وزير.
وقول بعض حكماء
الهند :
العقل حاكم أمين
والعلم له قرين والحلم له خدين.
وقول بعض حكماء
الفرس :
العقل ملك الجوارح
والعلم له أخ صالح والحلم له أليف ناصح.
وقول بعض حكماء
الروم :
العقل مدبر آمر
والعلم له معاضد ناصر والحلم منجد مؤازر.
في كتاب كليلة
ودمنة :
من غلب عقله هواه
نال مناه وأعطي رضاه.
وفي كتاب بلوهر
الهندي :
من اشتد في الدنيا
زهده استراح وطلع سعده.
وفي كتاب السير
وسيف البدى كذا :
من عرف نفسه لم
يحقر جنسه.
في كتاب الرحمة
لهرمس :
القناعة أمنع عز
والاستعانة بالله أحصن حرز.
وفي كتاب الأساس
لبطليموس :
العقل الأصل وقوام
الأشياء بالفضل والعدل.
في كتاب الجواهر :
التواضع شرف وقد
استوجب الصفح من تاب واعترف.
في كتاب التجنيس
لأرسطاطاليس :
الطبع أغلب
والعادة أدرب.
في كتاب اللطف
لأفلاطون :
نقل الطبع عسير
الانتزاع.
في كتاب الأقسام
لصبرة الفلكي :
العمر قصير وفي
الدهر لأهله تبصير.
كتاب الإختيار
لأبقراط :
التجارب إيضاح
وفيها إفادة وصلاح.
كتاب الإبانة
لعمرو بن بحر :
من خشع ارتفع وعرف
بما دنا منا سمع.
كتاب المعارف
للكندي :
إدراك السداد
بالجد والاجتهاد.
وروى الصولي عن
بعضهم أنه قال :
لو لا العقول
المضيئة وخلائقها الرضية لما كان التفاضل بين الحيوان ولما فرق بين البهيمة
والإنسان.
وقال إقلمون من
عدم التدبير يكون التدمير.
وقال آخر من لم
يقدم الامتحان قبل الثقة والثقة قبل الأنس أثمرت مودته ندما.
قال بزرجمهر إذا
أنجز رجل وعده من معروفه أحرز مع فضيلة الجود شرف الصدق.
وقال بطليموس من
قبل عطيتك فقد أعانك على البر والكرم.
قال أبقراط إذا
أمكنك الرجل من أن تضع معروفك عنده فيده عندك مثل يدك عنده وإذا أصابه من هم نزل
به أو خوف تدفعه عنه فلم تبذل دمك دونه فقد قصرت بحسبك عنده ولو أن أهل البخل لم
يدخل عليهم إلا سوء ظنهم بالله لكان ذلك عظيما.
قال كسرى أنوشروان
:
الملك بالدين يبقى
والدين بالملك يقوى شدة الغضب تغير المنطق وتقطع مادة الحجة.
وقال أرسطاطاليس :
من اتخذ الصمت جنة
وقي من شر ما تأتي به الألسن.
وقال الكلام مملوك
ما لم ينطق به صاحبه فإذا نطق به صاحبه خرج عن ملكه.
وقال أفليمون
غنيمة السكوت أكبر من غنيمة الكلام وندامة الكلام أكبر من ندامة السكوت.
وقال دوفس الصمت
أنفع من الكلام في أكثر المواضع والكلام أنفع من الصمت في أقل المواضع.
وقال أفلاطون ضبط
اللسان ملك وإطلاقه في غير موضعه هلك.
وقال من علم أن
كلامه يتصفح عليه فليتصفحه على نفسه قبل أن يتصفحه عليه غيره.
وقال آخر البطنة
تذهب بالفطنة وكثرة الصمت مفسدة المنطق.
وقال آخر إذا علمت
فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال ولكن اذكر من فوقك من العلماء.
أبو حنيفة مع
الإمام الصادق :
فصل
ذكروا أن أبا
حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام فلما رفع الصادق
عليهم السلام يده من أكله قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) اللهم هذا منك ومن رسولك صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو حنيفة يا
أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا؟
فقال له ويلك فإن
الله تعالى يقول في كتابه :
(وَما نَقَمُوا إِلَّا
أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) التوبة : ٥٩.
ويقول في موضع آخر
:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) النساء : ٥٩
فقال أبو حنيفة
والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت فقال أبو
عبد الله عليهم السلام بلى قد قرأتهما وسمعتهما ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك
(أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها) وقال (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
حديث الإمام
الصادق
أخبرني الشيخ
الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسين بن شاذان القمي رضي الله عنه قال أخبرني
أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم بن
هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جعفر بن البختري قال سمعت أبا عبد الله عليهم
السلام يقول بلية الناس عظيمة إن دعوناهم لم يجيبونا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا
فصل : من الاستدلال
على أن الله تعالى ليس بجسم
اعلم أن الخلاف في
هذه المسألة بيننا وبين المجسمة على قسمين أحدهما في المعنى والآخر في اللفظ.
فأما الكلام في
المعنى فهو يختص بالذين يزعمون أنه جسم على صفات الأجسام ويشابهها في بعض الصفات.
وأما الكلام في
اللفظ فهو يختص بالذين يقولون إنه جسم لا كالأجسام ولا يشابهها بصفة من الصفات.
فأما الذي يدل على
بطلان مقال الذين يزعمون أنه جسم لا كالأجسام فهو أن الأجسام قد ثبت حدوثها فلو
كان صانعها تعالى جسما أو مثلها لوجب أن يكون محدثا ويبين ذلك أن حقيقة الجسم هي
أن يكون طويلا عريضا عميقا فلو كان صانع الأجسام جسما لكانت هذه حقيقته لأن
الحقيقة لا تختلف وسوي فيها الشاهد والغائب وحقيقة الجسم موجبة الأبعاد ومعطية
فيها المساحة والنهايات وأنه مجتمع من أبعاض مختص ببعض الجهات وذلك شاهد فيه بحلول
الأعراض لأن المجتمع لا غناء به عن الاجتماع والكائن من جهة دون غيرها لا يعرى من
الأكوان فهذه كلها دلائل الحدوث.
فلو كان صانع
الأجسام على هذه الصفات أو على بعضها لكان محدثا ولو جاز كونه عليها وهو قديم
لكانت الأجسام كلها قديمة وفي ثبوت الأدلة على حدوث الأجسام وقدم محدثها دلالة
واضحة على أنه ليس بجسم سبحانه وتعالى.
دليل
ثان :
وشيء آخر وهو أن
صانع الأجسام واحد في الحقيقة حسبما شهدت به الأدلة فلو كان جسما لخرج عن كونه
واحدا لأن الجسم مجتمع من أبعاض وأجزاء.
دليل
ثالث :
وشيء آخر وهو أنه
لو كان جسما لوجب كونه قادرا بقدرة لبطلان كون الجسم قادرا لنفسه ولو كان كذلك
لاستحال حدوث الأجسام منه إذ لا يصح من القادر بقدرة أن يفعل الجسم في محل قدرته
متداولا في غيره مسببا أو متولدا.
دليل
رابع :
وهو أنه لو كان
جسما في الحقيقة صح منه فعل الأجسام لصح من كل جسم حي قادر أن يفعل الأجسام فلما
علمنا يقينا استحالة فعل الأجسام للأجسام علمنا أن فاعل الأجسام ليس بجسم على كل
حال فقد بان لك بطلان مقال الذين يزعمون أن الله تعالى جسم على صفة الأجسام
وحقيقتها.
وكما علمت أنه لا
يجوز أن يشبهها في جميع الصفات فكذلك تعلم أنه لا يجوز مشابهته لها في بعضها لأن
كل صفة من صفات الأجسام المختصة بها دالة على حدوثها فلو أشبهها في شيء منها دل
ذلك الشيء على أنه محدث مثلها.
وبمثل هذا يعلم
أيضا أنه ليس بجوهر لأن الجوهر متحيز في جهة غير عار من الأعراض الدالة على حدوثه.
فأما قولهم إنا لم
نر فاعلا للأجسام غير جسم فلما كان الله تعالى فاعلا وجب أن يكون جسما فقول فاسد
لأن الفاعل لم يكن فاعلا لكونه جسما ولا كل صفة رأينا الفاعل في الشاهد عليها يجب
أن يكون الفاعل في الغائب على نظيرها.
ألا ترى أنا لم نر
في الشاهد فاعلا إلا مؤلفا لحما ودما ناقصا محتاجا ولا يصح أن يكون الفاعل في
الغائب هكذا.
والاستدلال
بالشاهد على الغائب إنما هو بالحقائق دون ما سواها.
وليس حقيقة الفاعل
أن يكون جسما ولو كان كذلك لكان كل جسم فاعلا وكل فاعل جسما.
كما أن الحركة لما
كان حقيقتها أن تكون زوالا كان كل زوال حركة وكل حركة زوالا فهذا هو الأصل الثابت
الذي يجب أن يتماثل فيه الشاهد والغائب فيجب أن يتأمله ويعتمد عليه فالفائدة فيه
كثيرة.
وأما الذي يدل على
بطلان مقال الذين يدعون أن الله تعالى جسم لا كالأجسام فهو أن حقيقة الجسم قد
ذكرناها فمتى قال القائل إنه جسم أوجب الحقيقة بعينها فإن قال لا كالأجسام نفى ما
أوجب فكان ناقض.
فإن قالوا هذا
لازم لكم في قولكم إنه شيء لا كالأشياء؟
قيل لهم ليس الأمر
كما ذكرتم لأن قولنا شيء يستفاد منه الإثبات والمثبتات مختلفات من أجسام وجواهر
وأعراض فإذا قلنا شيء لا كالأشياء أثبتنا معلوما مخبرا عنه ونفينا المماثلة بينه
وبين سائر المثبتات ولم ننف حقيقة الشيء التي هي الإثبات وقول الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يدل على ما ذكرنا.
وقولنا جسم لا
كالأجسام أثبتنا جسما ثم نفيناه وهذا هو التناقض الذي ذكرناه.
واعلم أن التسمية
إنما يحسن إجراؤها على المسمى متى ثبت له معناها فإن لم يثبت ذلك لم يصح إجراؤها
إلا على جهة التغليب وبطل أن يصح فيه معنى الجسم على التحقيق وفسد قول من زعم أنه
جسم ولم يصح أن يسميه بهذا الاسم.
وليس لأحد أن يسمي
الله عزوجل بما لم يسم به نفسه ولم يثبت ذلك على جواز تسميته به
.
فأما من زعم أنه
جسم لأنه قائم بنفسه وأن هذا حد الجسم عنده وحقيقته فغير مصيب في قوله واللغة تشهد
بخطئه وذلك أنا وجدنا أهل اللسان يقولون هذا أجسم من هذا إذا زاد عليه في طوله
وعرضه وعمقه فلو لا أن حقيقة الجسم عندهم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا لم يكن
الأمر كما ذكرناه.
فإن قال القائل أليس
قد اشتهر عن أحد متكلميكم وهو هشام بن
الحكم
أنه كان يقول إن معبوده جسم على صفة الأجسام فكيف خالفتموه في ذلك بل كيف لم
تتبرءوا منه وهو على هذا المقال؟
قلنا أما هشام بن
الحكم رحمة الله عليه فقد اشتهر عنه الخبر بأنه كان ينصر التجسيم
ويقول إن الله تعالى جسم لا كالأجسام ولم يصح عنه ما قرفوه به من القول بأنه مماثل
لها.
ويدل على ذلك أنا
رأينا خصومه يلزمونه على قوله بأن فاعل الأجسام جسم أن يكون طويلا عريضا عميقا فلو
كان يرى أنه مماثل للأجسام لم يكن معنى لهذا الإلزام.
فأما مخالفتنا
لهذا المقام فهو اتباع لما ثبت من الحق بواضح البرهان وانصراف عنه.
وأما موالاتنا
هشاما رحمهالله فهي لما شاع عنه واستفاض منه من تركه للقول بالجسم الذي كان
ينصره ورجوعه عنه وإقراره بخطئه وتوبته منه وذلك حين قصد الإمام أبا عبد الله جعفر
بن محمد الصادق عليهم السلام إلى المدينة فحجبه وقيل له إنه آلى أن لا يوصلك إليه
ما دمت قائلا بالجسم فقال والله ما قلت به إلا لأني ظننت أنه وفاق لقول إمامي فأما
إذا أنكره علي فإنني تائب إلى الله منه فأوصله الإمام عليهم السلام إليه ودعا له
بخير.
وحفظ عن الصادق
عليهم السلام أنه قال لهشام إن الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وكلما وقع
في الوهم فهو بخلافه.
وروي عنه أيضا أنه
قال :
سبحان من لا يعلم
أحد كيف هو إلا هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لا يحد ولا يحس و (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) ولا يحيط به شيء ولا هو جسم ولا صورة ولا بذي تخطيط ولا
تحديد
أخبرني شيخي أبو
عبد الله الحسين بن عبد الله الواسطي رحمهالله قال أخبرني أبو محمد التلعكبري عن أبي جعفر الكليني عن
محمد بن الحسن عن سهل بن زياد عن حمزة بن محمد قال له كتبت إلى أبي الحسن عليهم
السلام أسأله عن القول بالجسم والصورة؟
فكتب سبحان من (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا جسم ولا صورة؟
أنشدني عمار بن
محمد الطبراني رحمهالله لزينبا الرأس عيني
إن كان جسما فما
ينفك من عرض
|
|
أو جوهر فبذي
الأقطار موجود
|
أو كان متصلا
بالشيء فهو به
|
|
أو كان منفصلا
فالكل محدود
|
لا تطلبن إلى
التكييف من سبب
|
|
إن السبيل إلى
التكييف مسدود
|
واستمسك الحبل
حبل العقل تحظ به
|
|
فالعقل حبل إلى
باريك ممدود
|
نسخة كتاب معاوية
بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع
أما بعد فإن الهوى
يضل من اتبعه والحرص يتعب الطالب المحروم وأحمد العاقبتين ما هدى إلى سبيل الرشاد
ومن العجب العجيب ذام ومادح وزاهد وراغب ومتوكل وحريص كلاما ضربته لك مثلا لتدبر
حكمته بجميع الفهم ومباينة الهوى ومناصحة النفس فلعمري يا ابن أبي طالب لو لا
الرحم التي عطفتني
عليك والسابقة التي سلفت لك لقد كان اختطفتك بعض عقبان أهل الشام فيصعد بك في
الهواء ثم قذفك على دكادك شوامخ الأبصار فألفيت كسحيق الفهر على صن الصلابة لا يجد
الذر فيك مرتعا ولقد عزمت عزمة من لا يعطفه رقة الإنذار إن لم تباين ما قربت به
أملك وطال له طلبك ولأوردنك موردا تستمر الندامة إن فسخ لك في الحياة بل أظنك قبل
ذلك من الهالكين وبئس الرأي رأي يورد أهله إلى المهالك ويمنيهم العطب إلى حين لات
مناص وقد قذف بالحق على الباطل (وَظَهَرَ أَمْرُ
اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) ولله (الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) والمنة الظاهرة والسلام.
جواب أمير المؤمنين
صلوات الله عليه وسلامه
من عبد الله أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان :
أما بعد فقد أتانا
كتابك بتنويق المقال وضرب الأمثال وانتحال الأعمال تصف الحكمة ولست من أهلها وتذكر
التقوى وأنت على ضدها قد اتبعت هواك فحاد بك عن طريق الحجة وألخج بك عن سواء
السبيل فأنت تسحب أذيال لذات الفتن وتحيط في زهرة الدنيا كأنك لست توقن بأوبة
البعث ولا برجعة المنقلب قد عقدت التاج ولبست الخز وافترشت الديباج سنة هرقلية
وملكا فارسيا.
ثم لم يقنعك ذلك
حتى يبلغني أنك تعقد الأمر من بعدك لغيرك فيهلك دونك فتحاسب دونه ولعمري لئن فعلت
ذلك فما ورثت الضلالة عن كلالة وإنك لابن من كان يبغي على أهل الدين ويحسد
المسلمين.
وذكرت رحما عطفتك
علي فأقسم بالله الأعز الأجل أن لو نازعك هذا الأمر في حياتك من أنت تمهد له بعد
وفاتك لقطعت حبله وأبنت أسبابه.
وأما تهديدك لي
بالمشارب العربية والموارد المهلكة فأنا عبد الله علي بن أبي طالب أبرز إلي صفحتك
كلا ورب البيت ما أنت بأبي عذر عند القتال ولا عند مناطحة الأبطال وكأني بك لو
شهدت الحرب وقد قامت على ساق وكشرت عن منظر كريه والأرواح تختطف اختطاف البازي زغب
القطاة لصرت كالمولهة الحيرانة تضربها العبرة بالصدمة لا تعرف أعلى الوادي من
أسفله فدع عنك ما لست أهله فإن وقع الحسام غير تشقيق الكلام فكم عسكر قد شهدته
وقرن نازلته .. اصطكاك قريش بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنت وأبوك
وهو ... تبع.
وأنت اليوم تهددني
فأقسم بالله أن لو تبدي الأيام عن صفحتك لنشب فيك مخلب ليث هصور لا يفوته فريسة
بالمراوغة كيف وأني لك بذلك وأنت قعيدة بنت البكر المخدرة يفزعها صوت الرعد وأنا
علي بن أبي طالب الذي لا أهدد بالقتال ولا أخوف بالنزال فإن شئت يا معاوية فابرز
والسلام.
. فلما وصل هذا
الجواب إلى معاوية بن أبي سفيان جمع جماعة من أصحابه ومنهم عمرو بن العاص فقرأه
عليهم فقال له عمرو قد أنصفك الرجل كم رجل أحسن في الله قد قتل بينكما أبرز إليه.
فقال له أبا عبد
الله أخطأت استك الحفرة أنا أبرز إليه مع علمي أنه ما برز إليه أحد قط إلا وقتله
لا والله ولكني سأبرزك إليه.
نسخة كتاب آخر
من معاوية بن أبي
سفيان إلى أمير المؤمنين عليهم السلام.
أما بعد فإنا لو
علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وإن كنا قد غلبنا على
عقولنا فقد بقي لنا منها ما نرم به ما مضى ونصلح ما بقي.
وقد كنت سألتك
الشام على أن لا تلزمني لك طاعة فأبيت ذلك علي وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه
أمس فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف.
وقد والله رقت
الأجناد وذهبت الرجال ونحن جميعا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذل به عز
ولا يسترق به حر والسلام.
جواب أمير
المؤمنين ع
من عبد الله أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر
أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وأنا وإياك
نلتمس غاية لم نبلغها بعد.
وأما طلبك إلى
الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.
وأما استواؤنا في
الخوف والرجاء فلست بأمضى على الشك مني على اليقين ولا أهل الشام على الدنيا بأحرص
من أهل العراق على الآخرة.
وأما قولك إنا بنو
عبد مناف فكذلك نحن لكن ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي
طالب ولا الطليق كالمهاجر ولا المبطل كالمحق وفي أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها
العزيز وبعنا بها الحر والسلام .
مسألة فقهية
وقائلة أوص
الغداة فإنني
|
|
أرى الموت قد
حطت لديك ركائبه
|
فقلت وقد راع
الفؤاد مقالها
|
|
وضاقت به خوف
الحمام مذاهبه
|
لك الثمن إن حلت
وفاتي فريضة
|
|
وسائر ما يبقى
فصنوك صاحبه
|
جوابها
تفهم فإن الفهم
أكرم ملبس
|
|
لمن شرفت أخلاقه
ومذاهبه
|
حليلة هذا أمها
زوجة ابنه
|
|
كذا لكم الألغاز
جم عجائبه
|
فابن ابنه صنو
لزوجته ومن
|
|
عزي بغريب العلم
تعلو مراتبه
|
فميراثها ثمن
وللصنو ما بقي
|
|
كذلك يقضي من
توالت مناقبه
|
تفسير
هذا رجل تزوج وزوج
ابنه من أمها فولدت أم امرأته من ابنه ابنا ثم مات ابن الرجل وليس له ممن يرثه إذا
مات غير زوجته وأخيها من أمها الذي هو ابن أبيه الميت وقد تقدم ذكر هذه المسألة
على غير هذا الباب في الجزء الأول.
مسألة أخرى منظومة
قد تقدم ذكرها
نثرا
بابن دعيت صنو أخي فعمي
|
|
يقول إذا رآني
جاء عمي
|
ولا فينا بحمد
الله أنثى
|
|
ولا ذكر تدرع
ثوب إثم
|
ولا فينا مجوسي
جهول
|
|
يحلل لابن أم
وطء أم
|
فبين عن مسائلنا
امتنانا
|
|
فأنت إمامنا في
كل علم
|
الجواب
ألا يا سائلا
أضحى يعمي
|
|
على المفراض خذ
عني بفهم
|
أخوك لأمك الصنو
المداني
|
|
لأم أبيك زوج
غير وهم
|
فابن أخيك منها
غير شك
|
|
أخ لأبيك تدعوه
لأم
|
فذاك إذا رآك
يقول عمي
|
|
وأنت إذا أتاك
تقول عمي
|
تفسير
هذان رجلان قال
أحدهما للآخر يا عمي أنا عمك والسبب في ذلك هو الوجه الذي عملت عليه هذه الأبيات
إن أخاه لأمه تزوج جدته أم أبيه فجاءت بابن فهو عم الابن لأمه والابن عمه لأمه.
وجواب
ثان فيها
وهو أن رجلين تزوج
كل واحد منهما أم الآخر فجاءت كل واحدة منهما بابن فكل واحد من الابنين عم الآخر
حديث
حدثني الفقيه أبو
الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي قال حدثنا الفقيه محمد بن علي بن بابويه رحمهالله قال أخبرني أبي قال حدثني سعد بن عبد الله قال حدثني أيوب
بن نوح قال حدثني الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم
خمسة لا تطفى
نيرانهم ولا تموت أبدانهم رجل أشرك ورجل عق والديه ورجل سعى بأخيه إلى السلطان
فقتله ورجل قتل نفسا بغير نفس ورجل أذنب وحمل ذنبه على الله عزوجل
منام
:
ذكر أن شيخنا
المفيد رحمهالله أبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه رآه
وأملاه على أصحابه بلغنا أن شيخنا المفيد رحمهالله قال رأيت في النوم كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة
دائرة فيها ناس كثير فقلت ما هذا قيل لي هذه حلقة فيها رجل يقص فقلت من هو فقالوا
عمر بن الخطاب فتقدمت ففرقت الناس ودخلت الحلقة فإذا برجل يتكلم على الناس بشيء لم
أحصله فقطعت عليه فقلت أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على ما يدعى من فضل صاحبك
عتيق بن أبي قحافة من قول الله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُما فِي الْغارِ).
فقال وجه الدلالة
على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع.
أولها أن الله
تعالى ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر معه فجعله ثانيه فقال (ثانِيَ اثْنَيْنِ) الثاني.
أنه وصفهما
بالاجتماع في مكان واحد تأليفا بينهما فقال (إِذْ هُما فِي
الْغارِ).
الثالث أنه أضافه
إليه بذكر الصحبة ليجمع بينهما فيما يقتضي الرتبة فقال (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ).
الرابع أنه أخبر
عن شفقة النبي عليه ورفقه به لموضعه عنده فقال (لا تَحْزَنْ).
الخامس إعلامه أنه
أخبره أن الله تعالى معهما على حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما فقال (إِنَّ اللهَ مَعَنا).
السادس أنه أخبر
عن نزول السكينة على أبي بكر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تفارقه السكينة قط
فقال (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).
فهذه ستة مواضع
تدل على فضل أبي بكر من آية الغار لا يمكنك ولا غيرك الظفر فيها.
قال المفيد رحمهالله فقلت له قد حررت كلامك واستقصيت البيان فيه وأتيت بما لا
يقدر أحد من الخلق أن يزيد في الاحتجاج لصاحبك عليه غير أني بعون الله وتوفيقه
سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
أما قولك إن الله
تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل أبا بكر ثانية فليس في ذلك فضيلة لأنه
إخبار عن عدد ولعمري إنهما كانا اثنين ونحن نعلم ضرورة أن مؤمنا وكافرا اثنان كما
نعلم أن مؤمنا ومؤمنا اثنان فليس لك في ذكر العدد طائل تعتمده.
وأما قولك إنه
وصفهما بالاجتماع في المكان فإنه كالأول لأن المكان يجتمع فيه المؤمنون والكفار
كما يجتمع العدد للمؤمنين والكفار وأيضا فإن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أشرف
من الغار وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار وفي ذلك قوله تعالى (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ
مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) المعارج : ١٩ ٢٠.
وأيضا فإن سفينة
نوح عليهم السلام قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة فبان لك أن الاجتماع في المكان
لا يدل على ما ادعيت من الفضل فبطل فضلان. وأما قولك إنه أضافه إليه بذكر الصحبة
فإنه أضعف من الفضلين الأولين لأن الصحبة أيضا تجمع المؤمن والكافر والدليل على
ذلك قول الله عزوجل :
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) الكهف : ٣٧.
وأيضا فإن اسم
الصحبة تكون من العاقل والبهيمة والدليل على ذلك من كلام العرب أنهم جعلوا الحمار صاحبا
فقالوا :
إن الحمار مع
الحمار مطية
|
|
فإذا خلوت به
فبئس الصاحب
|
وقد سموا الجماد
مع الحي أيضا صاحبا قال الشاعر :
زرت هندا وذاك
بعد اجتناب
|
|
ومعي صاحب كتوم
اللسان
|
يعني السيف فإذا
كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل والبهيمة وبين الحيوان والجماد
فلا حجة لصاحبك فيها.
وأما قولك إنه قال
له (لا تَحْزَنْ) فإن ذلك وبال عليه ومنقصة له ودليل على خطئه لأن قوله (لا تَحْزَنْ) نهي وصورة النهي قول القائل لا تفعل فلا يخلو الحزن الواقع
من أبي بكر من أن يكون طاعة أو معصية فإن كان طاعة فالنبي لا ينهى عن الطاعات بل
يأمر بها ويدعو إليها وإن كان معصية فقد صح وقوعها فيه وتوجه النهي إليه عنها
وشهدت الآيات به ولم يرد دليل على امتثاله للنهي وانزجاره.
وأما قولك إنه قال
(إِنَّ اللهَ مَعَنا) فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه أن الله معه خاصة وعبر
عن نفسه بلفظ الجمع فقال (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
وقد قيل إن أبا
بكر قال يا رسول الله إن حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب.
وأما قولك إن
السكينة نزلت على أبي بكر فإنه كفر لأن الذي نزلت
السكينة عليه هو
الذي أيده الله تعالى بجنوده كذا يشهد ظاهر القرآن في قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) التوبة : ٤٠.
فلو كان أبو بكر
هو صاحب السكينة لكان هو صاحب الجنود وفي هذا إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من
النبوة.
على أن هذا الموضع
لو كتمته على صاحبك لكان خيرا له لأن الله تعالى أنزل السكينة على النبي في موضعين
وكان معه قوم مؤمنون فشركوه فيها فقال في أحدهما (أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ
تَرَوْها) التوبة : ٢٦.
وقال في الموضع
الآخر (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى) الفتح : ٢٦.
ولما كان في الغار
خصه وحده بالسكينة وقال (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) قال الشيخ المفيد رحمهالله فلم يحر عمر بن الخطاب جوابا وتفرق الناس واستيقظت.
فصل من السؤال
يتعلق بهذا المقام
فإن قيل إذا كان
ما تضمنه هذا المقام صحيحا عندكم في الاحتجاج وحزن أبي بكر معصية بدليل توجه النهي
له عنه حسبما شهد به القرآن فقد نهى الله تعالى نبيه عليه وآله السلام عن مثل ذلك
فقال (لا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) النحل : ١٢٧
ونهى أم موسى
عليهم السلام عن الحزن أيضا فقال (لا تَخافِي وَلا
تَحْزَنِي) فهل كان ذلك لأن نبيه صلى الله عليه وسلم عصى في حزنه
فنهاه وكذلك أم موسى عليهم السلام أم تقولون إن بين ما ذكرناه وبين حزن أبي بكر في
الغار فرقا فاذكروه ليحصل به البيان.
الجواب
قيل له قد أجاب
شيخنا المفيد رضي الله عنه عن هذه المسألة بما أوضح به
الفرق وأزاح العلة
ونحن نورد مختصرا من القول فيها يكون فيه بيان وكفاية فنقول :
إن المعارضة بحزن
النبي صلى الله عليه وسلم ساقطة لأنه عندنا معصوم من الزلات مأمون من جميع المعاصي
والخطيئات فوجب أن يحمل قول الله تعالى (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) على أجمل الوجوه والأقسام وأحسن المعاني في الكلام من
تخفيف الهم عنه وتسهيل صعوبة الأمر عليه رفقا به وإكراما وإجلالا وإعظاما له.
ولم يكن أبو بكر
عندنا وعند خصومنا معصوما فيؤمن منه وقوع الخطأ وذلك أنه مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفي حوزته بحيث اختار الله تعالى ستر نبيه وحفظ مهجته.
هذا وقد كان عليهم
السلام يخبر من أسلم على يده بأن الله سينصره على عدوه ومعانده وأنه وعده إعلاء
كلمته وإظهار شريعته وهذا يوجب الثقة بالسلامة وعدم الحزن والمخافة.
ثم ما ظهر له من
الآيات الموجبة لسكون النفس وإزالة المخافة من نسج العنكبوت على باب الغار وتبيض
الطائر هناك في الحال وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزنه وكثرة هلعه
وجزعه إن دخلوا من هاهنا وأشار إلى جانب الغار فانخرق وظهر له البحر وببعض هذا
يأنس المستوحش وبنظره يطمئن الخائف فلم يسكن أبو بكر إلى شيء من ذلك وظهر منه
الحزن والقلق ولا شبهة بعد هذا البيان تعترض في قبح حزنه.
وأما حزن أم موسى
عليهم السلام فمفارق أيضا لحزنه لأن أحدا لا يشك في أن خوفها وحزنها إنما كان شفقة
منها على ولدها لما أمرت بإلقائه في اليم ويجوز أن يكون لم تعلم في الحال بأنه
سيسلم ويعود إليها على أفضل ما تؤمل فلحقها ما يلحق الوالدة على ولدها من الخوف
والحزن لمفارقته فلما قال لها (لا تَخافِي وَلا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) اطمأنت عند ذلك وسكنت تصديقا للقول وثقة بالوعد.
وأبو بكر قد سمع
مثل ما سمعت ورأى أكثر مما رأت ولم يثق قلبه ولا سكنت نفسه فوضح الفرق بين حزنها
وحزنه.
على أن ظاهر الآية
تشهد بأن الله تعالى أمر أم موسى عليهم السلام أن تلقي ولدها في اليم وسكن قلبها
عقيب الأمر في قوله سبحانه
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) القصص : ٧
فالخوف والحزن
اللذان ورد ظاهر النهي عنهما يصح أن لا يكون وقعا منها لأن تسكين النفس بالسلامة
إشارة بحسن العاقبة عقيب الأمر بالإلقاء يؤمن من وقوع الهم والحزن جميعا.
وأما حزن أبي بكر
فقد وقع وأجمعت الأمة على أنه حزن وليس من فعل كمن لم يفعل فلا نقض بهما من كل وجه.
مبيت علي عليهم
السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة
اعلم أن الذي فدى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وجاد دونه بمهجته وفعل ما لا يسمح أحد بفعله
مما تعجبت منه ملائكة الله في سمائه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم
السلام.
وذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما تعاقد المشركون على مبايتته وأجمعوا على قتله أمره الله
سبحانه بالخروج من ليلته لم ير أحدا أسرع إلى طاعته وأصبر على الشدائد في مرضاته
من أمير المؤمنين عليهم السلام فدعاه إليه وأعلمه الخبر الذي وقف بالوحي عليه وأن
القوم قد أجمعوا أمرهم على أن يهجموا عليه في حجرته ويقتلوه على فراشه وأن الله
سبحانه أمره بالخروج إلى يثرب وقال له يا علي إذا صليت العشاء الآخرة فاضطجع على
فراشي وتلف ببردتي ليظن المشركون إذا رأوك أني لم أخرج فلا يجدون في طلبي فأقامه
مقاما مهولا وكلفه تكليفا عظيما لم يصبر على مثله إلا إسماعيل عليهم السلام لما
قال له أبوه الخليل ص :
(يا بُنَيَّ إِنِّي
أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).
وقول إسماعيل له (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات : ١٠٢
بل حال أمير
المؤمنين عليهم السلام أعظم وتكليفه أشق وأصعب لأن إسماعيل أسلم لهلاك يناله بيد
أبيه وأمير المؤمنين عليهم السلام أسلم لهلاك يناله بيد أعدائه فأجابه صلى الله
عليهما إلى مراده وسارع إلى إيثاره بنفس طيبة ونية صادقة واضطجع على فراشه ولا يشك
إلا أنه مقتول في ليلته قد فداه بنفسه وجاد دونه بمهجته وفي مبيته على الفراش أنزل
الله تعالى على نبيه
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (البقرة : ٢٠٧.
فأين هذا من حزن
أبي بكر وفرقه وخوفه وقلقه وتوجه النهي إليه وتعريه من السكينة التي خص الله
سبحانه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أترى لو قيل له
وهو على ما يدعي له من صحة العقيدة في الإسلام أتحب لو كنت البائت على فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم والواقي له بنفسه والذي أنزل فيه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ولم تكن حزنت في الغار وتوجه إليك النهي من النبي صلى الله
عليه وسلم حتى نزلت السكينة عليه دونك لم يشرك فيها بينك وبينه أكان يقول لا حاجة
بي إلى فضيلة الفراش أم يقول بودي ذلك.
ولسنا نشك أنه لو
قيل لأمير المؤمنين عليهم السلام أتحب لو كنت بدلا من نومك على فراش رسول الله صلى
الله عليه وسلم وحصول فضيلته لك ونزول القرآن بمدحك بمكان
أبي بكر في الغار
وقد وقع الحزن منك وتوجه النهي إليك ونزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
دونك وفاز بفضيلة المواساة بالنوم على الفراش غيرك لقال أعوذ بالله من ذلك والفرق
بين الحالين مرئي للعميان.
أحاديث
وقد روى الثقات عن
الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام أنه قال لما بات علي عليهم السلام على الفراش
أوحى الله تعالى إلى ملكين من ملائكته لم يكن في الملائكة أشد ائتلافا ومؤاخاه
منهما فقال إني مميت أحدكما فاختارا قال فتدافعا الموت بينهما وآثر كل واحد منهما
البقاء فأوحى الله تعالى إليهما أين أنتما عن عبدي هذا الراضي بالموت البائت على
فراش ابن عمه يقيه الردى بنفسه أما إني قد علمت من سريرته أن تلف نفسه أحب إليه من
أن تؤخذ شعره من شعر ابن عمه انزلا إليه فاحفظاه واكلآه إلى الصبح فلم تزل عين
المشركين تلحظه والملائكة الكرام تحفظه إلى أن كان وقت الصبح وهجم المشركون عليه
للقتل فألقى الله تعالى في قلوبهم لما أراده من حياته أن يوقظوه من نومه فقالوا
ننبهه ليرى أنا ظفرنا به قبل قتله فلما فعلوا ذلك وثب إليهم أمير المؤمنين عليهم
السلام وفي يده سيفه فتولوا عنه هاربين فقال لهم أمير المؤمنين عليهم السلام دخلتم
وأنا نائم فادخلوا وأنا منتبه فقالوا لا حاجة لنا فيك يا ابن أبي طالب.
فصل من روايات ابن
شاذان رحمهالله
حدثنا الشيخ
الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان رضي الله عنه بمكة في
المسجد الحرام.
قال حدثني محمد بن
سعيد المعروف بالدهقان قال حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن منصور
قال حدثنا أحمد بن عيسى العلوي قال حدثنا حسين بن علوان عن أبي خلد عن زيد بن علي
عن أبيه عن جده الحسين بن علي عن أمير المؤمنين علي عليهم السلام.
قال دخلت على النبي
صلى الله عليه وسلم وهو في بعض حجراته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت قال لي.
يا علي أما علمت
أن بيتي بيتك فما لك تستأذن علي فقلت يا رسول الله أحببت أن أفعل ذلك قال يا علي
أحببت ما أحب الله وأخذت بآداب الله فقال يا علي أما علمت أنك أخي أما أنه أبى خالقي
ورازقي في أن يكون لي سر دونك يا علي أنت وصيي من بعدي وأنت المظلوم المضطهد بعدي
يا علي الثابت عليك كالمقيم معي ومفارقك مفارقي يا علي كذب من زعم أنه يحبني
ويبغضك لأن الله تعالى خلقني وإياك من نور واحد.
وحدثنا الشيخ أبو
الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان قال حدثني أحمد بن محمد بن محمد رضي
الله عنه قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا محمد بن سنان
قال حدثنا زياد بن المنذر قال حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
ما أظلت الخضراء
ولا أقلت الغبراء بعدي أفضل من علي بن أبي طالب وإنه إمام أمتي وأميرها وإنه لوصيي
وخليفتي عليها من اقتدى به بعدي اهتدى ومن اهتدى بغيره ضل وغوى إني أنا النبي
المصطفى ما أنطق بفضل علي بن أبي طالب عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى) نزل به الروح المجتبى عن الذي (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى).
وحدثنا الشيخ أبو
الحسن بن شاذان قال حدثنا محمد بن محمد بن مرة رحمهالله قال حدثنا الحسن بن علي العاصمي قال حدثنا محمد بن عبد
الملك بن أبي الشوارب قال حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال حدثنا سور بن طريف
عن الأصبغ قال سئل
سلمان الفارسي رحمهالله عن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول عليكم بعلي بن أبي طالب فإنه مولاكم فأحبوه وكبيركم فاتبعوه وعالمكم فأكرموه
وقائدكم إلى الجنة فعزروه وإذا دعاكم فأجيبوه وإذا أمركم فأطيعوه وأحبوه لحبي
وأكرموه لكرامتي ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي.
مسألة :
سألني رجل من أهل
الخلاف فقال إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وتناظرون على ذلك وترددون هذا الكلام وإطلاق هذا
اللفظ منكم يضاد مذهبكم ويناقض معتقدكم ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا
يكون إلا وقد شمل الفضل لهما ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه وأن ذلك لا يجوز مع
تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال لم جهلتم ذلك من معنى الكلام فإن زعمتم أن
لأبي بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به يصح به القول إن أمير المؤمنين
عليهم السلام أفضلهم تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم
جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين عليهم السلام
أفضل منهم.
الجواب
:
فقلت له ليس في
إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين عليهم السلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما
يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.
والشيعة أعرف من
خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام وذلك أن التفضيل وإن كان كما وصفت يكون بين
الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الآخر فيه فقد يصح أيضا فيهما إذا
اختص بالفضل أحدهما وعرى الآخر منه ويكون معنى قول القائل هذا أفضل من هذا أنه
الفاضل دونه وأن الآخر لا فضل له وليس في هذا خروج عن لسان العرب ولا
مخالفة لكلامها
وكتاب الله تعالى يشهد به وإن أشعار المتقدمين يتضمنه قال الله جل اسمه :
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) الفرقان : ٢٤.
يعني أنهم خير من
أصحاب النار وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر ولا خير فيهم.
ووصف النار في آية
أخرى فقال :
(بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) إلى قوله (وَادْعُوا ثُبُوراً) الفرقان : ١١ ـ ١٥
، ثم قال :
(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ
أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً
وَمَصِيراً). الفرقان : ١٥.
فذكر سبحانه أن
الجنة وما أعد فيها خير من النار.
ونحن نعلم أنه لا
خير في النار.
وقال تعالى في آية
أخرى :
(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) وقال (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) الروم : ٢٧.
والمعنى في ذلك
هين لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شيء فكذلك قولنا هذا أفضل يكون المراد به
هذا الفاضل.
وليس بعد إيراد
هذه الآيات لبس في السؤال يعترض العاقل وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين :
هجوت محمدا برا
تقيا
|
|
وعند الله في
ذاك الجزاء
|
أتهجوه ولست له
بكفؤ
|
|
فشركما لخيركما
فداء
|
وقد علمنا أنه لا
شر في النبي عليهم السلام ولا خير فيمن هجاه.
وقال غيره من
الجاهلية :
خالي بنو أنس
وخال سراتهم
|
|
أوس فأيهما أدق
وألأم
|
يريد فأيهما
الدقيق واللئيم وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما
على صاحبه فيهما.
وعلى هذا المعنى
فسر عثمان بن الجني قول المتنبئ :
أعق خليليه الصفيين لائمه.
وأنهما لم يشتركا
في العقوق ثم زاد أحدهما على الآخر صاحبه فيه مع كونهما خليلين صفيين.
وإنما المراد أن
الذي يستحيل منهما عن الصفا فيصير عاقا لائمه.
والشواهد في ذلك
كثيرة وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ودلالة على أن الشيعة في قولها
إن أمير المؤمنين عليهم السلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان لم تناقض لها مذهبا
ولا خالفت معتقدا وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم والمختص بهذا الوصف عنهم فتأمل
ذلك تجده صحيحا والحمد لله.
على أن من الشيعة
من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام ويقول في الجملة إنه عليهم السلام بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس فسؤالك ساقط عنه إذ كان لا يلفظ بما
ذكرته إلا على المجاز.
فلما سمع السائل
الجواب اعترف بأنه الصواب ولم يزد حرفا في هذا الباب والحمد لله على خيرته من خلقه
سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته.
فصل في الرؤيا في
المنام
وجدت لشيخنا
المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه أن الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز وتهاون أهل
النظر به شديد والبلية بذلك عظيمة وصدق القول فيه أصل جليل.
والرؤيا في المنام
تكون من أربع جهات :
أحدها حديث النفس
بالشيء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطبع في النفس فيخيل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله
ونتائجه وهذا معروف بالاعتبار.
الجهة
الثانية من الطبائع وما
يكون من قهر بعضها لبعض فيضطرب المزاج ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من
مأكول ومشروب ومرئي وملبوس ومبهج ومزعج.
وقد نرى تأثير
الطبع الغالب في اليقظة والشاهد حتى أن من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى
المكان العالي بما يتخيل له من وقوعه ويناله من الهلع والزمع
ما لا ينال غيره.
ومن غلبت عليه
السوداء يتخيل أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن صحة ذلك حتى أنه ربما
اعتقد في نفسه النبوة وأن الوحي يأتيه من السماء وما أشبه ذلك.
الجهة
الثالثة ألطاف من الله عزوجل لبعض خلقه من تنبيه وتيسير وأعذار وإنذار فيلقى في روعة ما
ينتج له تخيلات أمور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة وتزجره عن المعصية وتخوفه
الآخرة ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة وفكر يحدث له معرفة.
والجهة
الرابعة أسباب من الشيطان
ووسوسة يفعلها للإنسان ويذكره بها أمورا تحزنه وأسبابا تغمه وتطمعه فيها لا يناله
أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه أو تخيل شبهة في دينه يكون فيها هلاكه وذلك
مختص بمن عدم التوفيق لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه.
ولن ينجو من باطل
المنامات وأحلامها إلا الأنبياء والأئمة عليهم السلام ومن رسخ في العلم من
الصالحين.
وقد كان شيخي رضي
الله عنه قال لي إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلت مناماته فإن رأى
مع ذلك مناما وكان جسمه من العوارض سليما فلا يكون منامه إلا حقا يريد بسلامة
الجسم عدم الأمراض المهيجة وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان.
