الفصل الثاني عشر :

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

قال تعالى :

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

حيث أظهرت هذه الآية حقيقة هامة ، هي أن وقاية الله سبحانه وتعالى للأبرار من شر ذلك اليوم ، ثم ما فعله بهم من أنه قد لقّاهم نضرة وسرورا لم يكن هو الجزاء لأولئك الأبرار. بل هذه كرامات وألطاف إلهية ، حباهم الله تعالى بها ، إمعانا في تشريفهم ، ومزيدا في الرعاية لهم.

وذلك حين منّ عليهم بهذا الجزاء العظيم ، في مثل هذا الحال الشديد ، الذي يواجهه الإنسان بانتقاله إلى عالم الآخرة ، الجديد عليه ، وهو يوم الفزع الأكبر ..

فكانت مراسم الاستقبال لهم هي هذا التشريف الإلهي ، الذي تجلى أولا بالحصانة وبالوقاية التي حباهم بها ، فحقق لهم الأمن الحقيقي ، والاطمئنان النفسي ، ثم حباهم بالنضرة والسرور الذي كان هو الإشارة الحسية الملموسة ، التي تزيد من ثقتهم بأن ما حصلوا عليه ليس أمرا عارضا ، قد يزول ويتغير .. فيما لو فتحت السجلات .. بل هو أمر يدخل في دائرة التكريم والتشريف الإلهي الدائم والمستمر ، وأن عليهم أن ينتظروا مكافآت أعظم ، وألطافا وعنايات أتم ، وأهم ، وأعم ..

ثم جاء الجزاء الإلهي الذي نتج عن فعلهم ، وله أسباب وعلل وفق ما اقتضته السنن الإلهية ، وفرضه النظام الرباني .. الذي لأجله قال تعالى : «جزاهم» ، ولم يقل : أعطاهم ، أو تفضل عليهم.

«وجزاهم» .. أم جازاهم؟ :

ولا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بأن التعبير بكلمة جزاهم ، التي هي فعل ماض ، إنما هو للإشارة إلى أن هذا الأمر كأنه قد حصل وانته حتى ليصح الإخبار عن حصوله. وذلك لعدة خصوصيات قد أشير إليها أكثر من مرة ..

ويبقى سؤال هو : أن التعبير هنا قد جاء بكلمة جزاهم ـ لا بكلمة جازاهم ، فما هو الفرق بين التعبيرين يا ترى؟!

ونقول :

قد يمكن الإجابة عن ذلك بأن كلمة «جازى» تستعمل في مورد العقاب غالبا. بل قد يستفاد من قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ، أن كلمة جازى متمحضة في الجزاء بالسوء.

أما كلمة جزى فتستعمل في العقوبة والمثوبة على حد سواء ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

وقال في مورد المثوبة : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

وقد يقال أيضا : إن كلمة جازى تفيد التدقيق والمقابلة بصرامة ، أو فقل : معناها الجزاء وفق ميزان العدل.

أما كلمة جزى فتفيد مطلق المكافأة ، حتى ولو بالزيادة على ما يقتضيه ميزان العدل .. ولذلك ، فإن الله تعالى ، وإن كان في مورد العقوبة ، لا يزيد عن مقدار ما يجازي عليه ، ولكنه في مورد المثوبة يزيد في

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٣٣.

المثوبة إلى سبع مئة ضعف ، ثم يضاعف لمن يشاء ، وهذا أزيد مما يقتضيه العدل. وفي المورد الذي نحن فيه ، مذ جاء الجزاء وفق مقتضيات التفضل ، الذي لا حدود للعطاء فيه ، ولأجل ذلك نكّرت كلمة جنة ، وكلمة حرير .. لإفادة أن ما يعطيهم الله إياه يفوق حدود التصور ، كما ألمحنا إليه آنفا في قوله تعالى : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية :

ثم إن من الواضح : أن كلمة جزى ، تعني إعطاء البدل والمكافأة من طرف واحد ، ولا يلحظ فيها إلا ما يفعله من يريد إعطاء الجزاء.

أما كلمة جازى ، فهي على وزان فاعل ، التي تستعمل عادة للدلالة على وجود فعل من الطرفين ، بصورة متكافئة ومتوازنة ، فهي مثل قاتل ، ولاعب ..

فالجزاء الإلهي إذا كان على سبيل المثوبة ، فإنه لا يلحظ فيه الفعل إلا في طرف واحد ، وهو الله سبحانه .. ولا يلحظ فيه التعادل والتوازن بين ما يعطيه الله سبحانه ، وما يقدمه العبد من عمل ، إذ لا مجال للموازنة بين العطاء الإلهي ، وبين الطاعات الصادرة عن العبد .. وإن كان فعل العبد له دور التسبيب للفيض وللعطاء الإلهي. لكن لا يلحظ فيه أزيد من ذلك .. فيعطي الله مقابل الحسنة عشر أمثالها ، إلى سبعماية ضعف ، ثم إن الله يضاعف لمن يشاء ..

وإنما قلنا : إنه لا مجال للمقابلة ، بسبب الطاعات أيضا ، لأنه إنما يقدر العبد عليها ، ويأتي بها بواسطة قدرات أخرى أنعم الله بها عليه ، وهي لا يمكن إحصاؤها ، ولا شكرها.

أما إذا كان على سبيل العقوبة .. فإن الله سبحانه .. وإن كان قد أوعد

العاصين بالجزاء بالمثل ، لكن يبقى موضوع العفو ، أو التخفيف ، مراعاة لكثير من الأمور واردا في كثير من الموارد .. بل إن المقابلة بالمثل على نحو الدقة المتناهية قد لا تكون واردة إلا في مورد واحد ، وهو ظهور كثرة الكفر وشدته ، كما أشارت إليه الآية الكريمة التي تتحدث عن سبأ ، الذين أرسل الله عليهم سيل العرم ، حيث قال سبحانه : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١).

ويلاحظ :

أن هذه الآية هي الوحيدة التي وردت في القرآن بصيغة «فاعل» ، للدلالة على المقابلة بين العمل الصادر منهم ، وبين الجزاء الصادر من الله سبحانه لهم. وللدلالة على وجود هتك وتعدّ على الله تعالى من قبلهم ، فناسب ذلك أن يكون في مقابله هتك لحرمتهم ومواجهه لهم بما يسوءهم وفي هذا نوع من التوسع في الإطلاق ، كما هو ظاهر ..

الثواب بالتفضل ، أم بالاستحقاق؟ :

ثم إنه لا شك في : أن التمرد على المولى يوجب العقوبة ، كما أنه بما يمثله من عدوان على نظام الحياة يوجب خللا في هذا النظام ، يستوجب العقوبة أيضا ، لأن ما يفعله الإنسان لا يقاس بحجمه المادي وحسب .. بل تلاحظ فيه الحيثيات الأخرى أيضا .. فمن كسر زجاج شباك الغير خطأ فعليه أن يعوض ما كسره ، وينتهي الأمر ، لكن من يضرب مولاه عمدا ، فإن القضية ليست مجرد ضربة بضربة. إذ يبقى موضوع هتك حرمته من حيث هو مولاه ، بدون تعويض ، كما أن الأمر بالنسبة

__________________

(١) سورة سبأ الآية ١٧.

لجانب الطاعة كذلك ، فإن البلخي قد ادعى : أن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل لا بالاستحقاق ..

واستدل على ذلك : بأن التكاليف إنما وجبت شكرا للنعمة ، فلا يستحق فاعلها مثوبة عليها ، فما يعطيه الله للعبد عليها إنما هو تفضل منه.

ونقول :

إن هذا الكلام باطل ، إذ يقبح عند العقلاء أن ينعم أحد على غيره بنعمة ، ثم يكلفه ، ويوجب عليه شكرها ، من دون إيصال ثواب إليه على هذا التكليف ، وهم يعدون ذلك نقصا ، وينسبون من يفعل ذلك إلى حب الجاه والرياسة ونحو ذلك من المعاني التي لا تصح من الحكيم.

وهذا يعني : أنه إذا كلفه ، فإن عليه أن يثيبه على امتثاله لهذا التكليف .. وأن المثوبة بالاستحقاق ، لا بالتفضل.

وبعبارة أخرى :

إن الطاعة مشقة ألزم الله العبد بها ، فإن لم تكن لغرض كانت ظلما وعبثا ، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم.

وإن كانت لغرض .. فإن كان يعود إلى الله فهو باطل ، لأنه تعالى غني عن العالمين. وإن كان الغرض عائدا للمكلف .. فإن كان هو الإضرار به كان ظلما قبيحا.

وإن كان هو النفع له ، فإن كان مما يصح أن يبتدئ الله به العبد ، فلماذا يكلفه به .. وإن كان مما لا يصح الابتداء به ، بل يحتاج إلى تكليف ، فإن العبد يستحق أن يعوضه الله عن تلك المشقة التي كلفه بها بمثوبة وأجر ..

وهذا معناه : أن مثوبة العبد إنما هي بالاستحقاق ، وهو المطلوب ..

إستحقاق ناشئ عن التفضل :

والحقيقة هي : أن هذا الاستحقاق ناشئ عن التفضل ، وذلك ببيان : أن مالكية الله للعبد ولكل شيء ، وكون طاعة العبد إنما تتحقق بالاستفادة من نعمه وتفضلاته وفيوضاته تعالى .. ـ إن ذلك ـ يجعل تقرير أصل الثواب للعبد المملوك على أفعاله داخلا في دائرة التفضل ، فكيف إذا جعل له جزاء مضاعفا أضعافا كثيرة؟!.

ولكنه بعد أن قرر الله تعالى ذلك لعباده ومملوكيه بعنوان الجزاء ، وتفضّل عليهم بزيادة مقاديره .. وأصبح هذا قانونا إلهيا مجعولا ، فإن ذلك يدخله في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن.

ولأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يحرم الله سبحانه المطيع من هذا الثواب. ولو أنه كان تفضلا ، لجاز ذلك .. فكيف لو أراد أن يحرم المطيع ، ويعطي العاصي؟! فإن الأمر سيكون أشد قبحا ، وأعظم شناعة ، كما هو ظاهر لا يخفى.

وهذا من قبيل ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة إذا نجح في الامتحان ، فإذا نجح ذلك الولد ، فسيرى أن له حقا بمطالبة والده بتلك الجائزة. حتى إذا حرمه منها ، فسيجد نفسه مظلوما مهانا ، فكيف إذا حرمه منها ، وأعطاها لأخيه الراسب؟!

وبتعبير أوضح : إن إعمار الأرض ، وتحقيق الأهداف الإلهية في إيصال الإنسان إلى كماله ، يقتضي تزويده بالأدوات التي تمكنه من ذلك ، فكان أن أعطاه الله المشاعر ، والعقل ، والإرادة ، ووفر له جميع أنواع الهدايات : الإلهامية ، والحسية ، والفطرية ، والغرائزية ، والعقلية ، ثم اعتبره أهلا للخطاب الإلهي .. فجعل له قانونا ، وأكرمه ، وكلفه به .. وجعل له كيانا

وشخصية .. رغم أنه هو المالك له ، فإن مقتضى الأخذ بهذه السياسة هو الالتزام بلوازمها ، والاستجابة لموجباتها ، وترتيب آثارها .. فالذي جعلت له كيانا ، وكرامة ، ورسمت له هدفا ، وكلفته بالعمل للوصول إليه باختياره ، وقررت له حقوقا ، فإنه إذا أنجز ما طلب منه ، سيطالب بهذه الحقوق المجعولة له ، ولا يرضى بأن تعطى لغيره ، حتى لو كان ذلك الغير هو ولده ، أو أبوه ، أو أخوه ، وسيرى نفسه مظلوما إن حصل ذلك فعلا.

«بِما صَبَرُوا» :

ثم إنه مرة يكون الدافع للعطاء هو مراعاة خصوصية في المبذول له ، ككونه عالما ، أو لأجل حسن سلوكه ، أو إلخ .. فيعطيه ، ولو لم يصدر من ذلك الشخص أي فعل يستحق أن يقابل بشيء آخر ..

ومرة يراد بالعطاء أن يكون مقابل جهد يراد أن يكون جزاء له ، فتحتاج إلى تحقيق توازن بين المجازى به ، والمجازى عليه ، من حيث إن هذا أقل ، وذاك أكثر ، أو العكس ..

وقد يكون هذا العطاء أرجح من حيث الصفة التي يراد مراعاتها فيه ، وقد لا يكون كذلك ..

وبعد ما تقدم نقول :

هل يريد الله تعالى بقوله : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أن يجعل العطاء والجزاء ، على نفس وجود طبيعة وخصوصية الصبر فيهم؟! .. أو أنه يريد أن يجازيهم على فعل صدر منهم ، وقد كان هذا الفعل تجسيدا لمفهوم الصبر في الواقع الخارجي؟!

إن الظاهر أن المراد هنا ، هو هذا الشق الثاني ..

وذلك لأن كلمة (بِما صَبَرُوا) تستبطن ، أو فقل : تصرح ، بأن هذا العطاء

قد كان بسبب وجود مبرر ، بل لأجل استحقاق واقعي لما تعطيه إياه.

وهذا معناه : أنه لا بد أن يكون مقدار وميزات الفعل الصادر من الأبرار ملحوظا في مقام العطاء ، ليصح أن يقال إن هذا في مقابل ذاك.

فالباء في قوله (بِما صَبَرُوا) إذن تفيد مقابلة هذا بهذا ، والتعويض به عنه ، وتفيد الآلية والتسبيب ، وأن الوسيلة إلى هذا الجزاء ، هي ذلك الصبر.

وهذا يقتضي : أن لا تكون هناك أية منة عليهم بهذا الجزاء ، لأنه أعطى في مقابل عمل .. وأن هذا العمل ليس عاديا بل هو يحتاج إلى صبر ، وتحمل ، وجهد ..

وبذلك يتضح السبب في : أن الله سبحانه قد استخدم نفس هذه الباء أيضا ، في قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١). وفي قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) (٢).

الجزاء مقابل الصبر ، أم مقابل العمل؟ :

وقد تحسن الإشارة إلى أنه تعالى قد جعل الجزاء هنا ، مقابل الصبر نفسه ، لا مقابل العمل الذي صبروا عليه ، ليشير بذلك إلى شدة معاناتهم ، وأنها قد بلغت حدا أصبح نفس فعلهم صبرا ، وأصبح الجزاء على نفس هذا الصبر ..

وقد جاء بكلمة (صَبَرُوا) بصيغة الماضي ، لعله ليشير إلى أن هذا الصبر هو فعل اختياري لهم ، وليس أمرا مفروضا عليهم .. فليس حالهم

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٤٥.

(٢) سورة الرعد الآية ٢٤.

كحال ذلك السجين الذي يجبر على بعض الأعمال الشاقة .. بل هو صبر وحصانة قد اختاروها أنفسهم واختاروا هم الفعل الذي ينتجها ..

ويلاحظ هنا : أنه لم يذكر للصبر أي متعلق ، ربما ليفيد أن صبرهم هذا كان شاملا ، فهو صبر على الطاعات ، فلا يملون منها ، وصبر عن المعاصي ، فلا يقربونها ، وصبر على المصائب والبلايا. وصبر على الأذى في جنب الله ، وما إلى ذلك ..

وكل صبر لهم في هذه الموارد لم يأت على أساس العجز عن اختيار الطرف الآخر ، أو الاضطرار إلى التحمل ، بل كما يضطر المحتاج لبيع ما غلا ، بثمن بخس ، من أجل سد حاجته ، بل هو صبر الاحتساب ، وهو الصبر الواعي ، الذي تنتجه إرادتهم ، ويدفعهم حبهم لله لاختياره.

إنه صبر أنتجه لهم إطعامهم الطعام للمسكين ، واليتيم ، والأسير ، على النحو الذي وصف الله ورسوله .. وينتجه لهم الوفاء بالنذر ، وينتجه أيضا خوفهم من يوم كان شره مستطيرا ..

وهذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى قال : (بِما صَبَرُوا)، ولم يقل : جزاهم بصبرهم ، فإن التعبير بالمصدر قد يوحي بأن هناك أمرا أو شدة قد فرضت عليهم ، وأنهم قد تحملوها. وهذا ما ليس بمراد قطعا ..

كما أن ما ذكرناه في معنى الباء ، إذا أضيف إلى سائر ما أشرنا إليه ، يجعلنا نعرف السبب في أنه لم يقل : «على صبرهم».

لذة الاستحقاق :

ولا بد لنا هنا من بيان : أن الجزاء على عمل فيه معاناة ، وصبر ، وإحساس بالاستحقاق له لذة أخرى تضاف إلى لذة نفس العطاء ، من حيث هو عطاء ..

فإن الجهد نفسه يجعل للعطاء لذته ، وللشعور بالاستحقاق لذة أخرى تضاف إلى ذلك.

وربما يمكن تأييد ذلك بما نشاهده من تعلق الإنسان ، وحرصه الشديد على كل شيء يناله بعد تعب وجهد. بخلاف ما يحصل عليه بسهولة ويسر ، فإنه لا يكون له ذلك التعلق به ، بل يسهل عليه التخلي عنه ، تماما. قال الشاعر :

ومن أخذ البلاد بغير حرب

يهون عليه تسليم البلاد

ولعل سبب اللذة بما يبذل الإنسان في سبيله جهدا ، هو أن بذل الجهد يكون سببا في الشعور باستحقاق الجزاء .. وهذا يعطي الإنسان شعورا بالعزة ، والكرامة ، وبالانتصار ، وبالاستقلال في شخصيته وكيانه ، ويمنحه ثقة بنفسه.

فعطاء الجزاء إذن له قيمته ، وله لذته المميزة. وربما لا يكون لعطاء التفضل هذا النوع من المزايا ، وإن كانت له مزايا من نوع آخر ..

وهناك شعور آخر قد يتمازج مع لذة الاستحقاق ، وما ينشأ عنها ، ألا وهو شعوره بأن ما يعطى له إنما هو نتيجة ما بذله من جهد وتعب ، فهو بذلك قد أسهم في رفع نقصه ، وتحويله إلى كمال ، وبدّل عجزه بالقوة ، وحاجته بالغنى ..

وهذه مزايا أخرى يحبها ، ويعتز بها ، وترضى روحه بها.

كما أن علاقته بنتاج فعله وجهده الذي كان به كماله ، وغناه وقوته ، ستكون علاقة لها مغزاها العميق ، وأثرها الظاهر في روحه ووجدانه ، وإحساسه بالرضا والغنى ، وبالكمال والقوة.

وخلاصة الأمر : أن للنعمة التي أعطيت له لذة ، وبهجة ، ورونق ..

وللشعور بأنها عن استحقاق بسبب تعب وجهد ؛ لذة أخرى .. ثم إن هناك أيضا لذة الكمال والشعور به ..

استطراد .. للتوضيح :

ونستطيع أن نستشهد على هذا الذي قلناه بما يلي :

ما ورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم : «تهادوا تحابوا فإن الهدية تذهب بالضغائن» (١).

إذ إن الذي يقدم الهدية ، هو الذي يحب من أخذ الهدية ، ولعله لأن المعطي إنما يبذل له ما حصله بجهده وعرقه ، أو ببذل ماء وجهه ، أي : أن جزءا من كيانه ، ووجوده قد تجسد بهذا النتاج. والإنسان يحب نفسه ، وكل متعلقاتها ، ويتعامل مع كل ما يعود إليها ، أو يرتبط بها ، بصورة أكثر حميمية ، وانجذابا ، من تعامله مع الأغيار.

وهذا يشير إلى أنه حين أمرنا الله تعالى بالبذل للآخرين ، فإنما أراد منا أن ننظر إليهم ، وأن نتعامل معهم على أنهم جزء من كياننا ومن وجودنا ، وما ذلك إلا لأن تعاملنا هذا سيغير الكثير الكثير من طبيعة حياتنا ، وعلاقاتنا ومواقفنا من بعضنا البعض.

أما من يأخذ الهدية ، فقد يكون في حرج وضيق ، حين يفكر بأن المعطي قد يمنّ عليه بما أعطاه ، ويذكّره به حتى بالسلام ، وفي البسمة واللفتة ، والنظرة ، وقد تذهب به أفكاره وخيالاته كل مذهب ، ليصل إلى حد أن يفكر بأن يبعده عنه ، ويتخلص منه ، ولو بالأسلوب السيء

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٢ ص ٤٤ وج ٧٤ ص ١٦٦.

والمهين. وقد شاع ذلك القول المأثور : «إتق شر من أحسنت إليه» (١).

وشاهد آخر على ذلك ، هو أن الله سبحانه يقول : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢).

فإن الله سبحانه حين شرع أحكام الزواج ، لم يذكر واجبات وأحكاما إلزامية خاصة بهذا الواقع الجديد ، سوى عدد يسير ، ربما لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة .. واكتفى فيما عدا ذلك بالأحكام العامة ، الشاملة لكل مسلم ..

مع أن الاحتكاك في الحياة الزوجية فيما بين الزوجين ، يفوق ما يكون في أية حالة أخرى .. والأجواء في داخل البيت الزوجي مهيأة للتدخل في كل شيء يمكن تصوره في مجال تعاطي إنسان مع إنسان آخر ..

وذلك من أعظم الدلائل على أن هذا الدين هو من عند الله تعالى .. وهو من مظاهر الإعجاز التشريعي ، الدال على أن واضعه هو الله العالم بالسرائر .. حيث إنه قد تبين من خلال هذا التشريع أنه تعالى لا يريد بناء الحياة الزوجية على أساس مصلحي ، أو تجاري ، أو سياسي ، أو على أساس الخضوع والانقياد لظروف اجتماعية ، أو غيرها .. لأن المتوقع في هذه الحال هو أن تنتهي العلاقة بمجرد فقدان تلك المصلحة ، أو انتهاء ذلك الظرف السياسي ، أو الاجتماعي ، أو غيره .. أو إذا وجد أي من الشريكين موردا آخر أكثر ربحا ، وأعظم فائدة ونفعا.

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٢ ص ٣٥٢.

(٢) سورة الروم الآية ٢١.

كما أنه لا يريد أن يقيم العلاقة على أساس اقتضاء الغريزة والحب الشهواني ، فإنه تأثير سيتضاءل أيضا إلى حد التلاشي التام ؛ حينما تفقد الغريزة فاعليتها ونشاطها ، أو حينما تخبو جذوة الشهوة ، لأي سبب كان ..

بل يريد أن يقيمها على أساس أقوى من ذلك كله ، يستطيع أن يكون هو الحاكم ، والمؤثر ، في مختلف الظروف والأحوال ، ألا وهو الحب الإنساني ، والنظرة الإيمانية ..

فكان أن سعى إلى إثارة المشاعر الإنسانية ، في كلا الطرفين ، تجاه الطرف الآخر ، وهيأ المناخ لتمازج تلك المشاعر ، لتنتج من ثم حبا إنسانيا صافيا وخالصا ، يحمل في داخله معنى القيمة ، ومعنى الإخلاص ، ويتنامى في ظل الرعاية الإلهية ليلتقي بالوجدان ، فيهبه حياة ، ويقظة دائمة ، ويتأصل ، ويتجذر ، ويتعمق بالإيمان ، والتقوى .. ويصان ويحفظ في ظل الإحساس بالرقابة الإلهية والوجدانية.

ومن هنا نجد : أن التشريع الإلهي لم يقم نظام الحياة الزوجية على أساس الحق والعدل. وقهر الطرف الآخر به ، وفرضه عليه .. إذ أنه لم يشرع واجبات كثيرة يمكن المطالبة بها لأي منهما ، وذلك الذي شرعه وفرضه فعلا ، لن يحقق لهما الراحة ، والسعادة ، والهناء ، إلا بقدر ما يحجزهما عن العدوان والتظالم فيما بينهما ، حين تبلغ بهما الأمور إلى الخطوط الحمراء ، حيث يكمن الخطر ، وتتعمق الهاوية السحيقة.

ولسوف يدركان من خلال التجربة العملية : أن هذا ليس هو طريق نيل السعادة ، بل إن نيلها وسائل وطرق أخرى لا بد من البحث عنها ..

ولن يطول بهما المقام ، إذ سيدركان : أنه لا بد لهما من العودة إلى ما يريد الله لهما أن يعودا إليه ، ألا وهو التوادّ ، والتراحم ، حسبما أشارت

إليه ، الآية الكريمة : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (١) أن الملاذ والمنقذ هو الحب الإنساني ، لا الحب الغريزي والشهواني ، الذي ليس هو في الحقيقة إلا تعبيرا آخر عن الأنا الطاغي ، والمتمرد ، الذي يريد أن يستأثر باللذة ، وأن يسعد بها ، بأية قيمة وبأي ثمن.

والحب الإنساني والإيماني : لا يرضى بديلا عن أن يصبح كل من الزوجين جزءا من شخصية الطرف الآخر ، ومتمما لكيانه ، ووجوده : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ).

ولكن : الله سبحانه لا يريد أن يوجد هذا الحب بصورة إعجازية ، وبجبرية قاهرة .. وإنما يريد لهما أن يقوما معا بتهيئة أسباب وجوده ، وموجبات نشوئه. وأن ينتجاه بصورة طبيعية ، وأن يتنامى في داخل ذاتهما ليصبح جزءا من التكوين الحقيقي لشخصيتهما الإنسانية.

وقد اعتمد من أجل تحقيق ذلك عنصر التضحية المتبادلة ، والتي تكون عن إرادة واختيار ، ومن منطلق المعرفة ، والوعي ، والإدراك لحقيقة حاجاتهما الحياتية ، في مختلف المجالات ..

فحين يشعر كل من الزوجين بضعف الطرف الآخر ، وبحاجته للمساعدة والرعاية ، فستتحرك مشاعر الرحمة فيه ، وسيدعوه ذلك لمد يد العون له. حتى إذا تكرر هذا العون والتعاهد له مرة بعد أخرى ، فإن ذلك سيجعله يتعلق به ، لأن جزءا من جهده ، ومن عرقه ، قد تجسد فيه ، وسيزداد هذا التعلق على مر الأيام تبعا لتكرر ذلك بسبب اقتضاء الطبيعة الإنسانية له ..

ولعل هذا يفسر لنا سرّ شدة تعلق الأم بطفلها ، فإن سببه هو مدى ما

__________________

(١) سورة الروم الآية ٢١.

تبذله من جهد في مساعدته ، وهي ترى ضعفه وحاجته ، فتسهر عليه ، وتتحمل الكثير من المشاق في سبيله.

أما الأب فإن ما يبذله من جهد وتضحيات مباشرة في سبيل الطفل ؛ لا يصل إلى حد ما تبذله أمه فلذا كان من الطبيعي أن العاطفي بالولد عن درجة التعلق العاطفي به لدى أبيه.

وبذلك يتضح ما يشير إليه قوله تعالى : (جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) فإن المودة ـ كما قالوا (١) ـ هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل ..

غير أن علينا أن لا ننسى أن هذا الحب قد يفقد بعض توهجه ، بسبب ضعف أو فقد بعض موجباته ، التي تسللت إلى عناصر الإلزام في قرار الزواج ، مما له صفة غرائزية ، أو ذوقية ، نشأت عن ملاحظة حالة جمالية معينة ، فيكون ضعف تلك الموجبات سببا في بعض الخفوت ، وضعف التأثير في الحركة العملية ، والسلوكية ، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تدخل العنصر الثاني ، وهو الرحمة ، التي هي انفعال نفساني ، قوامه رقي في الإدراك الإنساني ، وشفافية ، وصفاء ، وتألق ، في روح الإنسان ونفسه ..

نعم تأتي هذه الرحمة الإنسانية لتكون هي الضمانة الحقيقية لبقاء هذه العلاقة الرحيمة ، والحميمة ، والصادقة ، محتفظة بقوتها ، وبحيويتها ..

والمثال الثالث الذي نذكره هنا ما رواه الكليني رحمه‌الله من أن الإمام الرضا [عليه‌السلام] رأى مع غلمانه شخصا أسود ، يعمل معهم بالطين ، فسألهم عنه ، فقالوا : إنه يعاونهم ويعطونه شيئا ، فغضب [عليه‌السلام] من ذلك.

__________________

(١) عن كنز الفوائد للكراجكي.

فسأله سليمان بن جعفر الجعفري عن ذلك ..

فقال : «إني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة ، أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته.

واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا بغير مقاطعة ، ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعافه على أجرته ، إلا ظن أنك قد نقصته أجرته. وإذا قاطعته ، ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء ، فإن زدته حبة عرف ذلك لك ، ورأى أنك قد زدته» (١).

نعم .. إن جهد الإنسان عزيز عليه ، لأنه يبذله من أغلى وأعز شيء في الوجود عليه ، وهو كيانه وعرقه ، وشخصيته ، وسوف لن يكون دقيقا في تقديره لقيمته ، بل هو سوف يذهب في ذلك إلى أقصى المذاهب ، إنه سوف لا ينظر الى العمل ، بل سوف ينظر إلى من عمل ، فهو إنما يطلب قيمة تفرض عليه أن يتخلى عن العلاقة القائمة بينه وبين بعض منه ، وجزء من ذاته ..

ومعنى هذا : أن التخلي لن يكون سهلا ، إذا قيس بالتخلي عن أمر ليست له به هذه الصلة ، بل هو لغيره ، ودوره فيه ، هو دور الحفظ والأمانة .. فإنه سيلحظ في هذا الحال قيمة نفس ذلك الشيء المؤتمن عليه .. وسوف تنقطع علاقته به بمجرد حصوله على هذه القيمة ..

مقارنة بين الجزاء .. وبين العمل :

ومراجعة الآيات الشريفة تعطينا : أنه سبحانه قد ذكر أمورا يقوم بها الأبرار ، ثم قابلها تعالى بجزاء متعدد المناحي ، والكيفيات ، والحالات ..

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٨ وبحار الأنوار ج ٤٩ ص ١٠٦.

فذكر أن الأبرار : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ..)

وأنهم يقولون لمن يطعمونهم : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) وأنهم «لا يريدون جزاء» ، وأنهم «لا يريدون شكورا» .. وأنهم «يشربون من كأس كان مزاجها كافورا» ، وأنهم «يفرجون العين التي يشربون بها تفجيرا» ..

وبعد أن ذكر هذه الأحوال للأبرار قابل ذلك بجزاء بيّن كثيرا من حالاته ، ومفرداته فكان هذا الجزاء «جنة ، وحريرا» ، (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) .. حيث قطوف الجنة دانية عليهم ، ومذللة لهم تذليلا .. (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) ، وبأكواب إلخ ..

لماذا لم يذكر الحور العين؟ :

وربما يرى البعض : أن الله سبحانه لم يذكر الحور العين في جملة مفردات نعيم الأبرار هنا إكراما للزهراء [عليها الصلاة والسّلام] .. لأن السورة نزلت في علي ، وفاطمة ، والحسنين [عليهم‌السلام] ..

ونقول :

إنه ليس لدينا ما يمنع من أن يكون هذا التكريم مقصودا ، ولكن لا بد أن نضيف إلى ذلك :

أولا : لأن لهذه السورة الشريفة خصوصية تنفرد بها فيما يرتبط ببيان طبيعة الجزاء الذي أعده الله سبحانه للأبرار ، فإن عمدة ما أشارت إليه من مفردات هذا النعيم ، هو حالات من النعيم المعنوي ، واللذات التي يدركها الإنسان بمشاعره ، وفكره ، وعقله ، وروحه ، من حيث إنها تعبير عن مقام سام ، وعن تكريم وإجلال وتقدير ..

بل إنه حتى حينما تحدث تعالى عن أمور حسّيّة ، فإنما ساقها

بطريقة توحي بحالات ومعان ، تثير لذات معنوية ، روحية ، وشاعرية ، أكثر مما هي مؤثرة في النعيم الحسي ، واللذة الجسدية ..

فمثلا : جعل جزاءهم نفس الجنة ، لا مجرد دخول الجنة والسكنى فيها ، وذلك يشير إلى أن المطلوب هو إثارة الشعور بالمالكية ، والقدرة ، والتصرف من موقع المالك ، لا من موقع الساكن والنزيل ، فإن من يشعر بملكية الشيء يكون تصرفه فيه أقوى وأعمق ، وتراوده مشاعر طمأنينة ، وثبات وسكينة أقوى.

كما أنه تعالى قد ذكر في هذه السورة لذة الاستحقاق ، ولذة الجزاء .. بعد معاناة الجهد ، والضعف ، والحاجة ، من قبل أولئك الأبرار ، وذكر أيضا لذة رفع الجهد ، وزوال الضعف ، ودفع الحاجة ، ولذة الكمال ، ولذة العطاء بعد المعاناة ..

وبيّن في هذه السورة المباركة أيضا حالات التصرف وآفاقه ، فلاحظ قوله : (مُتَّكِئِينَ) ، فإنها تلمح إلى لذة القدرة على التصرف ، وإلى التصرف الفعلي الذي يحسّ الإنسان بلذته فعلا أيضا .. وستأتي بقية التفاصيل ..

فإذا قارنت هذه اللذات المعنوية التكريمية بأنواع تلك الأعمال التي تصدى الأبرار لها ، فإنك ستجد تناسبا عجيبا فيما بين طبيعة الأعمال وطبيعة الجزاء عليها ..

فإن الوفاء بالنذر ، والخوف من ذلك اليوم ، وإطعام الطعام في تلك الأحوال التي وصفناها ، وبهذه الروحية التي بيّنها القرآن ، وكون الهدف هو رضا الله ، وليس الحصول على النعيم والجنان .. ثم تفجيرهم للعين تفجيرا بالعمل الصالح .. و.. و ـ إن كل هذا ـ يناسب تماما مفردات هذا

النعيم المعنوي التي وردت في هذه السورة على أنها جزاء على صبرهم .. وهذا الجزاء هو الذي يحقق طموحاتهم ، وما يفكرون فيه ..

ثانيا : هناك أمور كثيرة ذكرها الله سبحانه في سائر السور القرآنية ، على أنها من مفردات النعيم ولم تذكر هنا ، فهو لم يذكر مثلا أنهار العسل ، وأنهار اللبن ، والنخل ، والرمان ، وغير ذلك ، فعدم ذكر الحور العين هنا لعله لأن المورد ليس من موارد الجزاء بها ..

«جنّة» :

وحول كلمة «جنّة» نشير إلى ما يلي :

١ ـ قد أشرنا آنفا إلى أن الله تعالى قد جعل جزاء الأبرار نفس الجنة ، وليس جزاؤهم مجرد السكنى فيها .. وقد قلنا : إن تصرف المالك في الدار مثلا أقوى وألذّ ، وأرضى له من تصرفه فيه كنزيل ..

٢ ـ لقد قال تعالى : (جَنَّةً) بتنوين التنكير ، ليظهر أنها فوق حدود التصور ، فلا مجال لمعرفة حقيقتها ، ووعي أوصافها وخصوصياتها. فالتنوين إنما هو لأجل تفخيمها ، وتعظيمها بما لا مزيد عليه.

٣ ـ إن نفس إبهام هذه الجنة يهيء لخاطر هؤلاء الأبرار لذة أخرى ، وهي لذة محاولة استحضار ذلك النعيم. لا ليكون خيالا لذيذا ، بل ليكون تصورات لها تطبيقاتها الواقعية ..

فلهم إذن لذتان :

إحداهما : تأتي من خلال التفكير في هذه الجنة وعظمتها وفخامتها.

والأخرى : هي الاستفادة من الجنة مباشرة ..

وحتى حين يكون الأبرار في الجنة ، فإن لذتهم ستتضاعف ، إذا شعروا أن هناك درجات ، وحالات من النعيم ، أعدها الله لهم ، لو طلبوا

شهودها لوجدوها ، ولكن هذا الشهود والكشف ، لا بد أن يأتي بصورة تدريجية ، لأن تصوراتهم قد تكون قاصرة عن نيل آفاقها ، وعن إدراك حالاتها الجمالية ، وغير ذلك مما هو فيها ، في آن واحد.

«جنّة وحريرا» ، لماذا؟ :

ويرد سؤال : إنه إذا كان سبحانه قد جعل الجنة جزاءهم ، فإن الحرير سيكون أحد مفردات النعيم فيها ، فلماذا قال : (جَنَّةً وَحَرِيراً)؟!

وقد يقال في الجواب : إن هذا من باب التفصيل بعد الإجمال ، فإن الله سبحانه قد جازاهم بالجنة فقط ، ثم فصل لهم حالاتها وحالاتهم فيها ، فلا يوجد هناك سوى جزاء واحد .. قد بيّنه الله على هذا النحو.

ونقول : قد يناقش في هذه الإجابة بأن هذا الكلام قد يكون صحيحا بالنسبة لما ورد بعد قوله : «وحريرا» .. ولكنه قد لا يكون ظاهرا ، ولا مقبولا ، بالنسبة لهذه الكلمة بالذات التي عطفت على الجنة بالواو ، والعطف يقتضي المغايرة.

غير أننا ندفع هذه المناقشة : بأنه يكفي في التغاير أن يكون بالعموم والخصوص ، فيذكر الأمر الجامع أولا ، ثم تخصّص بعض مفرداته بالذكر لغرض مّا ، وهذا كما تقول لمن تريد أن ترغّبه في زيارتك : إئت إلينا ، وسنقدم لك قصرا مجهزا بكل ما تحب ، وفيه مقاعد وثيرة ، ولوحات زيتية رائعة و.. و.. الخ ..

ويبقى سؤال ، وهو : لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هذا النوع من التعبير؟

ولماذا اختص ذلك بالحرير دون سواه من مفردات نعيم الجنة؟!.

والجواب : أن المراد هنا هو الإشارة إلى أن هذا الجزاء على نحوين :

أحدهما : ثابت ومستمر. وهو وجود الجنة ، ووجود الحرير ..

والآخر : هو حالات وتصرفات تتصرّم وتنقضي ، لأنها مرهونة بإرادة أولئك الأبرار أنفسهم ، ويتجلى ذلك في قوله : (مُتَّكِئِينَ) ، (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها) ، (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ) ، «ويسقون» ، الخ ..

فهو يذكر تصرفات وأحداثا لها بداية ونهاية ، وهي تابعة لإرادة الأبرار .. أما الجنة والحرير فليسا من هذا القبيل .. بل هما من الأمور العينية ، ولذتهما قائمة في نفس ذاتهما. وليست اللذة بالفعل وبالحدث المتصرّم.

الجنة والحرير أولا :

وقد بدأ بالحديث عن الجنة والحرير باعتبار أن إدراك الإنسان للذة الحسية أسرع من إدراكه للذة المعنوية والروحية التي تحتاج إلى وسائط. فلبس الحرير يلذ للإنسان ، لكن تذليل القطوف ، ودنو الظلال .. يحتاج إلى وسائط لوعي مفهوم التكريم فيه. وهو مفهوم لا يكفي أن يتصوره الإنسان ، بل لا بد لكي تنشرح نفسه له من أن يدرك أنه هو المقصود به ، وأن يدرك أنه لم يأت على سبيل الصدفة ، بل هو عمل مقصود لفاعله المختار.

وحين يطاف عليهم بآنية ، فعليه أن يدرك أولا وجود مخلوق يحمل آنية ، ويطوف عليه بها ، وأن يدرك أن هناك إرادة وراء ذلك التطواف بالآنية ، ثم أن يدرك أن لهذا الفعل هدفا ، وأن هذا الهدف هو تكريمه .. فهذه وسائط عديدة لا بد له أن يمر بها قبل أن تنشرح نفسه لهذا التطواف بالآنية.

والاتكاء على الأرائك أيضا يحتاج إلى وسائط لإدراك لذته .. ومن

هذه الوسائط إدراك المتكئ أنه قد حصل على ما يرغب في الحصول عليه ، والتفاته إلى فراغ باله منه .. ثم إرادة المتكى للاتكاء نفسه ، وكذلك إرادة أن يكون ذلك على الأرائك ، ثم إرادة أن يكون هذا الاتكاء تعبيرا عن ذلك الحصول ، وتجسيدا لفراغ البال بهذه الكيفية ، وأن يشعر بأنه يمارس حريته الفردية في الاستفادة من هذا الفراغ الحاصل ..

الجنة أولا :

ومن جهة أخرى ، فقد قدّم ذكر الجنة في الآية على ذكر الحرير .. لأن إعطاء الجنة معناه : إعطاء مختلف اللذائذ الحسية ، فضلا عن غيرها. وهي الأوضح ، والأصرح ، في النعيم ، وفي التكريم.

وتبدأ اللذة فيها بنفس اسمها حيث يشعر من يكون فيها : أنه محاط ، ومغمور بالنعيم وبالنعم ، وأن كل شيء فيها حسن جميل ، ثم هو لذيذ ومحبوب ومطلوب ..

ثم ثنّى بذكر الحرير الذي تكون لذته أيضا حسيّة ، لا يحتاج نيلها إلى أكثر من ممارستها. ولكن الحرير إنما يعبر عن نفسه ، ولا يعبر عن سائر النعم التي في الجنة ..

ثم يذكر بصورة متعاقبة تلك النعم التي يحتاج إدراكها إلى توسيط وسائط ، ويحتاج نيلها إلى حركة نحوها ، والتي هي في الحقيقة تصرفات وممارسات مختارة في تلك الجنة ..

أضف إلى ذلك : أن التنعم بالجنة إنما هو بنفس الكون فيها ، أما التنعم بالحرير ، فيحتاج إلى الالتفات ، والترجيح له ، واختياره ، وإرادة لبسه ، ثم لبسه فعلا ، وإلى التقلب فيه.

* * *

الفصل الثالث عشر :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

قال تعالى :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ).

«متّكئين» :

ثم شرع سبحانه بذكر تفاصيل مفردات النعيم الإدراكي والمعنوي ، الروحي ، والشعوري ، فبدأ أولا بذكر صفة الاتكاء في الجنة للأبرار ، دون ما سواها من الصفات ، ولعل سبب ذلك : أن الاتكاء هو نتيجة الشعور بالكمال وبالغنى. وهو أول مراتب النعيم ، وهو مفتاح كل لذة في الجنة كما سنرى.

والتنعم بالاتكاء يحتاج إلى التفات ، وترجيح لفعل على سواه ، ثم إلى اختيار وإرادة ، وحركة وفعل ، وأريكة ، وجلوس عليها. وهو ـ كما قلنا ـ يشير إلى العديد من الخصوصيات ، من قبيل : الشعور بالسكينة ، وفراغ البال ، وسكون الخاطر ، والرضا الناشئ عن وصول الإنسان إلى كماله ، وإلى القوة بعد الضعف ، وإلى الغنى بعد الحاجة ، وإلى الواجدية بعد الفاقدية.

إنها جلسة الآمن المطمئن ، الذي لا يحذر شيئا ، إذ لم يعد هناك مجهول .. وليس هناك ما يخاف منه ، ولم تعد هناك أية حالة ترقب ، فقد أصبح الآن في منازل الكرامة الإلهية ، وحقق الاتصال بمصدر القوة ، ومحل الفيوضات.

هذا كله بالإضافة إلى أن في ذلك تعبيرا عن الاعتزاز والغنى ،

وإعلانا بهذا الإكرام الإلهي .. إنها جلسة تعبر عن الحقيقة ، فلا تصنّع فيها ، ولا يرى نفسه بحاجة إلى أي تظاهر بغير الواقع ، وليست هي جلسة استكبار وجبروت ، كما هو حال الفراعنة والجبارين ..

إنها الحالة الطبيعية ، والعفوية وفيها يتجلى انسجام هؤلاء الأبرار مع كمالاتهم ، ومع كرامة الله لهم ، فهم إذن لا يحتاجون إلى ذلك التصنع ، ولا إلى الاستكبار ، فإنهم الذين يملكون اللذة ولا تملكهم. وهم يدركون أن لذة الاستكبار ، ممزوجة بالخوف من السقوط ، ومن سوء العواقب. أما لذتهم هم فهي العاقبة لهم ، وهي المصير.

«فيها» :

وتأتي كلمة «فيها» بعد كلمة متكئين مباشرة ، حيث قال : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) ولم يقل : «متكئين على الأرائك فيها» .. فيرد سؤال عن سبب هذا التقديم لكلمة : «فيها»؟! ..

وقد يكون الجواب هو : أنه إنما قدم كلمة «فيها» لكي لا يحصل أي شعور بانفصال عن الجنة ، ولو بمثل حد السيف ، حتى في مجال التخيل ، والتصور والوهم ، أو الإحساس العابر. وبذلك تتم لهم اللذة التصورية الفكرية الروحية ، ولا تهتز تلك الطمأنينة التي تتمثل بالحديث عن الاتكاء.

«الأرائك» :

والسؤال هنا هو : أنه تعالى قال : (عَلَى الْأَرائِكِ) ، ولم يقل على الكراسي ، أو المقاعد ، كما أنه لم يقل : «على العروش» ، فإذا كانت كلمة مقاعد وكراسي لا توحي بشيء سوى التجافي عن الأرض ، فإن كلمة العرش تفيد معنى السلطنة ، والهيبة ، والعظمة ، والقدرة ..

والجواب :

لعل سبب اختيار كلمة (الْأَرائِكِ) على ما عداها هو أن الأريكة هي الفراش الوثير ، الذي يكون على الأسرّة في حجلة العروس.

فلعله يريد أن يفهمنا : أن لذة الجنة هي للجنة من حيث هي جنة ، وهي لذة حقيقية وطبيعية ، وليست لذة تخيلية ، أو فقل تصورية ، ولا هي لذة الشعور بحالة العنفوان الداخلي ، والاستكبار ، أو الشعور بالعظمة الذي يكون لدى المتسلطين ، فإن هذه لذائذ تخيلية تصورية ، وليست واقعية ..

أما الاتكاء على الأرائك في حجلة العروس. فيعطي الإنسان لذة واقعية ينساق إليها الإنسان بفطرته ، وبأحاسيسه. فهو يلتذ بالمحيط من حوله ، وبالفراش الوثير ، وبوجوده في جو السرور ؛ لذة حقيقية. وليست لذة ناشئة عن تضخيم الأمور بالأوهام والتخيلات ، وبالعناوين الكبيرة والفضفاضة ..

وقد جاءت كلمة (فِيها) لتؤكد على هذا النعيم الحقيقي ، من حيث إن اللذة ناشئة من نعيم في الجنة نفسها.

ومن أن الجلوس على الأريكة كان جلوسا طبيعيا في هذه الجنة بالذات. فلا مكان للتخيل ولا للخيال.

هل هي لذة الفراغ؟

: وقد يحلو للبعض أن يثير سؤالا هنا فيقول : ليس للفراغ والكسل والخمول لذة .. والحديث عن الأرائك يوحي لنا بهذا الفراغ والخمول ؛ فكيف يمكن قبول ذلك؟!.

ونقول :

إن لذة عمل الصالحات ، ليست ناشئة من مجرد الحركة الجسدية ،

أو من نفس حركة الفكر ، وإلا لكان يكفي في حصولها مجرد العبث. ولكان أكثر الناس عملا ، وجهدا جسديا وفكريا ، هم أعظم الناس لذة ، مع أن الأمر ليس كذلك ..

فإن الحقيقة هي أن اللذة إنما تنشأ من الشعور بأن بذل الجهد رافع للنقص ، محقق للكمال ، وللتناسق والانسجام في قضايا حساسة تهم الإنسان ، ويسعد بحصولها ، أو بكونها على حالة معينة ..

نعيم الأبرار :

ولتقريب هذا الأمر نقول :

لو أن أشخاصا دخلوا روضة غناء ، رائعة في مباهجها وفي مزاياها. وكان أحدهم رساما ، والآخر عالما ، والثالث تاجرا مثلا ، وهكذا .. ثم كان أحدهم ذكيا ، والآخر غبيا ، والثالث حساسا ، والرابع بليد الإحساس .. فإنك ستجدهم يختلفون في إدراك جماليات تلك الروضة ، وفي الابتهاج لها ، والتلذذ بها ..

كما أن موجبات اللذة لأحدهم قد تختلف عن موجباتها لغيره. فهذا يلتذ بالألوان ، وذاك يلتذ بحالات التناسق ، وثالث يلتذ بالأحجام الكبيرة ، وآخر يلتذ بدقائق الصنع ، ولطائفه .. وما إلى ذلك ..

وفي نفس السياق ، نقول : قد تكون لذة هذا بالأطعمة ، وآخر بالمبصرات ، وثالث بالمقامات ، ورابع بالرضا الإلهي .. وخامس بالحالات والكيفيات ، بل قد تكون اللذة لدى بعض الناس ، بالخضوع للآخر ، والانقياد له ، والعيش في كنفه ، وفي ظله ..

أضف إلى هذا وذاك : أن اللذة في الجنة إنما يصنعها لك عملك ، وجهدك ، ونواياك ، كما أن من خلال عملك هذا ، تتكون لك قابليات

وتحصل استعدادات لتلقي هذا النوع من النعم ، أو ذاك ..

فأنت تلتذ بالشجرة التي غرسها لك تسبيحك ، والآخر يلتذ بالقصر الذي حصل عليه بحجّه إلى البيت الحرام ، أو بغير ذلك من أعماله ، وآخر يلتذ بالحورية التي أوصله إليها بره بوالديه ..

وفي مثال آخر نقول :

لو أن النجار دخل بيتا قد صنع هو أبوابه ، وخزائنه ، ومقاعده ، وغيرها ، فسيلتذ بما يراه من جمال الصنع فيها ، وسيشعر بالفخر والاعتزاز ، من خلال إحساسه بأنه هو الذي استطاع أن يرفع نقصا ، ويحقق كمالا ولو بنسبة معينة ، بالرغم من أنه قد أخذ أجره ، وانته من عمله قبل سنوات ..

وإذا رأى فيها خللا أو نقصا ، فسيحزنه ذلك ، وسيأسف له. ولو أنه عرف أن هناك من عبث بتلك الأشياء وشوّهها عن عمد ، فسوف يكون مستاء منه ، لائما له ، ناقما عليه ..

كما أن ذلك الشخص العابث نفسه ، لو دخل على ذلك البيت ، فسيشعر بالإحراج والخجل والضيق أمام ذلك النجار ، رغم أنه قد يكون فعل ذلك امتثالا لأمر سيده الذي حسب أن في هذا التخريب كمالا له ، أو دفع ضرر ، أو نقص عنه.

وبنفس هذه النظرة نعالج الإشكال المتقدم : فإن بذل الجهد ، والتعب ، وتحمل المسؤولية في الجنة ليس هو منشأ اللذة ، كما أن الفراغ ليس منشأ للملال ، والخمول ، والكسل. لأن الذي يجعل العمل لذيذا هو كونه مسبوقا بالتعب ، وبألم الحرمان والنقص. ولا نقص ، ولا فقدان ، ولا حرمان ، ولا آلام ، ولا تعب في الجنة ليكون العمل لذيذا من حيث كونه

رافعا له. بل ذلك من خصوصيات عالم الدنيا ، التي هي عالم النقص والفقدان.

بل اللذة في الجنة إنما هي بالشعور بالغنى بالله ، وبالكمال ، وبالواجدية الحقيقية ، وبحالات الجمال الواقعية ، الناشئة عن رؤية الانسجام والتناسق الواقعي بين الأشياء ، وبذلك يتحقق الرضا الواقعي. وليس للجهد الجسدي أي دور في هذا الشعور.

إن الفراغ ليس مملولا لأهل الجنة .. بل هو لذيذ لهم .. تماما كما هو الحال في الفراغ الذي يعيشه من يذهب للنزهة أو للاصطياف ، فإنه يبقى ساعات وأياما ؛ يتلذذ بالمناظر الجميلة الخلابة. وبما يراه من تناسق ، وكمال ، وجمال. ولا يشعر بوجود نقص يدفعه للعمل على رفعه وإزالته.

«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً» :

والملاحظ : أنه تعالى قدّم كلمة «فيها» على قوله : «شمسا» ، كما قدمها في قوله : (فِيها عَلَى الْأَرائِكِ).

وقد عرفنا بعض ما ربما يمكن استفادته من هذا التقديم. فلا حاجة إلى الإعادة ..

غير أننا نشير هنا إلى أنه قد يقال : لقد كان يمكن الاستغناء هنا عن كلمة فيها. فلماذا آثر الإتيان بها ..

