بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورتا

الفرقان والشعراء

وقسم من

سورة النمل

الجزء التاسع عشر

(٢٥) سورة الفرقان مكيّة

وآياتها سبع وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)

قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)

هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتسرية ، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش ، وعنادهم له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، وجدالهم بالباطل ، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه.

فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله ؛ وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ؛ ويهدهد قلبه ، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة ، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة.

وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله ، وهي تجادل في عنف ، وتشرد في جموح ، وتتطاول في قحة ، وتتعنت في عناد ، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين.

إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) .. أو تقول : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) .. أو تقول في استهزاء : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟) .. والتي لا تكتفي بهذا الضلال ، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً). أو تتعنت فتقول : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟).

وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير ..

لقد اعترض القوم على بشرية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : «ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا!»

واعترضوا على حظه من المال ، فقالوا : «أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها».

واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا : «لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة!».

وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم.

ووقف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يواجه هذا كله ، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال ، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا ، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه ، ولا يحفل بشيء سواه : «رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي. لك العتبى حتى ترضى» .. (١)

فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه ، ويمسح على آلامه ومتاعبه ، ويهدهده ويسري عنه ، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه ، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم ، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره .. فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك! (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) .. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) .. «وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن؟» ..

ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوي الهابط الذي يتمرغون فيه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً!). ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ..

وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل : قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون.

ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) .. (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) .. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يا وَيْلَتى! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ..)

ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) .. (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

ويكلفه أن يصبر ويصابر ، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن ، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) ..

ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) ..

وهكذا تمضي السورة : في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله. وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال. حتى تقرب من نهايتها ، فإذا ريح رخاء وروح وريحان ، وطمأنينة وسلام .. وإذا صورة «عباد الرحمن» .. (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ..) وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهاد

__________________

(١) من مناجاته لربه عقيب ما لقي في الطائف من أذى.

الشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة ؛ وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك.

وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله ، لو لا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه : (قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) ..

* * *

هذه هي ظلال السورة ؛ وذلك هو محورها الذي تدور عليه ، وموضوعها الذي تعالجه. وهي وحدة متصلة ، يصعب فصل بعضها عن بعض. ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع.

يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح الله وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا. وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض ، المدبر للكون بحكمة وتقدير ، ونفي الولد والشريك. ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون .. كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من تكذيبه فيما جاءهم به ، وادعائهم أنه إفك افتراه ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها. وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق ، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها. وقحتهم في وصفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأنه رجل مسحور .. وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحدة لربهم كي يهون على نفس الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مقولاتهم عنه وعن رسالته .. ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة ، ويتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير ، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين. ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة. (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) .. ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر ، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون الله ، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على الله من شرك .. وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء الله على الله ، وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا). ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة .. (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) .. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) .. ليكون في ذلك تأسية للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم يهجرون القرآن ، وهو يشكو لربه هذا الهجران. وهم يعترضون على طريقة تنزيله ؛ ويقولون : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً). ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم ، وهم المكذبون بيوم القيامة ، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون. فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقولهم : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟) ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل ، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار ، والرياح المبشرة بالماء المحيي ، وخلقة البشر من الماء. ومع هذا فهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم ، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الله الحق .. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ؟) .. وهو (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً

مُنِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) .. ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون ..

ثم يجئ الشوط الأخير يصور (عِبادُ الرَّحْمنِ) الذين يسجدون له ويعبدونه ، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة. ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن. ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً).

وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لو لا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين ..

وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو يتفق مع ظل السورة وجوها ، ويتفق مع موضوعها وأهدافها ، على طريقة التناسق الفني في القرآن.

* * *

والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؛ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ؛ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ..

إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسي : تنزيل القرآن من عند الله ، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا. ووحدانية الله المطلقة. وتنزيهه عن الولد والشريك ، وملكيته لهذا الكون كله ، وتدبيره بحكمة وتقدير .. وبعد ذلك كله يشرك المشركون ، ويفتري المفترون ، ويجادل المجادلون ، ويتطاول المتطاولون!

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ..

والتبارك تفاعل من البركة ، يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا. ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام ، لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن.

وسماه الفرقان. بما فيه من فارق بين الحق والباطل ، والهدي والضلال. بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج ، وبين عهد للبشرية وعهد. فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير ، وصورتها الممثلة في الواقع. منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله. فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير. فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد. وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية. وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة ، ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً).