والسكران أيضا لا
يصح له منام وكذلك الممتلئ من الطعام لأنه كالسكران ولذلك قيل إن المنامات قلما
تصح في ليالي شهر رمضان.
فأما منامات
الأنبياء صلى الله عليه وسلم فلا تكون إلا صادقة وهي وحي في الحقيقة.
ومنامات الأئمة
عليهم السلام جارية مجرى الوحي وإن لم تسم وحيا ولا تكون قط إلا حقا وصدقا وإذا صح
منام المؤمن لأنه من قبل الله تعالى كما ذكرناه.
وقد جاء في الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
رؤيا المؤمن جزء
من سبعة وسبعين جزءا من النبوة.
وروي عن علي عليهم
السلام قال :
رؤيا المؤمن تجري
مجرى كلام تكلم به الرب عنده.
فأما وسوسة شياطين
الجن فقد ورد السمع بذكرها قال الله تعالى :
(مِنْ شَرِّ
الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) الناس : ٤ ـ ٦.
وقال :
(وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الأنعام : ١٢١.
وقال :
(شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الأنعام : ١١٢.
فأما كيفية وسوسة
الجني للإنسي فهو أن الجن أجسام رقاق لطاف فيصح أن يتوصل أحدهم برقة جسمه ولطافته
إلى سمع الإنسان ونهايته فيوقر فيه كلاما يلبس عليه إذا سمعه ويشبه عليه بخواطره
لأنه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه ويصح أن يفعل هذا بالنائم
واليقظان جميعا وليس هو في العقل مستحيلا.
وروى جابر بن عبد
الله أنه قال :
بينما رسول الله
صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قام إليه رجل فقال يا رسول الله إني رأيت كان رأسي قد
قطع وهو يتدحرج وأنا أتبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا تحدث بلعب
الشيطان بك.
ثم قال إذا لعب
الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثن به أحدا.
. وأما رؤية
الإنسان للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد الأئمة عليهم السلام في المنام فإن ذلك
عندي على ثلاثة أقسام قسم أقطع على صحته وقسم أقطع على بطلانه وقسم أجوز فيه الصحة
والبطلان فلا أقطع فيه على حال.
فأما الذي أقطع
على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد الأئمة عليهم
السلام وهو فاعل لطاعة أو آمر بها وناه عن معصية أو مبين لقبحها وقائل بالحق أو
داع إليه أو زاجر عن باطل أو ذام لما هو عليه.
وأما الذي أقطع
على بطلانه فهو كل ما كان على ضد ذلك لعلمنا أن النبي والإمام عليهم السلام صاحبا
حق وصاحب الحق بعيد عن الباطل.
وأما الذي أجوز
فيه الصحة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبي أو
الإمام عليهم
السلام وليس هو آمرا ولا ناهيا ولا على حال يختص بالديانات مثل أن يراه راكبا أو
ماشيا أو جالسا ونحو ذلك.
فأما الخبر الذي
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله :
من رآني فقد رآني
فإن الشيطان لا يتشبه بي.
فإنه إذا كان
المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في حال ويكون المراد به القسم
الأول من الثلاثة الأقسام لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في شيء
من الحق والطاعات.
وأما ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم من قوله :
من رآني نائما
فكأنما رآني يقظان
فإنه يحتمل أحد
وجهين :
أحدهما أن يكون
المراد به رؤية المنام ويكون خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه.
والثاني أن يكون
أراد به رؤية اليقظة دون المنام ويكون قوله نائما حالا للنبي صلى الله عليه وسلم وليست
حالا لمن رآه فكأنه قال من رآني وأنا نائم فكأنما رآني وأنا منتبه.
والفائدة في هذا
المقام أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالتين إدراكا واحدا فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده
وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن ذكره بحضرته وهو منتبه.
وقد روي عنه صلى
الله عليه وسلم أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد الوضوء فسئل عن ذلك فقال إني لست
كأحدكم تنام عيني ولا ينام قلبي.
وجميع هذه
الروايات أخبار آحاد فإن سلمت فعلى هذا المنهاج.
وقد كان شيخي رحمهالله يقول إذا جاز من بشر أن يدعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن
جرى مجراه مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة فما المانع من أن يدعي إبليس
عند النائم بوسوسته له أنه نبي مع تمكن إبليس بما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس
المعترض في المنام.
ومما يوضح لك أن
من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة صلى الله عليه وسلم
منها ما هو حق ومنها ما هو باطل.
إنك ترى الشيعي
يقول رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليهم السلام يأمرني بالاقتداء به دون غيره ويعلمني أنه خليفته من بعده.
ثم ترى الناصبي
يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وهو
يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة وأنهم معه
في الجنة ونحو ذلك.
فتعلم لا محالة أن
أحد المنامين حق والآخر باطل فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في
اليقظة على صحة ما تضمنه.
والباطل ما أوضحت
الحجة عن فساده وبطلانه.
وليس يمكن للشيعي
أن يقول للناصبي إنك كذبت في قولك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقدر أن
يقول له مثل هذا بعينه.
وقد شاهدنا ناصبيا
تشيع وأخبرنا في حال تشيعه بأنه يرى منامات بالضد مما كان يراه في حال نصبه.
فبان بذلك أن أحد
المنامين باطل وأنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك وأن المنام
الصحيح هو لطف من الله تعالى بعيدة على المعنى المتقدم وصفه.
وقولنا في المنام
الصحيح إن الإنسان إذا رأى في نومه النبي صلى الله عليه وسلم إنما معناه
أنه كان قد رآه
وليس المراد به التحقيق في اتصال شعاع بصره بجسد النبي وأي بصر يدرك به حال نومه؟
وإنما هي معان
تصورت في نفسه تخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم.
وليس هذا بمناف
للخبر الذي روي من قوله من رآني فقد رآني. لأن معناه فكأنما رآني.
وليس بغلط في هذا
المكان إلا عند من ليس له من عقله اعتبار.
تأويل
آية
إن سأل سائل عن
قول الله عزوجل :
(وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً) النبأ : ٩
فقال إذا كان
السبات هو النوم فكأنه قال وجعلنا نومكم نوما فما الفائدة في هذا؟
الجواب
قلنا في هذه الآية
وجوه :
منها أن السبات
أحد أقسام النوم وهو النوم الممتد الطويل ولهذا يقال فيمن كثر نومه إنه مسبوت وبه
سبات ولا يقال في كل نائم.
والوجه في
الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا ظاهر.
وهو لما لنا في
ذلك من المنفعة بالراحة لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبنا شيئا من الراحة بل
يصحبهما في الأكثر الانزعاج والقلق والهموم التي هي تقلل النوم ورخاء البال وفراغ
القلب يكون معهما كثرته وامتداده.
ومنها أن يكون
المراد بذلك أنا جعلنا نومكم سباتا ليس موتا لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده
وأحواله فيسمى بالسبت للفراغ الذي كان فيه ولأن الله تعالى أمر بني إسرائيل
بالاستراحة من الأعمال.
وقد قيل إن أصل
السبات التمدد ويقال سبتت المرأة شعرها إذا حلته من العقص.
ومنها أن يكون
المراد بالسبت القطع فيكون نومنا قطعا لأعمالنا ومتصرفاتنا وهو راجع إلى معنى الراحة.
فصل :
مما روي عن لقمان
من حكمته ووصيته لابنه
(يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ) فإنما مثلها في دين الله كمثل عمد فسطاط فإن العمود إذا
استقام نفعت الأطناب والأوتاد والظلال وإن لم يستقم لم ينفع وتد ولا طنب ولا ظلال.
أي بني صاحب
العلماء وجالسهم وزرهم في بيوتهم لعلك أن تشبههم فتكون منهم.
اعلم يا بني إني
ذقت الصبر وأنواع المر فلم أر أمر من الفقر فإن افتقرت يوما فاجعل فقرك بينك وبين
الله ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم ثم سل في الناس هل من أحد دعا الله فلم
يجبه أو سأله فلم يعطه.
يا بني ثق بالله عزوجل ثم سل في الناس هل من أحد وثق بالله فلم ينجه.
يا بني توكل على
الله ثم سل في الناس من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه.
يا بني أحسن الظن
بالله ثم سل في الناس من ذا الذي أحسن الظن بالله فلم يكن عند حسن ظنه.
به يا بني من يرد
رضوان الله يسخط نفسه كثيرا ومن لا يسخط نفسه لا يرض ربه ومن لا يكتم غيظه يشمت
عدوه.
يا بني تعلم
الحكمة تشرف فإن الحكمة تدل على الدين وتشرف العبد على الحر وترفع المسكين على
الغني وتقدم الصغير على الكبير وتجلس المسكين مجالس الملوك وتزيد الشريف شرفا
والسيد سوددا والغني مجدا.
وكيف يتهيأ له أمر
دينه ومعيشته بغير حكمة ولن يهيئ الله عزوجل أمر الدنيا والآخرة إلا بالحكمة ومثل الحكمة بغير طاعة مثل
الجسد بلا نفس أو مثل الصعيد بلا ماء ولا صلاح للجسد بلا نفس ولا للصعيد بغير ماء
ولا للحكمة بغير طاعة.
أحاديث عن أبي ذر
الغفاري
أخبرني الشريف أبو
منصور أحمد بن حمزة الحسيني العريضي بالرملة وأبو العباس أحمد بني إسماعيل بن عنان
بحلب وأبو المرجى محمد بن علي بن طالب البلدي بالقاهرة رحمهمالله قالوا جميعا أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب
الشيباني الكوفي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمار الثقفي قال حدثنا
محمد بن علي بن خلف العطار قال حدثنا موسى بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثنا عبد المهيمن بن عباس الأنصاري الساعدي عن
أبيه العباس بن سهل عن أبيه سهل بن سعيد قال بينا أبو ذر قاعد مع جماعة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت يومئذ فيهم إذ طلع علينا علي بن أبي طالب عليهم
السلام فرماه أبو ذر بنظره ثم أقبل على القوم يوجهه فقال من لكم برجل محبته تساقط
الذنوب عن محبيه كما يساقط الريح العاصف الهشيم من الورق عن الشجر سمعت نبيكم صلى
الله عليه وسلم يقول ذلك له.
قالوا من هو يا أبا
ذر قال هو الرجل المقبل إليكم ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم يحتاج أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم إليه ولا يحتاج إليهم.
سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول :
علي باب علمي
ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي حبه إيمان وبغضه نفاق والنظر إليه برأفة ومودة عبادة.
وسمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم نبيكم يقول :
مثل أهل بيتي في
أمتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن رغب عنها هلك :
ومثل باب حطة في
بني إسرائيل من دخله كان آمنا مؤمنا ومن تركه كفر.
ثم إن عليا عليهم
السلام جاء فوقف فسلم ثم قال يا أبا ذر من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته
ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله الذي بينه وبين عباده ومن أحسن سريرته
أحسن الله علانيته.
إن لقمان الحكيم
قال لابنه وهو يعظه يا بني من الذي ابتغى الله عزوجل فلم يجده ومن ذا الذي لجأ إلى الله فلم يدافع عنه أمن ذا
الذي توكل على الله فلم يكفه.
ثم مضى يعني عليا
عليهم السلام فقال أبو ذر رحمهالله والذي نفس أبي ذر بيده ما من أمة ائتمت أو قال اتبعت رجلا
وفيهم من هو أعلم بالله ودينه منه إلا ذهب أمرهم سفالا.
مسائل في المواريث
مسألة إخوان لأب
وأم ورث أحدهما المال كله ولم يرث الآخر شيئا وليس بينهما خلاف في ملة :
الجواب
كان الميت ابن
أحدهما فورثه الأب خاصة دون أخيه الذي هو عم الميت.
مسألة
أخرى
إخوان لأب وأم
ورثا ميراثا كان لأحدهما ثلاثة أرباع المال وللآخر الربع؟
جواب : الموروث امرأة
تركت ابني عمها أحدهما زوجها فورث منها النصف بحق زوجته وورث مع أخيه نصف الباقي
وهو الربع من جميع المال.
مسألة
أخرى.
رجل وابنه ورثا مالا
فكان بينهما نصفان بالسوية؟
جواب هذا تزوج
بابنة عمه فماتت وخلفته وأباه الذي هو عمها فكان بحق الزوجية النصف ولعمها الذي هو
أبو زوجها النصف الباقي.
قضية مستطرفة
لأمير المؤمنين عليهم السلام لم يسبقه إليها أحد من الناس
روي أن رجلين جلسا
للغداء فأخرج أحدهما خمسة أرغفة وأخرج الآخر ثلاثة أرغفة فعبر بهما في الحال رجل
ثالث فعزما عليه فنزل فأكل معهما حتى استوفوا جميع ذلك فلما أراد الانصراف دفع
إليهما فضة وقال هذه لكما عوض ما أكلت من طعامكما فوزناها فصادفاها ثمانية دراهم
فقال صاحب الخمسة الأرغفة لي منها خمسة ولك ثلاثة بحساب ما كان لنا وقال الآخر بل
هي مقسومة نصفين بيننا وتشاحا فارتفعا إلى شريح القاضي في أيام أمير المؤمنين
عليهم السلام فعرفاه أمرهما فحار في قضيتهما ولم يدر ما يحكم به بينهما فحملهما
إلى أمير المؤمنين عليهم السلام فقصا عليه قصتهما فاستطرف أمرهما وقال إن هذا أمر
فيه دناءة والخصومة فيه غير جميلة فعليكما بالصلح فهو أجمل بكما فقال صاحب الثلاثة
أرغفة لست أرضى إلا بمر الحق وواجب الحكم.
فقال أمير
المؤمنين عليهم السلام فإذا أبيت الصلح ولم ترد إلا القضاء فلك درهم واحد ولرفيقك
سبعة دراهم.
فقال وقد عجب هو
وجميع من حضر يا أمير المؤمنين بين لي وجه ذلك لأكون على بصيرة من أمري.
فقال أنا أعلمك ألم
يكن جميع ما لكما ثمانية أرغفة أكل كل واحد منكما بحساب الثلث رغيفين وثلثين؟
قال بلى قال فقد
حصل لكل واحد منكم ثمانية أثلاث فصاحب الخمسة
الأرغفة له خمسة
عشر ثلثا أكل منها ثمانية بقي له سبعة وأنت لك ثلاثة أرغفة وهي تسعة أثلاث أكلت
منها ثمانية بقي لك ثلث واحد فلصاحبك سبعة دراهم ولك درهم واحد فانصرفا على بينة
من أمرهما.
شبهات للملاحدة
مسألة للملحدة
قال الملحدون :
إذا كان الله
جوادا رحيما ولم يخلق خلقه إلا لنفعهم وليس له حاجة إلى عذابهم فهلا خلقهم كلهم في
الجنة وابتدأهم بالنعمة وخلدهم في دائم اللذة وأراحهم من الدنيا ومشاقها وصعوبة
التكليف فيها.
جواب.
يقال لهم إن الجود
والرحمة لا يكونان فيما يخرج عن الحكمة وربنا سبحانه لم يخلق خلقه إلا لنفعهم
والمنفعة بنيل النعيم يكون على قسمين تفضل واستحقاق.
ومنزلة الاستحقاق
أعلى وأجل وأشرف من منزلة التفضل.
فلو ابتدأ الله
تعالى خلقه في جنات النعيم لكان قد اقتصر بهم على منزلة التفضل التي هي أدون
المنزلتين وفي ذلك أنه قد حرم الاستحقاق من علم من حاله أنه إن كلفه أطاع فاستحق
الثواب وأقطعه الأصلح له واقتصر به على نعيم غيره أفضل منه وذلك لا يقع من عالم
حكيم جواد غير بخيل فوجب في الحكمة خلقهم في الدنيا وعمومهم بالتكليف الذي فيه
التعرض للأمر
الجليل ليستحق
الطائعون ما سبق لهم في المعلوم وليس نفع المخالفة بعد التبيين والتعريف وإزاحة
العلة في التكليف إلا عن جان على نفسه غير ناظر في عاقبة أمره.
وجواب
ثان
ويقال لهم لو خلق
الله تعالى خلقه في الجنة لم يخل أمرهم من حالين إما أن يبيحهم الجهل به وكفر
نعمته فليس بحكيم من أباح ذلك.
وإما أن يأمرهم
بمعرفته وشكر نعمته والحكمة توجب ذلك فلا بد عند الأمر بالشيء من النهي عن ضده ثم
لا بد من ترغيب فيما يأمر ووعد جميل على فعله وترهيب فيما نهى عنه ووعيد على فعله.
وإذا وجب الأمر
والنهي والترغيب والترهيب والوعد والوعيد فقد حصلت حالهم كحالهم في الدنيا ووجب أن
يكون للوعيد إنجاز فينتقلوا إلى دار الجزاء فقد انتهى الأمر إلى ما فعله سبحانه به
مما لا يقتضي الحكمة غيره.
فإن قالوا أليس
الطائعون لا بد من مصيرهم إلى الجنة فألا كانت حالهم في الابتداء كحالهم في الثواب
والجزاء من حصول المعرفة والشكر؟
قلنا لهم بين
الوقتين فرق وذلك أنهم إذا صاروا إلى الجنة بعد كونهم في الدنيا فقد تقدم لهم
الأمر والنهي وذاقوا البؤس والآلام وعرفوا قدر النعمة وشاهدوا وقوع العقاب والثواب
بأهلها فكان ذلك يقوم لهم في الترغيب في المعرفة والشكر والانزجار عن تركهما مقام
الأمر والنهي والوعد والوعيد.
ولو ابتدأهم في
الجنة لم يكونوا أمروا ولا نهوا ولا وعدوا ولا توعدوا ولا فعل بهم ما يقوم مقام
ذلك فكان بمنزلة من أبيح له الجهل والكفر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولا يجوز أن يخلق
فيهم المعرفة به ابتداء لأن الغائب لا يعرف بالضرورة إلا أن يحضر.
كما أن الحاضر لا
يعلم بالاستدلال إلا أن يغيب.
ولو جاز أن يخلقهم
فيعرفون الغائب لجاز أن يقدرهم على ذلك وهذا محال.
ولا يجوز أيضا أن
يخلق الشكر فيهم لأنه لو خلقه لهم لم يكونوا هم الشاكرين بل يكون هو الشاكر نفسه
لأن الشاكر من فعل الشكر لا من فعل فيه كما أن الظالم من فعل الظلم لا من فعل فيه.
مسألة
أخرى للملاحدة
قال الملحدون.
كيف يجوز من
الحكيم الرحيم أن يخلق خلقا ثم يكلفهم وهو يعلم أنهم يعصون فيصيرون إلى العذاب
الأليم ويبقون فيه مخلدين وهو لو لم يخلقهم لم يكن ذلك أو خلقهم ولم يكلفهم لم يقع
الكفر منهم.
الجواب
:
قيل لو وجب أن
يكون الخلق والتبليغ قبيحا ولا حكمة لأن ذلك لو لم يكن ما استحق أحد العذاب
والخلود في النار لكان لا شيء أوضع ولا أضر من العقل لأن الإنسان متى لم يكن عاقلا
لم يلحقه لوم في شيء يكون منه ولم يلزمه عقاب ولا أدب على زلل يصدر عنه ومتى كان
عاقلا لحقه ذلك أجمع ومستحقه.
والأمم كلها
ملحدها وموحدها مجمعة على اعتقاد شرف العقل وفضيلته وعلو منزلته وسقوط ضده ونقصه.
فإن قالوا إن
العقل ليس يدعو إلى شيء مما يوجب اللوم ولا يحمل عليه ولا يدخل فيه بل هو ناه عن
ذلك زاجر عنه ولو شاء المكلف لم يكفر بل أطاع فاستحق بطاعته الخلود في نعيم الجنان
كما استحق غيره ممن أطاع.
وبعد ففي التكليف
تعريض لأجل منازل النعيم وهي منزلة الاستحقاق وفيه فعل ما تقتضيه الحكمة والصلاح.
وشيء آخر وهو أن
التعريض لنيل الثواب الدائم والأمر بمعرفة المنعم وشكره وترك الجور والظلم والسفه
حسن من العقل كما أن التعريض للعطب والأمر بالجور والسفه قبيح فاسد في العقل.
فلو كانت معصية
المأمور ومصيره لسوء اختياره إلى استحقاق العذاب وعلم العالم بما يصير إليه من
العطب والهلاك بقلب التعريض للخير والأمر بالحسن فيجعله قبيحا فاسدا لكان طاعة
المأمور ومصيره بحسن اختياره إلى استحقاق المدح من العقلاء وعلم الأمر بما يصير
إليه المأمور من السلامة واستحقاق المدح يقلب التعريض للعطب والأمر به فيجعله حسنا
وهذا لا يقوله أحد.
ولو كان الأمر
بالخير والتمكين منه والدعاء إليه والتيسير له والإعذار والإنذار لا يكون تعريضا
للخير إلا إذا علم أن المأمور يقبل فيسلم لكان الأمر بالفساد والشر والدعاء إليه
والحث عليه لا يكون تعريضا للمكروه والعطب والضرر إلا إذا علم أن المأمور يقبل
فيعطب.
فلما كان هذا عند
جمهور أهل العلم والعقل إساءة وإضرارا وتعريضا للمكروه سواء علم أن المأمور يقبل
فيعطب أو يخالف فيسلم كان الأول تعريضا للخير وإحسانا إلى العبد سواء علم من حاله
أنه يقبل فيسلم أو يخالف فيعطب.
وهذا باب يجب أن
يتأيد فيه المتأمل ويكرر فيه الاطلاع فإنه يعلم الحق فيه إن لم يكن معه هوى يضل
عنه والحمد لله.
فصل
في ذكر سؤال ورد إلي من الساحل وجوابي
عنه في صحة العبادة بالحج.
(بسم الله الرحمن
الرحيم)
الحمد لله الهادي
إلى الرشاد العالم بمصالح العباد ذي الحكمة البالغة والنعمة السابغة وصلواته على
من أزاح به العلل وأوضح منار السبل سيد
الأولين والآخرين
محمد خاتم النبيين وعلى آله الأئمة الطاهرين.
سألت أيدك الله عن
الحج ومناسكه وصحة الأمر به وأسباب ذلك وعلله ورغبت في اختصار جواب يكشف لك حقيقة
الصواب تعول عليه في الاعتقاد وتحسم به مواد الفساد وتعده للخصوم عند السؤال وتدفع
به تعجب أهل الكفر والضلال.
وقد أوردت من ذلك
ما اقتضاه الإمكان لضيق الزمان وترادف الأشغال وهو مقنع لمن تدبره وفهم فحواه إن
شاء الله.
اعلم أن اختلاف
العبادات مبني على المعلوم عند الله تعالى من مصالح العباد وليس للمكلفين طريق
للعلم بتفاصيل هذه المصالح ولا فرض الله سبحانه عليهم ذلك ولو فرضه لنصب لهم دليلا
على العلم فالذي يجب اعتقاده هو أن المكلف الآمر عدل حكيم لا يقع منه الخلل ولا
يكلف العبث ولا يرسل إلى خلقه من يجوز منه الكذب والأمر باللعب.
فإذا ثبت هذا
الأصل لزم امتثال أوامر الحكيم الواردة على يد الصادق الأمين والاعتقاد أن إيراده
منها إنما هو طاعته في العمل بها وأنه لم يأمر بها دون غيرها إلا لعلمه بمصالح
خلقه فيها وتعريضه لهم بتكليفها إلى منزلة الاستحقاق ونفاستها ليثبت من أطاعه فيها
بالنعيم الدائم عليها.
وليس جهل العبد
بمعرفة هذه المصالح على تفاصيلها مفسدا لما عمله من حكمة الأمر بها وصدق المؤدي
عنه لها.
كما أنه ليس عدم
علمنا بعلل تباين الناس في أفعالهم وأسباب اختلاف ما مع الصناع من آلاتهم موجبا
علينا القطع على لعبهم وعبثهم واعتقاد جهلهم ونقصهم.
فهذا أصل الكلام
فيما خار الله تعالى وأمر وعليه المدار في الحجاج والنظر ومن أتقنه استعان به في
مسائل أخر.
وقد سأل أحد
الملاحدة مولانا جعفر بن محمد الصادق صلى الله عليه وسلم عن الطواف بالبيت الحرام
فأجابه بما نقله عنه الخاص والعام.
أخبرني به الشيخ
الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن الشاذان القمي رضي الله عنه عن خال
أمه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمهالله عن محمد بن يعقوب الكليني عن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن
العباس بن عمران الفقيمي.
أن ابن أبي
العوجاء وابن طالوت الأعمى وابن المقفع في نفر من الزنادقة كانوا
مجتمعين بالموسم في المسجد الحرام وأبو عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام فيه إذ
ذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات.
فقال القوم لابن
أبي العوجاء هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به
فقد ترى فتنة الناس به وهو علامة زمانه؟
فقال ابن أبي
العوجاء نعم ثم تقدم ففرق الناس ثم قال يا أبا عبد الله إن المجالس أمانات ولا بد
لكل من به سعال أن يسعل فتأذن في السؤال؟
فقال أبو عبد الله
عليهم السلام سل إن شئت.
فقال ابن أبي
العوجاء إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المرفوع
بالطوب والمدر وتهرولون هرولة البعير إذا
نفر من فكر في هذا
وقدر علم أنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه
ونظامه.
فقال له الصادق
عليهم السلام إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلن يستعذبه وصار الشيطان
وليه وحزبه يورده مناهل الهلكة.
وهذا بيت استعبد
الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله قبلة
للمصلين فهو شعبة من رضوانه وطريق تؤدي إلى غفرانه منصوب على استواء الكمال ومجمع
العظمة والجلال خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر وأنتهي عما
زجر الله عزوجل المنشئ للأرواح والصور.
فقال ابن أبي
العوجاء ذكرت أبا عبد الله فأحلت على غائب.
فقال الصادق صلى
الله عليه وسلم كيف يكون يا ويلك غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم لا يخلو منه مكان ولا يشغل به
مكان ولا يكون من مكان أقرب من مكان يشهد له بذلك آثاره ويدل عليه أفعاله والذي
بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد عليهم السلام جاءنا بهذه العبادة فإن
شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أوضحه لك.
قال فأبلس ابن أبي
العوجاء ولم يدر ما يقول فانصرف من بين يديه فقال لأصحابه سألتكم أن تلتمسوا خمرة
فألقيتموني على جمرة فقالوا له اسكت فو الله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا
أحقر منك اليوم في مجلسه.
فقال إلي تقولون
هذا إنه ابن من حلق رءوس من ترون وأومى بيده إلى أهل الموسم.
وفي هذا الخبر
كفاية لمن تدبره وغنى في هذه المسألة لمن تصوره.
واعلم أنه لا فرق
في العقول بين أن ترد العبادة بصلاة فيها ركوع وسجود وقيام وقعود وبين أن ترد
بطواف وسعي وهرولة أو شيء ونحو ذلك من أسباب الخشوع وأفعال الخضوع.
ولا فرق أيضا بين
ورودها باغتسال وصيام وبين ورودها بحلق الرأس والإحرام.
بل لا فرق بين
المشي إلى مواضع العبادة والسجود على التكرار وبين السعي بين الصفا والمروة ورمي
الحجار.
كل ذلك على حد
واحد في التجويز وطريق مستمر في إمكان ما يرد به التكليف.
ولسنا نجد أهل ملة
ولا ذوي نحلة إلا ولهم عبادات من هذا الجنس وإن اختلفت في الوصف.
وبعد فقد نرى
العدو الشديد في بعض الأحيان يكون من التعظيم والإجلال وذاك أن ذا المنزلة الكبيرة
والرتبة الجليلة إذا رآه من دونه توجه إليه مسرعا وعدا إليه مهرولا لائذا به مقبلا
ليده فيكون فيما فعله قد عظمه وفضله.
وسواء سعيت إلى من
تريد تعظيمه فتذللت بين يديه وخضعت له أو سعيت إلى حيث أمرك فتذللت به وخضعت عنده
لا يختلف ذلك في أحكام العقول ولا يتعجب منه وينكره إلا من فقد التحصيل وألف ترك
التمييز.
على أن منكر هذه
العبادة والمتعجب منها إذا لم يقر بعبادة غيرها يجانسها لا يقدر على إنكار ما
نشاهده من العقلاء في بعض الأحيان من الأفعال المضاهية لأفعال المجان
وهم فيها مصيبون وللمصلحة قاصدون مثل رجل حصيف لبيب حكيم لا يحسن منه العدو
الشديد رأى طفلا يكاد
يهوي إلى بئر أملا
في وجه لتخليصه وهرول غاية قدرته لإنقاذه فحسن ذلك منه وإن لم تجر به عادته وكان
شكورا عليه لصواب غرضه فيه.
ورجل دخل الماء في
أذنه فاجتهد في إخراجه بأن وقف على إحدى رجليه وأمال رأسه إلى ناحيتها وقفز عدة
دفعات عليها ليخرج الماء من أذنه ويأمن ما يخشاه من ضرره فلا ينقصه ذلك من فضله
ولا يزيله عن رتبته وعقله بل يكون فيما فعله حكيما وبدفع المضرة عنه عليما.
وكالقاضي الذي
دخلت ذبابة في ثوبه وحصلت بينه وبين جسمه وهو بين شهوده وفي مجلس قضائه وحكمه
فأضجرته بأذيتها وأقلقته بثقلها وأخذ يتحرك لها أنواع الحركة ويتلوى منها إلى كل
جهة ويكثر من توقفه واضطرابه ويطيل تطلعه في ثيابه والناس يشاهدون أفعاله ولا
يعرفون فلما دام أمرها وطال لبثها حسن منه النهوض عن مجلسه والخلو لإزالتها بنفسه
فالجاهل من سارع إلى سوء الظن به وقدم على استنقاصه في فعله والعاقل الذي يعلم أن
أمرا قد دهمه وشيئا ألجأه إلى ما ظهر منه واضطره ونحو هذا من الأفعال العجيبة
والأحوال الطريفة الذي يتفق لذوي العقول السليمة والآراء الصحيحة فيقع منهم أكثر
مما ذكرت وفوق ما وصفت ويكون الواجب تصويبهم فيه وإن لم يعلم الأسباب الداعية لهم
فيه.
قصة وقعت مع
المؤلف
ولقد اضطررت يوما
إلى الحضور مع قوم من المتصوفين فلما ضمنا المجلس أخذوا فيما جرت به عادتهم من
الغناء والرقص فاعتزلتهم إلى إحدى الجهات وانضاف إلي رجل من أهل الفضل والديانات
فتحادثنا ذم الصوفية على ما يصنعون وفساد أغراضهم فيما يتأولون وقبح ما يفعلون من
الحركة والقيام وما يدخلون على أنفسهم في الرقص من الآلام فكان الرجل لقولي مصوبا
وللقوم في فعلهم مخطئا ولم نزل كذلك إلى أن غنى مغني القوم هذه الأبيات :
وما أم مكحول
المدامع ترتعي
|
|
ترى الأنس وحشا
وهي تأنس بالوحش
|
غدت فارتعت ثم
أثنت لرضاعه
|
|
فلم تلف شيئا من
قوائمه الخمش
|
فطافت بذاك
القاع ولهى فصادفت
|
|
سباع الفلا
ينهشنه أيما نهش
|
بأوجع مني يوم
ظلت أنامل
|
|
تودعني بالدر من
شبك النقش
|
فلما سمع صاحبي
نهض مسرعا مبادرا ففعل من القفز والرقص والبكاء واللطم ما يزيد على ما فعله من
قبله ممن كان يخطئه ويستجهله وأخذ يستعيد من الشعر ما لا يحسن استعادته ولا جرت
عادتهم بالطرب مثله وهو قوله :
فطافت بذاك
القاع ولهى فصادفت
|
|
سباع الفلا
ينهشنه أيما نهش
|
ويفعل بنفسه ما
حكيت ولا يسأل من غير هذا البيت حتى بلغ من نفسه المجهود ووقع كالمغشي عليه من
الموت.
فحيرني ما رأيت من
حاله وأخذت أفكر في أفعاله المضادة لما سمعت من أقواله.
فلما أفاق من
غشيته لم أملك صبرا دون سؤاله عن أمره وسبب ما صنعه بنفسه مع تجهيله من قبل لفاعله
وعن وجه استعادته من الشعر ما لم تجر عادتهم باستعادة مثله؟
فقال لي لست أجهل
ما ذكرت ولي عذر واضح فيما صنعت أعلمك أن أبي كان كاتبا وكان بي برا وعلي شفيقا
فسخط السلطان عليه فقتله فخرجت إلى الصحراء لشدة ما لحقني من الحزن عليه فوجدته
ملقى والكلاب ينهشون لحمه فلما سمعت المغني يقول :
فكانت بذاك
القاع ولهى فصادفت
|
|
سباع الفلا
ينهشنه أيما نهش
|
ذكرت ما لحق أبي
وتصور شخصه بين عيني وتجدد حزنه علي ففعلت الذي رأيت بنفسي.
فندمت على سوء ظني
به وتغممت عما لحقه واتعظت بقصته وعلمت أن الله تعالى لطف لي بمشاهدة هذه الحال
والوقوف عليهم لتكون لي دلالة على الصواب في هذه المسألة وأشباهها وأنه محرم على
كل عاقل لبيب أن يعجل بتجهيل من ثبت عنده عقله وبان له فضله إذا ظهر منه فعل لم
يعرف فيه سببه ولا علم مراده منه وغرضه.
وورود مثل هذه
الأمور من العقلاء كثير وهي حجة على من أظهر التعجب مما ورد به الشرع من التكليف
وجعل عدم علمه بأسباب ذلك دلالة على تعقله الضعيف.
على أن الأخبار قد
نقلت عن الأئمة عليهم السلام بذكر أسباب لهذه العبادات تسمى عللا على المجاز
والاتساع وجمع في ذلك علي بن حاتم القزويني
رحمهالله كتابا سماه كتاب العلل وأنا أذكر طرفا مما رواه في الحج
ومناسكه وأسبابه وعلله.
قال إن الحج هو
الوفادة إلى الله عزوجل وفيه منافع كثيرة للدنيا والآخرة من الرغبة إلى الله تعالى
والرهبة منه والتوبة إليه من معاصيه وطلب الثواب على تحمل المشاق فيما يرضيه
ومنفعة أهل الشرق والغرب ومن في البر والبحر من تاجر وجالب ومشتر وبائع ونحو ذلك
من الفوائد.
قال الله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)
والتلبية هي جواب
نداء إبراهيم عليهم السلام لما أذن في الناس بالحج.
وروي أن أمير
المؤمنين عليهم السلام سئل عن الوقوف بالحل يعنى الوقوف بعرفات ولم لم يكن في
الحرم فقال لأن الكعبة بيته والحرم داره فلما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرعون
إليه.
قيل له فالمشعر
الحرام لم صار في الحرم؟
قال لأنه لما أذن
لهم في الدخول وقفهم بالباب الثاني فلما طال تضرعهم به أذن لهم بتقريب قربانهم
فلما قضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجابا بينه وبينهم أذن لهم بالزيارة
على الطهارة.
قيل له فلم حرم
الله الصيام أيام التشريق؟
قال لأن القوم
زاروا الله تعالى وهم في ضيافته ولا يجوز لمضيف أن يصوم أضيافه.
قيل فالتعلق
بأستار الكعبة لأي شيء هو
قال مثله مثل رجل
له عبد جنى جناية وذنبا فهو متعلق بثوبه ويتضرع إليه ويخضع له أن يتجاوز له عن
ذنبه.
. وروي أن الإشعار
إنما هو لتحريم ظهر البدنة وأن تقليدها
إنما هو ليعرفها صاحبها.
وقال في حد الحرم
إن آدم لما أهبط من الجنة شكا إلى الله تعالى الوحشة فأنزل الله عليه ياقوتة حمراء
فوضعها في موضع البيت وكان يطوف بها فكان يبلغ ضوءها موضع الأعلام يعني أطراف
الحرم وحده.
وذكر في علة
الطواف أن الله لما قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ
خَلِيفَةً) وقالت (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وعلموا أنهم قد أذنبوا لاذوا بالعرش واستغفروا الله سبعة آلاف
عام قال فبنى الله عزوجل لآدم عليهم السلام بيتا بحذاء العرش وأمره بالطواف حوله
سبعة أشواط لكل ألف سنة طافتها الملائكة شوط واحد.
وروي في السعي بين
الصفا والمروة أن إبراهيم عليهم السلام لما خلف إسماعيل وأمه بمكة ومضى عطش الصبي
فخرجت أمه حتى قامت على الصفا وكان بينه وبين المروة شجر فقالت هل بالوادي من أنيس
فلم يجبها أحد فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت هل بالوادي من أنيس فلم تجب ثم
رجعت إلى الصفا ففعلت ذلك سبع مرات فجعل الله تعالى ذلك سنة من بعده.
وروي عن الصادق
عليهم السلام أنه كان يقول ما من بقعة أحب إلى الله تعالى من المسعى لأنه يذل فيه
كل جبار.
. وقال إن علة رمي
الجمرات أن إبراهيم عليهم السلام تراءى له إبليس عندها فأمره جبرائيل برميه بسبع
حصيات وأن يكبر مع كل حصاة ففعل وجرت بذلك السنة.
فهذا بعض ما ذكر
في علل الحج قد أوردته مما رواه علي بن حاتم القزويني وجمعه.
واعلم أيدك الله
أن هذه العلل المسطورة ليست بعلل موجبة وإنما منها ما هو على طريق التقريب
كالتشبيه والتمثيل ومنها ما وقع في الابتداء فاقتضت المصلحة عند الله سبحانه أن
يكون مستمرا جاريا فصار المبتدأ سببا لما بعده وكالعلة له.
ويدل على أنها
ليست بعلل موجبة ما نعلمه من أنه قد كان يجوز نسخ هذه العبادة وورود الشرع بغيرها
فلو كانت عن علة أوجبتها لم يكن يجوز نسخها بغيرها وهذا واضح والحمد لله ولي كل
نعمة وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلم تسليما.
فصل من كلام أمير
المؤمنين ع :
الفكرة مرآة صافية
والاعتبار منذر ناصح من تفكر اعتبر ومن اعتبر اعتزل ومن اعتزل سلم العجب ممن خاف
العقاب فلم يكف ورجا الث واب فلم يعمل الاعتبار يقود إلى الرشاد.
كل قول ليس لله
فيه ذكر فلغو وكل صمت ليس فيه فكر فسهو وكل نظر ليس فيه اعتبار فلهو.
فصل :
حدثني القاضي أبو
الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني قال أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي قال
حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي قال حدثنا أحمد بن حازم بن عروة قال حدثنا
جعفر بن عون عن عمر بن موسى البربري عن أبيه عن عطية العوفي عن سعيد قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم :
لا يبغض عليا إلا
فاسق أو منافق أو صاحب بدائع.
وأخبرني شيخنا
المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه قال حدثنا أبو بكر محمد
بن عمر الجعابي الحافظ قال حدثنا محمد بن سهل بن الحسن قال حدثنا أحمد بن عمر
الدهقان قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا إسماعيل بن مسلم قال حدثنا الأعمش عن
عدي بن ثابت عن زر بن حبيش قال رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام على
المنبر وهو يقول والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي
أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق
وأخبرني شيخنا
المفيد رضي الله عنه.
قال أخبرني أبو
عبد الله محمد بن عمر المرزباني قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي
قال حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال
حدثنا جعفر بن
سليمان قال حدثنا النضر بن حميد عن أبي الجارود عن الحارث الهمداني قال رأيت عليا
عليهم السلام جاء حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :
قضي قضاء الله عزوجل على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ألا لا يحبني إلا
مؤمن ولا يبغضني إلا منافق (وَقَدْ خابَ مَنِ
افْتَرى).
دليل النص بخبر
الغدير على إمامة أمير المؤمنين ع
اعلم أنه مما يدل
على أنه المنصوص بالإمامة عليه ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما رجع من حجة الوداع نزل بغدير خم ولم يكن منزلا أمر مناديه فنادى في
الناس بالاجتماع فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من
فرض طاعته وتصرفهم بين أمره ونهيه بقوله :
«ألست أولى بكم
منكم بأنفسكم.»
فلما أجابوه
بالاعتراف وأعلنوا بالإقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليهم السلام وقال عاطفا على
التقرير الذي تقدم به الكلام :
فمن كنت مولاه
فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله
فجعل لأمير
المؤمنين عليهم السلام من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له
عليهم مما أخذ به
إقرارهم لأن لفظة مولى يفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى فوجب أن يريد
بالكلام الثاني ما قررهم عليه في الأول وأن يكون المعنى فيهما واحدا حسبما يقتضيه
استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.
وهذا يوجب أن يكون
أمير المؤمنين عليهم السلام أولى بهم من أنفسهم ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض
عليهم وأمره ونهيه نافذ فيهم وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير
المؤمنين ع.
واعلم أيدك الله
أنك تسأل في هذا الدليل عن أربعة مواضع :
أحدها أن يقال لك
ما حجتك على صحة الخبر في نفسه فإنا نرى من يبطله.
وثانيها أن يقال
لك ما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى وأنها أحد أقسامها؟
وثالثها إذا ثبت
أنها أحد محتملاتها فما الحجة على أن المراد بها في الخبر الأولى دون ما سوى ذلك
من أقسامها؟
ورابعها ما الحجة
على أن الأولى هو الإمام ومن أين يستفاد ذلك في الكلام؟؟
الجواب
عن السؤال الأول
أما الحجة على صحة
خبر الغدير فما يطالب بها إلا متعنت لظهوره وانتشاره وحصول العلم لكل من سمع
الأخبار به.
ولا فرق بين من
قال ما الحجة على صحة خبر الغدير وهذه حاله وبين من قال ما الحجة على أن النبي صلى
الله عليه وسلم حج حجة الوداع لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.
وبعد فقد اختص هذا
الخبر بما لم يشركه فيه سائر الأخبار فمن ذلك أن الشيعة نقلته وتواترت به.
وقد نقله أصحاب
السير نقل المتواترين به يحمله خلف عن سلف وضمنه
جميعهم الكتب بغير
إسناد معين كما فعلوا في إيراد الوقائع الظاهرة والحوادث الكائنة التي لا يحتاج في
العلم بها إلى سماع الأسانيد المتصلة.
ألا ترى إلى وقعة
بدر وحنين وحرب الجمل وصفين كيف لا يفتقر في العلم بصحة شيء من ذلك إلى سماع أسناد
ولا اعتبار أسماء الرجال لظهوره المغني وانتشاره الكافي ونقل الناس له قرنا بعد
قرن بغير إسناد حتى عمت المعرفة به واشترك الكل في ذكره.
وقد جرى خبر يوم
الغدير هذا المجرى واختلط في الذكر والنقل بما وصفنا فلا حجة في صحته أوضح من هذا.
ومن ذلك أنه قد ورد
أيضا بالأسانيد المتصلة ورواه أصحاب الحديثين
من الخاصة والعامة من طرق في الروايات كثيرة فقد اجتمع فيه الحالان وحصل له
البيان.
ومن ذلك أن كافة
العلماء قد تلقوه بالقبول وتناولوه بالتسليم فمن شيعي يحتج به في صحة النص
بالإمامة ومن ناصبي يتأوله ويجعله دليلا على فضيلة ومنزلة جليلة.
ولم نر للمخالفين
قولا مجردا في إبطاله ولا وجدناهم قبل تأويله قد قدموا كلاما في دفعه وإنكاره.
فيكون ذلك جاريا
مجرى تأويل أخباره المشتبهة ورواياتها بعد الإبانة عن بطلانها وفسادها بل ابتدءوا
بتأويله ابتداء من لا يجد حيلة في دفعه وتوفره على تخريج الوجوه له لتوفر من قد
لزمه الإقرار به.