ويمكن أن يجاب : بأن حذف كلمة «فيها» يتضمن تغييبا وسكوتا عن ذكر الجنة ، ولو بضميرها. ولربما يغفل الإنسان ولو للحظة ، فيتوهم أن فقد الشمس ـ التي هي مصدر النور ، والدفء ، و.. و.. ـ سيؤثر على راحته وسعادته ، وسينقص منها ، وسيواجه الإحساس بالحاجة إليها ، فإذا جاء التصريح ، بصورة متتابعة ليذكره دائما بأنه موجود في الجنة ،

فإنه سيبقى مطمئنا إلى أن ما سيفقده لا بد أن يكون أمرا لا يناسب محيط الجنة ؛ بل يكون وجوده هو المضر .. وقد استبعد لأجل ذلك.

والخلاصة : أن الشمس حسب ما اعتادوه منها قد تؤذي في حرها ، أو في بعض إشعاعاتها ، وحتى في نورها في بعض الحالات .. فتمس الحاجة إلى الحماية منها. أما في الجنة فإنهم يجدون النور والدفء ، وكل ما يحتاجونه مع أنهم لا يرون فيها شمسا لكي يحتاجوا إلى ما يحميهم منها.

وهذا غاية الغنى .. فإنه إذا كان حصول الإنسان على ما يريد بواسطة شيء بعينه ، فإن ذلك يجعله بحاجة إلى ذلك الشيء ، وأما إذا حصل على ما يريد من دون واسطة فسيشعر بالغنى ، وبالرضا ، وبالاعتزاز. فكيف إذا كان وجود تلك الواسطة ، وذلك الشيء ، سيؤكد الحاجة إلى وسائل أخرى تحمي من بعض آثاره أيضا؟!.

«وَلا زَمْهَرِيراً» :

ثم قررت الآية : أنهم في نفس الوقت الذي لا يجدون فيه الشمس ، فإنهم سوف لا يعانون من أية سلبية تترتب على فقدانها .. فلا مبرر لأية مخاوف من أن يكون فقدانها معناه فقدان دفئها أيضا ، مما سيؤدي إلى مواجهة حالة من البرد الشديد إلى حد الزمهرير ، وهذا سوف تنشأ عنه متاعب لا بد من التخلص منها.

فجاء التطمين الإلهي لهم ليقول : إن عدم رؤية الشمس لا يعني الابتلاء بسلبيات فقدانها. بل الأمر على عكس ذلك تماما.

ومن جهة أخرى ، فإنهم يقولون : إن الزمهرير في لغة طي هو القمر .. فلعل المقصود بيان أن النور في الجنة لا يحتاج في تحققه إلى شمس ،

ولا إلى قمر.

غير أن ذلك يحتاج الى إثبات أن يكون القرآن قد استفاد من لغة «طي» في خصوص هذا المورد ، وهو ما يحتاج إلى دليل ، وإلى مبرر ، وكلاهما مفقود.

تعلق النفي بذات ، وبصفة!! :

وملاحظة أخرى هي : أنه تعالى قد نفى الحر والبرد ، ونفى أيضا الليل ، والحاجة إلى الشمس ، بتعبير واحد ، وذلك حين قال : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً).

وقد تعلق النفي للشمس وللزمهرير ، بأسلوب الرؤية لذات الشمس ، ونفي رؤية البرد ، ونفي درجته ومستواه وهو صفة الزمهريرية. لأنها هي التي تسبب الأذى للإنسان .. أما البرد نفسه فإنه لم يرد أن ينفيه ، لأنه قد يكون لذيذا في بعض الحالات ، كما لو جاء في قسوة الحر ، ثم هو يعطي الجو لطافة ولو بدون وجود حرّ ، ولذا توجه النفي في الآية إلى خصوص الحالة المؤذية من البرد ، وهي الزمهريرية .. ولم ينف البرد اللطيف الناعم في أيام الربيع مثلا.

«لا يَرَوْنَ» :

وقد نفى الله تعالى رؤية «الزمهرير» في الجنة ، مع أن الزمهرير لا يدرك بالباصرة ، ولا تقع عليه الرؤية ، بل هو مما يدرك بالحسّ .. لأن المراد هو نفي وجود الشمس والزمهرير ، بواسطة نفي رؤيتها ، وذلك يلازم نفي آثارهما .. لأن الزمهرير وإن كان لا يرى بالبصر ، لكن إحساس الإنسان بالحر والبرد جسديا قد يكون كاذبا أيضا .. فأراد تعالى بقوله : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) ، أن يؤكد على حقيقة : أن الإحساس

بالزمهرير ، يكون قويا ، حتى كأنه يتجسد له ، وكأنه يراه بعينيه ، ثم هو قد جسده له بالفعل ، وجعله حقيقة ماثلة له ، يراها رأي العين ، ثم أورد عليها النفي بكلمة «لا».

«شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» :

أما بالنسبة لتنكير لفظي الشمس والزمهرير ، فإنما هو لإفادة عموم النفي ، حتى لا يدخل في الوهم أن لكل عالم من العوالم شمسه التي تناسبه ، وحره وبرده الناشئ عن أسبابه الخاصة به .. فجاء النفي لجميع ما يمكن أن يتوهمه الإنسان في هذا الاتجاه .. ليعيش الإنسان الطمأنينة الحقيقية ، التي هي من موجبات سعادته التامة والحقيقية ، والنعيم المقيم ..

اللف والنشر المرتب :

وقد ذكرت الآية السابقة الجنة أولا .. وفي الآية الثانية ذكر الاتكاء أولا ، لأن الاتكاء يناسب الكون والحضور في الجنة ..

وفي الآية الأولى ذكر الحرير ثانيا .. وفي الآية الثانية ذكر عدم رؤيتهم للشمس ولا للزمهرير ثانيا .. وهذا يناسب لبس الحرير ، الذي هو الأفضل في المواقع التي ليس فيها شمس ولا زمهرير ، ولا حر ولا برد ، فتكتمل لهم بذلك اللذة الجسدية.

ففي الآيتين لف ونشر مرتب لأجل الإشعار بهذه اللطائف ، كما هو ظاهر.

* * *

الفصل الرابع عشر :

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)

قوله تعالى :

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً).

«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» :

ثم إنه برغم أن الشمس غير موجودة فعلا ، فإن الظلال موجودة بالفعل ، لكي تعطي المنظر العام حالة جمالية رائعة ، وتناسقا بديعا ، إذ إن اللذة لا تكون دائما في الظل من حيث إنه من موجبات التوقي من حرارة الشمس أو من نورها ، بل هناك لذة الإحساس بالتناسق العام ، حيث تكمل به الملامح الجمالية للطبيعة.

فالعين التي فيها بياض ، إنما تصبح جميلة ، بالسواد المتحرك فيها ، والخال الأسود على الخد يعطي ذلك الخد المخالف له في اللون المزيد من الروعة الأخاذة ، والجمال البديع .. إذ إن مجرد أن تتشارك الأشكال والألوان ، والظلال في إعطاء الانطباع ، لهو مما يزيد الطبيعة جمالا ، وروعة ، ورونقا ..

ومن الأمور الطريفة ما يذكرونه : أن رساما هنديا أهدى لملكه صورة لعصفور يقف على سنبلة. وكانت رائعة الجمال .. فأعجب بها الملك ووضعها للناس ، وجعل جائزة لمن يظهر فيها عيبا ..

فعجز الناس عن ذلك ، إلى أن جاء رجل عجوز ، وقال : إن في الصورة عيبا مهما ، فسأله الملك عنه ، فقال : إنه حين يقف العصفور على السنبلة فلا بد أن تنحني شيئا قليلا ، بسبب ثقله ، وضعفها ، والرسام لم

يظهر هذا الانحناء ..

فربح ذلك العجوز جائزة الملك بهذه الملاحظة. رغم أنه لا توجد أية مشكلة في رسم ملامح العصفور ، ولا في رسم السنبلة ذاتها.

والخلاصة : أن للظلال دورا هاما في تجسيد الكمال ، وإبراز معالم الجمال .. فالانحناءة البسيطة التي فقدتها تلك الصورة ، قد أفقدتها جانبا من الروعة كان منوطا بها ، وبالتالي ، فإن الإحساس باللذة سوف يتضاءل تبعا لذلك ..

وعلينا أن لا ننسى أن عدم إدراك فريق من الناس لفقد تلك الخصوصية لا يدفع حقيقة وجود هذا النقص فيها ، ولا يقاس إدراك أهل الدنيا للأمور بمستوى وحقيقة إدراك الأبرار لها في الجنة ، لأن إدراك أهل الدنيا يحتاج إلى وسائط ، وإلى أهلية واستعداد مع وجود حجب وموانع كثيرة ، تحول بينهم وبين ذلك .. أما الأبرار فلا يعانون من أي شيء من ذلك ، بل هم فوق مستوى البشر من هذه الناحية. حيث يشعرون بحقائق الأمور بصورة أعمق ، وأصبحت لهم علاقة مباشرة مع واقع تلك الحقائق .. لأن أعمالهم الحسنة في الدنيا هي التي أوصلتهم إلى هذا المستوى من الإدراك والوعي في الآخرة ، بعد كشف الغطاء عنهم ، حيث لم تعد هناك حجب دنيوية ، وتساقطت وسائل الإدراك التي قد لا تستطيع إعطاء الصورة ما يكفيها من النقاء والصفاء ..

أما الأبرار الحقيقيون ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام ، فإن الغطاء كان مكشوفا عنهم ، منذ أن أشهدهم الله خلق كل شيء ..

وعلى كل حال ، فإن للظلال لذّات عظيمة لا يريد الله أن يحرم الأبرار منها.

وما أجمل الظلال الدانية ، دون أن يكون هناك ما يحتاج الإنسان إلى أن يتظلل منه.

وقد جعل الله سبحانه الأبرار هم المحور لهذه الظلال ، فجاء بكلمة «عليهم» مقدما لها على الظلال. فقال : (عَلَيْهِمْ ظِلالُها ..) تماما كما صنع بالنسبة لكلمة فيها .. حينما كانت الجنة هي المحور ، حسبما تقدم ..

أضف إلى ما تقدم : أن وجود الظلال يساعد على إدراك حقيقة النور وقيمته ، ويعطي الفرصة لتنويع الاستفادة من كل الحالات والأوضاع ، فلا يشعر الإنسان أن شيئا ما قد فرض عليه ، ولم يعد بإمكانه الاستغناء عنه.

هذا بالنسبة لغير المعصومين. أما المعصوم فلا يحتاج إلى مساعدته على إدراك أي حقيقة ..

ثم إن فقد الشمس لا يعني أن لا تبقى حاجة إلى بعض آثارها ، لكن الشعور بالغنى عن الشمس مع الحصول على آثارها ، وما يراد منها ، هو الغاية في النعيم التي ما بعدها غاية ..

بل قد يكون وجود شمس لا حاجة إليها في التأثير مسيئا للناحية الجمالية ، ومفسدا للتناسق العام.

العطف بالواو :

ثم إننا إذا راجعنا الآيات الكريمة في هذه السورة فسنجد : أنه تعالى يعطف بالواو جملة ، ثم يأتي بما هو منصوب على الحال ، ثم يعطف عليه حالا أخرى بالواو .. ثم يعود لعطف جملة أخرى على الجملة ، التي سبقت الحالين معا ..

فهو يقول : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً *

وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً* وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ..) إلى أن يقول : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ..)

فهو في هذه الآيات يستعمل الفعل الماضى المبني للمجهول «ذلّلت» ، والمبني للمعلوم «وقاهم» ، «لقّاهم» ، واسم الفاعل «متّكئين» ، «دانية» ، والمضارع المبني للمعلوم «يطوف» ، والمبني للمجهول «يطاف» ، ومع الواو «ودانية» ، وبدونها «متّكئين».

ولكل حالة من هذه الحالات خصوصية مستقلة ، أو تابعة يراد إبرازها ، والاستفادة منها ..

ومثال ذلك :

أنك تارة تورد الحالة أو المعنى المستقل ، فتقول : هذا فلان ..

ومرة يراد بيان أحوال وأوصاف متضادة لذلك الموصوف ، كقولك : فلان شجاع وعالم ونجار ..

وتارة ثالثة تورد الكلام لتثبت للموصوف صفة ، ثم تتبع تلك الصفة ببيان تفاصيلها وحالاتها ، كقولك : فلان عالم ؛ دقيق النظر ، متبحر ، محقق .. فالأوصاف الأخيرة إنما هي لبيان حالات العالم. وكذا لو قلت فلان شجاع ؛ يقاتل ساعات طويلة ، يهاجم الألوف ، ولا يلبس درعا ، ولا يهاب الموت .. أو قلت : هو نجار ماهر ، يصنع الأبواب ، والخزائن ، والكراسي ، والمناضد ، وكل ما يطلب منه ..

وقد جاء قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) وفقا للنحو الثاني ، وقوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها)

وفقا لهذا النحو الأخير ، لأن فيه بيان حالهم ، من حيث إنهم : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ..)

«ودانية» :

ثم إنه يلاحظ هنا :

ألف ـ إنه تعالى قدم الحديث عن دنو الظلال على الحديث عن تذليل القطوف. وهذا أمر طبيعي ، فإن لذة الاستقرار والسكينة تطلب قبل لذة الطعام.

ب ـ إنه بدأ بكلمة «ودانية» ، ولم يبدأ بكلمة «ظلالها» ، ربما ليبقى المحور والمرتكز هو الأبرار أنفسهم ، حيث يراد أن يظهر لهم ولغيرهم : أنهم هم مورد العناية ، وأن كل شيء في الجنة إنما هو لأجلهم.

ولو أنه بدأ بالحديث عن الظلال لحدث ـ ولو على مستوى التخيل والشعور ـ إحساس بأن الظلال دانية هناك بطبيعتها ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك لأجلهم ، فهي دانية بذاتها ، ثم يستفيد منها من يرغب بذلك ، مع أن المقصود هو أن دنو الظلال قد كان فعلا إلهيا تكريميا هم المقصودون به بأعيانهم وبأشخاصهم.

ج ـ وأما اختيار التعبير بكلمة «دانية» حيث لم يقل : وهم تحت ظلالها ، أو نحو ذلك ، فلعله ليشير إلى أن الظلال قريبة منهم ، وعليهم ، ولكنها ليست بحيث تفرض وجودها عليهم ، أو أنهم مستغرقون فيها إلى حد يجعلها جزءا من واقع حياتهم ، بل إن دنوها منهم وعليهم لا يضر باستقلاليتهم ، ولا في إمكانية الابتعاد عن هذه الظلال متى شاؤوا.

د ـ إن كلمة «دانية» اسم فاعل ، يفيد الثبوت والدوام ، وفعلية الاتصاف به.

«عليهم» :

ثم إنه سبحانه قال : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) ، ولم يقل : «دانية إليهم» .. فلعله لأجل أن يشير إلى أن ظلال الجنة ليست مثل ظلال الدنيا .. فظلال الجنة تحتضن الأبرار ، وهي رفيقة بهم ، حانية عليهم.

ولو أنه قال : «دانية إليهم» ، لم يفهم منه معنى احتضانها لهم ، بل يفهم منه مجرد قرب الظل منهم .. كما هو الحال في ظلال الدنيا ؛ التي تنشأ من الحيلولة بين الشاخص ، أو الشيء ، وبين مصدر النور ، أو الوهج ، فيستأثر ذلك الشاخص الحائل بدفقات النور والوهج ، ويمنعها من الوصول ، فلا تصل إلى ما يقع الظل عليه.

وهذا معناه : أن ثمة مؤثرات تتحكم في مدى قدرة هذا الظل على الانتشار والانحسار ، مما يعني أنه قد يستفيد منه فريق ، ويحرم منه آخرون ، لمعنى كامن في الظل نفسه يؤكد قصوره هنا ، أو يفرض انتشاره وحضوره هناك.

أما في الآخرة وفي الجنة بالذات فإن الظل لا يعاني من أي شيء من هذا القبيل ، وليس فيه أي قصور ، بل يكون هو الداني عليهم ، والقاصد إليهم ، والمحتضن لهم. ففعل الدنو والاحتضان صادر منه هو ، وليس نتيجة حركة واقتراب أو حضور وغياب ، يفكرون فيه ، ثم يختارونه ، ويقصدون إليه.

مفردات نعيم الجنة :

وواضح : أن مفردات نعيم الجنة لا تشبه مفردات نعيم الدنيا ، وإن تشابهت الأسماء. فالفضة في الآخرة هي كالزجاج والقوارير في صفائها ، وليست كذلك فضة الدنيا ، وإن كان لا بد من وجود شبه يصحح إطلاق

الاسم .. وكذلك الأنهار التي هي من لبن أو من عسل مصفى.

وهكذا يكون الحال بالنسبة لخمر الآخرة ، فإنها ليس فيها غول (أي أثر سلبي) ، وهي أيضا لذة للشاربين ، مهما شربوا ، ولكن خمر الدنيا لا يمكن الالتذاذ بها حين ذهاب العقل.

وقبل ذهاب العقل لا تكون اللذة بخمريتها ، بل بشيء آخر ، كالحلاوة أو الحموضة أو نحو ذلك مما لا يكون هو المقصود للشارب ، إذ المقصود هو غيبوبة العقل ، وحين حصول المطلوب لا توجد لذة لأن العقل إذا فقد ؛ فقد الإحساس باللذة.

وكذلك الحال في طرف العقوبة ، فإن الروايات قد دلت على أن نار الآخرة لا تشبه نار الدنيا ، إلا في الاسم ..

وعلى كل حال ، فإن الله سبحانه قد ذكر في القرآن الكريم مفردات كثيرة ومتنوعة للنعيم ، وفي هذه السورة المباركة شطر منها .. ولا شك أن في بيانها فائدة عظيمة ، من حيث تأثيرها في عمق الإيمان ، وفي إيجاد الحوافز للسعي لنيل رضا الله سبحانه. وفي شفاء صدور قوم مؤمنين ، وغيظ أعدائهم ، وما إلى ذلك ..

تقديم كلمة «عليهم» :

وقد يتساءل البعض عن سبب تقديم كلمة «عليهم» على كلمة «ظلالها» ، حيث لم يقل : ودانية ظلالها عليهم ..

وربما يكون الجواب قد علم مما تقدم ، فإنه تعالى لا يريد أن يدخل في خيال أحد الأبرار ـ ولو للحظة واحدة يفرضها التدرج في التعبير والبيان ـ أن ثمة فصلا بين الأبرار وبين النعيم ، أو أن يتوهم أحد : أن دنو الظلال في الجنة ، إنما هو الحالة الطبيعية ، فأراد أن يعرفنا : أنه دنوّ

لهم ، ولأجل إعزازهم ، وتكريمهم. وليس هو حالة ثابتة للجنة ، ولا ترتبط بالأبرار ..

الضمير في «ظلالها» :

والضمير في قوله تعالى : «ظلالها» يعود للجنة ، لا للشمس ، فشجر الجنة له ظلال دانية عليهم ، رغم عدم وجود شمس تكون في هذه الجهة ، أو في تلك ، ويتحكم في بعدها ودنوها نظام بعينه ، بل الظلال الموجودة إنما تتحكم بها إرادة ورغبات أهل الجنة ، فالظلال خاضعة لإرادتهم ، تابعة لرغباتهم ، لأنهم هم المقصودون بالكرامة ، والإعزاز ، ويراد لهم أن يصلوا إلى ما تشتهيه أنفسهم.

فالظلال لا بد أن تكون بحيث ترضيهم ، وتكون سببا في حصولهم على اللذة والنعيم ، لا أن تضايقهم ، وتصبح عبئا عليهم ..

إن تمام النعمة عليهم هي أن يتحكموا بالظلال ، لا أن تتحكم بهم الظلال.

وهذا يعطيهم نعيما آخر من خلال إحساسهم بامتلاكهم لقدرات جديدة ، حيث يرون في أنفسهم القدرة على التصرف في الأمور التكوينية ، بالإضافة إلى لذة الطمأنينة إلى وجدان طموحاتهم ، والشعور بالاستقلالية ، وما إلى ذلك.

«وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» :

ومن مفردات نعيم الجنة التي يدركها الأبرار ببعض الوسائط ، تذليل قطوفها لهم في حين هم يرون شموخها ، وتحديها ، وتمنّعها .. الأمر الذي يجعلهم يتلمسون هذا الإكرام الإلهي لهم بصورة حسية وعملية ، حيث إن هذا التذليل ليس عملا للأبرار ، كما كان الحال في الاتكاء .. وليس هو

مجرد أمر مفقود يدركون فقده ، ويتلمسون آثاره كما هو الحال في عدم وجود الشمس والزمهرير .. بل هذا التذليل فعل يكرم الله به الأبرار ، ويشعرون من خلال حدوثه ، وتجدد حصوله لهم ، مرة بعد أخرى ، باستمرار النظر والرعاية الإلهية لهم ، وهذا يعطيهم المزيد من البهجة والسرور ، والسعادة ، من خلال الإحساس برضا الله ، ومحبته ، ورعايته ، ولطفه ، فإن هذا غاية النعيم لهم.

يضاف إلى ذلك : أن رؤية الأبرار لهذا التذليل يعطيهم إحساسا بأن الأشياء مسخرة لهم ، وهي طوع إرادتهم ، ورهن إشارتهم .. خصوصا وأن ما يرونه مذللا لهم ، قد كان مستعصيا عليهم ، ويبذلون تعبا وجهدا من أجل الوصول إليه. وكل ذلك يفتح أمام أعينهم ، آفاقا أرحب للشعور بمحبة الله سبحانه ، والإحساس بهذا التكريم والتعظيم ..

إن الإنسان حين يعمل عملا ، ويأخذ مقابله ، فإنه لا يحس بالكرامة بمستوى شعور من يرى أن الله يعطيه ليكرمه ، وليظهر له المزيد من حدبه عليه ، وحقيقة رعايته له ..

لأن أخذ الأجر مقابل العمل لا يعبر عن وجود مزايا إنسانية سامية تستحق التقدير ، ولا عن وجود خلق رضي ، أو نبل وشمم ، بل قد يكون العمل نابعا من حبه لنفسه ، ومن سعيه للحفاظ عليها .. وتلك هي عبادة التجار حسب ما ورد عن أمير المؤمنين [عليه‌السلام].

«قطوفها» :

القطوف جمع قطف ـ بالكسر ، وقطف بالضم غلط ـ وهو الثمر الذي اجتني وأخذ. ولكن المراد هنا هو الثمر الباقي على الشجر ، والمؤهل للاقتطاف والتذليل ، مقابل الاستعصاء والتمنع.

فالقطوف تتمنع بحسب طبعها ، وللتغلب على هذا التمنع لذة ونشوة. ولذلك تجد أنه لو جيء لك بقطف لتأكله ، فإنك لا تهتم له ، ولا تلتذ به بمقدار ما لو قطفته أنت عن الشجرة.

وبذلك يكون الله سبحانه قد بيّن لنا : أن في الجنة لذة التذليل ، ورؤية حالة الانقياد بعد الاستعصاء والتمنع.

«تذليلا» :

وفائدة الإتيان بالمفعول المطلق هنا هو التأكيد على معنى التذليل ، وهي لذة السيطرة والتمكن من الطبيعة. الأمر الذي كان يعجز الإنسان عنه في الدنيا ..

إن النعيم في الآخرة ، ليس بأكل تلك القطوف ، بل هو بالتغلب على امتناعها .. وهو ما كان يطمح له في الدنيا ، ويسعى للحصول عليه ، فكان يخترع له الآلات ، ويهيء الأموال ليستخدمها في ذلك التذليل (١) أما في جنة الآخرة ، فقد أصبح كل شيء مذللا ، فلا يحتاج إلى جهد ، وقد سقط نظام الوسائل بكلمة واحدة هي : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) ، لأن نظام الجنة يختلف عن نظام الدنيا.

* * *

__________________

(١) إن الأعمال في الدنيا منصبة بصورة عامة على هذا الأمر بالذات ، فالإنسان يطلب الولد ، ويستفيد من الوسائل الموصلة إليه ، ويطلب المال فيتوسل له بالبيع والشراء ، مثلا ، ويطلب الحب والثمر فيتوسل له بالزراعة ، ويطلب الشفاء ، فيستخدم العلم والمال للحصول عليه ، ويطلب الانتقال ، فيستخدم وسائله من سيارة ودابة وغيرهما. ويخترع مكبرات الصوت والطائرة ، ويطلب الجنة فيتوسل لها بالأعمال الصالحة.

الفصل الخامس عشر :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

قوله تعالى :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

«وَيُطافُ عَلَيْهِمْ» :

لقد وردت كلمة «يطاف» هنا بصيغة المبني للمفعول .. ولعله بهدف التوطئة إلى أن يتمحض الحديث عن المطاف به ، وهو الأكواب ، وصفاتها ، وخصوصياتها ..

ولكنه فيما يأتي استعمل نفس مادة «ط. و. ف.» ، ولكن بصيغة البناء للفاعل .. لأن الغرض هناك تعلق ببيان حال الطائفين ..

وكلمة «يطاف عليهم» تشير إلى أن هناك كرامة لهؤلاء ، وأن ثمة احتراما ، واهتماما بهم .. لأن خدمتهم والطواف عليهم بالأكواب ، إما لأجل عجزهم عن الوصول إلى حاجاتهم بأنفسهم ، أو لأجل إكرامهم ، وإظهار الحب والتقدير لهم. ولا شك بأن الأول غير متصور لأنه لا ينسجم مع ما أريد لهم من النعيم ، وراحة البال في الجنة. فيتعين هذا الثاني ..

ومن الواضح : أن إحساسهم بهذه الرعاية الإلهية يعطيهم أعظم الإحساس باللذة والنعيم ..

الكماليات ، أم الضروريات؟ :

وإذا قرأنا آيات هذه السورة المباركة ، فسنجد أن فيها حديثا عن الأمور التي لا بد منها للإنسان في حياته ، كالمسكن ، والطعام والشراب ،

ونحو ذلك ، وحديثا عن أمور لا تدخل في هذا السياق ، بل هي من الكماليات ، إن جاز التعبير.

وقد ذكر النوع الأول بما له من مواصفات تثير الشوق والحنين إليه ، والرغبة به ، فذكر سبحانه طهورية الشراب ، ولباس الحرير في الجنة ، والاتكاء على الأرائك في مواضع السكنى والاستقرار ، والوقاية من البرد والحر ، بالإعلان حتى عن عدم رؤية شمس ولا زمهرير ..

مما يعني أن المطلوب الأساسي ، وهو الطعام والشراب ، والظل ، والدفء ، والسكن ، واللباس ، ـ وهي أمور ضرورية في الحياة ـ قد بيّنت بمواصفات راقية جدا ، ومثيرة للانتباه ، ومحركة للهمم للوصول إليها ونيلها من خلال العمل لها في عالم الدنيا ..

ولا بد أن يحصل للأبرار ـ في نيل هذه الأمور الأساسية ـ لذتان ؛ لذة تلبية الحاجة ، والسكون والطمأنينة ، والشعور بالوجدان لحاجات رئيسية. ولذة الحصول على تلك الميزات والمواصفات الإضافية ، وهي كون السكن هو الجنة ، والملبس هو الحرير ، وما إلى ذلك ..

ومن المعلوم : أن كل مطيع لله يدخل الجنة ، وينال من نعيمها الخالد ، لكن هناك مستويات وحالات لهذا النعيم لا ينالها جميع من في الجنة ، بل ينالها أولئك المقربون ، ويفوزون بالتنعم بها ، رغم أنها لا تدخل في دائرة ما هو ضروري لهم ، بل هي من مظاهر النعمة ، ومن تجليات التكريم الإلهي. فإن حياة الإنسان لا تتقوم بوجود من يخدمه ، ويلبي طلباته ، ويقرب له ما يحتاج إليه .. إذ يمكنه أن يمارس ذلك بنفسه ، وربما يكون لهذه الممارسة لذتها أيضا .. كما أنه يمكنه أن يشرب الماء واللبن ، اللذين لا توصف لذتهما .. دون أن يطاف عليه بأكواب كانت قوارير من فضة قدروها تقديرا.

وجهد الإنسان في هذه الدنيا هو الذي يحدد مستويات ومواصفات النعيم في الآخرة. فالإنسان العامل هو الذي يتحكم بمفردات النعيم التي يهيؤها الله له ، ويصنع مواصفاتها ، ومقاديرها وأحجامها ، وأنواعها ، وفقا لقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً ..) حيث أعاد الضمير لهم ، أي للأبرار المتنعمين كما يظهر.

التنوع في النعيم :

واللافت : أنه تعالى قد أعطاهم هذا النعيم العظيم ، وحباهم بهذا التكريم لترتاح له ، وتلتذ به الروح والقلب ، والمشاعر ، والأحاسيس الباطنية ، تماما كما أعطى للجسد ما يناسبه من أنواع النعيم المادية.

والنعيم الذي يهتم بإبراز معالمه هنا ، هو نعيم روحي معنوي بالدرجة الأولى ، يرتبط بالإدراك العقلي ، وبالإحساس الروحي للمعاني السامية والشريفة لمعنى الكرامة ، والرضا والقرب من الله ..

وليس هو مما تناله الجوارح بصورة مباشرة ..

وما ذلك إلا لأن الله سبحانه يريد للإنسان أن يسمو في إدراكه وفي عقله ، وفي إنسانيته ، وأخلاقه ، ومشاعره ، ولا يرضى له أن يبقى يعيش في دائرة المحسوسات ، فلا يطيع الله إلا حين يرى العصا ، ولا يحس بالمعاني الإنسانية والروحية إلا حين تنالها جوارحه الظاهرية .. تماما كما يريد للمرأة أن تلبس الحجاب ، ولكن إذا لبسته عن اقتناع بلزوم طاعة الله ، وإحساس بعظمته وبحضوره ، فإن ذلك يوجب لها أسمى مقام عنده ، لأن الحجاب خوفا من العصا ، هو أدنى مراتب الطاعة .. حيث يكون الهدف هو حماية جسدها من الآلام ، لا لأنها تريد أن تتلذذ بطاعة الله سبحانه .. وأن تحمي الجسد من خلال الإحساس بلذة الطاعة.

والخلاصة : أنه تعالى يريد للإنسان أن يكون أنبل من أن يخضع للأمر المعنوي من موقع حماية الجسد ..

التسلسل الطبيعي :

وقد ذكر الله تعالى الطواف على الأبرار بالأكواب ليؤكد على هذا الرقي في إدراك الأبرار ، لتكون لذتهم الكبرى هي بالكرامة الإلهية لهم ، لا بالملذات المادية ، والجسدية ، وإن كان الجسد غير محروم من ذلك أيضا.

ولذلك فإنه حين أشار سبحانه إلى ذلك ، إنما عالجه من الناحية الإدراكية لحالات الجمال ، والتي تعطي قيمة اعتبارية معنوية بالدرجة الأولى .. فبدأ بالحديث عن الطواف عليهم في إشارة منه إلى هذا التكريم والتعزيز لهم.

ثم ذكر أن الطواف ليس بالشراب ، وإنما هو بالآنية ..

ثم قال : إن الآنية من فضة ..

ثم أشار إلى الأكواب ..

ثم ذكر أنها قوارير ..

وانته إلى الحديث عن التقدير في الصنع ، والدقة فيه ..

شرح الكلمات أولا :

ولا بد لنا ، أولا : من شرح هذه الكلمات ، ثم نتابع الكلام حول ما يرتبط من مطالب ، فنقول :

الآنية : هي الوعاء. والظاهر : أن المراد هنا هو ما توضع عليه الأكواب ..

الكوب : هو القدح ، الذي لا عروة له ولا خرطوم ، ويأخذه طالبه ويشرب منه من أي جهة أراد.

القوارير : هي الزجاج ، أو البلور الصافي ، ولعل سبب تسميتها بالقوارير هو أن الشراب يستقر فيها ..

كلمة «من» نشوية ، أم بيانية؟ :

وبعد .. فهل إن كلمة «من» في قوله : (مِنْ فِضَّةٍ) ، هي النشوية؟! ليكون المعنى : أن الآنية التي كان أصلها فضة ، وكانت من تراب الجنة ؛ هي التي يطاف بها عليهم .. وهذا كما يقال : الإنسان من تراب. أي أنه نشأ من تراب ، من دون إشارة إلى حقيقته الفعلية التي هي : لحم ودم وعظم و.. و..

أم أن كلمة «من» هي الجنسية ، أي هي آنية من جنس الفضة ، كما يقال : خاتم من حديد ، أو من ذهب. أو كما يقال : الإنسان من لحم ودم وعظم .. فتكون «من» لبيان ما هو عليه الآن ، ولا تشير إلى ما كان عليه في السابق ..

ثم إن التصريح بكلمة : «من» ليس ضروريا ، حين تكون الإضافة بيانية ، فيقال خاتم حديد ، أو خاتم فضة ..

وأما لماذا يصرحون بكلمة «من» أحيانا ، فلعله :

أولا : لأجل أن لهذا التصريح فوائد ، منها التنصيص على المعنى ؛ لإزالة أيّ لبس أو شبهة ، ومنها التأكيد على أنه مقصود ومراد ، وأن الالتفات إليه حاصل بالفعل.

وفي هذا تقريب للمعنى المقصود إلى الحس ، فإن ما ينال بالحس المباشر أوقع في النفس ، ويكون التعلق به أشد ، والوضوح له أكثر من ذلك الذي يعلم عن طريق الإشارة إليه ، لأن الإشارة تحتاج إلى جهد عقلي وفكري لربط بعض الأمور ببعضها الآخر .. ليتحقق الانتقال من معنى إلى معنى .. ومن المعلوم إلى المجهول ..

وثانيا : إن المقصود هنا هو إثارة المشاعر والأحاسيس ، وإيجاد

البواعث والحوافز لدى الإنسان لنيل تلك النعم الجليلة ، والوصول إلى مقامات الكرامة في الجنة ، ليتعلق بها ويشتاق إليها طالبها ، وتتوجه إليها أفكاره وعواطفه فعلا ..

وهذا يحتاج إلى التصريح ، وإلى الوضوح .. أما الإشارة غير المباشرة فإنها تحمل معها احتمالات الغفلة عن التفاعل معها ، الأمر الذي يعني الغفلة عن المراد ، فلا بد من تحاشيها في مقام كهذا ..

ثالثا : إن الإيصال السريع إلى المراد ـ لأكثر من سبب ـ لا يتلاءم مع الإشارة والإيماء حيث يحتاج ذلك إلى إعطاء فرصة للعقل لربط الأمور ببعضها البعض .. في الوقت التي يحتاج فيه إلى الانتقال المباشر ..

وهذا يدلنا على : أن كلمة «من» مهمة جدا وضرورية في هذا المقام .. الذي يحتاج إلى التأكيد والتنصيص ، وإزالة أية شبهة. ليمكن إثارة الأحاسيس والمشاعر بصورة مباشرة ، وكذلك من أجل تحقيق المزيد من التعلق بالمطلوب ، وليكون وقعه في النفس أشد ..

كلمة «كانت» :

وحول كلمة «كانت» في قوله تعالى : (كانَتْ قَوارِيرَا ..) نقول : هي كان التامة ، لا الناقصة ، والمعنى : «أنها وجدت قوارير» ، فليس ثمة تحول من حالة إلى حالة ، لكي لا يتوهم أحد أنه تحول غير خالص ولكي لا يثير احتمالات في واقع أصالتها التامة والحقيقية ..

«من فضّة» :

وأما لماذا ذكر الفضة بالخصوص ، ولم يذكر الذهب مثلا ، مع أنه الأغلى والأهم بنظر الناس. فلعله لما ذكرناه من أن تراب الجنة من فضة ، وللفضة خصوصيات ، لا توجد في الذهب ، وقد قصد هنا أن يستفيد من

هذه الخصوصيات معان تناسب الحال.

إنه تعالى يريد أن يحقق الانسجام بين المعاني التي تتشكل منها ملامح الصورة بجميع عناصرها ، وذلك حين يحقق الانسجام بين الآنية والأكواب التي يقدم بها الشراب .. ليدرك الإنسان من خلال ذلك مستوى من الكرامة والإعزاز الإلهي للأبرار.

ولأجل ذلك : لم يتحدث الله سبحانه عن طعم الشراب هنا ، بل تحدث عن النواحي الجمالية التي يريد لها أن تفرض مستوى أعلى من اللذة التي يعطيها طعم الشراب.

وخلاصة القول : إنه تعالى يتعاطى مع هذا الأمر على قاعدة إيجاد الحوافز ، وانشداد الأرواح إلى نيل هذا الشرف العظيم .. ولأجل ذلك ، فإنه قدم صورة جمالية في مستوى الإعجاز ، حيث أراد أن يرتفع بالإنسان إلى مستويات من الإحساس الأشد رهافة ، والإدراك الأعمق ، والأكثر تجذرا وأصالة .. وهو يهيء له صورة لا بد له من التعاطي معها بإيجابية وانجذاب حقيقي ، وهو يدرك الجمال الساكن في تلك الصورة ، والظاهر بمستوى إعجازي في التناسق والتكامل .. فتلذّ روحه من خلال تذوقه وإدراكه لذلك بعمق ..

* * *

الفصل السادس عشر :

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً)

قوله تعالى :

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً).

«قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» :

وقد ظهر : أن ثمة حالة إعجازية ، تظهر من خلال الصورة التي رسمتها الآيات لآنية من فضة ولأكواب من فضة ، وهي في نفس الوقت قوارير ..

وذلك لأن الفضة التي نعرفها لا ينفذ البصر منها إلى الجهة الأخرى ، بل هو يرتد عنها عاجزا عن اختراقها. فكيف تكون ـ والحالة هذه ـ قوارير؟! ما دام أن القوارير ينفذ البصر منها بسبب شفافيتها!! ..

إن هذه صورة جمالية إعجازية رائعة .. أن تتمازج صفات القوارير مع صفات الفضة ، من حيث الصفاء ، والشفافية ، فقد روي عن الإمام الصادق [عليه‌السلام] : أن البصر ينفذ من فضة الجنة ، بسبب شفافيتها ..

ومن حيث التماسك ، في مواجهة الصدمات ، إذ إنها لا تتحطم كما تتحطم القوارير ، بل هي تحتفظ بتماسكها ، كالفضة ..

وكذلك من حيث اللمعان والبريق ..

ثم من حيث تركيبة العنصر الذي يكون للفضة ..

وأيضا من حيث اللون الخاص بها ..

ثم من حيث ليونة ملمسها ..

وكرامة معدنها ، وما له من قيمة اعتبارية ..

إن لكل مفردة من هذه المفردات ، ولجميع هذه الصفات والميزات لذة تناسبه : حسية تارة ، وروحية أخرى ، وذوقية بجمالياتها المختلفة ثالثة ..

ثم هناك لذة رؤية الشراب في داخلها ، والإحساس بالواجدية له باستمرار ..

ثم تأتي اللذة الناشئة عن دقة الصنع ، التي أشير إليها بقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً ..) وما إلى ذلك ..

وعلينا أن لا ننسى أخيرا .. أن هناك لذائذ تنشأ عن ملاحظة كل عنصر بذاته ، فلكل عنصر نعيم يناسبه .. فإن هناك لذة ونعيم بملاحظة المجموع أيضا من حيث هو مجموع مركب متناسق ، يراد له أن يشير بشكله المجموعي إلى أمر ما ..

فإن بعض الأمور إنما تعطي حالة جمالية وإيحائية في خصوص حالة اجتماعها وتركيبها على صفة خاصة ، فإذا انفرد بعضها عن بعض ، فإنها تفقد أي جمال وإيحاء ، بل ربما تصير إلى حالة متناهية في السذاجة ، وفي القبح.

ولكن الأمر هنا ليس كذلك ، إذ إن للعناصر المتمايزة جمالها الأخّاذ ، ولها بالانضمام إلى بعضها البعض جمال آخر رائع ، يضاف إلى ما عداه. تماما كما لو أردت أن تتناول طعامك في داخل غرفتك ، بما هي عليه من حالة الفوضى. أو أردت أن تتناوله في حديقة غناء ، فسوف تجد أنك في الحديقة تحصل على لذة أخرى تضاف إلى لذة الطعام نفسه ..

توضيح واختصار :

إن قيمة الذهب في الدنيا لا يجب أن تكون هي نفس قيمته في الآخرة. ومع افتراض كونها كذلك ، فإن لكل معدن قيمته ، تفرضها ميزاته ، وأهميته الخاصة به. التي يفرضها حجم تأثيرها وتأثيره في الهدف الذي يراد الوصول إليه ، وقيمة ذلك الهدف وحساسيته الفعلية ، ومن الواضح : أن ذلك يختلف ويتفاوت .. فقد لا يصلح هذا للموضع الذي يصلح فيه ذاك ، ولا يؤدي وظيفته ، كما أنه قد يكون للمكان والزمان ، والحالات التي يراد الاستفادة منه فيها دخالة ظاهرة في إعطاء القيمة والأهمية والامتياز لأحدهما على الآخر ..

وفيما نحن فيه نقول : إن الذي يناسب الصورة الجمالية التي يراد رسمها ، وتكوينها ، وإظهار التناسق الفريد بين عناصرها هو خصوص أن تكون الأكواب والأواني من فضة ، إذ لا يراد التأكيد على الآنية والأكواب ، من حيث هي ظروف يوضع فيها شيء ما ، كالشراب أو غيره ، كما لا يراد التأكيد على الشراب من حيث طعمه أو نكهته ، أو نحوهما .. بل يراد ـ كما قلنا ـ رسم صورة جمالية ، واقعية ، من خلال إبراز تناسب ، وتناسق ، وتكامل بين عناصرها ، الأمر الذي لا بد أن يترك أكبر الأثر على الذوق ، والإدراك ، والروح ، والشعور ..

فلا مجال للسؤال بعد هذا عن السبب في عدم الاستفادة من عنصر الذهب ، إذ لا مكان لهذا العنصر أساسا في عناصر هذه الصورة التي يتم الحديث عنها ، والتي يراد بها تحريك العقل ، والفكر ، والمشاعر ؛ لتتعلق بالجنة ، ولتندفع للعمل من أجلها ..

«قدّروها» :

وإن دقة الصنع وحسن هندسة الشيء ، ومطابقة المراد والمطلوب للضوابط ، لهو أمر ترتاح له النفوس ، وتلتذ به الأرواح ، سواء أكان ذلك الضبط والدقة في ناحية المضمون ، ـ وتركيبة العناصر ، والتقدير للنواحي الهندسية ـ ، أم كان تقديرا لما يوضع فيها ، من حيث اشتماله على المقادير المطلوبة في الطعم ، واللون ، والرائحة ، والاشتداد ، والانسياب ، واللزوجة ، وغيرها من صفات ..

وأما لماذا لم يقل : قدّرت تقديرا ، بل قال : «قدّروها» فلعله لأجل إظهار الاهتمام بالدلالة على فاعل هذا التقدير ..

ثم أكد الفعل بالمصدر ، فقال : «تقديرا» ربما للتدليل على أن هذا التقدير قد جاء عن قصد ، وعناية ، واستجابة لمقتضيات واقعية ، تدخلت في صنعها إرادات للأبرار ، وهي التي فرضت هذه الأشكال ، والأحجام ، والمسافات ، والحالات على ما هي عليه ..

ولو أنه قال : قدّرت ، فلعله يفهم من ذلك : أن الجنة قد خلقت وفق هندسة معينة ، بغص النظر عن إرادات وأفعال العباد ، وأن الله يريد أن يسكن فيها من أطاعه ، لكي يستفيدوا منها ، على ما هي عليه ، من دون أن يكون لهم أي دور أو اختيار في هندستها ، وصنعها ، وطبيعة تكوين الأشياء فيها ..

الضمير في «قدّروها» :

وقد قال : قدروها ، والظاهر أن الضمير عائد إما إلى الملائكة ، أو إلى الأبرار ، ولعل هذا هو الأنسب ، إذ لا حديث عن غيرهم ، ولا يصح إرجاع الضمير إلى لفظ الجلالة ، لأنه ضمير جمع .. ولا إلى الولدان المخلدين ،

لأنهم إنما خلقوا ليسعد الأبرار بوجودهم ، وليس لهم دور في صنع الجنة ..

فالأبرار هم الذين لهم دور في هذا التقدير ، وذلك لأن عملهم للصالحات في الدنيا ينتج لهم حالات من النعيم تناسب ذلك العمل ، وتحمل مواصفاته ، وصفاءه ، وخلوصه ، وجهاته ، وميزاته ..

ولذلك اختلفت عليها المثوبات من حيث الكم ، والنوع ، والمواصفات ، حيث تجد في النصوص أن لكل عمل جزاءه المناسب له. فهذا ثوابه قصر ، وذاك ثوابه حور عين ، وذلك ثوابه تكون حدائق وأعنابا ، وهكذا .. وهذا العمل يوصل إلى مقام كذا .. لكن عملا آخر يوصل إلى مقام آخر.

وإذا كانت جارحة بعينها هي التي أنجزت عملا ما ، ـ كالعين حين تغض عن محارم الله ـ فإن الثواب سيكون متناسبا مع ما يتطلبه عمل تلك الجارحة ، ومع مستوى ما بذلته من جهد ، وغير ذلك من حالات ..

التقدير :

وبديهي : أنه لا بد في تقدير الأمور من الاستناد إلى معيار يفرض هذا المقدار أو ذاك ، ولا يكون الأمر عشوائيا .. فمن أراد بناء غرفة ، فإن سعتها سوف يفرضها غرض ما. وهذه السعة تفرض مستوى ارتفاع تلك الغرفة ، ونظام التهوئة الذي يعتمد فيها ، وكميات النور التي تحتاج إليها ، ثم مراعاة ذلك في فتحاتها ، وسعة الباب وارتفاعه ، وما إلى ذلك ..

وحين يزرع الفلاح الحب ، فإن الله هو الذي ينبته ، لكن وفق نظام يراعي فيه الزارع كمية البذر ، وكمية المياه في الري ، وطبيعة التربة ، وموقعها في الأماكن الحارة أو الباردة ، في المرتفعات أو المنخفضات ،

وما إلى ذلك ..

فالعمل الصالح ، وحالاته ومستوياته ، ونوعه ، وميزاته ، وما إلى ذلك .. قد أوجد هذا النعيم الذي يحصل عليه ، وأثّر في مقاديره ، وأحجامه ، وأشكاله ، وأنواعه ، ومستوياته ، وميزاته ، وأوجد لشراب الأبرار مثلا هذا الطعم ، وهذا اللون ، وهذه الرائحة ، وذلك المقدار ، وتلك اللزوجة ..

لكن شخصا آخر قد تكون لشرابه ميزات وخصائص أخرى ، ويلتذ به بصورة أقل ، أو أعمق ، لأن هذا هو ما أنتجه له فعله ، وفرضه له عمله في دار الدنيا ..

والتقدير نفسه من أسباب اللذة أيضا ، مع أنه لا ينفصل عن وجود ما تجسد به .. إذ إنه ليس شكلا يدخل في صورة الهيكلية العامة ، ثم يفقد معناه. بل هو باق في شعور الإنسان بهذه المقايسة بين عمله ، وبين ما أنتجه له ذلك العمل ..

تنوع الملذات :

وقد ظهر : أن هناك لذات فكرية تنشأ من إدراك المعادلات ، وهناك لذة ذوقية منشؤها إدراك الانسجام والتناسق في الأشكال الهندسية ، وهناك لذة روحية من خلال الشعور بالكرامة الإلهية ، والرضا ، وهناك لذات حسية ، من خلال الشعور بطعم الشراب ، في قوله تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ..) وكذا الحال في نعومة الحرير ، هذا بالإضافة إلى لذات للمشاعر ، وغير ذلك ..

* * *

الفصل السابع عشر :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)

قوله تعالى :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً).

«ويسقون» : لماذا الواو؟!

وقد قال تعالى : «ويسقون» بالواو ، ربما لأجل الإلماح إلى استقلالية هذا النوع من النعيم ، لأن نفس هذه الاستقلالية لها لذتها أيضا .. وقد جعل نفس سقيهم هو محور الحديث ، لا نفس الشراب الذي يسقى ، لأنه لا يريد أن يجعل الشراب نفسه هو المحور في ذلك ، بحيث تكون الأمور الأخرى من حالاته ، وشؤونه التي تزيد في لذته.

ويؤكد هذه الاستقلالية ، إضافة كلمة «فيها» بعد كلمة «يسقون» كما سنرى. إذ إن نفس هذا السقي في الجنة هو الآخر نعيم يضاف إلى ما سواه ..

ولو أنه لم يرد إفادة هذا المعنى ، لأمكن الاكتفاء بكلمة : «يسقون».

«يُسْقَوْنَ» :

ويلاحظ : أنه تعالى قال : «يسقون» ولم يقل : «يشربون» ..

وما ذلك إلا لأن المراد هو تكريمهم ، ليتنعموا بهذا الشعور بالعزة وبالكرامة الإلهية ، ويؤكد هذا الشعور : أنهم في الجنة .. وأن هذا مما هيأه الله لهم.

فهذه المعاملة تشير إلى أنهم موضع عناية ، واهتمام ورعاية ، فهم لا يكلفون بالسعي إلى حاجاتهم ، بل هي تقدّم لهم ، للدلالة على قيمتهم

وموقعهم ، وفضلهم ، واستحقاقهم ..

«فيها» :

أما كلمة «فيها» فقد أشرنا إلى أنه تعالى يريد من خلالها ، تحسيس الأبرار بأنهم في الجنة ليزيد ذلك في بهجتهم وسرورهم ..

«كاسا» :

والتنوين في قوله : «كأسا» هو تنوين التنكير ، وهو يشير إلى الإفراد والوحدة ، ولعله لأجل إفهام الأبرار أن ريّهم الدائم يتحقق بشربهم لهذا الكأس ، بحيث لا يحتاجون إلى غيرها. خصوصا وأنها تبقى كأسا مملوءة دائما ، لا ينالها النضوب ، ولا تصير قدحا فارغا حسبما تقدم.

وفي هذا التنوين أيضا ، إبهام لحالات تلك الكأس ، لعل الهدف منه إطلاق عنان الخيال الذي سيذهب كل مذهب في رسم صورة هذه الكأس ، شكلا ، ولونا ، وحجما ، ونوعا. الأمر الذي يوجب درجات غير متناهية من التلذذ بجمالها ..

وبما أن إطلاق كلمة الكأس إنما يصح في صورة كونها مملوءة ، فإن الخيال لا بد أن يسعى أيضا لتلمس حقيقة ما فيها من شراب ، وما يوجبه من لذة غير متناهية أيضا ، وكذلك الحال بالنسبة للتلذذ بذلك المزيج ..

ويؤكد إرادة هذه المعاني ، وتعمد الإبهام والإجمال ، أنه تعالى لم يذكر حقيقة أو نوع الشراب الذي يكون في ذلك الكأس ، بل ذكر لهم مزاجه فقط ..

لما ذا التعدية المباشرة :

إنه تعالى قال : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً ..) فجاءت التعدية مباشرة ، ومن

دون توسط حرف الجر ، فلم يقل : يسقون من كأس ، أو بكأس ، أو نحو ذلك ..

مع أن الشرب إنما يكون لما في الكأس لا للكأس نفسه ، فما هو السبب في ذلك؟!

الجواب :

أنه تعالى يريد أن يشير إلى أن كل ما في هذه الكأس مطلوب ، ومرغوب فيه ، وليس فيها ما يرغب عنه ، فليس فيها ما هو من قبيل الثمالة المتبقية في قعر الكأس ، والتي يعافها الشارب ، لكونها مظنة تجمّع الترسبات ، التي قد تختلف مع سائر ما كان في الكأس ، إما في حقيقتها ، أو في طبيعة تشكلها ، أو نحو ذلك ..

فإذا كان جميع ما في الكأس له حالة واحدة ، فإن هذا يعطي الإنسان المزيد من الطمأنينة واللذة بما يشربه ، حيث يشعر بصفائه وبخلوصه من كل ما يمكن أن تعافه النفس ..

فلا فرق بين الثمالة وبين سواها ، لا في الشكل ولا في المضمون. فلا حاجة إلى «من» التبعيضية. بل لا معنى لإدراجها في الكلام ، لأن ذلك قد يخل في المعنى المقصود ..

واستعمال كلمة «من» وإن لم يكن فيه تصريح بوجود ثمالة في الكأس ، ولكنه لا يلغي احتمالها .. أما التعبير بشرب الكأس ، فهو يلغي حتى هذا الاحتمال .. حيث يدل على أن جميع ما في الكأس لا شائبة فيه ، وسيشربه أولئك الأبرار ..

بين «يسقون» ، و «يشربون» :

إنه تعالى قال : (وَيُسْقَوْنَ فِيها ..) ولم يقل يشربون .. وذلك لتحاشي

الإيحاء بأن الأبرار هم الذين يتولون خدمة أنفسهم في هذا الأمر ..