وفي موضع التكريم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية : (عَلى عَبْدِهِ) .. كذلك وصفه في مقام الإسراء والمعراج في سورة الإسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى). وكذلك وصفه في مقام دعائه ومناجاته في سورة الجن : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ..) وكذلك يصفه هنا في مقام تنزيل الفرقان عليه كما وصفه في مثل هذا المقام في مطلع سورة الكهف :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ...) والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام ، وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان. كما أن فيه تذكيرا خفيا بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله. ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة. متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة. ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج ، أو مقام الدعاء والمناجاة ، أو مقام الوحي والتلقّي ، كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل ، منها نشأت أساطير النبوة لله ، أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية. ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذا المقام ، بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان.

ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده .. (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) .. وهذا النص مكي ، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى. لا كما يدعي بعض «المورخين» غير المسلمين ، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية ، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية. فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين. طبيعتها طبيعة عالمية شاملة ، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة ؛ وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد ، ومن نهج إلى نهج. عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود ..

تبارك الذي نزل الفرقان على عبده .. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ..

ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض. سيطرة الملكية والاستعلاء ، وسيطرة التصريف والتدبير ، وسيطرة التبديل والتغيير.

(وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) .. فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة ؛ وهو سبحانه باق لا يفنى ، قادر لا يحتاج.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) .. وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم ، ووحدة الناموس ، ووحدة التصريف.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). قدر حجمة وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر زمانه ومكانه. وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير.

وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه ، لما يدعو إلى الدهشة حقا ، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره ، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ..

يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان : «الإنسان لا يقوم وحده (١)».

__________________

(١) ترجمة محمود صالح الفلكي بعنوان : «العلم يدعو إلى الإيمان».

«ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل ، بالغا هذه الدقة الفائقة. لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام ، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة النبات.

«ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ، ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره!

«إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع ، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ، دون أن تضر بالإنسان ، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم ، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ـ ومعظمها سامّ ـ فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبة المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء ـ أي المحيط ـ الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، والنباتات. وأخيرا الإنسان نفسه ...».

ويقول في فصل آخر :

«لو كان الأوكسجين بنسبة ٥٠ في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من ٢١ في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال ، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى ١٠ في المائة أو أقل ، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان ـ كالنار مثلا ـ تتوافر له».

ويقول في فصل ثالث.

«ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره ـ من السيطرة على العالم ، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك ، ماثلا في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.

«والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا. كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا ، وزاحم أهل المدن والقرى ، وأتلف مزارعهم ، وحال دون الزراعة. ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار ؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ، يتقدم في سبيله دون عائق!

«وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار ، ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار ، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت ، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية ، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.

«وهكذا توافرت الضوابط والموازين ، وكانت دائما مجدية.

«ولما ذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها ، أو يكسبون مناعة منها؟ ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولما ذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة ، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب ، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية ، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة! ..

«إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان ؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب. وحين تنمو الحشرات وتكبر ، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات ، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها ، ومنعها من السيطرة على العالم. ولو لا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته ، أو عنكبوتا في مثل هذا الحجم!

«ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات ، والتي بدونها ما كان أي حيوان ـ بل كذلك أي نبات ـ يمكن أن يبقى في الوجود ... إلخ».

وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم ، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق ، وتدبيره الدقيق في الكون ، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ..

ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئا من هذا كله.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ، لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؛ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ؛ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ..

وهكذا يجرد آلهتهم المدعاة من كل خصائص الألوهية فهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) والله خلق كل شيء. (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) .. يخلقهم عبادهم ـ بمعنى يصنعونهم ـ إن كانوا أصناما وأوثانا ـ ويخلقهم الله ـ بمعنى يوجدهم ـ إن كانوا ملائكة أو جنا أو بشرا أو شجرا أو حجرا .. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ) فضلا عن أن يملكوا لعبادهم (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر. ولكن حتى هذا لا يملكونه. ومن ثم يقدمه في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه! ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) فلا إماتة حي ، ولا إنشاء حياة ، ولا إعادتها داخل في مقدورهم. فماذا لهم بعد ذلك من خصائص الألوهية ، وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة؟!.

ألا إنه الانحراف المطلق ، الذي لا يستغرب معه أن يدعوا على الرسول بعد ذلك ما يدعون ، فدعواهم على الله أضخم وأقبح من كل ما يدعون على رسوله. وهل أقبح من ادعاء إنسان على الله وهو خالقه وخالق كل شيء ، ومدبر أمره ومقدر كل شيء. هل أقبح من ادعاء إنسان أن لله شريكا؟ وقد سئل رسول الله

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الذنب أكبر؟ قال : «أن تجعل لله أندادا وهو خلقك ...» (١)

* * *

وبعد عرض هذا التطاول على مقام الخالق جل وعلا ، يعرض تطاولهم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويرد عليه عقب عرضه بما يظهر سخفه وكذبه :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ...