وقد كان إنكاره
أروح لهم لو قدروا عليه وجحده أسهل عليهم لو وجدوا سبيلا إليه.
فأما ما يحكى عن
أبي داود السجستاني من إنكاره له وعن الجاحظ
من طعنه في كتاب العثمانية فيه فليس بقادح في الإجماع الحاصل على صحته لأن
القول الشاذ لو أثر في الإجماع وكذلك الرأي المستحدث لو أبطل مقدم الاتفاق لم يصح
الاحتجاج بالإجماع ولا يثبت التعويل على اتفاق.
على أن السجستاني
قد تنصل من نفي الخبر.
فأما الجاحظ
فطريقته المشتهرة في تصنيفاته المختلفة وأقواله المتضادة المتناقضة وتأليفاته
القبيحة في اللعب والخلاعة وأنواع السخف والمجانة الذي لا يرتضيه لنفسه ذو عقل
وديانة يمنع من الالتفات إلى ما يحكيه وتوجب التهمة له فيما ينفرد به ويأتيه.
وأما الخوارج
الذين هم أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين عليهم السلام فليس يحكي عنهم صادق دفعا
للخبر.
والظاهر من حالهم
حملهم له على وجه من التفضيل ولم يزل القوم يقرون لأمير المؤمنين عليهم السلام بالفضائل
ويسلمون له المناقب وقد كانوا أنصاره وبعض أعوانه.
وإنما دخلت الشبهة
عليهم بعد الحكمين فزعموا أنه خرج عن جميع ما كان يستحقه من الفضائل بالتحكيم وقد
قال شاعرهم :
كان علي قبل
تحكيمه
|
|
جلدة بين العين
والحاجب
|
ولو لم يكن الخبر
كالشمس وضوحا لم يحتج به أمير المؤمنين عليهم السلام يوم الشورى حيث قال للقوم في
ذلك المقام.
أنشدكم الله هل
فيكم أحد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال من كنت مولاه فهذا مولاه
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟
فقالوا اللهم لا.
فأقر القوم به ولم
ينكروه واعترفوا بصحته ولم يجحدوه.
فإن قال قائل فما
باله لم يذكر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس على أنه
أولى بهم منهم بأنفسهم ولم أقتصر على ما ذكر وهو لا ينفع في الاستدلال عندكم ما لم
يثبت التقرير المتقدم وما جوابكم لمن قال إن المقدمة لم تصح وليس لها أصل وقد
سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات وهو عار منها فما قولكم فيها؟
قيل له إن خلو
مناشدة أمير المؤمنين عليهم السلام من ذكر المقدمة لا يدل على
نفيها أو الشك في صحتها لأنه قررهم من بعض الخبر على ما يقتضي الإقرار بجميعه
اختصارا في كلامه وغنى بمعرفتهم بالحال عن إيراده على كماله
.
وهذه عادة الناس
فيما يقرون به.
وقد قررهم في ذلك
المقام بخبر الطائر فقال أفيكم رجل
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ابعث إلي بأحب خلقك يأكل معي غيري.
ولم يذكر هذا
الطائر وكذلك لما قررهم بقول النبي عليهم السلام فيه حيث ندبه لفتح خيبر وذكر لهم
بعض الكلام دون جميعه اتكالا منه على ظهوره بينهم واشتهاره.
فأما المتواترون
بالخبر فلم يوردوه إلا على كماله ولا سطروه في كتبهم إلا بالتقرير الذي في أوله.
وكذلك رواه معظم
أصحاب الحديث الذاكرين الأسانيد وإن كان منهم آحاد قد أغفلوا ذكر المقدمة فيحتمل
أن يكون ذلك تعويلا منهم على العلم بالخبر فذكروا بعضه لأنه عندهم مشتهر فإن
الأصحاب كثيرا ما يقولون فلان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر كذا ويذكرون
بعض لفظ الخبر اختصارا.
وفي الجملة فإن
الآحاد المتفردين بنقل بعضه لا يعارض بهم المتواترين الناقلين لجمعيه على كماله.
الجواب
عن السؤال الثاني :
وأما الحجة على أن
لفظة مولى يحتمل أولى وأنها أحد أقسامها فليس يطالب بها أيضا منصف كان له أدنى
الاطلاع في اللغة وبعض الاختلاط بأهلها لأن ذلك مستفيض بينهم غير مختلف فيه عندهم
وجميعهم يطلقون القول فيمن كان أولى بشيء أنه مولاه.
وأنا أوضح لك
أقسام مولى في اللسان لتعلمها على بيان.
اعلم أن لفظة مولى
في اللغة تحتمل عشرة أقسام
أولها الأولى وهو
الأصل الذي يرجع إليه جميع الأقسام قال الله تعالى :
(فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ
هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
يريد سبحانه هي
أولى بكم على ما جاء في التفسير وذكره أهل اللغة وقد فسره على هذا الوجه أبو عبيدة
معمر بن المثنى في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن ومنزلته في العلم
بالعربية معروفة وقد استشهد على صحة تأويله ببيت لبيد.
قعدت كلا
الفرخين تحسب أنه
|
|
مولى المخافة
خلفها وأمامها
|
يريد أولى
بالمخافة ولم ينكر على أبي عبيدة أحد من أهل اللغة وثانيها مالك الرق قال الله
سبحانه (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) النحل : ٧٥.
يريد مالكه وهذا
القسم يغني عن الإطالة فيه
وثالثها المعتق.
ورابعها المعتق
وذلك أيضا مشهور معلوم وخامسها ابن العم قال الشاعر :
مهلا بني عمنا
مهلا موالينا
|
|
لا تنشروا بيننا
ما كان مدفونا
|
وسادسها الناصر
قال الله عزوجل :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) سوةر محمد : ١١.
وسابعها المتولي
لضمان الجريرة ومن يحوز الميراث قال الله عزوجل
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) النساء : ٣٣.
وقد أجمع المفسرون
على أن المراد بالموالي هاهنا من كان أملك بالميراث وأولى بحيازته قال الأخطل
فأصبحت مولاها
من الناس بعده
|
|
وأحرى قريش أن
تهاب وتحمدا
|
وثامنها الحليف
وتاسعها الحار
وهذان القسمان
أيضا معروفان.
وعاشرها الإمام
السيد المطاع وسيأتي في الجواب عن السؤال الرابع إن شاء الله تعالى.
فقد اتضح لك بهذا
البيان ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام وأن أولى أحد محتملات معاني الكلام بل هي
الأصل وإليها يرجع معنى كل قسم لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من كان
لذلك مولاه والمعتق لما كان أولى بمعتقه في تحمله لجريرته وألصق به من غيره كان
مولاه وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في نسبه وأولى أيضا من
الأجنبي بنصرة ابن عمه كان مولى والناصر لما اختص بالنصرة وصار بها أولى كان لذلك
مولى.
وإذا تأملت بقية
الأقسام وجدتها جارية هذا المجرى وعائدة بمعناها إلي الأولى.
وهذا يشهد بفساد
قول من زعم أنه متى أريد بمولى أولى كان ذلك مجازا وكيف يكون مجازا وكل قسم من
أقسام مولى عائد إلي معنى الأولى وقد قال الفراء
في كتابه معاني القرآن إن الولي والمولى في كلام العرب واحد.
الجواب
عن السؤال الثالث
فأما الحجة على أن
المراد بلفظة مولى في خبر الغدير الأولى فهي أن من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا
أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم به التصريح ولغيره فإنهم لا
يريدون بالمحتمل إلا ما صرحوا به من الخطاب المتقدم.
مثال ذلك أن رجلا
لو أقبل على جماعة فقال ألستم تعرفون عبدي فلانا الحبشي ثم وصف لهم أحد عبيده
وميزه عنهم بنعت يخصه صرح به فإذا قالوا بلى قال لهم عاطفا على ما تقدم فاشهدوا أن
عبدي حر لوجه الله عزوجل فإنه لا يجوز أن يريد بذلك إلا العبد الذي سماه وصرح بوصفه
دون ما سواه.
ويجري هذا المجرى
قوله فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عزوجل ولو أراد غيره من عبيده لكان ملغزا غير مبين في كلامه.
وإذا كان الأمر
كما وصفنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل مجتهدا في البيان غير مقصر
فيه من الإمكان وكان قد أتى في أول كلامه يوم الغدير بأمر صرح به وقرر أمته عليه
وهو أنه أولى بهم من أنفسهم على المعنى الذي قال الله تعالى في كتابه :
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الأحزاب : ٦.
ثم عطف على ذلك
بعد ما ظهر من اعترافهم بقوله :
فمن كنت مولاه
فعلي مولاه.
وكانت مولاه يحتمل
ما صرح به في مقدمة كلامه ويحتمل غيره لم يجز أن يريد إلا ما صرح به في كلامه الذي
قدم وأخذ إقرار أمته به دون سائر أقسام مولى وكان هذا قائما مقام قوله فمن كنت
أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه وحاشا لله أن لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم
أراد هذا بعينه.
ووجه
آخر
وهو أن قول النبي
صلى الله عليه وسلم فمن كنت مولاه فعلي مولاه لا يخلو من حالين إما أن يكون أراد
بمولى ما تقدم به التقرير من الأولى أو يكون أراد قسما غير ذلك من أحد محتملات
مولى فإن أراد الأول فهو ما ذهبنا إليه واعتمدنا عليه.
وإن أراد وجها غير
ما قدمه من أحد محتملات مولى فقد خاطب الناس بخطاب يحتمل خلاف مراده ولم يكشف لهم
فيه عن قصده ولا في العقل دليل عليه يغني عن التصريح بمعنى ما نحال إليه وهذا لا
يجيزه على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جاهل لا عقل له.
الجواب
عن السؤال الرابع
وأما الحجة على أن
لفظة أولى يفيد معنى الإمامة والرئاسة على الأمة فهو أنا نجد أهل اللغة لا يصفون
بهذه اللفظة إلا من كان يملك تدبير ما وصف بأنه أولى به وتصريفه وينفذ فيه أمره
ونهيه.
ألا تراهم يقولون
إن السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية والمولى أولى بعبده والزوج أولى بامرأته
وولد الميت أولى بميراثه من جميع أقاربه وقصدهم بذلك ما ذكرناه دون غيره.
وقد أجمع المفسرون
على أن المراد بقوله سبحانه (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أنه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم من حيث وجبت طاعته
عليهم.
وليس يشك أحد من
العقلاء في أن من كان أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد منهم فهو إمامهم
المفترض طاعته عليهم.
ووجه
أحسن
ومما يوضح أن
النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوجب لأمير المؤمنين عليهم السلام بذلك منزلة
الرئاسة والإمامة والتقدم على الكافة فيما يقتضيه فرض الطاعة أنه قررهم بلفظ أولى
على أمر يستحقه عليهم من معناها ويستوجبه من مقتضاها.
وقد ثبت أنه يستحق
في كونه أولى بالخلق من أنفسهم أنه الرئيس عليهم
والنافذ الأمر
فيهم والذي طاعته مفترضة على جميعهم فوجب أن يستحق أمير المؤمنين عليهم السلام مثل
ذلك بعينه لأنه جعل له مثل ما هو واجب له فكأنه قال من كنت أولى به من نفسه في كذا
فعلي أولى به من نفسه فيه.
ووجه
آخر
وهو أنا إذا
اعتبرنا ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام لم نر فيها ما يصح أن يكون من أراد النبي
صلى الله عليه وسلم إلا ما اقتضاه الإمامة والرئاسة على الأنام.
وذلك أن أمير
المؤمنين عليهم السلام لم يكن مالكا لرق كل من ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقه
ولا معتقا لكل من أعتقه فيصح أن يكون أحد هذين القسمين المراد ولا يصح أن يريد
المعتق لاستحالة هذا فيهما على كل حال.
ولا يجوز أن يريد
ابن العم والناصر فيكون قد جمع الناس في ذلك المقام ويقول لهم من كنت ابن عمه فعلي
ابن عمه أو من كنت ناصره فعلي ناصره لعلمهم ضرورة لذلك قبل ذلك المقام.
ومن ذا الذي لم
يعلم أن المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى لتخصيص
أمير المؤمنين عليهم السلام بذلك دون غيره.
ولا يجوز أن يريد
ضمان الجرائر واستحقاق الميراث للاتفاق على أن ذلك لم يكن واجبا في شيء من
الأزمان.
وكذلك لا يجوز أن
يريد الحليف لأن عليا عليهم السلام لم يكن حليفا لجميع حلفاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
ولا يصح أيضا أن
يريد من كنت جاره فعلي جاره لأن ذلك لا فائدة فيه وليس هو أيضا صحيحا في كل حال.
فإذا بطل أن يكون
مراده صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه الأقسام لم يبق إلا أن يكون قصده ما كان
حاصلا له من تدبير الأنام وفرض الطاعة على الخاص والعام وهذه هي رتبة الإمام وفيما
ذكرناه كفاية لذوي الأفهام.
فصل وزيادة
فأما الذين ادعوا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قصد بما قاله في أمير المؤمنين عليهم السلام
يوم الغدير أن يؤكد ولاءه في الدين ويجب نصرته على المسلمين وأن ذلك على معنى قوله
سبحانه :
(وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) التوبة : ٧١
وأن الذي أوردناه
من البيان على أن لفظة مولى يجب أن يطابق معنى ما تقدم من التقرير في الكلام وأنه
لا يسوغ حملها على غير ما يقتضي الإمامة من الأقسام يدل على بطلان ما ادعوه في هذا
الباب ولم يكن أمير المؤمنين عليهم السلام بخامل الذكر فيحتاج أن يقف في ذلك
المقام ويؤكد ولاءه على الناس بل كان مشهورا وفضائله ومناقبه وظهور علو رتبته
وجلالته قاطعا للعذر في العلم بحاله عند الخاص والعام.
على أن من ذهب في
تأويل الخبر إلي معنى الولاء في الدين والنصرة فقوله داخل في قول من حمله على
الإمامة والرئاسة لأن إمام العالمين تجب موالاته في الدين ويتعين نصرته على كافة
المسلمين وليس من حمله على الموالاة في الدين والنصرة يدخل في قوله ما ذهبنا إليه
من وجوب الإمامة فكان المصير إلي قولنا أولى.
وأما الذين غلطوا
فقالوا إن السبب في ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الغدير إنما هو
كلام جرى بين أمير المؤمنين وزيد بن حارثة فقال علي لزيد تقول هذا وأنا مولاك فقال
له زيد لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف يوم الغدير فقال
من كنت مولاه فعلي مولاه إنكارا على زيد وإعلاما له أن عليا مولاه.
فإنهم فضحهم العلم
بأن زيدا قتل مع جعفر بن أبي طالب في أرض
مؤتة من بلاد
الشام قبل يوم غدير خم بمدة طويلة من الزمان وغدير خم إنما كان قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما وما حملهم على هذه الدعوى إلا عدم معرفتهم بالسير
والأخبار.
ولما رأت الناصبة
غلطها في هذه الدعوى رجعت عنها وزعمت أن الكلام كان بين أمير المؤمنين عليهم
السلام وبين أسامة بن زيد والذي قدمناه من الحجج يبطل ما زعموه ويكذبهم فيما
ادعوه.
ويبطله أيضا ما
نقله الفريقان من أن عمر بن الخطاب قام في يوم الغدير فقال بخ بخ لك يا أبا الحسن
أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ثم مدح حسان بن ثابت في الحال بالشعر المتضمن
رئاسته وإمامته على الأنام وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك :
ثم احتجاج أمير
المؤمنين عليهم السلام به يوم الشورى فلو كان ما ادعاه المنتحلون حقا لم يكن
لاحتجاجه عليهم به معنى وكان لهم أن يقولوا أي فضل لك بهذا علينا وإنما سببه كذا
وكذا.
وقد احتج به أمير
المؤمنين عليهم السلام دفعات واعتده في مناقبه الشراف وكتب يفتخر به في جملة
افتخاره إلي معاوية بن أبي سفيان في قوله :
وأوجب لي الولاء
معا عليكم
|
|
خليلي يوم دوح
غدير خم
|
وهذا الأمر لا لبس
فيه.
وأما الذين
اعتمدوا على أن خبر الغدير لو كان موجبا للإمامة لأوجبها لأمير المؤمنين عليهم
السلام في كل حال إذ لم يخصصها النبي صلى الله عليه وسلم بحال دون حال وقولهم إنه
كان يجب أن يكون مستحقا لذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم جهلوا
معنى الاستخلاف والعادة المعهودة في هذا الباب.
وجوابنا أن نقول
لهم قد أوضحنا الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا عليهم السلام في
ذلك المقام والعادة جارية فيمن يستخلف أن يخصص له الاستحقاق في الحال والتصرف بعد
الحال ألا ترون أن الإمام إذا نص على حال.
له يقوم بالأمر
بعده أن الأمر يجري في استحقاقه وتصرفه على ما ذكرناه.
ولو قلنا إن أمير
المؤمنين عليهم السلام يستحق بهذا النص التصرف والأمر والنهي في جميع الأوقات على
العموم والاستيعاب إلا ما استثناه الدليل وقد استثنت الأدلة في زمان حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يجوز أن يكون فيه متصرف في الأمة غيره
ولا آمر ناه لهم سواه لكان هذا أيضا من صحيح الجواب.
فإن قال الخصم إذا
جاز أن تخصصوا بذلك زمانا دون زمان فما أنكرتم أن يكون إنما يستحقها بعد عثمان؟
قلنا له إنا
أنكرنا ذلك من قبل أن القائلين بأنه استحقها بعد عثمان مجمعون على أنها لم تحصل له
في ذلك بيوم الغدير ولا بغيره من وجوه النص عليه وإنما حصلت له بالاختيار وكل من
أوجب له الإمامة بالنص أوجبها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تراخ في
الزمان والحمد لله.
حدثني القاضي أبو
الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني رحمهالله قال أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي قال حدثنا أحمد بن
محمد بن هارون الحنبلي قال حدثنا حسين بن الحكم قال حدثنا حسن بن حسين قال حدثنا
أبو داود الطهوي عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قام علي
عليهم السلام خطيبا في الرحبة وهو يقول :
أنشد الله امرأ
شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا يدي ورفعهما إلى السماء وهو يقول يا معشر
المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم فلما قالوا بلى قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من
نصره واخذل من
خذله إلا قام فشهد بها فقام بضعة عشر بدريا فشهدوا بها وكتم أقوام فدعا عليهم
فمنهم من برص ومنهم من عمي ومنهم من نزلت به بلية في الدنيا فعرفوا بذلك حتى
فارقوا الدنيا.
ومما حفظ عن قيس
بن سعد بن عبادة أنه كان يقول وهو بين يدي أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم بصفين ومعه
الراية في قطعة له أولها
قلت لما بغى
العدو علينا
|
|
حسبنا ربنا ونعم
الوكيل
|
حسبنا ربنا الذي
فتح البصرة
|
|
بالأمس والحديث
يطول
|
وعلي إمامنا
وإمام
|
|
لسوانا أتى به
التنزيل
|
يوم قال النبي
من كنت
|
|
مولاه فهذا
مولاه خطب جليل
|
إنما قاله النبي
على الأمة
|
|
حتم ما فيه قال
وقيل
|
فصل من الوصايا
والإقرارات المبهمة العويصة
إذا أوصى رجل
بإخراج شيء من ماله ولم يسم كان الواجب إخراج السدس مما خلفه قال الله تبارك
وتعالى :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ
لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤
فخلق الله سبحانه
الإنسان من ستة أشياء فالشيء واحد من ستة وهو السدس.
وإذا أوصى بإخراج
جزء من ماله ولم يسم وجب إخراج سبع ماله قال الله تعالى :
(لَها سَبْعَةُ
أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) الجزء : ٤٤
فالجزء واحد من
سبعة وهو السبع.
وإذا أوصى بسهم من
ماله ولم يسم فالواجب إخراج الثمن قال الله تعالى :
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ) التوبة : ٩٠
وهم ثمانية أصناف
لكل صنف منهم سهم من الصدقات فالسهم واحد من ثمانية وهو الثمن.
وإذا أوصى بإخراج
مال كثير ولم يسم وجب أن تخرج من ماله ثمانون درهما قال الله تعالى :
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) وكانت ثمانين موطنا. وإذا قال كل عبد لي قديم في ملكي فهو
حر لوجه الله تعالى فالواجب أن يعتق كل عبد في ملكه ستة أشهر فما زاد قال الله
سبحانه :
(وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) س : ٣٩
وهو الذي مضى عليه
ستة أشهر.
فإذا أوصى إلى رجل
بدراهم فقال أعط زيدا نصفها وعمرا ثلثها وبكرا ربعها فالواجب أن يعطي زيدا وعمرا
ما سماه لهما ويدفع ما بقي لبكر.
وإذا قال عندي كذا
دراهم ولم يبين فقد أقر بعشرة دراهم على ما يقتضيه اللسان.
فإن قال كذا درهما
فعشرون درهما.
فإن قال كذا كذا
درهم فعشر عشر درهم.
فإن قال كذا كذا
درهما فأحد عشر درهما.
فإن قال كذا وكذا
درهما فأحد وعشرون درهما.
فإن قال كذا وكذا
كذا درهما فمائة وأحد عشر درهما.
فإن كان عارفا
بالعربية وقال له عندي مائة درهم غير ثلاثة دراهم بنصب غير فله سبعة وتسعون درهما
لأنه استثنى من المائة ثلاثة.
فإن قال له عندي
مائة غير ثلاثة برفع غير فهي مائة كاملة وإنما وصفها بأنها غير ثلاثة.
فإن قال له مائة
غير ثلاثة غير درهم ونصب غير فيهما جميعا فقد أقر بثمانية وتسعين درهما لأنه
استثنى من المائة ثلاثة فبقي سبعة وتسعون فلما استثنى مما استثناه درهما علم أن
المستثنى من المائة درهمان فكان الذي اعترف به ثمانية وتسعون درهما.
فإن قال له عندي
مائة غير ثلاثة غير درهم فنصب غير الأولة وخفض الثانية فقد أقر بسبعة وتسعين درهما
لأنه لما نصب غير الأولة كان قد
١
ـ رقم العدد المشار إليه بكذا ، فقد يكون مفردا كقولك له كذا ، وقد يكون مضافا إلى
عدد آخر كقولك : له كذا كذا ، وقد يكون مركبا تركيبا مزجيا كقولك : له كذا كذا
درهما ، وقد يكون معطوفا كقولك : له كذا وكذا درهما.
٢
ـ التمييز قد يكون مفردا منصوبا كقولك : له كذا كذا درهما ، وقد يكون مجرورا
بالإضافة كقولك : له كذا درهم ، وقد يكون جمعا منصوبا كقولك : له كذا وكذا دراهم ،
وقد يكون مجرورا نحو قولك : له كذا دراهم.
٣
ـ ويؤخذ من هذه الإقرارات بالقدر المتيقن وهو أقل عدد محتمل فإذا قيل : له كذا
دراهم فالمتيقن منه ثلاثة دراهم : وهكذا.
استثنى من المائة
ثلاثة فلما خفض غير الثانية وكان قد وصف الثلاثة بأنها غير درهم فالاستثناء على
حاله والمال سبعة وتسعون درهما.
وكذلك لو قال له
عندي مائة غير ثلاثة غير درهم بنصب غير الأولة ورفع غير الثانية فإن له عنده سبعة
وتسعون درهما لأنه استثنى من المائة ثلاثة لما نصب غيرا ثم وصف المائة بأنها غير
درهم لما رفع غير الأخرى.
فإن هو أدخل الواو
في الكلام عاطفا بها كان استثناء معطوفا على استثناء والجميع يسقط من الأصل
المذكور كقوله له عندي مائة غير خمسة وغير سبعة فالخمسة والسبعة يسقطان من المائة
فيكون له عنده ثمانية وثمانون درهما فافهم ذلك.
مسألة
ذكرها شيخنا
المفيد رضي الله عنه في كتاب الأشراف رجل اجتمع عليه عشرون غسلا فرض وسنة ومستحب
أجزأه عن جميعها غسل واحد.
جواب
هذا رجل احتلم
وأجنب نفسه بإنزال الماء وجامع في الفرج وغسل ميتا ومس آخر بعد برده بالموت قبل
تغسيله ودخل المدينة لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد زيارة الأئمة
عليهم السلام هناك وأدرك فجر العيد وكان يوم جمعة وأراد قضاء غسل عرفة وعزم على
صلاة الحاجة وأراد أن يقضي صلاة الكسوف وكان عليه في يوم بعينه صلاة ركعتين بغسل
وأراد التوبة من كبيرة على ما جاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد صلاة
الاستخارة وحضرت صلاة الاستسقاء ونظر إلى مصلوب وقتل وزغة وقصد إلى المباهلة وأهرق
عليه ماء غالب النجاسة.
فصل في ذكر هيئة
العالم.
اعلم أن الأرض على
هيئة الكرة والهواء يحيط بها من كل جهة والأفلاك تحيط بالجميع إحاطة استدارة وهي
طبقات بعضها يحيط ببعض فمنها سبعة تختص بالنيرين والكواكب الخمسة التي تسمى
المتحيرة والسيارة.
فالنيران هما
الشمس والقمر.
والخمسة هي زحل
والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.
ولكل واحد منها
فلك يختص به من هذه السبعة.
ففلك زحل أعلاها.
وفلك القمر أقربها
من الأرض وأدناها.
وفلك الشمس في
وسطها.
وتحت فلك زحل فيما
بينه وبين فلك الشمس فلكان فلك المشتري ثم فلك المريخ.
وفوق القمر فيما
بينه وبين الشمس فلكان فلك عطارد ثم فلك الزهرة.
ويحيط بهذه
الأفلاك السبعة فلك الكواكب الثابتة وهي جميع ما يرى في السماء غير ما ذكرنا.
ثم الفلك المحيط
الأعظم المحرك جميع هذه الأفلاك.
ثم السماوات السبع
يحيط بالأفلاك وهي مساكن الأملاك ومن رفعه الله تعالى إلى سمائه من أنبيائه وحججه
عليهم السلام وللجميع نهاية والكل على شكل الكرة ومركزها الأرض ومركز الأرض نقطة
في وسطها جميع أجزاء الأرض معتمدة عليها وهي مركز العالم كلها في الحقيقة.
ومن نهاية الأجسام
الذي هو محيط الكرة إلى مركز الأرض متساو من كل جهة.
وقد قيل إن العامر
من الأرض هو ربع الكرة والناس مستقرون على هذا الربع من كل جهة وإن كان بعضهم
منخفضا عن بعض بالإضافة فكل منهم الأرض تحته والسماء فوقه وهو يرى أرضه التي هو
عليها هي المستقيمة في الاعتدال دون غيرها.
وكل ما فارق
السماء من أي جهة كان منها وذهب إلى الأرض فهو نازل إليها وكل ما فارق الأرض من أي
جهة كان ذهب إلى السماء فهو صاعد إليها ولذلك لا تتحرك الأرض إلى إحدى الجهات
لأنها كيف ما تحركت
تكون صاعدة إلى
السماء والأرض كالخردلة أو أصغر بالإضافة إلى عظم سعة الفلك.
والأفلاك لها
حركات مختلفة لكن محركها مع ذلك الفلك المحيط بها حركة واحدة يدور بها حول المركز
في اليوم والليلة دورة واحدة.
والإنسان في أي
موضع كان من الأرض يرى نصف الفلك وقيل إنه يرى أكثر من النصف وهذا يبين أنه لا
تأثير لقدر الأرض.
وإذا طلعت الشمس
بضيائها على جهة من الأرض كان ذلك نهارا لتلك الجهة وإذا غربت من جهة من الأرض.
كان الليل في تلك
الجهة وهو ظل الأرض. وليس النهار عاما ولا الليل أيضا عاما وهي تطلع على قوم قبل
قوم.
وتغرب عن قوم قبل
قوم والجهة التي تطلع الشمس والكواكب منها هي المشرق وريحها يقال له الصبا والجهة
التي تغرب منها هي المغرب ويقال لريحها الدبور
.
وإذا توجه القائم
إلى جهة المشرق كانت الجهة التي عن يمينه الجنوب وريحها تسمى باسمها والجهة التي
عن شماله الشمال تسمى باسمها.
وكل ريح أتت بين
جهتين فهي نكباء وتسمى أيضا النعامى
.
والمسكون من الأرض
هو المائل إلى جهة الشمال والربع الذي إلى جهة الجنوب غير مسكون ويقال إنه ليس به
حيوان ومنه يأتي النيل ولذلك لا يصل أحد إلى مبتدئه.
وبقية الأرض قد
غطاها الماء المالح وهو البحر الأعظم الذي أطرافه يقال لها بحر المحيط ومن هذا
البحر خليجان داخلان إلى الربع العامر
يتقاربان فنهاية
أحدهما الفرماءان ونهاية الآخر القلزم وبينهما من المسافة قدر.
فصل من الكلام في
أن الله تعالى لا يجوز أن يكون له مكان
اعلم أيدك الله أن
المكان عندنا هو ما أحاط بالمتمكن فلما كان الله تعالى لا يجوز عليه ذلك لأنه
يقتضي حصره وتناهيه علم أنه لا يجوز أن يكون في مكان.
ومن خالفنا في حد
المكان قال إنه ما تمكن عليه وتصرف فيه وهذا لا يجوز أيضا على الله تعالى لأن
المتمكن معتمد ومماس أيضا لمكانه والاعتماد والمماسة من صفات المحدثين والله تعالى
قديم فعلم أنه لا يكون في مكان.
وذو المكان أيضا
قد حصل له حيز فصار في جهة دون جهة ولا يكون كذلك إلا جسم أو بعض جسم وقد ثبت أن
الله تعالى ليس بجسم ولا بعض جسم فعلم بطلان المكان.
ثم إنه لو كان له
مكان لم يخل مكانه من حالين إما أن يكون قديما أو محدثا.
ولا يصح أن يكون
قديما لمشاركته لله تعالى في القدم وقد ثبت أنه لا قديم إلا هو وحده.
ولو كان المكان
محدثا لكان الله سبحانه قبل إحداثه لا يخلو من قسمين إما أن يكون محتاجا إلى
المكان أو مستغنيا عنه.
ولا يجوز أن يكون
لم يزل محتاجا إليه لما في ذلك من صفة النقص الذي لا يكون للقديم.
وإن كان غنيا عنه
قبل وجوده فلا يجوز أن يحتاج إليه بعد ذلك لأن حاجته تخرجه عن قدمه وتشابه بينه
وبين خلقه فوجب نفي المكان عنه.
فإن قيل أليس من
قولكم إن الله تعالى بكل مكان؟
قلنا بلى ومعنى
ذلك أنه عالم بكل مكان وبما فيه حافظ له وهذا معروف في اللغة يقول القائل لصاحبه
إني معك حيث كنت وإني لا أغيب عنك ويريد لا أجهل ما تعمله ولا يخفى علي شيء منه
ويقال إن الرجل في صلاته وفي بناء داره وليس المراد أنه متمكن أو حال فيها وإنما
يريدون أنه يفعلها ويدبرها.
فإن قيل أوليس في
القرآن أن له عرشا وكرسيا؟
قلنا هو كذلك
والعرش المذكور في القرآن على وجهين أحدهما قوله سبحانه (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) .
وقد قال أهل العلم
في ذلك إن العرش هنا هو الملك واستواؤه عليه هو استيلاؤه عليه بالقدرة والسلطان.
واستشهدوا في ذلك
بشواهد منها قول الشاعر في ذكر العرش وأنه الملك
إذا ما بنو
مروان ثلث عروشهم
|
|
وأودوا كما أودت
أياد وحمير
|
ومنها قول الآخر
في ذكر الاستواء وأنه الاستيلاء
إذا ما علونا
واستوينا عليهم
|
|
تركناهم مرعى
لنسر وكاسر
|
يريد بذلك
الاستيلاء والقدرة عليهم والتمكن لهم بالقهر لهم.
والآخر تفسير قوله
سبحانه :
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الحاقة : ١٧.
فقد قال العلماء
في ذلك إن هذا العرش بنية خلقها الله تعالى في سمائه وأمر الملائكة بحملها لا
ليكون عليها تعالى الله عن ذلك ولكن لما رآه من الصلاح في تعبدهم بحملها وتعظيمها
كما أنه سبحانه تعبد بني آدم بتعظيم الكعبة في الطواف حولها وقال إنها بيته لا
ليسكنها تعالى الله عن ذلك.
فأما الكرسي فالذي
نذهب إليه فيه أنه العلم روي ذلك عن العالم الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهم
السلام قال
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)
يعني علمه .
وقد روي أيضا في
التفسير من طريق العامة عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم.
ومعنى الكلام دال
عليه وأول الآية تقتضيه لأن الله تعالى أخبر عن علمه فقال (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) البقرة : ٢٥٥.
فوصل ذكر الكرسي
بذكر العلم على طريق الوصف له والإبانة عنه فكان كقوله في موضع آخر (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً) .
فإن قيل ما معنى
رفعكم أيديكم نحو السماء في الدعاء وما معنى قوله سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فاطر : ١٠.
قلنا الجواب عن
ذلك أنا إنما رفعنا أيدينا نسترزق من السماء لقوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ) الذاريات : ٢٢.
وإنما جاز أن يقال
إن الأعمال تصعد إلى الله تعالى لأن الملائكة الكرام حفظة الأعمال مسكنهم السماء.
وأيضا لأن السماء
أشرف في الخلقة من الأرض فلذلك تعرض الأعمال فيها على الله سبحانه وبالتوجه إليها
دعي الله تعالى وكل ذلك اتساع في الكلام وليس فيه ما يوجب أن يكون الله سبحانه على
الحقيقة في السماء.
ونحن نرى المسلمين
يقولون للحجاج هؤلاء زوار الله وإنما هن زوار بيت الله.
فإن قيل فكيف هو؟
فالجواب أن كيف
استفهام عن حال والله لا تناله الأحوال والذي ساق إليه الدليل هو العلم بوجوده
سبحانه وأنه لا شبيه له.
جاء في الحديث أن
أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سبح الله تعالى ومجده :
سبحانه من إذا
تناهت العقول في وصفه كانت حائرة عن درك السبيل إليه وتبارك من إذا غرقت الفطن في
تكييفه لم يكن لها طريق إليه غير الدلالة عليه.
فصل
في ذكر العلم وأهله ووصف شرفه وفضله
والحث عليه والأدب فيه.
قال الله عزوجل
(إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فاطر : ٢٨.
وقال سبحانه :
(هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ)الزمر : ٩.
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وقال العلم علمان
علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم في اللسان فذلك حجة على العباد.
وقال العلم علمان
علم الأديان وعلم الأبدان.
وقال :
أربع تلزم كل ذي
حجى من أمتي.
قيل وما هن يا
رسول الله؟
فقال استماع العلم
وحفظه والعمل به ونشره.
وقال :
العلم خزائن
ومفتاحها السؤال فاسألوا يرحمكم الله فإنه يؤجر فيه أربعة السائل والمجيب والمستمع
والمحب لهم.
وقال من يرد الله
به خيرا يفقهه في الدين.
وقال إن الله لا
يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق
عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
.
وقال من أراد في
العلم رشدا فلم يزدد في الدنيا زهدا لم يزدد من الله إلا بعدا.
وقال أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام :
تعلموا العلم فإن
تعليمه حسنة وطلبه عبادة والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله
قربة لأنه علم الحلال والحرام وسبل منازل الجنة والأنيس في الوحشة والصاحب في
الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزينة
عند الأخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم للخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى
بفعالهم وينتهى إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل
رطب ويابس لأن العلم حياة القلوب ومصابيح الأبصار من الظلم وقوة الأبدان من الضعف
ويبلغ بالعباد منازل الأخيار والدرجات العلى وبه توصل الأرحام ويعرف الحلال من
الحرام وهو إمام العمل والعمل تابع له يلهمه الله أنفس السعداء ويحرمه الأشقياء.
وقال :
الكلمة من الحكمة
يسمع بها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة.
وقال :
تعلموا العلم
وتعلموا للعلم السكينة والحلم ولا تكونوا جبابرة العلماء.
وقال :
شكر العالم على
علمه أن يبذله لمن يستحقه.
وقال :
لا راحة في العيش
إلا لعالم ناطق أو مستمع واع.
وقال :
اغد عالما أو
متعلما ولا تكن الثالث فتعطب
وقال :
إن الملائكة لتضع
أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع.
وقال :
لو أن حملة العلم
حملوه بحقه لأحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ولكنهم حملوه لطلب الدنيا
فمقتهم الله وهانوا على الناس.
وقال :
العلوم أربعة
الفقه للأديان والطب للأبدان والنحو للسان والنجوم لمعرفة الأزمان.
وقال الباقر عليه
السلام :
عالم ينتفع بعلمه
أفضل من سبعين ألف عابد.
وقال :
من أفتى الناس
بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه.
وقال الصادق عليهم
السلام :
تفقهوا في دين
الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم
القيامة ولم يزك له عملا.
وقال :
العامل على غير
بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا.
وقيل لبعض الحكماء
أيحسن بالشيخ التعلم؟
فقال إن كان
الجهالة تقبح منه فإن التعلم يحسن منه.
وقيل له متى يحسن
له التعلم؟
فقال ما حسنت به
الحياة.
وقيل لبزرجمهر
العلم أفضل أم المال؟
فقال العلم قيل له
فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء ولا نكاد نرى الأغنياء على أبواب
العلماء؟
فقال ذلك لمعرفة
العلماء منفعة المال وجهل الأغنياء بفضل العلم.
لبعضهم :
العلم زين
وتشريف لصاحبه
|
|
فاطلب هديت فنون
العلم والأدبا
|
لا خير فيمن له
أصل بلا أدب
|
|
حتى يكون على ما
زانه حربا
|
كم من حسيب أخي
عي وطمطمة
|
|
فدم لدى القوم
معروف إذا انتسبا
|
وخامل مقرف
الآباء ذي أدب
|
|
نال المعالي به
والمال والنشبا
|
المقرف الذي تكون
أمه كريمة وأبوه غير كريم.
يا طالب العلم
نعم الشيء تطلبه
|
|
لا تعدلن به
ورقا ولا ذهبا
|
فالعلم ذكر وكنز
لا يعادله
|
|
نعم القرين إذا
ما عاقلا صحبا
|
قال الزجاجي
:
الهجين الذي يكون
أبوه كريما وأمه غير كريمة
والقلنفس الذي
يكون أبوه وأمه غير كريمين.
وقد تقدم ذكر
المقرف.
وحدثوا عن ابن
جريح أنه قال :
خرجت في السحر
فإذا ورقة تضربها الرياح فأخذتها فلما أضاء الصبح نظرت إليها فإذا فيها.
كن معسرا إن شئت
أو موسرا
|
|
لا بد في الدنيا
من الهم
|
وكلما زادك من
نعمة
|
|
زاد الذي زادك
في الغم
|
إني رأيت الناس
في دهرنا
|
|
لا يطلبون العلم
للعلم
|
إلا مباراة
لأصحابه
|
|
وعدة للظلم
والغشم
|
قال ابن جريح فو
الله لقد منعتني هذه الأبيات من أشياء كثيرة ـ.
مسألة
إن سأل سائل فقال
ما وجه التكرار في سورة الكافرون وإعادة النفي فيها في جملة بعد جملة وقد كان يغني
ذلك مرة واحدة؟؟
الجواب
قد أجاب الناس عن
هذه المسألة بعدة أجوبة
ونحن نورد منها
أحسنها وأكثرها فائدة.
وأحسنها ما تضمن
المعاني المختلفة حتى يكون المستفاد من النفي في الجملة الأولى غير المستفاد من
النفي في الجملة الثانية.
وبهذا يبطل
التكرار ويبقى للسائل بقية في السؤال.
فأعرب ما يجاب به
فيها أن لفظة أعبد تصلح في الكلام لشيئين مختلفين :
أحدهما أن يكون
بمعنى أذل وأخضع وأخشع وهذا من العبادة وهو مستعمل معهود لا يفتقر فيه إلى دليل.
وثانيهما أن يكون
أعبد بمعنى أجحد وهو من العبود الذي هو الجحود وأهل اللغة يعرفون ذلك يقول القائل
عبدني فلان حقي يريد جحدني حقي قال الشاعر :
فلو سألت قريشا
من يؤممهم
|
|
ما ميلوا ذاك عن
قومي ولا عبدوا
|
يعني ولا جحدوا.
وعلى هذا المعنى
ما روي عن أحد الأئمة صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى :
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) الزخرف : ٨١.
وأن معناه فأنا
أول الجاحدين وذلك أن الدليل قد اتضح على أن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا
والمحدث لا يكون إلها.
فقول الله عزوجل في الجملة الأولى (لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) إنما معناه لا أذل ولا أخضع لأصنامكم التي تفعلون هذا لها
ولا أنتم فاعلوه أيضا لإلهي الذي أنا فاعله له.
وقوله جل اسمه في
الجملة الثانية (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) إنما معناه ولا أنا جاحد لله تعالى الذي جحدتموه ولا أنتم
جاحدون للأصنام التي أنا جاحدها.
فقد تضمنت
الجملتان فائدتين مختلفتين وبان انتظام الكلام بغير تكرار.
جواب
آخر :
وهو أن يكون
المراد بلفظة أعبد في الجملة الأولى الزمان الحاضر فكأنه قال لا أعبد الآن ما
تعبدون ولا أنتم عابدون الآن ما أعبد.
ويكون المراد بها
في الجملة الثانية الزمان المستقبل فكأنه قال ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم
ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد.
فلفظة أعبد على
هذا الجواب وإن كانت في الجملتين بمعنى واحد وهو العبادة فقد اختلفت بما يراد بها
من الزمان المختلف ولا شك في أن لفظة أفعل تصلح للزمانين الحاضر والمستقبل وفي
هذين الجوابين غنى وكفاية والحمد لله.
واعلم أنه يجب أن
يكون السؤال على هذا مختصا بخطاب من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن.
وقد ذكر أنها نزلت
في أبي جهل والمستهزءين وهم العاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن المطلب
والأسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس ولم يؤمن منهم أحد.
فإن قال فما معنى
قوله في السورة (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) وظاهر هذا الكلام يقتضي إباحتهم المقام على أديانهم؟؟
قلنا إن ظاهر
الكلام وإن كان ظاهر الإباحة فإن المراد به الوعيد والمبالغة في الزجر والتهديد
كما قال تعالى (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) وقال (أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).
وقد قيل إن المعنى
فيه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فحذف الجزاء من اللفظ لدلالة الكلام عليه.
وقيل إن الجزاء
نفسه يسمى دينا قال الشاعر :
إذا ما لقونا
لقيناهم
|
|
ودناهم مثلما
يقرضونا
|
أراد جزيناهم
فيكون المعنى في قوله (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاؤكم ولي جزائي.
مسألة
فإن قال السائل
فما وجه التكرار في سورة الرحمن وإعادته مع كل آية (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
الجواب
:
قلنا إنما حسن هذا
التكرار للتقرير بالنعم المختلفة وتعديدها نعمة بعد نعمة أنعم بها قرر عليها ووبخ
على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك المال ألم أحسن
إليك بأن أمنتك من المكاره ألم أحسن إليك بأن فعلت كذا وكذا فيحسن منه التكرار
لاختلاف ما قرر به وهذا كثير في الكلام مستعمل بين الناس.
وهذا الجواب عن
وجه التكرار في سورة المرسلات في قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ).