وللتأكيد على أن هناك من يتولى خدمتهم ، وتكريمهم بتقديم الشراب لهم.

«كان» :

وتأتي كلمة «كان» في قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ..) لتشير إلى أن هذا المزاج له أصالة ، وكينونة وثبات من بدء التكوين. وله رسوخ ، وبقاء ، واستدامة على هذه الحالة ؛ في الحال ، وفي المستقبل.

فليس هذا المزاج حادثا وعارضا على شيئين كانا على حالة الانفصال .. ولا مجال لإطلاق أوهام الإنسان ومخاوفه حول درجة هذا الانضمام والامتزاج ، وعمقه ومداه ..

«مزاجها» :

ويلاحظ أولا : أنه تعالى قد عبر أيضا بكلمة «مزاجها» ، فلم يقل : «ممزوجة» ، ولا «مزجت» ، حتى لا يكون في ذلك أية إشارة إلى فاعل بعينه ؛ قد تولى هذا المزج. لكي لا يثور شعور بأن هذا المزج مرهون بإرادة مازجه ، ولعل هذه الإرادة تغيب لسبب أو لآخر ..

كما أن التعبير بالفعل الماضي ، كأن يقول : مزجت ، غير صحيح ، لأنه يفيد حدوث هذا الأمر ، بعد أن لم يكن .. أما كلمة (كانَ مِزاجُها ..) فهي تفيد أن هذا المزاج ثابت ومستمر منذ نشأة ذلك الشراب. فلا مجال لتوهم عروض المزج على ذينك الشيئين ..

ويلاحظ ثانيا : أنه تعالى لم يقل : «كانت ممزوجة بالزنجبيل».

وربما كان سبب ذلك هو أنه تعالى لا يريد أن يجعل لأي من العناصر أية درجة من الأصالة ، أو المحورية .. فإن ذلك قد يؤثر على

النظرة إلى سائر العناصر ، فإذا قيل : الشيء الفلاني ممزوج بالزنجبيل ، فسوف يفهم أن لذلك الشيء أصالة ومحورية ، والزنجبيل طارئ عليه .. حتى ولو كان المزاج في أصل التكوين.

وقيام هذا التوهم معناه : أن يفهم أن لذلك العنصر دور الأصالة ، والأرجحية ، ويكون العنصر الآخر أقل اعتبارا ، وأضعف تأثيرا ..

ويلاحظ ثالثا : أن الضمير في قوله : «مزاجها» يرجع للكأس ، وكأنه يريد الإلماح إلى أن الظاهر من الكأس هو الشراب ، وليس للفضة والقواريرية وجود ظاهر ومتميز تناله الباصرة ، فكأنه يشرب الكأس ، لأن الكأس يحس بها ، باللامسة ، ولكنه يشرب محسوسه بالباصرة ، وهو الشراب في داخلها ، ويذوق الكأس بالذائقة ، فالكأس المحسوسة بالباصرة والمذوقة بالذائقة كان الزنجبيل مزاجها ، أما الكأس الملموسة ، فإنه تجاهلها إلى درجة أنه لم يبق منها إلا الاسم.

«زنجبيلا» :

هذا .. وقد ذكر الزنجبيل بتنوين التنكير ، ـ ربما ـ ليشير إلى أنه زنجبيل لا نظير له ، ولا يخطر حسن لونه وطيب وذكاء رائحته على بال ، ولا يمر في خيال ، ولو أنه عرّفه ب «أل» فقال : «الزنجبيل» ، فلربما يتوهم أنه كهذا الزنجبيل الذي عرفناه ، وألفناه في دار الدنيا ، مع أن زنجبيل الدنيا لا يقاس بزنجبيل الآخرة ، ولعلهما لا يتشاركان بصورة حقيقية بغير الاسم ..

مواصفات الزنجبيل :

هذا وللزنجبيل في هذه الدنيا خصوصيات ، قد يكون في الآخرة ما يشبهها ، ولكن لا شك في أنه بدرجات ومواصفات عالية جدا تزول معها

كل السلبيات التي قد تكون في زنجبيل الدنيا ، بل ربما تصل إلى حد المباينة لمواصفاته ..

خصوصيات في الزنجبيل :

ففي الزنجبيل :

١ و ٢ ـ حرارة ، ولذع .. ولهما حين يمازج الطعام أو الشراب ، دور في إثارة الشهية إليه ، وإقبال النفس عليه. لما يثيره في النفس من حالات لا توصف من البهجة والالتذاذ.

٣ ـ طيب رائحته ، وطبيعة نكهته ..

٤ ـ ثم هناك لونه الذي يوجب استقرار النظر عليه ، والتلذذ به ..

وثمة خصوصيات أخرى في الزنجبيل ، من حيث إنه يثير حالة من الانبساط ، ويضاعف مستوى رهافة المشاعر ، ويزيدها حيوية ونشاطا. لكي تستفيد ـ من موقع الطهر ـ من مختلف أنواع النعيم الذي هيأه الله تعالى للأبرار في الجنة ..

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة :

وبعد .. فقد أظهرت الآية الكريمة نفسها ، أنه ليس فقط لا توجد أية سلبيات في الزنجبيل ، بل هو في أعلى درجات الملائمة. فقد ظهر : أن لذع وحرارة الزنجبيل لا يمثل عائقا عن التلذذ به ، ولا من إساغة الشارب له بيسر وسهولة.

مع العلم بأن لنفس السهولة لذتها أيضا .. فإن الله سبحانه قد بيّن أن ذلك الشراب الممازج لهذا الزنجبيل عبارة عن عين في الجنة تسمى سلسبيلا ، وذلك ليبعد عن مخيلة الإنسان أي احتمال يوجب شيئا من التردد في الإقدام على ذلك الشراب ، أو أي تخيل لأية صعوبة في شربه ،

بل هو سيكون أدعى للتشوق إليه ، وللإحساس بالهناء والطمأنينة له. والتذاذهم به وبغيره من نعيم الجنة الذي يوعدون به ..

فإذا كان ذلك الشراب من عين في الجنة ، فالجنة أعدت للنعيم ، والتلذذ.

وإذا كان ذلك الشراب سلسبيلا ، فالسلسبيل صفة يراد بها المبالغة في وصف السهولة ، والسلاسة ، والإساغة ، بيسر وراحة ..

كما أن مجرد كونه كذلك ، يجعله أمرا مميزا ، وخارجا عن المألوف والمعروف ، وهو خرق العادة ، حيث جمع بين ما يمنع من الاستساغة والسهولة ، ـ وهو الحرارة واللذع ـ وبين كونه في منتهى السهولة والاستساغة .. وهذه الفرادة من شأنها أن ترفع درجة الرغبة به ، والالتذاذ بالحصول عليه أيضا ..

أسئلة تحتاج إلى أجوبة :

وتبقى هنا أسئلة كثيرة ، تحتاج إلى إجابات ، ومنها السؤال :

ـ عن السبب في اختيار الزنجبيل هنا ، والكافور هناك؟!

ـ وعن السبب في وصف الكأس ، بأنها عين؟!

ـ وعن إعراب كلمة عينا ، فهل هي بدل من قوله : «زنجبيلا» ، أو بدل من كلمة : «كأسا»؟!

ـ ولماذا لم يقل : كان مزاجها زنجبيلا ، كالسلسبيل؟!

ـ ولماذا جاء بكلمة : «فيها» من جديد؟!

وفيما يلي بعض ما يفيد في الإجابة على هذه الأسئلة وسواها ..

زنجبيل الدنيا .. والآخرة :

علينا أن نعترف بأن من الممكن أن نعجز عن معرفة السبب الحقيقي في اختيار الزنجبيل هنا ، ليكون هو المزيج للشراب ، دون سواه كالعسل ، أو اللبن مثلا ..

ولكن لا شك في أن للزنجبيل خصوصية بارزة فيه أكثر من سائر الخصوصيات ، وينتقل الذهن إليها بمجرد سماع هذه الكلمة .. كما أن في العسل خصوصية أخرى تكون هي الأبرز ، ويتوجه إليها الذهن بمجرد سماع كلمة عسل ..

وهكذا الحال بالنسبة للبن ، وغيره.

كما أن الحال في أنواع الفاكهة هو ذلك ، وكذا سائر ما يذكر من مفردات النعيم ، وحالات التكريم في الجنة.

والخلاصة : أن ذكر الزنجبيل هنا ، والكافور في ما سبق ، يشير إلى أن تلك الخصوصية التي يريد الله سبحانه أن يفهمنا أنها قد روعيت ، في هذا النوع من النعيم ، وأنه يمكن الاستعانة في إدراكها ـ ولو بصورة مجملة ـ بما يتشارك معه في الاسم في هذه الدنيا .. وليذهب بعد خيالنا إلى أبعد مدى يستطيعه في تصور حقيقة الفرق بين ما هو في الدنيا ، وما هو في الآخرة ، فيما يرتبط بهذه الأمور ، وحالاتها.

وقد تقدمت الإشارة إلى خصوصيات الكافور وأشرنا آنفا إلى بعض خصوصيات الزنجبيل في الدنيا ، والتي ربما يراد الإشارة إليها في زنجبيل الآخرة ، فلا نعيد ..

بين «الكافور» و «الزنجبيل» :

ويبقى أمامنا سؤال عن السبب في اختيار الكافور في قوله تعالى :

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ..)

واختيار الزنجبيل هنا ، حيث قال : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ..)

وسؤال آخر وهو : أنه لماذا قال هناك : «يشربون». أما هنا فقال : «يسقون»؟! ..

وسؤال ثالث : وهو أنه قال هناك : «يشربون من كأس» .. أما هنا فقال : «يسقون فيها كأسا» .. فلما ذا يا ترى؟!

وللإجابة على هذه الأسئلة نقول :

بالنسبة للسؤال الأول : نشير إلى ما قدمناه في شرح تلك الآية المباركة من أن سياقها يعطي أن الحديث فيها عن أن جهد الأبرار في الحياة الدنيا ، يفجر لهم عيون الخير والفلاح في الآخرة ، ويثمر لهم المزيد من البركات ، والألطاف والعنايات الإلهية.

وذلك يفرض وجود اختلاف بيّن في خصوصيات الكأس التي يشرب منها الأبرار في الدنيا ، وتلك التي يشربونها في الآخرة ، فإن هناك حاجات ونقائص وسلبيات لا بد من تلافيها في الحياة الدنيا ، وحالات غير مرغوب فيها يطلب السيطرة عليها ، أو التخلص منها ، بوسيلة تناسب حالها .. كالكافور الذي يطرد الرائحة الكريهة ، ويدفع ببرودته الحر الذي يسعى الإنسان للتخلص منه ، ثم هو يعطي أيضا بصفائه ونقائه صورة مشرقة ، تشيع البهجة في النفس ، وغير ذلك ..

أما في الجنة ، فلا يوجد شيء من ذلك كله ليحتاج إلى معالجة ، فليس فيها عطش ، ولا حر ، ولا برد ، ولا تعب ، ولا حاجة ، ولا .. الخ .. بل

يراد فقط العيش في ظل الكرامة الإلهية ، والتقلب في نعيم الجنة ، والحصول على السعادة ، واللذة فيها .. وبذلك تنتفي الحاجة إلى الخصوصيات الموجودة في الكافور ..

وبهذا تتضح الإجابة على السؤال الثالث عن السبب في أن الأبرار في الآية الأولى يشربون من كأس ، أما في هذه الآية فهم يسقون ..

فإن الأبرار هم الذين يفعلون ، ويبذلون الجهد في الحياة الدنيا ، أما في الآخرة فإنهم يكرمون ويعظمون ، وتأتيهم الألطاف الإلهية ، من دون حاجة إلى بذل جهد ..

كما أن بذلك يظهر الجواب عن السؤال الثاني ، فإن الأبرار هم الذين يصنعون الخير ، ويكسبونه بجهدهم ، فما قدروا عليه إنما هو بعض من عين الخير التي لا نفاد لما فيها ..

أما في الآخرة ، فإنما يشربون من كأس ملأوها هم بجهدهم وعملهم ، فما عملوه من خير يوفى إليهم ، ولا يظلمون فتيلا ..

وإذ قد اتضح : أن الزنجبيل في الآخرة هو من مفردات زيادة النعيم ، فإنه يتضح أيضا :

أن لا مجال لقبول التفسير القائل بأن الزنجبيل يحتاج إليه في الآخرة لإطفاء عطش يوم القيامة ، حيث ينال المؤمن البرد اللذيذ بعد التعب وطول الوقوف في عرصات ذلك اليوم.

وكذا لا يصح قولهم : إن للزنجبيل بعض الأثر في إثارة الرغبة والميل إلى ثمار الجنة ..

* * *

الفصل الثامن عشر :

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)

قوله تعالى :

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً).

وفي بيان المراد من هذه الآية ، نقول :

«عَيْناً» :

١ ـ قد اختلفوا في إعراب قوله : «عينا» .. فهل هي :

بدل من قوله : «زنجبيلا».

أو بدل من قوله : «كأسا».

أو منصوبة بفعل محذوف ، مثل ترون ، أو تنظرون عينا ، أو نحو ذلك ..

أو منصوبة بنزع الخافض بتقدير : يسقون عينا ، أي من عين على طريقة التجوز في الإسناد ..

وقد ذهب إلى كل وجه من هذه الوجوه الاعرابية فريق ..

ولكل إعراب خصوصية في المعنى ، يرتكز عليها ، ولا حاجة إلى تفصيل ذلك ، غير أنه سيظهر من مسار الكلام : أننا نرجح الوجه الثاني ..

٢ ـ لعل السبب في عدم الاكتفاء بذكر الكأس ، بل أضاف قوله : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ..) هو إرادة التحرز عن أي شعور بأن الكأس قد تفرغ من محتواها ، بعد شرب ما فيها ، حيث يستبعد الناس بقاءها على صفة الامتلاء بملاحظة صغر حجمها ، ومحدوديتها من حيث السعة ، مما قد يثير شعورا بالفقدان لهذه النعمة ، وتخوفا من عدم وجدانها بعد

ذلك .. وذلك يقلل من درجة الالتذاذ بها .. ويزيل أو يقلل من مستوى الثقة والطمأنينة لديه ..

٣ ـ والعين هي البئر النابعة ، التي لا تنضب ، وعطاؤها ذاتي فيها ، فهي لا تحتاج إلى استقدام شيء من خارجها.

وهذا يعطي شعورا بالغنى عن الأغيار .. ويزيد من مستوى الطمأنينة والسكينة .. فإن الكأس لا تنضب بل هي بمثابة عين ، بل هي عين بالفعل يبقى تفجرها ، وعطاؤها مستمر ، وهو ذاتي فيها.

وكونها عينا فيه إشارة أيضا إلى الغزارة ، وإلى الكثرة ، فضلا عن الاستمرار ، وهذا مما يزيد في الطمأنينة والراحة أيضا ..

ثم إن نفس كونها عينا ، يشر إلى أنه لا مشقة في الحصول على المراد ، من حيث إنها تتفجر ، ويطفح ، ويفيض ، ويجري محتواها إلى ما حولها ..

«فيها» :

ثم أشار بكلمة «فيها» إلى أن هذه العين ؛ في الجنة ، ليثير ذلك المزيد من البهجة ، والسرور. فبالإضافة إلى خلوه من جميع أنواع الكدورات والمنغّصات ، التي لا يخلو منها شراب الدنيا ، نعم إنه بالإضافة إلى ذلك ، هو نظير من يشرب شرابه على ضفة نهر ، أو على قمة جبل مشرف على منظر خلاب ، فإن لذته بطعامه وشرابه تتضاعف بالقياس إلى لذته لو شربه في داخل غرفة عادية ، مبعثرة الأثاث ، سيئة المظهر والمنظر .. مع أن نفس تناول الطعام ، وإحساس الذائقة به لا يختلف في الحالتين ..

«تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً» :

١ ـ ويلاحظ : أنه تعالى لم يقل : عينا سلسبيلا ، بل قال : (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) ، ولم يذكر من الذي يسميها بهذا الاسم ..

فكلمة «تسمى» قد أشارت : إلى أن هذا هو أحد أسماء تلك العين ، التي عرضت لها بسبب ملاحظة خصوصياتها ، الداخلة في حقيقة وجودها ، حتى لقد أطلقت عليها هذه التسمية بصورة عفوية وواقعية ، فلا حاجة ، بل لا مجال ، لتعيين من الذي سماها ..

وذلك يشير إلى أن صفة السلسبيل ليست عارضة على تلك العين ، ولا يوجد أي ادعاء أو مبالغة غير واقعية فيها ، فمعرفة الفاعل للتسمية لا تزيد في الثقة ، ولكن مجهوليته هي التي تزيدها ..

٢ ـ أما كلمة «سلسبيل» : فقد ادعي أنها لم توجد في كلام العرب ، وأن القرآن هو الذي استعمل هذه الكلمة فقط ..

ويبقى هذا مجرد ادعاء ، فإن القرآن لم يكن ليأتي بكلام غير مفهوم ، ولا معلوم لدى الناس ، وهو القائل عن نفسه : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١) ..

والسلسبيل أصلها سلسل ، ثم زيدت الباء والياء فيها للإشارة إلى أن هذه الصفة ثابتة فيها بعمق وقوة ، وبدرجة عالية ، وربما يكون سبب الزيادة غير ذلك.

كما أن من الجائز أن تكون نفس هذه الكلمة قد وضعت لإفادة هذا المعنى من دون أن يزاد فيها شيء.

والسلسبيل هي البالغة اللطافة ، والسلاسة ، والليونة ، والسهولة ..

وإذا لاحظنا صفة الحرارة واللذع في الزنجبيل ، فكون هذه العين بهذه الدرجة من اللطافة والسهولة يعطينا أنه زنجبيل يختلف عما عرفناه في الدنيا ، بل هو يكاد يكون مضادا له في صفته هذه ..

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٩٥.

لماذا هذه التفاصيل والدقائق؟ :

ونحن إذا نظرنا إلى هذه الآيات القليلة ، من بداية السورة ، وإلى هنا ، نجد أنها قد تناولت الإنسان موضوعا ، وتحدثت عنه وعن نشأته وحياته ، بشمولية ودقة ، لا حدود لهما ، وبينت إلى أي مدى تصل حساسية هذا الموضوع ، وأن أهميته هي بحجم الإنسان نفسه ، الذي انطوى فيه العالم الأكبر ..

فبدأت السورة بالحديث عن التكوين المادي ، والمعنوي ، والعقلي ، والمشاعري ، وغير ذلك. في بضع آيات استهلها الله تعالى بإثارة السؤال الكبير : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ..) وهو استفهام يراد به الإنكار ، ليتوصل من خلاله إلى التأكيد على أن الإنسان لم يزل موضع الاهتمام والرعاية الإلهية .. مستدلا على ذلك ، بما ظهر من بديع خلقة الإنسان ، الذي أودعت فيه قوى ينشأ عن احتكاكها بالواقع من حولها ابتلاء ، ثم بلورة ونمو ظاهر في أسباب العلم ووسائله ، حيث أصبح بسبب ذلك شديد السمع ، حديد البصر ، وهذه الوسائل هي التي تمكنه من إدراك الحقائق ، ليصبح السبيل ـ الذي يفترض فيه أن يسلكه لنيل الأهداف الكبيرة ـ ظاهرا وواضحا له ..

وهذه الوسائل هي تلك الهدايات الإلهامية ، والفطرية ، والحسية ، الظاهرية منها ، والباطنية ، والعقلية ، والتشريعية التي أشرنا إليها أكثر من مرة ..

ثم هو قد أعطاه الاختيار .. حتى إذا اختار طريق الخير ، فكان من أهله ، فإنه يستطيع أن يشرب ما أمكنه من كأس ؛ مزاجها الكافور الذي يفيد في إصلاح وإبعاد الشوائب ، التي قد تعلق بعمل الخير ذاك ، ويسهم في تنقيته وتصفيته ، وإعداده بالصورة الصالحة ..

وتلك الكأس هي مصدر للخير لا ينضب ، وهو كفيل بصناعة

الشخصية الإيمانية للأبرار ، وصياغتها بالصورة التي يريدها الله سبحانه ، ولها ، حيث تتكون قناعاتهم ، ومفاهيمهم ، ومشاعرهم ، وتنطبع ممارساتهم بطابعها الإلهي ، ليكون لهم التفرد والتميز الظاهر ، وليكونوا أهلا لنيل نعيم الجنة الذي وصفه الله تعالى لهم ..

وصف نعيم الجنة :

ومن الواضح : أنه لا شك في أن الأبرار هم في مستوى يؤهلهم للاستفادة من هذا النوع من النعيم ، فإنه تعالى قد أسهب في وصف مفرداته بصورة لافتة ، حتى ليظهر من هذه السورة المباركة على صغرها : أن وصف مفردات دقائق وتفاصيل هذا النعيم ، هو المحور الأساس ، والأهم ، وكأنها قد أنزلها الله تعالى لهذا الغرض بالذات ، ربما لأن لذلك الأثر الكبير من الناحية التربوية ، وفي إيجاد الحوافز لدى الناس للسعي لنيل ذلك ، كلّ بحسب ما يقدمه من عمل ، وما يبذله من جهد ..

كما أن ذلك يسهم في رفع مستوى وعي الناس وإدراكهم وتطوير مفاهيمهم البسيطة ، إلى مفاهيم أرقى تؤثر إيجابا على حالتهم الإيمانية والعقائدية.

فضلا عن تأثيره في التكوين النفسي والحالة الشعورية فيهم ..

وإن التأمل في آيات هذه السورة كفيل بإظهار صعوبة جمع ، وضبط ما يدركه عقلنا القاصر فيها من إشارات ، ورصد ما تختزنه من دلالات ، ونظمها في قالب بياني واضح. وذلك لكثرتها ، واختلاف تشعباتها ..

فكيف لو وقفنا على حجم وآفاق معانيها الواقعية ، التي لا ينالها إلا الراسخون في العلم من المعصومين ، والأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! ..

خصوصية البيان القرآني :

وإن وصف ورسم وتصوير القرآن لهذه الدقائق والحقائق التي تتميز بها مفردات نعيم الجنة ، الذي استحقه أولئك الأبرار ، يظهر لنا حقيقة ، وخصوصية يمتاز بها البيان القرآني ..

وهي أن القرآن لم يعتمد في بيان الحقائق العقائدية ، والقضايا الإيمانية ، على مصطلحات تختص بعلم بعينه ، من بين سائر العلوم ، كمصطلحات علم الكلام ، أو علم الفلسفة ، الذي لا شك في ارتباطه الوثيق في الشأن العقائدي ، إلى حد أن من يمارس المسائل العقائدية لن تفاجؤه تلك المصطلحات ، وهي تتناثر عليه من كل حدب وصوب .. بل المفاجأة هي أن لا يجد ذلك ..

نعم ، إن القرآن حين يعالج قضايا العقيدة ، ويتصدى للتربية الفكرية والروحية في مجالاتها ، لا يهتم لتلك المصطلحات ، ولا لغيرها من مصطلحات سائر العلوم التي يهتم بها فريق من الناس ، بل هو حين يعالجها يتكلم :

أولا : باللغة العامة ، المشتركة بين البشر جميعا.

ثانيا : إنه حين يعرض قضايا العقيدة ، وغيرها من القضايا التجريدية ، فإنه يخرجها عن حالتها تلك ، ويحولها أولا إلى شأن حياتي ، ويجسدها كواقع عملي ، يهم الإنسان بما هو إنسان ، ويعنيه بصورة مباشرة ، ثم يقدمها إليه ليتلمّس فيها الخصوصية التي تعنيه ..

فتدخل إلى قلوبهم ، وإلى عقولهم ، وإلى نفوسهم بصورة طبيعية وعفوية ، ومن الأبواب التي تناسب القلب ، والعقل ، والنفس ، من دون أن يكون هناك أي حرج ، أو صعوبة ، بل هو يذلل كل الصعوبات ، ويزيل

جميع الموانع ..

فمثلا ، حين يريد أن يتحدث عن التوحيد ، ورفض الشرك ، فإنه يثيره بطريقة تستبطن الدليل الفلسفي ، ولكن دون أن يستخدم مصطلحات علم الفلسفة ، فيشير إلى موضوع تضادّ الإرادات ، أو بطلان تأثير ما عدا الإله الواحد ، وبطلان تعدد الآلهة ، ولكن من خلال التأكيد على أنه يوجب فساد الحياة ، وفساد السماوات والأرض ، ويتناقض مع هدف الإله الحكيم من الخلق ، لأنه إنما يريد الصلاح ..

وواضح : أن الفساد لا يمكن للإنسان أن يرضى به ، لأنه يهدد حياته ، وترفضه فطرته ، وعقله ، لأنه يخلّ بسعادته وراحته ، وبخططه ، وبمستقبله ..

والحاصل : أن القرآن ليس كتابا فلسفيا ، ولا تاريخيا ، ولا فقهيا ، ولا غير ذلك ، وإنما هو كتاب الله تعالى ، يظهر للمعاني الدينية ، وللأحكام الشرعية ، وقضايا التاريخ ، وجهها العملي ، حين يحولها إلى شأن حياتي ، ليستفيد الناس منه ، وليتفاعلوا معه بصورة عفوية ، ولا يتحدث للناس بمصطلحات تختص بفريق دون فريق ، ولا بعلوم لا يعرفها إلا قلة من الناس ، في كل زمان ومكان ..

وحتى حين ذكر بعض الأمور الكونية ، فإنه ذكرها أيضا بلغة عامة ، ولم يستعمل مصطلحات أهل الفلك ، أو غيرهم ..

وحين يتحدث عن نعيم الجنة ، فإنه لا يبالغ فيه بهدف إغراء الناس بأمور خيالية .. لأن الإنسان غير قادر على استيعاب الحقيقة مجردة ، فكيف إذا أريد الزيادة عليها بأسلوب المبالغة.

إن القرآن يقرر الحقائق على ما هي عليه ، وبصورة عملية تفصيلية ،

تجعل الإنسان يعيش ذلك النعيم بكل وجوده ، وتجعل جميع جوارحه تتشارك فيه.

لكن ذلك لا يعني أن علم الفلسفة مثلا ساقط عن الاعتبار .. إذ لا ريب في أننا نحتاج إلى علم الفلسفة لمواجهة الشبهات التي يلقيها المتحذلقون من شياطين الإنس.

ولا شك في أن هذا العلم بضوابطه الصحيحة ، وقواعده السليمة ، يسهم في صيانة العقيدة ، ويفيد في إثراء الفكر وفي بلورته ..

ولكننا نقول : إن الفلسفة هي لغة فريق من الناس ، وليست لغة جميعهم .. والقرآن هو كتاب الله أنزله للبشر جميعا ، فلا بد أن يخاطبهم سبحانه باللغة البشرية ، لتثبيت قضايا الدين وشرائعه في وجدانهم ، وعقلهم ، وفكرهم.

ولكن ذلك لا يعني : أن لا يشير بطريقته الخاصة أيضا ، إلى حقائق علمية ..

وعلى كل حال ، فإن الأدلة العقلية وغيرها مما يساق لإثبات الحقائق الاعتقادية ، إنما تأتي لتأكيد مقتضيات الفطرة ، وتقويتها ، وصيانتها عن أن تتعرض لأي تشويه ، أو تلوث ..

فنحن نقول : إن القرآن قد جاء بنهج استدلالي جديد وفريد ، حبذا لو اهتم علماؤنا بالاستفادة منه في تأسيس فلسفة جديدة ، سيكون لها أثرها العظيم في بلورة الحقائق وتوضيحها بصورة أتم للبشرية جمعاء ، لأنها هي اللغة الجامعة والمفهومة لدى الجميع ..

فمثلا قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١) .. دليل عقلي يفهمه البشر جميعا ، ويتضمن الإعجاز الذي يؤكد وجود الله سبحانه للناس كلهم .. فإن الخصوصية التي يريد الله أن يفهمها للناس ، ثابتة في كل عصر وزمان ، حتى لو لم يعد للإبل دور يذكر في حياة البشر ـ وهي خصوصية باقية يعرفها البشر جميعا ، أو يمكنهم الاطلاع عليها على مر الزمان ، وليست مرهونة بالحاجة إلى الإبل وعدمها ..

كما أنه حين بيّن في هذه السورة أن الأبرار يطعمون الطعام على حبه مسكينا ، ويتيما ، وأسيرا .. قد بدأ ببيان تفاصيل الجزاء لهم ، والذي جاء نتيجة ممارسة ، وجهد ، وحركة ، وعمل حياتي ، وعطاء منهم ..

والممارسة والجهد مرتكز إلى حوافز عقيدية ، ومنطلق من نظرة معينة للحياة ، ومن قناعات ومشاعر ، ومن تكوين نفسي ، وفكري ، له خصوصيته وفرادته .. وليس ناشئا عن حالة عفوية ، ولا مرتكزا إلى أمور خارجة عن حياة الإنسان .. بل هو تضحية متعمّدة ، يحمل معه قرارا بالتنازل عن علاقة في مقابل علاقة أخرى ..

وهذا بالذات يفسر لنا سبب بدء السورة بإعطاء تصور عن واقع ونشأة الإنسان ، وعن سيره التكاملي ، وعن إعطائه الاختيار في أن يفعل ، وأن لا يفعل ، وعن أن اختياره ، وجهده هو الذي يوصله إلى هذه النتائج في الآخرة ..

* * *

__________________

(١) سورة الغاشية الآية ١٧.

الفصل التاسع عشر :

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)

قال تعالى :

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً.)

«وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ» :

إنّ هذه الآية قد تحدثت عن وجود فريق في الجنة ، يهتم بشؤون هؤلاء الأبرار ، ويقوم بخدمتهم ، وهذا من شأنه أن يعطيهم سكينة نفسية ، وفراغ بال ، فلا مبرر للتخوف من مواجهة مشقة الخدمة ، وتكليفهم بالوصول إلى حاجاتهم ، والحصول عليها بأنفسهم.

كما أن ذلك يشعرهم بكرامتهم عند الله ، وبرعايته لهم ، وبرضاه عنهم ، وذلك مما يسعدهم ، بل هو غاية أمنياتهم ومنتهى آمالهم ..

ولعل السبب في اختيار التعبير بالتطواف .. فقال : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ). ولم يقل : «يخدمهم ولدان» الخ .. هو أن مهمة هؤلاء الولدان لا تنحصر بقضاء حاجات الأبرار ، بل إنّ نفس وجودهم يعطي الأبرار أنسا. وبهجة وسرورا ، بالإضافة إلى ما فيه من إعزاز وتكريم.

ولو كان الموضوع ينحصر بالتكريم ، وبقضاء حاجات الأبرار ، وتقريب البعيد لهم ، لكان من الممكن أن تحضر حاجاتهم إليهم بوسائل غيبية وإعجازية .. يهيء الله لهم مبادئ تحريكها ، ولو بمجرد خطورها في بالهم ..

على أن خدمة الولدان لا تنحصر بما يدخل في سياق السعي

للحصول على الكمالات الناشئة عن الإحساس بالنقص والحاجة ، بسبب القصور في الوصول لمراداتهم وحاجتهم إلى تقريب البعيد لهم. حين يشعرون بضرورة ذلك .. لأن الجنة لا يصح أن يشعر المتنعمون فيها بالنقص ، أو الحاجة إلى تقريب البعيد ، لأن حاجاتهم تحضر لهم قبل أن يتكون لديهم ذلك الشعور الذي قد ينقص من درجة نعيمهم ..

أضف إلى ذلك : أن هناك خدمات تهدف إلى رفع مستوى النعيم لأهل الجنة ، بفعل اقتراحي يبتدئهم الله سبحانه به ..

لما ذا لم يقل : يخدمهم؟ :

وأما لما ذا لم يشر إلى موضوع الخدمة؟ .. فلعله قد ظهر ذلك من البيان السابق ، حيث قلنا إن الأمر لا يقتصر على الحاجات. بل لا توجد حاجات لهم في الجنة أساسا ، فإن النعيم فيها إنما هو في نيلهم درجات تبدأ من مرحلة ما بعد قضاء الحاجات لهم ، ورفع النقائص عنهم.

واللافت هنا : أن الله سبحانه لم يشر أبدا في القرآن الكريم إلى هذه الكلمة ، أعني كلمة : الخدمة ، ولا إلى أي شيء من اشتقاقاتها ، وربما يكون ذلك لأجل تحاشي ما لها من إيحاء مكروه ، وغير مناسب ولا منسجم مع الفطرة الصافية ، ولا تألفه ولا تستسيغه الطبيعة البشرية ، لبعده عن معنى الكرامة ، والعزة ، وخصوصا في الجنة ، حيث يصبح استبعاد هذه المفردات أكثر إلحاحا.

فإنه تعالى لا يمكن أن يختار التعبير الذي يؤذي الروح ، ولو بهذا المستوى من الإيحاء ، لأنه يريد للجنة أن تكون نقية من الشوائب صافية صفاء أرواحهم ، وقلوبهم ، ووجدانهم ، من كل الكدورات.

«ولدان» لا غلمان :

وكلمة ولدان تختزن في داخلها معان رائعة وخلابة ، تحرك المشاعر النبيلة بصورة عفوية ، وهي وإن كانت مبهمة ، ولكنها تتحرك لتتجسد بصورة عملية وواقعية ، وتتبلور ، ويصير لها حجم ، وأثر ودور أصيل ، وقوي وفاعل.

وقد ذكر سبحانه أنّ الطائفين على الأبرار هم «ولدان» ولم يقل غلمان .. ربما ليستبعد إيحاءات كلمة غلام ، التي تستعمل في الخادم وتطلق أيضا على الشاب في بدايات شبابه ، كما تطلق على الشيخ الكبير أحيانا .. فهي من الأضداد .. أو أنها موضوعة لمعنى لا يأبى عن الانطباق على الشاب وعلى الشيخ على حد سواء.

«ولدان» أو أشخاص؟ :

وكذا لم يقل سبحانه : «يطوف عليهم أشخاص» ، أو نحو ذلك ، ربما من أجل أن يؤنس الأبرار حين يشير لهم بكلمة «ولدان» إلى أن الذين يطوفون عليهم ، فيهم نشاط وحيوية ، وفتوة ، وهم في مقتبل العمر.

ثم هو يشير أيضا إلى الطراوة ، والنضرة ، وإلى البراءة .. وهي معان يأنس بها الأبرار ، ويرتاحون لالتماعاتها الهادئة.

«ولدان» جمع وليد :

وفي التعبير بكلمة «ولدان» إشارة إلى أمر آخر مهم وجليل أيضا ، وهو : أن هذه الكلمة هي جمع «وليد» وهو الصبي حين يولد ، وهذا يعني :

أولا : إن ثمة ولادة لهؤلاء الذين يكرم الله تعالى الأبرار بهم ، وأنهم لم يرد الخلق عليهم بصورة إبداعية وابتدائية ، فليس خلقهم مثل خلق آدم وحواء ، وخلق الأرض والجبال ، وما إلى ذلك ، بل خلقهم هو بطريقة

الحمل والولادة ، كسائر أبناء آدم [عليه‌السلام] ..

ثانيا : إن تطوافهم على الأبرار لا تعني عبوديتهم وذلهم ، بل ذلك من موجبات نعيم ورضا وأنس أولئك الولدان .. كما أنه إكرام ونعيم لآبائهم ولذلك لم يقل : يخدمون.

ومن الواضح : أن رضا آبائهم يزيد أيضا في بهجتهم ولذتهم. خصوصا إذا كانوا على هذه الحالة الرائعة ، من حيث إنهم ولدان يتمتعون بإشراق ، وبنشاط وحيوية ، ونضرة الشباب.

أما تطوافهم على الأبرار فهي ليست فقط لا تغيظ آباءهم ، بل هي تفرحهم وتسرّهم ، لأنهم يرضون لرضا الله سبحانه ، ويختارون ما يختاره .. ولم تعد علاقتهم بأبنائهم علاقة أرضية محدودة ، بل هي علاقة سامية إلهية ، حتى إن من يكون ولده ضالا. كنوح مثلا ، يكون نعيمه ولذته بانتقام الله سبحانه من ولده الكافر ، وبتعذيبه بسبب ما جناه من هتك لحرمة المولى سبحانه.

ثالثا : إن درجات النعيم تختلف وتتفاوت ، بحسب تأثير الأعمال في إعطاء القدرة على الاستفادة من نعيم الجنة ، فقد يكون الإنسان في محضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عليين ، ولكن درجة إحساسه بالنعيم تختلف عن درجة إحساس الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله به.

وهكذا الحال بالنسبة للولدان ، والأبرار ، فإن لذة الأبرار هي في الاتكاء على الأرائك ، وفي دنوّ القطوف لهم ، وأن يروا الرسول و.. و.. أما لذة الولدان فهي كونهم في خدمة أولئك الأبرار ..

وكذلك تجد بعض الحسنات توجب إعطاء قصر في الجنة ، وبعضها يوجب غرس شجرة ، وبعضها تكون مثوبته الحور العين ، أو

بستان ، أو ما إلى ذلك ..

رابعا : بما أن الولادة والتناسل إنما تكون في الدنيا .. فذلك يقرّب لنا صحة الرواية التي رواها الكراجكي رحمه‌الله في تفسير هذه الآية ، قال رحمه‌الله :

«قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنه قال : الولدان هم أولاد أهل الدنيا ، لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها ، ولا سيئات فيعاقبون عليها ، فأنزلوا هذه المنزلة» (١).

ولكن هل مراده عليه‌السلام هو أطفال المشركين؟ أو المراد أطفال المؤمنين؟ أو هما معا؟! هناك عدة طوائف من الروايات.

وسنرى أنّ الراجح هو أنهم أطفال وأسقاط المؤمنين ، حيث تربيهم السيدة الزهراء [عليهاالسّلام] ، والنبي إبراهيم [عليه‌السلام] وزوجته ، ليكونوا في خدمة الأبرار ، وتكون هذه الخدمة من مظاهر إكرام آبائهم ، ومن أسباب نعيمهم وأنسهم ، وتقر بذلك أعينهم ..

وعلى كل حال ، فإن هذه الروايات على طوائف ، هي التالية :

الطائفة الأولى :

ما صرح من تلك الروايات بأن أطفال المشركين في الجنة :

فقد روي عن النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : أنه سئل عن أطفال المشركين ، فقال : خدم أهل الجنة على صورة الولدان ، خلقوا لخدمة أهل الجنة (٢).

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩١ عن كنز الفوائد للكراجكي.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٩١ عن كنز الفوائد للكراجكي.

الطائفة الثانية :

الروايات التي دلت على أن أطفال المؤمنين في الجنة ، ولم تشر إلى أطفال المشركين ، مثل :

١ ـ ما روي عن الإمام الكاظم [عليه‌السلام] ، عن آبائه [عليهم‌السلام] ، قال : قال رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] :

«لا تزوجوا الحسناء الجميلة العاقرة ، فإني أباهي فيكم الأمم يوم القيامة ، أو ما علمت أن الولدان تحت عرش الرحمن يستغفرون لآبائهم ، يحضنهم إبراهيم ، وتربيهم سارة ، في جبل من مسك ، وعنبر ، وزعفران؟!» (١).

٢ ـ وقال الصدوق رحمه‌الله : في الصحيح ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله [عليه‌السلام] قال :

«إن الله تبارك وتعالى يدفع إلى إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين ، يغذوانهم بشجرة في الجنة ، لها أخلاف كأخلاف البقر ، في قصر من الدر ، فإذا كان يوم القيامة ألبسوا ، وطيّبوا ، وأهدوا إلى آبائهم ، فهم ملوك في الجنة مع آبائهم ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ..) (٢).

٣ ـ وروى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب المختصر من بصائر الدرجات ، لسعد بن عبد الله ، عن كتاب المعراج للشيخ الصالح أبي محمد الحسن : بإسناده عن الصدوق ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٣ عن نوادر الراوندي.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٩٣ و ٢٩٤ عن من لا يحضره الفقيه ص ٢٣٩.

القاسم ، عن محمد بن علي الكوفي ، عن محمد بن علي بن مهران ، عن صالح بن عقبة ، عن يزيد بن عبد الملك ، عن الباقر عليه‌السلام قال : لما صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء ، وانته إلى السماء السابعة ، ولقي الأنبياء عليهم‌السلام.

«قال : أين إبراهيم عليه‌السلام؟

قالوا له : هو مع أطفال شيعة علي.

فدخل الجنة ، فإذا هو تحت شجرة لها ضروع كضروع البقر ، فإذا انفلت الضرع من فم الصبي قام إبراهيم فردّ عليه .. الخ» (١).

٤ ـ عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن سليمان الديلمي ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :

«إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة [عليهاالسّلام] ، قوله : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٢) ، قال : يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» (٣).

٥ ـ وقال الصدوق أيضا : في الصحيح ، روى أبو زكريا ، عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله [عليه‌السلام] :

«إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى منادي في ملكوت السماوات والأرض : ألا إنّ فلان بن فلان قد مات ، فإن كان مات والداه ، أو أحدهما ، أو بعض أهل بيته من المؤمنين ، دفع إليه يغذوه ، وإلا دفع إلى فاطمة [عليهاالسّلام] تغذوه حتى يقدم أبواه ، أو أحدهما ، أو بعض

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٤.

(٢) سورة الطور الآية ٢١.

(٣) البحار ج ٥ ص ٢٨٩ عن تفسير القمي.

أهل بيته ، فتدفعه إليه» (١).

قال المجلسي : «يمكن الجمع بين الخبرين ، بأن بعضهم تربّيه فاطمة [عليهاالسّلام] ، وبعضهم إبراهيم وسارة [عليهما‌السلام] على اختلاف مراتب آبائهم ، أو تدفعه فاطمة إليهما» (٢).

٦ ـ وقال الطبرسي : روى زاذان عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، ثم قرأ هذه الآية» (٣).

٧ ـ وروي عن الإمام الصادق [عليه‌السلام] قال :

«أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» (٤).

٨ ـ وروى الكليني عن العدة ، عن سهل ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن ابن بكير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٥) قال : فقال : «قصرت الأبناء عن عمل الآباء ، فالحقوا الأبناء بالآباء ، لتقر بذلك أعينهم».

وروى الصدوق عن أبي بكر الحضرمي مثله (٦).

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٣ ، عن من لا يحضره الفقيه ص ٤٣٩.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٩٤.

(٣) البحار ج ٥ ص ٢٨٩ عن مجمع البيان.

(٤) البحار ج ٥ ص ٢٨٩ عن مجمع البيان.

(٥) سورة الطور الآية ٢١.

(٦) البحار ج ٥ ص ٢٩٢ عن الكافي ج ١ ص ٦٨ ، وعن من لا يحضره الفقيه.

الطائفة الثالثة :

الروايات التي صرحت بأن أطفال المشركين مع آبائهم في النار ، فقد :

١ ـ قال المجلسي : في حديث آخر :

«أما أطفال المؤمنين ، فإنهم يلحقون بآبائهم ، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم ، وهو قول الله عزوجل : (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١).

٢ ـ قال الصدوق : روى وهب بن وهب ، عن جعفر بن محمد ، عن محمد ، عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : قال علي عليه‌السلام :

«أولاد المشركين مع آبائهم في النار ، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة» (٢).

٣ ـ وقال الصدوق أيضا : في الصحيح ، روى جعفر بن بشير ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أولاد المشركين ، يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟.

«قال : كفار ، والله أعلم بما كانوا عاملين ، يدخلون مداخل آبائهم» (٣).

الطائفة الرابعة :

الروايات التي دلت على أنهم تؤجّج لهم نار ، ويؤمرون بدخولها ، فمن دخلها كان في الجنة ، ومن أبى كان مصيره إلى النار ، ومن هذه الروايات :

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٢ عن الكافي ج ١ ص ٦٨.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٩٤ عن من لا يحضره الفقيه.

(٣) البحار ج ٥ ص ٢٩٥ عن من لا يحضره الفقيه.

١ ـ ما رواه الصدوق عن علي عليه‌السلام قال :

«يؤجج لهم نارا ، فيقال لهم : ادخلوها. فإن دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما ، وإن أبوا قال لهم الله عزوجل : هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني. فيأمر الله عزوجل بهم إلى النار» (١).

٢ ـ وروى الصدوق أيضا ، عن الحسين بن يحيى بن الضريس ، عن أبيه ، عن محمد بن عمارة السكري ، عن إبراهيم بن عاصم ، عن عبد الله بن هارون الكرخي ، عن أحمد بن عبد الله بن يزيد ، عن أبيه يزيد بن سلام ، عن أبيه سلام بن عبيد الله ، عن أخيه عبد الله بن سلام مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال :

«سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : أخبرني أيعذب الله عزوجل خلقا بلا حجة؟ قال : معاذ الله.

فقلت : فأولاد المشركين في الجنة ، أم في النار؟!

فقال : الله تبارك وتعالى أولى بهم. إنه إذا كان يوم القيامة ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ : فيأمر الله عزوجل نارا يقال له : الفلق ، أشد شيء في نار جهنم عذابا ..

(ثم ذكر في الحديث صفة تلك النار ، وأنه تعالى يأمرها فتنفخ في وجه الخلائق ، وما يصيب الخلائق من هذه النفخة ، ثم يقول) :

فيأمر الله تعالى أطفال المشركين أن يلقوا بأنفسهم في تلك النار ، فمن سبق له في علم الله عزوجل أن يكون سعيدا ألقى نفسه فيها ، فكانت عليه بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم عليه‌السلام ، ومن سبق

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٥ عن من لا يحضره الفقيه.

له في علم الله تعالى أن يكون شقيا امتنع فلم يلق نفسه في النار ، فيأمر الله تعالى النار فتلتقطه ؛ لتركه أمر الله ، وامتناعه من الدخول فيها ، فيكون تبعا لآبائه في جهنم» (١).

الطائفة الخامسة :

وهناك روايات تحدثت عن مصير مطلق الأطفال ، وعن الأصم والأبكم والأبله ، ولم تحدد كونهم أطفال مسلمين أو غير مسلمين. وذكرت أن هؤلاء تؤجّج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها ..

ونذكر من هذه الروايات ما يلي :

١ ـ الصدوق : عن أبيه ، عن محمد العطار ، عن الأشعري ، عن علي بن إسماعيل عن حماد ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال :

«إذا كان يوم القيامة احتج الله عزوجل على خمسة : على الطفل ، والذي مات بين النبيّين ، والذي أدرك النبي وهو لا يعقل ، والأبله ، والمجنون الذي لا يعقل والأصم والأبكم.

فكل واحد منهم يحتج على الله عزوجل ، قال : فيبعث إليهم رسولا ، فيؤجج لهم نارا ، فيقول لهم : ربكم يأمركم أن تثبوا فيها.

فمن وثب فيها ، كانت عليه بردا وسلاما ، ومن عصى سيق إلى النار» (٢).

وروى ما يقرب منه في معاني الأخبار ، عن أبيه ، عن سعد ، عن

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩١ عن كتاب التوحيد للشيخ الصدوق رحمه‌الله.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٨٩ و ٢٩٠ عن كتاب الخصال ص ١٣٦.

أحمد بن محمد ، عن حماد ، عن حريز ، عن زرارة.

وفي الكافي : عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد.

٢ ـ وروى الكليني في العدة ، عن سهل ، عن غير واحد ، رفعه : أنه سئل عن الأطفال ، فقال :

«إذا كان يوم القيامة جمعهم ، وأجج نارا ، وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها .. إلى أن قال : فيقولون (أي الذين يؤمر بهم إلى النار) : يا ربنا تأمر بنا إلى النار ، ولم يجر علينا القلم؟

فيقول الجبار. قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني ، فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم» (١).

٣ ـ وروى الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنه سئل عمّن مات في الفترة ، وعمن لم يدرك الحنث والمعتوه ، فقال :

«يحتج الله عليهم ، يرفع لهم نارا ، فيقول لهم : ادخلوها ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن أبى قال : ها أنا قد أمرتكم فعصيتموني» (٢).

وبهذا الإسناد قال :

«ثلاثة يحتج عليهم : الأبكم ، والطفل ، ومن مات في الفترة ، فيرفع لهم نارا .. إلخ ..» (٣).

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩١ / ٢٩٢ عن الكافي ج ١ ص ٦٨.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٩٣ عن الكافي ج ١ ص ٦٨.

(٣) المصدر السابق عنه.

التكليف في دار الجزاء :

بقي الكلام في أنه هل يكون في دار الجزاء تكليف أم لا؟ ..

فقد قال المجلسي :

«قال الصدوق رضي الله عنه : إن قوما من أصحاب الكلام ينكرون ذلك ، ويقولون : إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء ، تكليف. ودار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة. ودار الجزاء للكافرين إنما هي النار. وإنما يكون هذا التكليف من الله عزوجل في غير الجنة والنار ، فلا يكون كلفهم في دار الجزاء ، ثم يصيّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم ، فلا وجه لإنكار ذلك» (١).

فيلاحظ :

أن الصدوق رحمه‌الله قد جمع بين الأخبار التي تقول تارة : إن أطفال المشركين ، مع آبائهم في النار ، وأخرى بأنهم يؤمرون بدخول نار تضرم لهم. بأن المراد بكونهم مع آبائهم في النار ، هو نار البرزخ ، ولكنها لا تصيبهم من حرها ، لتكون الحجة عليهم أوكد ، فإذا جاء يوم القيامة. فإن النار التي يؤمرون بدخولها تؤجج لهم .. فتكون نار البرزخ حجة عليهم ، ودليلا لهم (٢).

غير أننا نقول :

إن من الواضح : أن طريق الجمع ليس منحصرا فيما ذكره الشيخ الصدوقرحمه‌الله.

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٠.

(٢) البحار ج ٥ ص ٢٩٥.

فإن من الممكن أن يكون ذلك جاريا وفق علم الله سبحانه بما يكون منهم .. بأن يكون تعالى قد علم أن جميع أولاد الكفار سوف يرفضون دخول النار التي تؤجّج لهم ، وبذلك يستحقون دخول جهنم. فأخبرت طائفة من الروايات عن علم الله تعالى بما سيكون عليه حالهم.

وقد ذكر المجلسي رحمه‌الله جمعا آخر غير ما ذكرناه وذكره الصدوق رحمه‌الله. وهو أنه عليه‌السلام حين أجاب بأنهم كفار ، أو نحو ذلك ، فإنما قصد أنهم محكومون بالكفر في الدنيا تبعا لآبائهم ، ولذلك يحكم بنجاستهم ، وعدم التغسيل والتكفين ، والصلاة ، والتوارث وغير ذلك.

وأما دخولهم في النار مع آبائهم ، فإنما يكون بعد رفضهم الدخول في النار التي تضرم لهم.

ثم ذكر أيضا : أن الظاهر هو أن هذه الروايات قد وردت مورد التقية فراجع (١).

ونحن ، لا نوافق على هذا القول الأخير ، إذ إن الروايات والآراء في هذه المسألة عند أهل السنة مختلفة أيضا. فلا معنى لحمل الأخبار على التقية في أمر مختلف فيه عندهم ، في الرأي أم في الرواية معا.

وقد ذكر المجلسي نفسه اختلافاتهم في ذلك ؛ في نفس الموضع من الجزء والصفحة المشار إليها آنفا .. فراجع.

إلا أن يقال : إن الاختلاف بين أهل السنة قد تأخر عن زمان صدور الرواية ، فلا بد من إثبات ذلك .. كما أنه لا بد من إثبات : أن أهل السنة ومن يخشى منه فيهم ، لا بد أن يكون لديهم تعصب وحساسية ، تجاه كل

__________________

(١) راجع : البحار ج ٥ ص ٢٩٥ و ٢٩٦.

من خالفهم في خصوص هذا الرأي ، إذ كل مورد خالفهم فيه يكون لديهم اندفاع نحو البطش به ، ليكون مضطرا إلى التقية ..

هل يقبح تعذيب غير المكلف؟! :

«هذا .. وقد ذهب المتكلمون منا إلى أن أطفال الكفار لا يدخلون النار ، فهم إما يدخلون الجنة ، أو يسكنون الأعراف.

وذهب أكثر المحدثين منا إلى ما دلت عليه الأخبار الصحيحة ، من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم» (١).

واستدل المتكلمون منا على ما ذهبوا إليه ؛ بقبح تعذيب غير المكلف (٢).