وأكذب شيء أن يقول كفار قريش هذه المقالة ، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس. فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقنونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيء آخر غير كلام البشر ؛ وهم كانوا يحسون هذا بذوقهم في الكلام ؛ وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثر بالقرآن. ثم هم كانوا يعلمون عن محمد قبل البعثة أنه الصادق الأمين الذي لا يكذب ولا يخون. فكيف به يكذب على الله وينسب إليه قولا لم يقله؟

ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعية المستمدة من سيادتهم الدينية ، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور العرب ، الذين قد لا يميزون بين الكلام ، ولا يعرفون درجته : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ). قيل : إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر ، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة. وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدل. فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين ، فما يمسكهم هم عن الإتيان بمثله ، مستعينين بأقوام منهم ، ليبطلوا حجة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يتحداهم به وهم عاجزون؟!

ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت ؛ إنما يدمغهم بالوصف البارز الثابت :

(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) .. ظلما للحق ، ولمحمد ، ولأنفسهم ، وزورا واضح الكذب ظاهر البطلان.

ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن القرآن :

(وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ..

ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأولين التي يسوقها للعبرة والعظة ، للتربية والتوجيه ، فقالوا عن هذا القصص الصادق : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وزعموا أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ طلب أن تكتب له ، لتقرأ عليه في الصباح والمساء ـ إذ كان أميالا يقرأ ولا يكتب ـ ثم يقولها هو بدوره ، وينسبها إلى الله! وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس ، ولا تثبت للمناقشة. وإن سياقة القصص في القرآن بهذا التنسيق في عرضه ؛ وبهذا التناسق بينه وبين الموضوع الذي يساق فيه ، ويستشهد بالقصص عليه ؛ وبهذا التناسب بين أهداف القصص وأهداف السياق في السورة الواحدة .. إن هذا كله ليشهد بالقصد والتدبير العميق اللطيف الذي لا يلحظ في الأساطير المبعثرة التي لا تجمعها فكرة ، ولا يوجهها قصد ، إنما تساق للتسلية وتزجية الفراغ (٢)!

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم.

(٢) يراجع بتوسع فصل : القصة في القرآن في كتاب : «التصوير الفني في القرآن». «دار الشروق».

وفي قولهم : إنها أساطير الأولين إشارة إلى بعدها في الزمان ؛ فلا يعلمها محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا أن تملى عليه من حفاظ الأساطير ، الذين ينقلونها جيلا عن جيل. لذلك يرد عليهم بأن الذي يمليها على محمد أعلم من كل عليم. فهو الذي يعلم الأسرار جميعا ، ولا يخفى عليه نبأ في الأولين والآخرين : (قُلْ : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. فأين علم حفاظ الأساطير ورواتها من ذلك العلم الشامل؟ وأين أساطير الأولين من السر في السماوات والأرض؟ وأين النقطة الصغيرة من الخضم الذي لا ساحل له ولا قرار؟

ألا إنهم ليرتكبون الخطيئة الكبيرة ، وهم يدعون على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تلك الدعوى المتهافتة ؛ ومن قبل يصرون على الشرك بالله وهو خلقهم .. ولكن باب التوبة مع ذلك مفتوح ، والرجوع عن الإثم ممكن ، والله الذي يعلم السر في السماوات والأرض. ويعلم ما يفترون وما يكيدون ، غفور رحيم : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ...

* * *

ثم يستطرد في عرض مقولاتهم عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واعتراضاتهم الجاهلة على بشريته ، واقتراحاتهم المتعنتة على رسالته :

(وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً! أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها. وَقالَ الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ : جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) ..

ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ما له بشرا يتصرف تصرفات البشر؟ إنه الاعتراض المكرور الذي رددته البشرية عن كل رسول! كيف يمكن أن يكون فلان ابن فلان ، المعروف لهم ، المألوف في حياتهم ، الذي يأكل كما يأكلون ، ويعيش كما يعيشون .. كيف يمكن أن يكون رسولا من عند الله يوحى إليه؟ كيف يمكن أن يتصل بعالم آخر غير عالم الأرض يتلقى عنه؟ وهم يرونه واحدا منهم من لحم ودم. وهم لا يوحى إليهم ، ولا يعرفون شيئا عن ذلك العالم الذي يأتي منه الوحي لواحد منهم ، لا يتميز في شيء عنهم.

والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة. ولكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية مقبولة .. لقد نفخ الله من روحه في هذا الإنسان ؛ وبهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنسانا ، واستخلف في الأرض. وهو قاصر العلم ، محدود التجربة ، ضعيف الوسيلة ، وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه ، ودون هدي ينير له طريقه. وقد أودعه الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته. فلا عجب أن يختار الله واحدا من هذا الجنس ؛ صاحب استعداد روحي للتلقي ؛ فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق ، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا في حاجة إلى العون.

إنه التكريم الإلهي للإنسان يبدو في هذه الصورة العجيبة من بعض جوانبها ، الطبيعية من البعض الآخر. ولكن الذين لا يدركون قيمة هذا المخلوق ، ولا حقيقة التكريم الذي أراده الله له ، ينكرون أن يتصل بشر بالله عن طريق الوحي ؛ وينكرون أن يكون واحد من هؤلاء البشر رسولا من عند الله. يرون الملائكة أولى بهذا وأقرب : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). والله قد أسجد الملائكة للإنسان بما أودعه من

الخصائص الفائقة ، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة.

وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر. واحد من البشر يحس إحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم .. ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق!

وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد ، لأنه بشر منهم ، يتسامى بهم رويدا رويدا ؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم ؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم. وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان ؛ ولو كان ملكا ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه ، لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم ، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته ، ولا شوق إلى تحقيق صورته!

فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشرا ليؤدي دوره على قيادة البشر. والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة. فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان! وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه. فهلا كفاه الله ذلك ، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل «أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها»!

والله لم يرد لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة. لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته ؛ ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة ، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته. فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه : لقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكفي الحاجة ، لا يعاني صراع العيش ، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته وتكاليفه ، فلم يعوقه عائق مما أعاني .. فها هو ذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعمل ليعيش ، ويعمل لرسالته ، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة ـ وقدوته أمامه ـ ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة. فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله ، فكان كالريح المرسلة في جوده ، حتى يستعلي على فتنة المال ، ويرخص من قيمته في النفوس ؛ وكي لا يقولن أحد بعد ذلك : إنما نهض محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ برسالته ، لأنه عاش فقيرا لا يشغله من المال شاغل ، فها هو ذا المال يأتيه غزيرا وفيرا ، ولكنه يمضي في دعوته كذلك. شأنه يوم أن كان فقيرا.

وما المال؟ وما الكنوز؟ وما الجنان؟ حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي؟ ما هذه الأرض وما فيها؟ بل ما هذا الكون المخلوق كله ، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء ، وواهب الكثير والقليل؟ ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون!

(وَقالَ الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) ..

وهي كلمة ظالمة فاحشة حكاها عنهم هنا ، وحكاها عنهم كذلك في سورة الإسراء. ورد عليها هنا وهناك ردا واحدا :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) ..

وكلتا السورتين تعالجان موضوعا متقاربا ، في جو متقارب هنا وهناك .. وقولتهم تلك يقصدون بها الإساءة إلى شخص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والتنقص منه. إذ يمثلونه برجل سحر عقله ، فهو يقول كلاما غريبا لا يقوله الطبيعيون من الناس! ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بأن ما يقوله غير طبيعي ، ولا مألوف ، ولا هو من عادة البشر ولا من مستوى البشر .. والرد عليهم يوحي بالتعجيب من أمرهم : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) وشبهوك بالمسحورين مرة ، واتهموك بالتزوير مرة ، ومثلوك برواة الأساطير مرة .. وكله ضلال ، وبعد عن إدراك الحق (فَضَلُّوا) ضلوا عن كل طريق للحق ، وكل سبيل للهدي (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).

وينهي هذا الجدل ببيان تفاهة ما يقترحون وما يتصورون من أعراض الحياة الدنيا ، التي يحسبونها ذات قيمة ، ويرونها أجدر أن يعطيها الله لرسوله إن كان حقا رسولا ، من كنز يلقى إليه ، أو جنة يأكل منها. فلو شاء الله لأعطاه أكبر مما يقترحون من هذا المتاع :

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ : جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً).

ولكنه شاء أن يجعل له خيرا من الجنات والقصور. الاتصال بواهب الجنات والقصور. والشعور برعايته وحياطته ، وتوجيهه وتوفيقه .. وتذوق حلاوة ذلك الاتصال ، الذي لا تقاربه نعمة من النعم ، ولا متاع صغر أو عظم. وشتان شتان لو كانوا يدركون أو يتذوقون!