فإن قيل إذا كان
الذي حسن التكرار في سورة الرحمن ما عدده من الآلاء فقد عدد في جملة ذلك ما ليس
بنعمة وهو قوله (يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ
مِنْ
نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) وقوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) فكيف يحسن أن يقول بعد هذا (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟؟
قلنا الوجه في ذلك
أن فعل العقاب وإن لم يكن نعمة فذكره ووصفه والإنذار به من أكبر النعم لأن في ذلك
زجرا عما يستحق به العقاب وبعثا على ما يستوجب به الثواب.
وإنما أشار تعالى
بقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بعد ذكر جهنم والعذاب فيها إلى إنعامه بذكر وصفها والإنذار
بها والتخويف منها ولا شك في أن هذا في النعم التي يجب الاعتراف بها والشكر عليها
...
كتاب البرهان على
صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان
ومما عملته كتاب
البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام وبيان
جواز تطاول الأعمار
(بسم الله الرحمن
الرحيم)
الحمد لله على ما
هدى وصلاته على من اصطفى سيدنا محمد ورسوله المجتبى وآله أئمة الهدى.
ذكرت يا أخي أيدك
الله أنك رأيت جماعة من المخالفين يعتمدون في إنكار وجود صاحب الزمان صلى الله
عليه وسلم على ما يقتضيه تاريخ مولده من تطاول عمره على القدر المعهود ويقولون إذا
كان مولده عندكم في سنة خمس وخمسين ومائتين فله إلى سنتنا هذه وهي سنة سبع وعشرين
وأربعمائة ـ مائتان واثنتان وسبعون سنة.
ولسنا نرى الأعمار
تتناهى إلى أكثر من مائة وعشرين سنة بل لا نرى أحدا يلحق عمره هذا القدر اليوم.
ويزعمون أن هذه
الزيادة على المائة والعشرين دلالة على بطلان ما نذهب إليه.
وسألت في إيراد
كلام عليهم يوهي عمدتهم ويبطل شبهتهم ويكون أصلا في يدك يتمسك به المستند إليك.
وأنا مجيبك إلى ما
سألت وأبلغك منها ما طلبت بعون الله وحسن توفيقه اعلم أولا أنه إذا وجبت الإمامة
ووضحت الأدلة على اختصاصها بأئمتنا الاثني عشر عليهم السلام دون جميع الأمة فلا
منصرف عن القول بطول عمر إمامنا وصاحب زماننا صلى الله عليه وسلم لأن الزمان لا
يخلو من إمام وقد مضى آباء صاحب الزمان بلا خلاف ولم يبق من يستحق الإمامة سواه.
فإن لم يكن عمره
ممتدا من وقت أبيه إلى أن يظهره الله سبحانه حصل الزمان خاليا من إمام وهذا دليل
مبني على ما قدمناه.
وبعد ذلك فإنه لا
يصلح أن يكلمك في طول عمره من لا يقر بشريعته.
فأما من أقر بها
وأنكر تراخي الأعمار وطولها فإن القرآن يخصمه بما تضمنه من الخبر عن طول عمر نوح
عليهم السلام قال الله تعالى
(فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) العنكبوت : ١٤
ولا طريق إلى
الانصراف عن ظاهر القرآن إلا ببرهان.
وقد أجمع المسلمون
على بقاء الخضر عليهم السلام من قبل زمان موسى عليهم السلام إلى الآن وأن حياته
متصلة إلى آخر الزمان وما أجمع عليه المسلمون فلا سبيل إلى دفعه بحال من الأحوال.
فإن قال الخصم
هذان نبيان ويجوز أن يكون طول أعمارهما معجزا لهما وكرامة يميزان بها عن الأنام
ولا يصح أن يكون هذا العجز والإكرام إلا للأنبياء عليهم السلام.
فقل له يفسد هذا
عليك بما استقر عليه الاتفاق من بقاء إبليس اللعين من عهد آدم عليهم السلام وقبل
ذاك إلى الآن وأنه سيبقى إلى الوقت المعلوم كما نطق به القرآن وليس ذلك معجزا له
ولا على سبيل الإكرام.
وإذا اشترك الولي
والعدو في طول العمر علم أن السبب في ذلك غير ما ذكرت وأنه لمصلحة لا يعلمها إلا
الله تعالى دون العباد.
فإن أنكر الخصم
إبليس وبقاءه خرج عن ظاهر الشريعة ودفع إجماع الأمة وإن تأول ذلك طولب على صحة
تأويله بالحجة.
ولو سلمت له طول
العمر معجزا للمعمر وإكراما ولم يذكر له إبليس وطول عمره على ممر الأزمان كان لك
أن تقول إن حكم الإمام عندنا كحكم النبي في الاحتجاج وجواز ظهور العجز والإكرام
بما يتميز به عن الأنام فليس بمنكر أن يطيل الله تعالى عمره على سبيل المعجز
والإكرام.
واعلم أيدك الله
أن المخالفين لك في جواز امتداد الأعمار ممن يقر بالإسلام لا يكلمونك إلا بكلام
مستعاد.
فمنهم من ينطق
بلسان الفلاسفة فيقول إن طول العمر من المستحيل في العقول الذي لم يثبت على جوازه
دليل.
ومنهم من ينطق
بلسان المنجمين فيقول إن الكواكب لا تعطي أحدا من العمر أكثر من مائة وعشرين سنة
ولهم هذيان طويل.
ومنهم من ينطق
بلسان الأطباء وأصحاب الطبائع فيقول إن العمر الطبيعي هو مائة وعشرون سنة فإذا
انتهى الحي إليها فقد بلغ غاية ما يمكن فيه صحة الطباع وسلامتها وليس بعد بلوغ
غاية السلامة إلا ضدها.
وليس على يد أحد
منهم إلا الدعوى ولا يستند إلا إلى العصبية والهوى فإذا عضهم الحجاج رجعوا أجمعين
إلى الشاهد المعتاد فقالوا إنا لم نر أحدا تجاوز في العمر إلى هذا القدر ولا طريق
لنا إلى إثبات ما لم نر.
وهذا الذي جرت به
العادة والعادة أصح دلالة.
وجميعهم خارجون عن
حكم الملة مخالفون لما اتفقت عليه الأمة ولما سلف
أيضا من الشرائع
المتقدمة لأن أهل الملل كلها متفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها وقد تضمنت
التوراة من الإخبار بذلك ما ليس بينهم فيه منازع.
وفيها أن آدم
عليهم السلام عاش تسعمائة وثلاثين سنة.
وعاش شيث تسعمائة
واثنتي عشرة سنة.
وعاش أنوش تسعمائة
وخمسا وستين سنة.
وعاش قينان
تسعمائة سنة وعشر سنين.
وعاش مهلائيل ثمانمائة
وخمسا وتسعين سنة.
وعاش برد تسعمائة
واثنتين وستين سنة.
وعاش أخنوخ وهو
إدريس تسعمائة وخمسا وستين سنة.
وعاش متوشلح
تسعمائة وتسعا وستين سنة.
وعاش ملك سبعمائة
وسبعا وستين سنة.
وعاش نوح تسعمائة
وخمسين سنة.
وعاش سام ستمائة
سنة.
وعاش أرفخشاد
أربعمائة وثماني وتسعين سنة.
وعاش شالخ
أربعمائة وثلاثا وتسعين سنة.
وعاش غابر
ثمانمائة وسبعين سنة.
وعاش فالخ مائتين
وتسعا وتسعين سنة.
وعاش أرغو مائتين
وستين سنة.
وعاش باحور مائة
وستا وأربعين سنة.
وعاش تارخ مائتين
وثمانين سنة.
وعاش إبراهيم مائة
وخمسا وسبعين سنة.
وعاش إسماعيل مائة
وسبعا وثلاثين سنة.
وعاش إسحاق مائة
وثمانين سنة.
فهذا ما تضمنته
التوراة مما ليس بين اليهود والنصارى اختلاف.
وقد تضمنت نظيره
شريعة الإسلام ولم نجد أحدا من علماء المسلمين يخالفه
أو يعتقد فيه
البطلان بل أجمعوا من جواز طول الأعمار على ما ذكرناه.
والمستدل يعلم
جواز ذلك في العقل إذا أنعم الاستدلال والأخبار قد تناصرت في قوم عمروا في قريب
الزمان سوف أذكر جماعة منهم ليتأكد البيان وليس المنازعة لنا بعد ذلك من ذي بصيرة
وعرفان.
فإن قال قائل إن
الأعمار قد كانت يتطاول في سالف الدهر ثم تناقضت عصرا بعد عصر حتى انتهت إلى ما
نراه مما لا يجوز اليوم سواه.
قيل له إن العاقل
يعلم أن الزمان لا تأثير له في الأعمار وأن زيادتها ونقصانها من فعل قادر مختار
يغيرها في الأوقات بحسب مما يراه من الصلاح.
ولسنا ننكر أن
الله سبحانه قد أجرى اليوم بأقدار متقاربة في الأعمار يخالف ما كان في متقدم
الزمان غير أن هذا لا يحيل طول عمر بعض الناس إذا كان ذلك ممكنا من القادر المعطي
للأعمار.
وقد ذكرنا أن
الأخبار قد أتت بذكر المعمرين كانوا في قريب الزمان فلا طريق إلى دفع ما ذكرناه مع
هذا الإيضاح.
وأما الذين
استعاروا كلام الفلاسفة من المخالفين لنا في هذه المسألة وقولهم في العمر من
المستحيل في العقول فإنهم لم يعولوا في العلم بذلك على ضرورة يشاركهم العقلاء فيها
وإذا عدموا الضرورة فلا بد من حجة عقلية يطالبون بإيرادها ولا حجة معهم ينطقون بها
ولا عمدة لهم أكثر من الهوى والرجوع إلى ما يشاهد ويرى والهوى مضلة والإنكار لما
لم يشاهد مزلة وليس من موحد ولا ملحد إلا وهو يثبت ما لا يرى ويقر بما لم يشاهد.
فالموحد يقر بالله
والملائكة وطول أعمارها ولم نر شيئا منها ..
.
والملحدة قد تقر
بوجود جواهر بسيطة لا تجوز عليها الرؤية وتدعي أيضا وجود عقل .. لم ترهما ولا رأت ..
فضلا عنها.
__________________
وكل فرقة تدعي
وجود أشياء لم تر فمن زعم أنه لا يثبت إلا ما شاهد ورأى فقد أفسد على نفسه من
مذهبه.
وهؤلاء في العمر
ولا يدرون ما هو والعمر هو اتصال كون الحي المحدود حيا فهذا الاتصال إنما يكون
بدوام الحياة والحياة فعل الله تعالى فليس يستحيل منه إدامتها وكل ما جاز أن يفعله
الله تعالى من طول العمر فإنه يجوز أن يفعل مثله في دوام الصحة والقوة وعدم الضعف
والهرم.
وأما الذين
استعاروا كلام المنجمين من المنازعين لنا في جواز طول العمر فإنهم يعتمدون الظنون
دون اليقين.
والعقلاء يعلمون
أن أصول المنجمين في الأحكام لا يثبت بالنظر والدليل وبينهم من التحارب فيها
والاختلاف ما لا يخفى على المتأمل.
إني وجدت في كتاب
أحد علمائهم وهو الكتاب المعروف بابا لابن هبلى
في حكاية ذكرها عن معلمهم المقدم وأستاذهم المفضل الذي يعولون عليه في
الأحكام ويستندون إلى كلامه وما يدعيه وهو المعروف بما شاء الله
أنا موردها ففيها أكبر حجة عليهم في هذه المسألة التي خالفونا فيها.
قال ما شاء الله :
الباب الأعظم من
الهيلاج الذي يدل على العمر الكثير فإنه يكون المولود
في مثلثة إلى
مثلثة وطالعه ثبوت أحد الكوكبين العلويين زحل والمشتري وصاحب الطالع الكذخذاه فإن
كان المولود ليليا والهيلاج القمر فإن كان فوق الشمس في برج أنثى وإن كان نهاريا
فيكون الشمس في برج ذكر فإنه حينئذ يدل على بقاء المولود بإذن الله تعالى حتى
يتحول القران عن مثلثة إلى أخرى وذلك مائتان وأربعون سنة.
فأما في الزمن
الأول فإن مثل هذه الدلالة كانت تدل على بقائه حتى يعود القران إلى مكانه وذلك بعد
تسعمائة وخمسين سنة والله أعلم.
فما يقولون في
كلام عالمهم ما شاء الله وقد أوضح بتخصيصه في الدلالة الزمن الأول بتسعمائة وخمسين
سنة أن مراده بالمائتين والأربعين من هذا الزمان وهو شاهد لنا على هؤلاء المعاندين
المنكرين للحق الواضح البرهان.
وأما الذين
اعتمدوا بكلام الأطباء وأصحاب الطبائع من قولهم إن غاية العمر في الطبيعة مائة
وعشرون سنة فإنهم لم يعتمدوا على حجة ولا تشبثوا بشبهة وليس في أيديهم أكثر من
دعواهم تبين لك بطلان مقالتهم إن الطبائع أعراض والأعراض لا يصح منها في الحقيقة
أفعال وإنما يفعل القادر المختار والطبائع أيضا فعل الله تعالى وهو الذي ارتكبها
في الإنسان فكما جاز منه أن يجعلها كلها صحيحة معتدلة مدة من الزمان فهو قادر على
أن يجعلها كذلك أضعاف تلك المدة فيطول عمر الإنسان وليس يستحيل ذلك في عقل ذي
بصيرة وعرفان.
وأما المعتمدون في
ذلك على العادات فإنه لا حجة في أيديهم من قبل أن العادات قد تختلف باختلاف
الأوقات وباختلاف الناس أيضا والأصقاع.
وقد سمعت من جماعة
من الناس أن بلاد السند من البلاد التي تطول فيها الأعمار.
ورأيت بالرملة في
جمادى الآخرة من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة شريفا من أهل السند يعرف بأبي القاسم
عيسى بن علي العمري من ولد عمر بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام وسألته
عن ذلك فقال لي هو صحيح.
وذكر أن الهرم
عندهم قليل وحدثني أن ببلاد السند عندهم رجلا شريفا عمريا وهو أمير من أمرائهم أنه
عاش مذ أن فارقه مائة وستين سنة.
قال وهذا الشريف
هو العباس بن علي بن عمر بن أحمد بن حمزة بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن
عمر بن علي بن أبي طالب ع.
وليس يشك العاقل
في أن العادات بيد الله تعالى وأنه يصح منه تغييرها على التدريج أو خرقها وقد
تناثرت الأخبار القاطعة للأعذار بحال المعمرين الذين كانوا فيما بعد وقرب من الناس
وروى حديثهم وأشعارهم ومبلغ أعمارهم وأخبارهم أصحاب السير والآثار حتى جرى ذلك
مجرى ما تعلق من الحوادث في الأزمان والوقائع وأخبار البلدان واشترك في العلم
العلماء وحصل المنكر له كالمنكر لما سواه مما تواترت به الأخبار وقبح في مثله
الإنكار ولو اقتصر المستدل في جواز طول العمر على هذا الوجه لأغناه من الإطالة
والإكثار.
أخبار
المعمرين
فمن المعمرين
الخضر عليهم السلام المتصل بقاؤه إلى آخر الزمان ومما جاء من حديثه أن آدم عليهم
السلام لما حضره الموت جمع بنيه فقال :
يا بني إن الله
تبارك وتعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة فإذا هبطتم
فابعثوا بي فادفنوني بأرض الشام فكان جسده معهم فلما بعث الله نوحا عليهم السلام ضم
ذلك الجسد وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت الأرض زمانا فجاء نوح حتى نزل
ببابل وأوصى بنيه الثلاثة وهم سام ويافث وحام أن يذهبوا بجسده إلى المكان الذي
أمرهم أن يدفنوه فيه فقالوا الأرض موحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريق ولكن نكف
حتى يأمن الناس ويكثروا وتأنس البلاد وتجف فقال لهم إن آدم عليهم السلام قد دعا
الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فظل جسد آدم عليهم السلام حتى
كان الخضر هو الذي تولى دفنه وأنجز الله تعالى ما وعده وإلى ما شاء الله أن يحيي.
وهذا حديث قد رواه
مشايخ الدين وثقات المسلمين.
ولقمان بن عاد
الكبير أطول الناس عمرا بعد الخضر عليهم السلام وذلك أنه عاش ألفا وخمسمائة سنة.
ويقال إنه عاش عمر
سبعة أنسر وإنه كان يأخذ فرخ النسر الذكر فيجعله في الجبل فيعيش النسر ما عاش فإذا
مات أخذ آخر فرباه حتى كان آخرها لبد وكان أطولها عمرا فقيل طال الأبد على لبد
ولما رأى هلاكه قال يا لبد أهلكتني نفسك.
وفيه يقول الأعشى
.
لنفسك أن تختار
سبعة أنسر
|
|
إذا ما مضى نسر
خلوت إلى نسر
|
فعمر حتى خال أن
نسوره
|
|
خلود وهل تبقى
النفوس على الدهر
|
وقال لأدناهن إذ
حل ريشه
|
|
هلكت وأهلكت ابن
عاد وما تدري
|
وهو الذي أراده
القائل بقوله :
أخنى عليها الذي
أخنى على لبد.
ومنهم ربيع بن ضبع
بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عبس بن قزارة عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة
وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم وهو الذي يقول :
ألا أبلغ بني
بني ربيع
|
|
وأشرار البنين
لكم فداء
|
بأني قد كبرت
ودق عظمي
|
|
فلا يشغلكم عني
النساء
|
وأن كنائني
لنساء صدق
|
|
ولا ألى
بني ولا أساءوا
|
إذا جاء الشتاء
فادفنوني
|
|
فإن الشيخ يهدمه
الشتاء
|
وأما حين يذهب
كل قر
|
|
فسربال خفيف أو
رداء
|
إذا عاش الفتى
مائتين عاما
|
|
فقد ذهب اللذاذة
والفتاء
|
وهو القائل :
أصبح مني الشباب
قد حسرا
|
|
إن ينأ عني فقد
ثوى عصرا
|
الأبيات
ومنهم المستوغر
بن ربيعة بن كعب عاش ثلاثمائة سنة وثلاثا وثلاثين سنة وهو الذي يقول :
ولقد سئمت من
الحياة وطولها
|
|
وعمرت من بعد
السنين مئينا
|
مائة أتت من
بعدها مائتان لي
|
|
وعمرت وازددت من
بعد الشهور سنينا
|
ومنهم أكثم بن
صيفي الأسدي التميمي وكان حكيما مقدما ولم تكن العرب تفضل عليه أحدا عاش ثلاثمائة
سنة وثلاثين سنة وهو الذي يقول :
وإن امرأ قد عاش
تسعين حجة
|
|
إلى مائة لم
يسأم العيش جاهل
|
خلت مائتان بعد
عشر وفازها
|
|
وذلك من عد
الليالي قلائل
|
وكان ممن أدرك
الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل أن يراه وله أحاديث كثيرة وحكم
مأثورة.
فما روي من حديثه
أنه لما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بابنه وأوصاه بوصية حسنة وكتب
معه كتابا يقول فيه :
باسمك اللهم من
العبد إلى العبد فإنا بلغنا ما بلغك فقد أتانا عنك خبر ما ندري ما أصله فإن كنت
أريت فأرنا وإن كنت علمت فعلمنا وأشركنا في كنزك والسلام.
فكتب إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم :
(بسم الله الرحمن
الرحيم)
من محمد رسول الله
إلى أكثم بن صيفي أحمد الله إليك إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله أقولها
وآمر الناس بها الخلق خلق الله والأمر كله لله خلقهم وأماتهم وهو ينشرهم وإليه
المصير آذنتكم بآداب المرسلين ولتسئلن (عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)
فلما وصل كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه جمع بني تميم ووعظهم وحثهم على السير معه إليه
وعرفهم وجوب ذلك عليهم فلم يجيبوه وعند ذلك سار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده
ولم يتبعه غير بنيه وبني بنيه فمات قبل أن يصل إليه.
وهو أكثم بن صيفي
بن رياح بن الحرث بن مجاشر بن شريف بن جروة بن أسد بن عمرو بن تميم بن مرة.
ومنهم صيفي بن
رياح بن أكثم المذكور عاش مأتي سنة وسبعين سنة ولا ينكر من عقله شيء وزعم بعض
الرواة أنه ذو الحلم الذي قال له المتلمس اليشكري :
لذي الحلم قبل
اليوم ما تقرع العصا
|
|
وما علم الإنسان
إلا ليعلما
|
ومنهم صبيرة بن
سعيد بن سهم بن عمرو عاش مأتي سنة وعشرين سنة ولم يشب قط وأدرك ولم يسلم.
روى أبو حاتم والرياشي
عن العتبي عن أبيه قال مات صبيرة السهمي وله مائتا سنة وعشرون سنة وكان أسود الشعر
صحيح الأسنان فرثاه ابن عمه قيس بن عدي فقال :
من يأمن الحدثان
بعد
|
|
صبيرة السهمي
مائتا
|
سبقت منيته
المشيب
|
|
وكان ميتته
افتلاتا
|
فتزودوا لا
تهلكوا
|
|
من بين أهلكم
خفاتا
|
ومنهم دويد
بن زيد بن نهد القضاعي عاش أربعمائة سنة وستا وخمسين فلما حضره الموت قال :
ألقى علي الدهر
رجلا ويدا
|
|
والدهر ما أصلح
يوما أفسدا
|
يفسد
ما أصلحه اليوم غدا
|
وقال أيضا :
يا رب نهب صالح
حويته
|
|
واليوم يكفي
لدريد بيته
|
ورب قرن بطل
أرديته
|
|
ورب عبل خشن
لديته
|
لو كان للدهر
بلى أبليته
|
|
أو كان قرني
واحدا كفيته
|
ومنهم (دريد بن
الصمة الجشمي عاش دهرا طويلا وسقط حاجباه على عينيه وقيل إنه لم يتجاوز مأتي سنة
وأدرك الإسلام فلم يسلم وشهد يوم حنين مع هوازن وقتل بها وهو القائل لما كبر :
فإن يك رأسي
كالنعمامة نسله
|
|
يطيف بي الولدان
أحدث ..
|
رهينة قعر البيت
كل عشية
|
|
كأني أرقى أو
أصوب في المهد
|
فمن بعد فضل من
شباب وقوة
|
|
وشعر أثيت حالك
اللون مسود
|
ومنهم عمرو بن
حممة الدوسي عاش أربعمائة سنة وهو الذي يقول :
كبرت فطال العمر
حتى كأني
|
|
سليم أفاع ليله
غير مودع
|
فما الموت أفناني
ولكن تتابعت
|
|
علي سنون من
مصيف ومربع
|
ثلاث مئين قد
مررن كواملا
|
|
وها أنا هذا
أرتجي مر أربع
|
فأصبحت مثل
النسر حل جناحه
|
|
إذا هم تطيارا
يقال له قع
|
قال أبو روق حدثنا
الرياشي عن عمرو بن بكير عن الهيثم بن عدي عن مجالد بن الشعبي قال كنا عند ابن
عباس في قبة زمزم وهو يفتي الناس فقام إليه رجل فقال له أفتيت أهل الفتوى فأفت أهل
الشعر قال قل قال ما معنى قول الشاعر :
لذي الحلم قبل
اليوم ما يقرع العصا
|
|
وما علم الإنسان
إلا ليعلما
|
فقال ذاك عمرو بن
حممة الدوسي قضى على العرب ثلاثمائة سنة فلما ألزموه وقد رأى السادس أو السابع من
ولد ولده قال إن فؤادي بضعة مني فربما تغير علي اليوم والليلة مرارا وأمثل ما أكون
فيهما في صدر النهار
فإذا رأيتني قد
تغيرت فأقرع العصا فكان إذا رأى منه تغيرا أقرع العصا فيراجعه فهمه فقال المتلمس
:
لذي الحلم قبل
اليوم ما تقرع العصا
|
|
وما علم الإنسان
إلا ليعلما
|
ومنهم زهير بن
جناب بن عبد الله بن كنانة بن عوف القضاعي
عاش أربعمائة سنة وعشرين سنة وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه وكان يقال إنه كانت له عشر
خصال لم يجتمعن في غيره عن أهل زمانه كان سيد قومه وخطيبهم وشاعرهم وحكيمهم
ووافدهم إلى الملوك وطبيبهم والطب في ذلك الوقت شرف وكاهن قومه وفارسهم وله البيت
فيهم وله العدد منهم. ومنهم الحرث بن مضاض الجرهمي .. إسماعيل عليهم السلام من ولد
جرهم الأكبر وجرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليهم السلام
وهو القائل :
كأن لم يكن بين
الحجون إلى الصفا
|
|
أنيس ولم يسمر
بمكة سامر
|
بلى نحن كنا
أهلها فأبادنا
|
|
صروف الليالي
والجدود العواثر
|
وهي قصيدة طويلة
قد رواها الناس.
ومنهم عامر بن
الظرب العدواني عاش مأتي سنة وكان من حكماء العرب وفيه يقول ذو الإصبع
العدواني :
ومنا حكم يقضي
|
|
فلا ينقض ما
يقضي
|
ومنهم الحرث بن
كعب المذحجي عاش مائة وستين سنة وله وصية حسنة لقومه وكان على شريعة المسيح عليهم
السلام وهو القائل :
أكلت شبابي
فأمضيته
|
|
وأمضيت من بعد
دهر دهورا
|
ثلاثة أهلين
جاورتهم
|
|
فبادوا وأصبحت
شيخا كبيرا
|
قليل الطعام عسير
القيام
|
|
قد ترك الدهر
خطوي قصيرا
|
أبيت وأرعى نجوم
السماء
|
|
أقلب أمري بطونا
ظهورا
|
ومنهم الأفوه بن
مالك الأودي عاش مائتين وثلاثين سنة وله وصية لقومه وقصيدته المشهورة
عنه المعروفة
:
فينا معاشر لن
يبنوا لقومهم
|
|
وإن بنى قومهم
ما أفسدوا عادوا
|
لا يرشدون ولن
يرعوا لمرشدهم
|
|
فالجهل منهم معا
والغي ميعاد
|
أضحوا كفيل بن
عتر في عشيرته
|
|
إذ أهلكت بالذي
باءت به عاد
|
وبعده كقدار حين
تابعه
|
|
على الغواية
أقوام فقد بادوا
|
والبيت لا يبتنى
إلا له عمد
|
|
ولا عماد إذا لم
ترس أوتاد
|
وإن تجمع أوتاد
وأعمدة
|
|
وساكن بلغوا
الأمر الذي كادوا
|
لا يصلح الناس
فوضى لا سراة لهم
|
|
ولا سراة إذا
جهالهم سادوا
|
إذا تولى سراة
القوم أمرهم
|
|
نما على ذاك أمر
القوم فازدادوا
|
يلقى الأمور
بأهل الرأي ما صلحت
|
|
فإن تولت
فبالأشرار تنقاد
|
إمارة الغي أن
نلقى الجميع لدى
|
|
الإبرام ..
|
كيف الرشاد إذا
ما كنت في نفر
|
|
لهم عن الرشد
أغلال وأقياد
|
أعطوا غواتهم
جهلا مقادهم
|
|
فكلهم في حبال
الغي منقاد
|
حان الرحيل إلى
قوم وإن بعدوا
|
|
فيهم صلاح
لمرتاد وإرشاد
|
فسوف أجعل بعد
الأرض دونكم
|
|
وإن دنت رحم
منكم وميلاد
|
إن النجاة إذا
ما كنت ذا بصر
|
|
من .. أبعاد
فأبعاد
|
وروي في قوله
أضحوا كفيل بن عتر في عشيرته أنهم كانوا وقد عادوا وأنهم خرجوا إلى البيت الحرام
ليستسقوا لقومهم وكانوا قيل ولقمان ومريد وعارق فهم نزلوا على رجل من جرهم
فاشتغلوا عنده باللهو والطرب عن الاستسقاء فما أفاقوا من لهوهم إلا وقد رفع الله
تعالى على قومهم سحابة سوداء فهبت عليهم الريح العقيم فأهلكتهم وإن قيلا ضربه الصر
فقتله ولحق بهم وإن الثلاثة الباقين مروا فكان أطولهم عمرا لقمان بن عاد صاحب
النسور وقد تقدم ذكره.
ومن المعمرين نضر
بن ذهمان بن سليم بن أشجع.
عاش مائة وتسعين
سنة وعاوده شبابه وسواد شعره وصحة عقله بعد ما مضى وفيه يقول العباس بن مرداس
السلمي :
لنضر بن ذهمان
الهنيدة عاشها
|
|
وتسعين حولا ثم
قوم فانصاتا
|
وعاد سواد الشعر
بعد بياضه
|
|
وراجعه شرخ
الشباب الذي فاتا
|
وراجع عقلا بعد
ما فات عقله
|
|
ولكنه من بعد ذا
كله ماتا
|
أتت .. الخيل من
أرض حمير
|
|
غرابيب دهما
حالكات وكمتاتا
|
ومنهم أمية بن
الأسكر الليثي.
ذكر أنه عاش دهرا
طويلا حتى صرت فمر به غلام كان يرعى غنمه وهو يحثو التراب على رأسه من الكبر فوقف
ينظر إليه فلما أفاق أمية بصر بالغلام قائما ينظر إليه فأنشأ يقول
أصبحت لهوا
لراعي الضأن أعجبه
|
|
ما ذا يريبك مني
راعي الضأن
|
انعق بضأنك في
نجم تحضره
|
|
من الأباطح
واحبسها بحدان
|
انعق بضأنك إني
قد رعيتهم
|
|
بيض الوجوه بني
عم وإخوان
|
أبني أمية ألا
تحضرا كبري
|
|
فإن عيشكما
والموت سيان
|
إذ نركب الفرس
الأحرى ثلاثتنا
|
|
وإذ حديثكما
والعيش مثلان
|
وروي أن عمر بن
الخطاب أخبر بخبر أمية فسأل عن ابنيه فقيل له إن أحدهما بالبصرة والآخر بالكوفة
فأمر بأن يكتب فيهما بأن يردا إلى أبيهما وقال أمية يذكر ابنه كلابا
وكان غائبا عنه.
تركت أباك مرعشة
يداه
|
|
وأمك ما يسيغ
لها شرابا
|
إذا هتفت حمامة
بطن واد
|
|
على إبكائها
ذكرا كلابا
|
نمسح مهده شفقا
عليه
|
|
ونجنبه أباعرنا
الصعابا
|
ومنهم جعثم بن عوف
بن خديجة عاش مائتين وخمسين سنة وقال
حتى منى جعثم في
الأحياء
|
|
ليس بذي أيد ولا
غناء
|
هيهات
ما للموت من دواء
|
ومنهم أوس بن
ربيعة بن كعب بن أمية الأسلمي عاش مائتي سنة وأربع عشرة سنة وهو الذي يقول :
لقد عمرت حتى مل
أهلي
|
|
ثوائي عندهم
وسئمت عمري
|
وحق لمن أتى
مائتان عاما
|
|
عليه وأربع من
بعد عشر
|
يمل من الثواء
وصح يوم
|
|
يغاديه وليل بعد
يسر
|
فأبلى جدتي
وتركت شلوا
|
|
وبحت بما يجن
ضمير صدري
|
ومنهم كعب الردار
بن هلال بن كعب.
عاش ثلاثمائة سنة
حتى مل من حياته فقال في ذلك :
لقد ملني الأدنى
وأبغض رؤيتي
|
|
وأبنائي كذا ألا
يحب كلامي
|
على الراحتين
مرة وعلى العصا
|
|
أكون مليا ما
أقل عظامي
|
فيا ليتني قد
سخت في الأرض قامة
|
|
وليت طعامي كان
فيه حمامي
|
ومنهم أنس بن نواس
بن مالك بن حبيش بن ربيعة
عاش دهرا طويلا
ونبتت أسنانه بعد ما سقطت فقال :
أصبحت من بعد
البزول رباعيا
|
|
وكيف الرباعي
بعد ما شق بازله
|
ويوشك أن يلقى
بنينا وإن بعد
|
|
إلى جذع يثكل
أخاكم ثواكله
|
إذا ما ثغرنا
مرتين تقطعت
|
|
حبال الصبا
وأنبت منها وسائله
|
ومنهم ثعلبة بن
عبد بن كعب بن عبد الأشهل.
عاش مائتي سنة
وثلاثا وثلاثين سنة وهو جد الضحاك وهو القائل لما عمر:
لقد صاحبت
أقواما فأمسوا
|
|
خفاة لا يجاب
لهم دعاء
|
وقوما بعدهم قد
نادموني
|
|
فأمسى موحشا
منهم فناء
|
مضوا قصد السبيل
وخلفوني
|
|
فطال علي بعدهم
التواء
|
فأصبحت الغداة
رهين قبر
|
|
وأخلفني من
الموت الرجاء
|
ومنهم بحر بن
الحارث بن إمرئ القيس الكلبي.
عاش مائة وخمسين
سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم وهو القائل :
من عاش خمسين
عاما قبلها مائة
|
|
من السنين وأضحى
بعد ينتظر
|
وصار في البيت
مثل الحلس مطرحا
|
|
لا يستشار ولا
يعطى ولا يذر
|
مل المعاش ومل
الأقربون له
|
|
طول الحياة وشر
العيشة الكبر
|
ومن المعمرين ذو
جدن الحميري
وكان ملكا يروى
أنه عاش ثلاثمائة سنة وهو القائل :
لكل جنب واقع
مضطجع
|
|
والموت لا ينفع
منه الجزع
|
اليوم تجزون
بأعمالكم
|
|
وكل امرئ يحصد
ما قد زرع
|
لو كان شيئا
مفلتا حتفه
|
|
أخلت منه في
الجبال الصدع
|
له سماء وله
أرضه
|
|
يرفع من شاء ومن
شاء وضع
|
أخبار قس بن ساعدة
الأيادي
ومن المعمرين قس
بن ساعدة الأيادي رحمهالله
عاش دهرا طويلا
فروي أنه عاش ستمائة سنة وروي أقل من ذلك.
وكان من عقلاء
العرب وحكمائهم وهو أول من كتب من فلان بن فلان إلى فلان.
وهو أول من وحد
الله تعالى وآمن به وأقر بعدله وحكمته وأنه خلق العباد وينشرهم بعد الممات.
وهو أول من قال
أما بعد وأول من خطب بعصا وفيه يقول الأعشى قيس بن ثعلبة :
وأحكم من قس
وأجرا من الذي
|
|
بذي الفيل من
خفان أصبح خادرا
|
ويقول الحطيئة :
وأقول من قس
وأمضى إذا مضى
|
|
من الريح إن مس
النفوس نكالها
|
وقس الذي يقول :
هل الغيث معطي
الأمن عند نزوله
|
|
بحال مسيء في
الأمور ومحسن
|
وما قد تولى وهو
قد فات ذاهب
|
|
فهل ينفعني
ليتني ولو أنني
|
وكذلك يقول لبيد :
وأخلف قسا ليتني
ولو أنني
|
|
وأعي على لقمان
حكم التدبر
|
وكان قس أحسن
الناس في زمانه عبادة وأفصحهم خطابة وأبلغهم عظة.
وكان كثيرا ما
يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبشر الناس به وآمن به قبل مبعثه.
وكان النبي صلى
الله عليه وسلم يستعلم أخباره ويستعيد من الناس مواعظه ويترحم عليه ويقول إن قسا
أمه وحده
خبر قس وما قاله بسوق
عكاظ
حدثني القاضي أبو
الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني بمدينة الرملة في سنة عشرة وأربعمائة قال
حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن موسى بن إبراهيم البارسيري الحنظلي قال حدثنا أبو
محمد عبد الله بن محمد من ولد عمر بن الخطاب عن جعفر بن محمد عن محمد بن حسان عن
محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال :
لما قدم وفد عبد
القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيكم يعرف قس بن ساعدة الأيادي قالوا
كلنا نعرفه يا رسول الله.
قال لست أنساه
بعكاظ على جمل أحمر يخطب الناس وهو يقول :
أيها الناس
اجتمعوا فإذا اجتمعتم فاسمعوا فإذا سمعتم فعوا قال وعيتم فقولوا فإذا قلتم فاصدقوا
:
من عاش مات ومن
مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا.
مهاد موضوع وسقف
مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور أقسم قس بالله قسما حقا لا كاذبا فيه ولا آثما إن
كان في الأرض رضا ليكونن سخط إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.
ما لي أرى الناس
يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا.
ثم قال أيكم يروي
شعره فأنشدوه
في الذاهبين
الأولين
|
|
من القرون لنا
بصائر
|
لما رأيت مواردا
|
|
للموت ليس لها
مصادر
|
ورأيت قومي
نحوها
|
|
يسعى الأصاغر
والأكابر
|
لا يرجع الماضي
ولا
|
|
يبقى من الباقين
غابر
|
أيقنت أني لا
محالة
|
|
حيث صار القوم
صائر
|
وروي أن رجلا حدث
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في حديثه.
خرجت في طلب بعير
لي ضل فوجدته في ظل شجرة ينهش من ورقها فدنوت منه فزممته واستويت على كورة ثم
اقتحمت واديا فإذا أنا بعين خرارة وروضة مدهامة وشجرة عادية وإذا أنا بقس قائما
بين قبرين قد اتخذ له بينهما مسجدا قال فلما انفتل من صلاته قلت له ما هذان
القبران فقال هذان قبرا أخوين كانا يعبدان الله عزوجل معي في هذا المكان فأنا أعبد الله بينهما إلى أن ألحق
بهما.
قال ثم التفت إلى
القبرين فجعل يبكي وهو يقول :
خليلي هبا طال
ما قد رقدتما
|
|
أجدكما أم
تقضيان كراكما
|
أرى خللا في
العظم والجلد منكما
|
|
كأن الذي يسقى
العقار سقاكما
|
ألم تعلما أني
بسمعان مفرد
|
|
وما لي بسمعان
حبيب سواكما
|
مقيم على
قبريكما لست بارحا
|
|
طوال الليالي أو
يجيب صداكما
|
فلو جعلت نفس
لنفس فداءها
|
|
لجدت بنفسي أن
أكون فداكما
|
قال فقلت له لم لا
تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم وشرهم فقال ثكلتك أمك أما علمت أن ولد إسماعيل
تركوا دين أبيهم واتبعوا الأضداد وعظموا الأنداد.
قلت وما هذه
الصلاة التي لا تعرفها العرب؟
فقال أصليها لإله
السماء.
فقلت وللسماء إله
غير اللات والعزى فامتعط وامتقع لونه وقال إليك عني يا أخا أياد.
إن للسماء إلها هو
الذي خلقها وبالكواكب زينها وبالقمر المنير أشرقها أظلم ليلها وأضحى نهارها وسوف
تعمهم من هذه الرحمة وأوصى بيده نحو مكة برجل أبلج من ولد لؤي بن غالب يقال له
محمد يدعو إلى كلمة الإخلاص ما أظن أني أدركه ولو أدركت أيامه لصفقت بكفي على كفه
وسعيت معه حيث يسعى.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي قسا يحشر يوم القيامة أمة وحده.
خبر آخر عن قس
يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام من بعده.
أخبرنا القاضي أبو
الحسن علي بن محمد السباط البغدادي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أيوب
البغدادي الجوهري الحافظ قال حدثنا أبو جعفر محمد بن لاحق بن سابق ـ قال حدثنا هشام
بن محمد بن السائب الكلبي قال حدثني أبي عن الشرقي بن القطامي ـ عن تميم بن وهلة
المري قال حدثني الجارود بن المنذر العبدي وكان نصرانيا فأسلم عام الحديبية
وحسن إسلامه وكان قارئا للكتب عالما بتأويلها على وجه الدهر وسالف العصر
بصيرا بالفلسفة والطب ذا رأى أصيل ووجه جميل أنشأ يحدثنا في أيام عمر بن الخطاب
قال :
وفدت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رجال من عبد القيس ذوي أحلام وأسنان وفصاحة وبيان وحجة
وبرهان فلما بصروا به صلى الله عليه وسلم راعهم منظره ومحضره عن بيانهم واعتراهم
الرعداء في أبدانهم.
فقال زعيم القوم
لي دونك من أممت بنا أممه فما نستطيع أن نكلمه.
فاستقدمت دونهم
إليه فوقفت بين يديه فقلت سلام عليك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ثم أنشأت أقول :
يا نبي الهدى
أتتك رجال
|
|
قطعت قرددا وآلا
فآلا
|
جابت البيد
والمهامة حتى
|
|
غالها من طوي
السرى ما غالا
|
قطعت دونك
الصحاصح تهوي
|
|
لا تعد الكلال
فيك كلالا
|
كل دهناء يقصر
الطرف عنها
|
|
أرقلتها قلاصنا
إرقالا
|
وطوتها العتاق
تجمح فيها
|
|
بكماة مثل
النجوم تلالا
|
ثم لما رأتك
أحسن مرأى
|
|
أفحمت عنك هيبة
وجلالا
|
تتقي شر بأس يوم
عصيب
|
|
هائل أوجل
القلوب وهالا
|
ونداء لمحشر
الناس طرا
|
|
وحسابا لمن
تمادى ضلالا
|
نحو نور من
الإله وبرهان
|
|
وبر ونعمة لن
تنالا
|
وأمان منه لدى
الحشر والنشر
|
|
إذ الخلق لا
يطيق سؤالا
|
فلك الحوض
والشفاعة والكوثر
|
|
والفضل إذ ينص
السؤالا
|
خصك الله يا ابن
آمنة الخير
|
|
إذا ما بكت سجال
سجالا
|
أنبأ الأولون
باسمك فينا
|
|
وبأسماء بعده
تتلألأ
|
قال فأقبل علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفحة وجهه المبارك شمت منه ضياء لامعا ساطعا كوميض
البرق فقال يا جارود لقد تأخر بك وبقومك الموعد وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد
إليه بقومي فلم آته وأتيته في عام الحديبية فقلت ما كان إبطائي عنك إلا أن جلة قومي
أبطئوا عن إجابتي حتى ساقها الله إليك لما أراد لها به من الخير لديك.
وأما من تأخر عنه
فحظه فات منك فتلك أعظم حوبة وأكبر عقوبة
ولو كانوا ممن رآك
لما تخلفوا عنك وكان عنده رجل لا أعرفه قلت ومن هو قالوا هو سل مان الفارسي ذو
البرهان العظيم والشأن القديم.
فقال سلمان وكيف
عرفته أخا عبد القيس من قبل إتيانه؟
فأقبلت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلألأ ويشرق وجهه نورا وسرورا فقلت يا رسول الله إن
قسا كان ينتظر زمانك ويتوكف إبانك ويهتف باسمك وأبيك وأمك وبأسماء لست أصيبها معك
ولا أراها فيمن اتبعك.
قال سلمان فأخبرنا
فأنشأت أحدثهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع والقوم سامعون واعون.
قلت يا رسول الله
لقد شهدت قسا وقد خرج من ناد من أندية أياد إلى صحصح ذي قتاد وسمر وعتاد وهو مشتمل
بنجاد فوقف في إضحيان ليل كالشمس رافعا إلى السماء وجهه وإصبعه فدنوت منه فسمعته
يقول :
اللهم رب هذه
السبعة الأرقعة والأرضين الممرعة وبمحمد والثلاثة المحامدة معه والعليين الأربعة
وسبطيه التبعة الأرفعة والسري الألمعة وسمي الكليم الضرعة والحسن ذي الرفعة أولئك
النقباء الشفعة والطريق المهيعة درسة الإنجيل وحفظة التنزيل على عدد النقباء من
بني إسرائيل محاة الأضاليل نفاة الأباطيل الصادقو القيل عليهم تقوم الساعة وبهم
تنال الشفاعة ولهم من الله فرض الطاعة.