ونقول :

أولا : إن المشكلة التي وقف عندها المتكلمون يمكن أن تحلّ .. فإن الأخبار قد دلّت على أنهم يكلفون بدخول نار تضرم لهم .. فإذا امتنعوا وعوقبوا فلا يكون ذلك تعذيبا لغير المكلف ، بل هو تعذيب لمكلف قد عصى .. وليس تعذيب العاصي قبيحا.

وفي جميع الأحوال ، فإن أخبار تكليفهم تدل على أن إدراكهم في تلك النشأة يختلف عنه في الحياة الدنيا .. وربما يكون الله تعالى قد زادهم من عنده ما يؤهلهم للخطاب والتكليف رحمة منه بهم ..

ثانيا : وأمّا قول المتكلمين : إنّه لا تكليف في يوم القيامة ، فهو مردود :

ألف ـ بأن هذه الروايات قد دلت على وجود تكليف في الآخرة أيضا .. والأمر في ذلك بيد الله سبحانه ، وطريق معرفته هو السمع .. وهذه

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ٢٩٦ و ٢٩٧.

(٢) راجع : البحار ج ٥ ص ٢٩٧.

الروايات هي ذلك السمع المثبت لذلك ..

وأمّا ما دل على عدم وجود تكليف في الآخرة ، فيحمل على أن المقصود به خصوص من كلّفوا في دار الدنيا ، دون من عداهم.

ب ـ لو سلمنا أنه لا تكليف في الآخرة مطلقا ، فإننا نقول :

إننا إذا راجعنا الآيات القرآنية الشريفة ، وكذلك الروايات ، فسنجد فيها الكثير مما يشير إلى التصرف الإلهي في المكان والزمان على حد سواء ..

فلعل الله سبحانه يتصرف في الآخرة في الزمان والمكان ، فيجعل لحظة من لحظات الآخرة ، التي لا تعد من عمر الآخرة ـ يجعلها ـ مليارات من الأحقاب ، ويتصرف أيضا في ذرة لا تدخل في عداد الأمكنة ، فيجعل منها سماوات ، وأرضين ، وأفلاكا ، يعيش فيها هؤلاء ، ويكون لهم التبشير والإنذار ، ويكون منهم الهدى والضلال ، والخير والشر.

ثم يبعثون ، فيدخل المطيع الجنة ، ويدخل العاصي منهم النار ، قبل أن يحصل في المحشر أي جديد ..

والتصرف الإلهي في الزمان والمكان ، قد دلت عليه النصوص أيضا.

ونذكر فيما يلي طائفة من الآيات والروايات التي دلت على ذلك ..

فنقول :

التصرف في المكان :

إن مما أشار إلى التصرف في المكان قوله تعالى :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ* وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (١).

__________________

(١) سورة الإنشقاق ، الآيات ١ / ٣.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) (١).

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) (٢).

وقال تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٣). ولعل المراد رجوعها إلى خزائن الغيب.

وقال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (٤).

وقال سبحانه : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (٥).

وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (٦).

وقال تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) (٧).

وقال عزوجل : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٨).

وقال تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٩).

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٤٨.

(٢) سورة الرعد الآية ٤١ ، ونظيرها في سورة الأنبياء الآية ٤٤.

(٣) سورة الزمر الآية ٦٧.

(٤) سورة الأنبياء الآية ١٠٤.

(٥) سورة الأعراف الآية ١٧١.

(٦) سورة الرعد الآية ٣٢.

(٧) سورة الكهف الآية ٤٧.

(٨) سورة النبأ الآية ٢٠.

(٩) سورة القارعة الآية ٥.

ونذكر من الروايات ، ما يلي :

١ ـ عن أبي الحسن الأول في تفسير آية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (١). قال عليه‌السلام :

«وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال ، وتقطع به البلدان ، ويحيى به الموتى» (٢).

٢ ـ روى الكليني بسنده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا ، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد ، فتكلم به ، فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس ، حتى تناول السرير بيده ، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين» (٣).

وبهذا المعنى روي أيضا عن أبي الحسن الهادي عليه‌السلام فراجع. وفيه : فانخرقت له الأرض(٤).

وفي نص آخر : عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام :

«فانخسفت الأرض ما بينه وبين السرير ، والتقت القطعتان ، وجعل من هذه على هذه» (٥).

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٣١.

(٢) تفسير الميزان ج ١١ ص ٣٧٠ عن الكافي.

(٣) تفسير البرهان ج ٣ ص ٢٠٣ عن الكليني ، وعن بصائر الدرجات ، ونور الثقلين ج ٤ ص ٨٨ و ٨٩ و ٩٠.

(٤) تفسير البرهان ج ٣ ص ٢٠٣ و ٢٠٤ ، ونور الثقلين ج ٤ ص ٩٠.

(٥) تفسير البرهان ج ٣ ص ٢٠٤ عن بصائر الدرجات ، ونور الثقلين ج ٤ ص ٨٨.

وقريب منه ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيه :

«ثم تناول السرير بيده» (١).

وراجع : ما رواه السيد الرضي في الخصائص من أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ما يقرب من ذلك أيضا (٢).

٣ ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام : دعا آصف ، فغار العرش من مكانه بمأرب ، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله (٣).

٤ ـ وعن علي بن إبراهيم :

«دعا الله عزوجل باسمه الأعظم ، فخرج السرير من تحت كرسي سليمان» (٤).

٥ ـ وعن علي بن مهزيار ، عن أحمد بن محمد ، عن حماد بن عثمان ، عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله يقول :

ما زاد صاحب سليمان .. [إلى أن قال :] بإصبعه هكذا ، فإذا هو قد جاء بعرش صاحبة سبأ.

فقال له حمران : كيف هذا أصلحك الله؟!

فقال : إن أبي كان يقول : إن الأرض طويت له. إذا أراد طواها».

__________________

(١) البرهان ج ٣ ص ٢٠٤ ونور الثقلين ج ٤ ص ٨٨.

(٢) تفسير البرهان ج ٣ ص ٣٠٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٨٧.

(٤) تفسير البرهان ج ٣ ص ٢٠٦ وراجع تفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٩١ عن تفسير مجمع البيان.

٦ ـ حديث دفن الإمام السجاد لأبيه في كربلاء ، حيث إنه عليه‌السلام كان في الكوفة ، فطويت له الأرض في مجيئه إلى كربلاء ، فدفن أجساد الشهداء ، وعاونه بنو أسد ، ثم عاد إلى سجنه في الكوفة بطي الأرض أيضا.

٧ ـ حديث مجيء الإمام علي عليه‌السلام من المدينة المنورة في الحجاز إلى المدائن قرب بغداد ، حيث غسل وكفن وصلى على سلمان المحمدي (الفارسي) ودفنه ، ثم رجع إلى المدينة وإنما قطع تلك المسافات ذهابا وإيابا بطي الأرض أيضا.

٨ ـ حديث مجيء الإمام الجواد عليه‌السلام من المدينة المنورة في الحجاز إلى خراسان ليغسل ، ويكفّن ، ويصلي على أبيه الإمام الرضا عليه‌السلام ويدفنه .. ثم رجع ، وكان ذلك بطي الأرض كما هو معلوم.

٩ ـ وهناك الحديث الذي يقول : إن الإمام الكاظم عليه‌السلام خرج من سجنه ببغداد إلى المدينة المنورة ليعهد إلى ولده الإمام الرضا عليه‌السلام ؛ وقد جاء فيه :

«ثم قال : إني أدعو الله عزوجل باسمه العظيم ، الذي دعا به آصف حتى جاء بعرش بلقيس ، ووضعه بين يدي سليمان عليه‌السلام ، قبل ارتداد طرفه إليه ، حتى يجمع بيني وبين ابني علي بالمدينة.

قال المسيب فسمعته يدعو ، ففقدته عن مصلاه ، فلم أزل قائما على قدميّ حتى رأيته قد عاد إلى مكانه ، وأعاد الحديد إلى رجله إلخ ..» (١).

١٠ ـ وحول طي الأرض للأئمة عليهم‌السلام عقد في بصائر

__________________

(١) راجع : تفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٨٩ عن عيون الأخبار.

الدرجات بابا فيه خمسة عشر حديثا ..

وحول طي الأرض لمن شاء من أصحابه عقد بابا فيه أحاديث كثيرة ، بالإضافة إلى أبواب أخرى ذكر فيها أحاديث كثيرة ، تفيد أن الله قد أعطاهم عليه‌السلام قدرات عظيمة في هذا المجال وفي غيره فراجع (١).

التصرف في الزمان :

وبعد ما قدمناه عن التصرف في المكان ، نجد أننا في غنى عن السعي لجمع الشواهد الدالة على وقوع التصرف في الزمان أيضا .. بل يكفينا اعتقادنا المستند إلى الدليل بإطلاق قدرة الله سبحانه.

ومع ذلك ، نقول : قد روى أبو سعيد الخدري في تفسير قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢) قال :

قيل : يا رسول الله ، ما أطول هذا اليوم!!

فقال : والذي نفس محمد بيده ، إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا (٣).

وعن الإمام الرضا عليه‌السلام في حديث : الأئمة اثنا عشر ، جاء قوله :

«وليس بعزيز أن يجمع هذه الأمة يوما أو نصف يوم ، وإن يوما عند

__________________

(١) راجع : بصائر الدرجات ص ٣٩٧ ـ ٤١٠ والكافي.

(٢) سورة المعارج الآية ٤.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ١٢٠ وتفسير البرهان ج ٤ تفسير سورة المعارج.

ربك كألف سنة مما تعدون» .. (١).

بل قد يستفاد التصرف بالزمان من نفس قضية دفن الإمام السجاد عليه‌السلام للأجساد الطاهرة في كربلاء ، ومن الإتيان بعرش بلقيس حسبما تقدم ..

خلاصة لأجل التوطئة :

وبناء على ذلك نقول : قد تقدم أن الرواية ذكرت : أن الولدان المخلدين هم أطفال المؤمنين ، يهدون لآبائهم ليسرّهم الله بهم. وأن فاطمة عليهاالسّلام هي التي تربيهم ، أو تدفعهم إلى سارة وإبراهيم عليهما‌السلام ..

وورد أيضا : أن السقط من المؤمنين يقف محبنطئا على باب الجنة ، ويقول : لا أدخل حتى يدخل أبواي ، أو نحو ذلك (٢).

وأما أطفال المشركين والكفار ، فتضرم لهم نار ، ويؤمرون بالدخول فيها ، فمن أطاع دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار ..

وذكرنا أيضا : أنه لو كان لا بد من الإصرار على عدم وجود تكليف في الآخرة حتى لهؤلاء الأطفال والأسقاط ، فإنه لا شيء يمنع من حصول تصرف إلهي في الزمان والمكان ، على النحو الذي ذكرناه ، ليصبح من الممكن تكليفهم بالطاعة وبالمعصية. فإنكار ذلك يصبح غير ظاهر الوجه ..

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٥١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٣٤ ومن لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٣٨٣ والتوحيد للصدوق ص ٣٩٥.

سؤال تقف وراءه أسئلة :

وهنا سؤال ، تقف وراءه أسئلة .. هو التالي :

إنه إذا كان هذا هو حال الطفل ، والأبله ، والمجنون ، والأصم ، والأبكم ، وأمثال هؤلاء .. فكيف تكون حال المكلفين الجاهلين؟

ويتبع هذا السؤال أسئلة كثيرة ، نذكر منها على سبيل المثال :

السؤال عن حكم :

١ ـ الجاهل القاصر ، أو الغافل من المشركين والملحدين ، الذي لو علم لعمل.

٢ ـ الجاهل القاصر أو الغافل من أهل الكتاب الذي يحب أن ينال رضا الله تعالى ، ويحب أن يصل إليه ، ولا عناد لديه.

٣ ـ الجاهل القاصر أو الغافل من أهل الخلاف ، الذي يعتقد أن ما هو عليه يوصله إلى الله ، ولو علم أن غير ذلك هو الذي يوصله ، لأخذه ، وعمل به.

٤ ـ الجاهل المقصر من الصنف الأول ..

٥ ـ ثم من الصنف الثاني ..

٦ ـ ثم من الصنف الثالث ..

٧ ـ وإذا كان هذا الجاهل القاصر ، أو المقصر من أهل الخلاف ، واستشهد في سبيل الدفاع عن الدين بحسب اعتقاده ، فهل يدخل الجنة؟!

٨ ـ وكيف يدخل الجنة ، مع وجود أحاديث تدل على أن من لا يوالي عليا عليه‌السلام فليس له في الجنة من نصيب ، حتى لو صام

نهاره ، وقام ليله ، وحج دهره ..

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تدخل في هذا السياق ..

ونجيب على هذه الأسئلة باختصار شديد ، بما يلي :

الناس أصناف مختلفة ، فمنهم :

ألف ـ كتابي ، أو مخالف ، أو مشرك ، ولكنه عالم مطلع ، وملتفت ، ومصر على ما هو عليه ، كعلماء أهل الأديان الباطلة ، وعلماء الفرق المختلفة .. أو كالذين رأوا الآيات الباهرة بأم أعينهم كأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ، وأضرابهم ..

ب ـ وهناك كتابي أو مخالف ، أو مشرك ، راض بما هو عليه ، لا يقبل بأن يفكر ، وأن يناقش ، بحجة أنه لا يريد أن يشغل باله بمثل هذه الأمور ، التي لا يرى لها ذات أهمية ، فهو يقدم راحة باله ، وتفرغه لشؤونه على أي شيء آخر ..

ج ـ وهناك مشرك ، أو كتابي ، أو مخالف يريد أن ينجو بنفسه من كل خطر ، وهو مستعد لقبول الحق ، والالتزام به ، والعمل بمقتضاه.

ولكنه غافل عن وجود شيء سوى ما هو عليه ..

كما لو كان يعيش في صحراء ، أو في غابة ، ولا يعرف ما وراءها ..

د ـ وهناك من هو مستعد لقبول الحق ، وعارف بوجود اختلافات بين الناس فيه ، ولكنه عاجز عن الوصول إلى هذا الحق. إما لموانع قسرية انتهت بحجز حريته ضمن نطاق بعينه ، أو لعدم قدرته الفكرية ـ في نفسه ـ على التمييز بين الحق والباطل ، أو لوجود شبهات أو خدع أثّرت على فهمه للأمور ، ولو أنه اكتشف الزيف لرفضه ، والتزم بالحق.

وبعد ما تقدم نقول :

إن من يكون عارفا بالحق ، لكنه يتعامى عنه ، ويجحده ، ويصر على الباطل ، وهو القسم الأول ، فلا ريب في أنه غير معذور ، بل هو من الهالكين .. وهذا هو ما يحكم به العقل ، ويقتضيه الحق والعدل.

ولو فرض أنه قد فعل ذرة من خير ، فلا بد أن يكافئه الله عليها في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق.

وإن كان جاهلا بالحق ، وقد رضي بجهله ، ولا يرضى بالنظر في الأمور رغم الطلب إليه ، والإصرار عليه ، كما هو الحال في الصنف الثاني ، فإن كان هذا الشخص في دائرة الكفر والشرك ، فلا مجال للبحث في أمر نجاته .. وأما إن كان في دائرة الإسلام ، ولكنه لا يعتقد بولاية الإمام علي عليه‌السلام من دون أن يصل إلى درجة الجحود ، فلا بد أن ينظر في عمل هذا الشخص ، فإن كان فاسدا ، لا يرضى الله تعالى به ، ولا يقره عليه الشرع ، بل هو عبارة عن جرائم وموبقات ، فهو كسابقه ..

وإن كان ذنب سابقه أعظم بسبب جحوده وطغيانه ..

وأما إن كان عمله موافقا للشرع الذي يدين الله به ، فيمكن أن يتداركه الله سبحانه برحمته ، لأجل شفاعة ولد صحيح الإيمان ، أو لأي سبب آخر. بحيث تفيده هذه الشفاعة في إفساح المجال له لتصحيح تلك الأعمال بعرض ولاية الإمام علي عليه‌السلام كما سيأتي في القسم التالي ..

وأما من يكون غافلا ، أو عاجزا عن الوصول إلى الحق ، أو مخدوعا ، واقعا تحت تأثير شبهة فيه ، غير أن كل همه وسعيه هو الحصول على رضا الله والوصول إليه .. فإن حكم هذا القسم يعلم بملاحظة القاعدة التي

تضمنتها الآية المباركة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (١) ..

وقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (٢) ..

ثم بملاحظة ما هو ثابت من أنه لا يدخل الجنة إلا من أقر بالولاية لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام.

أي أن عدل الله تعالى ولطفه يقتضيان أمرين قد يبدوان متخالفين :

أحدهما : أن لا يضيع عمل هذا الشخص.

والآخر : أن لا يدخل الجنة بدون إقرار منه بولاية الإمام علي وأهل بيته عليهم‌السلام.

ولكن الحقيقة هي أن هذا التخلاف والاختلاف صوري ، وليس بحقيقي ، وذلك بملاحظة وجود أحاديث ذكرت أن ولاية الإمام علي عليه‌السلام سوف تعرض على نوع من الناس يوم القيامة. فمن قبلها ، أصبحت أعماله السابقة التي هي خير وصلاح ، صالحة وقادرة على التأثير في إدخال صاحبها إلى الجنة ، فولاية الإمام علي عليه‌السلام تكون بمثابة الروح التي تدب في الجسد فتعطيه الحياة والقوة والحركة ..

ولعل إلى هذا يشير قوله تعالى عن تبليغ ولاية الإمام علي عليه‌السلام : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٣) .. فإن الرسالة في حقائقها ، وأحكامها ، وكل مضامينها بدون ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، تكون كالجسد بلا روح ، فإذا جاءت الولاية تحركت اليد وصارت تبطش ،

__________________

(١) سورة الزلزلة الآية ٧.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٩٥.

(٣) سورة المائدة الآية ٦٧.

وتدفع ، وتقرب وتبعد ، وصارت العين ترى ، والأذن تسمع ، واللسان يتكلم ، الخ ..

ونقرب الفكرة أيضا ، بالتمثيل بالإجازة في العقد الفضولي .. فإن الإيجاب والقبول ، وجميع عناصر العقد متوفرة ، فإذا أجاز المالك البيع لاحقا ، فإن تلك العناصر تؤثر أثرها ، ويحصل النقل والانتقال ، وتتحقق الملكية للثمن وللمثمن ..

وعلى هذا الأساس نقول : إن الذين يقتلون في ساحات الجهاد ، وكان حالهم في القصور والغفلة ، حال هؤلاء ، فإنهم إذا كانوا يقاتلون في سبيل الله ، لا لأجل الدنيا ، وليس لإرضاء شخص ، أو فئة ، ولا تأييدا لخط انحرافي ، أو طاعة لقوى الشر والضلال .. فإن عملهم يكون جاهزا يوم القيامة ، ولا يحتاج إلا إلى ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، لتكون هي الروح التي تدب فيه ، وتحمل صاحبه إلى الجنة ، وينال بذلك السعادة ، فلا غرو أن يلطف الله سبحانه وتعالى به ، ويتيح له هذه الفرصة ، بعرض ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، فإن قبلها نال الجنان ، وإن رفضها ، فقد تمت عليه الحجة ، ولا بد أن ينال جزاء جحوده لأمر الله سبحانه ..

للغة تأثيرها القوي :

وبعد ، فقد أشرنا غير مرة إلى أن اللغة العربية تختزن في داخلها طاقة تعبيرية كبيرة ، وكما كبيرا من الإشارات والإيحاءات ، وهذا من شأنه أن يترك آثارا متنوعة على نفسيات ، ومشاعر ، وانفعالات ، ووجدان الناس ، وعلى مفاهيمهم ، وتربية ذهنياتهم ، وإحداث ارتكازات لا شعورية لهم ، وترويض وتدجين السمع والقلب على أمور ذات طابع معين ..

هذا بالإضافة إلى دورها الإيجابي في رفع مستوى الإنسان ، والترقي

بفكره ، وبمفاهيمه ، وبمشاعره إلى مستويات عالية ومرموقة ، ونبيلة ، ثم شحن روحه ووجدانه بقيم ومثل عليا ، ما أشد حاجته إليها في حياته وفي مواقفه ..

فلا محل للتعجب إذا فهمنا من كلمة «ولدان» ذلك المعنى الذي ساقنا إلى مثل هذه القضايا ..

«مخلّدون» :

وحين نصل إلى قوله تعالى : «مخلّدون» .. فإننا :

١ ـ سنشعر بأن هؤلاء الولدان سيكونون مع الأبرار دائما .. فليس وجودهم معهم عارضا ، ولن يكون هذا الاهتمام بشأن الأبرار محدودا بالأيام الأولى لدخولهم تلك الجنة ..

٢ ـ وسنشعر أيضا أن وصف الولدان بالمخلدين .. يشعرنا ببقاء صفة الفتوة والنّضرة فيهم .. فلا خوف إذن من أن يصبحوا بتقادم الزمن شيوخا ، ولا سبيل لظهور سمات الهرم فيهم ..

٣ ـ إن إعلام الأبرار بأن ثمة خلودا في الجنة ، وأن الوعد بالخلود ، لابد أن يتحقق إذ هو مما تثبت الوقائع نظائر له ، وتؤكد أنه حقيقة واقعة .. إن هذا لمما يزيد في طمأنينة الأبرار إلى هذا الوعد ، على قاعدة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١).

ومما يزيد في سعادة الأبرار بهذا الخلود : أنه خلود لا يؤثر في المحيط من حولهم ، تغيرا ، وذبولا ، أو تشوها ، أو حاجة ، أو نقصا ، أو ما إلى ذلك. بل يبقى كل هذا النعيم في غاية التمام والكمال .. فلا يجدون

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٦٠.

إلا الصحة ، والقوة ، والشباب ، والفتوة ، والري ، والشبع ، والواجدية لكل ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين. فهو إذن خلود لذيذ ، ومحبوب ، لأنه خال من المتاعب ، وليست فيه أية شوائب ..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ» :

١ ـ وقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن كلمة «إذا» إنما تستعمل في مقام الجزم واليقين ، وقد جاءت هنا لتأكيد الحقيقة التي يراد للأبرار أن يعوها ، وأن يلتذوا بتصورها ..

بالإضافة إلى أن هذا الجزم يستبطن الإغراء للآخرين بالعمل بهذا الاتجاه ، ما دام أن الإقدام عليه لم يعتمد على مجرد احتمالات ، أو ظنون. بل النتائج فيه يقينية ، واليقين فيها مطابق للواقع جزما ، لأنه مستند إلى الإخبار الإلهي ..

٢ ـ وهناك إشارة أخرى ، ربما يقال : إنها تستفاد من كلمة «إذا» ، وهي : أن هذه الكلمة تشير إلى أن ثمة يقينا بحتمية الوصول إلى هذه النتائج إذا سار الإنسان بحسب ما تقتضيه فطرته ، ويفرضه عليه التوازن الذي يعيشه في داخل شخصيته وفي كل حياته.

أي أن الإنسان إذا كان طبيعيا ، ومنسجما مع نفسه ، ولا يعاني من أي خلل في شخصيته الإنسانية ، فإنه لا بد أن يسير بحسب مقتضيات فطرته ، ويخضع لأحكام عقله ، وهي بدورها لا بد أن توصله إلى هذه النتيجة ، وإلى هذا المقام ، فكلمة «إذا» تشير إلى هذه اللابدية والحتمية ، فإن من لا يصل إلى هذا المقام ، يكون قد أخل بالمسار الطبيعي ولم يستجب لنداء فطرته وعقله. بل تأثر بعوامل الهوى ، وغيرها مما أضعفه ، وأخل بالمسار الطبيعي لشخصيته الإنسانية ..

فعدم الوصول إلى مقام الأبرار هو الاستثناء ، وهو دليل خلل وضعف ، وانحراف عن المسار العام ، والوصول إليه هو الأمر المتوقع والطبيعي ..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ» :

وقد اختار هنا الحديث عن الحالة ، والشكل ، والمنظر الظاهري للولدان ..

ولكنه حديث قد جاء بطريقة تختزن في داخلها وعي المضمون الذي يحتضنه ذلك الشكل العام .. وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى ..

ولكن قوله : «حسبتهم» يشير إلى وجود خطأ في إدراك أهل الجنة لحالات وحقيقة ما يحيط بهم .. فكيف يمكن تصور ذلك؟!

والجواب :

أولا : إنه تعالى لم ينسب الحسبان لأهل الجنة ، بل هو يقول : إن من يشرف عليهم ويراهم ، هو الذي يقع في هذا الخطأ ، خصوصا إذا كان الخطاب في هذه الآية الكريمة لأهل الدنيا ، الذين لا يملكون القدرات التي تمكنهم من إدراك الواقع الأخروي الذي هو أرقى بكثير مما عرفوه وألفوه ، ووسائل الإدراك التي تمتلكونها تبقى قاصرة عنه.

ثانيا : لو سلمنا أن الخطاب هو للمؤمن الذي هو من أهل الجنة ، والذي تكون لديه وسائل إدراك تتناسب مع الواقع الذي يتعاطى معه ، فإننا نقول :

إن الخطأ على نحوين :

أحدهما : ما يكون بحيث ينشأ عنه فقدان أو فقل : تفويت حالة الكمال ، أو الإضرار بها. وفقد الوصول إلى الخير والنفع ، الذي يفيد في

الترميم ، وفي التقليم والتطعيم. وليس هذا هو المقصود هنا .. ولا تحصل هذه الحالة في الجنة أبدا ..

ثانيهما : الخطأ الذي ينتج عنه كمال في المعرفة ، وصحة فيها ، وزيادة في إدراك الحقائق ، ويوجب تكامل الفهم والوعي ..

وهذا هو المقصود هنا ، فإن خطأ الباصرة هنا : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لا يوجب نقصا في المعرفة ، ولا تفويت شيء من المعاني ، والحالات التي يجب الاحتفاظ بها.

ولا هو إدراك لنقص موجود في الولدان ، بل هو خطأ يوجب المزيد من إدراك درجات وتلمس حالات الحسن في الولدان ، ومراتب الصفاء في ألوانهم ، وإشراق ، ونضرة وجوههم ..

وهذا معناه : أن هذا النوع من الحسبان قد جاء في صراط التكامل ، وهو خطأ تنتج عنه صوابية في الإدراك ، ودقة فيه ، وهو من طرق التعبير عن الحقائق بوضوح ، ومن وسائل الإيصال إليها .. فهو نظير الطريقة الحسابية ، المعروفة بحساب الخطأين ، الذي لا يوصل إلى النتيجة الصحيحة إلا بعد ذكر فرضيتين خاطئتين ، وقد ذكر هذه الطريقة المرحوم الشيخ البهائي قدس‌سره ، في كتابه : خلاصة الحساب.

«لؤلؤا» :

وأما اختيار تشبيه الولدان المخلدين باللؤلؤ المنثور فلعله من أجل الإلماح إلى عدة أمور تكون فيه ، هي :

١ ـ صفاء اللؤلؤ ..

٢ ـ إشراقه ورونقه ..

٣ ـ شفافيته ..

٤ ـ تلألؤ وتشعشع غير عادي ..

٥ ـ البريق ، وانعكاس النور ..

٦ ـ الجمال ..

٧ ـ الظهور ..

٨ ـ الانتشار ..

٩ ـ التوهج الذي يعني أن يكون في الولدان حيوية ، وشباب ، وفتوة ، وطراوة ، وتوهج ..

«منثورا» :

وبعد ما تقدم نقول : إن قوله «منثورا» يفرض علينا الالتفات إلى الأمور التالية :

أولا : إذا تعددت حبات اللؤلؤ المجتمعة ، في مجال واحد ، وتحركت في اتجاهات مختلفة ، فإن تشعشعها ، ولمعانها ، وانعكاسات نورها ، سوف تزداد ظهورا ، وتتداخل بصورة رائعة .. وهذا هو حال الولدان المخلدين في الجنة ، الذين يكونون في حركة دائمة ، وهم يطوفون على الأبرار ..

ثانيا : إن اللؤلؤ قد يكون منثورا ، وقد يكون منظوما في خيط يجمع بعضه إلى بعض .. ولا يمكن نظم اللؤلؤ إلا بعد ثقبه. والمنظوم من اللؤلؤ أقل صفاء ، وإشراقا ، ولمعانا ، وتلؤلؤا من غير المنظوم ..

بالإضافة إلى أنه حين ينظم ، فسوف يوجب ذلك حصر جانب من أشعته ، وتوجيه تلألؤه في جهات معينة ومحدودة باتجاهات معينة ، بحسب ما يوجبه اتجاه الخيط الذي نظمت فيه ..

بخلاف اللؤلؤ المنثور ، فإنه يمكن أن يتحرك في كل اتجاه ، كما أنه لم يعرض عليه ما يوجب التقليل من إشراقه ، وتلألؤه ، ولمعانه ، وصفائه ..

على أن انتشار اللؤلؤ نفسه ، يزيد من درجة تشعشعه ، لا سيما حين تكون الحركة في مختلف الاتجاهات ، لأن النور إذا جاء من زوايا مختلفة ، ووقع بعضه على بعض ، فإن انعكاساته سوف تختلف بحسب اختلاف تلك الزوايا ..

اللؤلؤ المكنون .. أم المنثور؟!

وعلينا أن لا ننسى : أن الله سبحانه حين وصف الحور العين باللؤلؤ ، قال : (وَحُورٌ عِينٌ* كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (١) .. ولكنه هنا قد وصف الولدان باللؤلؤ المنثور ..

ولعل السبب في ذلك : أن المطلوب في الحور العين هو الستر ، والخدر ، والاختصاص ، والحرص ، والكمون ، والحفظ ..

أما بالنسبة للولدان ، فالمطلوب هو الحضور ، والظهور ، والانتشار ، والحركة ، والانتقال ، والكثرة ، والتفرق ..

* * *

__________________

(١) سورة الواقعة الآية ٢٣.

الفصل العشرون :

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)

قال تعالى :

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً.)

«وَإِذا رَأَيْتَ» :

وقد قال تعالى : «إذا رأيت» .. ولم يقل : لو رأيت ، أو إن رأيت .. لأن كلمة «لو» تفيد الامتناع ، وعدم الحصول ، وكلمة «إن» تستعمل في مورد الشك في الحصول .. مع أن المط لوب هو التأكيد على الحصول ، وإظهار اليقين به ، وهذا هو مورد كلمة «إذا» وهو المناسب هنا ، لأن الهدف هو الترغيب والتشويق ، والحث على التزام سبيل الأبرار ، واتباع نهجهم.

«رأيت» ، من جديد :

ثم إنه سبحانه قد عبر بكلمة «رأيت» ولم يقل : سمعت ، أو علمت ، أو عرفت ما أعد الله للأبرار من الملك والنعيم.

كما أنه سبحانه قد اختار الخطاب المباشر ، فلم يقل لو يعلم الناس ماذا أعد الله للأبرار ، الخ ..

واختار أيضا الخطاب للفرد ، لا للجماعة ، فقال : «رأيت» ، ولم يقل : «رأيتم».

كما أنه لا بد من تحديد المفعول لكلمة رأيت الأولى .. وأن يسأل أيضا عن المفعول الثاني لكلمة «رأيت» الثانية ..

فما هو السبب في ذلك كله ، يا ترى؟! ..

ونقول :

إننا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة ، نلفت النظر إلى : أن الدقة في معاني المفردات مطلوبة ، ليحصل الأمن من أي خلل أو تشويه أو نقص ، أو غموض في التصور العام الذي تسهم تلك المفردات في إنشائه ..

وأما جواب الأسئلة فهو كالتالي :

١ ـ الخطاب للمفرد :

إن قوله : «وإذا رأيت» ، لا يعني أنه يخاطب فردا بعينه ، بل هو يخاطب فردا على سبيل البدل ، أي أنه يخاطب كل من يصلح للخطاب ، ويمكنه أن يدرك فحواه ، فهو من قبيل : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (١)؟! ومن قبيل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (٢)؟! ..

وهذا معناه : أن الخطاب يشمل الكافر والمؤمن ، لأن الجميع سيرون هذا النعيم للأبرار ، فيكون به سرور أهل الإيمان ، وحسرة أهل الكفر والطغيان ..

ومن فوائد جعل الخطاب للمفرد على سبيل البدل ، هو أن كل واحد من الناس يشعر أنه معني به ، فيكون أشد انتباها لمعناه ، وترصدا لإشاراته ، وإدراكا لمراميه .. ثم هو يشعر بالمسؤولية تجاهه ، ويجد نفسه مطالبا بالتزام الاستجابة له ..

٢ ـ الرؤية والمعاينة :

وحول لزوم التعبير بالرؤية دون سواها ، مما يدخل في نطاق التعبير

__________________

(١) سورة الفيل الآية ١.

(٢) سورة الماعون الآية ١.

عن المعرفة ، نقول :

إن الرؤية تعني الحضور في المكان المناسب ، والزمان المناسب لصحة الرؤية .. كما أنه لا بد أن يكون حضورا مع وعي والتفات ..

والرؤية البصرية تعني المشاهدة المباشرة ، وهي أقوى وأشد إقناعا ، وأوضح وأيسر إدراكا مما لو استندت المعرفة بالأمر إلى سماع الخبرية مثلا ..

فإن الإدراك إنما هو لصورة اخترعتها المخيلة ، من خلال مفاهيم الألفاظ التي ألقيت إليها. وليس بالضرورة أن تكون دقيقة الانطباق على الواقع الذي يراد له أن يتصوره ..

وقد تضمن هذا الخطاب ـ باختيار كلمة «رأيت» ـ دلالة واضحة على مدى الثقة بالمضمون ، وأن القضية ليست مجرد وعد بأمر قد يتبدل الرأي بالوفاء به ..

كما أن الحديث ليس عن أمر مستقبلي ، قد يطرأ خلل في مقتضيات وجوده ، أو يبرز مانع عن ذلك الوجود ، بل هو حديث عن أمر فعلي ناجز وظاهر للعيان ، يمكن تلمسه بحاسة البصر ..

وسيأتي : أن الرؤية قد تعلقت بالنعيم ، مع أنه ليس بمحسوس. وهذا أسلوب آخر لإظهار شدة الحضور أيضا ..

٣ ـ إطلاق الرؤية : «رأيت ثمّ» :

ويبقى أن نذكر هنا : أن كلمة «رأيت» الأولى لم يذكر فيها ما تقع عليه الرؤية بالتحديد ، بل اكتفى تعالى بالرؤية مجردة عن أي تقييد هناك ، ربما للإشارة إلى أن المقصود هو ذكر من يملك القدرة على الرؤية ، والقابلية لها ، فكأنه قال : يكفي أن يكون عندك إمكانية أن ترى

ولو في الحد الأدنى ، ولأي شيء كان .. لكي ترى النعيم والملك الكبير بيسر وسهولة ، من دون حاجة إلى أي عنصر مساعد ، أو رافع للموانع ، إذ إن الرؤيا ستكون ميسورة وسهلة لك ، كما أنه لا يوجد أي شيء يمنع ويصد ..

فلا حاجة إلى قوة بصر ..

كما لا حاجة إلى تقريب الأشياء ..

ولا إلى إيجاد مناخات تساعد على الرؤية ..

ولا إلى جهد لإزالة الموانع ..

«ثمّ» :

ثم هو قد عبر بظرف المكان بدلا عن المفعول ، فقال : «رأيت ثمّ» ، أي إذا حصلت لك قابلية الرؤية ولو بأدنى مراتبها ، هناك ..

فسوف ترى نعيما وملكا كبيرا ..

فهو لم يذكر سوى كلمة «ثمّ» ليفيد عموم الرؤية لكل النواحي ، في تلك الجنة ..

والتعبير بكلمة «ثمّ» التي هي للبعيد ، يشير إلى أن الوصول إلى ذلك المكان البعيد عن التصور والتخيل ، والبعيد أيضا من حيث المكان .. يحتاج إلى بذل جهد ، وسعي للحصول وللوصول في كلا الناحيتين ..

لماذا «رأيت» من جديد؟! :

وقد كان بالإمكان التعبير بأن يقول : «فستجد» ، ولكنه أعاد كلمة «رأيت» ليفيد التأكيد على شدة ظهور ذلك الأمر وحضوره ، إلى حد أنه قابل للرؤية البصرية ..

«نعيما» :

والنعيم ليس من الأمور المحسوسة ، بل هو حالة من النشوة والرضا ، واللذة ، تنشأ من ممارسة أمور محسوسة ، غير أو محسوسة.

وقد تعلقت الرؤية البصرية بهذا النعيم بالذات ، ليشير إلى شدة حضوره ، وليؤكد ظهوره إلى درجة أنه أصبح قابلا للمشاهدة ، فهو تعالى يحوّل لك المعقول إلى محسوس ، وقد علق الرؤية به مباشرة ، لا بآثاره ، أو دلائله ، أو مناشئه ، فلم يتحدث عن الأنهار ، والأشجار ، والقصور ، والجنان ، والحور .. وذلك مبالغة في التأكيد على واقعية هذا النعيم ، وأنه قد تجاوز مرحلته إلى مرحلة التجسد والحضور الحسي ..

«نعيما وملكا» :

وقد اختار ذكر أمرين هنا : النعيم ، والملك .. مقدما النعيم على الملك.

والسؤال هنا هو :

أليس الملك من مفردات النعيم؟!

فهل هذا من قبيل عطف الخاص على العام ، لإظهار مزيد من الاهتمام بالخاص؟!

ونقول في بيان وجه ذلك :

إن مفردات النعيم جميعها ، ترجع إلى أمرين :

أحدهما : ما هو حسي ، كلذة الإنسان بالطعام والشراب ، ولذته بأمور العلاقة بالجنس الآخر ، ولبسه للإستبرق ، وبشرب الزنجبيل ، وما إلى ذلك ..

الثاني : لذة إدراكية ، شعورية ، روحية ، معنوية ، يدركها الإنسا بحسه الباطني وهي أنواع كثيرة ، ترجع كلها إلى لذة الإحساس بالواجدية ، لما

يوجد تارة ، ويفقد أخرى ..

ومن أمثلة ذلك ، شعور الإنسان بالرضا واللذة من خلال شعوره بواجديته لكمالاته الحقيقية ، أو لما يراه كمالا له ، مثل كونه غنيا ، أو ذا مقام وموقع ، أو ذا سلطة وحاكمية. أو عالما ، أو معافى غير سقيم ، وما إلى ذلك ..

فخصوصية الجمال مثلا ، تعطي من يتصف بها لذة معنوية شعورية هي لذة الشعور بالرضا والواجدية على سبيل الملك ، وهي تعطيه تأكيدا وثباتا لشخصيته المالكة لمزاياها ..

وهو بالنسبة إلى الغير إدراك لحالة التناسق القائم بين العناصر ، بعد انضمام بعضها إلى بعض ، وفق نظام معين. الأمر الذي ينشأ عنه حالة من الارتياح ، بل والانشراح ..

وقد أشار الله سبحانه في سورة «هل أتى» إلى كلا هذين النوعين ، فذكر الملك الكبير ، والاتكاء على الأرائك ، وطواف الولدان ، والجنة ، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اللذة الإدراكية الشعورية ، وفي دائرة الملك ، والإحساس بالكرامة ، والحاكمية ، والواجدية ، وأشار إلى اللذة الحسية عرضا في نفس تلك الآيات السابقة ، حيث أشار إلى الزنجبيل ، والحرير .. ثم تحدث هنا عن ثياب السندس ، والحرير ، والإستبرق ، والتحلية بالأساور ، وغير ذلك مما يدخل في دائرة النعيم الحسي ..

وبعد ما تقدم نقول :

صحيح أن النعيم عام وخاص ، ولكن الظاهر هو أن المقصود بالنعيم في قوله تعالى «نعيما» : النعيم الحسي .. والمقصود بالملك : النعيم الإدراكي ..

أو أنه أراد بالنعيم أولا المعنى العام ، ثم ذكر النعيم الإدراكي ، بقوله : (وَمُلْكاً كَبِيراً) ثم عاد فذكر النعيم الحسي في قوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) كما سنرى ..

«كبيرا» :

ثم إنه تعالى قد وصف ملك الأبرار بأنه كبير ، ولم يصفه بالعظيم ، ولا بالواسع ، أو نحوه ..

ولعل ذلك يعود إلى أن كلمة «كبيرا» تختزن معنى العظمة ، ومعنى السعة أيضا ، ولا يريد الله سبحانه بالملك خصوص معنى السلطة والحاكمية ، بل هو يقصد الواجدية لكل ما لو فقده الأبرار لأحسّوا بالحاجة إليه ، أو لظهر لديهم حنين إليه ، إنه يتحدث عن الواجدية بمختلف معانيها ، ومفرداتها التي تناسب حال الأبرار ، ومنها ملك المال ، والمقام ، والسلطة ، وغير ذلك من مزايا ..

ومعنى ذلك : أن كلمة عظيم ، لا تفيد معنى السعة والشمول.

وكلمة واسع قد تنصرف ، إلى مساحة رقعة السلطان. فلا تشمل حتى معنى العظمة أيضا ، فكان التعبير الأدق والأصح ، والمناسب والجامع لسائر المعاني التي يراد التعبير عنها ، هو قوله : (وَمُلْكاً كَبِيراً ..)

تنوين التنكير :

وقد جاء قوله : «نعيما» و «وملكا كبيرا» منونا بتنوين التنكير ، ليفيد التعظيم ، والتكثير ، والاستمرار إلى أبعد مدى ممكن ، مفسحا بذلك المجال أمام وهم وخيال الإنسان ليذهب في كل اتجاه ، وإلى أبعد مدى .. وليفهمنا أن ما ذكرته الآيات ، لا يعدو كونه مجرد إعطاء مبدأ للتصور ، ولا يراد به بيان الحقيقة بكل تفاصيلها .. ويكون الإتيان بتنوين التنكير

بمثابة الإعلان عن هذه الحقيقة ، من خلال إطلاق خيال الإنسان عن كل قيد ، حيث سيبقى برغم ذلك غير قادر على إدراك الحقيقة ، كل الحقيقة دفعة واحدة ..

ويبقى لنا كلام حول أنحاء الاعتبار وأنه على نحوين ، سوف يأتي في أوائل الفصل التالي ..

* * *

الفصل الحادي والعشرون :

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ

وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)

قوله تعالى :

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ» :

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى حقائق اللذة وأنواعها ، مما لا يرتبط بالممارسة الفعلية والتفصيلية .. وأشير في آيات أخرى سبقت أيضا ، إلى لذائذ معنوية إدراكية ، ترتبط بأنواع الكرامة والتكريم ، وما للأبرار من مقام كريم ، وظهر أن إكرامهم هذا إنما هو بأسلوب التعامل معهم ، حسبما ألمحنا إليه حين تحدثنا عن السبب في اختيار التعبير ب (دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) ، و (ذُلِّلَتْ قُطُوفُها)، و (يُسْقَوْنَ) ، و (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ) ، و (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الخ .. حيث قلنا : إنه تعالى لم يذكر تلذذهم بالشراب ، بل تحدث عن أنهم يسقون ، وذكر تذليل القطوف ، ولم يذكر الأكل من تلك القطوف ..

ثم أشار سبحانه هنا إلى النعيم الحسي من خلال الممارسة الفعلية والتفصيلية ، فقال :

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) الخ .. فهذه العبارة تصف حالة الأبرار ، في وقت نعيمهم ، وحين يكون لهم الملك الكبير ، فقالت : إنك أيها الناظر ، ترى لهم نعيما وملكا كبيرا في نفس الوقت الذي تكون ثياب السندس تعلوهم ..

ونحن من أجل بيان أوفى وأتم لما تضمنته هذه الآية ، نشير إلى أمر له ارتباط أكيد في المعنى المقصود هنا ، فنقول :

القيمة الواقعية ، والقيمة الاعتبارية :

إن هناك أشياء لها قيمة حقيقية ، كالذهب ، والفضة ، والطعام ، ونحو ذلك .. وإن اختلفت مناشئ هذه القيمة ، ومكوناتها .. فالذهب مثلا إذا كان مجرد سبائك تكون له قيمة ، والذهب المصاغ ، له قيمة أعلى ، وكلاهما قيمة حقيقية ، لكن الأولى تكون بإزاء نفس معدن الذهب ، وفي الثانية يكون ارتفاع القيمة بإزاء صياغتها ، من حيث إنها تختزن حالة جمالية واقعية ، استنفدت طاقة ، واستغرقت وقتا وجهدا ، وهذه الحالة الجمالية الجديدة ، هي التي مكنت من الاستفادة منها في مجالات لم تكن لتفيد فيها لولاها ..

وكذلك الحال في كثير من الأشياء التي لها قيمة في نفسها ، وتضاف إليها قيمة الجهد المبذول في إعدادها ..

وتكون الحاجة إلى ذلك الذهب الخالص ، والغرض الداعي للحصول عليه وكذلك الحاجة إلى المصاغ منه لأجل الزينة مثلا ، هي الداعي ، والمرغب ببذل هذه القيمة وتلك. وهذا معناه : أن الداعي للبذل موجود في ذات السلعة ..

وقيمة الثوب أيضا قد نشأت من كونه يقي من الحر والبرد ، ويسد الحاجة للستر ، ويلبي رغبة في التجمل ..

وقيمة الطعام من جهة أنه يفيد في استمرار الحياة والنشاط ، وكونه من وسائل التلذذ.

وقيمة القلم والورق ، و.. و.. الخ .. إنما تكون في واقع الحاجة التي

تقتضيها ..

وقد كانوا ولا يزالون ـ أحيانا ـ يتبادلون السلع ، فيأخذون عنبا أو تينا مثلا ، مقابل العدس ، أو القمح ، وذلك لما ذكرناه من أن القيمة موجودة في ذات هذا وذاك ، بسبب خصوصية واقعية يطلب الحصول عليها ، من هذا الطرف أو ذاك ..

والضابط في القيم هو تلك الخصوصية وقدرتها على تلبية حاجة عامة أو خاصة يراد تلبيتها ..

وهناك قيمة اعتبارية ليس لها منشأ سوى اعتبار عقلاء البشر ، الذين يقبل ويصح منهم الاعتبار ، كقيمة الأوراق النقدية ، فيما تعارف عليه الناس في هذه الأيام .. فإن قيمتها مرهونة ببقاء اعتبار العقلاء لها .. فإذا زال الاعتبار كما في موارد تغيير النقد ، فقدت قيمتها ، وأصبحت كسائر الورق المهمل ..

فالرغبة بأخذ الورقة المجعولة نقدا لم تنشأ من حاجة في داخل ذاتها ، أو من حاجة لحالة تلبست بها نتجت عن جهد إضافي ، بل نشأت الرغبة من اعتبار العقلاء لها بقيمة معينة من قبلهم ..

الاعتبار على نحوين :

وإذا نظرنا إلى الأمور الاعتبارية ، فسنجد أنها على نحوين :

أحدهما : ما يكون له خصوصية ومنشأ ، ومبرر كامن في نفس مورده .. ثم يأتي الاعتبار ليؤكد تلك الخصوصية ، وليستفيد منها في مقام العمل .. وذلك مثل اعتبار الملكية ، والزوجية ، والحرية .. وما إلى ذلك ، فإن هناك خصوصية في نفس المملوك دعت إلى اعتبار الملكية فيما بينه وبين مالكه ، فصار هذا مالكا ، وذاك مملوكا ، وكذلك الحال بالنسبة

للزوجية وغيرها .. مع العلم : أن الملكية أو الزوجية لا تزيد في حجم ذلك الشيء ولا في وزنه ، ولا في لونه ، ولا في طراوته ، ولا في شفافيته ، ولا .. ولا .. وكذلك الحرية والرقّية ، وما إلى ذلك.

وكذلك الحال في صورة ما لو رفع ذلك الاعتبار ، بأن خرج عن عنوان الملكية ، أو الزوجية ، أو الحرية ، أو .. الخ .. فإنه لا يتغير شيء ، لا بالزيادة ولا بالنقيصة فيه ، ولا في غير ذلك من حالاته ..

فلو جلسنا مع مالك ، أو زوج ، أو حر ، أو ملك ، أو وزير ، ثم فقد هذه الصفات .. وعدنا إلى الجلوس معه .. فإنه سوف لا يتغير فيه شيء في الحالتين ..

فوجود هذه الصفات ، والاستفادة منها ، وترتيب الآثار عليها ، والتصرف فيها ، يستند إلى نفس الجعل والاعتبار ..

كما أن التلذذ بها أيضا كذلك ، فلذة الملك ، والحرية ، والوزارة ، و.. الخ .. أيضا تكون بنفس قيام هذا العنوان الاعتباري ، وزوال اللذة يكون بزواله ..

ويمكن نقل الاعتبار بنواقل معينة ، كالهبة ، والبيع ، ويمكن إزالته أيضا ، كالطلاق المزيل للزوجية .. وما إلى ذلك.

ثانيهما : هناك أمور يتم جعلها ، واعتبارها بصورة اقتراحية ، ومن دون أن يكون في موردها خصوصية تدعو إلى ذلك ، بل الخصوصية تكون في غيرها .. وذلك كما في اعتبار الأوراق النقدية ذات قيمة معينة ، وأوراق أخرى ذات قيمة أخرى ، مع أن الاختلاف إنما يكون بنقش الرقم أو الرسم عليها فقط ، كما سنلمح إليه ..

ولكن العناوين التي وردت في هذه الآية ، كعنوان الملك الكبير ،

وعنوان الزوجية في قوله : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (١) .. ونحو ذلك ، إنما تعبر عن خصوصيات اقتضتها أعمال العباد في الدنيا ، فهي بعد جعل التسبيب لها من قبل الله سبحانه ، وصيرورتها شبيهة بالأعمال التوليدية الواقعية ، يصبح حالها حال العناوين الواقعية الانتزاعية ، كعنوان الفوقية ، الذي هو عنوان واقعي ، على الإنسان أن يدركه ، من خلال ملاحظة منشأ انتزاعه في الواقع الخارجي ..

ولا توجد في الجنة قيمة ناشئة من اعتبار العقلاء ، بحيث تزول بمجرد زوال الاعتبار المذكور .. ولكن القيمة فيها ناشئة من خصوصية في ذات الأشياء ، لا من جهة مستوى الإحساس بالحاجة إليها ، بحيث تكون هي سبب الرغبة في الحصول عليها ، وبذل ما يوازيها ..

بل قيمتها تنشأ من مستوى ما تحققه من لذة ونعيم لأهل الجنة. فإن العمل والجهد ، والتضحيات في الدنيا التي دفع إليها إدراك وجود خصوصية في الأمور الأخروية ، هو الذي أهّل ذلك العامل لذلك النعيم ، وللتفضل عليه بمنازل الكرامة والزلفى ..

فالقيمة واقعية وحقيقية تكمن في تلك الخصوصية المشار إليها .. وليست ناشئة من اعتبار العقلاء ..

ولكن ثمة نقطة لا بد من لفت النظر إليها .. وهي أن الطاعة والعبادة والبذل ، وجهاد النفس ، ومخالفة الهوى في الدنيا ليس معناه أنك تعطيه لله ، ويأخذه الله منك لحاجة به إليه .. بل أنت تبذله لتكون أهلا للاستفادة من الخصوصية الكامنة في مفردات نعيم الجنة ، ولتوجد أنت تلك

__________________

(١) سورة الطور الآية ٢٠.

الخصوصية بنفس عملك هذا ..

وقد ورد في الحديث الشريف قوله عليه‌السلام : «إنما هي أعمالكم ترد إليكم» (١).

وقال تعالى على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) (٢) ..

فإطاعتك لله سبحانه ، تشبه إطاعتك للطبيب ، فإن الطبيب لا يحتاج إلى طاعتك ، ولا ينتفع بها ، وإنما تطيعه لكي تنتفع أنت ، فلا توجد لدى الطبيب رغبة في خصوصية عندك ، وليس لديك أنت رغبة في خصوصية عند الطبيب ، ثم تتبادلان تينك الخصوصيتين ، كما لا يوجد عند الله حاجة يسدها له عملك وجهدك ، فيعوضك عنه بثواب أو بأجر .. بل إن نفس الأجر الذي يسألك إياه ، هو الذي يكون لك. أي أن الخصوصية الواقعية اقتضاها نفس عملك ، ولا يراد المعاوضة عليها مع طرف آخر ، بحيث يستفيد هو من خصوصية ، ويتخلى لك عن خصوصية في مقابلها ..