* * *

وعند هذا الحد من استعراض مقولاتهم الظالمة عن الله وعلى رسول الله ، يكشف عن مدى آخر من آماد كفرهم وضلالهم. فهم يكذبون بالساعة ، ومن ثم لا يتحرجون من ظلم ولا افتراء ، ولا يخشون يوما يلقون فيه الله فيحاسبهم على الظلم والافتراء. وهنا يصورهم في مشهد من مشاهد القيامة يزلزل القلوب الصلدة ويهز المشاعر الخامدة ، ويطلعهم على هول ما ينتظرهم هناك ؛ وعلى حسن ما ينتظر المؤمنين في ذلك الهول العظيم :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ، إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً! قُلْ : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً ، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً؟) ..

بل كذبوا بالساعة .. وبلغوا هذا المدى من الكفر والضلال. هذا المدى الذي يصوره التعبير بعيدا متطاولا ، يضرب عن كل ما قبله ليبرزه ويجسمه : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) .. ثم يكشف عن الهول الذي ينتظر أصحاب هذه الفعلة الشنيعة. إنها السعير حاضرة مهيأة : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) ..

والتشخيص ـ ونعني به خلع الحياة وتجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة المجسمة من الأشياء والمعاني والحالات النفسية ـ فن في القرآن ، يرتفع بالصور وبالمشاهد التي يعرضها إلى حد الإعجاز ، بما يبث فيها من عنصر الحياة (١).

ونحن هنا أمام مشهد السعير المتسعرة ، وقد دبت فيها الحياة! فإذا هي تنظر فترى أولئك المكذبين بالساعة.

__________________

(١) يراجع فصل. «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب : التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق».

تراهم من بعيد! فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها ؛ وهي تتحرق عليهم ، وتصعد الزفرات غيظا منهم ؛ وهي تتميز من النقمة ، وهم إليها في الطريق! .. مشهد رعيب يزلزل الأقدام والقلوب!

ثم ها هم أولاء قد وصلوا. فلم يتركوا لهذه الغول طلقاء. يصارعونها فتصرعهم ، ويتحامونها فتغلبهم. بل ألقوا إليها إلقاء. ألقوا مقرنين ، قد قرنت أيديهم إلى أرجلهم في السلاسل. وألقوا في مكان منها ضيق ، يزيدهم كربة وضيقا ، ويعجزهم عن التفلت والتململ .. ثم ها هم أولاء يائسون من الخلاص ، مكروبون في السعير. فراحوا يدعون الهلاك أن ينقذهم من هذا البلاء : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً). فالهلاك اليوم أمنية المتمني ، والمنفذ الوحيد للخلاص من هذا الكرب الذي لا يطاق ثم ها هم أولاء يسمعون جواب الدعاء. يسمعون تهكما ساخرا مريرا : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً). فهلاك واحد لا يجدي شيئا ولا يكفي شيئا!

وفي هذا الموقف المكروب الرعيب يعرض ما أعد للمتقين ، الذين يخشون ربهم ويرجون لقاءه ، ويؤمنون بالساعة. يعرض في أسلوب متهكم كذلك ساخر.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ؟ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً ؛ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ. كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً؟).

أذلك الكرب الفظيع خير؟ أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين ، وخولهم حق سؤاله عنها ، وطلب تحقيق وعده الذي لا يخلف ، ومنحهم أن يطلبوا فيها ما يشاءون؟ وهل هناك وجه للموازنة؟ ولكنها السخرية المريرة بالساخرين الذين يتطاولون على الرسول الكريم.

ثم يمضي مستطردا يعرض مشهدا آخر من مشاهد الساعة التي كذب بها المكذبون. مشهد أولئك المشركين ، وقد حشروا مع آلهتهم التي كانوا يزعمون ، ووقف الجميع عبادا ومعبودين أمام الديان يسألون ويجيبون!

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، فَيَقُولُ : أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ قالُوا : سُبْحانَكَ! ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً .. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ ، فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) ..

وما يعبدون من دون الله قد يكونون هم الأصنام. وقد يكونون هم الملائكة والجن ، وكل معبود من دون الله. وإن الله ليعلم. ولكن الاستجواب هكذا في الساحة الكبرى ، وهم محشورون أجمعين ، فيه تشهير وتأنيب ، وهو ذاته عذاب مرهوب! والجواب هو الإنابة من هؤلاء «الآلهة»! الإنابة لله الواحد القهار. وتنزيهه عن ذلك الافتراء ، والتبرؤ لا من ادعاء الألوهية ، ولكن من مجرد أن يتخذوا لهم أولياء من دون الله ، والزراية على أولئك الجاحدين الجهال :

(قالُوا : سُبْحانَكَ! ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً) ..