ثم قال اللهم
ليتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحياي ثم أنشأ يقول :
متى أنا قبل
الموت للحق مدرك
|
|
وإن كان لي من
بعد هاتيك مهلك
|
وإن غالني الدهر
الحرون بقوله
|
|
فقد غال من قبلي
ومن بعد يوشك
|
فلا غرو أني
سالك مسلك الأولى
|
|
وشيكا ومن ذا
للردى ليس يسلك
|
ثم آب يكفكف دمعه
ويرن رنين البكرة قد بريت ببراة وهو يقول :
أقسم قس قسما
|
|
ليس به مكتتما
|
لو عاش ألفي عمر
|
|
لم يلق منها
سأما
|
حتى يلاقي أحمدا
|
|
والنقباء الحكما
|
هم أوصياء أحمد
|
|
أكرم من تحت
السما
|
يعمى العباد
عنهم
|
|
وهم جلاء للعمى
|
لست بناس ذكرهم
|
|
حتى أحل الرجما
|
ثم قلت يا رسول
الله أنبئني أنبأك الله بخبر عن هذه الأسماء التي لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها ـ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا جارود ليلة
أسري بي إلى السماء أوحى الله عزوجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا.
فقلت لهم على ما
بعثتم؟
فقالوا على نبوتك
وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما.
ثم أوحى إلي أن
التفت عن يمين العرش فالتفت فإذا علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي
وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن
علي والمهدي عليهم السلام في ضحضاح من نور يصلون.
فقال لي الرب
تعالى هؤلاء الحجج لأوليائي وهذا المنتقم من أعدائي.
قال الجارود فقال
سلمان يا جارود هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور فانصرفت بقومي وأنا
أقول :
أتيتك يا ابن
آمنة الرسولا
|
|
لكي بك أهتدي
النهج السبيلا
|
فقلت فكان قولك
قول حق
|
|
وصدق ما بدا لك
أن تقولا
|
وبصرت العمى من
عبد شمس
|
|
وكل كان من عمه
ضليلا
|
وأنبأناك عن قس
الأيادي
|
|
مقالا فيك ظلت
به جديلا
|
وأسماء عمت عنا
فآلت
|
|
إلى علم وكنت به
جهولا
|
فصل من الكلام في هذا
الخبر
اعلم أيدك الله
تعالى أنك تسأل في هذا الخبر عن ثلاثة مواضع :
أحدها أن يقال لك
كان الأنبياء المرسلون عليهم السلام قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ماتوا
فكيف يصح سؤالهم في السماء؟
وثانيها أن يقال
لك ما معنى قولهم إنهم بعثوا على نبوته وولاية علي والأئمة من ولده ع؟
وثالثها أن يقال
لك كيف يصح أن يكون الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام في تلك الحال في السماء ونحن
نعلم ضرورة خلاف هذا لأن أمير المؤمنين عليهم السلام كان في ذلك الوقت بمكة في
الأرض ولم يدع قط ولا ادعى له أحد أنه صعد إلى السماء فأما الأئمة من ولده فلم يكن
وجد أحد منهم بعد ولا ولد فما معنى ذلك إن كان الخبر حقا فهذه مسائل صحيحة ويجب أن
يكون معك لها أجوبة متعددة.
أما الجواب عن
السؤال الأول فهو أنا لا نشك في موت الأنبياء عليهم السلام غير أن الخبر قد ورد
بأن الله تعالى يرفعهم بعد مماتهم إلى سمائه وأنهم يكونون فيها أحياء متنعمين إلى
يوم القيامة.
وليس ذلك بمستحيل
في قدرة الله تعالى وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
«أنا أكرم عند
الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث»
وهكذا عندنا حكم
الأئمة ع.
قال النبي صلى
الله عليه وسلم :
لو مات نبي
بالمشرق ومات وصيه بالمغرب لجمع الله بينهما.
وليس زيارتنا
لمشاهدهم على أنهم بها ولكن لشرف المواضع فكانت غيبة الأجساد فيها ولعباده أيضا
ندبنا إليها فيصح على هذا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء عليهم السلام
في السماء فسألهم كما أمره الله.
وبعد فقد قال الله
تعالى :
(وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) عمران : ١٦٩.
فإذا كان المؤمنون
الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بهذا الوصف فكيف ينكر أن الأنبياء بعد موتهم أحياء
منعمون في السماء.
وقد اتصلت الأخبار
من طريق الخاص والعام بتصحيح هذا وأجمع الرواة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
خوطب بفرض الصلاة ليلة المعراج وهو في السماء قال له موسى عليهم السلام إن أمتك لا
تطيق وإنه راجع الله تعالى دفعة بعد أخرى
.
وما حصل عليه
الاتفاق فلم يبق فيه كذب.
وأما الجواب عن
السؤال الثاني فهو أن يكون الأنبياء قد أعلموا بأنه سيبعث نبيا يكون خاتمهم وناسخا
بشرعه لشرائعهم واعلموا أنه أجلهم وأفضلهم وأنه سيكون له أوصياء من بعده حفظة
لشرعه وحملة لدينه وحجج على أمته فوجب على الأنبياء عليهم السلام التصديق بما
أخبروا به والإقرار بجميعه.
أخبرني الشريف
يحيى بن أحمد بن إبراهيم بن طباطبا الحسيني قال حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن
عبد الله بن يونس الموصلي عن أبي علي بن همام عن عبد الله بن جعفر الحميري عن عبد
الله بن محمد عن محمد بن أحمد عن يونس بن يعقوب عن عبد الأعلى بن أعين قال سمعت
أبا عبد الله الصادق عليهم السلام يقول :
ما تنبأ نبي قط
إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا.
وإن الأمة مجمعة
على أن الأنبياء قد بشروا بنبينا ونبهوا على أمره ولا
يصح منهم ذاك إلا
وقد أعلمهم الله تعالى به فصدقوا وآمنوا بالمخبر به.
وكذلك قد روت
الشيعة بأنهم قد بشروا بالأئمة أوصياء رسول الله ص.
وأما الجواب عن
السؤال الثالث فهو أنه يجوز أن يكون الله تعالى أحدث ل رسوله صلى الله عليه وسلم في
الحال صورا كصور الأئمة عليهم السلام ليراهم أجمعين على كمالهم فيكون كمن شاهد أشخاصهم
برؤيته مثالهم ويشكر الله تعالى على ما منحه من تفضيلهم وإجلالهم.
وهذا في العقول من
الممكن المقدور.
ويجوز أيضا أن
يكون الله تعالى خلق على صورهم ملائكة في سمائه يسبحونه ويقدسونه لتراهم ملائكته
الذين قد أعلمهم بأنه يكون في أرضه حججا له على خلقه فتتأكد عندهم منازلهم وتكون
رؤيتهم تذكارا لهم بهم وبما سيكون من أمرهم.
وقد جاء في الحديث
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في السماء لما خرج به ملكا على صورة أمير
المؤمنين صلى الله عليه وسلم وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله.
حدثني به من طريق
العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي ونقلته من
كتابه المعروف بإيضاح دقائق النواصب وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي
عشرة وأربعمائة قال حدثنا أبو القاسم جعفر بن مسرور اللجام قال حدثنا الحسين بن
محمد قال حدثنا أحمد بن علوية المعروف بابن الأسود الكاتب الأصبهاني
قال حدثني إبراهيم بن محمد قال حدثني عبد الله بن صالح قال حدثني جرير بن عبد
الحميد عن مجاهد عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
لما أسري بي إلى
السماء ما مررت بملإ من الملائكة إلا سألوني عن علي بن أبي
طالب حتى ظننت أن
اسم علي أشهر في السماء من اسمي فلما بلغت السماء الرابعة نظرت إلى ملك الموت فقال
يا محمد ما خلق الله خلقا إلا أقبض روحه بيدي ما خلا أنت وعلي فإن الله جل جلاله
يقبض أرواحكما بقدرته فلما صرت تحت العرش نظرت فإذا أنا بعلي بن أبي طالب قال لي
يا محمد ليس هذا عليا ولكنه ملك من ملائكة الرحمن خلقه الله تعالى على صورة علي بن
أبي طالب فنحن الملائكة المقربون كلما اشتقنا إلى وجه علي بن أبي طالب زرنا هذا
الملك لكرامة علي بن أبي طالب على الله سبحانه.
فيصح على هذا
الوجه أن يكون الذين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ملائكة على صور الأئمة
عليهم السلام وجميع ذلك داخل في باب التجويز والإمكان والحمد لله. نرجع إلى ذكر
المعمرين.
وقد روي أن منهم
سلمان الفارسي رحمة الله عليه وأنه عاش مائتين من السنين.
وروي أن منهم عمرو
بن العاص وأنه عاش في الجاهلية والإسلام مائتي سنة وأنه قال حين أحس الموت :
مضت مائتا حول
لعمرو وبعدها
|
|
رمته المنايا
بالسهام القواصد
|
فمات وما حي وإن
طال عمره
|
|
على مر أيام
السنين بخالد
|
ومنهم أمد بن لبد ،
عاش ثلاثمائة
وستين سنة وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال أنا أحب أن ألقى رجلا قد أتت عليه سن
وقد رأى الناس يخبرنا عما رأى فقيل له هذا رجل بحضرموت فأرسل إليه فأتاه فقال ما
اسمك فقال أمد قال ابن من قال ابن لبد قال ما أتى عليك من السنين قال ستون
وثلاثمائة سنة قال كذبت ثم تشاغل عنه معاوية ثم قال أخبرنا عما رأيت من الأزمان
الماضية إلى زماننا هذا من ذاك.
قال يا أمير
المؤمنين وكيف تسأل من يكذب؟
قال ما كذبتك ولكن
أحببت أعلم كيف عقلك.
قال يوم شبيه يوم
وليلة شبيهة بليلة يموت ميت ويولد مولود ولو لا من يموت لم تسعهم الأرض ولو لا من
يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.
قال فأخبرني هل
رأيت هاشما؟
قال نعم رأيت رجلا
طوالا حسن الوجه يقال بين عينيه بركة أو غرة بركة.
قال فهل رأيت أمية؟
قال نعم رأيت رجلا
قصيرا أعمى يقال إن في وجهه أشرا وشؤما.
قال فهل رأيت
محمدا قال من محمد قال رسول الله.
قال ويحك أفلا
فخمته كما فخمه الله فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال فأخبرني ما
كانت صناعتك؟
قال كنت تاجرا قال
فما بلغت في تجارتك؟
قال كنت لا أستر
عيبا ولا أرد ربحا.
قال معاوية سلني.
قال أسألك أن
تدخلني الجنة.
قال ليس ذلك بيدي
ولا أقدر عليه.
قال فأسألك أن ترد
علي شبابي.
قال ليس ذلك بيدي
ولا أقدر عليه.
قال فلا أرى عندك
شيئا من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة فردني من حيث جئت بي
قال أما هذا فنعم.
ثم أقبل معاوية
على جلسائه فقال لقد أصبح هذا زاهدا فيما أنتم فيه ترغبون.
ومن المعمرين عبيد
بن شريد الجرهمي.
عاش ثلاثمائة سنة
ولحق أيضا أيام معاوية بن أبي سفيان.
فروي أنه قدم عليه
يوما إلى الشام فقال معاوية أخبرني من أعجب ما رأيت قال نعم انتهيت إلى قوم يدفنون
ميتا لهم فلما فرغوا منه اغرورقت عيناي وتمثلت بهذه الأبيات :
يا قلب إنك في
أسماء مغرور
|
|
فاذكر وهل
ينفعنك اليوم تذكير
|
قد بحت بالحب ما
تخفيه من أحد
|
|
حتى جرت بك
إطلاقا محاضير
|
ما بت فاصبر فما
تدري أعاجلها
|
|
خير لنفسك أم ما
فيه تأخير
|
فاستقدر الله
خيرا وارضين به
|
|
فبينما العسر إذ
دارت مياسير
|
وبينما المرء في
الأحياء مغتبط
|
|
إذ صار في الرمس
تعفوه الأعاصير
|
حتى كأن لم يكن
إلا تذكره
|
|
والدهر أيتما
حال دهارير
|
يبكي الغريب
عليه ليس يعرفه
|
|
وذو قرابته في
الحي مسرور
|
وذاك آخر عهد من
أخيك إذا
|
|
ما الميت ضمنه
اللحد الخناسير
|
يعني بالخناسير
الحفارين
فقال لي رجل منهم
هل تدري من قال هذه الأبيات قلت لا قال هو الذي دفناه
.
ومن المعمرين
العوام بن المنذر الطائي عاش دهرا طويلا في الجاهلية وبقي إلى أن أدرك خلافة عمر
بن عبد العزيز فأدخل عليه وقد اختلفت ترقوتاه وسقط حاجباه فقيل ما أدركت فقال :
والله ما أدري أأدركت
أمة
|
|
على عهد ذي
القرنين أم كنت أقدما
|
متى تنزعوا عني
اللباس تبينوا
|
|
أجاجي لم يكسين
لحما ولا دما
|
ومن المعمرين أيضا.
تميم بن ثعلبة بن
عطاية الربعي عاش مائتي سنة ومعديكرب الحميري من آل ذي رعين عاش مائتين وخمسين سنة.
وجعفر بن قرط
الجهني عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام وأسلم.
وعوف بن كنانة
الكلبي عاش ثلاثمائة سنة.
وهبل بن عبد الله
بن كنانة الكلبي عاش ستمائة وسبعين سنة.
وحصين بن عتبان
الزبيدي عاش مائتين وخمسين سنة.
وشربة بن عبد الله
الجعفي من سعد العشيرة عاش ثلاثمائة سنة.
وربيعة بن كعب بن
زيد مناة بن تميم عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة وأدرك الإسلام فأسلم وكان شاعرا.
وسيف بن وهب
الطائي عاش مائتي سنة.
وعدوان بن عمرو بن
قيس عاش مائتين وخمسين سنة وكف بصره.
وعاش ابن يزيد
الجعفي خمس ومائة سنة وأدرك الإسلام.
وعاش مرداس بن
ضييم بن زيد العشيرة مائتين وستا وثلاثين سنة.
وعاش عمرو بن
ربيعة اللخمي ثلاثمائة وأربعين سنة.
فهذا طرف من ذكر
المعمرين ومختصر مما رواه أصحاب الأثر وعلماء المصنفين قد أوردته لك زيادة على ما
تقدم وإثباتا للحجة على من يفهم. وإذا جاز أن يعمر الله تعالى جماعة من خلقه من
أنبيائه عليهم السلام وأوليائه والمشركين له ويمدهم بصحة الأجساد وثبوت العقل
والرأي فما الذي ينكر من طول عمر صاحب الزمان عليهم السلام وهو حجة الله تعالى على
العباد وخاتم الأوصياء من ذرية رسوله صلى الله عليه وسلم والموعود بالبقاء حتى
يكون على يده هلاك جميع الأعداء ويصير الدين كله لله لو لا أن خصومنا معاندون للحق
ومكابرون.
وقد ذاع بين كثير
من الخصوم ما يروى ويقال اليوم من حال المعمر أبي الدنيا المغربي المعروف بالأشبح
وأنه باق من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام إلى الآن وأنه مقيم
من ديار المغرب في أرض طنجة ورؤية الناس له في هذه الديار وقد عبر متوجها إلى الحج
والزيارة وروايتهم عنه حديثه وقصته وأحاديث سمعها من أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم
وقوله إنه كان ركابيا بين يديه ورواية الشيعة أنه يبقى إلى أن يظهر صاحب الزمان ص.
وكذلك حال المعمر
المشرقي ووجوده بمدينة من أرض المشرق يقال لها سهردود إلى الآن ورأينا جماعة رأوه
وحدثوا حديثه وأنه أيضا كان خادما لأمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم والشيعة تقول
إنهما يجتمعان عند ظهور الإمام المهدي عليه وعلى آبائه أفضل السلام.
خبر المعمر المغربي
وهو علي بن عثمان
بن الخطاب البلوي
حدثني الشريف طاهر
بن موسى بن جعفر الحسيني بمصر سنة سبع
وأربعمائة قال
أخبرنا الشريف أبو القاسم ميمون بن حمزة الحسيني قال رأيت المعمر المغربي وقد أتي
به إلى الشريف أبي عبد الله محمد بن إسماعيل سنة عشر وثلاثمائة وأدخل داره ومن معه
وهم خمسة رجال وأغلقت الدار وازدحم الناس وحرصت في الوصول إلى الباب فما قدرت
لكثرة الزحام فرأيت بعض غلمان الشريف أبي عبد الله محمد بن إسماعيل وهما قنبر وفرح
فعرفتهما أني أشتهي أنظره فقالا لي در إلى باب الحمام بحيث لا يدري بك فصرت إليه
ففتحا لي سرا ودخلت وأغلق الباب وحصلت في مسلخ الحمام وإذا قد فرش له ليدخل الحمام
فجلست يسيرا فإذا به قد دخل رجل نحيف الجسم ربع من الرجال خفيف العارضين آدم اللون
إلى القصر أقرب ما هو أسود الشعر يقدر الإنسان أنه له نحوا من أربعين سنة وفي صدغه
أثر كأنه ضربة.
فلما تمكن من
الجلوس والنفر معه وأراد خلع ثيابه قلت ما هذه الضربة قال أردت أناول مولاي أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام السوط يوم النهروان فنفض الفرس رأسه فضربني
اللجام وكان مخا كذا فشجني.
فقلت له أدخلت هذه
البلدة قديما قال نعم وكان موضع جامعكم الفلاني مقبلة وفيها قبر.
فقلت هؤلاء أصحابك
فقال ولدي وولد ولدي.
ثم دخل الحمام
فجلست حتى خرج ولبس ثيابه فرأيت عنفقته قد ابيضت فقلت له كان بها صباغ قال لا ولكن
إذا جعت ابيضت وإذا شبعت اسودت.
فقلت قم أدخل
الدار حتى تأكل فدخل الباب.
وروى الحسن بن
محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسن
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه حج في تلك السنة ،
وفيها حج نصر
القشوري صاحب المقتدر قال فدخلت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبت بها قافلة
البصريين وفيها أبو بكر محمد بن علي المادراني ومعه رجل من أهل المغرب يذكر أنه
رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فازدحم عليه الناس وجعلوا يتمسحون به
فكادوا يقتلونه.
قال فأمر عمي أبو
القاسم طاهر بن يحيى فتيانه وغلمانه أن يفرجوا عنه ففعلوا ودخلوا به إلى دار ابن
أبي سهل اللطفي وكان طاهر يسكنها وأذن للناس فدخلوا وكان معه خمسة رجال ذكر أنهم
أولاده وأولاد أولاده فيهم شيخ له نيف وثمانون سنة فسألناه عنه فقال هذا ابني
واثنان لكل واحد منهما ستون أو خمسون سنة وآخر
ست عشرة سنة فقال هذا ابني.
ولم يكن معه أصغر
منه وكان إذا رأيته قلت ابن ثلاثين أو أربعين سنة أسود الرأس واللحية شاب نحيف
الجسم آدم ربع القامة خفيف العارضين هو إلى القصر أقرب واسمه علي بن عثمان بن
الخطاب (بن مزيد)
فمما سمعت من
حديثه الذي حدث الناس به أنه قال :
خرجت من بلدي أنا
وأبي وعمي نريد الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا مشاة في قافلة
فانقطعنا عن الناس واشتد بنا العطش وعدمنا الماء وزاد بأبي وعمي الضعف فأقعدتهما
إلى جانب شجرة ومضيت ألتمس لهما ماء فوجدت عينا حسنة وفيها ماء صاف في غاية البرد
والطيبة فشربت حتى ارتويت ثم نهضت لآتي بأبي وعمي إلى العين فوجدت أحدهما قد مات
وتركته بحاله وأخذت الآخر ومضيت به في طلب العين فاجتهدت أن أراها فلم أرها ولا
عرفت موضعها وزاد العطش به فمات فحرصت في أمره حتى واريته وعدت إلى الآخر فواريته
أيضا وسرت وحدي إلى أن انتهيت إلى الطريق ولحقت بالناس ودخلنا المدينة وكان دخولي
إليها في اليوم الذي
قبض فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فرأيت الناس منصرفين من دفنه فكانت أعظم الحسرات دخلت قلبي.
ورآني أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام فحدثته حديثي فأخذني فكنت يتيمة فأقمت معه
مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وأيام خلافته حتى قتله عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة.
قال ولما حوصر عثمان بن عفان في داره دعاني ودفع إلي كتابا ونجيبا وأمرني بالخروج
إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام وكان علي غائبا بينبع في ضياعه
وأمواله فأخذت الكتاب وركبت النجيب وسرت حتى إذا كنت بموضع يقال له جنان بن أبي
عيابة سمعت قرآنا فإذا هو أمير المؤمنين عليهم السلام يقرأ :
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)
قال فلما نظر إلي
قال يا أبا الدنيا ما وراءك؟
قلت هذا كتاب
عثمان فقرأه فإذا فيه :
فإن كنت مأكولا
فكن أنت آكلي
|
|
وإلا فأدركني
ولما أمزق
|
فلما قرأه قال سر
سر فدخلنا المدينة ساعة قتل عثمان فمال أمير المؤمنين إلى حديقة بني النجار وعلم
الناس مكانه فجاءوا إليه ركضا وقد كانوا عازمين على أن يبايعوا طلحة فلما نظروا
إليه ارفضوا عن طلحة ارفضاض الغنم يشد عليها السبع فبايعه طلحة والزبير ثم تتابع
المهاجرون والأنصار يبايعونه فأقمت معه أخدمه وحضرت معه صفين أو قال النهروان فكنت
عن يمينه إذ سقط السوط من يده فانكببت لآخذه وأرفعه إليه وكان لجام دابته لمخا
فشجني هذه الشجة فدعاني أمير المؤمنين عليهم السلام فتفل فيها وأخذ حفنة من تراب
فتركها عليها فو الله ما وجدت ألما ولا وجعا.
ثم أقمت معه صلى
الله عليه وسلم وصحبت الحسن عليهم السلام حتى بالساباط وحمل إلى المدائن ولم أزل
معه بالمدينة حتى مات عليهم السلام مسموما سمته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي.
ثم خرجت مع الحسين
عليهم السلام بكربلاء وقتل عليهم السلام فهربت بديني وأنا مقيم بالمغرب أنتظر خروج
المهدي وعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
قال الشريف أبو
محمد الحسن بن محمد الحسيني :
ومما رأيت من هذا
الشيخ علي بن عثمان وهو إذ ذاك في دار عمي طاهر بن يحيى وهو يحدث بأحاديثه وبدأ
خروجه إذ نظرت إلى عنفقته فرأيتها قد احمرت ثم ابيضت فجعلت أنظر إلى ذلك لأنه لم
يكن في لحيته ولا رأسه ولا عنفقته بياض فنظر إلي أنظر إليه فقال ما ترون إن هذا
يصيبني إذا جعت فإذا شبعت رجعت إلى سوادها.
فدعا عمي بطعام
فأخرج من داره ثلاث موائد فوضعت بين يديه وكنت أنا ممن جلس معه عليها وجلس عمي معه
وكان يأكل ويلقمه فأكل أكل شاب وعمي يحلف عليه وأنا أنظر إلى عنفقته تسود حتى عادت
إلى سوادها وشبع.
حدثني القاضي أبو
الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني وأبو عبد الله الحسين بن محمد الصيرفي
البغدادي قالا جميعا أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد المعروف بالمفيد لقراءتي عليه
بجرجرايا وقال الصيرفي سمعت منه إملاء سنة خمس وستين وثلاثمائة قال حدثنا علي بن
عثمان بن الخطاب بن عبد الله بن عوام البلدي من مدينة بالمغرب يقال لها مزيدة يعرف
بأبي الدنيا الأشبح المعمر قال سمعت علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول كلمة الحق ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها وقال
حدثنا الأشبح قال سمعت علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
:
أحبب حبيبك هونا
ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
وقال حدثنا الأشبح
قال سمعت علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم :
طوبى لمن رآني أو
رأى من رأى من رآني.
وقال حدثنا الأشبح
قال سمعت عليا عليهم السلام يقول إنه عهد إلي النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أنه
لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم :
في الزناء ست خصال
ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ويقطع
الرزق ويسرع الفناء.
وأما اللواتي في
الآخرة فغضب الرب جل وعز وسوء الحساب والدخول في النار.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
من كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول :
لما نزلت (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
قال النبي صلى
الله عليه وسلم سألت الله عزوجل أن يجعلها أذنك يا علي.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تتخذوا قبري
مسجدا ولا تتخذوا قبوركم مساجد ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلواتكم
تبلغني وتسليمكم يبلغني.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت علي بن أبي طالب يقول :
ما رمدت ولا صدعت
منذ دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت عليا عليهم السلام يقول :
من جلس في مجلسه
ينتظر الصلاة فهو في صلاة وصلت عليه الملائكة وصلواتهم عليه اللهم اغفر له اللهم
ارحمه.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت عليا عليهم السلام يقول :
كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يحجبه ولا يحجزه من قراءة القرآن إلا الجنابة.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت عليا عليهم السلام يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
الحرب خدعة.
وقال حدثنا الأشج
قال سمعت عليا عليهم السلام يقول قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوتر قبل
الوصية وأنتم تقرءون (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات يرث الرجل
أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه.
وقال أبو بكر
المعروف بالمفيد رأيت أثر الشجة في وجهه وقال أخبرت أمير المؤمنين عليهم السلام بحديثي
وقصتي في سفري وموت أبي وعمي وعين الماء التي شربت منها وحدي فقال عليهم السلام :
هذه عين لم يشرب
منها أحد إلا عمر عمرا طويلا فأبشر فإنك تعمر ما كنت لتجدها بعد شريك منها.
قال أبو بكر وسألت
عن الأشج أقواما من أهل البلدة فقالوا هو مشهور عندنا بطول العمر يحدثنا بذلك الأبناء
عن آبائهم عن أجدادهم وقوله في أنه لقي علي بن أبي طالب عليهم السلام معلوم عندهم
متداول بينهم.
فأما الأحاديث
التي رواها عن الأشج أبو محمد الحسن بن محمد الحسيني مما لم يروه أبو بكر محمد بن
أحمد الجرجراي فهي :
قال الشريف أبو
محمد حدثني علي بن عثمان المعمر الأشج قال حدثني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من أحب أهل اليمن
فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني.
قال وحدثني أمير
المؤمنين عليهم السلام قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أنا وأنت يا علي
أبوا هذا الخلق فمن عقنا فعليه لعنة الله أمن يا علي فقلت آمين يا رسول الله.
فقال يا علي أنا
وأنت موليا هذا الخلق فمن جحدنا ولاءنا وأنكرنا حقنا فعليه لعنة الله أمن يا علي
فقلت آمين يا رسول الله آخر أخبار المعمر المغربي :
حديث
المعمر المشرقي :
هذا رجل مقيم
ببلاد العجم من أرض الجبل يذكر أنه رأى أمير المؤمنين عليهم السلام ويعرفه الناس
بذلك على مر السنين والأعوام.
ويقول إنه لحقه
مثل ما لحق المغربي من الشجة في وجهه وإنه صحب أمير المؤمنين عليهم السلام وخدمه.
وحدثني جماعة
مختلفو المذاهب بحديثه وأنهم رأوه وسمعوا كلامه.
منهم أبو العباس
أحمد بن نوح بن محمد الحنبلي الشافعي حدثني بمدينة الرملة في سنة إحدى عشرة
وأربعمائة.
قال كنت متوجها
إلى العراق للتفقه فعبرت بمدينة يقال لها شهرورد من أعمال الجبل قريبة من
زنجان وذلك في سنة خمسين وثلاثمائة فقيل لي إن هاهنا شيخا يزعم أنه لقي أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليهم السلام فلو صرت إليه ورأيته لكان ذلك فائدة عظيمة.
قال فدخلنا عليه
فإذا هو في بيته يعمل النوار وإذا هو شيخ نحيف الجسم مدور اللحية كبيرها وله ولد
صغير ولد له منذ سنة.
فقيل له إن هؤلاء
القوم من أهل العلم متوجهون إلى العراق يحبون أن يسمعوا من الشيخ ما قد لقي من
أمير المؤمنين عليهم السلام.
فقال نعم كان
السبب في لقائي له أني كنت قائما في موضع من المواضع فإذا أنا بفارس مجتاز فرفعت
رأسي فجعل الفارس يمر يده على رأسي ويدعو لي فلما أن عبر أخبرت بأنه علي بن أبي
طالب عليهم السلام فهرولت حتى لحقته وصاحبته.
وذكر أنه كان معه
في تكريت وموضع من العراق يقال له تل فلان بعد ذلك وكان بين يديه يخدمه إلى أن قبض
عليهم السلام فخدم أولاده.
قال لي أحمد بن
نوح رأيت جماعة من أهل البلد ذكروا ذلك عنه وقالوا سمعنا آباءنا يخبرونا عن
أجدادنا بحال هذا الرجل وأنه على هذه الصفة وكان قد مضى فأقام بالأهواز ثم انتقل
عنها لأذية الديلم له وهو مقيم بشهرورد.
وحدثني أبو عبد
الله الحسين بن محمد بن أحمد القمي رحمهالله أن جماعة حدثوه بأنهم رأوا هذا المعمر وشاهدوه وسمعوا ذلك
عنه.
وحدثني بحديثه
أيضا قوم من أهل شهرورد وصفوا لي صفته وقالوا هو يعمل الزنانير.
وفي بعض ما ذكرناه
في هذا الباب كفاية والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد رسوله وآله.
فصل في الكلام في
الآجال :
إن سأل سائل فقال
ما حقيقة الآجال؟
فقيل له إن الآجال
هي الأوقات فأجل الحياة وقتها وأجل الموت وقته الذي يوجد فيه.
وكذلك الأجل في
الدين إنما هو وقت وجوبه.
ويقال للإنسان أجل
لهذا الأمر أجلا معناه أجل لحدوثه وكونه وقتا.
فإن قال السائل أفتقولون
إن الآجال محتومة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها أم تجيزون أن يقدمها الله تعالى
ويؤخرها؟؟
قيل له الذي نقوله
إن الله قادر على تأخير أجل الموت بالزيادة في مدة الحياة وعلى تقديمه بالنقصان
منها.
فإن قال كيف يصح
لكم القول بالتقديم والتأخير وما معناه والأجل عندكم هو الوقت فأي وقت حضرموت
الإنسان فذلك أجله؟
قيل له المعنى في
ذلك أن الوقت الذي أمات الله تعالى العبد فيه قد كان قادرا على أن لا يميته فيه بل
يبقيه بدلا من ذلك ويحييه فيكون هذا هو تأخير أجله والزيادة في عمره.
والوقت الذي أحياه
الله تعالى فيه قد كان قادرا على أن يميته بدلا من ذلك فيه ولا يحييه فيكون هذا هو
تقديم أجله والنقص من عمره وجميع ذلك في العقل غير مستحيل وهو المعنى الذي ذهبنا
إليه.
فإن قال فإذا علم
سبحانه أنه يحيي عبده هذا مائة سنة حسبما تقتضيه عنده المصلحة فكيف يصح مع ذلك أن
يزيد في هذا المبلغ أو ينقص؟
قلنا يصح أن يعلم
أن المصلحة تقتضي أن يكون عمره مائة سنة ما لم يفعل شيئا معينا فمتى فعله اقتضت
المصلحة أن يزيده على المائة عشرين سنة أو ينقصه منها عشرين وهذا أيضا غير مستحيل.
فإن قال أفليس
الله تعالى عالما بأن العبد سيفعل ما تتغير المصلحة عند فعله أو لا يفعله؟
قلنا بلى إن الله
تعالى عالم به وبكل كائن قبل كونه وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون حاله.
فإن قال فإذا كانت
حاله معلومة له فقد حصل عمره معلوما فلا معنى للزيادة والنقص هاهنا.
قلنا إنما ذلك على
وجه التقدير الذي قد كان ممكنا غير مستحيل وإن هذا الممكن لو كان كيف كانت تكون
الحال من تأخير في الأجل وتقديم وقد أخبر الله تعالى عن قوم نوح :
(فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) نوح : ١٠ و ١٢.
مع علمه سبحانه
وعلم نوح أنهم لا يستغفرون ولا يتوبون وأنهم بأسرهم يغرقون.
وقال عزوجل:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) الأعراف ٩٦.
ولا يكون ذلك إلا
وهم أحياء وإنما عنى أهل القرى التي أهلكها فأخبر أنهم لو آمنوا لأحياهم وأنعم
عليهم وهو يعلم أنهم لا يؤمنون وأنه سيهلكهم.
وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم
إن صلة الرحم تزيد
في العمر.
فأخبر عليهم
السلام أن عمر العبد يكون مقدرا معلوما عند الله تعالى وإن هو وصل رحمه زاد الله
تعالى في عمره والله تعالى عالم بأن هذا العبد إن لم يصل رحمه مات في وقت كذا وإن
هو وصلها عاش إلى وقت كذا وهو مع هذا كله عالم بما يكون منه وهل يصله أم لا يصله
قال الله عزوجل :
(وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فاطر : ١١.
فإن قال السائل
فما تقولون في المقتول لو لم يقتل أكان يجوز أن يبقى حيا أو كان منيته غير هذا أم
لا؟
قيل له كل ذلك
جائز وجوازه على قسمين.
أحدهما بمعنى أنا
نشك فيه لعدم دليل القطع على حقيقته بما يكون منه.
والثاني بمعنى أن
الله تعالى يقدر على ذلك كله ولا يستحيل منه فهو عندنا لو لم يقتل جاز أن يبقى حيا
وجاز أن يموت في الحال من غير قتل ومهما كان من ذلك فهو معلوم قبل كونه لله تعالى.
ولو كان الظالم
إنما يقتل المظلوم لأن أجله قد حضر ولأن حضور أجله حمله على قتله لم يكن ملوما ولا
ظالما بل كان محمولا على ذلك مضطرا.
وقد ضرب في معنى
هذا مثل فقيل :
لو كان كل مقتول
لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ولم يعش لحظة واحدة لكان من قصد إلى أغنام
رجل فذبحها عن آخرها لا يجوز أن يلومه صاحبها ولا يغرمه بثمنها بل كان يجب أن
يشكره على ذبحها لأنه لو لم يذبحها لماتت كلها فكان لا ينتفع بشيء منها.
وفي صحة توجه
اللوم إليه دلالة على أنه لو لم يذبحها لجاز أن تبقى كلها حية أو يبقى بعضها والله
عالم بحقيقة أمرها.
فإن قال أفتقولون
إن المقتول مات بأجله أم تقولون إن قاتله قطع أجله؟؟
قلنا قد ذكرناه أن
حقيقة الأجل هو الوقت وأجل الشيء وقته وإذا كان هذا هو الأصل فالوقت الذي قتل به
فيه هو أجل موته كما هو وقت موته وقد ذكرنا قول الله تعالى في قوم نوح أنهم لو
آمنوا لأبقاهم إلى أجل مسمى فلما لم يؤمنوا أهلكوا قبل ذلك الأجل وليس هذا بمانع
من أن نقول بأنهم قد هلكوا بآجالهم نريد وقت حضور إهلاكهم.
فإن قال فما معنى
قوله سبحانه :
(إِذا جاءَ لا
يُؤَخَّرُ)
وقوله :
__________________
(فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الأعراف : ٣٤.
قلنا المراد بذلك
الأجل الذي علم الله تعالى أنهم يميتهم فيه والحمد لله.
فصل :
واعلم أنا نذهب
إلى أن الله تعالى إذا علم من حال عبد من عبيده أنه إذا أبقاه آمن من كفره أو تاب
من معصيته وفسقه فإن الواجب في حكمته عزوجل أن يبقيه ولا يخترمه.
فإن كان قد فعل به
ذلك مرة فتاب وأقلع ثم عاد في معاصيه ونكث وعلم منه بعد ذلك أنه إن أبقاه تاب أيضا
وأحسن فإن تبقيته لأجل التوبة غير واجبة لأن ذلك لو وجب دائما لم يكن للتكليف أجر
وأدى للخروج من الحكمة والعبث تعالى الله عن كل صفة نقص.
مسألة فقهية
ذكرها شيخنا أبو
عبد الله المفيد رضوان الله عليه.
امرأة ورثت أربعة
أزواج واحدا بعد واحد فصار لها نصف أموالهم جميعا وللعصبة النصف الباقي.
جواب
:
هذه امرأة تزوجها
أربع إخوة واحدا بعد واحد وورث بعضهم بعضا وكان جميع مالهم ثمانية عشر دينارا
لواحد منهم ثمانية دنانير وللآخر منهم ستة دنانير وللآخر ثلاثة وللآخر دينار واحد
فتزوجها الذي له ثمانية دنانير ومات عنها فصار لها الربع مما ترك وهو ديناران وصار
ما بقي بين الإخوة الثلاثة لكل واحد منهم ديناران فصار لصاحب الستة ثمانية دنانير
ولصاحب الثلاثة خمسة ولصاحب الدينار ثلاثة.
ثم تزوجها صاحب
الثمانية ومات عنها فورثت منه بحق الربع دينارين وصار ما بقي وهو ستة دنانير بين
أخويه لكل واحد منهما ثلاثة دنانير فصار للذي له خمسة دنانير ثمانية دنانير وللذي
له ثلاثة ستة ثم تزوجها صاحب
الثمانية ومات
عنها فورثت منه الربع دينارين وصار ما بقي لأخيه وهي ستة دنانير فحصل له بهذه
الستة مع الستة الأولى اثنا عشر دينارا.
ثم تزوجها وهو
الباقي من الإخوة وله اثنا عشر دينارا ومات عنها فورثت الربع ثلاثة دنانير فصار
جميع ما ورثته عنهم تسعة دنانير لأنها ورثت من الأول دينارين ومن الثاني دينارين
ومن الثالث دينارين ومن الرابع ثلاثة دنانير فذلك تسعة وهي نصف ما كانوا يملكونه
والباقي للعصبة كما قلنا.
خبر ضرار بن ضمرة
عند دخوله على معاوية
أخبرنا أبو المرجى
محمد بن علي بن أبي طالب قال أخبرني أبو المفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن
المطلب الشيباني الكوفي قال حدثني منصور بن الحسن بن أبي جلة بأنطاكية قال حدثنا
محمد بن زكريا بن دينار قال حدثنا العباس بن بكار عن عبد الواحد بن أبي عمرو
الأسدي عن محمد بن السائب عن أبي صالح مولى أم هاني
قال :
دخل ضرار بن ضمرة
الكناني على معاوية بن أبي سفيان يوما فقال له يا ضرار صف لي عليا قال أوتعفيني من
ذلك قال لا أعفيك قال :
أما إذ لا بد فإنه
كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه
وتنطق الحكمة عن لسانه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته
كان والله غزير
الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما
جشب.
كان والله معنا
كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه وكان مع دنوه لنا وقربه منا لا نكلمه
هيبة له.
فإن تبسم فعن مثل
اللؤلؤ النظيم يعظم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطلة ولا ييأس
الضعيف من عدله.
أشهد بالله لرأيته
في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه متماثلا في محرابه قابضا على
لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول يا دنيا يا دنيا أبي
تعرضت أم إلي تشوفت هيهات هيهات غري غيري لا حان حينك قد أبنتك ثلاثا عمرك قصير
وخيرك حقير وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية
على لحيته وجعل يستقبلها بكمه واختنق القوم جميعا بالبكاء وقال هكذا كان أبو الحسن
يرحمهالله فكيف وجدك عليه يا ضرار؟
فقال وجد أم واحد
ذبح واحدها في حجرها فهي لا يرقى دمعها ولا يسكن حزنها
فقال معاوية لكن
هؤلاء لو فقدوني لما قالوا ولا وجدوا بي شيئا من هذا.
ثم التفت إلى
أصحابه فقال بالله لو اجتمعتم بأسركم هل كنتم تؤدون عني ما أداه هذا الغلام عن
صاحبه؟
فيقال إنه قال
عمرو بن العاص الصحابة على قدر الصاحب.
تروى هذه الأبيات
عن أمير المؤمنين ع :
إذا كنت تعلم أن
الفراق
|
|
فراق الحياة
قريب قريب
|
وأن المعد جهاز
الرحيل
|
|
ليوم الرحيل
مصيب مصيب
|
وأن المقدم ما
لا يفوت
|
|
على ما يفوت
معيب معيب
|
وأنت على ذاك لا
ترعوي
|
|
فأمرك عندي عجيب
عجيب
|
وقال أمير
المؤمنين عليهم السلام :
ما زالت نعمة عن
قوم ولا غضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها إن الله (لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ).
بلغنا أن من كلام
الله تعالى الذي أنزله على بني إسرائيل :
أني أنا الله لا
إله إلا أنا ذو .. مفقر الزناة وتارك تاركي الصلاة عراة.
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
أحسنوا مجاورة
النعم لا تملوها ولا تنفروها فإنها قل ما نفرت عن قوم فعادت إليهم
.
وقال عليهم السلام
:
من قال قبح الله
الدنيا قالت الدنيا قبح الله أعصانا للرب.
وقال عليهم السلام
:
من عف عن محارم
الله كان عابدا ومن رضي بقسم الله كان غنيا ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلما
ومن صاحب الناس بالذي يحب أن يصاحبوه كان عدلا.
وقال عليهم السلام
:
من اشتاق إلى
الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن
المحرمات ومن زهد
في الدنيا هانت عليه المصيبات ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
فصل
مما جاء في الخصال :
قال رجل لأحد
الزهاد أوصني.
فقال أوصيك بخصلة
واحدة إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
ولقي حكيم حكيما
فقال له عظني وأوجز.
قال عليك بخصلتين
لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك.
قال زدني قال ما
أجد للحالين ثالثة.
قال حكيم الفرس :
ثلاث خصال لا
ينبغي للعاقل أن يضيعهن بل يجب أن يحث عليهن نفسه وأقاربه ومن أطاعه.
عمل يتزوده لمعاد
وعلم طب يذب به عن جسده وصناعة يستعين بها في معاشه.
وقال بعض الحكماء :
أربع خصال يمتن
القلب ترادف الذنب على الذنب وملاحاة الأحمق وكثرة مثاقبه النساء والجلوس مع
الموتى.
قيل له ومن الموتى؟
قال كل عبد مترف
فهو ميت وكل من لا يعمل فهو ميت.
وقال ابن عباس
رحمة الله عليه :
خمس خصال تورث
خمسة أشياء :
ما فشت الفاحشة في
قوم قط إلا أخذهم الله بالموت.
وما طفف قوم
الميزان إلا أخذهم بالسنين.
وما نقض قوم العهد
إلا سلط الله عليهم عدوهم.
وما جار قوم في
الحكم إلا كان القتل بينهم.
وما منع قوم
الزكاة إلا سلط الله عليهم عدوهم.
وقال لقمان الحكيم
لابنه في وصيته :
يا بني أحثك على
ست خصال ليس من خصلة إلا وهي تقربك إلى رضوان الله عزوجل وتباعدك من سخطه
الأولى أن تعبد
الله ولا تشرك به شيئا.
والثانية الرضا
بقضاء الله فيما أحببت وكرهت.
والثالثة أن تحب
في الله وتبغض في الله.
والرابعة تحب
للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك.
والخامسة تكظم
الغيظ وتحسن إلى من أساء إليك.
والسادسة ترك
الهوى ومخالفة الردى.
وقال بعضهم ذو
المروءة الكاملة من اجتمع فيه سبع خصال إذا ذكر ذكر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر
وإذا عصى غفر وإذا أحسن استبشر وإذا أساء استغفر وإذا وعد أنجز ويسر.