وبعد ما تقدم نقول :

لقد تحدث الله تعالى في هذه الآيات عن الفضة ، وعن الإستبرق ، وعن السندس ، وعن .. وعن .. وهي أمور لا تتحدد في الآخرة من خلال الرغبة فيها بملاحظة مقدار الحاجة إليها ، بل تتحدد بمقدار ما تؤهل الأعمال في الدنيا للاستفادة منها .. ثم يأتي التفضل الإلهي ليضاعف ذلك

__________________

(١) التوحيد للمفضل بن عمران الجعفي ص ٥٠ والحكايات للمفيد ص ٨٥ والبحار ج ٣ ص ٩٠ وج ١٠ ص ٤٥٤.

(٢) سورة سبأ الآية ٤٧.

أضعافا كثيرة ، بجعل الحسنة بعشرة أمثالها ، بل بسبعمئة ، والله يضاعف لمن يشاء ..

فلا يصح قياس القيم في الدنيا التي تخضع لبعض الاعتبارات الخاصة ، كندرة المعدن ، أو نحو ذلك ، بالقيم التي في الآخرة ، فلا يقال : الذهب أغلى من الفضة أو العكس من أجل ذلك ، فقوله : (حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ..) معناه أن القيمة الواقعية ـ فيما يرتبط بما يناسب عمل الأبرار ، وموقع الكرامة لهم ـ إنما هي للفضة ، ولعل الذهب يأتي في مراتب أدنى ، لا تليق بمقام أولئك الصفوة الأطهار ، كما ألمحنا إليه في مورد سابق ..

وذلك لأن الأعمال حينما تؤهلك للتنعم بالفضة ، فإن الفضة تصبح هي الخصوصية التي تحتاجها ، ولا يصح الاستعاضة عنها بالذهب .. بل تكون الاستعاضة حينئذ ، مجرد غلط فاضح ، وجهل واضح.

ويحسن تشبيه ما نحن فيه بإنسان في صحراء قاحلة ، يواجه الموت عطشا ، فلا شك في أنه سوف يشتري شربة الماء بكل ذهب وبكل فضة يقدر عليها في الدنيا .. ويصبح الذهب عنده غير ذي قيمة ، لأن خصوصيته لا تفيد في رفع عطشه ، ولا في دفع الموت عنه ..

أضف إلى ذلك : أن الفضة ، أو الزجاج ، أو غير ذلك ، قد يعطي ـ حتى في الدنيا ـ جمالا في موقع لا يستطيع الذهب أو الألماس أو غيرهما ، أن يعطيه ، بل يكون وضعه في ذلك الموقع مسيئا للحالة الجمالية ، ويمجه ذوق الإنسان ، وقد يؤذي روحه ..

وهذا معناه : أنه ليس للذهب قيمة في ذاته ، بل هو تابع لاقتضاء الأعمال له .. وليس الذهب أغلى من الفضة ، ولا الفضة أغلى من

الزنجبيل ، والنخل ، والرمان ، والفاكهة ، لأن القضية ليست قضية الحصول على الخصوصية المطلوبة ، حسبما أوضحناه ..

لما ذا قال : «عاليهم»؟! :

وقد بقيت هنا أسئلة عديدة تحتاج إلى أجوبة ، نذكرها مع ما يفيد في الإجابة عنها فيما يلي :

١ ـ وقد قال تعالى هنا : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ..) ولكنه قال في مورد آخر : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ..) فما هو السبب في اختلاف التعبير في الموردين؟!

ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يريد بقوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ..) الإعلام بحقيقة لباسهم ، وبيان نوعه ..

أما هنا فالمقصود بقوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ..) بيان خصوصية الزينة ، ولذلك ذكر ثياب السندس ولونها ، فقال : (سُندُسٍ خُضْرٌ ..) ثم ذكر الأسورة ، وجنسها .. وذلك بعد أن تحدث عن كيفيات تكريمهم ، وعن النعيم المعنوي ، والحسي لهم ..

٢ ـ وقد يسأل عن السبب في أنه تعالى قال : «عاليهم» ، ولم يقل : تعلوهم؟!.

ويقال في الجواب :

إن كلمة «عاليهم» اسم فاعل. واسم الفاعل يناسب الفعل المضارع في معناه ، من حيث دلالته على الثبوت فعلا .. لكن الفرق ، هو أنه في المضارع إشارة إلى أن الحدث لم يكن ثم كان ، ويدل على الاستمرار في الحال ، ولكنه ساكت عن أمر الاستقبال ، فلو قال : «تعلوهم» لأفاد : أن هذا الأمر سيحدث لهم ، وقد يستمر أو لا يستمر في بعض آنات

المستقبل ، ففيه دلالة على التصرم وعلى التجدد ..

فكلمة «عاليهم» تفيد الثبوت ـ ولا تفيد الحدوث ـ وتفيد أيضا الدوام .. وليس فيها إشارة إلى حالة فقدان أصلا ، قد يرتجف لها القلب ، ولو في مستوى التوهم ، بسبب التعبير بصيغة المضارع ..

٣ ـ وأما السبب في أنه تعالى لم يقل : يلبسون ، أو لابسون ثياب سندس ، بل اختار كلمة «عاليهم» ، فلعله ليفيد ظهور هذا الأمر فيهم. وهذه الكلمة هي أنسب التعابير عن ذلك ، لأن العالي ظاهر للقريب والبعيد .. إذ مجرد أن يلبس الإنسان شيئا لا يكفي لظهور الملبوس للغير .. فقد يلبسه تحت الثياب الظاهرة ، ويقال : إن سفيان الثوري رأى على الإمام الصادق عليه‌السلام في المسجد الحرام ، ثيابا كثيرة حسانا ، فقال : والله لآتينّه ولأوبخنّه! ..

فدنا منه ، فقال : يابن رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ما لبس رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] مثل هذا اللباس ، ولا علي ، ولا أحد من آبائك!

فقال عليه‌السلام : كان النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ، في زمن قتر مقتر ، وكان يأخذ لقتره وإقتاره ، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها ، فأحق أهلها بها أبرارها ، ثم تلا : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (١) .. فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله ، غير أني يا ثوري! ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ، ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه ، ثم رفع الثوب الأعلى ، وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظ ..

فقال : هذا لبسته لنفسي غليظا. وما رأيته للناس.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٣٢.

ثم جذب ثوبا على سفيان ، أعلاه غليظ خشن ، وداخل ذلك ثوب ليّن!

فقال : لبست هذا الأعلى للناس ، ولبست هذا لنفسك تسترها (١) ..

٤ ـ وفي الإجابة على سؤال عن السبب في إرادة إظهار الزينة نقول : لعل سبب ذلك هو أن تظهر للناس جميعا كرامة الله تعالى للأبرار ، وعنايته بهم ، ففي ذلك إعزاز أهل الإيمان ، وسرورهم ، وكبت ، وحسرة أهل الطغيان وعذابهم الأليم.

وليس الهدف من هذا اللباس هو التبجح به ، والافتخار على المؤمنين ، وإذلالهم به ، من خلال إشعارهم بالحرمان والفقدان ..

وليس المقصود أيضا هو الانتفاخ الفارغ ، من أي هدف إيماني وإنساني .. وما ذلك إلا لأن الأبرار في الجنة قد صفت نفوسهم من مثل هذه الأدران ..

أضف إلى ذلك : أن هذا الفعل الإلهي بهم إنما هو تجلّة منه لهم ، وإظهار لنعمته عليهم ..

وإذا كان هذا الإظهار التربوي الذي يستبطن تلك المعاني كلها مطلوبا في الدنيا ، وفقا لقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٢) .. فكيف بالدار الآخرة.

فالمطلوب هو التحديث بنعمة الله ، حثا للناس على طلب هذه النعمة ، من مالكها الحقيقي ، لا من العاجزين وأن يطلبوها على أساس أنها عطاء إلهي في مورد الاستحقاق على الجهد المبذول. وأنها عطاء من رب يريد

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٥ ص ١٤٣ و ١٤٤ والكافي ج ٦ ص ٤٤٢.

(٢) سورة الضحى الآية ١١.

الخير لمربوبيه ، وهو يرعاهم ، ويهتم بهم ، ولم يزل يفيض عليهم البركات ، والألطاف ، والنعم .. إنها عطاء ممن يملك خزائن كل شيء ..

إن المطلوب هو التحدث بالنعم لا على سبيل الافتخار ، بل لأجل الترغيب بها ، والاعتراف بالفضل الإلهي ، والكون في مواقع الشكر والحمد ..

وبذلك يعرف الفرق بين هذه النظرة ، وبين النظرة القارونية ، فقد أهلك قارون ماله ، ولم يصغ إلى نصيحة قومه في أن يبتغي بما آتاه الله الدار الآخرة ، وأن يحسن كما أحسن الله إليه ، وأن لا يبغي الفساد في الأرض. ولا يفرح ..

فأجابهم بقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ* فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) (١) ..

وكانت عاقبته أن خسف الله به وبداره الأرض ..

٥ ـ وقد بين تعالى خصوصية هامة هنا ، حين أتبع ذلك بقوله في الآية التالية : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..) حيث بيّن أنهم قد حصلوا على هذه الزينة الظاهرة من موقع الاستحقاق ، وهي أيضا من جملة النعم التي اختصهم الله بها ، ثم هي عطاء كرامة وإعزاز ، وليس عطاء عشوائيا وبلا ضابطة.

كما أنه لا يراد بها إشعار الآخرين بالفاقدية والحرمان. ولكنها لا بد أن تكون حسرة على أعداء الله ، تزيد في مكروههم ، وتضاعف في آلامهم التي كسبتها لهم أيديهم ..

__________________

(١) سورة القصص الآيتان ٧٨ / ٧٩.

٦ ـ إن النعيم هنا ، وإن كان يتجلى بلباس السندس ، الذي هو أمر حسي ، ولكن ذلك ليس هو المقصود الأساس هنا ، بل النعيم المعنوي بهذا اللباس الذي هو زينة ، هو الأهم .. لأن إظهار كرامتهم يمثل لذة روحية معنوية إدراكية لهم ، وليس مجرد لذة جسدية ..

كما أن نفس الإحساس بإدراك الآخرين لكرامة الله سبحانه للأبرار ، هو من أسباب نعيمهم وأنسهم ، ومن موجبات اعتزازهم ..

هذا عدا عن أن شعورهم ببهجة الآخرين وسرورهم بما يرونه من سندس خضر وإستبرق وغير ذلك ، يعطيهم المزيد من الرضا والراحة والسرور ..

فظهر أن قوله : «عاليهم» لا يراد به مجرد إظهار الزينة للآخرين ، بل المراد به أن يكون سببا في سرورهم ، وكبت أعدائهم أيضا كما تقدم ..

«ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» :

وغير خفي أن الله سبحانه يريد أن يفهمنا معنى الكرامة للأبرار بالأسلوب ، وبالمفردات التي نعرفها ونألفها ، ونتفاعل معها ..

ومع أنه تعالى قد عبر بكلمة «ثياب» وبكلمة «سندس» ، ولكنه حذف هذه الكلمة مع كلمة «الإستبرق» ، وجاء بها مرفوعة لتكون عطفا على كلمة «ثياب» السابقة ، مما يعني أنه تعالى يريد أن يقول : إن الإستبرق هو العالي على الأبرار ، فهو زينتهم الظاهرة .. ولم يحصر زينتهم به بخصوص جعله لباسا لهم ، فلعلهم يتزينون به بحيث يكون فوق فرشهم ، وستائرهم ، وفي كل المواضع الظاهرة للآخرين ، والتي هي من مفردات نعيم الأبرار ، بما تعطيه من بهجة للناظر ، وأنس للمستفيد الحاضر ..

فلوحظ في السندس خصوصية كونه ثوبا يعلو الأبرار ، ظاهرا لكل أحد ، لكن لوحظ في الإستبرق خصوصية كونه من أدوات الزينة في جميع مظاهرها .. وذلك معناه أن الأنسب في السندس هو كونه ثوبا ، والأنسب في الإستبرق أن يكون في غير اللباس ..

وذلك لأن السندس ، هو ما رقّ نسجه من ثياب الحرير ، والرقة تناسب اللباس الذي يطلب فيه الخفة ونعومة الملمس ..

أما الإستبرق ، فهو ما غلظ نسجه من ثياب الحرير ، ففيه الثقل وفيه درجة من خشونة الملمس ، فيناسب أن يستعمل في ما سوى اللباس من الزينة الظاهرة ..

النعيم الجسدي .. من خلال الرضا الإلهي :

وواضح : أن الإنسان قد يلبس الحرير ، وأساور الفضة وغيرها ، وذلك كما يكون في ساعات الهناء ، كذلك قد يكون في ساعات المصائب والبلايا ، فلبسه للحرير وللأساور ، وغيرها ، لا يوجب له لذة ، ولا يخفف عنه ألما ..

كما أن من يمارس لذة جسدية محرمة ، وهو ملتفت إلى العقاب الذي سيواجهه من جراء ذلك ، فإنه لا يلتذ بها بنفس مستوى لذة من يمارسها هي بعينها ، وهو يشعر أنها حلال له ، فكيف إذا صاحب ذلك شعوره بأنها من مظاهر التكريم والرضا الإلهي ، والمحبة ، واللطف الرباني؟! ..

«خضر» :

بالرفع ، وصفا لكلمة ثياب ، لا لكلمة «سندس» ..

والمعروف ، الذي دلت عليه أحاديث أهل البيت [عليهم‌السلام] : أن النظر في الخضرة من أسباب بعث البهجة والارتياح في النفوس ، وقد

جعل الله الثياب التي تعلو أولئك الأبرار خضرا ، لأنه يريد أن يبعث البهجة في نفوس الناظرين إلى الأبرار ، ويسرهم بذلك .. كما أن الخضرة هي لون الربيع في شبابه ، فهي تشير إلى الرواء ، وإلى الانتعاش ، وإلى الطراوة ، وإلى تدفق الحيوية ..

ولكنه لم يصف الإستبرق بالخضرة ، لأن المطلوب هو تنويع الألوان واختلافها في المحيط الذي يكون فيه الأبرار ، لكي تتنوع تأثيراتها على المشاعر ، وتتنوع الانفعالات ، الأمر الذي يثير جوا من الحيوية والنشاط ، والأنس بجديد ما يقع عليه النظر في كل آن ..

«وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» :

١ ـ ويأتي بعد ذلك كله الحديث عن التزين بالأساور ، فقال : «وحلّوا» .. بصيغة الفعل الماضي ، ليفيد تأكد الحصول والوقوع ، إلى درجة أنه أصبح يصح الإخبار عن حصوله خارجا ..

كما أن نفس التعبير بصيغة الفعل ، فيه إشارة إلى أن هذا الأمر لم يكن ثم كان ، من خلال نشوء إرادة إكرامهم به ، ولو أنه كان موجودا ، فإن ذلك لا يشير إلى إرادة الإكرام هذه ..

٢ ـ وقد يسأل سائل عن السبب في اختيار التعبير ب «حلّوا». حيث لم يقل : ألبسوا ، أو زيّنوا؟!

والجواب :

أن الحديث إنما هو عن النواحي الجمالية التي تحتاج إلى فعل يظهرها. ولو من خلال الهيئة التركيبية لعناصر ليس لها في ذاتها أية حالة جمالية ، ولكنها إذا جمعت بطريقة معينة ، فإنها تعطي الإيحاء بالمعاني ، أو تصنع من خلال ذلك مزايا تثير الرغبة في تلمسها ..

فليس الحديث إذن عن خصوص ما يكون بذاته ـ ومن دون أي تدخل من خارج ـ مختزنا للحالة الجمالية الواقعية ، إذ قد تختزن نفس العينين ، أو الفم ، أو غيرها حالة جمالية رائعة ..

وكما أن حالة الضم والجمع ، قد تعطي إيحاء بالجمال ، كذلك هي قد تعطي الإيحاء بالقبح ، وتنشئ حالة ينفر منها الطبع .. حتى لو كانت نفس المفردات المنضمة من أجمل ما خلق الله ..

فإنه قد يقع نظرك على عين بمفردها ، فترى أنها غاية في الجمال ، والعين الأخرى أيضا إذا نظرت إليها بمفردها تجد أنها كذلك ، ولكنك حين تضمهما إلى بعضهما البعض تنشأ حالة أو معنى غير محبب ، كما إذا ظهرت حالة الحول وعدم التناسق في حركة سواديهما. أو كما لو كانت إحداهما أصغر من الأخرى ، أو كانت هناك درجة غير مستساغة من التباعد أو الاقتراب.

فللعين إذن جمال ذاتي ، واقعي .. ولها أيضا تأثير ومشاركة في إنشاء حالة جمالية ، أو قباحة في الهيكل العام للوجه ، وربما يؤثر ذلك على الناحية الإيحائية تجاه الجسد كله ..

وفي جسد الإنسان مواقع ليس لها خصوصية جمالية لافتة ، إلا من حيث انسجامها مع مواقع وأحجام سائر الأجزاء الداخلة في التكوين العام للجسد .. فليس لليد مثلا جمال خاص بها ـ كما هو الحال بالنسبة للفم ، أو العين على سبيل المثال .. ولكن لو تغير موقعها قليلا أو كثيرا ، أو لو أنها صغرت ، أو كبرت ، فإن ذلك يعطي الإيحاء الخاص المتناسب مع هذه التحولات.

وبعد أن اتضح ذلك نقول :

بما أن الإنسان ليس له حالة جمالية تلفت الأنظار ، فقد كان من إعطائها صورة جمالية أرقى تعطيها درجة من التميز تتبلور من خلال ذلك لذة تدفع إلى الطلب والسعي ، للحصول على هذا. وكان لا بد لليد من كسب ذلك من خارج ذاتها. بأن تكون جزءا من هيئة لها صفة جمالية رائعة ، أو أن تكون الأساور هي التي تعطيها هذا الأمر .. تماما كما هو حال القرطين في الأذنين ، وأحمر الشفاه ، وصباغ الأضافر ، والخلخال ، وما إلى ذلك.

فالأساور هي التي تحلي ، وتعطي الرونق ، وتزيد في الانجذاب إلى تلك المواضع لإدراك خصوصيات الجمال فيها .. ولذلك قال : «حلّوا» ولم يقل : ألبسوا الأساور ، فإن ذلك يبين أن اللبس للأساور قد حصل ، وأن حصوله كان بفعل الآخرين لأجل تكريمهم .. ثم هو يبين الداعي لهذا الإلباس ، وهو زيادة الرونق ، وإيجاد حالة جمالية جديدة ..

«من فضّة» :

وقد وقع الاختيار هنا أيضا على الفضة لتكون الأساور منها ..

وقد ألمحنا في السابق إلى أن منشأ القيمة في الآخرة ، وفي الجنة بالذات ليس هو الاعتبار ، لأن الاعتبارات تزول في الآخرة ، بزوال مناشئها ..

وتصبح قيمة الأشياء هناك بما تؤديه من خدمة ودور في إسعاد الأبرار ، وأهل الإيمان .. والفضة هي المطلوبة في هذا المورد ، خصوصا إذا لا حظنا ما يلي :

١ ـ إنها على درجة عالية من الشفافية بحيث يرى ما خلفها ..

٢ ـ إنها مع ذلك تحتفظ بلمعانها الأخّاذ ..

٣ ـ إنها تفضّ النظر الذي ينصب عليها ، وتفرقه وتجزؤه (١) وتنشره .. وينعكس عنها ، ويتسع ليقع على غيرها ..

فإن اللون الأبيض ، يعكس النور ويرده ، ويفرق البصر وينشره .. أما اللون الأسود فهو يجمع البصر إليه ، ولا يتفرق عنه ، ولا ينتشر ..

ولكن الفضة هنا تفترق عن اللون الأبيض في أنها لا ترد النور ، بل هي تستوعبه في نفس حال نشرها له ، كما أنها في حين هي تفرق البصر وتنشره ، فإن البصر يخترقها ويتجاوزها إلى ما بعدها ..

وهكذا يتضح كيف أن النظر إلى فضة الجنة يؤدي أكثر من مهمة معجزة ، وخارقة للعادة ..

٤ ـ ثم إن ثمة حالة فريدة ، ورائعة ، وهامة ، تصل إلى حد الإعجاز ، فإن من ينظر في المرآة لا يرى المرآة نفسها ، بل يرى الصورة فيها ، والذي يرى ما بعد الزجاج الشفاف فإنه لا يرى الزجاج نفسه ، ولكن الأمر في الجنة ليس كذلك ؛ إذ إنه في حين هو يرى الفضة ، فهو يرى ما بعدها أيضا. ويرى أيضا أمورا أخرى حولها .. فهل يكون هذا إلا الإعجاز بعينه ..

وهذا يعطي قدرا زائدا من البهجة ، والسرور ، ويلامس الأحاسيس والمشاعر ، ويثير فيها المعاني والخواطر اللذيذة المختلفة ..

ولأجل ذلك ، كانت للفضة هذه القيمة العالية جدا ، التي تظهر ما

__________________

(١) فقوله : انفضوا ، معناه تفرقوا من حوله. وقوله : لا فض فوك. دعاء بعدم فقده لأسنانه وعدم تفرقها بالقلع ..

تؤديه من دور في تحقيق درجات عالية من النعيم لخصوص هؤلاء الأبرار ، حتى لقد جعل الله تراب الجنة منها ..

لما ذا خصوص الأساور؟! :

وأظن أن ما ذكرناه فيما سبق يكفي للإجابة على سؤال : لما ذا تحدث الله سبحانه عن تحلية الأبرار بالأساور دون سواها ، من مفردات تدخل في هذا السياق؟ ..

فإن الأيدي قد تكون من أكثر أعضاء الجسد الإنساني حركة ظاهرة ومرئية للآخرين ، فهو يحركها ، وهو يمشي ، وحين يتكلم ، ويستفيد منها في الوصول إلى أكثر حاجاته ، وفي أكثر حالاته وتصرفاته .. والبصر يتابع الحركة ، وينشدّ إليها ، وللأساور دورها المميز في متابعة البصر ، وانشداده. فهي تزين اليدين بما للونها من خصوصيات ، وبما لمادتها من ميزات ذكرناها سابقا ، وهي تختطف النظر إليها بما تكون لها من حركة ، مع اليد أولا ، وبالحركة التي تكون ناشئة عن إطلاقها ، وعدم تقييدها ، فهي من جهة حركة إرادية ، في تبعيتها لحركة اليد ، ومن جهة أخرى غير إرادية في نفسها بسبب إطلاق الأساور في طبيعة وضعها العام ..

وهي تشد البصر أيضا من حيث إن لحركتها صوت ورنين يثير الانتباه ، وتتداعى بسببه معان ومشاعر مختلفة ومتنوعة ..

أضف إلى ذلك كله .. أن حركة اليد تكون في مختلف الاتجاهات ..

هل الزينة خاصة بالنساء؟ :

ولا مكان للوهم الذي يقول : إن الزينة إنما تناسب النساء. فما معنى جعل الأساور للرجال؟ ..

إذ إن الزينة أمر مطلوب ومحبوب في كل مواقع الرضا والصلاح ..

وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «كونوا لنا زينا» (١) ..

وقد زين الله السماء الدنيا بزينة الكواكب ..

والأرض تتزين أيضا بإخراج زخرفها ..

وقال تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٢) ..

من الذي يحلّيهم بالأساور؟ :

وقد جاء التعبير بصيغة الماضي المبني للمجهول .. ربما لأنه يريد بيان النواحي الجمالية ، التي يكرم الله تعالى بها الأبرار ، ولا يقصد بيان من هو واهب هذه النعم ، أو منشأ هذه الكرامات ..

وعلى كل حال ، فإن تحليتهم بالأساور ، من شأنها أن تثير جوا من البهجة والسرور للأبرار أنفسهم ، ببعضهم بعضا. وسرور غيرهم من أهل الإيمان بهم .. كما ألمحت إليه أيضا كلمة : «خضر» ، فإن الخضرة تكون مصدر أنس لمن يراهم من أهل الإيمان ، وسببا في الحسرة والألم لأهل الطغيان ..

«وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ» :

ثم انتقل سبحانه إلى إظهار أمر يلتذ به الأبرار أنفسهم ، دون سواهم ، فذكر الله سبحانه أنه هو الذي يسقي الأبرار ، حيث لم يقل : «يسقون» ، فإنه تعالى ، وإن كان قد قال في آية سابقة : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ..) وليس ثمة ما يمنع من أن يكون الذي يسقيهم هو

__________________

(١) شرح الأخبار ج ٣ ص ٥٨٥ و ٥٩٠ والإعتقادات للمفيد ص ١٠٩ والأمالي للطوسي ص ٤٤٠ والبحار ج ٦٥ ص ١٥١ وج ٦٨ ص ٢٧٦ و ٣١٠.

(٢) سورة الأعراف الآية ٣١.

ربهم أيضا .. ولكن لم يكن المقام هناك مقام بيان من هو الساقي ، بل كان في مقام بيان إكرامهم ، بطريقة حصولهم على الشراب ، وأنهم لا يحتاجون إلى المبادرة بأنفسهم إليه ، بل سوف يكون ذلك من غيرهم ..

أما ها هنا ، فقد أراد الله سبحانه أن يقرر لهم لذة الشرف بالساقي أيضا ، وهو ربهم تبارك وتعالى .. لأنه تعالى يريد أن يعلن بأن لهم عنده أعلى درجات التكريم ، وأسمى حالات العناية بهم والرعاية لهم ، حتى أنه سبحانه هو الذي يشرفهم فيسقيهم هو الشارب الطهور ..

ثم إنه تعالى لم يقل : «أنا أسقيهم» ، بل قال : «سقاهم ربّهم» ولم يقل : سقاهم الله ، أو سقاهم إلههم ، أو الرب. ربما ليلمح إلى أن هذه النعم ، إنما تعطى إليهم بأعيانهم من موقع الربوبية التي تعني العمل من أجل المربوب ، وإظهارا للاهتمام به ، ودفعا له في صراط التكامل والتنامي ، من موقع الحكمة والمحبة له ، وبهدف ترشيده ، ونقله من حسن إلى أحسن ، ومن كمال إلى كمال أتم.

كما أن هناك عناية بإظهار أن هذه الربوبية ليست مقاما إلهيا منفصلا عنهم ، ولا هي عنوان عام لا ربط له بهم ، بل هي ربوبية لهم بصورة مباشرة ، تتجلى لهم في جميع الحالات وبصور مختلفة وحالات متعددة ، وهي تعنيهم فردا فردا ..

وهذا الشعور لذيذ للأبرار ، محبب لهم ، وهو منشأ لمشاعر مختلفة في اتجاهاتها ، ولكنها مجتمعة في ما تهيئوه من أنس ورضا ..

الشراب الطهور :

و «الطهور» من صيغ المبالغة ، والتكثير في الطاهر ، والمعنى : أنه طاهر بنفسه ، مطهر لغيره.

وهو شراب يتناولونه لمرة واحدة ، ولا يحتاج إلى تكرار .. ولعله لأجل ذلك جاء بصيغة الفعل الماضي : «سقاهم» ، ولم يقل : «يسقيهم».

فما يسقيهم ربهم إياه هو شراب يطهرهم من كل عناء الدنيا ، ومن جميع شوائبها ، فكما أن الماء الطهور يطهر الثوب ، كذلك الشراب الطهور الذي يسقيهم الله إياه مطهر لنفوسهم وأرواحهم من كل ما نالها من تعب وعناء ، وما تعرضت له من أذى في الدنيا وبلاء .. ومذهب لكل ما ينغص عليهم عيشهم ، ويكدر نعيمهم وملكهم ..

وبهذا السقي الربوبي ، الذي تطهر به نفوسهم وأرواحهم ، تتهيأ وتستعد لاستقبال أنواع النعيم ، بصافي الفطرة ، وبكامل القدرة ..

ومن المعلوم أن المبالغة تارة تكون لتأكيد الكثرة أو القلة في الأفراد ، وأخرى تكون لتأكيد حالة الشدة أو الضعف ، أو الصغر أو الكبر ..

فالمبالغة في كلمة صبور ناظرة إلى بيان شدة الصبر. والمبالغة في ملول ، ناظرة إلى كثرة الملل الذي يحصل منه في مرات كثيرة ..

وكذلك حين نقول : صدوق أو كذوب. فإنها ناظرة إلى كثرة أفراد الصدق والكذب التي تصدر منه ..

وفيما نحن فيه نقول : إن الطهورية مبالغة في الطاهر ، من جهة إنه طاهر في نفسه ، ولا ينجسه غيره. كماء البحر ، وقد تكون من حيث أنه طاهر بنفسه مطهر لغيره ، مهما تكثرت أفراد ذلك الغير ، فإن البحر يبقى مطهرا له. وتبقى طهوريته في نفسه ، مهما كثر عروض النجاسات عليه ، فإنها لا تؤثر فيه ..

* * *

الفصل الثاني والعشرون :

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)

قال تعالى :

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً).

«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً» :

إن الإنسان قد يبذل جهدا وتعبا في سبيل الوصول إلى أمر ما ، فإذا نال ذلك الأمر فإنه سيلتذ به ، بصورة أعظم وأتم مما لو حصل عليه بدون تعب وجهد ..

وستتكون فيما بينه وبين ذلك الشيء الذي تعب من أجله علاقة تختلف عن علاقته بالأشياء التي لم يبذل في سبيلها جهدا ، فإن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.

ويصبح التخلي عن هذا الأمر ، أيسر عليه من تخليه عن ذاك ، بسبب ضعف تعلقه به. ولأجل ذلك فإن من يتعب بتحصيل المال لا يكون عادة مبذرا له ، ولا مفرطا فيه. بخلاف من أخذه بلا تعب.

وإن كن هذا لا ينطبق على الأبرار ، ولكن المقصود هو التأكيد على أن العمل في سبيل الحصول على الشيء ، يعطي الإنسان شعورا بالكرامة ، والعزة والشمم .. وهو شعور محبب ولذيذ في حد ذاته ..

وهذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى يقول هنا للأبرار ، بعد أن ذكر ما أعد لهم من نعيم : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..)

ويلاحظ هنا : أن هذه الآية :

١ ـ قد أوردت الكلام مؤكدا بكلمة «إنّ» ..

٢ ـ إنها قد زادت الكلام تأكيدا بالاستفادة من كلمة «كان» الدالة على كينونة الشيء ، وتحققه ، وجاءت بصيغة الفعل الماضي لتفيد اليقين بهذا التحقق إلى حد أنه قد أصبح بمثابة الحاصل ، أو أنه حاصل بالفعل ، حتى صح أن يخبر عن كينونته ..

٣ ـ ومما يزيد الأمر تأكيدا ؛ الإشارة إليه إشارة حسية .. وهي إشارة إلى الحاضر القريب ، حيث قال تعالى : «إنّ هذا» ..

«لكم جزاء» :

يضاف إلى ما تقدم : أنه تعالى قد صرح بملكيتهم لذلك المشار إليه بكلمة «هذا» ، وأنه لهم ، قبل أن يصرح بوصفه ب «الجزاء» ، فقدم كلمة «لكم» على كلمة «جزاء» ..

لأنه لو عكس ذلك ، بأن قدّم كلمة «جزاء» ، فإن ذلك قد يوحي ، ولو لغيرهم ، للحظة عابرة بوجود جزاء قد يكون حسنا ، وقد لا يكون ..

ولا يريد الله سبحانه أن يمر في وهم الإنسان ، ولو للحظة واحدة شيء من ذلك ، بل هو يريد لهم أن يلتذوا بالمبادرة إلى التصريح بأن الجزاء في غاية الحسن ، ليعيشوا الطمأنينة والسكينة في جميع الآنات ، حتى في طريقة الأداء اللفظي والبياني ..

كما أنه يريد أن يطمئنهم إلى أنهم مالكون لهذا الجزاء ، ولا يريد أن يفصلهم عن هذا النعيم ، ولو على مستوى التخيل العابر ، بأن يمر ولو في وهم الآخرين أن هذا الجزاء قد يكون لهم ، وقد يكون لغيرهم ..

وهذا يشير إلى مزيد الرضا ، وإلى درجة الاهتمام الإلهي بهم ، وهو يعطيهم بالتالي لذة جديدة من خلال هذا الشعور بالحب ، والرعاية ،

والرضا ، والكرامة الربانية لهم.

الخطاب للأبرار :

وقد جرى الكلام ههنا بصورة الخطاب مع الأبرار ، فيقول : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..) بعد أن كان يتحدث عنهم بصيغة الغائب ، حيث كان يقول : (يُطافُ عَلَيْهِمْ .... وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ ..) الخ ..

«جزاء» :

وقد اعتبر الله تعالى عطاءه هذا للأبرار جزاء لهم ، ولعله بهدف توجيه الناس وتحريضهم على أن يعملوا بعمل الأبرار لينالوا ما نالوه.

وهذا يشير إلى أن هذا العطاء ، الذي هو على سبيل الجزاء ، قد لوحظ فيه حجم العمل ومزاياه وغاياته ، وليس عطاء تفضليا محضا .. فإن كان ثمة تفضل ، فإنما هو في تقدير الجزاء قبل تقريره ..

كما أن عدّ ذلك من قبيل الجزاء يثير لدى الأبرار شعورا بالكرامة والاعتزاز ، من حيث قبول الله سبحانه لأعمالهم ، ويعطي عملهم قيمة واقعية وحقيقية ، لأن الله هو المصدر الحقيقي لكل قيمة ، وجعل الجزاء بإزائه يستبطن ذلك ..

ثم إن للنعيم المصاحب للشعور بالاستحقاق ، لذته أيضا وأهميته .. فإن من يحصل على محبة الآخرين مثلا ، من دون استحقاق ، سوف ينتابه شعور بالضعف ، والضعة ، والذلة ، والاستكانة .. بخلاف ما لو نال ذلك الحب عن جدارة ، فإن ذلك سيثير فيه عزة ، وقوة ، وثبات شخصية ، وبهجة بهذه العزة ، وبذلك الثبات ..

كما أن الاستحقاق يعطي للحب أصالة ، وعمقا ، وبقاء ، وشعورا بالثبات ، بخلاف ما لو جاء على سبيل التحنن والتكرم ، فإنه لا يكون ثمة

أي أساس أو مستند ، أو مبرر للشعور ببقائه ، وأصالته ، واستمراره ..

فيصبح هذا الحب مشوبا بالشعور بإمكانية فقده لأي طارئ ، أو صارف عنه .. وقد يضعف الحافز الذاتي له ، ولا يجد منشأ آخر يمكن أن يعتمد عليه فيه ..

«وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» :

ورغم أن الإنسان مملوك لله سبحانه ، فإن الله تعالى قد تفضل عليه بأن جعل لسعيه قيمة ..

ثم اعتبره ملكا للإنسان نفسه .. على قاعدة : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) (١) ..

غير أن اللافت هنا : أنه سبحانه حتى حين تفضل على الإنسان بهذا وذاك ، فإنه قد اعتبر الإنسان العامل أهلا لأن يشكر على عمله هذا ، رغم أن فائدة العمل وعائدته إنما تعود عليه دون سواه ..

وقد أخبر تعالى عن حصول هذا الشكر ، وعن بقائه ، وعن كينونته بقوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..) فلم يقل : وسنشكر لكم ذلك .. بل قال : «كان» ، ليشير إلى أن الشكورية الثابتة والدائمة والباقية لسعيكم ؛ قد تحققت وانته الأمر.

«سعيكم» :

ثم إن الله تعالى قد ذكر هنا مجرد السعي ، ولم يذكر نوعه ، ومستواه ، ونتائجه ، وآثاره وحجمها ، وهذا معناه : أن مجرد السعي يجعل الأبرار مستحقين لهذا الجزاء ولذلك الشكر ..

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٤٧.

«مشكورا» :

وقد ألمحنا آنفا إلى أن الله سبحانه قد اعتبر نفس سعي الإنسان في سبيل الخير مهما كان مستوى نتائجه وحجمها ـ اعتبره ـ ذا قيمة على كل حال .. بل هو قد رفع من مستواه إلى حد أنه اعتبره بمثابة هدية له تعالى ، وبلغ الأمر حدا بحيث انفصلت عوائد وفوائد ذلك العمل عن العامل ، ولحقت به تبارك وتعالى ، فاستحق ذلك العامل الشكر بإزاء هذا الذي تخلى عنه ليصبح لغيره ، وهذا الغير هو الله سبحانه ، الغني ، والخالق ، والمالك ..

وهذا غاية التكريم من الله سبحانه لعبده المؤمن ، فإنه ـ وهو المالك ، والمعطي له كل القدرات ، وكل الهدايات ـ قد ملكه عمله ، وجعل نفعه يعود عليه ، ثم أعطاه عليه جزاء ، ثم زاده أن اعتبر نفع ذلك العمل يعود عليه هو سبحانه ، ووعده عليه بالشكر ، بل وشكره عليه بالفعل ، بل كان له منه الشكر الدائم والمستمر ..

وإثبات المشكورية لسعي الأبرار ، يؤكد أن إثبات الجزاء عليه كان بسبب الاستحقاق ، لأن الشكر يتضمن اعتبار سعي الأبرار الذي يفترض كونه لهم ـ اعتباره ـ لغيرهم ، وأنهم قد استحقوا الشكر عليه ، لتخلّيهم عنه لصالح ذلك الغير ، حسبما بيّناه ..

ولكن ذلك كله إنما هو في مقام التصوير ، الذي يسهم في إدراك المقاصد العالية ، وليس على نحو الحقيقة .. ولكن الجزاء والكرامة التي يتجسد معنى الشكر فيها ، هي تلك الحقيقة التي يراد الإرشاد إليها ..

ولا بد أن يدرك الأبرار هذه المعاني ، وأن تكون من أسباب نعيمهم وبهجتهم بهذا الكرم الإلهي الغامر ، وهذا الفضل العميم ..

ولذلك قال هنا : (يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.) أي يتركونه غير مكترثين به ، ولا مهتمين له ، ولم يكونوا قد أمسكوا به ، أو حصلوا عليه. رغم أنه ثقيل ، ومهم جدا ..

* * *

الفصل الثالث والعشرون :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً)

قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً).

وسائل الهداية الإلهية :

وبعد بيان هذا الجزاء العظيم للأبرار ، بما يمثله من إثارة الطموح والتطلع لدى الناس إلى تلك المقامات السامية ، والتشوق لبلوغها ، أو لسلوك الطريق إليها : فإن الحاجة تصبح ماسة إلى بيان وسائل الهداية إلى ذلك كله ، فجاء البيان لهذه الهداية من قبل مصدر العطاء ، والحكمة ، والهيمنة ، والخالقية ، والعلم ، و.. و..

وقد أورد الله تعالى ذلك مصحوبا بالتأكيدات المختلفة للمضمون الذي يريد لفت الأنظار إليه ، وهو أن القرآن نازل من عند الله سبحانه ، فأكد ذلك بكلمة «إنّ» وبكلمة «نا» المعبرة عن مقام العزة الإلهية ، وبكلمة «نحن» المؤكدة للضمير المتصل ، مع أنّه قد كان يمكن الاكتفاء بالقول : «أنا نزلت عليك القرآن» ..

وأكّد ذلك أيضا بالجملة الاسمية ، وبكلمة تنزيلا ، التي هي مفعول مطلق.

فهذه التأكيدات كلها ، لعلها لإزالة آثار تشكيكات أهل الزيغ ، والشرك ، الذين كانوا يقولون عن القرآن : إنه قول شاعر ، أو كاهن ، أو هو من أساطير الأولين ، أو ما أشبه ذلك.

فبعد أن بيّن سبحانه الهدف من الخلقة ، وبيّن سبيل الأشرار ،

والأبرار ، وبيّن أيضا جزاء هؤلاء وأولئك .. بعد ذلك كله أراد سبحانه أن يبيّن أن القرآن هو سبيل النجاة ، وأنّه نازل من عنده تعالى ، لتكون النتيجة من ثم هي :

أن الوصول إلى الهدف الذي رسمه الله لخلق الإنسان منحصر بما بيّنه الله سبحانه. وكل ما عداه ، فإنّه لن يوصل إلى شيء سوى الدمار والبوار.

«إنّا نحن» :

وقد بدأت هذه الآية المباركة بكلمة «إنّا» المفيدة للتأكيد القولي ، يضاف إلى تأكيد آخر ، يقرره لهم مشاهدتهم صحة ما يخبرهم به سبحانه.

ثم أشار إلى نفسه تبارك وتعالى بكلمة : «نا» وبكلمة : «نحن» ، وهما تعبران عن المتكلم ، ومعه غيره ، ليشير بذلك ـ من جهة ـ إلى مقام عظمته ، وجلاله ، وكبريائه ، وقدرته ، وعزته .. وليفيد ـ من جهة أخرى ـ أنّ تنزّل القرآن من مقام إلى مقام ، قد أوكله سبحانه إلى الملائكة ، ثم إلى جبرئيل .. وذلك ليعرفنا : أنه يدبر الكون بوسائل معينة ، ووفق نظام ، وعبر وسائط تدبير (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) ..

ومما يؤكد ذلك :

أنه تعالى ينزل القرآن من مقام إلى مقام ، بواسطة الملائكة ، كما قلنا ..

أنه يوحي إلى النبي أحيانا بواسطة جبرئيل ..

وأنه يميت الأحياء من البشر بواسطة الملائكة ..

وأنه يجعل التناسل البشري عبر صلة الذكر بالأنثى. وما إلى ذلك.

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٥.

وإن معرفة الإنسان بأنّ كل المخلوقات مسخرة لله تعالى ، وتعمل بإرادته سبحانه ، يزيد في معرفة الإنسان بالله ، ويؤكد خضوعه واستسلامه له. وهو يثبّت الإنسان في مواقع الاهتزاز ، فالله مهيمن على كل شيء حتى حين يكون الملك هو الذي يباشر التصرف ..

ولكنه عاد في الآية التالية ليتكلم عن نفسه تبارك وتعالى بصيغة المتكلم بضمير المفرد ، فقال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ..) كما سيأتي.

والخلاصة : أنّه في مثل هذا المقام لا بد أن يأتي التعبير بصيغة : «إنّا» ، «نحن» ، ليزيد ذلك من طمأنينة الإنسان ، من خلال زيادة يقينه بأنّ الله هو الممسك بكل شيء ، والمهيمن على كل شيء ، حتى حينما يبدو أنّ ثمة من يتصرف في الأمور ويدبرها ..

«عليك» :

وكلمة «عليك» في قوله : (نَزَّلْنا عَلَيْكَ) تريد أن تجعل الإنسان يتلمس الوحي الإلهي من حيث هو يصل الرسول بالله مباشرة ، وفي هذا أيضا من الفوائد والعوائد المرتبطة بالإيمان بالكتاب ، وبالرسول .. ما لا يحتاج إلى مزيد بيان ..

«نزّلنا» :

وقال سبحانه : (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ..) ولم يقل : «أنزلنا» ..

وقد قالوا في الفرق بينهما : إن التنزيل يكون نجوما ، ومتفرقا ، على سبيل التدريج ، أمّا الإنزال فيكون دفعة واحدة ..

وقد ناقشنا هذا القول في كتابنا الصحيح من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ج ٢ وذلك حين الحديث عن البعثة .. غير أننا نجمل الكلام حول ذلك هنا على النحو التالي :

قد يقال : إن هناك ما يدل على عدم الفرق بين الإنزال والتنزيل ، فقد قال تعالى : (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) (١).

وقال تعالى : (نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٢).

وقال : (نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٣).

وقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٤).

والجواب : أن اختلاف التعبير ، لا بدّ أن يوجب اختلاف الخصوصية الملحوظة ، ولعلّ الخصوصية هي لحاظ التدرّج في نزول الماء ، أو الآيات تارة ، ولحاظ مجموع الآيات النازلة ، أو مجموع الماء النازل أخرى. كما أن تنزّل الكتاب على سبيل الإجلال والإكرام له ، قد كان كذلك أيضا ، فنزل إلى اللوح المحفوظ ، ثم إلى السماء الرابعة ، حيث البيت المعمور ، ثم إلى السماء الدنيا ، ثم صار ينزل سورة سورة ، ثم صارت تنزل آياته نجوما.

فحين يلاحظ هذا النزول التدريجي التكريمي ، يكون التعبير بنزّل. وحين يلاحظ نزوله بلحاظ وصوله تاما بمجموعه إلى أهله أخرى .. من دون لحاظ ذلك التدرج التكريمي ، فيكون التعبير بأنزل.

وقد يقال : إن قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (٥). يشير إلى عدم الفرق بين الإنزال والتنزيل ، حيث استعمل التنزيل في

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٥١.

(٢) سورة البقرة الآية ١٧٦.

(٣) سورة البقرة الآية ٦٣.

(٤) سورة البقرة الآية ٢٢.

(٥) سورة الفرقان الآية ٣٢.

مورد النزول جملة واحدة ..

ويمكن أن يجاب عن هذا أيضا : بأن التنزيل هنا قد لوحظ فيه إنزال مجموع القرآن ، من سماء إلى سماء ، ومن مقام إلى مقام ، حتى يصل إلى البشر .. فهو على حدّ قوله : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (١) ..

فإذا تأكّد وجود فرق بين نزّل وأنزل ، فلا بدّ من الإجابة على سؤال :

أنه تعالى يقول : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (٢).

ثم هو سبحانه ، يقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣).

فهذه الآيات تدل على نزول القرآن نجوما ، ومفرّقا ..

وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٤).

وقال أيضا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٥).

وقال أيضا : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٦).

فهذه الآيات تدلّ بالتصريح ، أو بالتلميح ، على النزول الدفعي ..

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٩٣.

(٢) سورة الإسراء الآية ١٠٦.

(٣) سورة الفرقان الآية ٣٢.

(٤) سورة الزمر الآية ٢.

(٥) سورة القدر الآية ١.

(٦) سورة البقرة الآية ١٨٥.

فكيف يوفق بين هاتين الطائفتين من الآيات؟! ..

سؤال آخر هنا أيضا وهو : أنه إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان فكيف تكون البعثة النبوية في شهر رجب؟

ويمكن أن يجاب عن هذا وذاك بما يلي :

أولا : إنه قد سبق أن هناك ما يدل على نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ .. ثم هناك ما يدل على نزوله إلى السماء الدنيا ، ثم سورة سورة ، ثم صارت تنزل الآيات تدريجا ..

وقد ذكرنا ذلك في بحث لنا حول السبب في تقديم آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) على آية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٢) فراجع (٣) ..

وعلى هذا فيمكن القول بأن النزول الدفعي للقرآن قد كان في شهر رمضان ، وفي ليلة مباركة ، هي ليلة القدر. ثم بدأ في السابع والعشرين من شهر رجب ينزل سورة سورة ، وتدريجا ..

ثانيا : بالنسبة إلى البعثة في شهر رجب نقول :

إنه لا يجب أن تكون البعثة مقترنة بنزول القرآن ، فيمكن أن يبعثه الله في شهر رجب ، ثم يبدأ نزول القرآن بعد شهر ، أو شهور ، أو أكثر ، أو أقل ، لأن البعثة هي مجرّد أن يخبر جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله بأنه نبيّ ، وقد يخبره بذلك منذ صغره ، كما كان الحال بالنسبة

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٣.

(٢) سورة المائدة الآية ٦٧.

(٣) راجع كتاب «مختصر مفيد» ج ٤.

للنبي عيسى عليه‌السلام ، حيث قال فور ولادته : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) .. وكل فضيلة ثبتت لنبي من الأنبياء ، فهي ثابتة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما دلت عليه الروايات ..

وقد يكون المراد من البعثة ، هو بعثته كرسول وهي تتحقق بإخباره ولو في آخر حياته .. بأنه مبعوث إلى قومه ، أو إلى البشرية كلها .. ولا يحتاج ذلك إلى نزول قرآن .. وفي هذه الحال قد يكون القرآن قد نزل عليه قبل ذلك بسنوات ..

كما أن من الممكن أن ينزل القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مذ كان نبيا أي منذ صغره ، أو بعد ذلك بسنة أو بسنوات كما سيأتي ..

وثالثا : إن الأوضح والأقرب في موضوع النزول الدفعي والتدريجي للقرآن هو :

أن القرآن قد نزل دفعة واحدة على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه لم يؤمر بتبليغه ، ثم صارت السورة ، ثم الآيات تنزل تدريجا بحسب المناسبات ..

وربّما يستأنس لهذا الرأي ببعض الشواهد مثل ما ورد في رواية المفضّل ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : «أعطاه الله القرآن في شهر رمضان ، وكان لا يبلّغه إلا في وقت استحقاق الخطاب ، ولا يؤدّيه إلا في وقت أمر ونهي الخ ..» (٢).

رابعا : إن النبيّ كان نبيا منذ صغره ، أو قبل ذلك ، فقد روي عنه أنه

__________________

(١) سورة مريم الآية ٣٠.

(٢) البحار ج ٨٩ ص ٣٨.

قال : «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» (١).

فلا مانع من أن يكون القرآن قد نزل عليه منذ بدء نبوّته ، ثم صار ينزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله نجوما بعد أن بلغ الأربعين ، لكي يبلّغه للناس ..

ولا بأس بمراجعة ما كتبناه حول هذا الموضوع ، في بحثنا حول السبب في تقديم آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) على آية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٣) ، (٤) ..

لم يقل : أنزلنا :

وجوابا عن السؤال عن السبب في أنه قال هنا : «نزّلنا». ولم يقل : أنزلنا .. ثم قال : «تنزيلا» ، ولم يقل : إنزالا ..

نقول :

لعلّ اختيار كلمة «نزلناه تنزيلا» هنا بالذات قد جاء لسببين ..

السبب الأول : أن للقرآن جهة ومرتبة إلهية ، تجعله خارج دائرة قدرات البشر. فكان أن احتاج إلى التنزيل ليصبح في حدود البشرية .. فإن مقام الرسول مهما كان عاليا ، وساميا وعظيما عند الله ، ومهما أعطاه الله تعالى من قدرات وألطاف ، فإنه يبقى في مقام ودرجة المخلوقين والمألوهين .. ويبقى لله سبحانه مقام الخالقية والإلهية .. وما أعظمها من

__________________

(١) كتاب التاج ج ٣ ص ٢٢٩.

(٢) سورة المائدة الآية ٣.

(٣) سورة المائدة الآية ٦٧.

(٤) راجع : الجزء الرابع من كتاب «مختصر مفيد».

درجة وأسماه من مقام!! فلا بدّ من تنزيل ما هو إلهي ليصبح في حدود البشرية .. فكان النزول أولا إلى اللوح ، وأمّ الكتاب ، ليمكن لنفس الرسول أن تناله .. ثم لكي يناله البشر الآخرون ، وكانت له تنزّلات أخرى إلى البيت المعمور في السماء الرابعة ، ثم إلى السماء الدنيا. ثم نزول جبرئيل به سورة سورة ، ثم نزول الآيات نجوما ..

وكان نزول القرآن بواسطة جبرئيل إيذانا بعظمة القرآن ، وبكرامة ومنزلة جبرئيل أيضا ، ثم هو تشريف وتكريم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. الذي استحق ذلك من خلال عمله وجهده وجهاده في سبيل رضا الله ، ونيل مراتب القرب ، ومقامات الزلفى منه تعالى .. حتى لقد استحقّ أن يكون نبيّا وآدم بين الروح والجسد ، وأن يكون نورا محدقا بعرش العظمة والجبروت ، والقدرة الإلهية ..

وكان من مفردات تكريم الله تعالى له ، أن جعل جبرئيل وهو أعظم الملائكة قدرا ، هو المبلّغ عنه إليه.

أمّا النبي موسى عليه‌السلام ، فرغم ما له من عظيم المنزلة ، وجليل المقام ، قد خلق الله له الكلام في شجرة ، في البداية ..

ويشبه ما ذكرناه هنا في بعض جهاته ، ما ذكرناه حول سبب وقوع المتشابه في القرآن ، فإنّ معاني القرآن كبيرة وسامية ، لا تستطيع ألفاظ وضعها العرب لأمور حسية أو قريبة من الحس أن تستوعبها ، فكان لا بدّ من إخضاعها لدرجات من التنزيل والتلطيف. ليمكن وضعها في قوالب لفظية هذا حالها .. فمست الحاجة إلى الاستفادة من المجاز والكناية ، وسائر أنواع الدلالات ، لتكون هي المفاتيح التي تفتح للراسخين في العلم الأبواب التي يشرفون منها على عالم من المعاني الكبيرة والسامية ، ويعلّمون منها الناس كل على حسب قدره وقدرته ..