فهذا المتاع الطويل الموروث ـ على غير معرفة بواهب النعمة ولا توجه ولا شكر ـ قد ألهاهم وأنساهم ذكر المنعم ، فانتهت قلوبهم إلى الجدب والبوار. كالأرض البور لا حياة فيها ولا زرع ولا ثمار. والبوار الهلاك ، ولكن اللفظ يوحي كذلك بالجدب والخواء. جدب القلوب ، وخواء الحياة.

عندئذ يتوجه إلى أولئك العباد الجهال بالخطاب المخزي المهين :

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ. فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) .. لا صرف العذاب ولا الانتصار.

وبينما المشهد في الآخرة يوم الحشر. ينتقل السياق فجأة إلى المكذبين وهم بعد في الأرض :

(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ : نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) ..

ذلك على طريقة القرآن في لمس القلوب في اللحظة التي تتهيأ فيها للاستجابة ؛ وهي متأثرة بمثل ذلك المشهد المرهوب!

* * *

والآن وقد شهدوا وشهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نهاية الافتراء والتكذيب والاستهزاء. ونهاية الاعتراض على بشرية الرسول وأكله الطعام ومشيه في الأسواق .. الآن يعود إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسليه ويؤسيه ، بأنه لم يكن بدعا من الرسل ، فكلهم يمشون على سواء :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً. أَتَصْبِرُونَ؟ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) ..

فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه. إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله. سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً). ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره. وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره. ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر. وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء : (أَتَصْبِرُونَ؟) .. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً). بصيرا بالطبائع والقلوب ، والمصائر والغايات. ولهذه الإضافة هنا (وَكانَ رَبُّكَ) إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب .. والله بصير بمداخل القلوب ..

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)

يبدأ هذا الشوط من السورة بما يشبه بدء الشوط الأول ، ويسير سيرته في تقديم ما يتطاول به المشركون على ربهم ، وما يتفوهون به من اعتراضات واقتراحات ، مقدمة لما يتطاولون به على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مقام تسليته وتعزيته. غير أن السياق هنا يعجل بعرض ما ينتظرهم من عذاب الآخرة عقابا على ذلك التطاول ، في سلسلة متصلة من مشاهد القيامة ، ردا على قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) .. ثم يعرض اعتراضاتهم على تنزيل القرآن منجما ، ويعقب ببيان الحكمة من تنزيله متتابعا ، ويطمئن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على عون الله له كلما تحدوه في جدل : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .. ويعرض عليه وعليهم مصارع المكذبين قبلهم ، ويوجه نظرهم إلى مصرع قوم لوط ، وهم يمرون على قريته المدمرة ، مستنكرا ألا يحرك قلوبهم منظرها وهم يمرون عليها .. كل أولئك مقدمة لعرض استهزائهم بشخصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتطاولهم على مقامه ، وما يكاد يعرض هذا حتى يعقب عليه تعقيبا قويا ، يحقرهم فيه ويحتقرهم : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ..

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا! لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ، وَيَقُولُونَ : حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً. وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ

وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ، يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يا وَيْلَتى! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) ..

إن المشركين لا يرجون لقاء الله ، أي لا ينتظرون هذا اللقاء ، ولا يحسبون حسابه ، ولا يقيمون حياتهم وتصرفاتهم على أساسه. ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله ، فتنطلق ألسنتهم بكلمات وتصورات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا!) ..

فقد كانوا يستبعدون أن يكون الرسول بشرا ؛ وكانوا يطلبون ، لكي يؤمنوا بالعقيدة التي يدعوهم إليها ، أن تنزل عليهم الملائكة تشهد بها ، أو أن يروا الله سبحانه وتعالى فيصدقوا .. وهو تطاول على مقام الله سبحانه. تطاول الجاهل المستهتر الذي لا يحس جلال الله في نفسه ، ولا يقدر الله حق قدره. فمن هم حتى يتطاولوا هذا التطاول؟ من هم إلى جوار الله العظيم الجبار المتكبر؟ من هم وهم في ملك الله وخلقه كالذرة التائهة الصغيرة ، إلا أن يربطوا أنفسهم بالله عن طريق الإيمان فيستمدوا منه قيمتهم .. ومن ثم يرد عليهم في نفس الآية قبل أن تنتهي ، يكشف عن منبع هذا التطاول :

(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) ...

لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم ، فاستكبروا وطغوا طغيانا كبيرا. لقد تضخم شعورهم بأنفسهم حتى شغلهم عن تقدير القيم الحقيقية ووزنها وزنا صحيحا. لقد عادوا ما يحسون إلا أنفسهم وقد كبرت في أعينهم وتضخمت وعظمت ، حتى ليحسبونهم شيئا عظيما في هذا الكون يستحق أن يظهر لهم الله جل جلاله ليؤمنوا ويصدقوا!

ثم يسخر منهم بصدق وحق ، إذ يطلعهم على الهول الذي ينتظرهم يوم يرون الملائكة ـ ورؤية الملائكة هي أقل الطلبين تطاولا ـ فإنهم لا يرون الملائكة إلا في يوم عصيب هائل ، ينتظرهم فيه العذاب الذي لا طاقة لهم به ، ولا نجاة لهم منه. ذلك هو يوم الحساب والعقاب :

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وَيَقُولُونَ : حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ..

يوم يتحقق اقتراحهم الذي اقترحوه : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) يومئذ لا يبشر المجرمون ولكن يعذبون. فيالها من استجابة لما يقولون! يومئذ يقولون : (حِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرما. وهي جملة اتقاء للشر وللأعداء كانوا يقولونها استبعادا لأعدائهم وتحرزا من أذاهم. وهي تجري في ذلك اليوم على ألسنتهم بحكم العادة من الذهول حين يفاجأون. ولكن أين هم اليوم مما كانوا يقولون! إن الدعاء لا يعصمهم ولا يمنعهم :

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ..

هكذا في لحظة. والخيال يتبع حركة القدوم المجسمة المتخيلة ـ على طريقة القرآن في التجسيم والتخييل (١) ـ وعملية الإثارة للأعمال ، والتذرية في الهواء ؛ فإذا كل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح هباء. ذلك أنه

__________________

(١) يراجع فصل التخييل الحسي والتجسيم في كتاب «التصوير الفني في القرآن». ويراجع كتاب «مشاهد القيامة في القرآن». «دار الشروق».

لم يقم على الإيمان ، الذي يصل القلب بالله ، والذي يجعل العمل الصالح منهجا مرسوما وأصلا قاصدا ، لا خبط عشواء ، ولا نزوة طارئة ، ولا حركة مبتورة لا قصد لها ولا غاية. فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج ، ولا فائدة لحركة مفردة ليست حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم.

إن وجود الإنسان وحياته وعمله في نظرة الإسلام موصولة كلها بأصل هذا الكون ، وبالناموس الذي يحكمه ، والذي يصله كله بالله. بما فيه الإنسان وما يصدر عنه من نشاط. فإذا انفصل الإنسان بحياته عن المحور الرئيسي الذي يربطه ويربط الكون ، فإنه يصبح لقي ضائعا لا وزن له ولا قيمة ، ولا تقدير لعمله ولا حساب. بل لا وجود لهذا العمل ولا بقاء.

والإيمان هو الذي يصل الإنسان بربه ؛ فيجعل لعمله قيمة ووزنا ، ويجعل له مكانه في حساب هذا الكون وبنائه.

وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين. تعدم إعداما يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة :

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ..

وهنا يلتفت إلى الجانب الآخر فإذا المؤمنون أصحاب الجنة ليتم التقابل في المشهد :

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) ..

فهم مستقرون مستروحون ناعمون في الظلال. والاستقرار هنا يقابل خفة الهباء المنثور. والاطمئنان يقابل الفزع الذي يطلق الاستعاذة في ذهول.

ولقد كان الكفار يقترحون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة. وربما كان ذلك تأثرا بالأساطير الإسرائيلية التي كانت تصور الإله يتراءى لهم في سحابة أو عمود من النار. فهنا يعود ليرسم مشهدا آخر يوم يتحقق اقتراحهم بنزول الملائكة إليهم :

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ. وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً).

وهذه الآية وكثير غيرها في القرآن يقرر أن أحداثا فلكية ضخمة ستتم في ذلك اليوم. وكلها تشير إلى اختلال كامل في النظام الذي يربط أجزاء هذا الكون المنظور وأفلاكه ونجومه وكواكبه. وإلى انقلاب في أوضاعه وأشكاله وارتباطاته ، تكون به نهاية هذا العالم. وهو انقلاب لا يقتصر على الأرض ، إنما يشمل النجوم والكواكب والأفلاك. ولا بأس من استعراض مظاهر هذا الانقلاب كما جاءت في سور متعددة. (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ .. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ .. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ .. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ .. فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا .. فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ؛ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ .. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ .. إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها .. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ .. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ .. يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً .. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ .. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا .. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ،

وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ .. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً .. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ .. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً .. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ .. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ..