وقال بعض الحكماء :
تحصن بثمان من
ثمان :
بالعدل في المنطق
من ملالة الجلساء.
وبالروية في القول
من الخطأ.
وبحسن اللفظ من
البذاء.
وبالإنصاف من
الاعتداء.
وبلين الكف من
الجفاء.
وبالتودد من ضغائن
الأعداء.
وبالمقاربة من
الاستطالة.
وبالتوسط في
الأمور من لطخ العيوب.
وروي أن تسع خصال
من الفضل والكمال وهن داعيه إلى المحبة مع ما فيها من القربة والمثوبة :
الجود على المحتاج
والمعونة للمستعين وحسن التفقد للجيران وطلاقة الوجه للإخوان ورعاية الغائب فيمن
يخلف وأداء الأمانة إلى المؤتمن وإعطاء الحق في المعاملة وحسن الخلق عند المعاشرة
والعفو عند المقدرة.
وأوصى أفلاطون أحد
أصحابه بعشر خصال قال :
لا تقبل الرئاسة
على أهل مدينتك البتة.
ولا تتهاون بالأمر
الصغير إذا كان يقبل النماء.
ولا تلاح رجلا
غضبان فإنك تقلقه باللجاج.
ولا تجمع في منزلك
نفسين فيتنازعان في الغلبة.
ولا تفرح بسقطة
غيرك فإنك لا تدري متى يحدث الزمان بك.
ولا تنتفخ في وقت
الظفر فإنك لا تدري كيف يدور عليك الزمان.
ولا تهزل بخطإ
غيرك فإن المنطق لا تملكه.
وألق الخطأ من
الناس بنوع الصواب الذي في جوهرك
ولا تبذلن مودتك
لصديقك دفعة واحدة.
وصير الحق أبدا
أمامك تسلم دهرك ولا تزال حرا.
تأويل
آية
إن سأل سائل عن
تأويل قوله عزوجل :
(وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) يوسف : ١٨.
فقال كيف يصح وصف
الدم بالكذب والكذب من صفات الأقوال لا من صفات الأجسام؟
وما معنى قول
يعقوب عليهم السلام فصبر جميل وكيف وصفه بذلك ونحن نعلم أن صبره لا يكون إلا جميلا؟؟
الجواب
:
قيل له أما كذب
فمعناه في هذا الموضع مكذوب فيه وعليه مثل قولهم هذا ماء سكب وشراب صب يريدون
مسكوبا ومصبوبا.
وكقولهم رجل صوم
وامرأة نوح والمعنى صائم ونائحة قال الشاعر:
فظل جيادهم نوحا
عليهم
|
|
مقلدة أعنتها
صفوفا
|
أراد نائحة
ويقولون أيضا ما لفلان معقول يريدون عقلا قال الشاعر :
حتى إذا لم
يتركوا لعظامه
|
|
لحما ولا لفؤاده
معقولا
|
وقد قال الفراء
وغيره يجوز في النحو بدم كذبا بالنصب على المصدر وتقدير الكلام كذبوا كذبا.
وإنما كان دما
مكذوبا فيه لأن إخوة يوسف عليهم السلام ذبحوا سخلة ولطخوا قميص يوسف بدمها وجاءوا
أباهم بالقميص وادعوا أكل الذئب له فقال لهم يعقوب عليهم السلام يا بني لقد كان
هذا الذئب رفيقا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه وعند ذلك قالوا بل قتله اللصوص فقال
فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.
وقد قيل إنه كان
في قميص يوسف ثلاث آيات :
إحداهن حين جاءوا
إليه بدم كذب فتبينه أبوه على أن الذئب لو أكله لخرق قميصه.
والثانية حيث قد
قميصه من دبر.
والثالثة حين ألقي
على وجه أبيه (فَارْتَدَّ بَصِيراً).
وأما وصف الصبر
بأنه جميل فلأن الصبر قد يكون جميلا وغير جميل وإنما
يكون جميلا إذا
قصد به وجه الله تعالى فلما كان في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صح وصفه
بالجميل.
وقد قيل إنه أراد
صبرا لا شكوى فيه ولا جزع معه ولو لم يصفه بذلك لظن مصاحبة الشكوى والجزع له.
وقد قال أهل
العربية إن ارتفاع الصبر هاهنا إنما هو لأن المعنى فشأني صبر جميل والذي أعتقده
صبر جميل وقد أنشدوا :
شكا إلي جملي
طول السرى
|
|
يا جملي ليس إلي
المشتكى
|
صبر
جميل فكلانا مبتلى
|
معناه فليكن منك
صبر جميل وقد روي أن في قراءة أبي فصبرا جميلا بالنصب وذلك يكون على الإغراء
والمعنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا قال ذو الرمة :
ألا إنما مي
فصبرا بلية
|
|
وقد يبتلى الحر
الكريم فيصبر
|
تأويل
خبر :
إن سأل سائل فقال
ما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
إن الله تعالى خلق
آدم على صورته.
أوليس ظاهر هذا
الخبر يقتضي التشبيه له تعالى بخلقه فإن لم يكن على ظاهره فما تأويله.
الجواب
:
قلنا أحد الأجوبة
عن هذا أن تكون الهاء عائدة إلى الله تعالى والمعنى أنه خلقه على الصورة التي
اختارها وقد يضاف الشيء إلى مختاره.
ومنها أن تكون
الهاء عائدة إلى آدم ويكون المراد أن الله تعالى خلقه على صورته التي شوهد عليها
لم ينتقل إليها عن غيرها كتنقل أولاده الذين يكون أحدهم نطفة ثم علقة ثم مضغة
ويخلق خلقا من بعد خلق ويولد طفلا صغيرا
ثم يصير غلاما ثم
شابا ثم كهلا ولم يكن آدم عليهم السلام كذلك بل خلق على صورته التي مات عليها.
ومنها ما رواه
الزهري عن الحسن قال مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل من الأنصار وهو يضرب وجه
غلام له ويقول قبح الله وجهك ووجه من تشبهه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بئسما
قلت إن الله خلق آدم على صورته يعني صورة المضروب وهذه أجوبة صحيحة والحمد لله.
فصل :
من الاستدلال على صحة النص بالإمامة على
أمير المؤمنين عليهم السلام من قول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مني بمنزلة هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
اعلم أيدك الله
تعالى أن مما يدل على أن أمير المؤمنين عليهم السلام المنصوص بالإمامة عليه ما
نقله جميع الأمة وتلقاه بالقبول الخاصة والعامة من قول النبي صلى الله عليه وسلم له
عليهم السلام :
أنت مني بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
فأوجب له جميع
منازل هارون من موسى عليهم السلام إلا ما خصه العرف من الإخوة واستثناه هو عليهم
السلام من النبوة وذلك موجب له الخلافة والإمامة وكاشف عن استحقاقه على الكافة فضل
الطاعة.
واعلم أنك تسأل في
هذا الدليل عن خمسة مواضع أولها أن يقال لك ما حجتك على صحة الخبر في نفسه وما
الذي يدفع به إنكار من أنكره؟؟
وثانيها أن يقال
لك إذا ثبت الخبر فما الحجة على أن المراد بمنزلة
هارون من موسى
عليهم السلام المذكورة فيه عموم ما يستحقه منه سوى ما ذكرتموه وما أنكرتم أن يكون
منزلة واحدة وهي التفضيل المزيل لإرجاف المنافقين في قولهم إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قلاه لما خلفه في غزاة تبوك.
وثالثها أن يقال
لك إذا ثبت العموم فمن أي وجه استنبطت من ذلك النص بالإمامة ووجوب الخلافة لأمير
المؤمنين عليهم السلام؟
ورابعها أن يقال
لك إذا ثبت له به الخلافة فما الحجة على أنه أراد استحقاقه لها بعده وما أنكرتم أن
يكون قصد أنه خليفته في حياته فقط كما أن هارون إنما خلف موسى في حياته فقط؟؟
وخامسها أن يقال
لك إذا ثبت له بذلك الخلافة بعده فما الحجة على أنه أراد بذلك الفور فيكون خليفة
الذي يليه دون التراخي فيكون خليفة بعد عثمان؟؟
الجواب عن السؤال
الأول :
أما الحجة على صحة
هذا الخبر في نفسه فهي الحجة على صحة خبر الغدير بعينه لمماثلته له في الظهور
والانتشار وتواتر الشيعة به تواترا يقطع الأعذار ورواية أكثر أصحاب حديث العامة له
في الصحيح عندهم من مسند الأخبار وتلقي الكافة له مع ذلك بالتسليم والإقرار فمن
شيعي يحتج به وناصبي يتأوله وليس بينهما دافع له.
ومن قبل ذلك
فاحتجاج أمير المؤمنين عليهم السلام في يوم الشورى وغيره لم ينكره أحد ممن سمعه.
وكل هذا قد سلف
ذكره في خبر الغدير فلا حاجة إلى إعادته وهو أوضح حجة على ثبوت الخبر وصحته.
الجواب عن السؤال
الثاني :
وأما الحجة على
أنه أراد بقوله أنت مني بمنزله هارون من موسى جميع منازله منه على العموم وإن عبر
عن ذلك بلفظ التوحيد إلا ما استثناه العرف والقول فهو أنا وجدنا الناس في هذا
الخبر على فرقتين لا ثالث لهما.
أحدهما يذهب إلى
أن المراد به منزلة واحدة على التحقيق وتدعي أن السبب في ذلك ما روي في غزاة تبوك
وهي نفر يسير.
والفرقة الأخرى
تذهب إلى عموم القول لجميع المنازل إلا ما خصصه الدليل وهو قول الشيعة وأكثر
الخصوم.
وإنما أنكر هؤلاء
المخالفون المعترفون بأن الخبر يقتضي العموم أن يكون موجبا لخلافة أمير المؤمنين
بعد الرسول عليهم السلام من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد موسى عليهم
السلام كان خليفة له ولم يهتدوا في الخبر إلى دليل على أنه أراد الاستخلاف من بعده
وإن كان منهم من قد علم ذلك ولكن جذبه الهوى فأصر على الإنكار وعاند.
وإذا لم يكن في
الخبر غير هذين القولين فلا شك في أنه متى فسد قول من ادعى فيه الخصوص علم صحة قول
من ذهب إلى العموم.
والذي يدل على
فساد قول من قصره على منزلة واحدة وجود الاستثناء الظاهر فيه الذي لا يصح إيراده
إلا والمستثنى منه أكثر من واحد لأن الاستثناء هو إخراج بعض من جملة لو لم يستثن
لدخل فيها والخصلة الواحدة لا يصح هذا فيها.
ألا ترى أنه لا
يحسن أن يقال رأيت زيدا إلا عمرا ويحسن أن يقال رأيت القوم إلا عمرا فعلم بهذا
فساد مقال من قصر الخبر على منزلة واحدة.
فأما ما تعلقوا به
من أن السبب في ذلك ما جرى في غزاة تبوك فغير صحيح لأنا عالمون بصحة الخبر ولسنا
نعلم صحة ما ذكروه كعلمنا بالخبر فلا طريق لنا إلى تخصيص المعلوم بما ليس بمعلوم.
على أن الروايات
قد اتصلت واشتهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال لأمير المؤمنين عليهم
السلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى في مواقف عدة وأماكن كثيرة وأوقات متفرقة
فيجوز أن يكون غزاة تبوك أحدها ولكنه لا سبيل لنا إلى قصره عليها وإن كنا متى
خصصناه بها لم يكن منا ما ظنه المخالف من أن الخبر دال على فضيلة المحبة فقط لا
يستحيل أن تكون هي السبب فيقول
رسول الله صلى
الله عليه وسلم قولا يقتضيه ويتضمن عديدة ويزيد عليه فيكون بما قاله قد أعلم
المرجفين أنه ما قلاه وأن منزلته عنده في المحبة والفضل وعلو القدر والخلافة له في
حياته وبعد وفاته نظير هارون من موسى عليهم السلام وهذا مستمر غير مستحيل.
وأما ما ورد الخبر
به بلفظ التوحيد في قوله منزلة هارون من موسى ولم يقل منازل هارون فقد جرت العادة
بمثل ذلك من إيراد القول مضمنا ذكر منزلة والمراد عدة منازل فيقولون منزلة فلان من
الأمير كمنزلة فلان وهم يشيرون إلى عدة أحوال من منازل مختلفة وأسباب ولا يكاد
يقولون منازل فلان من الأمير كمنازل فلان.
وإنما استعملوا
لفظ التوحيد في هذا المكان من حيث اعتقدوا أن المنازل الكثيرة والرتب المختلفة قد
حصل جميع ذلك له كالمنزلة الواحدة التي هي جملة وإن تفرعت إلى أشياء عدة فعبروا
عنها بلفظ التوحيد اتساعا لهذه العلة.
الجواب عن السؤال
الثالث :
وأما الوجه الذي
علم منه دلالة الخبر على الخلافة والحجة في أنه نص على أمير المؤمنين عليهم السلام
بالإمامة فهو أن منازل هارون من موسى عليهم السلام معروفة وقد حصل عليها الإجماع
ونطق بها القرآن.
فمنها أنه كان أخا
بالولادة وكان أحب الخلق إليه وأفضلهم لديه.
وكان شريكه في
النبوة والرسالة.
وكان عضده الذي شد
الله تعالى به أزره قال الله جل اسمه :
(وَاجْعَلْ لِي
وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي) طه : ٢٩.
وكان خليفته على قومه
عند غيبته قال الله تعالى :
(وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ)
الأعراف : ١٤٢.
فلما قال النبي
صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين عليهم السلام إنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي علمنا أنه أراد جميع ما كان لهارون من موسى عليهم السلام من
المنازل إلا ما أخرجه الاستثناء وأخرجه أيضا العرف من أخوة الولادة واتضحت الحجة
في أن أمير المؤمنين عليهم السلام أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلهم
عنده وأنه عضده الذي شد الله به أزره ووزيره في أمره وخليفته في أمته وهذا بين لمن
تدبره.
الجواب عن السؤال
الرابع :
اعلم أن الكلام في
هذا السؤال هو معظم ما يدور بينك وبين المخالفين إذا استدللت بهذا الخبر وفي إحكام
هذا الجواب عنه حسم مادة ما يوردونه عليك من العتب والشغب لأنهم أبدا يقولون إذا
ثبت لكم بهذا الخبر الاستخلاف فما الدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد
به استخلاف أمير المؤمنين عليهم السلام في حياته وبعد مماته دون أن يكون مراده قصر
هذا الأمر على أيام حياته فقط ويقولون هذا أشبه لأن خلافة هارون لموسى عليهم
السلام لم تكن إلا في حياة موسى.
ولو أراد بذلك
النص على خلافته له من بعده لقال أنت مني بمنزلة يوشع من موسى لأن خلافة موسى
عليهم السلام من بعده كانت ليوشع دون غيره فعن هذا جوابان :
أحدهما في قوله
أنت مني بمنزلة هارون من موسى فوائد لا يحصل مثلها لو قال أنت مني بمنزلة يوشع من
موسى فإنه يدل على أن أمير المؤمنين عليهم السلام أعلى الناس قدرا
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه تاليه في الفضل والعلم كما كان هارون من
موسى عليهم السلام وكان خليفته في حياته إذا غاب ولو بقي بعد موسى لكان أحق
بخلافته من يوشع.
فجمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين عليهم السلام بقوله أنت مني بمنزلة هارون من
موسى هذه الخصال
فهو أعلى الناس قدرا ومحلا وهو تاليه في العلم والفضل وخليفته في حياته.
ولما بقي بعده كان
أحق الناس بخلافته ولو قال له أنت بمنزلة يوشع من موسى لم يعطه من جميع ما ذكرناه
إلا الخلافة من بعده فقط ولم يبق بعد هذا أكثر من أن نبين أن هارون لو بقي بعد
موسى كان أحق بالخلافة من يوشع.
والذي يدل على ذلك
أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بقوله تعالى (وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) وفي ثبوتها له في حال حياته وجوب حصولها له لو بقي بعد
وفاته لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حط له عن رتبة عالية كان عليها
وصرف له عن ولاية عظيمة فوض إليه الأمر فيها وذلك يقتضي الضعة منه وغاية التنفير
عنه لأنه خلافة النبوة ليست كالخلافة على قرية ومدينة وإنما هي النيابة عن النبي
عليهم السلام في جميع ما كان يتولاه من أمر الأمة والقيام مقامه في إصلاح أمور
الكافة من تعليمهم وتهذيبهم ووعظهم وتأديبهم وزجرهم وتخويفهم وتوقيفهم وتعريفهم.
وهذا يقتضي التدين
بفرض طاعته وغاية التبجيل والتعظيم له فمتى حط عن هذه المرتبة بعد كونه عليها
وأنزل عن درجة الخلافة التي رقى إليها زال ما كان له في النفوس من التبجيل
والتعظيم وفي ذلك ما ذكرناه من غاية التنفير.
ومن ذا الذي تكون
نفسه ساكنة إلى قبول وعظ خليفة يعلم أو يجوز أنه سينحط عن رتبة الخلافة إلى أن
يصير رعية ويهبط عن درجة الإمامة إلى أن يحصل من أحد الأمة كسكونها إلى من لا يجوز
ذلك عليه؟
بل كيف يصح من
التابعين غاية التبجيل والتعظيم لمن يعلمون من حاله أو يجوزون ذلك من أمره أنه
سيتأخر بعد مقامه ويصير لمن كان من أتباعه ومتعلما ممن كان يعلمه ومقتديا بمن كان
يقتدى به حتى يسقط ما كان يلزم الناس من فرض طاعته ويصير هو وهم طائعين لمن كان من
جملة المطيعين له.
ومن دفع أن يكون
الخروج من هذه المنزلة منفرا كمن دفع أن تكون القباحة في الخلق والدمامة المفرطة
في الصور منفرا.
وقد أجمع معنا
خصومنا من المعتزلة على أن الله تعالى يجنب أولياءه وأنبياءه عليهم السلام جميع
هذا.
فبان بما ذكرنا أن
منزلة هارون من موسى عليهم السلام منزلة لا يجوز خروجه عنها ما دام حيا وأنه لو
بقي بعد موسى لكان أحق بها من يوشع وأولى.
وفي ذلك دليل على
أن أمير المؤمنين عليهم السلام يستحقها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته
وبعد وفاته لبقائه بعده.
وليس موت هارون في
حياة موسى عليهم السلام بمانع لأمير المؤمنين عليهم السلام مما هو مستحقه ببقائه.
ألا ترى أن رجلا
لو قال لوكيل له أجر على عبدي الرومي في كل يوم جرابة وفي كل شهر صلة ثم قال بعد
ذلك أن منزلة عبدي الحبشي عندي كمنزلة ذلك الرومي فأجره مجراه واجعل له من الجاري
والصلة نظير ما جعلت له ثم مات الرومي فمعلوم أن موته لا يقطع جرابة الباقي ولا
يحرمه صلته.
هذا ما لا يدفعه
أحد ولا ينكره.
فإن قال الخصم
فيلزمك على هذه الطريقة أن نقول إن طاعة أمير المؤمنين عليهم السلام كانت مفترضة
على الأمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل له كذلك نقول
ولكن بشرط غيبته وأما عند حضور النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز أن تكون
الطاعة واجبة إلا له وهذا حكم الخليفة في المتعارف والعادة.
الجواب الثاني عن
هذا السؤال :
أن النبي صلى الله
عليه وسلم قد أوضح مراده في كلامه لمن فهم وأبان عن قصده من قوله لمن علم.
وذلك أنه أتى
بجملة أوجب منها لأمير المؤمنين عليهم السلام ما أراده واستثنى
منها ما لم يرده
وعلق ذلك بوقت نفى عنه فيه ما نفى فوجب أن يكون هذا له فيه ما أوجب.
ولا يجوز أن يتضمن
الكلام استثناء ويكون مقيدا بوقت إلا وهو وقت المنفي منه والموجب.
مثال ذلك قول
القائل قام القوم إلا زيدا اليوم فلا يجوز أن يكون اليوم إلا وقتا للحالين ففيه
قام القوم وفيه بعينه لم يقم زيد ولو لا أن الأمر كما ذكرناه لم يحسن الاستثناء
وذكر الوقت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أوجبه لأمير المؤمنين عليهم
السلام من منازل هارون من موسى عليهم السلام إلا أنه لا نبي بعدي فعلمنا أن جميع
ما أثبته له مما استحقه هارون من موسى في حياته وهو مثبت له من بعده لأنه الوقت
الذي قرنه بالاستثناء.
ولو كان الأمر على
ما ذكره الخصم من أنه أراد بذلك أيام حياته لقال أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي معي أو لا نبي في حياتي وفي نفيه لما لم يرده بعده دليل على أنه قد
أثبت له ما أراده بعده والحمد لله.
فإن قال الخصم ما
تنكرون من أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم بقوله إلا أنه لا نبي بعدي إنما هو
بعد كوني نبيا وذلك يقتضي حال الحياة.
قلنا أنكرنا ذلك
من قبل أن لفظة بعد إذا خرجت مخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم أوجبت بالعرف
والعادة حال الوفاة التي هي بعد الحياة دون أن يوجب حالا في الحياة.
ألا ترى إلى قوله
صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين :
تقاتل بعدي
الناكثين والقاسطين والمارقين
وقوله ستغدر بك
الأمة من بعدي.
وقوله ستفرق
كلمتكم من بعدي.
وقوله :
ألا لا ترجعن بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
كل ذلك يفيد بعد
وفاتي.
وكذلك قول القائل
فلان وصيي من بعدي والقائم مقامي من بعدي.
فإن المعنى فيه
بعد موتي وهذا يبطل ما ظنه الخصم.
على أنه لو سلم له
ما ادعاه وبلغ منه مناه لم يخرج عن الحق الذي قصدناه لأن نفي النبوة بعده ينتظم
بعد كونه نبيا في حياته وبعد وفاته وإلى آخر الأبد.
وما ثبت لأمير
المؤمنين عليهم السلام في متضمن اللفظ من المنازل التي لم تنتف بنفي النبوة يجب أن
يثبت له في سائر أحوال النفي حتى يكون خليفته في حياته في كل حال غاب فيها عن أمته
وخليفته من بعده ما دامت حياته صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لمن تأمله.
الجواب عن السؤال
الخامس :
وأما الحجة على أن
الخلافة الواجبة لأمير المؤمنين عليهم السلام بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا الخبر تجب له بعده بغير فصل دون أن يكون المراد بذلك وجوبها له بعد عثمان فهي
واضحة من وجوه :
أحدها أنا قد بينا
استحقاقه للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر وأنه القائم بعده
مقام هارون بعد موسى عليهم السلام وأقمنا الدليل على أن هارون لو بقي لكان خليفة
لموسى من بعده يليه بغير فصل.
والوجه الثاني أن
قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر إلا أنه لا نبي بعدي قد أفاد أنه الخليفة
بعده بما قدمنا بيانه وقد علمنا أن نفيه للنبوة بعده لا يتخصص بزمان دون زمان بل
يعم جميع الأوقات والأحوال فيجب أن يكون الثابت لأمير المؤمنين عليهم السلام في
الخبر عاما بعده في جميع الأوقات غير مخصص بحال دون حال فهو الخليفة بعده على
الفور وما اتصل ببقائه الزمان وقد تقدم هذا القول على البيان وإنما أعدناه لأنه
جواب عن هذا السؤال.
الوجه
الثالث :
أن الناس في إمامة
أمير المؤمنين عليهم السلام طائفتان :
فإحداهما تقول إن
الخلافة إنما وجبت له بعد عثمان باختيار الأمة له ولم
تجب له بهذا الخبر
ولا بغيره من الأخبار وإن النص عليه المتضمن كونه خليفة بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يكن في حال من الأحوال.
والطائفة الأخرى
تقول إن الإمامة لا تجب لأحد إلا بالنص دون الاختيار وإن هذا الخبر من جملة النصوص
على أمير المؤمنين بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه أول خلفائه
ومتقدم أوصيائه وتدبيره يلي تدبيره وإمامته بعد وفاته بغير فصل بينه وبينه.
وليس في الأمة من
يذهب إلى غير هذين القولين وفي ثبوت الخبر وضوح ما تضمنه من النص على أمير
المؤمنين عليهم السلام بالإمامة واستحقاقه لذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة
على بطلان مقال من ذهب إلى الاختيار فلم يبق إذن إلا قول أصحاب النص الذين يعتقدون
أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فصل وهذا مغن لمن كان له عقل
والحمد لله.
فصل :
من الحديث المسند
في نقل العامة الشاهد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأمير المؤمنين عليهم
السلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى في أوقات عدة وأحوال مختلفة غير المذكور في
غزاة تبوك.
حدثني القاضي أبو
الحسن أسد بن إبراهيم بن كليب السلمي الحراني بمدينة الرملة في سنة عشر وأربعمائة
قال أخبرني الخطيب أبو حفص عمر بن علي بن الحسن العتكي قال قرأت على محمد بن
إبراهيم السمرقندي حدثنا محمد بن عبد الله بن حكيم قال حدثنا سفيان بن بشر الأسدي
قال حدثنا علي بن هاشم عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع
أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بني عبد المطلب في الشعب وهم يومئذ أربعون رجلا.
قال فجعل لهم علي
عليهم السلام فخذا من شاة ثم ثرد لهم ثريدة وصب عليها
المرق وترك عليها
اللحم وقدمها فأكلوا منها حتى شبعوا ثم سقى عسا واحدا فشربوا كلهم منه حتى رووا
فقال أبو لهب والله إن منا لنفرا يأكل الرجل منهم الجفنة ويشرب الفرق وما يرويه
وإن هذا الرجل دعانا على رجل شاة وعس من لبن فشبعنا وروينا منها إن هذا هو السحر
المبين.
ثم دعاهم فقال إن
الله عزوجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ورهطي المخلصين وإن الله
تعالى لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووارثا ووزيرا ووصيا وخليفة في أهله.
فأيكم يبايعني على
أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي.
فسكت القوم فأعاد
الكلام عليهم ثلاث مرات وقال والله ليقومن قائمكم أو يكون في غيركم ثم لتذمن.
قال فقام علي
عليهم السلام وهم ينظرون كلهم إليه فبايعه وأجابه إلى ما دعاه فقال له أدن مني
فدنا منه فقال افتح فاك ففتح فاه فمج فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وتفل بين قدميه.
فقال أبو لهب بئس
ما حبوت به ابن عمك إذ جاءك فملأت فاه بزاقا.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم مليء حكمة وعلما وفهما.
فقال لأبي طالب
ليهنئك أن تدخل اليوم في دين ابن أخيك وقد جعل ابنك مقدما عليك.
وحدثني القاضي
السلمي رحمهالله قال أخبرني أبو حفص العتكي قال حدثني سعيد بن محمد الحافظ
قال أخبرني أبو حصين محمد بن الحسين الكوفي
قراءة قال حدثنا
عبادة بن زياد الأزدي قال حدثنا كادح بن جعفر العابد عن عبد الله لهيعة عن عبد
الرحمن بن زياد الإفريقي عن مسلم بن يسار عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال
لما قدم علي عليهم
السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح خيبر قال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم لو لا أن تقول فيك طائفة من أمتي ما قالت النصارى في المسيح ابن مريم
لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بملإ إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ومن فضل طهورك
فاستشفوا به ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك وترثني وأرثك وأنت مني بمنزلة هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وأنك تبرئ ذمتي وتقاتل على سنتي وأنت غدا في الآخرة
أقرب الناس مني وأنك أول من يرد علي الحوض وأنك على الحوض خليفتي وأنك أول من يكسى
معي وأنك أول داخل الجنة من أمتي وأن شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي
أشفع لهم ويكونون غدا في الجنة جيراني وأن حربك حربي وسلمك سلمي وأن سريتك سريرتي
وعلانيتك علانيتي وأن ولدك ولدي وأنك منجز عداتي وأنك على الحوض وليس أحد من الأمة
يعدلك عندي وأن الحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك وأن الإيمان خالط لحمك ودمك
كما خالط لحمي ودمي وأنه لا يرد على الحوض مبغض لك ولن يغيب عنه محب لك
حتى يرد علي الحوض معك يا علي.
فخر علي عليهم
السلام ساجدا ثم قال الحمد لله الذي من علي بالإسلام وعلمني القرآن وحببني إلى خير
البرية خاتم النبيين وسيد المرسلين إحسانا منه إلي وفضلا منه علي.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يا علي لو لا أنت لم يعرف المؤمنون من بعدي.
وحدثني القاضي
السلمي قال أخبرني العتكي قال أخبرني محمد بن أحمد بن صفوة المصيصي قال حدثنا
الحسن بن علي العلوي قال حدثنا الحسن بن
حمزة النوفلي قال
حدثنا سليمان بن جعفر الهاشمي قال حدثنا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن
علي بن أبي طالب عليهم السلام قال :
آخى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين أصحابه فقلت يا رسول الله آخيت بين أصحابك وتركتني فردا لا أخ
لي.
فقال إنما أخرتك
لنفسي أنت أخي في الدنيا والآخرة وأنت مني بمنزلة هارون من موسى.
فقمت وأنا أبكي من
الجذل والسرور فأنشأت أقول :
أقيك بنفسي أيها
المصطفى الذي
|
|
هدانا به الرحمن
من عمه الجهل
|
وأفديك حوبائي
وما قدر مهجتي
|
|
لمن أنتمي معه
إلى الفرع والأصل
|
ومن جده جدي ومن
عمه أبي
|
|
ومن أهله ابني
ومن بنته أهلي
|
ومن ضمني إذ كنت
طفلا ويافعا
|
|
وأنعشني بالبر
والعل والنهل
|
ومن حين آخى بين
من كان حاضرا
|
|
دعاني فآخاني
وبين من فضلي
|
لك الخير إني ما
حييت لشاكر
|
|
لإحسان ما أوليت
يا خاتم الرسل
|
وحدثني أيضا
القاضي أبو الحسن السلمي رحمهالله قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الحنظلي البابسيري بواسط
قال حدثني عبد الله بن أحمد بن عامر قال حدثنا أبو العباس محمد بن يونس قال حدثنا
أحمد بن مغا كذا قال حدثنا الأردبيلي قال حدثنا محمد بن يعقوب ومعاذ بن حكيم عن
عبد الرزاق بن همام عن معمر عن الزهري عن عوف بن مالك المازني عن ابن عباس قال :
رأيت أبا ذر
الغفاري متعلقا بحلقة ببيت الله الحرام وهو يقول :
يا أيها الناس من
عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته باسمي أنا جندب الربذي الغفاري
__________________
إني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في العام الماضي وهو آخذ بهذه الحلقة وهو يقول :
أيها الناس لو
صمتم حتى تكونوا كالأوتار وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ودعوتم حتى تقطعوا إربا إربا
ثم بغضتم علي بن أبي طالب أكبكم الله في النار قم يا أبا الحسن فضع خمسك في خمسي
يعني كفك في كفي فإن الله اختارني وإياك من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها فمن قطع
فرعها أكبه الله على وجهه في النار علي سيد المرسلين وإمام المتقين يقتل الناكثين
والمارقين والجاحدين علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
وحدثني الشيخ
الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي رضي الله عنه بمكة في المسجد الحرام
سنة اثنتي عشرة وأربعمائة قال حدثنا القاضي المعافى بن زكريا الجريري إملاء من
حفظه قال حدثنا محمد بن مزيد قال حدثنا أبو كريب محمد بن العلا قال حدثنا إسماعيل
بن صبيح قال حدثنا أبو إدريس قال حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي ولو كان لكنته.
ومما رواه السلمي
أيضا وكتبه لي عن الحنظلي البابسيري قال حدثنا محمد بن خلف قال حدثنا محمد بن
سليمان البافيدي قال حدثنا جعفر بن عمر الإيلي قال حدثنا أربعة ابن أبي ذويب
وإبراهيم بن سعد ويزيد بن عياض الليثي ومالك بن أنس قالوا حدثنا الزهري عن سعيد بن
المسيب أنه قال لسعد :
هل سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب حين خرج إلى غزاة تبوك إن المدينة لا
تصلح إلا بي أو بك وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
قال نعم. وقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة في غزاته هذه غير مرة.
والأخبار المروية
في هذا المعنى كثيرة في نقل الخاصة والعامة وفيما أوردته كفاية والله أعلم والحمد
لله.
فصل من آداب أمير
المؤمنين عليهم السلام وحكمه
المرء حيث يجعل
نفسه.
من دخل مداخل
السوء اتهم.
من عرض نفسه
للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن.
أكثر من شيء عرف
به.
من مزح استخف به.
من اقتحم البحر
غرق.
المزاح يورث
العداوة.
من عمل في السر
عملا يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده من قدر.
ما ضاع امرؤ عرف
قدره.
اعرف الحق لمن
عرفه لك رفيعا كان أم وضيعا.
من تعدى الحق ضاق
مذهبه.
من جهل شيئا عاداه.
أسوأ الناس حالا
من لم يثق بأحد لسوء ظنه ولم يثق به أحد لسوء فعله.
لا دليل أنصح من
استماع الحق.
من نظف ثوبه قل
همه.
الكريم يلين إذا
استعطف واللئيم يقسو إذا لوطف.
حسن الاعتراف يهدم
الاقتراف.
أخر الشر فإنك إذا
شئت تعجلته.
أحسن إذا أحببت أن
يحسن إليك.
إذا جحد الإحسان
حسن الامتنان.
العفو يفسد من
اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم.
من بالغ في
الخصومة أثم ومن قصر عنها خصم.
لا تظهر العداوة
لمن لا سلطان لك عليه
فصل :
قال شيخنا المفيد رحمهالله :
أحد عشر شيئا من الميتة
التي تقع عليها الذكاة حلال.
وهي الشعر والوبر
والصوف والريش والسن والعظم والظلف والقرن والبيض واللبن والإنفحة.
وعشرة أشياء من
الحي الذي تقع عليه الذكاة حرام وهي الفرث والدم والقضيب والأنثيين والحيا والرحم
والطحال والأشاجع وذات العروق.
قال ويكره أكل الكليتين
لقربهما من مجرى البول وليس أكلها حراما.
فصل :
أملى علي شيخي رحمهالله :
أن في الرأس
والجسد أربع فرائض وعشر سنن.
ففريضتان في الرأس
وهما غسل الوجه في الوضوء والمسح بالرأس.
وفريضتان في الجسد
وهما غسل اليدين ومسح الرجلين.
وأما السنن فهي
سنن إبراهيم الخليل عليهم السلام وهي الحنيفية خمس منها في الرأس وهي فرق الشعر
لمن كان على رأسه شعر وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق.
وخمس منها في
الجسد وهي الختان وقص الأظافير ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء.
قضية لأمير
المؤمنين ع :
روي أن امرأة علقت
بغلام فراودته عن نفسه فامتنع عليها فقالت والله لئن لم تفعل لأفضحنك فلم يفعل
فأخذت بيضة فألقت بياضها على ثوبها
وتعلقت به
واستغاثت بأمير المؤمنين عليهم السلام وقالت يا أمير المؤمنين إن هذا الغلام
كابرني على نفسي وقد أصاب مني وهذا ماؤه على ثوبي.
فسأله أمير
المؤمنين عليهم السلام فبكى وقال والله يا أمير المؤمنين لقد كذبت وما فعلت شيئا
مما ذكرت.
فوعظها أمير
المؤمنين فقالت والله لقد فعل وهذا ماؤه.
فقال أمير
المؤمنين عليهم السلام علي بقنبر فجيء به فقال له مر من يغلي ماء حتى تشتد حرارته
وصوبه إلي.
فلما أتي بالماء
الحار أمر أن يلقى على ثوبها فانسلق بياض البيض وظهر أمره فأمر رجلين من المسلمين
أن يطعماه ويلفظاه ليقع اليقين به ففعلا فرأيا بيضا فخلى الغلام وأمر بالمرأة
فأوجعها أدبا.
مسألة في المني
ونجاسته ووجوب غسل الثوب منه
إن سأل سائل فقال
ما الحكم عندكم في المني فهل هو طاهر أم نجس؟؟
قيل له المني نجس
يجب غسل ما أصاب الثوب منه وإن كان قليلا ولا تجوز الصلاة في ثوب فيه شيء منه سواء
كان رطبا أو يابسا.
فإن قال ما الدليل
على ذلك؟
قيل له نقل الشيعة
بأسرهم على كثرتهم واستحالة التواطؤ على ذلك منهم والخبر يتواتر بنقل بعضهم وقد
روى جميعهم ما ذكرناه عن سلفهم عن أئمتهم عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جدهم وفي هذا الدليل غنى عن غيره.
وبعد ذلك فقد
نستدل بما روى عمار بن ياسر رحمهالله أنه قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أغسل من
ثوبي موضعا ،
فقال ما تصنع يا
عمار؟
فقلت يا رسول الله
نخمت نخامة فكرهت أن تكون في ثوبي فغسلتها.
فقال يا عمار وهل
نخامتك ودموع عينيك وما في أدواتك إلا سواء إنما يغسل الثوب من البول أو الغائط أو
المني.
ووجوب غسل الثوب
منه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاف الطاهر إلى الطاهر والنجس إلى النجس
فلو كان المني طاهرا لا يغسل الثوب منه لأضافه إلى ما ميزه بالطهارة ولم يخلطه بما
قد علم منه النجاسة التي أوجب غسل الثوب منها في الشريعة.
فإن قال السائل
خبركم هذا الذي رويتموه عن عمار غير سالم لأنه قد عارضه خبر عائشة وقولها إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأنا أفرك الجنابة من ثوبه.
وفي صلاة النبي
صلى الله عليه وسلم بها وهي في ثوبه دلالة على طهارتها.
قيل له هذا غير
صحيح لما
روي من أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان له بردان معزولان للصلاة لا يلبسها إلا فيها.
وكان يحث أمته على
النظافة ويأمرهم بها وإن من المحفوظ عنه في ذلك قوله :
إن الله يبغض
الرجل القاذورة.
قيل وما القاذورة
يا رسول الله؟
قال الذي يتأفف به
جليسه.
ومن يكون هذا قوله
وأمره لا يجلس والمني في ثوبه فضلا عن أن يصلي وهو فيه.
وليس يشك العاقل
في أن المني لو لم يكن من الأنجاس المفترض إماطتها لكان من الأوساخ التي يجب
التنزه عنها.
وفيما صح عندنا من
اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في النظافة وكثرة استعماله للطيب على ما أتت
به الرواية دال على بطلان خبر عائشة.
وشيء آخر وهو أن
عمارا رحمهالله قد اجتمعت الأمة على صحة إيمانه واتفقت على تزكيته وعائشة
قد اختلف فيها وفي إيمانها ولم يحصل الاتفاق
على تزكيتها
فالأخذ بما رواه عمار رضي الله عنه أولى.
وشيء آخر وهو أن
خبر عمار يحظر الصلاة في ثوب فيه مني أو يغسل وخبر عائشة يبيح ذلك والمصير إلى
الحاظر من الخبر أولى وأحوط في الدين وشيء آخر وهو أن عمارا رضي الله عنه حفظ قولا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه وعائشة لم تحفظ في هذا قولا وإنما أخبرت عن
فعلها وقد يجوز أن يكون توهمت أن في ثوبه جنابة أو رأت شيئا شبيها بها هذا مع
تسليمنا لخبرها فروت بحسب ظنها.
ثم يقال للخصم إذا
كانت الجنابة عندك طاهرة يجوز الصلاة فيها فلم فركتها عائشة واجتهدت في قلعها فألا
تركتها كما تركها عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيها؟
فإن قال السائل
إذا كان المني نجسا فكيف خلق الله تعالى منه الطاهرين من الأنبياء المصطفين
والعباد الصالحين؟
قيل له هذا السؤال
عائد على سائله وهو أن يقال له إذا كان المني طاهرا فكيف خلق الله تعالى النجسين
من الفراعنة والشياطين والكفار والمشركين؟
وبعد فالمني جسم
ونجاسته عرض والأعراض تنتقل وقد رأينا نجسا صار طاهرا وطاهرا عاد نجسا.
ولو قال للخصم
قائل إذا كان الدم نجسا فكيف جعله الله تعالى قوام جسم المؤمن وصحة كونه حيا.
وإذا كانت العذرة
نجسة فكيف حملها المؤمن واستقرت في جسمه والسؤال عن هذه المواضع ساقط لا معنى له.
فصل :
جاء في الحديث أن
قوما أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له ألست رسولا من الله تعالى
قال لهم بلى قالوا له وهذا القرآن الذي أتيت به كلام الله تعالى قال نعم قالوا
فأخبرنا عن قوله
(إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ)
إذا كان معبودهم
معهم في النار فقد عبدوا المسيح عليهم السلام أفنقول إنه في النار؟
فقال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل القرآن علي بكلام العرب والمتعارف في لغتها
وعند العرب أن ما لما لا يعقل ومن لمن يعقل والذي يصلح لهما جميعا فإن كنتم من
العرب فأنتم تعلمون هذا قال الله تعالى (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ) يريد الأصنام التي عبدوها وهي لا تعقل والمسيح عليهم
السلام لا يدخل في جملتها لأنه يعقل.
ولو قال إنكم ومن
تعبدون لدخل المسيح عليهم السلام في الجملة فقال القوم صدقت يا رسول الله
.
وفي هذا الخبر
دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحاج ويناظر ويعارض ويفصل ويوضح
الجواب لسائله ويثبت الحجة على خصمه ولا يدعو إلى التقليد بل يوضح التقليد بإقامة
الدليل.
فإن قال قائل إذا
كان الذين عبدوا الأصنام في شركهم وكفرهم فلأي وجه تكون الأصنام في النار معهم وهي
لم تكفر ولا يصح أن يعذب أيضا ما ليس بحي.
قلنا إن المراد
بذلك أن يرى العابدون لها أنها لم تغن عنهم شيئا وأنها بحيث هم لا تدفع عن أنفسها
لو كانت حية قادرة ولا عنهم.
وعلى هذا المعنى
يتأول قوله سبحانه :
(وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ)
بأنها الحجارة
التي عبدوها وهي الأصنام قال الله تعالى حكاية عن أهل النار :
(لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ)
سؤال عن آيات
إن سأل سائل فقال
ما معنى قول الله تبارك وتعالى :
(ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ
مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) هود : ١٠٣ ـ ١٠٤
وقوله تعالى في
موضع آخر :
(هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦.
وقال في موضع آخر :
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الصافات : ٢٧ والطور
: ٢٥.
وظاهر هذه الآيات
مختلف لأن بعضها ينبئ عن أن النطق لا يقع منهم في ذلك اليوم ولا يؤذن لهم فيه.
وبعضها ينبئ عن
خلافه :
فالجواب أنه تعالى
إنما أراد بما نفاه نفي النطق المسموع المقبول الذي يكون لهم فيه حجة أو عذر ولم
ينف الذي ليست هذه حاله.
ويجري هذا المجرى
قولهم خرس فلان عن حجته ومرادهم بذلك أنه لم يأت بحجة ينتفع بها وإن كان قد تكلم
كلاما كثيرا.
وقولهم حضرنا
فلانا يناظر فلم يقل شيئا والمراد أنه لم يأت بكلام سديد ولا قول صحيح وإن كان قد
قال قولا غزيرا فأطلقوا اللفظ في الكلام والمراد ما ذكرناه وقد قال الشاعر:
أعمى إذا ما جارتي خرجت
|
|
حتى يواري جارتي
الخدر
|
ويصم عما كان
بينهما
|
|
سمعي وما بي
غيره وقر
|
وهذا التأويل في
نفي القول لا يمنع من وقوع التساؤل والتلاوم بينهم الذي ليس لهم فيه حجة ولا يثمر
فائدة.