السبب الثاني : أنّ هذا التنزيل قد جاء وفق المعطيات التي أوجدتها البيانات التي وردت في السورة ، من أوّلها إلى هذا الموضع ، حيث إنها تحدثت عن نشأة الإنسان في الحياة ، وعن المستوى العظيم للرعاية والهداية الإلهية له في مسيرته في الحياة الدنيا ، والمصير الذي سينتهي إليه الأبرار والفجّار ، مع تقديم وصف دقيق لحالات الأبرار في الجنة ..

وإذا كان تصور الحقائق والدقائق التي وردت في هذه السورة ، يحتاج إلى أرقى درجات الإدراك والمعرفة واليقين ، فإن حاجة الإنسان إلى تحصيل هذا اليقين وترسيخه ، وتعميقه إنما تنبثق من حاجته إلى نيل تلك الأهداف الكبرى التي يريد الله أن ينيله إياها ، والتي يعجز عقله عن تصورها ، ويقصر خياله ووهمه عن اقتحام آفاقها .. الأمر الذي يجعل منه يقينا له تأثيره المباشر على مستوى السعي ، والجهد والإخلاص ، والخلوص في العمل في سبيل الوصول إلى تلك الغايات ، والحصول على هاتيك المرادات ، وتحقيق تلكم الأمنيات.

وذلك معناه : أن مجرد القبول والرضا ، وإظهار القناعة بما أخبرت به هذه السورة المباركة ، وبصدق الوعد الإلهي لا يفي بالمطلوب ، بل الحاجة تبقى ماسّة إلى ما هو أسمى من ذلك وأبعد ..

ولعلّ ظهور المعجزات وحدوث الخوارق للعادات ، يأتي في سلسلة الأسباب والعلل لإيجاد مستويات أعلى من اليقين والاقتناع لدى الناس. وسيكون لهذه المعجزات والخوارق أثر إيجابي في الربط على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومضاعفة صبره ، وزيادة قدراته على المواجهة ، ومكابدة المشاق ، وتحمل الأذايا في المجالات المختلفة ، وهو الذي يقول :

«ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت» (١) ..

أو «ما أوذي أحد ما أوذيت» (٢) ..

وذلك لأن هذا النبي العظيم سيواجه كل جبابرة العالم ، وطغاة الأمم ، وحتى طغيان النفوس الأمّارة بالسوء .. والتي إن أمكن قهرها اليوم ، فإنها ستعاود الوثبة غدا ..

وما ذلك إلا لأن مهمة الأنبياء ليست مجرد تبليغ رسالة ، أو تعليم وتربية جيل من الناس ، أو إقامة دولة ، وفرض قانون ونظام سياسي ، أو اجتماعي ، أو ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اهتمام السياسيين ، أو المصلحين الاجتماعيين ..

بل إن مهمة الأنبياء ، هي صناعة إنسانية الإنسان ، وصياغة شخصيته ، ومفاهيمه وتنشئة مشاعره وعواطفه ، والإمساك والتحكم بأحاسيسه ..

كما أن مهماتهم لا تنحصر بالإنسان الذي يعيش في عصرهم ، بل هم مسؤولون عن هداية ورعاية كل مسيرة الحياة الإنسانية ، ما دام هناك بشر على وجه الأرض.

ولأجل ذلك : تعرض أعمال الأمة على رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) راجع : مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٤٢ والبحار ج ٣٩ ص ٥٦ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ١٠٢ وكشف الغمة ج ٣ ص ٣٤٦ والجامع الصغير ج ٢ ص ٤٨٨ وشرح منهاج الكرامة ص ٢٦٥ وراجع جواهر المطالب ج ٢ ص ٣٢٠.

(٢) راجع : الجامع الصغير ج ٢ ص ٤٨٨ وكنز العمال ط حلب ج ٣ ص ١٢٠ وفيض القدير شرح الجامع الصغير ج ٥ ص ٥٥ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٨٠ وتهذيب الكمال ج ٢٥ ص ٣١٤.

وآله حتى في النشأة الأخرى ، كما أن الإمام عليه‌السلام يرى أعمال الخلائق ، ويلاحقها ، ويتعاطى معها ، من موقع البصير الخبير ، والعارف بالداء والدواء.

وقد كان تنزيل القرآن سورة سورة ، ثم نزوله على سبيل التدريج حين تحقّق ما تنطبق عليه الآيات ، يؤكّد للناس أن هذا القرآن هو من عند عالم الغيب والشهادة ، فيكون ذلك قاهرا لعقولهم ، وموجبا لخضوعهم ، وبخوعهم واستسلامهم له.

وذلك من أسباب تقوية الرسول ، ومعونته وإحكام أمره ، وزيادة درجة الصبر والتحمّل لديه صلى‌الله‌عليه‌وآله .. على طريقة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) .. فإن تجسّد هذا الغيب على صفحة الواقع حركة وسلوكا ، ومفردات حيّة ناطقة ، تلزم بالحجة ، وتقطع العذر ، وتؤكّد يقين الناس ، وتقوّي موقف الرسول ، إن هذا من شأنه أن يثلج صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ويفرح قلبه ، ويزيد من تصميمه ، ويشدّ من عزيمته.

ولعلّ هذا يفسّر لنا قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢) ..

نعم إن هذا القرآن الذي حدّث الناس في هذه السورة المباركة ، ـ سورة : «هل أتى» ـ عن هذه الحقائق والدقائق ، قد أنزله الله تعالى بصورة تدريجية ، لكي يظهر بما لا يقبل الشك أنه من عند عالم الغيب

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٦٠.

(٢) سورة الفرقان الآية ٣٢.

والشهادة ، ولذلك كانت تنزل الآيات في السورة قبل حدوث أي شيء ، ويقرؤها النبي على الناس ، ثم تأتي الأحداث ، ويرى الناس كيف أن الآيات السابقة تنطبق على هذا الحدث اللاحق.

فكيف يجوز لمن يرى ذلك أن يتردد في اختيار الإيمان؟ أو كيف لا يكون صبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في هذه الحالة أعظم وأجلّ من أن تدركه العقول ، وتناله الأفهام؟!.

خصوصا مع إدراكنا : أن صبره صلى‌الله‌عليه‌وآله نابع ـ بالدرجة الأولى ـ من أعماق ذاته ، ومن حقيقة طهره ، وكونه إنسانا إلهيا كاملا ، متصلا بالله ، ومتكل عليه في كل أموره.

وكيف لا يتضاعف هذا الصبر يوما بعد يوم ، وحتى لحظة بلحظة؟!.

وبعد هذا فإننا نستطيع أن نعرف بعض السر في عطف الكلام عن مجراه السابق ، إلى الكلام عن تنزيل القرآن.

«نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً» :

ومن أهم فوائد هذا البيان الإلهي لكيفية نزول القرآن ، ومطابقة الآيات لما يحدث في المستقبل : أنه يهيء للقباعة الوجدانية ، وطمأنينة القلب ، والسّلام والرضا في النفس من خلال إعطاء الدليل الملموس على صدق وحقّانية البيان الذي قدّمه .. والقضايا إذا استندت إلى الدليل ، فإنها تصبح أشد رسوخا ، وأعظم أثرا في نشوء وترسيخ حالة الصبر والتحمل للمصاعب والمتاعب.

وقد قلنا : إنه تعالى قد أشار إلى هذا الربط بين النزول التدريجي للقرآن ، وبين أثر ذلك في تحقيق الصبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حين فرّع الأمر بالصبر ؛ بالفاء ، فقال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ..

الفصل الرابع والعشرون :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)

قوله تعالى :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» :

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة ، هو : ان الله تعالى قد أمر رسوله بالصبر لحكم الرب ، لا على حكمه ، فما هو السبب في ذلك ، والجواب :

أنه إذا قيل : اصبر على الأمر الفلاني ، فالمعنى أن عليك أن تتحمل مشقته ، ومتاعبه ، ومسؤوليته ، وقسوته ، وشدائده. ولا يصح أن يكون هذا هو المراد في الآية هنا ؛ إذ لا يمكن أن يكون في حكم الله سبحانه قسوة ، أو أن يوقع في مشكلات.

فالصحيح أن يقال : اصبر لحكم ربّك .. أي : لأجل ولمصلحة هذا الحكم الربّاني .. لأن الصبر مفيد في إنجازه ، وتحقيقه ، وإقامة شرائعه ، والالتزام بها ، وإنفاذها.

أما المتاعب فلم تنشأ من حكم الله ، بل هي من صنع المعتدين ، والآثمين ، أو من نتاج الهوى والعصبيات ، وحبّ الدنيا ، والميل إلى السلامة والراحة. مع أن الخير كل الخير ، والسعادة والصلاح هو في الالتزام بأحكام الله ، وفي إجرائها ، لا في التخلّي عنها ، لأجل دواعي الهوى ، أو ما شاكل.

هذا إذا كان المراد بحكم الرب هو الالتزام بشرائعه وأحكامه.

ولكن الظاهر هو أن المراد ب «حكم ربّك» هو تكليفه لك أيّها الرسول بمهمات كبيرة وصعبة ، اقتضاها تبليغك لأحكام الله .. حيث إنك ستواجه المتاعب والنوائب ، وأعظم الأذى والمصائب ، في سبيل إبلاغ الدعوة ونشرها .. وقد فرض الله عليك القيام بهذا الواجب ، وعليك أن تصبر ، لأن هذه الدعوة تحمل معها مواجهات صعبة في كلّ اتّجاه ، إذ لا بدّ من مواجهة الطواغيت ، ومواجهة أهواء الناس وطموحاتهم الباطلة ، والوقوف في وجه انحرافاتهم ، ومواجهة النفس الأمّارة ، و.. و..

وهذا العناء العظيم ، وذلك الجهد الهائل ، وتلك المصاعب والمصائب ، تحتاج إلى التثبيت الإلهي ، وإلى أن يشعر هذا العامل بلطف الله ، ورعايته ، ومحبته ، وحنانه ، ولأجل ذلك جاء التعبير بكلمة :

«ربّك» :

فإن هذا الحكم عليك قد جاء من مقام الربوبية ، ما وافق الحكمة ، ومن موقع التدبير ، والمحبة لك ، واللطف بك ، والرضا عنك ، والحنو عليك ، والتي تريد لك التكامل في مقامات الرضا ، والانتقال من مقام إلى مقام بنفس هذا الجهد الذي تبذله ، وتلك الصعوبات التي تواجهها ..

ولذلك كلّمه تعالى بكاف الخطاب للمفرد ، من أجل المزيد من التحديد لشخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما له من حدود وميّزات فردية ، ليعرفه بعنايته المباشرة به.

وهذا الخطاب لا شك أنه لذيذ ومحبوب لنفس الرسول ، وهو يعطيها رضا ، وبهجة ، وسكونا ، وطمأنينة ، وثباتا ، وقوة ، لشعوره بأن عين الله الرؤوف به ، والعطوف عليه ترعاه ، وتلاحق كل حركاته ، وترصد جميع حالاته.

«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» :

وحين يكون هذا العامل في سبيل الله يواجه أشدّ حالات الحرج ، ويبذل أعظم الجهد لتحقيق ما يتوخّاه ، ويمتثل أمر مولاه .. فإنه يواجه حالات أشد أذى لروحه ، وإيلاما لقلبه ، وحرجا على نفسه ، وهي نصائح أولئك الأعداء له بالتخلّي عن مسؤولياته الإلهية والإنسانية ، والسعي إلى بعث اليأس في قلبه ، وإضعاف عزيمته ، وإصابته بالفشل وبالإحباط من جرّاء ذلك ، وإقناعه بأنه لن يجني سوى المشاكل ، والمصائب ، والبلايا ..

وربّما يواجه أساليب متنوعة في هذا الاتجاه ، فيها الترغيب والإغراء تارة ، والترهيب والوعيد أخرى.

فلذلك جاء الأمر الحازم والحاسم ، ليقول له : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

وقد يلاحظ : أن لحن الخطاب الإلهي مع أنبيائه وأوليائه يمتاز بالقوّة وبالحسم أحيانا ، بل هو قد يوحي أو يوهم أنه يتهدّدهم بصورة قوية وقاسية : حتى ليقول الله تعالى لنبيّه : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) ..

ويقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢).

ويقول : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (٣) ..

كما أنه يخاطبهم في أحيان كثيرة بمنتهى اللطف والرأفة ..

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٥.

(٢) سورة الحاقة الآيات ٤٤ / ٤٦.

(٣) سورة الإسراء الآية ٨٦.

ولكنه حين يخاطب عباده الخطّائين فإنه يتألّفهم ، ويداريهم ، ويهوّن عليهم الأمور ، ويخاطبهم بلين ولطف ، فيقول : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (١) ..

ثم هو يرغبهم بالتوبة ، ويعدهم المغفرة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) (٢) .. (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٣) .. وغير ذلك ..

وما ذلك إلا لأنه تعالى يخاطب أنبياءه وأولياءه من موقع الألوهية ، لأنهم في معرفتهم بالله ، وفي حصانتهم ضد نزعات الهوى ، قد وصلوا إلى مراتب سامية من الصفاء ، والنقاء ، والوعي ، تؤهلهم لنيل الحقائق ، والتفاعل معها .. وهذا ما جعل الخطاب معهم خطابا بالحقائق ذاتها على ما هي عليه ، لأنهم أصبحوا فوق مستوى البشر العاديين الذين يحتاجون إلى الخطاب بلغة تستعير مفرداتها من مألوفاتهم في هذه الدنيا ، ومفرداتها ، وحالاتها .. لأنهم منغمسون فيها ، فيحتاجون إلى مزيد من الرعاية لهم ، وتولي تدبير أمورهم ، والإشفاق عليهم ، بسبب شدة بعدهم عن الحقائق ، وعدم قدرتهم على إدراكها ..

على أنه تعالى لا يريد أن يشير إلى أي احتمال لصدور ذلك منهم ، بل هو مبالغة في زجر غيرهم ، فهو تعالى يريد أن يطلق القاعدة ، ويعلن شمولها وسريانها الذي لا يقبل التخصيص ، وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها ، فهو على حد قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ

__________________

(١) سورة الزمر الاية ٥٣.

(٢) سورة طه الاية ٨٢.

(٣) سورة التحريم الاية ٨.

فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) .. فإنه يستحيل أن يكون لله ولد ، ولكن المقصود هو التأكيد الشديد جدا على صحة الشرطية ..

وكذلك الحال في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢) .. فإنه لا يمكن أن يصدر الشرك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن المقصود هو التأكيد على القاعدة والضابطة ، وسريانها ، وعمومها بأوضح بيان ، وأجلى برهان ..

ثم قال تعالى :

«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» :

فالآثم هو ذلك الذي يمارس الإثم ، وينغمس فيه مباشرة. وربما تكون دواعيه ودوافعه له شهوانية ، أو بسبب فهم خاطىء قد قصر في مناشئه ومكوناته. أو لخدعة وقع فيها ، أو قلة مبالاة بالرقابة الإلهية .. أو لأجل كفوريته ، وتنكّره لمقام الألوهية ، وطغيانه على الله ، وغير ذلك ..

ثم لا يقتصر على ذلك بل هو يدعو غيره ليشاركه في مآثمه .. وربما بهدف تخفيف الملامة عن نفسه ، أو لأجل أن يجد العضد والمعين ، أو لأجل الإمعان في الطغيان على الله ، أو لغير ذلك من أسباب.

غير أن مما لا شك فيه : أن المآثم حينما تصبح واقعا متجسدا ، فإن داعويتها للآخرين إلى ممارستها تصبح آكد وأشد ، من حيث إن درجة من التخوف والرهبة تزول عنهم ، ولأن ما يتخيلونه من لذائذ لهم فيها ، قد أصبح ماثلا أمامهم بالفعل ، يثير شهيتهم ، ويسيل له لعابهم .. فتصير

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٨١.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٥.

الدعوة إلى ارتكاب تلك المآثم ، والتشجيع عليها أكثر فعالية ، وأعظم أثرا.

وقد نهى تعالى عن إطاعة الكفور ، وهو المكثر من الكفر ، أو الشديد فيه ، من حيث إنه يبذل جهدا قويا لتجاهل وطمس معالم نعم الله الظاهرة عليه ، كما أنه يقاوم بشدة دواعي الهداية الفطرية ، والعقلية ، والشرعية من أن تؤثر في ضبط حركته ، والتخفيف من غلوائه وطغيانه. فهو كفور بلحاظ درجات المقاومة ومراتبها ، فكأنّ هذه المراتب تتضاعف : حتى ليصحّ أن يقال لفاعلها : إنه كفور.

كما أنه يكثر من هذا الكفران ، بسبب كثرة تلك النعم ، وكثرة تلك الدواعي التي هيأها الله له ، رحمة به ، وحدبا عليه. فهو كفور من حيث كثرة صدور مظاهر التجاهل لألطاف ونعم الله منه ، وظهورها على جوارحه.

ولكنه .. يسعى دائما للتمرد على ربّه ، والخروج عن زيّ العبودية ، ويبذل جهدا ، ويكرر المحاولة في هذا السبيل.

فإذا اقترنت هذه الشدّة ، وتلك الكثرة ، بصيرورة هذا الكفور داعية إلى التمرد وإلى الطغيان ، وإلى ستر وتجاهل نعم الله ، والتنكر لألطافه ، ورفض كل هداياته .. فإنه يصبح أشدّ كفورية ، ويكون عمله هذا أعظم درجة في القبح والسوء ، لأنّه يجعل نفسه في موقع المواجهة مع فطرته ، وعقله ، ووجدانه .. الذي لا يرضى منه إلا أن يكون شاكرا للمنعم عليه ، مؤديا فروض العبودية لسيده ، وخالقه ، ومالك رقّه.

ومهما يكن من أمر ، فإن قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ..) يدل على أن حامل همّ الدعوة إلى الله ، الذي يعيش حالة الانضباط التام ، والانسجام مع الفطرة ، ومع نواميس الحياة ، ويلتزم بهدى

العقل والشرع .. يواجه دعوات قوية إلى أن يتخلى عن ذلك كله ، وليستبدل الممارسة السليمة ، بارتكاب الآثام. ولينقض بذلك ضوابط الفطرة ، والشرع ، والعقل ، والوجدان ، والفكر.

ومن الواضح :

أن هذا الخطاب الإلهي للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يعني : أن ثمة أية إمكانية لأن يطيع هذا النبيّ الكريم ، الآثم أو الكفور ..

وذلك لأن الخطابات القرآنية للأنبياء تأتي قوية وحاسمة ، لأنها من موقع ألوهيته تعالى ، وبما هو خالق بارئ مصور ، عزيز ، جبار ، متكبر ، الخ ..

فلا غرو أن نجده سبحانه يدفع بالأمور مع أنبيائه إلى أقصى الحالات ، ومن دون أيّ هوادة أو تخفيف ..

كما أن الله سبحانه يريد أن يعرّفنا حقيقة المعاناة والآلام التي يتعرض لها هؤلاء الدعاة إليه تعالى ، ولعل أشدها عليهم محاولات الآثم والكفور ، جرّ أتباعهم ، ولا سيما المستضعفين منهم ، إلى الإثم وإلى الكفر ..

ثم إن في هذا الخطاب الإلهي إشارة عملية إلى أن المعاملة الإلهية للبشر ، لا تمييز فيها ، فهو لا يغضّ الطرف عن رسله وأنبيائه ، لمجرد أنّ لهم منزلة عنده ، فإنّ منزلتهم إنّما نالوها عن جدارة واستحقاق ، تجلّيا في التزامهم بأوامره ونواهيه التي قد تزيد صعوبتها بالنسبة إليهم عنها بالنسبة لغيرهم ..

وهذا يخالف تماما ما عليه البشر في تعاملهم مع القريبين منهم ، فإنه يختلف عن تعاملهم مع غيرهم.

يضاف إلى ذلك كله : أن الله سبحانه إنّما يخاطب الرسول بما أنه قادر على فعل الشيء ، لا بما أنه معصوم.

وهذا نظير قوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) ، فإنه يستحيل صدور الظلم من الله سبحانه ؛ لمنافاته مقام ألوهيته .. ولكن ذلك لا يعني محدودية قدرته سبحانه ، وصيرورته عاجزا على الحقيقة. بل إن الله سبحانه قادر على كل شيء في جميع الأحوال ..

وهذا نظير قولنا : إن الأم يستحيل أن تقتل ولدها تشهّيا منها ، ما دامت تملك العقل ، والتوازن ، وعاطفة الأمومة ، كما أن الإنسان لا يقدم على شرب السم ، والمؤمن الواعي لا يقدم على أكل الميتة ، ولحم الخنزير. ولكن ذلك لا يعني العجز التكويني لهؤلاء عن ذلك كلّه ..

وهذا بالذات هو حال الأنبياء أيضا ، فإنهم لا يعصون الله ، ولا يطيعون الآثم والكفور ، لوجود المنافرة الحقيقية ، والبغض الحقيقي في نفوسهم لمثل هذه الأمور .. دون أن يكون ثمّة عجز تكويني عن ذلك.

فقول الله سبحانه لنبيّه : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، قد جاء خطابا إلهيا متوافقا مع مقتضيات الأحكام الظاهرية للبشر ، لأنهم مخاطبون بما يخاطب الله به غيرهم ..

ومكلفون به ما دام أنه يقع في دائرة ما تقتضيه قدراتهم البشرية ، بغض النظر عن عصمتهم ، ومع ملاحظة أن عصمتهم إنما هي اختيارية لهم.

والخلاصة : أن الأنبياء مكلفون ـ كغيرهم ـ بالاجتناب عن جميع المعاصي ، وامتثال جميع الأوامر ، ولكن ذلك لا يعني : أن يكون الأنبياء ـ بملاحظة ملكة العصمة فيهم ـ مظنة صدور ذلك منهم .. بل هو يعني : أن هذه الأمور تقع في دائرة اختيارهم ، في نطاق قدراتهم البشريّة.

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٤٩.

صبر الرسول .. ونعيم الأبرار في الجنة :

ولعلّك تقول : ما المناسبة بين حالات الأبرار في الجنة ، وبين تنزيل القرآن تدريجا ، لتحقيق التثبيت لفؤاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ .. مع أننا قد نتوهم أن الأنسب هو ربط ذلك بيقين الناس ، ليكون ذلك مدخلا لطلب المزيد من الصبر منهم ، والثبات والسعي لنيل درجات الأبرار في الجنة.

ونقول في الجواب : إن القرآن أراد أن يفهمنا أن المسؤولية التي يتحملها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تهيئة النفوس ، وصناعة الشخصية الإنسانية ، وفق المواصفات ، وبالمستوى الذي يفيد في نيل تلك المراتب السامية ـ إن هذه المسؤولية ـ هي الأصعب ، والأشد خطورة ، والأعظم أهمية ..

وتوجيه الخطاب الإلهي للنبيّ لا يعني أنه خاص به ، بل هو يتوجّه للناس أيضا ، على طريقة : إيّاك أعني ، واسمعي يا جارة.

كلمة : «منهم» لما ذا؟! :

وأما لما ذا قال سبحانه : (لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) ، وقد كان يكفي أن يقول : «لا تطع آثما» ..

فربما يكون ذلك لأجل أن مسار الكلام قد جاء على سبيل التعميم للناس كلهم ، من أجل الإلماح إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يمكن أن يتوهم في حقه أن يلبي المطالب إذا كانت تدخل في دائرة الباطل ، ويكون فيها الإثم ، والعدوان ، والفساد ، من أي جهة جاءته هذه المطالب ، وفي أي ظرف ..

ولكن بما أن من الناس من يطلب منه أمورا تدخل في دائرة الصلاح والخير ، وليست من الباطل في شيء ، فإن كونها كذلك ، لا يوجب المبادرة أيضا إلى تلبيتها ، إذا كان المطالبون بها من أهل الإثم ،

ومن المتشددين في كفرانهم ، والمكثرين منه ، إذ لا شك في أنهم يريدون الحصول عليها ليؤكدوا بها كفرانهم ، وفي نطاق مساعيهم لارتكاب الآثام ..

فإن كان لا بد من القيام بتلك الأعمال ، فلا بد من مراعاة أوامر الله سبحانه فيها ، لا طاعة أولئك الأرجاس ..

ومع غض النظر عن هذا وذاك ، فإنه قد يقال : إن ما يطلبه الآثم ، والكفور ، لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق ، والعدل ، والصلاح ، لأن ما يكون له صفة الحق ، والعدل ، والصلاح ، فلا بدّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أن يبادر إليه ، ولا ينتظرهم حتى يطلبوا ذلك منه .. وما لم يكن له هذه الصفة ، فإنهم سوف يطلبونه منه ، ولا يصح أن يطيعهم فيه ..

فيكون هذا إعلانا إلهيا بحقيقة هؤلاء الناس ، وتأكيدا لهذه الحقيقة في وعي أهل الإيمان ، ومن يملك ذرة من ضمير ، أو وجدان ..

هل هذا استطراد؟ :

وقد يروق للبعض : أن يعتبر هذه الآية بمثابة استطراد في الكلام ، وانتقال من سياق المدح والثناء على الأبرار وما أعده الله لهم .. إلى ذم فئة بخصوصها ..

غير أننا نقول : إن الكلام من أول السورة إلى هنا ، إنما هو لرد دعوة هؤلاء المنكرين لهذه الحقائق الدامغة ـ لشدة كفرانهم ، ولإمعانهم في الإثم ـ والذين يسعون لإنكار أن يكون هذا الإنسان موردا للرعاية والعناية الربانية ، وذلك من أجل حرفه عن مساره الصحيح ، إلى حد أنهم يتجرؤون على مقام النبوة الأعظم ، ويقدّمون له العروض ، ويطلبون منه ما يتلاءم مع انحرافهم ، وإثمهم ، وكفرانهم لنعم الله وتفضلاته ..

الفصل الخامس والعشرون :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)

قوله تعالى :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» :

قلنا فيما تقدم : إن الله تعالى قدّم ما يفيد في إعطاء الوضوح ، واليقين ، والثبات ، الذي هيّأ له التذكير بأن هذا القرآن الذي يتنزّل تدريجا ، يحمل معه ما يدلّ على صدقه ، وظهور حقائقه في الوقائع المتتالية ، بسبب انطباق الآيات عليها ، مع أنها قد نزلت قبلها بزمان.

وقد جعل سبحانه هذا دليلا على لزوم الصبر لحكمه تعالى ، وها هو الآن بعد هذا وذاك ، قد عقب ذلك بالطلب من نبيّه الكريم : أن يذكر اسم ربّه بكرة وأصيلا ..

ولتوضيح أجواء هذا الأمر الإلهي نقول :

قد تحدّثت هذه السورة المباركة عن الإنسان حتى قبل نشوئه ، ثم تابعته في مسيره إلى مصيره ، وبينت حاجته إلى الهداية ، والرعاية الإلهية ، فأصبح واضحا : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يتحمّل مسؤولية هدايته ورعايته وإعداده ، وإزالة الموانع من طريقه في كلّ هذا المسير الطويل ، ولذلك خلق الله سبحانه نبيه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خلق الخلق ، لكي يرافق هذا الخلق بروحه الطاهرة ، ثمّ في نشأته البشرية إلى أن قبض الله روحه ، ولكنه أيضا لم ينقطع بالموت عن مواصلة رعاية البشرية ، بل هو لا يزال مرافقا لها ، وسيبقى معها ، حتى حينما

تنتهي إلى مصيرها النهائي في الآخرة ..

إن مهمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنتهي بموته في الدنيا .. بل هو الشاهد على هذه الأمّة ، والمراقب لأعمالها ، والراعي لها حتى في النشأة الأخرى ، وهو الذي يتّخذه المؤمنون وسيلة لهم إلى الله تعالى ، ليقضي حاجاتهم في الدنيا ، وليشفع لهم في الآخرة ، وهو الذي ينجدهم في الشدائد ، بل ويحضرهم عند الموت ، وهو صاحب الحوض في الآخرة ، يسقيهم وصيّه منه ، أو يمنعهم عنه.

فإذا كانت للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه المهمة الخطيرة ، فهو يحتاج إلى التثبيت ، وإلى الصبر الذي لا ينتهي عند حدّ ، ـ إذ إن القضيّة ليست مجرّد حدث صعب يمرّ في تاريخ حياته وينتهي .. بل هو حدث مستمر ، دائم التحدّي ، لحظة فلحظة ، وإلى أن تقوم الساعة ـ لأنه يتصدى للطواغيت ، وللأهواء ، وللغرائز. والعدوّ الذي يقاومه ويريد تحصين نفسه منه ، دائم الحضور معهم ، بالغ التأثير عليهم ، وهو عدو لا يكلّ ولا يملّ ، له حالات ومحاولات ، وقوّة وضعف ، مما يعني أنه سيبقى دائما في موقع التمرّد ، والطغيان ، والإغراء.

فلا بدّ من التدرّع بالصبر ، ولبس لبوسه ، دون كلل أو ملل .. ولا بدّ من وسيلة تنتج هذا الصبر ، وتحافظ على قوته ، وتضاعفها باستمرار.

وإذا كانت مهمة الرسول ومسؤوليته لا تنحصر بزمان ، فكيف يمكن إنتاج هذا الصبر الدائم والمستمر ، ليمكن القيام بأعباء هذه المسؤولية ، ومواجهة المغريات والتحديات؟! ..

إن هذا هو ما تكفلت هذه الآية المباركة ببيانه .. فهي تقول : إن على هذا الرسول ـ كما هو على كل البشر ـ واجبات لا بدّ لهم من القيام بها.

وإن صبره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصبرهم إنما هو بالله سبحانه. وقوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوتهم إنما هي به ومنه تعالى. ولذلك قال عزوجل سبحانه لنبيّه هنا :

«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» :

إن الملاحظ هو أنه سبحانه قال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ).

ولم يقل : «اذكر ربّك» ، ربما لأن كلمة «اذكر» قد يراد بها التذكّر في مقابل النسيان ، كما قال سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١) ، فيكون المطلوب هو إعادة التوجّه إليه بعد الغفلة عنه .. وهذا المعنى غير مراد هنا ، فإن الغفلة عن الله تعالى مما لا يتوهّم في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. إلا إذا كان الله سبحانه يريد بخطابه هذا ، تعليم الآخرين ، وتنبيههم من غفلتهم ..

وأما القول بأنه تعالى : يريد بذلك مواجهة نبيه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوقائع بطريقة حاسمة ، ومن موقع ألوهيته تعالى ، تماما كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢) وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٣).

فهو غير مقبول ، لأن المراد هنا ـ كما يشير إليه سياق الآيات ـ هو إظهار التحنّن على الرسول ، واللطف والرفق به .. وطمأنته إلى المعونة الإلهية والرعاية الربانية ..

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٢٤.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٥.

(٣) سورة الحاقة الآيات ٤٤ / ٤٦.

لماذا اسم الله؟! :

وأما السبب في أنه تعالى ، قد أجرى الكلام عن ذكر اسم الله ، فهو أن المقام مقام الذكر المستبطن لمعنى المعرفة ، ومن البديهي : أنه لا يمكن معرفة كنه الله ، وحقيقة ذاته تعالى. بل هو جلّ وعلا يعرف بأسمائه وتجلياتها ، ومنها صفات فعله التي هي بالنسبة لنا أدلّ شيء عليه ، إذ إننا نشعر بالحاجة إلى الرزق فيرزقنا الله ، فنسمّيه بالرزّاق ، ونحتاج إلى الشفاء ، فيشفينا ، فنسمّيه بالشافي ، ونحتاج إلى الرحمة فيرحمنا فنسمّيه بالرحمن ، وبالرحيم .. وكذا الحال بالنسبة للخالق ، والودود ، والمعزّ ، والمذلّ ، والمنتقم ، والكريم ، وغير ذلك ..

إذن ، فنحن نستحضر مفهوم هذه الصفة أو تلك له تعالى في أذهاننا لتكون هي المشيرة إليه ، والدالة عليه سبحانه.

ولكن معرفة الأنبياء والأوصياء له تعالى ، أعمق وأدق من معرفتنا هذه ، فإنهم يعرفونه سبحانه باسمه الألوهي ، وبما يريهم إيّاه من أسرار خلقه ، وملكه ، وملكوته ، وعجائب صنعه ، وآياته. فإن الله سبحانه قد أرى نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله من آياته حين الإسراء والمعراج ، إلى البيت المعمور حيث المسجد الأقصى ، وأراه من آياته الكبرى في معراج آخر إلى سدرة المنتهى ، كما في سورة النجم .. وأرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.

وقد يعرف الله سبحانه باسمه العظيم ، وباسمه الأعظم .. ولعلّ هذا هو ما تريد الآية أن تلمح إليه ، حيث قالت : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ). ولم تقل : أسماء ربّك .. لكي لا يقال : إن المراد هو الأسماء الحسنى .. كما أنها لم تقل اذكر الله ..

وعلى كل حال ، فإن ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لاسم ربّه ، ليس لأنه يغفل عنه ، بل لأنه يريد تعميق معرفته في أعماق وجوده.

«ربّك» :

ولا حاجة بنا إلى معاودة التذكير بأن التعبير بكلمة «رب» دون كلمة الإله ، أو الله ، قد جاء ليشير إلى التربية والرعاية الإلهية ، من موقع الحكمة ، والمحبة ، وأنه يبقى موضع العناية والاهتمام الربوبي.

وقد أضاف كلمة «الربّ» إلى كاف الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليشير إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو نفسه ـ وبما هو شخص له خصوصياته التي تميّزه عن الآخرين ـ مورد العناية ، ومحل اللطف الربوبي ، وليس اللطف عامّا ، ويكون هو من الأفراد الذين يشملهم ذلك العام.

«بُكْرَةً وَأَصِيلاً» :

ثم إن ثمة أكثر من نقطة ترتبط بالبكرة والأصيل ، اللذين ذكرا في الآية المباركة ، وفيما يلي تذكير بما تيسر منها :

١ ـ الوقت ليس مجرّد وعاء :

قد دلّت الآيات الشريفة ، والتشريعات المختلفة ، على أن للوقت وللمكان قيمة واقعية ، ونصيبا حقيقيا ، في تحقيق الغايات من التشريع ، فللصلاة أوقاتها ، كما للحج ، وللصوم ، وغير ذلك ، بحيث لو أن الصائم أفطر قبل الغروب بدقيقة واحدة بطل صومه ، وكذا لو صلّى قبل الظهر بدقيقة واحدة ، بل لا بدّ من إعادة هذه وذاك. مع أن الأفعال المشترطة بالوقت لا تتفاوت فيما بينها.

فدعوى أن الوقت كالمكان مجرّد ظرف لوقوع الفعل ، وليس له أي تأثير في الأمر العبادي ، غير صحيحة ..

وكما أن للمكان والزمان تأثيرهما في الغايات من التشريع ، فإن لهما قد استهما أيضا ، فالكعبة مقدّسة ومباركة ، والحجر الأسود مقدّس ومبارك ، وللمسجد حرمته.

وقد جعل للصلاة في المسجد قيمة ، وللصلاة في المسجد الحرام ، عند الكعبة قيمة ، وحدد للطواف مكانا لا يصحّ في غيره ، وحدد أيضا للسعي والرجم ، والوقوف أماكن خاصة بهم ، بل هو قد تدخّل في عدد الحصيّات التي ترمى بها الجمار ، وطلب أيضا .. أن تؤخذ من مكان بعينه.

٢ ـ ما المراد بالبكرة والأصيل؟ :

قد يقال : إن الهدف من ذكر البكرة والأصيل في هذه الآية المباركة هو الحثّ على الصلاة في الأوقات الخمس ، لوقوعها جميعا في وقتي : البكرة والأصيل ..

ونقول :

أولا : إنهم يقولون : إن المقصود بالأصيل العصر ، أو ما بعد العصر ، وبالبكور الصباح ..

وهذا معناه : أن أوقات الصلوات الخمس لا يصحّ إرادتها هنا ، لأن الظهر ليس من الصباح ، ولا من العصر ، كما أن العشاء الآخرة ليست منهما ، بل وكذلك صلاة المغرب ، لأن الأصيل هو حيث تميل الشمس ميلا ظاهرا إلى جهة الغرب ، فلا بدّ فيه من وجود الشمس ظاهرة في الأفق ، وصلاة المغرب إنما تكون بعد غيابها.

إلا أن يقال : إن المغرب والعشاء قد أشير إليهما في الآية التالية ، وهي قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ).

فلو سلمنا ذلك ، ولم نقل : إن المراد هو صلاة الليل ، فإننا نقول : يبقى

الإشكال في صلاة الظهر ، فإنها ليست بكرة ، وليست أصيلا ، كما هو ظاهر ..

ثانيا : إن الآية لم تذكر الصلاة أصلا .. فلماذا الإصرار على إضافة هذه الخصوصيّة إلى مضمونها؟!

٣ ـ التّنصيص على البكرة والأصيل :

ويبقى سؤال هو : لماذا اختار الله سبحانه التّنصيص على هذين الوقتين : البكرة والأصيل ، دون سواهما؟

ويمكن أن يجاب :

أولا : إن لكلّ وقت إغراءاته ، وصوارفه ، وشياطينه الخاصة به ، التي تزيّن للناس المعاصي المناسبة لتلك الأوقات ، ففي النهار مثلا يواجه الإنسان الناس ، ويتعامل معهم ، ويبيع ويشتري ، و.. و.. فيأتي الشيطان ، ويقول للإنسان : انظر للأجنبية بشهوة ، اكذب على الناس ، تعامل مع الناس بالرّبا ، غشّ الناس ، استهزئ بهم ، أخسر المكيال والميزان ، الخ ..

وفي الليل أيضا هناك شياطين تغري بالمعاصي التي تناسب الليل ، فتقول للإنسان : تجسس ، واسرق ، انظر إلى داخل البيوت ، اذهب إلى سهرات الغيبة ، إزن .. الخ ..

فجاء الأمر بذكر الله في هذين الوقتين ، لإبعاد جميع أنواع الوسوسات الشيطانية عن الذاكر لربه .. ليستقبل يومه وليله بروح صافية ، وبعزيمة قوية ، وراسخة ، وقادرة على مقاومة كل الإغراءات.

وفي هذا من التعليم والإرشاد للناس ، ما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ثانيا : هناك أوقات يرغب الإنسان بأن يبعد فيها عن نفسه همومه وأفكاره ، ويخلد للراحة ، إمّا بالنوم ، أو بالانشغال بما يروّح به عن نفسه ، أي أنه يطلب الاستغراق في الغفلة عن واقعه ، أو الخروج منه.

ومن هذه الأوقات وقت صلاة الصبح ، ووقت العودة من العمل المرهق طيلة النهار.

فذكر الله سبحانه في خصوص هذين الوقتين يخرج الإنسان عن حالة الغفلة التامّة ، ويحصرها في خصوص الغفلة عن أمر الدنيا ، ويجعله واعيا متيقّظا لأمر الآخرة.

ثالثا : إن هذين الوقتين ، وإن كانا من أوقات الغفلة عادة ، ولكنهما في الحقيقة هما الوقتان اللذان تكون النفس فيهما في أشد حالات الاسترخاء ، والصّفاء والاستعداد لتقبّل أيّ وافد جديد عليها.

فإن الإنسان بدءا من وقت الأصيل يتهيّأ للاختلاء بنفسه ، وللعودة بأفكاره الشوارد إلى دائرته ومحيطه الحقيقي. ويكون مستعدّا للتأمّل ، واللقاء مع الله سبحانه ، والاتّصال به مباشرة بصورة أعمق ، وبسهولة ويسر ، ووضوح وصراحة ، لا تقاس بالصراحة والوضوح فيما لو حاول اللقاء بالله ، وهو في متجره ، أو في دائرته ، أو نحو ذلك. فثمّة صوارف ومعوقات في مواضع العمل ، وقد زالت الآن ، ولأجل هذه الميزات بالذات كانت صلاة الليل من أهم الأعمال العبادية.

إن الله يريد أن يكون الوقت الذي تطلع فيه الشمس بين قرني شيطان ، والوقت الذي تغرب فيه بين قرني شيطان ، وقت خلوة بالله ، وانقطاع إليه ، وتهجّد وعبادة له ، ليرغم بذلك كل مردة الشياطين من الجن والإنس أجمعين ..

والخلاصة : أن الاتصال مع الله ليس جوارحيا بل هو قلبي جوانحي ، وفي العمل الجوانحي تطلب الأوقات التي تناسب هذا الاتصال ، وتزيد من القدرة على تحقيق غاياته. وذلك إنما هو حيث لا يكون القلب

منشغلا بأعباء الجوارح ، ومنهمكا في ترتيب ، وبرمجة ، ومراقبة نشاطاتها ..

وإنّ الليل بل وابتداء من الأصيل وإلى حين البكور ، يكون هو الوقت المناسب للقاء القلوب بالله سبحانه ، والتفاعل معه ، والانجذاب إليه. حيث تكون الجوارح قد سكنت أو كادت ، ولقاء القلوب مع الله سبحانه لقاء واقعي ، وهو لقاء رضي وحميم.

استغراق الوقت في العبادة :

ولا حاجة إلى التذكير بأنّ الله سبحانه لا يريد لهذا الإنسان أن يعيش الغفلة عن الله سبحانه ، بل يريد له أن يكون معه في كل لحظات حياته ، حتى في أكله وشربه ، وعمله ، وفراغه ، ونومه ويقظته ، ولذلك جعل له النوم في شهر رمضان عبادة ، والأنفاس فيه تسبيح ، فالنوم إذا كان في طاعة الله ، فإن الله لا يعده من موارد الغفلة.

وقد نام علي عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الهجرة ، وكان ينام في أيام الحصار في شعب أبي طالب في فراش الرسول ، حتى إذا كان هناك تدبير يستهدف حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل المشركين ، فإنه سوف يصيب الإمام عليا عليه‌السلام ، ويسلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ..

فنوم علي عليه‌السلام هذا .. ليس نوم الغافلين ، بل هو ذكر ، وعبادة ، وفداء ، وجهاد ، وحضور حقيقيّ بين يدي الله جل وعلا.

فالله سبحانه من خلال هذا التوجيه الذي وجهه لرسوله يريد منا ومن كل مؤمن أن لا تكون في حياته غفلة ولو للحظة واحدة ..

وبذلك يكون ما ورد في هذه الآية والتي بعدها كناية عن لزوم ذكر اسم الله مستغرقا لجميع الأوقات في النهار ، ثم يكون السجود والتسبيح

مستغرقا أيضا لليل الإنسان كله ، وبذلك يكون دائم الحضور بين يدي الله ، في ساعات العمل ، وفي ساعات الفراغ ، وحين ينام ، وحين يستيقظ ، وفي كل حالاته وشؤونه ..

فلا معنى للتعبير الدارج بين الناس : «ساعة لك ، وساعة لربّك». والتي تعني أنّ الإنسان في الساعة التي له ، يمكنه أن يلهو ، وأن يفعل ما يشاء ..

نعم لا معنى لهذا التعبير ، بل على الإنسان أن يجعل كلّ حياته لله سبحانه ، ذاكرا له ، وحاضرا بين يديه ..

وأما التأكيد على الناس الوارد عن الأئمة عليهم‌السلام بأن يذكروا الله تعالى ، في ثلاثة أوقات ، هي : الوقت ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وساعة ما قبل الغروب ، والثلث الأخير من الليل .. فإن المراد هو التنصيص على خصوص هذه الأوقات ، لأنها من ساعات الغفلة عند الناس عادة .. فكأنه يقول : اذكروا الله في جميع أوقاتكم وخصوصا في هذه الأوقات الثلاثة .. أما الأبرار فلهم شأن وحديث آخر ، إذ إنهم دائما في حالة ذكر لله ، وحضور مستمر بين يديه تبارك وتعالى ..

ولعلّ مما يؤيّد : أنّ المراد هو استغراق الوقت كله في ذكر اسم الله تعالى .. أنه تعالى قد وصل ذلك بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ..)

* * *

الفصل السادس والعشرون :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)

قوله تعالى :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

«وَمِنَ اللَّيْلِ» :

ويلاحظ هنا : أنه تعالى قد استهل كلامه بكلمة «من» المفيدة للتبعيض ، أي : خذ وقتا أو قطعة من الليل ، وخصصها للسجود لله تعالى .. ثم ذكر أن التسبيح يجب أن يكون في الليل كله ، مهما كان طويلا ، فقال : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

وبذلك تكون حصّة التسبيح هي التي تأخذ الوقت الأطول ..

ثم يلاحظ هنا أيضا ، هذا التّدرج والانتقال. حيث بدأ بذكر اسم الله في الحصة النهارية ، ثم انتقل إلى السجود في بعض آنات الليل. ثم انتقل إلى التسبيح في الليل بطوله .. ولهذا التدرج معناه ، ومغزاه ، كما ربما تأتي الإشارة إليه.

وثمة ملاحظة ثالثة هنا ، هي : أن ذكر اسم الله تعالى قد ورد في النهار فقط ، ولم ترد إشارة إليه في الليل ، كما أنه لم يضف إليه شيء آخر من تسبيح وغيره.

ولكنه بالنسبة لليل ذكر أمرين ، أحدهما السجود لله ، والآخر التسبيح.

فلما ذا التخصيص في النهار بما ذكر ، ولماذا التنويع في الليل على النحو الذي أشرنا إليه ، فإننا لا نشك في أن هذا التنويع مقصود ومتعمد.

ويدل على هذا التعمد : أن هناك أحكاما تختص بعبادات الليل ، ولا تشمل عبادات النهار ، كالجهر بالقراءة ، فإنه واجب في الصلاة الليلية ، لكن الإخفات هو الواجب في النهارية.

وربما يحاول البعض : تعليل ذلك بأن ظهور الإنسان للآخرين ، إنما يكون في النهار غالبا ، فيصبح أكثر تعرّضا لخطر الرياء في الصلاة من خلال تحسين الصوت في القراءة ، والتأني فيها ، ومراعاة قواعد التجويد ، وما إلى ذلك ..

وكذلك الحال بالنسبة لإظهار حالات الخشوع ، والخضوع ، وإجراء الدموع ..

غير أننا نقول :

إن هذا قد يكون من فوائد الأمر بالإخفات نهارا ، والجهر ليلا .. لكنه لا يكفي ليكون هو العلّة التامّة لهذا التشريع.

غير أن مما لا شك فيه : أن للوقت وللمكان خصوصية في التشريع .. ولذلك حدد الشارع للكثير من التشريعات أوقاتا تناسبها.

كما أن هناك خصوصية أخرى ، وهي كثرة المستحبات في الإسلام بحيث لا يمكن لأحد أن يأتي بها جميعا ، فمثلا قراءة القرآن مستحبة دائما ، والصلاة والتسبيح كذلك. فكيف يمكن الجمع بينها؟

ثم إن للكثير من المستحبات درجات عظيمة من الثواب ، ولعل بعضها أكثر ثوابا من بعض الواجبات .. ولعل سبب ذلك : أن الرقيّ ، والسموّ الروحيّ ، والتكامل في الشخصية الإيمانيّة ، إنما يكون للمستحبات الدور الأهم فيه.

ولربما لا يقدر البعض ـ بحكم طبيعة عمله ، أو بحكم ما يملكه من

طاقة جسدية ـ على الاستفادة من بعض أنواعها .. فصاحب الدكّان لا يمكنه أن يشغل نفسه بالصلاة مثلا .. ولكنه يقدر على الصيام ، أو على التسبيح ..

وربما يكون المستوى الثقافي ، والمعرفي قد لا يسمح له بالاستفادة المطلوبة ، أو يحجزه عن المبادرة إليها واختيارها ضعف قدراته الاستيعابية. أو لعلّ نفسه تقبل الآن على هذا النوع من العبادة ، ثم تقبل غدا على نوع آخر ، فلا يحرمه الله تعالى من ذلك في كلتا الحالتين ، فإن للنفس إقبالا وإدبارا.

بل إن من الناس من لا يعرف القراءة ، أو ليست لديه ثقافة تمكنه من إدراك المعارف القرآنية ، ولكنه يميل إلى خدمة الناس ، وقضاء حوائجهم ، أو يميل إلى الصيام المستحب ، أو زيارة المشاهد المشرفة ..

ثم إن لبعض المستحبات ارتباطا بعاطفة الإنسان ، أو بخلقه الإنساني ، مثل مجالس العزاء ، والاهتمام بالأيتام ..

فكل هذا التنويع يعطينا : أنه سبحانه يريد أن يفتح للإنسان جميع أبواب الوصول إليه جلّ وعلا من خلال تشريعه للوسائل المختلفة ، فيختار كل إنسان منها ما يناسب واقعه ، وحاله ، وظروفه ، فيفتح قلبه ، ويعمّق إيمانه بواسطة هذه الطرق إلى الله تعالى ، ويدخل الهدى والإيمان إلى قلبه ، فإن الأبواب إلى القلب مختلفة فتارة تكون ذات سمة عاطفية ، وأخرى فكرية تأملية ، وثالثة تكون ذات قيمة أخلاقية ، أو وجدانية ، أو حالة مشاعرية.

كما أن للحياة الاقتصادية ، وللمواقع الاجتماعية مجالات متنوعة ، يمكن أن تكون هي الأخرى أبواب هداية وسبل نجاة .. وقد قرر الشارع

الكثير من العبادات المالية المختلفة والمتنوعة .. وأشار أيضا إلى استخدام الجاه والموقع لقضاء حاجات المؤمنين ، أو الدفع عنهم ، وما إلى ذلك ..

فكلّ خصوصية في التشريع قد حسب لها حسابها في تيسير الهداية للناس ، حتى الركعتان اللتان هما تحية للمسجد ، وتشريع كراهة الصلاة في معاطن الإبل ، أو في الحمام ، أو ما إلى ذلك ..

وبذلك يتضح : أن الله سبحانه حين يشرّع ذكره ـ فقط ـ لأوقات الغفلة بكرة وأصيلا .. ثم يشرع السجود في بعض الليل ، والتسبيح في الليل الطويل ، فإنه يلاحظ أمورا مهمة تأخذ بنظر الاعتبار حالات النفس ، وظروف الحياة ، وغير ذلك من أمور.

«فَاسْجُدْ لَهُ» :

وقد انتقل سبحانه من ذكره في النهار ، بكرة وأصيلا .. ليترقّى إلى مرحلة أبعد منها ، وهي التي تأتي بعد استحضار الله في القلب بواسطة اسمه ، حيث لا بدّ من الخضوع له سبحانه حينها ؛ خضوعا عباديا ، نابعا من واقع ودرجة المعرفة التي حصل عليها بواسطة ذلك الاسم المشير إلى مقام العزة والعظمة الإلهية.

فطلب منه أن يسجد لله .. ولم يطلب منه الركوع ، ولا القنوت ، بل هو لم يطلب حتى الصلاة ..

ولعلّ السبب في ذلك هو أنّ السجود يمثل أقصى درجات الخضوع .. فإذا كان هناك قنوت ، وقراءة ، وركوع ، ولم يصل الأمر إلى السجود الذي هو غاية الخضوع العبادي والتسليم له تعالى ، فإن هذه العبادات تبقى غير لائقة به تعالى ..

إنّ السجود للشيء تعبير حقيقي عن التسليم والانقياد العبادي

المطلق ، ولا يحتاج في عباديّته إلى جعل إلهي. كما هو الحال في غيره ، فإن الحج مثلا ، لا يعد عبادة إلا إذا قرّر الشارع اعتباره كذلك.

وقلنا : «السجود العباديّ للشيء» ، لكي لا يشتبه مرادنا بكلمة السجود إلى الشيء ، بمعنى جعله قبلة ، حيث يكون المعبود والمسجود له شيئا آخر ، وتكون تلك القبلة مشيرة إليه ، ورمزا دالا عليه.

فالسجود العباديّ يكون بنفسه وبدون جعل جاعل محبوبا غاية الحب ، إذا كان سجودا وعبادة لله تعالى ، ويكون بنفسه مبغوضا غاية البغض ، إذا كان سجودا عباديا لغيره سبحانه.

«وَسَبِّحْهُ» :

ويلاحظ : أنه تعالى بعد أن طلب السجود ، والعبادة ، والخضوع المطلق من الذاكر ، عاد فطلب منه تسبيحه تعالى .. ولم يطلب منه حمدا ، ولا دعاء ، ولا صلاة.

والتسبيح معناه : أنّ جميع صفات الفعل ، وصفات الذات التي دلّت عليها الأسماء لا بد أن تنتهي إلى تنزيه الله سبحانه عن كل نقص ، فإثبات صفة الكريم ، تعني تنزّهه عن الصفة المناقضة لها ، وإثبات صفة العزة تنزّهه عن الذل ، وصفة القوي تنفي الضعف ، وصفة القادر تنفي العجز ، وصفة العدل تنفي عنه الظلم .. وهكذا الحال في سائر الصفات والأسماء.