فأما قوله سبحانه (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) فالتأويل الحسن أن يحمل (يُؤْذَنُ لَهُمْ) على معنى أنه لا يسمع منهم ولا يقبل عذرهم.
والعلة في امتناع
قبول عذرهم هي ما قد بينا من أنهم لا يعتذرون بعذر صحيح ولا يأتون بقول مصيب.
سؤال
آخر :
فإن قال فقد قال
الله تعالى في موضع من كتابه :
(وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) الصافات : ٢٤.
فأوجب السؤال وقال
في موضع آخر :
(فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) الرحمن : ١٥.
فنفى السؤال
وظاهره متناقض واختلاف.
فالجواب :
أن السؤال الذي
أوجبه سبحانه هو سؤال المطالبة بالواجبات وتضييع المفروضات.
والسؤال الذي نفاه
عزوجل هو سؤال الاستعلام والمعنى في ذلك أن الله تعالى علم جميع
ما فعلوه ولا يخفى عليه شيء مما أتوه فلا حاجة إلى السؤال عن ذنبهم ولا حاجة
للملائكة أيضا إلى السؤال عن المذنب منهم لأن الله تعالى يجعل لهم سيماء يعرفون به
وذلك قوله عزوجل :
(يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)
الرحمن : ٤١.
فصل مما ورد في
ذكر النصف
روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال :
التودد إلى الناس
نصف العقل.
وحسن السؤال نصف
العلم.
والتقدير في
النفقة نصف العيش.
وجاء في خبر آخر
عنه عليهم السلام :
التقدير نصف
المعيشة.
وروي عن أمير
المؤمنين عليهم السلام أنه قال :
الهم نصف الهرم
والسلامة نصف الغنيمة.
وقال بعض الحكماء
الخوف نصف الموت.
وقال آخر المخافة
شطر المنية.
وقيل الراحة نصف
السلامة وحسن الطلب نصف العلم والتودد نصف الحزم وحسن التدبير نصف الكسب.
وقال بعض الحكماء
نصف رأيك مع أخيك.
يريد بذلك وجوب
المشاورة ليجتمع الرأي.
وقيل إذا بان منك
أخوك بان شطرك وإذا اعتل خليلك فقد اعتل نصفك.
وأنشد :
لسان الفتى نصف
ونصف فؤاده
|
|
فلم يبق إلا
صورة اللحم والدم
|
وكتب أبو العتاهية
إلى أحمد بن يوسف
لئن عدت بعد
اليوم إني لظالم
|
|
سأصرف نفسي حيث
تبقى المكارم
|
متى ينجح الغادي
إليك بحاجة
|
|
ونصفك محجوب
ونصفك نائم
|
ولما اتهم قتيبة
بن مسلم أبا مجلد :
قال أبو مجلد أيها
الأمير تثبت فإن التثبت نصف العفو.
وقيل السفر نصف
العذاب.
وقال سعيد بن أبي
عمرويه :
لأن يكون لي نصف
وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجب المخبر أحب إلي من أن أكون ذا
وجهين ولسانين وذا قولين مختلفين
ولبعضهم :
بسطت لساني ثم
أوثقت نصفه
|
|
فنصف لساني في
امتداحك مطلق
|
فإن أنت لم تنجز
عداتي تركتني
|
|
وباقي لسان
الشكر باليأس موثق
|
ووجد مكتوبا على
قبر :
يا قبر أنت
سلبتني إلفا
|
|
قدمته وتركتني
خلفا
|
وأخذت نصف الروح
من جسدي
|
|
فقبرته وتركتني
نصفا
|
وقيل إذا اتخذت
جارية فعليك بالبيضاء فإن البياض نصف الحسن.
لابن عيينة :
إن دنيا هي التي
|
|
بسحر العين
سافره
|
سرقوها نصف
اسمها
|
|
هي دنيا وآخرة
|
__________________
لابن المعتز
في جارية له :
يا دهر كيف شققت
نفسا
|
|
فخلست منها
النصف خلسا
|
وتركت نصفا
للأسى
|
|
جعل البقاء عليه
نحسا
|
سقيا لوجه حبيبه
|
|
أودعتها كنفا
ورمسا
|
وأنشد لذي الرمة
:
وإن امرأ في
بلدة نصف قلبه
|
|
ونصف بأخرى إنه
لصبور
|
فصل من الأدب :
روي عن بعض
الأدباء أنه قال لابنه :
اقتن من مكارم
الأخلاق خمسا وارفض ستا واطلب العز بسبع واحرص على ثمان فإن فزت بتسع بلغت المدى
وإن أحرزت عشرا أحرزت الدنيا والآخرة.
فأما الخمس
المقتناة فخفض الجانب وبذل المعروف وإعطاء النصفة من نفسك وتجنب الأذى وتوقي الغرم.
وأما الست
المرفوضة فطاعة الهوى وارتكاب البغي وسلوك التطاول وقساوة القلب وفظاظة القول
وكثرة التهاون.
وأما السبع التي
ينال بها العز فأداء الأمانة وكتمان السر وتأليف المجانب وحفظ الإخاء وإقالة
العثرة والسعي في حوائج الناس والصفح عند الاعتذار.
وأما الثمان التي
تحرص عليها فتعظيم أهل الفضل وسلوك طرق الكرم والمواساة في ملك اليد وحفظ النعم
بالشكر واكتساب الأجر بالصبر ،
والإغضاء عن زلل
الصديق واحتمال النوائب وترك الامتنان بالإحسان.
وأما التسع التي
تبلغ بها المدى فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرز اللسان عن سقوط الكلام وغض
الطرف وصدق النية والرحمة لأهل البلاء والموالاة على الدين والمسامحة في الأمور
والرضا بالمقسوم.
وأما العشرة
الكاملة التي تنال بها الدنيا والآخرة فالزهد فيما يفنى والاستعداد لما يأتي وكثرة
الندم على ما فات وإدمان الاستغفار واستشعار التقوى وخشوع القلب وكثرة الذكر لله
تعالى والرضا بأفعال الله سبحانه وملازمة الصدق والعمل بما ينجي.
فصل في ذكر الغنى
والفقر
قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :
ليس الغنى في كثرة
العرض وإنما الغنى غنى النفس.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
ثلاث خصال من صنعة
أولياء الله تعالى :
الثقة بالله في كل
شيء والغنى به عن كل شيء والافتقار إليه عن كل شيء.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
ألا أخبركم بأشقى
الأشقياء قالوا بلى يا رسول الله.
قال من اجتمع عليه
فقر الدنيا وعذاب الآخرة.
نعوذ بالله من ذلك.
وقال أمير
المؤمنين عليهم السلام :
الفقر يخرس الفطن
عن حجته والمقل غريب في بلده.
من فتح على نفسه
بابا من المسألة فتح الله عليه بابا من الفقر.
وقال عليهم السلام
:
العفاف زينة الفقر
والشكر زينة الغنى.
وقال من كساه
الغنى ثوبه خفي عن العيون عيبه.
وقال من أبدى إلى
الناس ضره فقد فضح نفسه وخير الغنى ترك السؤال وشر الفقر لزوم الخضوع.
وقال :
استغن بالله عمن
شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأفضل على من شئت تكن أميره.
وقال لا ملك أذهب
للفاقة من الرضا بالقنوع.
وروي أن الماء صب
على صخرة فوجد عليها مكتوبا :
إنما يتبين الفقر
والغنى بعد العرض على الله عزوجل.
وقال رجل للصادق عليهم
السلام عظني فقال :
لا تحدث نفسك بفقر
ولا بطول عمر.
وقيل ما استغنى
أحد بالله إلا افتقر الناس إليه.
وقيل الفقير من
طمع والغني من قنع.
وأنشد لأمير
المؤمنين ع :
ادفع الدنيا بما
اندفعت
|
|
واقطع الدنيا
بما انقطعت
|
يطلب المرء
الغنى عبثا
|
|
والغنى في النفس
لو قنعت
|
ومن قطعة لأبي
ذؤيب :
والنفس راغبة
إذا رغبتها
|
|
وإذا ترد إلى
قليل تقنع
|
لمحمود الوراق
:
أراك يزيدك
الإثراء حرصا
|
|
على الدنيا كأنك
لا تموت
|
فهل لك غاية إن
صرت يوما
|
|
إليها قلت حسبي
قد غنيت
|
تظل على الغنى
أبدا فقيرا
|
|
تخاف فوات شيء
لا يفوت
|
وأغنى منك ذو
طمرين راض
|
|
من الدنيا ببلغة
ما يفوت
|
وله أيضا :
يا عائب الفقر ألا
تزدجر
|
|
عيب الغنى أكبر
لو تعتبر
|
من شرف الفقر
ومن فضله
|
|
على الغنى إن صح
منك النظر
|
أنك تعصي لتنال
الغنى
|
|
ولست تعصي الله
إن تفتقر
|
لغيره:
أرى أناسا بأدنى
الدين قد قنعوا
|
|
ولا أراهم رضوا
في العيش بالدون
|
فاستغن بالله عن
دنيا الملوك كما
|
|
استغنى الملوك
بدنياهم عن الدين
|
فصل في الكلام في
الأرزاق
اعلم أن الرزق في
الحقيقة هو التمليك وأصل التمليك من الله تعالى وهو الرازق للعباد وقد جعل بحكمته
وعلمه من مصالح بريته أرزاقهم على قسمين :
أحدهما ما يوصله
إليهم من غير سعي يكون منهم ولا اكتساب ولا تحمل شيء من المشاق كالمواريث ونحوها
من الأمور المتيسرات.
والآخر مشترط
بحركة العبد وسعيه واجتهاده وحرصه فمن سعى ناله ومن قعد فاته وقد أمر الله تعالى
بالاكتساب والطلبة قال تعالى :
(فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) الجمعة : ١٠.
وقال :
(إِنَّ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ
اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العنكبوت : ١٧.
فلا يجوز مخالفة
أمر الله تعالى وترك التكسب والطلب وليس ذلك بمضاد للتوكل على الله تعالى لأن له
التعرض ومنه الطلب.
وقد أجرى العادة
بأن لا يؤتى هذا القسم من الرزق إلا بعد الحركة والطلب ومثل ذلك كثير في أفعاله
تعالى التي قد أجرى العادة بأن لا يفعلها
إلا بعد فعل يقع
من العباد قبلها كالولد بعد الوطء والنبات بعد الزرع والسقي.
وليس المجتهد في
كل وقت مرزوقا وذلك لأن العطاء والمنع والزيادة في الرزق والنقص منوط كله بالمصالح
المعلومة عند الله تعالى.
وإنما يحسن من
العاقل أن يسأل الله تعالى في الرزق بشرط أن لا يكون له مفسدا قال الله تعالى :
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) الزخرف : ٣٣.
وكل شيء رزقه الله
تعالى للعبد فقد أباحه التصرف فيه قال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) البقرة : ٢٥٤.
وقال (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) البقرة : ٢٦٧.
وقال (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) ابراهيم : ٣١.
وما رزقه الله
وأباح التصرف فيه فإنه لا يعاتب عليه.
فأما المغتصبات
فليست بأرزاق لغاصبيها ولا ملكهم الله تعالى إياها وإنما تسمى أرزاقا على المجاز
من حيث إنها من الأشياء التي خلقها الله تعالى ليغتذى بها.
والدليل على أن
الله تعالى لم يرزقهم ما اغتصبوه إخباره بأنهم ظالمون فيه وأنه يعاقبهم عليه قال
الله تعالى :
(الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). النساء : ١٠.
وأمره سبحانه بقطع
يد السارق في قوله تعالى :
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) المائدة : ٣٨.
ولو كان الغاصب قد
أخذ ما رزقه الله تعالى على الحقيقة لكان المطالب له
برد ما أخذه ظالما
له ولم يجز في العدل أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة بل أن يكون ممدوحا على تصرفه
فيه وإنفاقه له كما مدح الله تعالى من أنفقه من حله فقال :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ)
الأنفال : ٢ ـ ٤. فجعل
إنفاق الرزق من صفات المؤمنين فلما لم يكن للغاصبين إنفاق ما اغتصبوه وكانوا
مذمومين عليه معاقبين على تصرفهم فيه دل ذلك على أن الله تعالى لم يرزقهم إياه في
الحقيقة وإذا لم يكن رزقا للغاصب فهو رزق للمغصوب منه وإن حيل بينه وبينه.
فصل مما روي في
الأرزاق
روي عن سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
أكثروا الاستغفار
فإنه يجلب الرزق.
وقال عليهم السلام
من رضي باليسير من
الرزق رضي الله عنه باليسير من العمل.
وروي أن الله
تعالى أوحى إلى عيسى عليهم السلام
ليحذر الذي
يستبطئني في الرزق أن أغضب فافتح عليه بابا من الدنيا.
وقال أمير
المؤمنين عليهم السلام
الرزق رزقان رزق
تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك.
وروي عن أحد
الأئمة عليهم السلام أنه قال في الرزق المقسوم بالحركة إن من طلبه من غير حله فوصل
إليه حوسب من حله وبقي عليه وزره.
فالواجب أن لا
يطلب إلا من الوجه المباح دون المحظور.
وروي عن أمير
المؤمنين عليهم السلام أنه قال :
من حسن نيته زيد
في رزقه.
واعلم أن الدليل
على جواز الزيادة في الأرزاق هو الدليل على جواز الزيادة في الأعمار لأن الله
تعالى إذا زاد في عمر عبده وجب أن يرزقه ما يتغذى به.
ذكروا أن إبراهيم
بن هرمة انقطع إلى جعفر بن سليمان الهاشمي فكان يجري له رزقا فقطعه فكتب إليه ابن
هرمة
إن الذي شق فمي
ضامن
|
|
للرزق حتى
يتوفاني
|
حرمتني خيرا
قليلا فما
|
|
إن زادني مالك
حرماني
|
فرد إليه رزقه
وأحسن إليه.
وأنشد لبعضهم :
التمس الأرزاق
عند الذي
|
|
ما دونه إن سيل
من حاجب
|
من يبغض التارك
تسئاله
|
|
جودا ومن يرضى
عن الطالب
|
ومن إذا قال جرى
قوله
|
|
بغير توقيع إلى
كاتب
|
وروي عن الصادق
عليهم السلام أنه قال :
ثلاثة يدعون فلا
يستجاب لهم رجل جلس عن طلب الرزق ثم يقول اللهم ارزقني يقول الله تعالى له ألم
أجعل لك طريقا إلى الطلب.
ورجل له امرأة سوء
يقول اللهم خلصني منها يقول الله تعالى أليس قد جعلت أمرها بيدك.
ورجل سلم ماله إلى
رجل ولم يشهد عليه به فجحده إياه فهو يدعو عليه فيقول الله تعالى قد أمرت بالإشهاد
فلم تفعل.
لابن وكيع التنيسي
:
لا تحيلن على
سعدك في الرزق ونحسك
|
|
وإذا أغفلك
الدهر فذكره بنفسك
|
لا تعجل بلزوم
بيتك ما قبل رمسك
|
|
إنما يحمد حسن
الرزق من جدة حسك
|
وروي في بعض الكتب
أن الله تعالى يقول :
يا ابن آدم حرك
يدك أبسط لك في الرزق وأطعني فيما آمرك فما أعلمني بما يصلحك.
وقيل لبعض لو
تعرضت لفلان لوصلك فقال :
ما تلهفت لشيء من
أمر الدنيا منذ حفظت هذه الأربع آيات من كتاب الله تعالى قوله :
(ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) سورة فاطر : ٢.
وقوله تعالى (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ
لِفَضْلِهِ) يونس : ١٠٧.
وقوله سبحانه :
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) هود : ٦.
وقوله جل اسمه :
(وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الذاريات : ٢٢.
فروي أن صلة الرجل
الذي قيل له لو تعرضت له أتت إلى منزله من غير طلب وأنشد لابن الأصبغ :
لو كان في صخرة
في الأرض راسبة
|
|
صماء ملمومة
ملسا نواحيها
|
رزق لنفس براها
الله لانغلقت
|
|
عنه فأدت إليه
كل ما فيها
|
أو كان بين طباق
السبع مطلبها
|
|
لسهل الله في
المرقى مراقيها
|
حتى يلاقي الذي
في اللوح خط له
|
|
إن هي أتته وإلا
سوف يأتيها
|
وروي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال :
ما من مؤمن إلا
وله باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه وذلك قوله تعالى :
(فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).
فصل :
مما ذكر في تأويل
قول الله عزوجل :
(فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) الدخان : ١٩ .
اعلم أن هذه الآية
نزلت في قوم فرعون الذين أهلكهم الله عزوجل وأورث أرضهم ونعمهم غيرهم وفيها وجوه :
أحدها ما ورد به
الخبر الذي قدمناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر البابين اللذين لكل
مؤمن يصعد من أحدهما عمله وينزل من الآخر رزقه وأنهما يبكيان عليه بعد موته ومعنى
البكاء هاهنا الإخبار عن الاختلال بعده كما يقال بكى منزل فلان بعده.
قال مزاحم العقيلي
:
بكت دارهم من
أجلهم فتهللت
|
|
دموعي فأي
الجازعين ألوم
|
أمستعبرا يبكي
من الهون والبلى
|
|
وآخر يبكي شجوه
ويهيم
|
فإذا لم يكن لها
ولا للقوم الذين أخبر الله تعالى ببوارهم مقام صالح في الأرض ولا عمل كريم يرفع
إلى السماء جاز إن يقال (فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ).
وقد روي عن ابن
عباس رحمهالله أنه قيل له وقد سئل عن هذه الآية أوتبكي السماء والأرض على
أحد فقال نعم مصلاه في الأرض ومصعد عمله في السماء
__________________
والوجه الثاني من
التأويل أن يكون تعالى أراد المبالغة في وصف القوم الذين أهلكهم بصغر القدر وسقوط
المنزلة لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قال كسفت لفقده الشمس وأظلم
القمر وبكاه الليل والنهار والسماء والأرض.
يريدون بذلك
المبالغة وعظم الأمر وشمول المصيبة قال جرير
يرثى عمر بن عبد العزيز :
الشمس طالعة
ليست بكاسفة
|
|
تبكي عليك نجوم
الليل والقمرا
|
وفي انتصاب النجوم
والقمر في هذا البيت ثلاثة وجوه :
أحدها أنه أراد أن
الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر لأن عظم الرزية قد سلبها
ضوءها فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب.
الوجه الثاني أن
يكون انتصابها على معنى قوله لا أكلمك الأبد وطول المسند
وما جرى مجرى ذلك فكأنه أخبر بأن الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وما ظهر القمر.
والوجه الثالث أن
يكون نجوم الليل والقمر باكيين الشمس على هذا المفقود فبكهن أي غلبتهن بالبكاء كما
يقال باكاني عند الله فبكيته وكاثرني فكثرته أي فضلت عليه وغلبته.
والوجه الثالث من
التأويل أن يكون الله تعالى أراد بقوله (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أهل السماء وأهل الأرض وحذف أهل كما قال عزوجل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وكما قال (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإنما أراد أصحابها ويجري ذلك مجرى قولهم السخاء سخاء حاتم.
قال الشاعر :
قليل عيبه
والعيب جم
|
|
ولكن الغنى رب
غفور
|
يريد ولكن الغنى
غنى رب غفور.
والوجه الرابع من
التأويل أن يكون معنى الآية الإخبار عن أنه لا أحد أخذ بثأرهم ولا أحد انتصر لهم
لأن العرب كانت لا تبكي على قتيل إلا بعد الأخذ بثأره فكني بهذا اللفظ عن فقد
الانتصار والأخذ بالثأر على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن.
والوجه الخامس من
التأويل أن يكون البكاء المذكور في الآية كناية عن المطر والسقيا لأن العرب تشبه
المطر بالبكاء ويكون معنى الآية أن السماء لم تسق قبورهم ولم تجد بقطرها عليهم على
مذهب العرب المعهود بينهم لأنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم
يتعشبون الزهر والرياض لمواقع حفرهم قال النابغة :
فلا زال قبر بين
تبنى وجاسم
|
|
عليه من الوسمي
طل ووابل
|
فينبت حوذانا
وعوفا منورا
|
|
سأتبعه من خير
ما قال قائل
|
وكانوا يجرون هذا
الدعاء مجرى الاسترحام ومسألة الله تعالى لهم الرضوان والفعل إذا أضيف إلى السماء
وإن كان لا تجوز إضافته إلى الأرض فقد يصح عطف الأرض على السماء بأن يقدر فعل يصح
نسبته إليها والعرب تفعل مثل هذا قال الشاعر :
يا ليت زوجك قد
غدا
|
|
متقلدا سيفا
ورمحا
|
بعطف الرمح على
السيف وإن كان التقلد لا يجوز فيه لكنه أراد حاملا رمحا ومثل هذا يقدر في الآية
فيقال إنه تعالى أراد أن السماء لا تسقي قبورهم والأرض لم تعشب عليها وكل هذا
كناية عن حرمانهم رحمة الله عزوجل.
وربما شبه الشعراء
النبات بضحك الأرض كما شبهوا المطر ببكاء السماء وفي ذلك يقول أبو تمام حبيب بن
أوس
:
إن السماء إذا
لم تبك مقلتها
|
|
لم تضحك الأرض
عن شيء من الخضر
|
والزهر لا تنجلي
أبصاره أبدا
|
|
إلا إذا رمدت من
كثرة المطر
|
ذكر مجلس
جرى في القياس مع
رجل من فقهاء العامة اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة.
سألني هذا الرجل
بمحضر جماعة من أهل العلم فقال ما تقول في القياس وهل تستجيزه في مذهبك أم ترى أنه
غير جائز؟؟
فقلت له القياس
قياسان قياس في العقليات وقياس في السمعيات.
فأما القياس في
العقليات فجائز صحيح وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.
قال فهل يتفق
حدهما أم يختلف؟
قلت الواجب أن
يكون حدهما واحدا غير مختلف.
قال فما هو؟
قلت القياس هو
إثبات حكم المقيس عليه في المقيس هذا هو الحد الشامل لكل قياس وله بعد هذا شرائط
لا بد منها ولا يقاس شيء على شيء إلا بعلة تجتمع بينهما.
قال فإذا كان الحد
شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته والقياس الذي أحلته.
قلت بل بينهما
فروق وإن شمل الحد.
قال وما هي؟
قلت منها أن علة
القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الإيجاب وليست علة القياس في السمعيات عند
من يستعمله كذلك بل يقولون هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار.
ومنها أن العلة في
العقليات لا تكون إلا معلومة وهي عندهم في السمعيات مظنونة وغير معلومة.
ومنها أنها في
العقليات لا تكون إلا شيئا واحدا وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء فهذه بعض
الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.
قال فما الذي يدل
على أن القياس في السمعيات لا يجوز؟
قلت الدليل على
ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا الله تعالى ولذلك
اختلف حكمها في المتفق الصور واتفق في المختلف وورد الحظر لشيء والإباحة لمثله بل
ورد الحكم في الأمر العظيم صغيرا وفي الصغير بالإضافة إليه عظيما واختلف كل
الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس.
وإذا كان هذا سبيل
المشروعات علم أنه لا طريق إلى معرفة شيء من أحكامها إلا من قبل المطلع على
السرائر العالم بمصالح العباد وأنه ليس للقائسين فيه مجال.
فقال أحد الحاضرين
فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المباين للقياس.
قلت هو عند
الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال ولكني أورد منه طرفا لموضع السؤال.
فمنه أن الله عزوجل أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط وليس هو
بأنجس منهما وأكثر العامة يروون أنه طاهر.
وألزم الحائض قضاء
ما تركته من الصيام وأسقط عنها قضاء ما تركته
من الصلاة وهي
أوكد من الصيام.
وفرض في الزكاة أن
يخرج من الأربعين شاة شاة ولم يفرض في الثمانين شاتين بل فرضها بعد كمال المائة
والعشرين وهذا خارج عن القياس.
ونهانا عن التحريش
بين بهيمتين وأباحنا إطلاق البهيمة على ما هو أضعف منها في الصيد.
وجعل للرجل أن يطأ
من الإماء ما ملكته يمينه ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها.
وأوجب الحد على
رمي غيره بفجور وأسقطه عن من رمي بالكفر وهو أعظم من الفجور.
وأوجب قتل القاتل
بشهادة رجلين وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزناء عليه إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود
وهذا كله خارج عن سنن القياس.
وقد ذكروا عن
ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال سألت سعيد بن المسيب
فقلت كم في إصبع المرأة؟
قال عشر من الإبل.
قلت كم في إصبعين؟
قال عشرون.
قلت كم في ثلاث؟
قال ثلاثون.
قلت كم في أربع؟
قال عشرون.
قلت حين عظم جرحها
واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟
فقال سعيد أعرابي
أنت؟
قلت بل عالم مثبت
أو جاهل متعلم.
قال هي السنة يا
ابن أخ.
ونحو ذلك مما لو
ذهبت إلى استقصائه لطال الخطاب وفيما أوردته كفاية لذوي الألباب.
قال السائل فإذا
كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا ولم يكن في الضرورات التي هي أصولها
مستمرا ولا صحيحا فما تنكرون أن يكون كذلك الحكم في السمعيات فيكون القياس في
فروعها المسكوت عنها صحيحا وإن لم يكن في أصول المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا؟
فقلت أنكرت ذلك من
قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف القياس مما ذكرناه فوجب أن يكون ما تفرع
عنها جاريا مجراها.
ولسنا نجد أصول
المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس وإنما امتنع القياس فيها لأنها
أصول لا أصول لها فوضح الفرق بينهما.
ومما يبين لك ذلك
أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت فيه أصول الشرعيات وليس بجائز أن
يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي الضرورات فلا طريق إلى الجمع بينهما.
قال فما تنكرون
على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الأصول في السمعيات وفروعها فنص لنا على
الأصول وعرفنا بها وأمرنا بقياس الفروع عليها ضربا من التعبد والتكليف ليستحق عليه
الأجر والثواب.
قلت هذا مما لا
يصح أن يكلفه الله تعالى للعبادة لأن القياس لا بد فيه من استخراج علة يحمل عليها
الفروع على الأصول ليماثل بينهما في الحكم والأحكام الشرعية لو كانت مما توجبه
العلل لم يجز في المشروعات النسخ وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت
بالعلل.
وقد قدمنا القول
بأن علل القائسين مظنونة والظنون غير موصلة إلى إثبات ما تعلق بمصالح الخلق ولا
مؤدية إلى العلم بمراد الله تعالى من الحكم.
ولو فرضنا جواز
تكليف العباد القياس في السمعيات لم يكن بد من
ورود السمع بذلك
في القرآن أو في صحيح الأخبار وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله
تعالى لم يكلفه خلقه.
قال فإنا نجد ذلك
في آيات القرآن وصحيح الأخبار قال الله عزوجل (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) الحشر : ٢.
فأوجب الاعتبار
وهو الاستدلال والقياس.
وقال
(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) المائدة : ٩٥.
فأوجب بالمماثلة
المقايسة.
وروي أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما أرسل معاذا إلى اليمن قال له بما ذا تقضي قال بكتاب الله.
قال فإن لم تجد في
كتاب الله؟
قال بسنة رسول
الله.
قال إن لم تجد في
سنة رسول الله؟
قال أجتهد رأيي.
فقال عليهم السلام
الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله.
وروي عن الحسن بن
علي عليهم السلام انه سئل فقيل له بما ذا كان يحكم أمير المؤمنين عليهم السلام.
قال بكتاب الله
فإن لم يجد فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد رجم فأصاب.
. وهذا كله دليل
على صحة القياس والأخذ بالاجتهاد والظن والرأي.
فقلت له أما قول
الله عزوجل (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف لأنه تعالى ذكر أمر
اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم (بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) ما يستدل به على حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله
أمده بالتوفيق ونصره وخذل عدوه وأمر الناس باعتبار ذلك (لِيَزْدادُوا) بصيرة في الإيمان.
وليس هذا بقياس في
المشروعات ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الأحكام.
وأما قوله سبحانه (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس وإنما
تعبد الله سبحانه عباده بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علماه من نص
الله تعالى.
ولو كان حكمهما
قياسا لكانا إذا حكما في جزاء النعامة بالبدنة قد قاسا مع وجود النص بذلك فيجب أن
يتأمل هذا.
وأما الخبران
اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد التي لا يثبت بهما الأصول المعلومة في
العبادات على أن رواة خبر معاذ مجهولون وهم في لفظه أيضا مختلفون.
ومنهم من روى أنه
لما قال أجتهد رأيي قال له عليهم السلام لا أحب إلى أن أكتب إليك.
ولو سلمنا صيغة
الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله أجتهد رأيي أني أجتهد حتى أجد حكم
الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.
وأما ما رويته عن
الحسن عليهم السلام من حكم أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم ففيه تصحيف ممن رواه والخبر
المعروف أنه قال فإن لم يجد في السنة زجر فأصاب.
يعني بذلك القرعة
بالسهام وهو مأخوذ من الزجر والفال.
والقرعة عندنا من
الأحكام المنصوص عليها وليست بداخلة في باب القياس فقد تبين أنه لا حجة لك فيما
أوردته من الآيات والأخبار.
فقال أحد الحاضرين
إذا لم يثبت للقائسين نص في إيجاب القياس فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن
ولا أخبار فقد تساويا في هذه الحال.
فقلت له قد قدمت من
الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعيات وما يستغني به متأمله عن إيراد ما
سواه.
ثم إن الأمر بخلاف
ما ظننت وقد تناصرت الأدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الأخبار قال الله عزوجل :
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤.
ولسنا نشك في أن
الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل قال الله عزوجل :
(وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) النحل : ١١٦.
ومستخرج الحكم في
الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه إلى الله ولا إلى رسول الله ص.
وإذا لم يصح
إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره وهو المحلل والمحرم في الشرع
بقول من عنده وكذب وصفه بلسانه فقال سبحانه :
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ
كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الإسراء : ٣٦.
ونحن نعلم أن
القائس معول على الظن دون العلم والظن مناف للعلم ألا ترى أنهما لا يجتمعان في
الشيء الواحد. وهذا من القرآن كاف في إفساد القياس.
وأما المروي في
ذلك من الأخبار فمنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ستفترق أمتي على
بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال
ويحللون الحرام.
وقول أمير
المؤمنين عليهم السلام :
إياكم والقياس في
الأحكام فإنه أول من قاس إبليس.
وقال الصادق جعفر
بن محمد عليهم السلام :
إياكم وتقحم
المهالك باتباع الهوى والمقاييس قد جعل الله تعالى للقرآن أهلا أغناكم بهم عن جميع
الخلائق لا علم إلا ما أمروا به قال الله تعالى :
(فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
إيانا عنى.
وجميع أهل البيت
عليهم السلام أفتوا بتحريم القياس.
وروي عن سلمان
الفارسي رحمهالله أنه قال :
ما هلكت أمة حتى
قاست في دينها.
وكان ابن مسعود
يقول هلك القائسون
وفي هذا القدر من
الأخبار غنى عن الإطالة والإكثار.
وقد روى هشام بن
عروة عن أبيه قال :
إن أمر بني
إسرائيل لم يزل معتدلا حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي
فأضلوهم.
قال ابن عيينة
فما زال أمر الناس
مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة وأبو حنيفة بالكوفة وعثمان البني
بالبصرة وأفتوا الناس وفتنوهم فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الأمم.
فحار الخصم
والحاضرون مما أوردت ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما ذكرت والحمد لله.
ذكر مجلس
جرى لشيخنا المفيد
أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضوان الله عليه مع بعض خصومه في قولهم :
إن كل مجتهد مصيب.
قال شيخنا المفيد
رضي الله عنه :
كنت أقبلت في مجلس
على جماعة من متفقهة العامة فقلت لهم إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ
الاختلاف يحظر عليكم المناظرة ويمنعكم من
الفحص والمباحثة
واجتماعكم على المناظرة يناقض أصولكم في الاجتهاد وتسويغ الاختلاف.
فإما أن تكونوا مع
حكم أصولكم فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم وتلزموا الصمت.
وإما أن تختاروا
المناظرة وتؤثروها على المتاركة فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد وتتركوا مذاهبكم
في الرأي وجواز الاختلاف ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفتم طريق الاستدلال.
فقال أحد القوم لم
زعمت أن الأمر كما وصفت ومن أين وجب ذلك؟
قال شيخنا رضي
الله عنه فقلت له
على البيان عن ذلك
والبرهان عليه حتى لا .. على أحد من العقلاء.
أليس من قولكم أن
الله تعالى سوغ خلقه الاختلاف في الأحكام للتوسعة عليهم ودفع الحرج عنهم رحمة منه
لهم ورفقا بهم وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الأحكام وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقا
عليهم معنتا لهم والله يتعالى عن ذلك حتى أكدتم هذا المقال بما رويتموه عن النبي
صلى الله عليه وسلم انه قال :
اختلاف أمتي رحمة.
. وحملتم معنى هذا
الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف قال بلى فما الذي يلزمنا على
هذا المقال؟
قال شيخنا رحمهالله قلت له :
فخبرني الآن عن
موضع المناظرة أليس إنما هو التماس الموافقة ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال
إلى موضع الحجة وتتغير له عن الإقامة على ضد ما دل عليه البرهان؟
قال لا ليس هذا
موضوع المناظرة وإنما موضوعها لإقامة الحجة والإبانة عن رجحان المقالة فقط.
قال الشيخ فقلت له
:
وما الغرض في
إقامة الحجة والبرهان على الرجحان وما الذي يجرانه إلى
ذلك والمعنى الملتمس
به أهو تبعيد الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حجتها أم
الدعوة إليها بذلك واللطف في الاجتذاب إليها به؟؟
فإن قلت إن الفرض
للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه
قلت قولا يرغب عنه كل عاقل ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.
وإن قلت إن الموضح
عن مذهبه بالبرهان داع إليه بذلك والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى
اعتقاده ضرب بهذا القول وهو الحق الذي لا شبهة فيه إلى ما أردناه من أن موضوع
المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة.
وإذا كان ذلك كذلك
فلو حصل الفرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة وسقطت التوسعة وعدم
الرفق من الله تعالى بعباده ووجب في صفة العنت والتضييق وذلك ضلال من قائله فلا بد
على أصلكم في الاختلاف من تحريم النظر والحجاج وإلا فمتى صح ذلك وكان أولى من تركه
فقد بطل قولكم في الاجتهاد وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.
فاعترض رجل آخر في
ناحية المجلس فقال :
ليس الغرض في
المناظرة الدعوة إلى الاتفاق وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد.
فقال له الشيخ رضي
الله عنه :
هذا الكلام كلام
صاحبك بعينه في معناه وأنتما جميعا حائدان عن التحقيق والصواب وذلك أنه لا بد في
فرض الاجتهاد من غرض ولا بد لفعل النظر من معقول.
فإن كان الغرض في
أداء الفرض بالاجتهاد البيان عن موضع الرجحان فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق
والإيناس بالحجة إلى المقال.
وإن كان الغرض فيه
التعمية والإلغاز فذلك محال لوجود المناظر
مجتهدا في البيان
التحسين لمقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب.
وإن كان معقول فعل
النظر ومفهوم غرض صاحبه الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها والتحسين لها والتقبيح
لضدها والترجيح لها على غيرها وكنا نعلم ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتبعيد من
قوله وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه فقد ثبت بما قلناه.
ولو كان الدال على
قوله الموضح بالحجج عن صوابه المجتهد في تحسينه وتشييده غير قاصد بذلك إلى الدعاء
إليه ولا مزيد للاتفاق عليه لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه
ووهنه داعيا بذلك إلى اعتقاده ومرغبا به إلى المصير إليه.
ولو كان ذلك كذلك
لكان إلزام الشيء مدحا له والمدح له ذما له والترغيب في الشيء ترهيبا عنه والترهيب
عن الشيء ترغيبا فيه والأمر به نهيا عنه والنهي عنه أمرا به والتحذير منه إيناسا
به وهذا ما لا يذهب إليه سليم.
فبطل ذلك ما
توهموه ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه والله نسأل التوفيق.
قال شيخنا رضي
الله عنه :
ثم عدلت إلى صاحب
المجلس فقلت له :
لو سلم هؤلاء من
المناقضة التي ذكرناها ولن يسلموا أبدا من الله لما سلموا من الخلاف على الله فيما
أمر به والرد للنص في كتابه والخروج عن مفهوم أحكامه بما ذهبوا إليه من حسن
الاختلاف وجوازه في الأحكام قال الله عزوجل :
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : ١٠٥.
فنهى الله تعالى
نهيا عاما ظاهرا وحذر منه وزجر عنه وتوعد على فعله بالعقاب وهذا مناف لجواز
الاختلاف وقال سبحانه :
(وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران : ١٠٣.
فنهى عن التفرق
وأمر الكافة بالاجتماع وهذا يبطل قول مسوغ الاختلاف وقال سبحانه :
(وَلا يَزالُونَ
مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) هود : ١١٨.
فاستثنى المرحومين
من المختلفين ودل على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة لاختصاص من خرج
عن صفتهم بالرحمة ولو لا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل
وهذا بين لمن تأمله.
قال صاحب المجلس
أرى هذا الكلام كله يتوجه على من قال إن كل مجتهد مصيب فما تقول فيمن قال إن الحق
في واحد ولم يسوغ الاختلاف.
قال الشيخ رضي
الله عنه فقلت له :
القائل بأن الحق
في واحد وإن كان مصيبا فيما قال على هذا المعنى خاصة فإنه يلزمه المناقضة بقوله إن
المخطئ للحق معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به
للحقه العنت والتضييق فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الأولين فيما عليهم من
المناقضة ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة وإن كان القائلون بإصابة
المجتهدين الحق يزيدون عليه في المناقضة وتهافت المقالة بقول الواحد لخصمه قد
أخطأت الحكم مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده فهو شاهد
بصوابه وخطئه في الإصابة معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافه مأجور على مباينته وهذه
مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها وتكشف عن قبح باطنها بظاهرها وبالله التوفيق.
ذكروا أن هذا
الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيد الله بن فارس
قبل أن يتولى الوزارة.
مسألة :
إن سأل سائل فقال
ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
اختلاف أمتي رحمة.
الجواب
:
قيل له المراد
بذلك اختلاف الواردين من المدن المتفرقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقته
وعلى وصيه القائم مقامه من بعده ليسألوا عن معالم دينهم ويستفتوا فيما لبس عليهم
فذلك رحمة لهم إذ يعودون إلى قومهم فينذرونهم قال الله سبحانه :
(فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوب ة : ١٢٢.
وليس المراد بذلك
اختلاف الأمة في اعتقادها وتباينها في دينها وتضاد أقوالها وأفعالها.
ولو كان هذا
الاختلاف لها رحمة لكان اتفاقها لو اتفقت سخطا عليها ونقمة.
وقد تضمن القرآن
من الأمر بالاتفاق والائتلاف والنهي عن التباين والاختلاف ما فيه بيان شاف.
فصل من الاستدلال
بهذه الآية على صحة الإمامة والعصمة
قال الله تعالى :
(فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
التوبة : ١٢٢
فحث سبحانه وتعالى
على طلب العلم ورغب فيه وأوجب على من به نهضة أن يلتمسه ويسارع إليه وهذا لازم في
وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ولا يصح أن يتخصص به زمان دون غيره لأن
التكليف قائم لازم والشرع شامل دائم.
وقد علمنا ومن
خالفنا أن النافرين للتفقه في الدين أيام النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا
وردوا عليه أرشدهم إلى الحق بعينه وهداهم إلى قول واحد من شرعه ودينه فرجعوا إلى
قومهم متفقين وعلى شيء واحد مجتمعين لا يختلفون في تأويل آية ولا في حكم فريضة
حلالهم واحد وحرامهم واحد ودينهم واحد فثبتت بهم الحجة وتتضح للمسترشدين المحجة
وينال الطالب بغيته ويدرك المستفيد فائدته.
والناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم مكلفون من شرعه بما كلفه من كان في وقته فوجب في عدل الله
وحكمته وفضله ورحمته أن يزيح علل بريته ويقيم لهم في كل زمان عالما أمينا حافظا
مأمونا لا تختلف أقواله ولا تتضاد أفعاله وتثق النفوس بكماله ومعرفته وتسكن إلى
طهارته وعصمته ليكون النفير إليه والتعويل في الهداية عليه ولو لا ذلك لكان الله
تعالى قد أمر بالنفير إلى المختلفين وسؤل المتباينين المتضادين والتعويل على
المرجحين الظانين الذين يحار بينهم المستجير ويضل المسترشد ويشك الضعيف وهذا عنت
في التكليف تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
سؤال
في الغيبة يتعلق بما ذكرناه
إن قال قائل إذا
كانت علل المكلفين في الشريعة لا تنزاح إلا بحافظ للأحكام ينصب لهم مميز بالعصمة
والكمال منهم يقصده المسترشدون ويعول على قوله السائلون وكان الإمام عليهم السلام اليوم
على قولكم غائبا لا يوصل إليه ومستترا عن الأمة لا يقدر عليه فعلل المكلفين إذن
غير مزاحة في الشرع ،
ووجود الحافظ لم
يغن لكونه بحيث لا يقدر عليه الخلق فإلى من حينئذ يفزع الراغبون ومن يقصد الطالبون
وعلى من يعول السائلون ومن الذي ينفر إليه المسترشدون؟؟؟
الجواب
:
قلنا إن الله
سبحانه قد أزاح علل المكلفين في هذا العصر كما أزاح علل الأمم السابقة من قبل
الذين بعث فيهم أنبياءه فكذبوهم وأخافوهم وشردوهم وظفروا بكثير منهم فقتلوهم.
ولم يرسلهم الله تعالى
إليهم إلا ليقيموا أحكامه بينهم وينفذ أوامره فيهم ويعلموا جاهلهم وينبهوا غافلهم
ويجيبوا سائلهم وينفر إليهم الراغب ويقتبس منهم الطالب فحال بينهم وبين ذلك
الظالمون ومنعهم مما بعثوا له الآفكون وقطعوهم عن الإبلاغ وحرموا أنفسهم الهداية
منهم والإنذار فكانوا في قتلهم أنبياءهم كمن قصد إلى نفسه وأعمى بصره عن النظر إلى
سبيل النجاة ووقر سمعه عن استماع ما فيه هداه ثم قال لا حجة لله علي ولا هداية منه
وصلت إلي يقول الله عزوجل :
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) البلد : ٩.
على الناس ولو شاء
لمنعهم من الضلال منع اضطرار ولأخرجهم بالجبر عن سنن التكليف والاختيار تعالى الله
الحكيم فيما قضى الحليم عمن عصاه.
والذي اقتضاه
العدل والحكمة في هذا الزمان من نصب الإمام للأنام فقد أزاح الله سبحانه العلة فيه
وأوجده ودل عليه بحجة العقل الشاهدة في الجملة بأنه لا بد من إمام كامل معصوم في
كل عصر وبحجج النصوص على التعيين المأثورة عن رسول الله رب العالمين وعن الأئمة من
أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين في التعريف بصاحب هذا الزمان عليهم
السلام بنعته ونسبه اللذين يتميز بهما عن الأنام ولكن الظالمين سلكوا سنن من كان
قبلهم في قصدهم لإهلاك هداتهم وحرصهم على إطفاء نور مصابيحهم فقصدوا قصده
فأخافوه وانطوت
نياتهم على قتله متى وجدوه فأمره الله بالاستتار لما علمه من مباينة حاله لحال كل
نبي وإمام أبدى شخصه فقتلهم الناس إذا كانت مصلحة الأمة بعد آبائه صلى الله عليه وسلم
مقصورة على كونه إماما لهم وأن غيره لا يقوم مقامه في مصلحتهم وسقط عنهم فرض
التصدي للسائلين لعدم الأمن والتمكن فكانت الحجة لله تعالى على الظالمين الذين
وجدوا سبيل الهداية وأرشدوا إليها فمنعوا أنفسهم سلوكها وآثروا الضلالة عليها
فكانوا كمن شد عينه عن النظر إلى مصالحه وسد سمعه عن استماع مناصحته ثم قال لو شاء
الله لهداني قال الله سبحانه فيمن ماثلت أحواله لحاله :
(وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فصلت : ١٧.