فإثبات الصفات له سبحانه ملازم لمعرفته تعالى معرفة أتم ، وبمستوى يليق به جل جلاله .. وذلك لأن التنزيه التام من شأنه أن يصون المعرفة الناشئة عن ذكر اسمه ، ويصون عبادته ، والخضوع والتسليم التّام له ..

«لَيْلاً طَوِيلاً» :

ومما تقدم يتضح لنا بعض السبب في أنه تعالى ، قد قرّر أن يكون هذا التسبيح مستغرقا لجميع آنات الليل بما هو ممتد وطويل : (لَيْلاً طَوِيلاً) ، ليصبح كل آن منه مفعما بتنزيهه تعالى .. إذ بالليل يشعر الإنسان بضعفه ، ويشعر بحاجته إلى النوم ، وافتقاره إلى الحافظ والحامي ، وهو الله الذي : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (١).

وليس بالضرورة أن يكون هذا التسبيح عملا جوارحيا ، بل هو بالدرجة الأولى عمل جوانحيّ ، يتّصل بالمعرفة له تعالى معرفة صحيحة ، وصافية ، وخالية من أيّة شائبة ..

وهذا الصفاء لا بدّ له من ظروف وأجواء مناسبة له ، يعيش فيها الإنسان حالة التفكّر العميق ، والتأمّل الواعي .. والإدراك والشعور المتنامي به تعالى ، وهو شعور لا بد أن يبقى ويستمر محتفظا بقوته وبحيويّته .. حيث يكون الوقت المناسب لذلك هو الليل ، من حيث إنه هو الذي يهيّء لاستقرار هذا التنزيه في النفس ، ويطول مكثه في الضمير ، وفي القلب ، وفي المشاعر.

وهذه المعرفة هي الأساس لكل نعمة وتفضّل إلهي ، لأنها هي التي تنتج التقوى ، والتقوى تنتج السلوك والطاعة والالتزام. وهي التي تصنع الأحاسيس والمشاعر.

* * *

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٥٥.

الفصل السابع والعشرون :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)

قوله تعالى :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.)

«إِنَّ هؤُلاءِ» :

ويثور أمامنا سؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر الآثم والكفور بصيغة المفرد .. ولكنه قد تحدث هنا عنهما بصيغة الجمع ، فقال : (إن هؤلاء يحبون ، يذرون ، خلقناهم) إلخ ..

ويمكن أن يقال : إن الآثم والكفور ، وإن كان مفردا ، لكنه أريد منه الاستغراق للأفراد على سبيل البدل ، ليكون النهي شاملا لكل فرد منهم ، فلا يتوهم متوهم : أن النهي إنما هو عن إطاعتهم فيما اجتمعت كلمتهم عليه ، وليس نهيا عن إطاعة بعض الأفراد في بعض الأمور ، فهو إذن مفرد في قوة الجمع ، فصح وصفه بصيغة الجمع على النحو الذي ذكرناه ..

ويمكن أن يتضح ذلك : إذا لاحظنا أنه حين يريد الآثمون والكافرون أن يطلبوا من النبي أمورا لا مبرر لها ، فإن هذا الطلب إنما يكون بواسطة أفرادهم ، فردا فردا ، حين يتخذون لأنفسهم صفة الناصح ، والغيور ، والمحذّر ، ونحو ذلك .. وهم أفراد كثيرون يصح الإخبار عنهم بصيغة الفرد تارة ، وبصيغة الجمع تارة أخرى ..

فاذا أريد الإلماح إلى كثرة أفرادهم جيء بصيغة الجمع فقيل : هؤلاء يحبون الخ .. وإذا أريد الإلماح إلى نوع صفتهم الظاهرة والتعامل معهم كأفراد ، جيء بصفة الفرد ، فقيل : آثما أو كفورا ، ليكون النهي عن الإطاعة

مستغرقا لجميع الأفراد ، قطعا لمادة فسادهم ، وإفسادهم ..

أو يقال : إن من الممكن أن يكون تكرر نفس طلب الآثم والكفور من قبل أفراد آخرين ، قد صحح أن يخبر عن جماعتهم بصيغ الجمع هنا ، وأن يقول لنبيه هناك : لا تطع هذا الذي يعرضه عليك الآثم والكفور ..

أو يقال : إنه يريد أن يشير إلى أن هؤلاء الأفراد إنما يطلبون منك ذلك ، لا من عند أنفسهم بل هم متواطئون مع غيرهم على مواجهتك بمثل هذه المطالب.

«هؤلاء» :

ولعلك تسأل : لماذا أتى بكلمة هؤلاء التي تستعمل للإشارة ، ولم يقل : إنهم يحبون ..

وقد يجاب عن ذلك : بأن المقام مقام التحقير ، والاستهانة بهؤلاء المنحرفين ، وقد أريد أن يؤتى بكلمة تتوافق مع هذا الأمر ، وتتناغم معه .. وكلمة هؤلاء إذا وردت في مقام المهانة والاستهانة فإنها تستبطن تحقير المشار إليهم ، والاستخفاف بهم ، وتصغير شأنهم. لأن القريب ، يهمل أمره ، ويحتقر ، حيث إنه لا يعتنى به لابتذاله ، ودنو مرتبته ، وسفالة درجته ، أما من يكون له قدر عال ، فيحتاج الوصول إليه إلى وسائط أكثر ، وإلى معاناة أشد ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ..) (١) (قبّح الله من قال هذا من المشركين وغيرهم).

والأمر ههنا أيضا كذلك ، فإن وصفهم أيضا ، بأنهم يحبون العاجلة ، ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، يشير إلى أنهم في موقع المهانة والحقارة ،

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٣٦.

لأن فعلهم هذا يتناقض مع ما تحكم به عقولهم ، وما تقتضيه فطرتهم. فهم ينطلقون في موقفهم هذا من دواعي الشهوة ، والغريزة ، والهوى. لا من منطلق الفكر والتعقل ، وحساب العواقب ، كما أوضحه قوله تعالى :

يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ :

أي ما هو حاضر لهم من أمور تلائم الهوى والغريزة والشهوة ، ويتركون اليوم الثقيل الذي يأتي من ورائهم .. وهذا خلاف ما تقضي به عقول البشر ..

وذلك دليل واضح على عدم إمكان الأخذ بأقوالهم ، أو الاستجابة إلى طلباتهم ، فيكون هذا بمثابة التعليل لقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ..) فإنّ نفس كونه آثما أو كفورا يستبطن عدم جواز طاعته ، بحكم العقل ، والشرع ، والوجدان ، ويدخل قوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) في دائرة الأوامر الإرشادية ، والقضايا التي تكون قياساتها معها. ويمكن لكل الناس أن يتخذوا منها عبرة وتوجيها ، ونهجا.

لماذا لم يأت بلام التعليل؟ :

وبعد ما تقدم نقول : إنه لا حاجة إلى الإتيان بلام التعليل بأن يقال : «لا تطع هؤلاء ؛ لأنهم يحبون العاجلة» إلخ ..

وذلك لأن الإتيان بها قد يوهم أنه تعليل للنهي عن الإطاعة ، مع أن المقصود هو بيان حقيقتهم مطلقا. وجعل المورد مصداقا لذلك البيان المطلق ..

وذلك يفيد : أن هذا هو حالهم في كل أمورهم. وأنهم يتعاملون في مختلف الموارد بمنطق الهوى ، والشهوات ، ولا يزنون الأمور بميزان صحيح. ولا يختص ذلك بمورد النهي في الآية ، ولو أنه جاء بلام التعليل

فلربما توهم البعض هذا الاختصاص.

الاقتصار على العاجلة :

وقد يسأل سائل : عن السبب في الاقتصار على ذكر حبهم للعاجلة ، حيث لم يصف العاجلة بأي وصف آخر ، ولا جعلها وصفا لشيء محدد ، فلم يقل : يحبون الفائدة ، أو المصلحة أو المنفعة العاجلة ، أو نحو ذلك.

والجواب : أنه تعالى لا يريد أن يسجل أي اعتراف بوجود أي نفع ، أو أي حسن ، أو صلاحية في تلك الأمور التي يحبونها ، فكان أن اقتصر على صفة العاجلة .. التي قد تفيد أيضا : تسرّعهم ، وعدم التفكير بالعواقب .. وذلك يحمل في طياته أخطارا حقيقية لهم ، فلعل ما أحبوه من العاجلة كان سما قاتلا لهم. لما فيه من المفسدة العظيمة ، فإن الربا مثلا فيه ـ بنظر هؤلاء ـ منفعة عاجلة ، واستفادة أموال .. ولكنه يسحت البركة ، والدين ، وكل شيء ، كما أن الشراب المحرم أيضا قد ينتهي بالإنسان إلى أوخم العواقب ..

وذلك كله يفيد : أنه تعالى حين اكتفى بكلمة العاجلة ، فإنما أراد أن لا يفسح المجال لأي توهم لأية درجة من الصوابية في اختيارهم هذا .. بل هو تخطئة تامة وشاملة.

وبذلك يسد باب الترجيح ، ولو من خلال التعبير الذي تميل إليه النفوس ، بدوافع شهوية ، أو غرائزية .. وبذلك يكون قد تم التحاشي حتى عن الإيحاء بما يوافق الهوى ..

كما أنه يستبطن درجة من التنفير عن هذا الحال المتناهي في السوء. وذلك لما يتضمنه من الإيحاء بالخطورة الناشئة عن الاندفاع الغرائزي أو الشهوي ، أو نحو ذلك ، بسبب ما تحمله العاقبة من مفاجآت

صعبة ، وربما تكون كارثية .. وهذه العاقبة ناشئة عن عدم التدبر والتأمل في العواقب ، وعدم معرفة الصالح من غيره ..

والذي دلنا على ذلك بصورة أوضح وأصرح هو قوله تعالى :

«وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً» :

حيث لم يذكر الله سبحانه هنا : إلا حب هؤلاء للعاجلة ، ولم يشر إلى حصولهم عليها ، ووصولهم إليها وعدمه ، ولعله من أجل أن لا يمر في وهم أحد أن ثمة لذة من وراء ذلك الحصول ، تدعو إلى ترجيح اختيار العاجلة .. بل المطلوب هو إفهام الناس أن هذه اللذة مشكوك فيها أيضا ، بل يكون فيها البوار والهلاك لنفس الطالب والراغب ، إذ أية لذة لهم في أن يترك هذا النبي ـ مثلا ـ دعوته إلى طاعة الله ، والتزام أوامره تعالى ونواهيه؟!. إلا الضرر والبلاء ، والبوار للناس جميعا ، ومنهم نفس هؤلاء الدعاة إلى ذلك ..

ولعل ثمة وهما يراود مخيلتهم بوجود لذة مستقبلية فاندفعوا من أجله إلى هذا التصرف ولكنهم بعد أن ظهر لهم : عكس ما توهموه. فما معنى إصرارهم على ممارسة كل هذه الضغوط على هذا النبي الكريم والعظيم ليتخلى عن دعوته؟!. ألا يعد تصرفهم هذا من أقبح الأمور؟! فكيف إذا استمروا مصرّين على ذلك ، إلى حدّ إشعال الحروب ، وإزهاق الأرواح. وربما يكونون هم أول ضحاياها ، وأول من يحترق بنارها ، ويكونون أسوأ وقود لها.

فهل حب العاجلة المستند إلى مجرد خيالات وتوهمات ، يدعو إلى مثل هذه التصرفات غير المعقولة؟ ، حتى قبل أن يتحققوا من صدق هذا النبي ، وصحة ما جاءهم به ، وما وعدهم أو توعدهم به.

وهل هناك سقوط وخذلان وإسفاف أعظم من هذا؟! ..

ولأجل ذلك جاء التعبير باسم الإشارة الذي قد يفيد التحقير في مثل هذه الموارد ..

«ويذرون» :

ويزيد وضوح هذا الأمر من خلال التعبير بكلمتي «يذرون» و «وراءهم» .. دون كلمة «يتركون» ، لأن كلمة ترك إنما يؤتى بها في مورد يكون للشيء خصوصية وأهمية ، ثم يصرف النظر عنه ، لسبب اقتضى ذلك ، فيقال : ترك.

وأما إذا لم يكن للشيء أية أهمية أو دور ـ بنظر هؤلاء ـ فالتعبير الأنسب عنه هو أن يقال : يذره. ولأجل ذلك قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١). أي لا تشغل بالك بهم ، ولا تهتم لهم ، لأنهم لا يستحقون الاهتمام.

ولذلك قال هنا : يذرون من ورائهم ، أي يتركونه غير مكترثين به ولا مهتمين له ، بل إنهم لم يكونوا قد التفتوا إليه ، أو حصلوا عليه .. رغم أنه ثقيل ، ومهم جدا ، وهذا غاية في تصوير إسفاف هؤلاء الناس ، وسقوط آرائهم ، وخزيهم ، بسبب إيثارهم شهواتهم على كل شيء ..

«وراءهم» :

ثم تأتي كلمة «وراءهم» لتظهر المزيد من قباحة فعلهم هذا وشناعته ، ولو لا أنه سبحانه قد أراد الإلماح إلى هذا السقوط لكان بالإمكان أن يقول : ويذرون يوما ثقيلا .. وانته الأمر ..

__________________

(١) سورة المدثر الآية ١١.

أضف إلى ذلك : أن كلمة «وراءهم» تفيد : أنهم ليس فقط يذرون ذلك اليوم الثقيل ، وإنما هم يجعلونه وراءهم أيضا ، والشيء الذي يكون وراء الإنسان لا يمكنه أن يراه ما دام كذلك.

ولعل هذا يشير إلى جهلهم به أيضا ، إذ إنه إذا كان هذا اليوم ثقيلا ، فكيف لا يلتفتون إليه ، ليزيلوا ثقله عن أنفسهم ، فهل يمكن أن يكونوا لا يشعرون بثقله هذا؟! .. أليس ذلك دليلا آخر على درجة انحطاطهم ، ومهانتهم ، وأن تفكيرهم قد أصبح معطلا تماما ، بل هو يسير باتجاه معاكس للاتجاه السليم؟! ..

«وراءهم» لماذا؟!

ولا ريب في أن اليوم الذي تركوه آت إليهم ، وهو يستقبلهم ويواجههم ، ولكنهم لا يشعرون به ، رغم أنه يلقي بثقله عليهم كأفراد ، فقد بطل إحساسهم بثقله أيضا ، كما بطلت رؤيتهم له .. وليس ثمة من وسيلة إدراك أقوى من الإحساس والمشاهدة ، فإذا تعطلتا ، حتى أصبح الشيء أو الأمر الحاضر الذي يفترض فيهم أن يروه لأنه أمامهم ـ اصح ـ مستحيل الرؤية ، فإن الإنسان يكون قد بلغ الغاية التي ما بعدها غاية في السوء والسقوط ..

«يوما» :

ثم إنه تعالى أشار إلى زمان ثقيل ، ولم يتحدث عن أحداث ، أو عن مسؤوليات .. مما يعني أن مستوى ثقل تلك الأحوال ، والأحداث ، والمسؤوليات قد تناهى وسرى إلى نفس الزمان الذي تقع فيه ، وأوجب ثقله أيضا ..

والزمان هو البوابة التي لا بد لهم من عبورها ، ولا مناص لهم منها ..

إن الإنسان قد يتمكن من الابتعاد عن موقع أو مكان ، وأن ينأى بنفسه

عن حدث يعرض له .. ولكنه لا يستطيع أن لا يمر في عمود الزمان .. فالعمى المطبق عن هذا الأمر ، يدلنا على عظيم البلاء الذي هم فيه ..

«ثقيلا» :

وقد أشرنا إلى بعض الحديث عن كلمة «ثقيلا» وظهر أنها تعبير عن عمق الإحساس بهذا الأمر ، وأنه داخل في عمق وجود الإنسان .. فهو ليس من قبيل ما يلمس ، أو يذاق أو يشم ، بل هو ثقل ، والثقل يشعر الإنسان به بكل وجوده ، وبواقع كيانه ، كما لا يخفى ..

* * *

الفصل الثامن والعشرون :

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)

قوله تعالى :

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً.)

«نَحْنُ خَلَقْناهُمْ» :

وبعد أن أشار الله سبحانه إلى أن الآثم والكفور يحاولان تعطيل مسيرة الهداية الإلهية ، وتحدث عن بعض حالاتهما ، وعن شخصيتهما غير المتوازنة ، وعن دواعيهما الشهوية والغريزية ، التي تؤثر عليهما في مختلف جهات السلوك. أعطى البرهان الصريح والصحيح على صحة ما ذكره سبحانه عن هذين الصنفين .. فقال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ..

فخلق الله تعالى لهم دليل على معرفته بهم ، وبحقيقة ذواتهم ، وبدخائلهم ، وبكل شيء يرتبط بهم ، لأنه في موقع الهيمنة ، والمالكية ، والخالقية ، والإشراف ، والإمساك بكل ذرات وجودهم.

فهو إذن لا يخبرنا عن ظنون وحدسيات استفادها من تقييم ودراسة حركاتهم الظاهرية ، ومقارنتها مع بعضها البعض. كما نفعل نحن البشر ، حين نحكم على إنسان بالشجاعة ، أو بالكرم ، أو بالعدالة والتقوى ، استنادا إلى مجموعة تصرفات وحركات .. جعلتنا نحدس بوجود تلك الصفات فيه ، مع أنه لا شيء ينفي لنا احتمال أن يكون في الأمر خدعة أو رياء ، وقد يتهم الولد أباه بالقسوة والغلظة عليه ، والبغض له ، بسبب معاملة له تهدف إلى تربيته تربية صالحة .. ولا يعرف أن قلبه يفيض

حنانا وحبا له ، حتى وهو ينهال عليه بالضرب الموجع ..

والخلاصة : أن من بنى شخصيتك ، ومارس تكوينك ، وركّبك وصوّرك ، لهو الأعمق معرفة بك ، ولذلك تحدث الله سبحانه هنا عن الخلق ، لا عن الهيمنة ، ولا عن المعرفة والعلم ..

وقد عبر بكلمة «نحن» ليظهر مقام عزته ، وكبريائه من جهة. وليفهمنا أيضا تسخير كل شيء وانقياده وخضوعه له .. فإذا ما كان لغيره تعالى نصيب من التكوين ، فإنما هو بالله ، ومن الله ، وبإذن منه تبارك وتعالى ..

«وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ» :

ولم يكتف بالإخبار عن مجرد الخلق على سبيل الإجمال .. بل هو تعالى قد أتبع ذلك بالإشارة إلى التدخل في رسم كل تفاصيل وجودهم من الداخل ، وبين لنا مستوى ربط كل شيء بالآخر. وحدد مدى تماسك وانشداد كل إلى كل .. فقال : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) والمراد بالأسر : الربط بقيد ، وقد يكون هذا الربط ضعيفا ، وربما يكون شديدا ..

وقد بين الله تعالى لنا : أنه قد ربط كل جهات وجودهم بأمور تضبطها ، وتخولها السير بالاتجاه الصحيح ، لو أراد لها الإنسان أن تواصل سيرها في ذلك الاتجاه ..

ومن الواضح : أن ضابطة ورابطة كل شيء بحسبه ، وبحسب ما يحتاج إليه ، فمنها التكويني ، والروحي ، والأخلاقي ، والفكري ، والمفاهيمي ، والاعتقادي .. بل ومنها ما هو اجتماعي ، وعاطفي ، وما إلى ذلك ، مما يكون له تأثير في جعل مسيرة الإنسان في الحياة بالاتجاه الصحيح ..

فالله إذن .. قد قوّى وأحكم تكوين هذا الإنسان ، ورسم وجوده بصورة قويمة ، وربط كل جهات وجوده بضوابط وروابط صحيحة قادرة على إنشاء علاقات سليمة له بكل ما يحيط به ، وما يعنيه ، وما يطمح إليه ..

ولم يقتصر تعالى على ذكر هذا الربط والأسر وحسب ، بل هو قد تجاوز ذلك ليؤكد على قوته وإحكامه ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن ثمة تعمدا للتوجيه نحو المعرفة الدقيقة ، بكل تفاصيل وجود هذا الإنسان ، وتعريفه بدرجة الهيمنة عليه ، بهدف إقناعه بأن عليه أن لا يتنكّر لهذه العلاقة العميقة له مع الله سبحانه ، وأن يستفيد من التوجيه الإلهي ، الذي لا بد أن يكون أصدق توجيه؟! ..

كما أن عليه أن يبقى في دائرة تلك الضوابط التي جعلها الله تعالى له ، لكي تحفظه من السقوط ، وتصونه من الزلل والخطل ..

إن التخلي عن تلك الضوابط ، التي هي ضوابط وجوده كجسد ، وروح ، وشهوة ، وغريزة ، وعاطفة ، ومجتمع .. و.. و.. إن ذلك تدمير لمواقع القوة في داخل وجوده ، وتمزيق لحقيقته ، وتشويه لفطرته ، وقطع للعلاقة مع تلك الضوابط .. سيؤدي بلا ريب ، إلى الوهن والضعف ، ثم إلى التمزق والتلاشي ، بعد أن كان في غاية الإحكام والقوة ، والانشداد والضبط ..

إن سعي الإنسان للقفز فوق هذه الضوابط والنواميس ـ بدلا من الاعتراف بها ، والانقياد لها ـ لهو جريمة كبرى ، ما بعدها جريمة ، يرتكبها في حق نفسه ..

«وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً» :

ثم أشار الله تعالى إلى استمرار وثبات ، هذا التفضل الإلهي على البشر جميعا ، أفرادا وجماعات بالخلق ، وبشد الأسر ، حتى إذا أراد

الإنسان أن يتمرد ، وأن يسعى في إتلاف هذه الطاقات والقدرات ، أو إحداث الوهن والضعف في ذلك الأسر المشدود ، من خلال قطع علاقته بتلك الروابط ليصبح في مهب الريح .. ـ إذا أراد الإنسان ذلك ـ فإنه سوف لن يغير شيئا في واقع السياسة الإلهية في الخلق ، ولن يؤدي إلى الحرمان من شد الأسر. بل سوف يبقى ذلك رهنا بمشيئته سبحانه ..

أضف إلى ذلك : أن شد الأسر معناه : أن مجرد إفاضة الخلق على العباد ، ليس هو آخر صلة لله بعباده .. بل الصلة تبقى وتستمر من أجل شد الأسر الذي أشار الله تعالى إليه بقوله : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ..

ثم تمتد هذه العلاقة وتزداد تجذرا ، وعمقا بامتداد الزمن ، وبمقدار ما يتعرض له الإنسان من نجاحات وانتكاسات ، فيما يرتبط بشد الأسر ، أو بإضعافه ..

وبذلك يكون سبحانه قد أفهم الكفور والآثم ، أنه بكفره وطغيانه لا يقدر على قطع علاقته بالله ، ولا يستطيع أن يضعف هيمنة الله عليه ، وأن يبطل مالكيته له. فهو دائما في قبضته ، وهو مقهور لإرادته.

وخروج العبد عن زي العبودية لا يعني أن ثمة تفوقا وغلبة لإرادة العبد على الله ، بل هو يعني : أن الله سبحانه يعامله بما أخذه على نفسه ، فيما يرتبط بمعاملة المسرفين والجاحدين ..

الأسر الإلهي :

وغني عن البيان : أن أسر الله للإنسان يختلف عن أسر الناس لبعضهم بعضا ، فإن أسر الناس لبعضهم معناه أن الآسر يقهر إرادة المأسور فقط ، بهدف منعه عن ممارسة حريته ، وسلب اختياره .. ولكن أسر الله للناس داخل في أصل تكوينهم ، وفي واقع خلقهم وخلقتهم ، ثم

هو في نفس الوقت يعطيهم الخيار والاختيار ..

فمعصية الإنسان لله لا تعني تحرره من السيطرة الإلهية ، ولا إلغاء الهيمنة المرتكزة إلى مقتضيات الخالقية والتكوين. بل هو خروج من طرف واحد وهو العاصي نفسه ، دون أن يسقط إرادته تعالى عن التأثير. وإن عاملك الله باللطف والرأفة ..

أما عصيان الناس لبعضهم بعضا ، ورفضهم للأسر ، فهو يستبطن الخروج عن إرادة الآسر بكل المعاني المفروضة والمقترحة ، وهذا هو الفرق بين عصيان المخلوق لخالقه ، وعصيان الإنسان للحاكم والمتسلط عليه ..

«وإذا» :

وكلمة «وإذا» الشرطية تستعمل في مقام الجزم والحتم بحصول الشرط ، وقد استخدمت هنا ، للإلماح إلى أن هذا التبديل جزمي وحتمي ، بمجرد حصول الإرادة التكوينية الإلهية ..

«بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ» :

وقد دل على ذلك تأكيده بالمفعول المطلق ، وهو قوله تعالى : «تبديلا» .. بالإضافة إلى أن نفس خالقيته تعالى لهم ، وشده لأسرهم ، تدل دلالة صريحة على قدرته على هذا التبديل ، وعلى أنه يفعله حتما ، إذا تعلقت مشيئته سبحانه به ، خصوصا مع بيان أن التدخل الإلهي لا يقتصر على مجرد الخلق ، بل هو تدخل مستمر في جميع التفاصيل والمكونات لحقيقة المخلوق وكنهه ، كما دل عليه قوله تعالى : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ..

«بدّلنا» :

وأما لماذا اختار تعالى خصوص تبديل أمثالهم ، ولم يشر إلى مواجهتهم بالعقوبات ، بسبب طغيانهم فلم يقل : نعاقبهم ، نهلكهم ، ننتقم

منهم ، نقهرهم ، نجبرهم؟ فلعل السبب في ذلك : هو أن هذه السورة تريد أن تؤكد على أن الله تعالى قد رعى مسيرة هذا الإنسان في هذه الحياة ، ولم يرض منه بالعبث في هذا الكون ، بل أراد منه أن يعمره ، وأن يصل به إلى الأهداف الإلهية السامية بالطرق الطبيعية والصحيحة ..

ثم أشار تعالى إلى أنه لن يتساهل مع أولئك الذين يريدون عرقلة هذه المسيرة ، عن طريق الإثم والإصرار على الكفران المتكرر ، مهددا إياهم بأنه قادر على تبديلهم بأمثالهم ، وذلك لكي يفهمهم :

١ ـ عموم قدرته تعالى ، من حيث إنه قادر على التصرف بهم ، كما أنه قادر على التصرف بمن هم أمثالهم :

٢ ـ إن التبديل العام يأتي من موقع البصيرة ، والحكمة ، والهيمنة .. وهذا يعطي : أن ثمة قدرة على الإهلاك ، والانتقام ؛ إذا اقتضت الحكمة والرحمة ذلك ..

٣ ـ إن ذلك يستبطن إعلامهم بأن مشروعهم التخريبي لن ينجح ..

٤ ـ إن عدم نجاح مشروعهم يرجع إلى عجزهم ، وإلى امتداد قدرة الله سبحانه ..

٥ ـ إن هذا معناه الخيبة لآمالهم ، وسقوط طموحاتهم ، وبث اليأس في نفوسهم ، الأمر الذي يفرض عليهم أن لا يتحمسوا لطمس معالم هذا الدين ، وعدم ممارسة الضغوط على الدعاة إلى الله سبحانه ، والعاملين في سبيل بث الهدى في الناس ..

٦ ـ وهو أيضا من موجبات عذابهم ، وبعث الألم في نفوسهم ، ومواجهتهم بعذاب الحرمان من اللطف والهداية ، والسّلام ، والسكينة ، وعذاب الخيبة والفشل .. والعيش في ظل شقاء الضلالة ، والكفران ،

والإثم ، وعذاب الخزي في الدنيا والآخرة ..

ثم إن مجرد أن يحيق بهم ما كانوا به يستهزؤون ، وخسرانهم لأنفسهم ، سيزيد في آلامهم ، وسيضاعف من عذابهم أيضا ..

وحين يرون نعم الله تعالى تظهر على من كانوا يحتقرونهم ، ويذلونهم ، وينأون بأنفسهم عنهم ، فإن ذلك سيشكل مرتبة أخرى من مراتب عذاب الحسرة والندامة ، والحسد ، وما إلى ذلك .. تماما كما وعد الله سبحانه : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (١).

«أمثالهم» :

ويبقى السؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر تبديل الأمثال ، ولم يذكر تبديلهم هم أنفسهم ..

ولعل بالإمكان الإجابة عن ذلك بالقول : إنه تعالى أراد أن يعطي قاعدة تشمل الناس جميعا ، من خلال كلامه عن تبديل الأمثال ، فإن التبديل إذا كان ممكنا في النظير والمثيل ، فإنه سوف يكون ممكنا في نظيره ومثيله الآخر ..

وقد قرن هذا البيان بالدليل الحسي ، وهو أن الخالق لهم من العدم ، لا يمكن أن يعجز عن تبديل ما خلق ، كما أن الذي أحكم وشد أسرهم ، لا بد أنه عالم ومتصرف في تفاصيل حقيقتهم ، وواقف على كنه وجودهم. ومن كان كذلك ، فإنه قادر على تبديل أمثالهم ..

ولو أنه تعالى اقتصر على ذكر تبديل خصوص الآثم والكفور ، فلربما يتخيل متخيل : أن ثمة ضعفا في هؤلاء الناس أقدره على هذا

__________________

(١) سورة محمد الآية ٣٨.

التصرف فيهم ، وذلك لا يعني عموم قدرته إلى من عداهم ..

فجاء هذا التعميم المستند إلى ذلك الاستدلال ، ليشير إلى سهولة مثل هذا التبديل العام ، فضلا عن سهولة تبديل الآثم والكفور الذي قطع روابطه مع الضوابط والمعايير الشرعية ، والتكوينية ، والفطرية .. الخ .. فأصبح على درجة من التراخي والضعف ، تجعل تبديله أيسر من تبديل من عداه ..

«تبديلا» :

وقد جاء التأكيد بكلمة «تبديلا» التي هي مفعول مطلق ، ليدل على أن هذا الكلام لا يجري على سبيل المبالغة ، أو المجاز ، أو الكناية عما هو أدنى من ذلك ، بل هو مقصود بكل تفاصيله ، وهو جار على سبيل الحقيقة.

فلا معنى لتوهم أن يكون المراد تبديل الأوضاع والأحوال المعيشية مثلا ، كتبديل الغنى بالفقر ، والصحة بالمرض ، وتبديل العادات ، أو السياسات .. بل المراد التبديل الحقيقي ، الذي يطال أصل الخلقة والكيان الإنساني كله ..

وهذا يستبطن التهديد لهؤلاء الناس : حتى لا يتمادوا في غيهم ، ولا يستسهل الآخرون طريقتهم ..

* * *

الفصل التاسع والعشرون :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)

قوله تعالى :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ» :

إننا نبين ما نرمي إليه ضمن النقاط التالية :

١ ـ إن التأكيد هنا على أن هذه تذكرة ، لا يخلو عن لحن تهديد للآثم والكفور .. ولا سيما بملاحظة قوله تعالى آنفا : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ..) وكذلك قوله تعالى الآتي : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ..)

٢ ـ إنه تعالى إنما يريد أن يذكّرهم بذلك اليوم الثقيل ، لكي لا ينساقوا وراء حبهم للعاجلة ..

٣ ـ وكلمة «تذكرة» مثل : كلمة : «تمرة» ، «ضربة». جاء بها مع تاء الوحدة ، ليفيد أنها هي التذكرة الوحيدة المتبقية التي يمكن أن تكون نافعة لهم ، فإن لم تؤثر فيهم ، فلا مطمع بعدها بهدايتهم ، وما إلى ذلك.

فكأنه قال : إنه الإنذار الأخير ، والفرصة الأخيرة ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، وإلا فإن عليه أن يواجه عواقب ضياع هذه الفرصة ..

أو أنه يريد أن يقول : إنها مجرد تذكرة خالصة ، وليس لها أية أهداف أخرى ، سوى ما للتذكرة من أهداف.

وقد يستظهر أن الهدف هو إفادة هذا من المعنيين معا ..

٤ ـ وقد أنث الضمير في كلمة «هذه» فيحتمل أن يكون بملاحظة كلمة تذكرة ..

ويحتمل أن يكون هناك تقدير لكلمة يناسبها ضمير التأنيث ، مثل كلمة «الحقائق» ، أو كلمة «القضايا» .. أو نحو ذلك. أي أن هذه الحقائق التي بيّناها إنما هي تذكرة ..

التذكير ، بماذا؟! :

وهنا سؤال يقول : إن كلمة تذكرة ، مأخوذة من الذكرى التي تعني أن ثمة أمرا قد مر على الذهن ، فما هي الأمور التي يريد الله أن يذكرهم بها هنا؟!

والجواب :

أن المناسب للاعتبار هنا هو أن يكون المراد : التذكير بالمعاني والهدايات المركوزة في العقول ، وفي داخل الوجدان ، والفطرة ، ونحو ذلك مما يمكن القول بأنه قد سبقت له به معرفة ..

والسؤال هو : كيف أصبحت الحقائق المذكورة في هذه السورة ، من معارف البشر ، جميعا ، بمن فيهم الآثم والكفور؟! ..

ويمكن أن يجاب : بأن ما تحدثت عنه الآيات إنما هو أمور يعرفها الإنسان ويدركها بعقله ، أو تقضي بها فطرته ، أو لمسها ومارسها في حياته ..

ومراجعة الآيات من أول السورة إلى نهايتها ، خير شاهد على ما نقول :

فإنها بدأت بالحديث عن خلق الإنسان ، وعن رعايته ، واستثارة فطرته ، وعقله ، ليلتفت إلى وجود الله ، وإلى صفاته الألوهية ، وخالقيته ، وإلى دقة صنعه ، وحكمته ..

وذلك يقتضي وجود هدف ، فإن الحكيم لا يمارس العبث ..

والهدف يحتاج إلى هداية إليه ، ثم إلى إلزام وتكليف بالوصول إليه. كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ..

وذلك يحتاج إلى أنبياء ورسل وأدلاء ..

ثم يأتي دور اختيار الاستجابة ، أو اختيار التمرد ، الذي يستتبع حسابا ، وثوابا ، وعقابا ، ويفرض بعثا ، ونشورا .. إلى كثير من الأمور التي يدركها العقل ، أو تقتضيها الفطرة ، والوجدان ، والتدبير ، وغير ذلك.

ومن الواضح : أن أحكام العقل والفطرة والوجدان لا تحتاج إلى أكثر من التذكير بها والتوجيه نحوها.

وهذا ما حصل فعلا هنا .. فإنه تعالى لم يورد ذلك كله كجزاء لا يعرف الإنسان عن حقيقته شيئا ، ويجد نفسه في فسحة من أمر التصديق والالتزام به .. بل أورد له حقائق ونبهه إلى أمور يجدها حاضرة لديه ، يحكم بها عقله ، وقائمة في عمق وجدانه وفطرته ..

وحين يكون هناك شيء يراد حفظه ، وغاية يراد الوصول إليها ، فإن الحكيم يتوسل بما يحفظ له تلك الغاية من الضياع ، فتأتي التذكرة هنا لحفظ الهدف الإلهي من الضياع ، بالدلالة على مناشئه ، وحالاته ، والمؤثرات فيه ، والمؤشرات له ، والهدايات إليه بواسطة الأنبياء ، وغير ذلك من أسباب حفظ الهدف الكبير والأهم والأعظم ، الذي أشار إليه قوله تعالى هنا :

«فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً» :

فقد دل هذا التعبير على أن المقصود من كل هذه البيانات ـ من أول السورة إلى هنا ـ هو أن يتخذ الإنسان السبيل إلى الله سبحانه ..

ولتوضيح بعض ما ألمحت إليه هذه الآية الشريفة ، نقول :

«فمن» :

١ ـ إنه أتى بفاء التفريع هنا ليفيد : أنه بعد أن أيقظ في الإنسان فطرته ، وواجهه بما يحكم عقله ، وذكّره بما هو مركوز في ضميره ، ومستقر في عمق نفسه ، فإنه يكون بذلك قد جعله أمام مسؤولياته ، ليختار مصيره ، ومسيره بنفسه ، بوعي تام ، ومع التفات واستحضار لعناصر القرار ..

وهذا التفريع بالفاء إنما هو على التذكرة بما تقتضيه الفطرة ، والعقل ، والوجدان ، ويشاهد بالعيان ، وليس تفريعا على الإخبارات التي ذكرت في الآية.

٢ ـ إنه تعالى لم يذكر هنا سوى خيار واحد ، وهو اتخاذ السبيل إلى الله سبحانه .. وهو خيار من يريد أن ينسجم مع فطرته وعقله ، وكل الواقع الذي عاشه ، ولمس الحقائق فيه ..

ذلك من جهة أن أي سبيل آخر ، سوف لا يوصل إلى هدف مقبول ، ومعقول ومرضي لأي إنسان عاقل وحكيم ، بل هو سوف ينتهي إلى ضد المراد ، حيث يؤدي حتما إلى الدمار والبوار ..

٣ ـ إنه بعد أن ذكّر الإنسان بما تقدمت الإشارة إليه أطلق له المشيئة لإتخاذ السبيل باختياره ، فقال : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، إذ لا موضع للإكراه ، لأنه يوجب تضييع الهدف وعدم الوصول ..

ومشيئة اتخاذ السبيل هنا تتحقق بالانقياد لأحكام العقل ، والخضوع لمقتضى الفطرة ، والتسليم لأحكام الشرع ..

وفي مقابل ذلك يكون الإخلاد إلى الأرض ، وعدم الانقياد ..

ومما يشير إلى أن اتخاذ السبيل إنما هو بالاختيار قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) .. ويشير إليه أيضا نهيه تعالى عن إطاعة الآثم ، والكفور ،

وغير ذلك مما أشار إلى الضلال والهدى ، والوصول إلى الله.

وقد أشار إلى الاختيار في مرتبتين : إحداهما مرتبة المشيئة ، والأخرى مرتبة المباشرة وإنجاز الفعل ، وذلك يدل على الاختيار بصورة أصرح وأوضح ..

وكما أن اتخاذ السبيل ، يشير إلى الاختيار ، كذلك هو يشير إلى حصول المبادرة من نفس الإنسان ، ويشير أيضا إلى أنها بالإرادة ، والعمد ، والتكلف للفعل.

٤ ـ إنه تعالى ، لم يذكر هنا الهداية إلى السبيل ، بل ذكر اتخاذ السبيل ، وذلك لأن الهداية متحققة ، ولا يحتاج إلى أكثر من التذكرة بها ، ولو لمرة واحدة ، فإن ذلك يكفي لأن تحضر الحقيقة كلها أمامه ، كأشد ما يكون الحضور ..

٥ ـ إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من المبادرة إلى السبيل ، والاتخاذ له. وهذا يشير إلى حتمية الالتزام والبناء القلبي ، الذي يعطي العمل رونقا ، ويكون التعرض لإنجاز الفعل بدافع من المحبة ، لتتناغم الحركة الجوارحية مع المتابعة الجوانحية الحنونة ، فيعيشه في داخل روحه ، وفي صميم مشاعره وأحاسيسه ..

فلا يكون العمل روتينيا ، خاويا ، وجافا فارغا ، بل هو حركة مترافقة مع السبحات الروحية ، والنبضات الإيمانية اللذيذة والحية .. ليصبح جزءا من الكيان الإنساني وليسهم في صنع إنسانية الإنسان ، فيكون ضميره ، ووجدانه ، ومشاعره ، وعقله ، وروحه ، وسلوكه ، بكل ما لهذه الكلمات من دلالات .. وهذا يتناسب مع كون المقام مقام حث على الوصول إلى الله ، والاتصال به ، حيث لا يكفي في ذلك مجرد الحركة الجوارحية ، بل هو

يحتاج إلى حركة القلب والمشاعر أيضا ..

ولأجل ذلك لم يقل : من شاء سلك سبيلا لأن المهم ليس هو مجرد السلوك ..

٦ ـ وقد قال تعالى : «إلى ربّه» ولم يقل : «إلى الله» ربما ليثير في الإنسان شعورا بأنه يسير في ذلك السبيل ، ليلتقي جهده وسعيه ، بتوفيقات ، وتسديدات ، ورعاية مدبره الذي يعرف أنه القيوم ، القادر ، الرحيم ، والعليم ، الحكيم و.. و.. وأن هذه الصفات الربوبية لا بد أن تسهم في إيصاله إلى كماله ، وإلى أهدافه السامية ، من موقع المحبة والتدبير الحكيم ، من القادر ، العليم ، الرحيم .. لأن المقام مقام طلب وسعي وإعداد للنفس وتأهيلها لمواجهة كرامة الله ، ولتصبح موضعا لرحمته ، وألطافه وعناياته ، الأمر الذي يفرض إعادة بناء كل هذا الكيان الإنساني وصياغته وفق المواصفات المطلوبة لمن يريد تلك المقامات ..

ومن الواضح : أن الذي لا بد أن يتولى ذلك ، فيعطينا كمالاتنا ، ويرفع عجزنا ، ويقوي ضعفنا ، ويزيل نقصنا ، هو القوي ، الخالق ، الحميد ، المجيد ، العليم ، الحكيم ، المدبر ، الغني ، الحليم ، الكريم ، الرحيم ، المتصف بسائر صفات الربوبية ..

ولا بد أن يتبلور الإحساس بمقام الربوبية ، الذي له هذه الصفات ، في مواقع التحدي والذي نواجهه من داخل أنفسنا ، بما تجنده ضد هذا المسار ، من دوافع شهوية ، وغرائزية ، يشد من أزرها المغريات القوية التي تحيط بنا من كل جانب ومكان ..

إن شعورنا بأننا نعيش في كنف مزايا الربوبية تلك ، يشعرنا بالأمن ، ويعطينا المزيد من القوة والصمود في مواجهة التحديات ..

فلو أنه قال : «يتخذ إلى الله سبيلا» .. فإن لفظ الجلالة «الله» سوف لا يكون ظاهر الإيحاء بهذه المزايا .. بل إن المعاني الظاهرة لهم فيه ، ـ وهي جليلة وجميلة أيضا ـ تحتاج لكي توصلهم إلى مزايا الربوبية ، إلى مزيد من التأمل والوعي والتدقيق ، الذي قد لا يتوفر لدى كثير من الناس ..

فاقتضى اللطف والعطف الإلهي مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، واختيرت كلمة الرب هنا من أجل تيسير وصولهم إليه تعالى ، ووعي مقام ربوبيته من خلال نعمه ، وألطافه ..

٧ ـ ويلاحظ : أن الحديث هنا عن السبيل قد جاء منونا بتنوين التنكير ، الأمر الذي يفهم منه : أن هناك سبلا عديدة إلى الله تعالى .. مع أن السبيل إلى الله تعالى واحد ، فقد قال في موضع آخر : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) (١).

قال سبحانه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢).

غير أن التأمل في مجموع الآيات الشريفة يزيل هذه الشبهة ، إذ إن الله سبحانه قد قال أيضا : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٣).

وذلك معناه : أن اختلاف الإضافة قد أوجب اختلاف التعبير ، أي أنه تارة يراد إظهار النسبة إلى السبيل المتصل بالله ، والموصل إليه ، وحصر النجاة بما كان متصلا به تعالى ، فالمناسب هو الإتيان بصيغة المفرد

__________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٨.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٥٣.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٦٩.

باعتبار أن الطريق الموجب للنجاة هو فقط ما ينته إلى الله ، ويوصل إليه دون سواه ، فيقول : «هذه سبيلي» .. ويقول : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ..

وأخرى يراد الحديث عما يوصل إلى غير الله ، فهو متكثر بتكثر الغايات والأهداف .. فيذكر ذلك بصيغة الجمع ، فيقال : «سبل» ..

وتارة ثالثة ينظر إلى نفس ما يوصل إلى الله سبحانه مما قررته الشريعة ، فتلاحظ كل واحدة واحدة منها ، مثل الصلاة ، والزكاة ، والصدقات ، وتلاوة القرآن ، و.. و.. فيعبر عن هذه المفردات بصيغة الجمع ، فيقال : «سبلنا» ، و «سبل السّلام» ..

ولعله قد لوحظ في ذلك ما ألمحنا إليه فيما سبق ، من أن تنوع المستحبات إنما هو من أجل تمكين كل إنسان من أن يختار ما يناسب حاله منها حيث بها يكون سمو روحه ، وتصفية ، وتزكية نفسه ، فلذلك صح التعبير بصيغة الجمع ، فإن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق ..

٨ ـ وأما لماذا لم يقل : «يتخذ إلى الجنة سبيلا» ، بل قال تعالى : «إلى ربّه»؟! ، لأن تحديد الغاية بالله سبحانه ، من شأنه أن يحدد السبيل الذي يريد الساعي إلى الله أن يتخذه ، حيث يجد نفسه ملزما بإبقاء هذا السبيل في الدائرة التي يرضاها الله سبحانه .. الأمر الذي يحتم الرجوع إليه تعالى ، لتحديد السبيل الذي يرضيه ..

٩ ـ ثم إن في الآية انتقالا من ضمير المتكلم الحاضر ، وضمير

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٥٣.

الجمع .. إلى ضمير المفرد الغائب ..

فقد قال تعالى أولا : «شئنا». «بدّلنا». «شددنا». ثم قال هنا : «إلى ربّه» .. ولم يقل : «إلينا» ..

ولعل سر ذلك هو أنه حين كان يتكلم عن التصرف الإلهي ، فإن المناسب هو الإشارة إلى مقام العزة والعظمة ، وإلى التدبير من موقع الربوبية ووسائله وأدواته على قاعدة : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) ، التي هي بيده ، وطوع إرادته ..

وأما حين أراد أن يتكلم عن العبد في مسيره إلى ربه ، فقد كان لا بدّ من الإتيان بصيغة المفرد ، ليكون التوجه إليه هو تعالى دون سواه .. ولأن هذا المسير إنما يعني نفس العبد ، وذاته كشخص ، ويريد له أن يستفيد من هذا المسير في صناعة خصائصه وشخصيته ، وتأهيله لكرامة الله ، والحصول على السعادة في الدنيا ، والنجاة في الآخرة .. وهذا لا يناسب أن يتحدث عنه ضمن مجموعة أخرى ..

ولأجل ذلك خاطبه كفرد وقال : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) .. ولم يقل : «فمن شاؤا اتخذوا إلى ربهم» ..

أضف إلى ذلك : أن الفرد حين ينال ميزاته كإنسان ، لا تبقى للميزات الفردية تلك القيمة الكبيرة ، بل تتساقط الميزات والحدود ، ويتضاءل تأثيرها ، ويضعف ظهورها .. ويصبح الفرد بذلك أكثر اندماجا في الآخرين ، ولهذا البحث مجال آخر ..

١٠ ـ وهناك نقطة أخرى تحسن الإشارة إليها ، وهي أنه تعالى قد

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٥.

ذكر هنا الجزاء ، وحذف الشرط ، فإن التقدير : (مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) «اتخذه» ، فحذف الجزاء هنا إنما هو لمعلوميته من جهة ..

وربما ـ من جهة ثانية ـ : لأنه يراد الإيحاء بلزوم التسريع ، والمبادرة ، حيث لا يراد الفصل بين المبادرتين ، وبين الطلب حتى بمقدار أداء كلمة .. بسبب أهمية هذا الأمر ، فهو قد بادر إلى ذكر الجزاء ، واعتبر المبادرة إلى فعل الشرط ، أمرا مفروغا عنه ، لشدة ظهور ضروريته ..

من جهة ثالثة ، وهي الأهم ، أنه تعالى : لا يريد لخيار الرفض أن يمر في وهم هذا الإنسان ، الميال لجهة شهواته ، وملذاته ..

* * *

الفصل الثلاثون :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)

قوله تعالى :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.)

«وَما تَشاؤُنَ» :

لقد ظهر أن التعابير في الآيات الأخيرة قد جاءت بطريقة متفاوتة ، تتناسب مع طبيعة الخصوصيات التي يراد الإلماح إليها في كل مقام ، فقد كان التعبير عن مقام العزة الإلهية ، بضمير المتكلم ، وبصيغة الجمع : «أردنا» ، «بدّلنا» ، «شئنا». ثم جاء التعبير عنه بصيغة المفرد ، وبعنوان الربوبية ، فقال : «إلى ربّه» .. ثم عاد هنا ليتحدث بصيغة ثالثة ، وهي صفة الألوهية ، فقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..)

وكان الحديث أيضا عن الناس بضمير الغائب : «خلقناهم» ، «أسرهم» ، «أمثالهم» ثم تحول للحديث عن المفرد : «من شاء» ، «اتّخذ» ، «ربّه» ..

ثم عاد أخيرا ليتحدث عنهم بضمير الجمع مرة أخرى .. ولكنه اعتبرهم حاضرين ، ووجه إليهم الخطاب مباشرة ، فقال : (وَما تَشاؤُنَ) ..

وقد عرفنا : بعض السبب في إجراء الحديث بصيغة الغائب المفرد هناك ، والسبب في عودته هنا للخطاب لهم بضمير الجمع ، مشيرا إلى نفسه تعالى بواسطة لفظ الجلالة.

ولعل السبب في الإتيان بلفظ الجلالة هنا ، هو أن تأثير مشيئة الله سبحانه في مشيئة العبد ، إنما هو من موقع الخالقية التي تعني القدرة. وذلك يتناسب مع مقام الألوهية بصورة أتم وأوضح ..

جبرية المشيئة :

وربما يثار سؤال هنا عن : أن الآية قد دلت على توقف مشيئتنا على مشيئة الله سبحانه ، فهل معنى ذلك أن الله هو الذي يخلق فينا المشيئة بصورة جبرية ، ولا يبقى لنا اختيار؟! أم أنه يخلق فينا المشيئة ، ويبقي لنا الاختيار؟!

وإذا كان ذلك لا يضر بالاختيار ، فهل الاختيار سابق على المشيئة ، أم لا حق لها؟!

أي أن الجزء الأخير من العلة ، هل هو الإرادة ، أم الاختيار؟!

وبعبارة أخرى :

قد يقال : إن مشيئة الله هي التي توجد اقتضاء التأثير في مشيئة البشر ، فليس في إرادة العبد قوة ونشاط وقابلية أبدا إلا بإرادة الله سبحانه ، فتكون كالحديد إلى جنب النار ، فإن الحديد ليس فيه قابلية الاشتعال أبدا ..

وقد يقال : إن مشيئة الله شرط لحصول ذلك التأثير ، مع توفر الاقتضاء الذاتي في المشيئة البشرية .. وقد تتصور على نحو عدم المانع ، أي أن تأثير إرادة البشر متوقف على عدم وجود مانع يمنعها ، والمانع إنما هو مشيئة الله.

والظاهر هو الأول ، أي أن المشيئة الإلهية هي التي تعطي الاقتضاء لمشيئة الإنسان ، وتوجد الطاقة لدى العبد ، وتنتج القابلية وتوجدها في مشيئته ، وتصبح هذه المشيئة والإرادة مشحونة بالقوة ، قابلة للتأثير في إنتاج الفعل الخارجي ، ولكن بشرط أن يختار العبد أن تتعلق مشيئته ، أو إرادته هو بذلك الفعل. ليكون هذا التعلق بمثابة إشارة البدء ، والمباشرة ، والحركة المؤثرة ..

فإرادة الله سبحانه لم تتعلق بالفعل ، بل تعلقت بشحنك بالقوة المؤثرة في تحريك يديك ، وحصول البصر لعينيك ، والسمع لأذنيك ، و.. و.. فلما حصلت على هذه القوة اخترت أنت تحريك يدك باتجاه اليسار مثلا ..

فالله يفيض عليك ، وأن تتصرف ، كما يحلو لك. فالله أوجد المشيئة .. وأنت اخترت تعليقها بهذا ، أو ذاك. فلما علقتها بهذا أفاض الله عليه الوجود لأجل تعلقها به ، ولو علقتها بسواه لكان قد وجد أيضا بالقوة المفاضة من قبل الله أيضا ، والتي هي تابعة لمشيئتك أنت.

فكما يصح نسبة هذا الفعل إليك ، لأنك أنت الذي اخترته .. كذلك يصح نسبته إلى الله سبحانه ، لأنه هو الذي أفاض عليه الوجود بعد أن اجتمعت مقتضياته وشرائطه التي منها اختيارك وإرادتك ، التي أفاض الله عليها الوجود ، فاخترت تعليقها بفعل ما ، فوجد ، وكان ..

وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين ، الذي يقول به الإمامية تبعا لأئمتهم عليهم‌السلام ..

ويشبه ما نحن فيه سيارة لها محرك يعمل باستمرار ، فيوجد قوة اندفاع.

فقوة الاندفاع في السيارة موجودة ، بسبب وجود الطاقة التي أنتجها المحرك. ولكن السائق هو الذي يوجه هذا الاندفاع بهذا الاتجاه أو ذاك ..

فالسائق لو لا المحرك لا يستطيع أن يفعل شيئا ، والمحرك لو لا السائق ، لا يوجه السيارة بهذا الاتجاه ، الذي أوصلها إلى هذا البلد بعينه مثلا ..

وكذا الحال في الطاقة الكهربائية التي نوظفها فيما نشاء من موارد ، مع أن المشرف على المولد يتحكم بنا من حيث إنه يقطع التيار عنا في أي ساعة شاء ، كما أننا نحن الذين نختار صرف الطاقة في هذا الاتجاه أو في ذاك ..

ولو أن إرادة الله تعالى تعلقت بالفعل مباشرة ، من دون توسيط اختيار الإنسان ، لكان ذلك هو الجبر الباطل بعينه ..

وأما لو كنت أنت الذي تشاء وتريد ، وتختار ، مستقلا في الإرادة والمشيئة ، وفي الاختيار ، وإيجاد الفعل .. فيكون هذا هو التفويض الباطل بعينه.

وبذلك يتضح : أن هذه الآية الشريفة هي من موارد القاعدة المشهورة التي قررها أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم ، والتي تقول : لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين.

ولأجل ذلك لم يأت التعبير في الآية المباركة : «ما تَفْعَلُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ» ، فإنه لو قال ذلك ، لكانت الآية دالة على الجبر ، لأن تعليق إرادة الله بفعلنا مباشرة معناه : أنه تعالى يوجد تلك الأفعال بمحض مشيئته .. وليس للعباد أي دخل في ذلك.

ولكنه لما قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) .. فإن مشيئته تعالى قد تعلقت بالمشيئة والإرادة للناس التي هي محرك وطاقة وقوة فإذا وجدت هذه الطاقة والقوة والإرادة ، والمشيئة لدى الإنسان ، فإنه هو الذي يختار أن يعلقها بهذا الأمر أو بغيره. كما قلنا.

وبصورة أكثر إيجازا نقول :

قد يقال : إن المراد بالآية هو : أن للهداية أصولها ونواميسها ، والسير في طريقها إنما هو بقرار من الإنسان نفسه .. وهذا القرار لا يأتي قسرا عن الله سبحانه ، بل يبقى له تعالى درجة من التأثير في فعل الإنسان وفي مشيئته ، من حيث إنه قادر على شل حركته ، ومنعه من الاختيار ، ومن الفعل على حد سواء. تماما كما هو الحال بالنسبة للنهر الجاري باتجاه

معين ، فإن الإنسان يقدر على سد مجراه ، ومنعه من مواصلة طريقه ، ويقدر أيضا على تحويل مساره باتجاه آخر ..

فكأن الآية تقول : إن مشيئتكم تجري على طبيعتها ، إلا أن يشاء الله منعها ، وتحويلها ، أو مصادرتها ..

وربما يناقش في هذه الإجابة بأنها تنافي ظاهر قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..) الدال على أن مشيئة الله دخيلة في أصل إنتاج مشيئتكم ، وأن مشيئتكم لا استقلال لها عن إرادة الله تعالى ، بل هي مرتبطة ومرهونة بها ، وواقعة تحت تأثيرها ، في نشوئها على الأقل ، إن لم نقل : نشوءا واستمرارا.

فالأولى أن يجاب بأن الله سبحانه يفيض الوجود على الإنسان ، بكل ما فيه من قدرات ، وطاقات ، وملكات وغير ذلك ، آنا ، فآنا ، ولحظة ، فلحظة .. فيفيض الوجود ، والقدرة والحياة ، وغير ذلك من مبادئ الفعل التي تجعل الإنسان قادرا على أن يحرك يده ورجله ، وينطق بلسانه ، ويفكر ، و.. و.. الخ .. فيختار هو أن يستفيد من هذه الطاقة التي تقع تحت اختياره ، أو لا يستفيد ..

وهذا نظير ما لو كان هناك مصدر يمدك بالكهرباء ، ولك أنت أن تختار الاستفادة منها في التدفئة ، أو في الإنارة ، أو في تحريك آلة ، تمكنك من قتل إنسان ، أو غير ذلك ، فالمصدر الذي يمدك بالطاقة الكهربائية قادر على قطع المدد عنك في أية لحظة ، فيصح أن يقال : لولاه لم يكن عندك نور ، ولعجزت عن قتل ذلك الإنسان .. و.. و.. الخ ..

كما أنه يصح أن يقال : لولا مشيئتك ومبادرتك أنت ، لم تحصل الإنارة ، ولا القتل ، ولا غير ذلك ..

ولكن من الواضح : أن تصرفك أنت ليس له أي تأثير على من أعطاك الكهرباء ، فإنه محسن في جميع الأحوال ، ولا يتوجه إليه أي لوم ، حتى لو أسأت أنت الاستفادة من الطاقة التي يرسلها إليك ..

وهو نظير ما لو أعطاك إنسان مالا ، لتستفيد منه في إصلاح شأنك ، أو في معالجة مرض ألمّ بك .. فإنك قد تصرفه في ما أمرك بصرفه فيه ، وقد تعصي أمره فتصرفه في ارتكاب جريمة ، أو تحرقه ، أو تضيعه ..

وفي جميع الأحوال ، فإن الذي أعطاك ؛ محسن إليك وممدوح .. وأما أنت فالعقاب والثواب متوجه إليك تبعا لما تختاره ..

ومجرد علم المولى بما سوف يختاره العبد لا يحتم عليه التدخل لمنعه ، ولو بقطع المدد عنه .. فقد يكون للتدخل سلبياته الكبيرة والخطيرة ، من حيث إن المصلحة العليا تفرض أن يعطيه كامل الحرية في التصرف بألطافه الواصلة إليه .. لأن الغاية الكبرى لا تتحقق إلا بذلك. إن لم نقل : إن هذا التدخل يعد ظلما ينافي مقام الألوهية ..

خلق الخير والشر :

وإذا كان الله هو الذي يفيض الوجود على إرادة الفاعل ، ثم يكون الفاعل هو الذي يختار أن يعلقها بهذه الحركة أو بتلك ، والفعل هو نتيجة هذه الحركة ، فإرادة الله لم تتعلق بالفعل مباشرة ، سواء أكان الفعل خيرا ، أم شرا ، فلا معنى لادعاء أن الله يخلق فعل الخير ، ولا يخلق الشر .. بل الإنسان هو الذي يفعلهما باختياره ، ولكن الله سبحانه يفيض عليه القوة والقدرة لحظة فلحظة ، وهو يوظف هذه القوة والقدرة لإنتاج حركة هنا أو هناك ، يطلق عليها : «الفعل». ثم يسمون هذا الفعل بأسماء تناسب حالاته ، وملازماته ، مثل : شرب ، أكل ، تسبيح ، صلاة ، الخ ..

والخير هو الفعل الذي ينتج كمالات ، يحتاج أو يسعى إليها الإنسان ، أما الشر فهو الفعل الذي يهدم ما بناه الخير ويتلفه. وذلك ظاهر لا يخفى.

«إنّ الله كان عليما حكيما» :

ويرد هنا سؤال ، وهو : أنه تعالى قد عدل عن ضمير الغائب إلى التصريح بلفظ الجلالة ، فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ..) مع أن الإتيان بلفظ الجلالة يجعلنا نتوقع أن يأتي بضمير الغائب للإشارة إلى ذاته المقدسة ..

وربما يمكن الإجابة عن ذلك : بأنه أعاد لفظ الجلالة ليفيد أنه تعالى قد بدأ كلاما جديدا ، يتضمن قاعدة عامة ، يكون هذا المورد أحد منطبقاتها. أي أنه تعالى يريد أن يثبت العليمية والحكيمية لذاته المقدسة على سبيل الإطلاق ، ولا يريد أن يقيدها بمورد وفعل خاص ، وهو مورد تأثير المشيئة الإلهية في مشيئة البشر ..

فهو يريد أن يقول : إن هذا التأثير مستند إلى صفة العليمية والحكيمية من حيث هي ، ولا يريد أن يقول : إن سبب التأثير هو وجود سنخية خاصة بين هذا المورد وبين هذه الصفات ، وليس ثمة ما يثبت وجود هذه السنخية في سائر الموارد ..

فإعادة لفظ الجلالة قد ألغى هذا الاحتمال الأخير ، ولفت النظر إلى وجود اقتضاء عام في هذه الصفات ، يجعلها قابلة للتأثير في مختلف الموارد.

ولو أنه أتى بالضمير ، فقال : «إنه كان عليما حكيما» ، فقد يوهم ذلك أن العليمية والحكيمية معا قد اقتضتهما ربوبيته تعالى .. مع أن الحقيقة هي أن العليمية من صفات ذاته ، ومن شؤون ألوهيته تعالى ..

أما الحكيمية فهي من شؤون ربوبيته سبحانه ..

وبذلك يكون قد أكد على التوافق والانسجام في كلا هذين الأمرين ، في مقام التأثير الفعلي في الأشياء ، فلا بد من التوجه إليه تعالى على هذا الأساس ..

«كان» :

وكلمة «كان» قد جاءت لتبين لنا أن صفتي العليمية ، والحكيمية ، ليستا عارضتين على الذات ، وقد اقتضاهما فعل بخصوصه. بل هما من الصفات التي لها ثبوت حقيقي للذات ، وهي غير مرتبطة في نشوئها وثبوتها بفعل بعينه ، أو بأمر عارض .. بل هي ثابتة له تعالى على الحقيقة ، قبل ذلك وبعده ، لأن ذلك من تجليات صفات ألوهيته تعالى.

وهذا كقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) .. فإن الله سبحانه نور على الإطلاق ، قبل السماوات والأرض ، وبعدها .. لا أن نوريته قد اقتضتها حاجة لها كامنة في السماوات والأرض.

«عَلِيماً حَكِيماً» :

وقد جاءت كلمة «عليما» بصيغة المبالغة .. وهي مبالغة من جهتين :

إحداهما : جهة الشمول ، من حيث كثرة مفردات العلم الحاضرة لديه تعالى ، وكثرة موارده.

والثانية : من حيث إن علمه تعالى دقيق ، وعميق ، وهو علم حضوري ، تكون الحقائق حاضرة لديه تعالى ، حضورا حقيقيا فعليا .. فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ..

وهذه الدقة والإحاطة الحقيقية تقتضي التدبير الموافق للحكمة في

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٥.

كل شيء .. لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، وهذا يحتاج ـ بالإضافة إلى القدرة ، وسواها ـ إلى العلم الدقيق ، والعميق ، والشامل ، وإلى الحضور التام ، بحيث لا يكون أي وجه من وجوه الشيء غائبا عن الواضع والمتصرف.

فتحقّق صفة الحكيمية بتمام معناها ، وهي من صفات الفعل ، متوقف على صفة العليمية ، التي هي من صفات الذات ، فاقتضى ذلك تقديم هذه على تلك في هذه الآية الشريفة. حيث لم توجد خصوصية أخرى تقتضي تأخير صفة العليمية ،

وفي جميع الأحوال نقول : إن المناسبة هنا تقتضي هذا التقديم .. فإن الحديث إنما هو عن اتخاذ السبيل إلى الله سبحانه ، وعن خلق الإنسان ، وعما تقتضيه خلقته ومسيرته في الحياة كلها. وعن حقيقة الوجود المتكامل في كل حناياه وخفاياه .. وفي بدايته ومنتهاه.

يضاف إلى ذلك : أن المشيئة الإلهية ، إنما تنبثق أولا من موقع الإحاطة ، والعليمية ، ليكون تأثيرها موافقا للحكيمية .. وقد جاءت العليمية والحكيمية هنا متوافقة مع مقتضيات هذه المشيئة ، بصورة واقعية ..

فاتضح من جميع ذلك ، ضرورة تقدم كلمة عليم ، على كلمة حكيم ..

واتضح أيضا : أن هاتين الصفتين هما اللتان يجب التنصيص عليهما ، والتذكير بهما ..

وأنه لا بد من إطلاقهما ، لكي تشملا جميع أحوال النشأة الإنسانية ، ومسيرة الخلق والخليقة كلها.

* * *

الفصل الحادي والثلاثون :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

قوله تعالى :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ» :

والآن ، حان الوقت لإعطاء النتيجة النهائية الحاسمة لكل هذه المسيرة الإنسانية ، من بدء الخلق إلى منتهاه. ألا وهي : دخول المحسن في رحمة الله ، ودخول المسيء في نقمته سبحانه.

«من يشاء» :

ويرد هنا سؤال ، يقول : إنه برغم أن الله قد وعد من يتخذ السبيل إلى ربه ؛ بالجنة وبالنعيم ، فإنه تعالى قد علق نيله لهذا النعيم على مشيئته تبارك وتعالى .. فكيف ذلك؟ ولما ذا؟! ..

ونجيب : بأن جميع المخلوقات ملك لله تعالى ، ولا يستحقون مثوبة من مالكهم على طاعاتهم له ، ولكن الله عزوجل قد تفضل عليهم في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه ..

مع أن له أن يلغي ذلك متى شاء ، ويعاملهم بمقتضى مالكيته لهم ، وإن كان لا يفعل ذلك ، فإنما لا يفعله لأنه لا يخلف وعده ، ولوجود مبررات استمراره وشرائطه ، لا لأجل أنه لا يحق له ذلك. وإن كان لا يلغي قدرته عليه ، ولا حقّه فيه ، لعدم لزوم أي محذور من استعمال هذا الحق ، وعدم وجود أي قبح في ذلك الإلغاء ، ولا في ذلك الاستعمال للحق ..

ولكنه ما دام هذا القرار قائما ، فإن العبد يكون مستحقا لتلك المثوبة ، تماما كما لو أن أبا وعد ولديه بجائزة للناجح منهما ، فالناجح سيرى نفسه مستحقا للجائزة ، فإذا حرم منها ، فإنه سيرى نفسه مظلوما ، فكيف لو أعطيت الجائزة لأخيه الراسب؟!

ولعل هذا هو السبب في أنه تعالى هنا قد علق إدخالهم في رحمته على مشيئته .. فإن إعطاء المثوبة إنما هو في ظرف بقاء ذلك القرار الإلهي قائما ، فمن اتخذ السبيل إلى ربه ، فليس له أن يمن عليه سبحانه ، بل الله هو المتفضل عليه ، وله عليه المنة ..

كما أن ذلك يشير : إلى استمرار فتح باب الرحمة لمن أراد الدخول فيه ، فلا مجال لليأس من روح الله ، فإن الطاعة وحدها لا تكفي لإدخال المطيع الجنة لو لا الرحمة الإلهية ، والتفضل بجعل ذلك القرار ، كما أن المعصية لا تمنع من الرحمة ، إذا تاب الإنسان وأناب ، فإن القرار يبقى إليه ، قال في دعاء أبي حمزة :

«لا الذي أحسن استغنى عن عفوك ورحمتك ، ولا الذي أساء واجترأ عليك ، ولم يرضك خرج عن قدرتك» ..

وقد يجاب أيضا : بأن المقصود بقوله : «من يشاء» .. هو الناس ، أي أنهم إذا شاؤوا الدخول في الرحمة ، فإن الله لا يحرمهم من ذلك ..

ولكن هذا وإن كان محتملا في نفسه ، ولكنه خلاف الظاهر ، فإن ضمير الفاعل في قوله تعالى : (أَعَدَّ لَهُمْ) يرجع إليه سبحانه ، وهو نفسه ضمير الفاعل الذي استندت إليه كلمة «يشاء» ، ولو كان الضمير يرجع للناس ، لكان الأنسب أن يقول : «أعدّ» بضم الهمزة ، وكسر العين ، على صيغة المبني للمفعول ..

«فِي رَحْمَتِهِ» :

١ ـ وقد نسب الله إدخالهم في رحمته إلى نفسه ، ليبين أن عملهم مهما بلغ ، فإنه لا يجعل لهم استحقاقا واقعيا أصيلا ، بسبب مملوكيتهم التي أشرنا إليها .. فإذا تفضل الله عليهم ، بجعل المثوبة لهم ، فإنهم يكتسبون هذا الاستحقاق بذلك التفضل ، فالاستحقاق مرتكز إلى ذلك الجعل ، والقرار الناشئ عن الحكمة والتفضل الإلهي ، ومعتمد عليه ..

٢ ـ ولم تذكر الآية الدخول إلى الجنة ، بل ذكرت أنه تعالى يدخلهم في رحمته.

ولعل ذلك لإفهامنا : أن جميع ما ذكر في هذه السورة من خلق ، ورزق ، وتشريعات ، وذكر ، ورعاية ، وهدايات ، وإفاضات متوالية ، ما هو إلا تفضلات ونعم منه تعالى. وأن جعل الجزاء ، وإن كان يستتبع استحقاقا بدرجة ما ، ولكن تبقى مقادير هذا الجزاء ، في دائرة التفضلات الإلهية أيضا ، إذ لو أردنا أن نقيس عملنا إلى كل تلك النعم والفيوضات ، فإنه مهما بلغ من الصفاء والصلاح لا يفي ولو بنفس واحد نتنفسه ، فضلا عن أن يتوهم أحد أننا نستحق عليه أي جزاء ، فكيف بجنات عدن ، التي وعد الله بها المتقين.

وذلك معناه : أن أي عطاء منه لنا إنما هو برحمة منه سبحانه ، لا باستحقاق منا له ، رغم أنه قد جعل الحسنة بعشر أمثالها ، بل جعلها : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (١) ..

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٦١.

الدخول في الرحمة الإلهية :

ولسنا بحاجة إلى التذكير : بأن الجنة رحمة إلهية للبشر ، لأن الرغبة فيها ، والطلب لها ، يدعو الناس إلى فعل الخيرات ، وعمل الصالحات ، وفي ذلك سعادتهم وصلاحهم ..

كما أن وجود جهنم أيضا ، والخوف منها يدعو الناس إلى التزام خط الطاعة والانقياد. وهو سلامة وسعادة لهم أيضا ..

وقد قلنا آنفا : إن الإنسان لا يستحق بعمله ـ من حيث هو ـ أي شيء ، ولا تفي جميع أعماله مهما عظمت بجزء يسير من تفضلات ونعم الله وفيوضاته عليه ..

بل إنما يستحق ذلك بالجعل الإلهي التفضلي ، ولكن أمر هذا الجعل يبقى بيد الله تعالى ، فيمكن له رفعه ، كما أمكن له وضعه .. وذلك حين يوجب استمراره نقضا للغرض ، ولا يكون إخلافا للوعد ، بل يكون متوافقا مع مقتضيات الرحمة والإحسان ..

وبما أن الله هو العليم ، والواقف على حقيقة ، ومدى ، وعمق ضعف ، ونقص ، وعجز ، وحاجة هذا الإنسان ، فإنه بمقتضى رحيميته يبادره برفع نقائصه ، وبسد حاجاته ، وتقوية ضعفه ، ويزيده من فضله ، فيعطيه الجنة ، فيقصر عن نيل نعيمها ، فيزيده من فضله كمالا ، وأهلية ، واستعدادا لنيل ذلك النعيم .. وكل ذلك على أساس الرحمة الغامرة ، التي كانت سببا في الفيض ، والحكمة الظاهرة التي هيمنت على المشيئة ..

وبما أن الحاجة إلى استمرار هذه المعونة قائمة ، فإن الجنة تصبح بمثابة الرحمة له ، وهي مستمرة ودائمة .. فيدخلها ، ويبقى فيها ، تفضلا من الله تعالى عليه وكرما ..

«والظّالمين» :

قلنا : إن أصل جعل قانون المثوبة والعقوبة ، رحمة بالبشر ، وإحسان لهم ..

واللافت هنا : أنه تعالى حين أشار إلى العقوبة ، أظهر أنه لا مجال لغض النظر عنها ، ولا للتساهل فيها .. لأنها عقوبة نشأت عن الظلم ، والتمرد ، والطغيان ، والتعدي على مقام الألوهية ..

والسؤال هو : لماذا جعل الله الطرف المقابل لمن يدخلهم في رحمته ، هم الظالمون ، ولم يجعلهم الكافرين؟! ..

الجواب : لعل السبب هو : أن الله سبحانه بعد التذكرة لهم لم يترك أمرا ، يمكن الاعتذار عن مخالفته والتعدي عليه بالجهل ، أو الشبهة ، إلا وكشفه ، وبيّنه ، من خلال الهدايات التي زودهم بها ، وبذلك تصبح تعدياتهم ظاهرة في أنها تعديات على حدود الفطرة ، وانتهاك لأحكام العقل ، واعتداء على حرمات الله ، وفعل يسيء إلى مستقبلهم ، وإلى أنفسهم ، ويؤدي بها إلى المزالق والمهالك ..

وبذلك .. يكونون ظالمين أقبح الظلم ، وأسوأ الطغيان ..

وقد يحاول الإنسان أن يتجاهل مقتضيات فطرته ، وأحكام عقله ، وكل وسائل الهداية ، ويحصرها في زاوية ، ثم يسدل عليها ستار التناسي .. ولكن بعد إعادة إظهارها ، وإزالة العوائق عن مشاهدتها .. فإنه لا يعود الوقوع فيها كفرا وسترا ، بل هو محض التعدي والظلم ، والبغي ..

والتصريح بالظلم والظالمية إنما هو لأجل التنفير من هذا الأمر ، الذي تدرك قبحه كل العقول ، ويرفضه كل البشر بفطرتهم ، بسبب ما له من سلبيات واقعية ..

أما الكفر فقد يرضاه الإنسان لنفسه ، تحت ستار من الأقنعة التي

تنسجها له تأويلات وتسويلات شيطانية ، تجعله لا يشعر بالقبح والجريمة ، بصورة قوية وظاهرة ..

ولكنه حين يدرك أن كفره وشركه إنما ينطلق من ظلمه ، بل هو نفسه أعظم ظلم وأقبحه ، فإن النفيرة منه سوف تتأكد لديه ، ولدى كل من عداه ..

«أَعَدَّ لَهُمْ» :

ويلاحظ هنا : أنه تعالى بالنسبة للمؤمنين ، قال : «يدخل». أما بالنسبة للظالمين ، فقال : (أَعَدَّ لَهُمْ) ..

فما هو السبب في هذا التنويع في البيان؟! ..

ويمكن أن يجاب بأنه : لعل من فوائد هذا التنويع في البيان أنه أراد أن يطلع من يريد أن يتخذ سبيل الغي والظلم ، على هول ما يقدم عليه ، من حيث إنه يستحث خياله لتصور ما أعده سبحانه له من عذاب ، فيرتجف له فؤاده ، ويخشع قلبه ، فإذا أعاد النظر في كلمة «أعد» ، فسيجد فيها ما يشير إلى عدم تنجز الأمر ، وإلى وجود فسحة يستطيع من خلالها أن يبحث عن المهرب ، والمخرج ..

تقديم الظالمين لما ذا؟! :

ويلاحظ هنا : أنه تعالى قدم كلمة : «الظّالمين» في الذكر ، حيث قال : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) ولم يقل : «أعد للظالمين» ..

ولعل من فوائد هذا التقديم : أنه يكون بذلك قد نص على أن ظلمهم هو المؤدي بهم إلى هذا العذاب الذين لهم هذا العذاب مرتين ، مرة بكلمة الظالمين ، ومرة أخرى بالضمير العائد ، وهو كلمة «هم» ..

بالإضافة إلى أن هذا التقديم فيه إظهار للحرص على مواجهتهم

بذلك العذاب الأليم .. وإفهامهم : أن هذا ليس كلاما عابرا ، بل هناك مزيد التفات ، وقصد أكيد ، واهتمام ظاهر بمواجهتهم به ..

وحتى بالنسبة لكلمة «أعد» فإنها تشير إلى أن ثمة مزيد عناية في كيفيات ، ووسائل ذلك العذاب ، وليس هو عذاب عشوائي يأتيهم كيفما اتفق .. بل هو عن إعداد ، وتهيئة ، وقد لوحظ فيه سد جميع الثغرات التي ربما تؤدي إلى بعض التخفيف في بعض الفترات ، أو في بعض التقلبات ..

«عَذاباً أَلِيماً» :

ثم إنه تعالى لم يقل : «أعد لهم جهنم» مثلا ، فإن كلمة «عذاب» زائدا على الأمور الثلاثة التي قدمناها آنفا ، تشتمل على إلماحة رابعة إليهم ، وتستبطن الإشارة إلى أعيانهم ، من حيث إشعارهم بالألم هم أنفسهم ..

وكذلك كلمة «الأليم» ، التي هي أيضا من صيغ المبالغة التي تفيد شدة ذلك الألم ، وكثرة توارده على ذلك المعذب ..

ولو أنه تعالى قال : «أعد لهم جهنم» مثلا ، أو نارا ، فقد لا يلتفت إلى ذلك العذاب ولا إلى شدة ذلك الألم ، إلا بعد توسيط وسائط ، واستحضار ملازمات ذهنية ، قد لا تعطي الإيحاء ، ولا تثير الإحساس المباشر والسريع لدى السامع ، بأنه هو المستهدف بذلك العذاب ، كما هو الحال في كلمتي (عَذاباً أَلِيماً) ..

كما أنه ليس فيها إلماحة رابعة إليه ، ولا تشتمل على أي تنصيص جديد عليه.

والحمد لله ، والصلاة والسّلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين ..

* * *

كلمة أخيرة :

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ، والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين ..

وبعد ..

فقد كانت تلك نبذة من الكلام حول ظواهر آيات سورة «هل أتى» المباركة .. والتي هي سورة «أهل البيت» عليهم الصلاة والسّلام.

ولا بد لنا قبل أن نودع القارئ الكريم من الإعلان الصريح له بأنها محاولة لا تليق بأن تسمى تفسيرا ، أو حتى مدخلا لتفسير هذه الآيات الشريفة .. كيف! والقرآن بحر عميق لا تفنى عجائبه ، ولا تنفذ غرائبه ، ولا يشبع منه علماؤه. وما علماؤه إلا أهل بيت العصمة ، الذين اختصهم الله تعالى بمعرفة كوامنه وأسراره ، وحباهم بالتقلب بسواطع أنواره ..

وكل من عداهم لا يعدو أن يكون متطفلا ، لا يدرك غاية ، إلا بمقدار ما يدركه طفل ساذج ، يقف على شاطئ البحر المحيط ، ليلقي بنظرة بلهاء كليلة ، على طرف ضئيل من مياهه العذبة ..

فإنه مهما حاول ذلك الطفل العاجز أن يجهد نفسه ، ويثير كوامن فكره ، فلن يكون قادرا على إدراك ما لذلك البحر المحيط من مقدار ، ولا على استكناه ما يحتضنه من خفايا وأسرار ، أو على ما فيه من حقائق ، ودقائق ، وما تشتمل عليه أعماقه من غرائب وعجائب ..

غير أن الذي جرأني على هذا الأمر هو ثقتي برحمة الله سبحانه ، وبلطفه وكرمه ، وطمعي في أن لا يحرمني من بركات القرآن ، فأفوز منه ولو بنسمة واحدة ، يزجيها إليّ فواح أريجه ، وأسعد بنظرة ساذجة ألقيها على رائع من روائع بهيج نسيجه. وأن ألمح ولو من البعيد البعيد ، سبحات نوره الباهر .. وأنال من بركات فيضه الغامر فعسى ولعل ، أن يكون ذلك سببا في أن تشملني شفاعة أهل القرآن الأطيبين الأطهرين ، وهم الزهراء وأبوها ، وبعلها وبنوها ..

فإنه ليس لي عمل صالح أتكل عليه ، سوى حبي لهم ، ورجاء شفاعتهم ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ورحمة منه وبركات ..

وبعد ، فليس لي إلا أن أقول لسادتي وموالي ـ وهم خزان علم الله ـ كما قال إخوة يوسف : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) ..

وأما ما آمله من إخواني الأكارم ، فهو أن يغضوا طرفهم عما يرونه في هذه الإطلالة من خطأ ، وسهو ، ونسيان ، وأن يتحفوني بملاحظاتهم ، وأن يصلحوا بآرائهم السديدة ، ونظرتهم الرشيدة ، ما أفسدته يد القصور أو التقصير ..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين ..

عيثا الجبل (عيثا الزط سابقا)

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

المحتويات

الفصل الثاني عشر

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

«وجزاهم» .. أم جازاهم؟......................................................... ٨

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية................................................... ٩

الثواب بالتفضل ، أم بالاستحقاق؟............................................... ١٠

إستحقاق ناشئ عن التفضل..................................................... ١٢

«بما صبروا»................................................................... ١٣

الجزاء مقابل الصبر ، أم مقابل العمل؟............................................. ١٤

لذة الاستحقاق................................................................ ١٥

استطراد .. للتوضيح............................................................ ١٧

مقارنة بين الجزاء .. وبين العمل................................................... ٢٢

لما ذا لم يذكر الحور العين؟....................................................... ٢٣

«جنة»....................................................................... ٢٥

«جنة وحريرا» ، لما ذا؟.......................................................... ٢٦

الجنة والحرير أولا................................................................ ٢٧

الجنة أولا...................................................................... ٢٨

الفصل الثالث عشر

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

«متكئين»..................................................................... ٣١

«فيها»....................................................................... ٣٢

«الأرائك».................................................................... ٣٢

هل هي لذة الفراغ؟............................................................. ٣٣

نعيم الأبرار.................................................................... ٣٤

«لا يرون فيها شمسا»........................................................... ٣٦

«ولا زمهريرا».................................................................. ٣٧

تعلق النفي بذات ، وبصفة!!.................................................... ٣٨

«لا يرون».................................................................... ٣٨

«شمسا ولا زمهريرا»............................................................. ٣٩

اللف والنشر المرتب............................................................. ٣٩

الفصل الرابع عشر

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)

«ودانية عليهم ظلالها».......................................................... ٤٣

العطف بالواو.................................................................. ٤٥

«ودانية»...................................................................... ٤٧

«عليهم»...................................................................... ٤٨

مفردات نعيم الجنة.............................................................. ٤٨

تقديم كلمة «عليهم»........................................................... ٤٩

الضمير في «ظلالها»............................................................ ٥٠

«وذللت قطوفها تذليلا»........................................................ ٥٠

«قطوفها»..................................................................... ٥١

«تذليلا»...................................................................... ٥٢

الفصل الخامس عشر

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

«ويطاف عليهم».............................................................. ٥٥

الكماليات ، أم الضروريات؟..................................................... ٥٥

التنوع في النعيم................................................................. ٥٧

التسلسل الطبيعي............................................................... ٥٨

شرح الكلمات أولا............................................................. ٥٨

كلمة «من» نشوية ، أم بيانية؟.................................................. ٥٩

كلمة «كانت»................................................................ ٦٠

«من فضة»................................................................... ٦٠

الفصل السادس عشر

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً)

«قواريرا من فضة».............................................................. ٦٥

توضيح واختصار............................................................... ٦٧

«قدروها»..................................................................... ٦٨

الضمير في «قدروها»........................................................... ٦٨

التقدير........................................................................ ٦٩

تنوع الملذات................................................................... ٧٠

الفصل السابع عشر

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)

«ويسقون» : لما ذا الواو؟!...................................................... ٧٣

«يسقون»..................................................................... ٧٣

«فيها»....................................................................... ٧٤

«كأسا»...................................................................... ٧٤

لما ذا التعدية المباشرة............................................................ ٧٤

بين «يسقون» ، و «يشربون»................................................... ٧٥

«كان»....................................................................... ٧٦

«مزاجها»..................................................................... ٧٦

«زنجبيلا»..................................................................... ٧٧

مواصفات الزنجبيل.............................................................. ٧٧

خصوصيات في الزنجبيل......................................................... ٧٨

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة.................................................... ٧٨

أسئلة تحتاج إلى أجوبة.......................................................... ٧٩

زنجبيل الدنيا .. والآخرة......................................................... ٨٠

بين «الكافور» و «الزنجبيل»..................................................... ٨٠

الفصل الثامن عشر

(فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)

«عينا»....................................................................... ٨٥

«فيها»....................................................................... ٨٦

«تسمى سلسبيلا»............................................................. ٨٦

لما ذا هذه التفاصيل والدقائق؟.................................................... ٨٨

وصف نعيم الجنة............................................................... ٨٩

خصوصية البيان القرآني......................................................... ٩٠

الفصل التاسع عشر

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)

«ويطوف عليهم».............................................................. ٩٧

«ولدان» لا غلمان............................................................. ٩٩

«ولدان» أو أشخاص؟......................................................... ٩٩

«ولدان» جمع وليد............................................................. ٩٩

الطائفة الأولى............................................................. ١٠١

الطائفة الثانية............................................................. ١٠٢

الطائفة الثالثة............................................................. ١٠٥

الطائفة الرابعة............................................................. ١٠٥

الطائفة الخامسة........................................................... ١٠٧

التكليف في دار الجزاء......................................................... ١٠٩

هل يقبح تعذيب غير المكلف؟!................................................ ١١١

التصرف في المكان............................................................ ١١٢

التصرف في الزمان............................................................ ١١٧

خلاصة لأجل التوطئة......................................................... ١١٨

سؤال تقف وراءه أسئلة........................................................ ١١٩

السؤال عن حكم............................................................. ١١٩

للغة تأثيرها القوي............................................................. ١٢٣

«مخلدون»................................................................... ١٢٤

«إذا رأيتهم»................................................................. ١٢٥

«إذا رأيتهم حسبتهم»......................................................... ١٢٦

«لؤلؤا»..................................................................... ١٢٧

«منثورا»..................................................................... ١٢٨

اللؤلؤ المكنون .. أم المنثور؟!................................................... ١٢٩

الفصل العشرون

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)

«وإذا رأيت»................................................................ ١٣٣

«رأيت» ، من جديد.......................................................... ١٣٣

١ ـ الخطاب للمفرد........................................................ ١٣٤

٢ ـ الرؤية والمعاينة.......................................................... ١٣٤

٣ ـ إطلاق الرؤية : «رأيت ثم».............................................. ١٣٥

«ثم»........................................................................ ١٣٦

لما ذا «رأيت» من جديد؟!.................................................... ١٣٦

«نعيما»..................................................................... ١٣٧

«نعيما وملكا»............................................................... ١٣٧

«كبيرا»..................................................................... ١٣٩

تنوين التنكير................................................................. ١٣٩

الفصل الحادي والعشرون

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ

وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)

«عاليهم ثياب سندس»....................................................... ١٤٣

القيمة الواقعية ، والقيمة الاعتبارية............................................... ١٤٤

الاعتبار على نحوين........................................................... ١٤٥

لما ذا قال : «عاليهم»؟!....................................................... ١٥٠

«ثياب سندس خضر وإستبرق»................................................ ١٥٤

النعيم الجسدي .. من خلال الرضا الإلهي........................................ ١٥٥

«خضر».................................................................... ١٥٥

«وحلوا أساور من فضة»....................................................... ١٥٦

«من فضة».................................................................. ١٥٨

لما ذا خصوص الأساور؟!...................................................... ١٦٠

هل الزينة خاصة بالنساء؟...................................................... ١٦٠

من الذي يحلّيهم بالأساور؟..................................................... ١٦١

«وسقاهم ربهم».............................................................. ١٦١

الشراب الطهور............................................................... ١٦٢

الفصل الثاني والعشرون

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)

«إن هذا كان لكم جزاء»...................................................... ١٦٧

«لكم جزاء»................................................................. ١٦٨

الخطاب للأبرار............................................................... ١٦٩

«جزاء»..................................................................... ١٦٩

«وكان سعيكم مشكورا»...................................................... ١٧٠

«سعيكم»................................................................... ١٧٠

«مشكورا»................................................................... ١٧١

الفصل الثالث والعشرون

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً)

وسائل الهداية الإلهية........................................................... ١٧٥

«إنا نحن»................................................................... ١٧٦

«عليك».................................................................... ١٧٧

«نزلنا»...................................................................... ١٧٧

لم يقل : أنزلنا................................................................ ١٨٢

«نزلنا عليك القرآن تنزيلا»..................................................... ١٨٧

الفصل الرابع والعشرون

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)

«فاصبر لحكم ربك».......................................................... ١٩١

«ربك»..................................................................... ١٩٢

«ولا تطع منهم آثما أو كفورا».................................................. ١٩٣

«ولا تطع منهم آثما أو كفورا».................................................. ١٩٥

صبر الرسول .. ونعيم الأبرار في الجنة............................................ ١٩٩

كلمة : «منهم» لما ذا؟!....................................................... ١٩٩

هل هذا استطراد؟............................................................. ٢٠٠

الفصل الخامس والعشرون

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)............................................... ٢٠١

«واذكر اسم ربك»........................................................... ٢٠٣

«واذكر اسم ربك»........................................................... ٢٠٥

لما ذا اسم الله؟!.............................................................. ٢٠٦

«ربك»..................................................................... ٢٠٧

«بكرة وأصيلا».............................................................. ٢٠٧

١ ـ الوقت ليس مجرّد وعاء.................................................. ٢٠٧

٢ ـ ما المراد بالبكرة والأصيل؟............................................... ٢٠٨

٣ ـ التّنصيص على البكرة والأصيل........................................... ٢٠٩

استغراق الوقت في العبادة...................................................... ٢١١

الفصل السادس والعشرون

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)

«ومن الليل»................................................................. ٢١٥

«فاسجد له»................................................................ ٢١٨

«وسبحه»................................................................... ٢١٩

«ليلا طويلا»................................................................ ٢٢٠

الفصل السابع والعشرون

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)

«إن هؤلاء»................................................................. ٢٢٣

«هؤلاء».................................................................... ٢٢٤

«يحبون العاجلة»............................................................. ٢٢٥

لما ذا لم يأت بلام التعليل؟..................................................... ٢٢٥

الاقتصار على العاجلة......................................................... ٢٢٦

«ويذرون وراءهم يوما ثقيلا»................................................... ٢٢٧

«ويذرون»................................................................... ٢٢٨

«وراءهم»................................................................... ٢٢٨

«وراءهم» لما ذا؟!............................................................ ٢٢٩

«يوما»...................................................................... ٢٢٩

«ثقيلا»..................................................................... ٢٣٠

الفصل الثامن والعشرون

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)

«نحن خلقناهم».............................................................. ٢٣٣

«وشددنا أسرهم»............................................................ ٢٣٤

«وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا»................................................ ٢٣٥

الأسر الإلهي................................................................. ٢٣٦

«وإذا»...................................................................... ٢٣٧

«بدلنا أمثالهم»............................................................... ٢٣٧

«بدلنا»..................................................................... ٢٣٧

«أمثالهم».................................................................... ٢٣٩

«تبديلا».................................................................... ٢٤٠

الفصل التاسع والعشرون

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)

«إن هذه تذكرة»............................................................. ٢٤٣

التذكير ، بما ذا؟!............................................................. ٢٤٤

«فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا»................................................. ٢٤٥

«فمن»..................................................................... ٢٤٦

الفصل الثلاثون

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)

«وما تشاؤن»................................................................ ٢٥٥

جبرية المشيئة................................................................. ٢٥٦

خلق الخير والشر.............................................................. ٢٦٠

«إن الله كان عليما حكيما»................................................... ٢٦١

«كان»..................................................................... ٢٦٢

«عليما حكيما».............................................................. ٢٦٢

الفصل الحادي والثلاثون

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

«يدخل من يشاء»............................................................ ٢٦٧

«من يشاء».................................................................. ٢٦٧

«في رحمته».................................................................. ٢٦٩

الدخول في الرحمة الإلهية....................................................... ٢٧٠

«والظالمين».................................................................. ٢٧١

«أعد لهم».................................................................. ٢٧٢

تقديم الظالمين لما ذا؟!......................................................... ٢٧٢

«عذابا أليما»................................................................ ٢٧٣

كلمة أخيرة.................................................................. ٢٧٥

المحتويات..................................................................... ٢٧٧

كتب مطبوعة للمؤلف

١ ـ الآداب الطبية في الإسلام

٢ ـ ابن عباس وأموال البصرة

٣ ـ ابن عربي سني متعصب

٤ ـ إدارة الحرمين الشريفين في القرآن الكريم

٥ ـ الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل

٦ ـ أكذوبتان حول الشريف الرضي

٧ ـ أفلا تذكرون «حوارات في الدين والعقيدة»

٨ ـ أهل البيت عليهم‌السلام في آية التطهير (الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة)

٩ ـ براءة آدم عليه‌السلام حقيقة قرآنية

١٠ ـ بنات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أم ربائبه

١١ ـ بيان الأئمة وخطبة البيان في الميزان

١٢ ـ تفسير سورة الفاتحة

١٣ ـ تفسير سورة الكوثر

١٤ ـ تفسير سورة الماعون

١٥ ـ تفسير سورة الناس

١٦ ـ تفسير سورة «هل أتى» ١ / ٢

١٧ ـ حديث الإفك

١٨ ـ حقائق هامة حول القرآن الكريم

١٩ ـ الحياة السياسية للإمام الجواد عليه‌السلام

٢٠ ـ الحياة السياسية للإمام الحسن عليه‌السلام

٢١ ـ الحياة السياسية للإمام الرضا عليه‌السلام

٢٢ ـ خلفيات كتاب مأساة الزهراء عليها‌السلام ١ / ٦

٢٣ ـ دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ١ / ٤

٢٤ ـ دراسة في علامات الظهور والجزيرة الخضراء

٢٥ ـ دراسة في علامات الظهور

٢٦ ـ زواج المتعة (تحقيق ودراسة) ١ / ٣

٢٧ ـ الزواج المؤقت في الإسلام (المتعة)

٢٨ ـ سلمان الفارسي في مواجهة التحدي

٢٩ ـ سنابل المجد (قصيدة إلى روح الإمام الخميني رحمه‌الله)

٣٠ ـ السوق في ظل الدولة الإسلامية

٣١ ـ الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة

٣٢ ـ الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ١ / ١٢

٣٣ ـ صراع الحرية في عصر الشيخ المفيد رحمه‌الله

٣٤ ـ ظاهرة القارونية من أين وإلى أين؟

٣٥ ـ ظلامة أم كلثوم

٣٦ ـ علي عليه‌السلام والخوارج ١ / ٢

٣٧ ـ الغدير والمعارضون

٣٨ ـ القول الصائب في إثبات الربائب

٣٩ ـ كربلاء فوق الشبهات

٤٠ ـ لست بفوق أن أخطئ من كلام علي عليه‌السلام

٤١ ـ لما ذا كتاب مأساة الزهراء عليها‌السلام

٤٢ ـ مأساة الزهراء عليها‌السلام شبهات وردود ١ / ٢

٤٣ ـ ما ذا عن الجزيرة الخضراء ومثلث برمودا؟!

٤٤ ـ مختصر مفيد .. ١ / ٦

٤٥ ـ مراسم عاشوراء «شبهات وردود»

٤٦ ـ المدخل لدراسة السيرة النبوية المباركة

٤٧ ـ المسجد الأقصى أين؟

٤٨ ـ مقالات ودراسات

٤٩ ـ منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية

٥٠ ـ المواسم والمراسم

٥١ ـ موقع ولاية الفقيه من نظرية الحكم في الإسلام

٥٢ ـ موقف علي عليه‌السلام في الحديبية

٥٣ ـ نقش الخواتيم لدى الأئمة عليهم‌السلام

٥٤ ـ الولاية التشريعية

تفسير سورة هل أتى - ٢

المؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
الصفحات: 291
  • الفصل الثاني عشر
  • (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)
  • «وجزاهم» .. أم جازاهم؟ 8
  • جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية 9
  • الثواب بالتفضل ، أم بالاستحقاق؟ 10
  • إستحقاق ناشئ عن التفضل 12
  • «بما صبروا» 13
  • الجزاء مقابل الصبر ، أم مقابل العمل؟ 14
  • لذة الاستحقاق 15
  • استطراد .. للتوضيح 17
  • مقارنة بين الجزاء .. وبين العمل 22
  • لما ذا لم يذكر الحور العين؟ 23
  • «جنة» 25
  • «جنة وحريرا» ، لما ذا؟ 26
  • الجنة والحرير أولا 27
  • الجنة أولا 28
  • الفصل الثالث عشر
  • (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)
  • «متكئين» 31
  • «فيها» 32
  • «الأرائك» 32
  • هل هي لذة الفراغ؟ 33
  • نعيم الأبرار 34
  • «لا يرون فيها شمسا» 36
  • «ولا زمهريرا» 37
  • تعلق النفي بذات ، وبصفة!! 38
  • «لا يرون» 38
  • «شمسا ولا زمهريرا» 39
  • اللف والنشر المرتب 39
  • الفصل الرابع عشر
  • (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)
  • «ودانية عليهم ظلالها» 43
  • العطف بالواو 45
  • «ودانية» 47
  • «عليهم» 48
  • مفردات نعيم الجنة 48
  • تقديم كلمة «عليهم» 49
  • الضمير في «ظلالها» 50
  • «وذللت قطوفها تذليلا» 50
  • «قطوفها» 51
  • «تذليلا» 52
  • الفصل الخامس عشر
  • (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)
  • «ويطاف عليهم» 55
  • الكماليات ، أم الضروريات؟ 55
  • التنوع في النعيم 57
  • التسلسل الطبيعي 58
  • شرح الكلمات أولا 58
  • كلمة «من» نشوية ، أم بيانية؟ 59
  • كلمة «كانت» 60
  • «من فضة» 60
  • الفصل السادس عشر
  • (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً)
  • «قواريرا من فضة» 65
  • توضيح واختصار 67
  • «قدروها» 68
  • الضمير في «قدروها» 68
  • التقدير 69
  • تنوع الملذات 70
  • الفصل السابع عشر
  • (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)
  • «ويسقون» : لما ذا الواو؟! 73
  • «يسقون» 73
  • «فيها» 74
  • «كأسا» 74
  • لما ذا التعدية المباشرة 74
  • بين «يسقون» ، و «يشربون» 75
  • «كان» 76
  • «مزاجها» 76
  • «زنجبيلا» 77
  • مواصفات الزنجبيل 77
  • خصوصيات في الزنجبيل 78
  • لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة 78
  • أسئلة تحتاج إلى أجوبة 79
  • زنجبيل الدنيا .. والآخرة 80
  • بين «الكافور» و «الزنجبيل» 80
  • الفصل الثامن عشر
  • (فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)
  • «عينا» 85
  • «فيها» 86
  • «تسمى سلسبيلا» 86
  • لما ذا هذه التفاصيل والدقائق؟ 88
  • وصف نعيم الجنة 89
  • خصوصية البيان القرآني 90
  • الفصل التاسع عشر
  • (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)
  • «ويطوف عليهم» 97
  • «ولدان» لا غلمان 99
  • «ولدان» أو أشخاص؟ 99
  • «ولدان» جمع وليد 99
  • الطائفة الأولى 101
  • الطائفة الثانية 102
  • الطائفة الثالثة 105
  • الطائفة الرابعة 105
  • الطائفة الخامسة 107
  • التكليف في دار الجزاء 109
  • هل يقبح تعذيب غير المكلف؟! 111
  • التصرف في المكان 112
  • التصرف في الزمان 117
  • خلاصة لأجل التوطئة 118
  • سؤال تقف وراءه أسئلة 119
  • السؤال عن حكم 119
  • للغة تأثيرها القوي 123
  • «مخلدون» 124
  • «إذا رأيتهم» 125
  • «إذا رأيتهم حسبتهم» 126
  • «لؤلؤا» 127
  • «منثورا» 128
  • اللؤلؤ المكنون .. أم المنثور؟! 129
  • الفصل العشرون
  • (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)
  • «وإذا رأيت» 133
  • «رأيت» ، من جديد 133
  • 1 ـ الخطاب للمفرد 134
  • 2 ـ الرؤية والمعاينة 134
  • 3 ـ إطلاق الرؤية : «رأيت ثم» 135
  • «ثم» 136
  • لما ذا «رأيت» من جديد؟! 136
  • «نعيما» 137
  • «نعيما وملكا» 137
  • «كبيرا» 139
  • تنوين التنكير 139
  • الفصل الحادي والعشرون
  • (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ
  • وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)
  • «عاليهم ثياب سندس» 143
  • القيمة الواقعية ، والقيمة الاعتبارية 144
  • الاعتبار على نحوين 145
  • لما ذا قال : «عاليهم»؟! 150
  • «ثياب سندس خضر وإستبرق» 154
  • النعيم الجسدي .. من خلال الرضا الإلهي 155
  • «خضر» 155
  • «وحلوا أساور من فضة» 156
  • «من فضة» 158
  • لما ذا خصوص الأساور؟! 160
  • هل الزينة خاصة بالنساء؟ 160
  • من الذي يحلّيهم بالأساور؟ 161
  • «وسقاهم ربهم» 161
  • الشراب الطهور 162
  • الفصل الثاني والعشرون
  • (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)
  • «إن هذا كان لكم جزاء» 167
  • «لكم جزاء» 168
  • الخطاب للأبرار 169
  • «جزاء» 169
  • «وكان سعيكم مشكورا» 170
  • «سعيكم» 170
  • «مشكورا» 171
  • الفصل الثالث والعشرون
  • (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً)
  • وسائل الهداية الإلهية 175
  • «إنا نحن» 176
  • «عليك» 177
  • «نزلنا» 177
  • لم يقل : أنزلنا 182
  • «نزلنا عليك القرآن تنزيلا» 187
  • الفصل الرابع والعشرون
  • (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)
  • «فاصبر لحكم ربك» 191
  • «ربك» 192
  • «ولا تطع منهم آثما أو كفورا» 193
  • «ولا تطع منهم آثما أو كفورا» 195
  • صبر الرسول .. ونعيم الأبرار في الجنة 199
  • كلمة : «منهم» لما ذا؟! 199
  • هل هذا استطراد؟ 200
  • الفصل الخامس والعشرون
  • (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) 201
  • «واذكر اسم ربك» 203
  • «واذكر اسم ربك» 205
  • لما ذا اسم الله؟! 206
  • «ربك» 207
  • «بكرة وأصيلا» 207
  • 1 ـ الوقت ليس مجرّد وعاء 207
  • 2 ـ ما المراد بالبكرة والأصيل؟ 208
  • 3 ـ التّنصيص على البكرة والأصيل 209
  • استغراق الوقت في العبادة 211
  • الفصل السادس والعشرون
  • (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)
  • «ومن الليل» 215
  • «فاسجد له» 218
  • «وسبحه» 219
  • «ليلا طويلا» 220
  • الفصل السابع والعشرون
  • (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)
  • «إن هؤلاء» 223
  • «هؤلاء» 224
  • «يحبون العاجلة» 225
  • لما ذا لم يأت بلام التعليل؟ 225
  • الاقتصار على العاجلة 226
  • «ويذرون وراءهم يوما ثقيلا» 227
  • «ويذرون» 228
  • «وراءهم» 228
  • «وراءهم» لما ذا؟! 229
  • «يوما» 229
  • «ثقيلا» 230
  • الفصل الثامن والعشرون
  • (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)
  • «نحن خلقناهم» 233
  • «وشددنا أسرهم» 234
  • «وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا» 235
  • الأسر الإلهي 236
  • «وإذا» 237
  • «بدلنا أمثالهم» 237
  • «بدلنا» 237
  • «أمثالهم» 239
  • «تبديلا» 240
  • الفصل التاسع والعشرون
  • (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)
  • «إن هذه تذكرة» 243
  • التذكير ، بما ذا؟! 244
  • «فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا» 245
  • «فمن» 246
  • الفصل الثلاثون
  • (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)
  • «وما تشاؤن» 255
  • جبرية المشيئة 256
  • خلق الخير والشر 260
  • «إن الله كان عليما حكيما» 261
  • «كان» 262
  • «عليما حكيما» 262
  • الفصل الحادي والثلاثون
  • (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)
  • «يدخل من يشاء» 267
  • «من يشاء» 267
  • «في رحمته» 269
  • الدخول في الرحمة الإلهية 270
  • «والظالمين» 271
  • «أعد لهم» 272
  • تقديم الظالمين لما ذا؟! 272
  • «عذابا أليما» 273
  • كلمة أخيرة 275
  • المحتويات 277