تعالى الله ذو الكلمة
العليا والحجة المثلى.
ولسنا مع ذلك نقطع
على أن الإمام عليهم السلام لا يعرفه أحد ولا يصل إليه بل قد يجوز أن يجتمع به
طائفة من أوليائه تستر اجتماعها به وتخفيه.
فأما الذي يجب أن
يفعله اليوم المسترشدون ويعول عليه المستفيدون فهو الرجوع إلى الفقهاء من شيعة الأئمة
وسؤالهم في الحادثات عن الأحكام والأخذ بفتاويهم في الحلال والحرام فهم الوسائط
بين الرعية وصاحب الزمان عليهم السلام والمستودعون أحكام شريعة الإسلام ولم يكن
الله تعالى يبيح لحجته صلى الله عليه وسلم الاستتار إلا وقد أوجد للأمة من فقه
آبائه عليهم السلام ما تنقطع به الأعذار وليس الرجوع إليهم كالرجوع إلى القائسين
ولا التعويل عليهم بمماثل للتعويل على المستحسنين المفتين في الشريعة وبالظن
والترجيح وإنما هو رجوع إلى ما استودعوه من النصوص المفيدة للعلم واليقين وتعويل
على ما استحفظوه من الآثار المنقولة من فتاوى الصادقين التي فيها علم ما يلتمسه
الطالبون وفيه ما يقتبسه السائلون ومن أخذ من هذا المعدن فقد أخذ من الإمام صلى
الله عليه وسلم لأنها علومه وأقوال آبائه ص.
وكثيرا ما يقول
لنا المخالفون عند سماعهم منا هذا الكلام :
إذا كنتم قد وجدتم
السبيل إلى علم ما تحتاجونه من الفتاوي في الأحكام المحفوظة عن الأئمة المتقدمين
عليهم السلام فقد استغنيتم بذلك عن إمام الزمان.
وهذا قول غير صحيح
لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع من لا يستحيل منه الغلط والنسيان
ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان.
وإذا جاز ذلك
عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلا بوجود معصوم يكون من ورائهم شاهد لأحوالهم عالم
بأخبارهم إن غلطوا هداهم أو نسوا ذكرهم أو كتموا علم الحق منه دونهم.
وإمام الزمان
عليهم السلام وإن كان مستترا عنهم بحيث لا يعرفون شخصه فهو موجود بينهم يشاهد
أحوالهم ويعلم أخبارهم فلو انصرفوا عن النقل أو ضلوا عن الحق لما وسعته التقية
ولأظهره الله سبحانه ومنع منه إلى أن يبين الحق وتثبت الحجة على الخلق.
ولو لزمنا القول
بالاستغناء عن الإمام فيما وجدنا الطريق إلى علمه من غير جهته للزم مخالفينا القول
بالاستغناء عن النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما أداه مما علم بالعقول قبل
أدائه وفي إطلاق القول بذلك خروج عن الإسلام وأحكامه وقد ورد في جواب هذا السؤال
ما فيه بلاغ للمسترشدين وهداية والحمد لله.
تأويل
آية :
إن سأل سائل فقال
ما عندكم في تأويل قول الله سبحانه :
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).
وظاهر هذه الآية
يقتضي أنه لم يشأ أن يكون الناس أمة واحدة متفقين على الهدى والمعرفة.
وما معنى قوله (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) وظاهره يقتضي أنه خلقهم للاختلاف ولو كان عنى به الرحمة
لقال ولتلك خلقهم لأن الرحمة مؤنثة ولفظة ذلك لا يكنى بها إلا عن مذكر.
وأما الرحمة فإنا
لا نعرفها إلا رقة القلب والشفقة وهذا لا يجوز على الله سبحانه.
الجواب
:
أما قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً واحِدَةً) فإنما عنى به المشيئة التي يقارنها الإلجاء والاضطرار ولم
يعن بها المشيئة التي تكون معها على حكم الاختيار.
ومراده سبحانه في
الآية أن يخبرنا عن قدرته وأن الخلق لا يعصونه على سبيل الغلبة له وأنه قادر على
إلجائهم وإكراههم على ما أراده منهم.
فأما لفظة ذلك في
الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف لدليل العقل وشهادة اللفظ.
فأما دليل العقل
فمن حيث علمنا أنه سبحانه كره الاختلاف في الدين ونهى عنه وتوعد عليه ولا يجوز أن
يخلقهم لأمر يكرهه ويشاء منهم ما نهى عنه وحظره.
وأما شهادة اللفظ
فلأن الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف وحمل اللفظ على أقرب المذكورين
إليها أولى في لسان العرب من حمله على الأبعد.
وأما قول السائل
إن الرحمة مؤنثة ولفظة ذلك لا يكنى بها إلا مذكر ففاسد لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي
وإذا كني بها بلفظ التذكير كانت الكناية على المعنى لأن معنى الرحمة هو الإنعام
والتفضل وقد قال الله سبحانه :
(هذا رَحْمَةٌ مِنْ
رَبِّي).
ولم يقل هذه وإنما
أراد هذا فضل من ربي.
قال إمرؤ القيس :
برهرهة رودة
رخصة
|
|
كخربوعة البانة
المنفطر
|
فقال المنفطر ولم
يقل المنفطرة لأنه عنى الغصن فذكره.
وقال آخر :
قامت تبكيه على
قبره
|
|
من لي من بعدك
يا عامر
|
تركتني في الدار
ذا غربة
|
|
قد ضاع من ليس
له ناصر
|
فقال ذا غربة ولم
يقل ذات غربة لأنه عنى شخصا ذا غربة.
والمراد بالاختلاف
المذكور في الآية أنما هو الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه بالهوى والشبهة.
وقد ذكر بعضهم في
قوله (مُخْتَلِفِينَ) وجها غريبا وهو أن يكون معناه إن خلف هؤلاء الكافرين يخلف
سالفهم في الكفر لأنه سواء قولك خلف بعضهم بعضا وقولك اختلفوا كما أنه سواء قولك
قتل بعضهم بعضا وقولك اقتتلوا ومنه قولهم لا أفعل كذا وكذا ما اختلف العصران
والجديدان أي جاء كل منهما بعد الآخر.
وأما الرحمة فليست
رقة القلب والشفقة لكنها فعل النعم والإحسان يدل على ذلك أن من أحسن إلى غيره
وأنعم عليه يوصف بأنه رحيم به وإن لم تعلم منه رقة قلبه عليه وشفقته بل وصفهم
بالرحمة من لا يعهدون منه رقة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك لأن مشقة
النعمة والإحسان على من لا رقة عنده أكثر منها على الرقيق القلب ..
وقد علمنا أن من
رق عليه أو امتنع من الإفضال والإحسان لم يوصف بالرحمة وإذا أنعم وصف بها فوجب أن
يكون معناها ما ذكرناه وقد يجوز أن يكون معنى الرحمة في الأصل الرقة والشفقة ثم
انتقل بالتعارف إلى ما بلغ
هذا آخر ما وجدنا
من كتاب كنز الفوائد.
نصوص مفقودة من نسخة
الكتاب المطبوعة
هناك طائفة كبيرة
من نصوص هذا الكتاب مفقودة وجدناها في عدة مؤلفات نقلها أصحابها عن كنز الفوائد
رأينا إدراجها في خاتمة هذا الكتاب تتمة للفائدة وهذه النصوص هي :
١ ـ قال المحدث
الشيخ عباس القمي في كتابه الأنوار البهية صلى الله عليه وسلم ١٣٤ ـ ١٣٥
وعن كنز الفوائد
قال :
جاء في الحديث أن
أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئا على يد الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام
فقال رجل يقال له رزام مولى خالد بن عبد الله من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد
أمير المؤمنين على يده؟
فقيل له هذا أبو
عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام فقال إني والله ما علمت لوددت أن خد
أبي جعفر نعل لجعفر ثم قام فوقف بين يدي المنصور فقال له أسأل يا أمير المؤمنين
فقال له المنصور سل هذا.
فالتفت رزام إلى
الإمام جعفر بن محمد عليهم السلام فقال أخبرني عن الصلاة وحدودها فقال الصادق
عليهم السلام
للصلاة أربعة آلاف
حد لست تؤاخذ بها فقال أخبرني بما لا يحل تركه ولا تتم الصلاة إلا به.
فقال أبو عبد الله
ع :
لا تتم الصلاة إلا
لذي طهر سابغ واهتمام بالغ غير نازغ ولا زائغ عرف فوقف وأخبت
فثبت فهو واقف بين اليأس والطمع والصبر والجزع كان الوعد له صنع والوعيد به
وقع بذل عرضه وتمثل غرضه وبذل في الله المهجة
وتنكب غير الحجة مرتغما بإرغام يقطع علائق الاهتمام يعين من له قصد وإليه وفد وفيه استرفد
فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها أمر وعنها أخبر وإنها هي الصلاة التي (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).
فالتفت المنصور
إلى أبي عبد الله عليهم السلام فقال له :
يا أبا عبد الله
لا نزال من بحرك نغترف وإليك نزدلف تبصر من العمى وتجلو بنورك الطخياء غير نازغ ولا زائغ.
النزغ الظن
والاغتياب والإفساد والوسوسة والزيغ الميل والطخياء في قول المنصور الظلمة وتعوم
أي تسبح ففي الخبر علموا صبيانكم العوم أي السباحة وسبحات وجه ربنا جلاله وعظمته
وقيل نوره وطما البحر امتلأ فانظر إلى أعدائهم أقروا بفضلهم هل فوق ذلك فخر.
٢ ـ قال ابن طاوس
في كتابه فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم صلى الله عليه وسلم ٦٠ ـ ٧٤ ما يلي :
فصل :
وقال الشيخ الفقيه
العالم الفاضل العارف بعلم النجوم المصنف بها عدة مصنفات أبو الفتح محمد
بن عثمان الكراجكي رحمهالله في كتاب كنز الفوائد في الرد على من قال إن الشمس والقمر
والنجوم علل موجبات ما هذا لفظه :
اعلم أنهم سئلوا
عن مسألة حيرتهم وأظهرت عجزهم وأخرستهم فقيل لهم إذا كان سائر ما في العالم من
النفع والضرر والخير والشر وجميع أفعال الخلق والشمس والقمر والنجوم واجبة وهي
علته وسببه وليس داخل الفلك غير ما أثرت ولا فعل لأحد يخرج به عما أوجبت فما
الحاجة إلى الاطلاع على الأحكام وأخذ الطوالع عند المواليد وعمل الزوائج وتحويل
السنين.
قالوا الحاجة إلى
ذلك حصول العلم بما سيكون من حوادث السعود والنحوس.
قيل لهم وما
المنفعة بحصول هذا العلم فإن الإنسان لا يقدر أن يزيد فيه سعدا ولا ينقص منه نحسا
مما أوجبه مولده فهو كائن لا مغير له.
فمنهم من استمر
على طريقه وبنى على أصله فقال ليس في ذلك أكثر من فضيلة العلم بالحادثات قبل كونها.
فقيل له ما هذه
الفضيلة المدعاة في علم لا ينال به مكتسبه نفعا ولا يدفع به عن نفسه ولا عن غيره
ضرا وما هذا العناء في اكتساب ما لا ثمر له والجاهل به كالعالم في عدم المنفعة
منه.
وسئلوا أيضا عن
هذا الاكتساب وسببه وهل الفلك موجبة أو غير موجبة؟
فلم يرد منهم ما
يتشبث العاقل به.
ومنهم من تعذر
عليه عند توجه الإلزام فأنزله الإحجام درجة عن قول أصحاب الأحكام فقال بل للعلم
تأثير في اكتساب نفع كثير وهو أن يتعجل الإنسان بالسعادة ويتأهب لها فيكون في ذلك
مادة فيها ويتحرز عن النحاسة ويتوقاها فيكون بذلك دفعا لها أو نقصا منها.
فقيل له ما الفرق
بينك وبين من عكس عليك قولك فقال بل المضرة باكتساب هذا العلم حاصلة والأذية إلى
معتقده واصلة وذلك أن متوقع السعادة والمساءة معه قلق المتوقع وحرقة الانتظار
ففكره منقسم وقلبه
معذب يستبعد قرب
الساعات ويستطيل قرب الأوقات شوقا إلى ما يرد وتطلعا إلى ما وعد وفي ذلك ما يقطعه
عن منافعه ويقصر به عن حركاته في مطامعه اتكالا على ما يأتيه وتعويلا على ما يصل
إليه وربما أخلف الوعد وتأخر السعد فليست جميع أحكامهم تصيب ولا الغلط منكم بعجيب
فتصير المضرة حسرة والمنفعة مضرة.
فأما متوقع
المنحسة فلا شك أنه قد تعجلها لشدة رعبه بقدومها وعظم هلعه بهجومها فهو لا ينصرف
بفكره عنها فيجعلها أكبر منها فحياته منغصة ونفسه متغصصة وقلبه عليل وتغممه طويل
لا يهنيه أكل ولا شرب ولا يسليه عذل ولا عتب ضعيف النبضات فاتر الحركات إذا احترز
لا ينفع وربما كان باحترازه لا ينتفع.
فهذا القول أشبه
بالحق مما ذكرتم وهو شاهد يلزمكم الإقرار به إن أنصفتم.
ونحن الآن نعترف
في مقابلتكم به ولا نطالبكم بشيء من موجبة ونعود إلى دعواكم التي ذكرتموها فنقول
سائلين لكم عنها أخبرونا عن هذه المسرة التي تحصل للعالم والتأهب الزائد في السعد
الواصل وعن هذا الاحتراز من المنحسة والتأتي من المضرة والمهلكة هل جميع ذلك مما
توجبه وتقضي به الكواكب أم هو عن أحكامها خارج مضاف في الحقيقة إلى اختيار الحي
القادر؟؟
فرأوا أنهم إن
قالوا مما توجبه الكواكب وتقضي بكونه أحكام الفلك في العالم.
قيل لهم فيكون ذلك
سواء اطلع الإنسان على أحكام النجوم أم لم يطلع وسواء عليه اهتم لمولده وتحويل
سنته أم لم يهتم؟
فعرجوا عن هذا
وقالوا إن أفعالنا منفصلة عما يوجبه الفلك فينا فتصح بذلك الزيادة والنقص الذي
قلنا.
قلنا لهم لقد
نقضتم أصولكم وخرجتم عن قوانين علمائكم فيما أقررتم به من جواز أفعال يحيط بها
الفلك ليست حادثة من جهته ولا من تأثير كواكبه ،
وما نراكم قنعتم
بهذا الإقرار حتى جعلتم الأفعال البشرية واقعة لما توجب الأقضية النجومية ومانعة
مما تؤثر الحركات الفلكية بقولكم إن الإنسان يمكن أن يحترز من المنحسة فيدفعها أو
ينقص منها ما سلطته لها فلولا أن فعله أقوى واحترازه أمضى لم يرفع عن نفسه سوءا.
ثم سئلوا أيضا
فقيل لهم إذا سلمتم أن أفعال الإنسان مختصة بهم وليست مما توجبه النجوم فيهم وأنتم
مع هذا تقولون للإنسان احذر على مالك من طروق سارق فقد أقررتم أن حذره من تأثير
المختص به فأخبرونا الآن عن طروق السارق وما الموجب له فإن قلتم النجوم رجعتم عما
أعطيتم ورددتم إليها أفعال العباد ونافيتم وإن قلتم إن طروق السارق مختص به ولا
موجب له غير اختياره أجبتم بالصواب وقيل لكم فما نرى للنجوم تأثيرا في هذا الباب.
واعلم أيدك الله
أنهم لم يبق لهم ملجأ إلا أن ينزلوا عن قول أصحابهم درجة أخرى فيقولون إن النجوم
دالة وليست بفاعلة وعلامة غير ملجئة فإذا قالوا ذلك انصرفوا عمن يقول إنها موجبة
قادرة وأبطلوا دعواهم أنها مدبرة وقيل لهم أفتقولون كل أمر تدل عليه فإنه سيكون لا
محالة؟
فإن قالوا نعم
نقضوا ما تقدم وإن قالوا قد يجوز أن يحرم تداولها ويحرم ما دلالته عليه منها لم
تبق بعد هذا درجة ينتهون إليها واقتصروا على مقالة لا يضرك مناقشتهم فيها.
وأنا أخبرك بعد
هذا بطرق من بطلان أفعالهم ونكت من إفساد استدلالهم والأغلاط التي تمت عليهم
فاتخذوها أصولا لأحكامهم.
اعلم أن تسمية
البروج الاثني عشر بالحمل والثور والجوزاء إلى آخرها لا أصل لها ولا حقيقة وإنما
وضعها الراصدون لهم متعارفا بينهم وكذلك جميع الصور التي عن جنبي منطقة البروج
الاثني عشر وغيرها والجميع ثمان وأربعون صورة عندهم مشهورة وعلماؤهم معترفون بأن
ترتيب هذه الصور وتشبيهها وقسمة الكواكب عليها وتسميتها صنعه متقدموهم ووضعه
حذاقهم الراصدون لها.
وقد ذكر أبو
الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي ذلك وهو من جلتهم
وله مصنفات لم
يعمل مثلها في علمهم وقد بينه في الجزء الأول من كتابه المعمول في الصور وقد ذكر
رصد الأوائل منهم الكواكب وأنهم رتبوها في المقادير والعظم لست مراتب وبين أنهم
الفاعلون لذلك ما أنا مبينه على حقيقته وناقله من كتابه وهو أنهم وجدوا من هذه
الكواكب التي رصدوها تسعمائة وسبعة عشر كوكبا ينتظم منها ثمان وأربعون صورة كل
صورة تشتمل على كواكبها وهي الصور التي أثبتها بطليموس في كتابه المجسطي بعضها في
النصف الشمالي من الكرة وبعضها على منطقة البروج التي في طريقة الشمس والقمر
والكواكب السريعة السير وبعضها في النصف الجنوبي.
ثم سموا كل صورة
باسم الشيء المشبه لها بعضها على صورة الإنسان مثل كواكب الجوزاء وكواكب الجاثي
على ركبتيه.
وبعضها على صورة
الحيوانات البرية والبحرية مثل الحمل والثور والسرطان والأسد والعقرب والحوت والدب
الأكبر والدب الأصغر.
وبعضها خارج عن
شبه الإنسان وسائر الحيوانات مثل الإكليل والميزان والسفينة.
وليس ترتيبهم لها
وتسميتهم إياها وما فعلوه فيها لدليل وذكر عذرهم في ذلك فقال وإنما أنهوا هذه
الصور وسموها بأسمائها وذكروا كوكبا من كل صورة ليكون لكل كوكب اسم يعرف به إذا
أشاروا إليه وذكروا موضعه من الصورة وموقعه في فلك الأبراج ومقدار عرضه في الشمال
والجنوب على الدائرة التي تمر بأوساط البروج لمعرفة أوقات الليل والنهار والطالع
في كل وقت وأشياء عظيمة المنفعة تعرف بمعرفة هذه الكواكب.
وهذا آخر الفصل من
كلامه في هذا الموضع وهو دليل واضح على أن الصور والأشكال والأسماء والألقاب ليست
على سبيل الوجوب والاستحقاق وإنما هي اصطلاح واختيار ولو عزب عن ذلك إلى تشبيه آخر
لأمكن وجاز.
ثم إنهم بعد هذا
الحال جعلوا كثيرا من الأحكام مستخرجا من هذه الصور والأشكال ومنتسبا إلى الأسماء
الموضوعة والألقاب حتى أنهم على ما ذكروه
على نحو واجب
ودليل عقل ثابت فقالوا إن الحكم على الكسوف على ما حكاه ابن هبنتي عن بطليموس أنه
إن كان البرج الذي يقع فيه الكسوف من ذوات الأجنحة مثل العذراء والرامي والدجاجة
والنسر الطائر وما أشبهها فإن الحادث في الطير الذي يأكل الناس وإن كان الحيوان
مثل السرطان والدولفين فإن الحادث في الحيوانات البحرية أو النهرية.
وهذه فضيحة عظيمة
وحال قبيحة أفما يعلم هؤلاء القوم أنهم هم الذين جعلوا ذوات الأجنحة بأجنحة والصور
البحرية بحرية وأنهم لو لا ما فعلوه لم يكن شيء مما ذكروه فكيف صارت أفعالهم التي
ابتدعوها وتشبيهاتهم التي وضعوها موجبة لأن حكم الكسوف مستخرجا منها وصادرا عنها
وهذا يؤدي إلى أنهم المدبرون للعالم وأن أفعالهم سبب لما توجبه الكواكب.
فصل :
ولم يقنع ابن
هبنتي بهذه الجملة حتى قال في كتابه المعروف بالمغني وهو كتاب
نفيس عندهم قد جمع فيه عيون أقوال علمائهم وذوي الفضيلة منهم رأيته بدار العلم في
القاهرة بخط مصنفه قال فيه :
إن وقع الكسوف في
المثلث أي في الدرج التي تحتوي عليه دل ذلك على فساد أصحاب الهندسة والعلوم
اللطيفة.
وهذا المثلث أيدك
الله هو من كواكب على شكل مثلث لأن في السماء عدة مثلثات ومربعات مما هو داخل
الصورة التي ألفوها وخارج عنها فكيف صار الحكم مختصا بهذا دونها وما نرى العلة فيه
إلا تسميتهم له بذلك فكان سببا لوقوع أهل الهندسة في المهالك.
قال ابن هبنتي وإن
كان الكسوف في الكأس دل على فساد الأشربة.
وهذا أعجب من
الأول وذلك أن الكأس عندهم من سبعة كواكب شبهوها بالكأس وبالباطية أيضا.
فإن كان الحكم
الذي ذكروه إنما اختص بذلك من أجل التشبيه والتسمية فإن هذه الكواكب بأعيانها قد
شبهتها بالمعلف وسميتها بهذا الاسم فكيف صار تشبيه المنجمين وتسميتهم لها بالكأس
أولى من أن يكون تشبيه العرب لها بالمعلف وتسميتهم لها بهذا الاسم موجبا لانصراف
الحكم فيها إلى الدواب اللهم إلا أن يقولوا إن المعول على تشبيهها للمنجمين دونهم
فلا اعتراض.
قال ابن هبنتي وقد
شاهدنا بعض الحذاق من أهل هذه الصناعة قد نظر في مولد إنسان من الأصاغر فوجد النسر
الطائر في درجة وسط السماء فقال يكون بإزاء دار الملك وزعم أن الأمر كما ذكر.
وهذا يؤكد ما
ذكرناه من تعويلهم على الأسماء والصور المدونة من اصطلاح البشر.
فصل
وقد اطلعت أنا في
مولد فوجدت فيه الكواكب التي يقولون إنها النسر الطائر في وسط السماء فلم يدل من
حال صاحبه على نظيرها.
قال ابن هبنتي
وكان هذا الرجل فقيرا فأثرى ولم أره قط إلا ماقتا لأنواع الطير غير مقيد بشيء منها
في حالتي الفقر والغنى.
فإن صدق ابن هبنتي
فيما ذكر فما هو إلا عن شيء لا أصل له يصح بعضه فيوافق الظنون ويبطل بعضه فلا يكون
فإن كان اختلافه في حال لا يدل على بطلان حكمهم فاتفاقه في حال أخرى لا يدل على
صحة حكمهم وجزمهم.
ومن هذيانهم أيضا
الموجود في عيون كتبهم والمأثور من أحكامهم قولهم إن الحمل والثور يدلان على
الوحوش وكل ذي ظلف والجدي مشترك بينهما والأسد والنصف الأول من القوس يدلان على كل
ذي ناب ومخلب.
وإنما ذكروا نصف
القوس لأن صورته التي ألفوها وشبهوها صورة دابة وإنسان فجعلوا النصف الأول للوحوش
والنصف الآخر للناس.
قالوا والسرطان
والعقرب يدلان على حشرات الأرض والثور للفرس والسنبلة للبذر.
وهذا كله قياس على
الصور والأسماء التي لم يوجبها العقل ولا أتاهم بها خبر من الله تعالى في شيء من
النقل وإنما هو شيء من اختيارهم وقد كان يمكن غيره ويجوز خلافه.
قالوا ومن يولد
برأس الأسد يكون فتن الغم.
فمن شبه تلك
الكواكب بصورة الأسد غيركم ومن سماها بهذا الاسم سواكم؟
وكيف لم تقولوا
إنها الكلب أو تشبهوها بغير ذلك من دواب الأرض.
هذا أيدك الله
والصور عندهم لا تثبت في مواضعها ولا تستقر على إقامتها.
فصورة الحمل التي
يقولون إنها أول البروج قد تنتقل إلى أن تصير البرج الثاني ويصير البرج الأول
الحوت.
وهذا عندهم هو
القول الصحيح لأن الكواكب عندهم كلها تتحرك إلى جهة المشرق بخلاف ما يتحرك بها
الفلك والخمسة المضافة إلى الشمس والقمر هي السريعة السير وحركاتها مختلفة في
الإبطاء والسرعة وبقية الكواكب تتحرك عندهم بحركة واحدة خفيفة بطيئة ولخفاء حركتها
سموها الثابتة وهي على رأي بطليموس ومن قبله في كل مائة سنة تتحرك درجة واحدة.
وعلى رأي أصحاب
سمين ومن رصد في أيام المأمون وحسب في كل ست وستين سنة درجة.
والصوفي يقول في
كتاب الصور :
إن مواضع هذه
الصور التي كانت على منطقة فلك البروج كانت منذ ثلاثة آلاف سنة على غير هذه
الأجسام وإن صورة الحمل كانت في القسم الثاني عشر وصورة الثور كانت في القسم
الأول.
وكان يسمى القسم
الأول من البروج الثور والثاني الجوزاء والثالث السرطان ولما جددت الأرصاد في أيام
طيموخارس وجدوا صورة الحمل قد انتقلت إلى القسم الأول من القسم الثاني عشر الذي هو
بعد منطقة التقاطع فغيروا أسماءها فسموا القسم الأول الحمل والثاني الثور والثالث
الجوزاء.
قال ولا يخالفنا
أحد في أن هذه الصور تنتقل بحركاتها على مر الدهور من أماكنها حتى تصير صورة الحمل
في القسم السابع الذي للميزان والميزان في القسم الأول الذي هو الحمل فيسمى أول
البروج الميزان والثاني العقرب. ثم مر في كلامه موضحا عما ذكرناه من تنقلها الموجب
لتغير أسماء بروجها وهم مجمعون على أن الكوكبين المتقاربين المعروفين بالشرطين على
قرني الحمل هما أول منازل القمر فيجب أن يكون أول البروج الاثني عشر.
ومن امتحنهما في
وقتنا هذا وهو سنة ثمان وعشرين وأربعمائة للهجرة الموافقة لسنة ألف وثلاثمائة
وثمان وأربعين لذي القرنين وجد أحدهما في عشرين درجة من الحمل والآخر في إحدى
وعشرين منه أعني من البرج الأول ويعرف ما ذكرته من كانت له خبرة وعناية بهذا
الأمر.
فأي برج من البروج
الاثني عشر يبقى على صورة واحدة وكيف ثبت الحكم الأول بأنه دال على الوحوش وعلى كل
ذي ظلف وقد انتقلت إليه أكثر صورة الحوت وكذلك حال جميع البروج فافهم هذا فإنه
ظريف.
فصل :
ومن عجيب غلطهم في
الأسماء الدالة على عدم معرفتهم بمعانيها أنهم سمعوا العرب التي تسمي الكواكب التي
عن جنوب التوأمين الجوزاء فلم يفهموا هذا الاسم وظنوا أنه مشتق من الجوز الذي يؤكل
فرأوا من الرأي أن يسموا النسر المواقع من الكواكب الغربية من اللوز قياسا على
الجوزاء وهذا من الغاية في الجهل والعناد وليس تقوله إلا شيوخهم ومصنفو الكتب منهم
ومن اطلع في ذكرهم الصور الثمان والأربعين وقف على صحة ما حكيته عنهم فهل سمع أحد
قط بأعجب من هذا الأمر؟
فصل :
وإنما سمت العرب
هذه الكواكب بالجوزاء لتوسطها إذا ارتفعت أو لأنها تشبه رجلا في وسطه منطقة
فاشتقوا لها اسما من التوسط يقولون جوز الفلا يعنون وسطه.
ومن قولهم الدال
على فساد أحكامهم أن كل درجة من درج الفلك ستون دقيقة وكل دقيقة ستون ثانية وكل
ثانية ستون ثالثة وهكذا إلى ما لا نهاية له.
ولكل هذه الأجزاء
التي لا تنحصر حكم مختص به ولا ينضبط فكيف يصح الحكم على هذا الأصل وليس في أيديهم
إلا الجمل التي تفاضلها يختلف.
وقد ولد لي ولدان
توأمان ليس بين ظهورهما من الفرق والزمان بقدر ما يبين الأسطرلاب فاشتركا في درجة
واحدة من طالع واحد في نصبه ولم يدرك فيهما التغيير ولو قلت إنهما اشتركا في
الدقيقة لصدقت فلما رأيت ذلك قلت هذه حالة في الجملة قد اتفقت فيها النصبة وفي
غاية ما يمكن إدراكه بالآلة فإن الحكم على الحمل يوجب أن تكون حالة هذين المولودين
متماثلة فلا والله ما تماثلت صورتهما ولا أحوالهما ولا صحتهما من سقمهما ولقد مات
أحدهما بعد ولادته بأيام ومات الآخر وامتدت بعمره الأيام أسأل الله السعد التام.
ولقد سألت بعضهم
عن هذا الحال فقال لي النمودار يخرج لك الفرق بين المولودين.
فقلت له الذي عرفت
من علمائكم أنهم لا يقولون على النمودار إلا عند عدم الرصد فمتى حصل الرصد أغنى
عنه ويوضح ذلك أنكم تقولون في عمل النمودار خذ ساعات الجزر ولا يكون الجزر إلا عند
عدم الرصد وإذا كان الرصد هاهنا لم يخط الحقيقة ولا أتاه الفرق فبان بأن لا يعطيه
النمودار بعد الرصد.
وقلت له أيضا لست
أشك في كثرة الاختلاف بينكم في كل أصل وفرع وعلى كل وجه فإنما يعمل النمودار بين
الساعات سواء كانت عند رصد أو جزر وقد كانت ولادة هذين التوأمين في ساعة واحدة لم
يصح فيها الفرق فما الحيلة في هذا الأمر فخلط في ذلك ولم يأت بشيء يفهم
فصل
واعلم أيدك الله
أن نمودار واليس يخالف نمودار بطليموس ونمودار الفرس يخالفهما جميعا وليس في ذلك
ما يتفق عليه ولا يؤدي إلى أمر متفق ولا يدل على صحة واحد منها العقل وجميعها
دعاوي لا يعلم لها أصل ولو تتبعت مواضع اختلاطهم وذكرت ما أعرفه من تناقض أصولهم
المبطلة لأحكامهم لخرجت عن الغرض في الاختصار وفيما أوردته غنى عن الإكثار.
فصل
وأنا أذكر لك بعد
هذا مقالتنا في النجوم وما نعتقده فيها لتعرف الطريقة في ذلك فتعتمد عليها.
اعلم أيدك الله أن
الشمس والقمر والنجوم أجناس محدثة من جنس هذا العالم مؤلفة من أجزاء تحلها الأعراض
وليست فاعلة في الحقيقة ولا ناطقة ولا حية قادرة.
وقال شيخنا المفيد
رضوان الله عليه إنها أجسام نارية فأما حركاتها فهي فعل الله تعالى فيها وهو
المحرك لها وهي من آيات الله الباهرة لخلقه وزينة في سمائه وفيها منافع لعباده لا
تحصى وبها يهتدي السائرون برا وبحرا قال الله تعالى :
(وَعَلاماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)
النحل : ١٦.
وفيها للخلق مصالح
لا يعلمها إلا الله تعالى.
فأما التأثير
المنسوب إليها فإنا لا ندفع كون الشمس والقمر مؤثرين في العالم ونحن نعلم أن
الأجسام وإن كان لا يؤثر أحدها بالآخر إلا مع مماسة بينهما بأنفسهما أو بواسطة فإن
للشمس والقمر شعاعا متصلا بالأرض وما عليها يقوم مقام المماسة وتصح به التأثيرات
الحادثة.
ومن ذا الذي ينكر
تأثير الشمس والقمر وهو شاهد وإن كان تأثير الشمس أظهر للحس وأبين من تأثير القمر
في الأزمان والبلدان والنبات والحيوان.
وأما غيرهما من
الكواكب فلسنا نجد لها تأثيرا يحس ولا نقطع وجوبه بالعقل وهو أيضا ليس من الممتنع
المستحيل بل هو من الجائز في العقول لأن لها شعاعا متصلا في الأرض وإن كان من دون
شعاع الشمس والقمر فغير منكر أن يكون لها تأثير خفي على الحس خارج عن أفعال الخلق
فإن كان لها تأثير كما يقال فتأثيرها مع تأثير الشمس والقمر في الحقيقة من أفعال
الله تعالى وليس يصح إضافته إليها إلا على وجه التوسع والتجوز كما نقول أحرقت
النار وبرد الثلج وقطع السيف وشج الحجر وكذلك قولنا أحمت الشمس الأرض ونفعت الزرع
وفي الحقيقة أن الله أحمى لها ونفع.
ومما يدل على أن
الله تعالى يشغل شيئا بشيء قوله سبحانه :
(هُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ
سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ
فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ).
وليس فيما ذكرناه
رجوع إلى قول أصحاب الأحكام ولا قول بما أنكرناه عليهم في متقدم الكلام لأنا
أنكرنا عليهم إضافة تأثيرات الشمس والقمر إليهما من دون الله سبحانه وقطعهم على ما
جوزناه من تأثيرات الكواكب بغير حجة عقلية ولا سمعية وإضافتهم إليها جميع الأفعال
في الحقيقة مع دعواهم لها الحياة والقدرة.
وأنكرنا أن تكون
الشمس أو القمر أو شيء من الكواكب موجبا لشيء من أفعالنا بشهادة العقل الصحيح.
فإن أفعالنا لو
كانت مخترعة فينا أو كانت عن سبب أوجبها من غيرنا لم تصح بحسب قصودنا وإراداتنا
ولا كان فرق بينها وبين جميع ما يفعل فينا من صحتنا وسقمنا وتأليف أجسامنا وحصول
الفرق لكل دلالة على اختصاصها بنا وبرهان واضح بأنها حدثت من قدرتنا وأنه لا سبب
لها غير اختيارنا.
وأنكرنا عليهم
قولهم إن الله تعالى لا يفعل في العالم فعلا إلا والكواكب دالة عليه فإن كل شيء
يدل عليه لا بد من كونه وهذا باطل يثبت لها تأثيرا أو دلالة فإن الله أجرى تلك
العادة وليس يستحيل منه تغير تلك العادة لما يراه من المصلحة وقد يصرف الله تعالى
السوء عن عبده بدعوة ويزيد في أجله بصلة رحم أو صدقة فهذا الذي ثبتت لنا عليه
الأدلة وهو الموافق للشريعة وليس هو بملائم لما يدعيه المنجمون والحمد لله.
وأنكرنا عليهم
اعتمادهم في الأحكام على أصول مناقضة ودعاوي مظنونة متعارضة وليس على شيء منها
بينة.
فإن كان لهذا
العلم أصل صحيح على وجه يسوغ في العقل ويجوز فليس هو ما في أيديهم ولا من جملة
دعاويهم.
وقد قال شيخنا
المفيد رضوان الله عليه إن الاستدلال بحركات النجوم على كثير مما سيكون ليس يمتنع
العقل منه ولا يمنع أن يكون الله عزوجل علمه بعض أنبيائه وجعله علما على صدقه.
قال ابن طاوس هذا
آخر ما ذكره الكراجكي رضوان الله عليه في كتابه ونعتقد أنه اعتمد عليه.
٣ ـ ونقل في
البحار جلد ٤٠ صلى الله عليه وسلم ٥٤ عن كنز جامع الفوائد الذي جاء فيه:
روى أبو جعفر محمد
الكراجكي في كتابه كنز الفوائد حديثا مسندا يرفعه إلى سلمان الفارسي قال :
كنا عند النبي صلى
الله عليه وسلم في سجدة إذ جاء أعرابي فسأله عن مسائل في الحج وغيره فلما أجابه
قال له :
يا رسول الله إن
حجيج قومي مما شهد ذلك معك أخبرنا أنك قمت بعلي بن أبي طالب عليهم السلام بعد
قفولك من الحج ووقفته بالشجرات من خم فافترضت على المسلمين طاعته ومحبته وأوجبت
عليهم جميعا ولايته وقد أكثروا علينا من ذلك فبين لنا يا رسول الله أذلك فريضة
علينا من الأرض لما أدنته الرحم والصهر منك أم من الله افترضه علينا وأوجبه من
السماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل الله افترضه وأوجبه من السماء وافترض
ولايته على أهل السماوات وأهل الأرض جميعا.
يا أعرابي إن
جبرئيل عليهم السلام هبط علي يوم الأحزاب وقال :
إن ربك يقرئك
السلام ويقول لك إني قد افترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل
الأرض فلم أعذر في محبته أحدا فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ومن أبغضه
فببغضي وبغضك أبغضه.
أما إنه ما أنزل
الله تعالى كتابا ولا خلق خلقا إلا وجعل له سيدا فالقرآن سيد الكتب المنزلة وشهر
رمضان سيد الشهور وليلة القدر سيدة الليالي والفردوس سيد الجنان وبيت الله الحرام
سيد البقاع وجبرئيل (ع)
سيد الملائكة وأنا
سيد الأنبياء وعلي سيد الأوصياء والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولكل امرئ من
عمله سيد وحبي وحب علي بن أبي طالب سيد الأعمال وما تقرب به المتقربون من طاعة
ربهم.
يا أعرابي إذا كان يوم القيامة نصب
لإبراهيم منبر عن يمين العرش ونصب منبر لي عن شمال العرش ثم يدعى بكرسي عال يزهر
نورا فينصب بين المنبرين فيكون إبراهيم على منبره وأنا على منبري ويكون أخي علي
على ذلك الكرسي فما رأيت أحسن منه حبيبا بين خليلين.
يا أعرابي ما هبط علي جبرئيل إلا وسألني
عن علي ولا عرج إلا وقال اقرأ على علي مني السلام.
فهرس الجزء
الثاني
الأدلة على أن الصانع واحد
|
٥
|
منام للمفيد حول قضية الغار
|
٤٨
|
فصل من كلام رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله
|
١٠
|
كلام للمؤلّف حول قضية الغار
|
٥١
|
فصل من فضائل أمير المؤمنين (عليهم
السلام)
|
١٢
|
مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليلة الهجرة
|
٥٣
|
من كلامه (عليهم السلام) وآدابه في
فضل الصمت
|
١٤
|
أحاديث
|
٥٥
|
مختصر التذكرة بأصول الفقه
|
١٥
|
من روايات ابن شاذان
|
٥٥
|
فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر
الكلام
|
٣١
|
مسألة وجوابها
|
٥٧
|
من كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله
|
٣١
|
فصل في الرؤ يا في المنام
|
٦٠
|
من كلام أمير المؤمنين (عليهم السلام)
|
٣١
|
أحاديث عن أبي ذر
|
٦٧
|
من كلام الحسين (عليهم السلام)
|
٣٢
|
مسألة في المواريث
|
٦٨
|
من كلام الإمام الصادق (عليهم السلام)
|
٣٣
|
قضية مستطرفة لأمير المؤمنين (عليهم
السلام)
|
٦٩
|
من كلام غير الأئمة
|
٣٣
|
شبهات للملاحدة وجوابها
|
٧٠
|
أبو حنيفة مع الإمام الصادق
|
٣٦
|
سؤال ورد للمؤلّف من الساحل وجوابه
|
٧٣
|
حديث الإمام الصادق
|
٣٧
|
قصة وقعت للمؤلّف
|
٧٨
|
فصل من الاستدلال على أن اللّه تعالى
ليس بجسم
|
٣٧
|
فصل من كلام أمير المؤمنين (عليهم
السلام)
|
٨٣
|
حول هشام بن الحكم
|
٤٠
|
أحاديث في فضله (عليهم السلام)
|
٨٣
|
أبيات لزينبا
|
٤٢
|
دليل النصّ بخبر الغدير على إمامته
(عليهم السلام) والمناقشة حوله
|
٨٤
|
رسائل متبادلة بين الإمام علي وبين
معاوية
|
٤٢
|
فصل من الوصايا والإقرارات المبهمة
العويصة
|
٩٨
|
مسألة فقهية منظومة وجوابها
|
٤٥
|
فصل في ذكر هيئة العالم
|
١٠١
|
مسألة أخرى منظومة وجوابها
|
٤٦
|
|
|
فصل في العلم وأهله
|
١٠٧
|
قصة له (عليهم السلام)
|
١٨٣
|
مسائل وجوابها
|
١١١
|
مسألة في المنى ونجاسته
|
١٨٤
|
رسالة للمؤلف حول طول الأعمار وعمر
صاحب الزمان والمعمرين
|
١١٤
|
فصل حول وقوله تعالى : (إنكم وما تعبدون من دون ...)
|
١٨٦
|
صبغي
|
١٢٤
|
سؤال عن ثلاث آيات وجوابه
|
١٨٨
|
خبر قس بن ساعدة الايادي
|
١٣٤
|
فصل مما ورد في ذكر النصف
|
١٨٩
|
خبر المعمر المشرقي
|
١٥٤
|
فصل من الأدب
|
١٩٢
|
فصل في الكلام في الآجال
|
١٥٥
|
فصل في الغنى والفقر
|
١٩٣
|
مسألة فقهية
|
١٥٩
|
فصل في الكلام في الأرزاق
|
١٩٥
|
خبر ضرار بن ضمرة
|
١٦٠
|
فصل في تأويل قوله تعالى : (فما بكت عليهم السماء ...)
|
٢٠٠
|
فصل ما جاء في الخصال
|
١٦٣
|
ذكر مجلس للمؤلف في القياس وإبطاله
|
٢٣٠
|
تأويل آية
|
١٦٥
|
ذكر مجلس للمفيد
|
٢١٠
|
تأويل خبر : (إن الله خلق آدم على صورته)
|
١٦٧
|
مسألة حول قوله (صلى الله عليه وسلم)
: (اختلاف أمتي رحمة)
|
٢١٥
|
فصل من الاستدلال على صحة النص
بالإمامة
|
١٦٨
|
فصل من الاستدللا على صحة الإمامة والعصمة
|
٢١٥
|
فصل في حديث رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ...»
|
١٧٧
|
سؤال في الغيبة
|
٢١٦
|
أحاديث في ذلك
|
١٧٨
|
تأويل آية : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ...)
|
٢١٩
|
أبيات لعلي (عليهم السلام)
|
١٨٠
|
نصوص مفقودة
|
٢٢٣
|
من آدابه (عليهم السلام)
|
١٨٢
|
مراجع الكتاب
|
٢٣٩
|
|