فهذه الآيات كلها تنبىء بأن نهاية عالمنا هذا ستكون نهاية مروعة ، ترج فيها الأرض وتدك ، وتنسف فيها الجبال ، وتتفجر فيها البحار إما بامتلائها من أثر الاضطراب ؛ وإما بتفجر ذراتها واستحالتها نارا. كذلك تطمس فيها النجوم وتنكدر ، وتشقق فيها السماء وتنفطر ، وتتحطم فيها الكواكب وتنتثر ، وتختل المسافات فيجمع الشمس والقمر ، وتبدو السماء مرة كالدخان ومرة متلهبة حمراء .. إلى آخر هذا الهول الكوني الرعيب.

وفي هذه السورة ـ الفرقان ـ يخوف الله المشركين بتشقق السماء بالغمام. وقد يكون هو السحب المتراكمة من أبخرة تلك الانفجارات المروعة. وتنزل الملائكة يومئذ على الكافرين كما كانوا يقترحون ، لا لتصديق الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن ليتولوا عذابهم بأمر ربهم (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) بما فيه من هول ، وبما فيه من عذاب .. فما لهم يقترحون نزول الملائكة وهم لا ينزلون إلا في مثل ذلك اليوم العسير؟

ثم يعرض مشهدا من مشاهد ذلك اليوم ، يصور ندم الظالمين الضالين. يعرضه عرضا طويلا مديدا ، يخيل للسامع أنه لن ينتهي ولن يبرح. مشهد الظالم يعض على يديه من الندم والأسف والأسى :

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) ..

ويصمت كل شيء من حوله ؛ ويروح يمد في صوته المتحسر ، ونبراته الأسيفة ؛ والإيقاع الممدود يزيد الموقف طولا ويزيد أثره عمقا. حتى ليكاد القارئ للآيات والسامع يشاركان في الندم والأسف والأسى!

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) .. فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها. إنما هو يداول بين هذه وتلك ، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين. وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيما.

(يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) .. فسلكت طريقه ، لم أفارقه ، ولم أضل عنه .. الرسول الذي كان ينكر رسالته ويستبعد أن يبعثه الله رسولا!

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) .. فلانا بهذا التجهيل ليشمل كل صاحب سوء يصد عن سبيل الرسول ويضل عن ذكر الله (١) .. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) .. لقد كان شيطانا يضل ، أو كان عونا للشيطان (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يقوده إلى مواقف الخذلان ، ويخذله عند الجد ، وفي مواقف الهول والكرب ..

وهكذا راح القرآن يهز قلوبهم هزا بهذه المشاهد المزلزلة ، التي تجسم لهم مصيرهم المخيف ، وتريهم إياه

__________________

(١) تذكر بعض الروايات في سبب نزول هذه الآيات ، أن عقبة بن أبي معبط كان يكثر من مجالسة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فدعاه إلى ضيافته ، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ، ففعل. وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه ، وقال له : صبأت. فقال : لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له فقال : لا أرضى منك إلا أن تأتيه ، فتطأ قفاه وتبزق في وجهه. فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله.

واقعا مشهودا ، وهم بعد في هذه الأرض ، يكذبون بلقاء الله ، ويتطاولون على مقامه دون توقير ، ويقترحون الاقتراحات المستهترة والهول المرعب ينتظرهم هناك والندم الفاجع بعد فوات الأوان.

* * *

وبعد هذه الجولة في اليوم العسير يعود بهم إلى الأرض يستعرض موقفهم مع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واعتراضاتهم على طريقة تنزيل القرآن. ثم ينهي هذه الجولة بمشهدهم كذلك يوم الحشر والنشور : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ..

لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم. ويبصرهم. هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا. وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله ، ويجدوا الهدي على نوره. وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم ، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق : (وَقالَ الرَّسُولُ : يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) ..

وإن ربه ليعلم ؛ ولكنه دعاء البث والإنابة ، يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا ، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.

فيسليه ربه ويعزيه. فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات. فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به ، ويصدون عن سبيل الله. ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) ..

ولله الحكمة البالغة. فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها ـ مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق ـ هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة ؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين منهم ؛ فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة ، التي لا تبتغي مغانم قريبة. ولا تريد إلا الدعوة خالصة ، تبتغي بها وجه الله تعالى.

ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة ، تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار ، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون ، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون ، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل ، ووقعت البلبلة والفتنة. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات ، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا ، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا. فلا يكافح ويناضل ، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون ، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا. بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا ، وأشدهم إيمانا ، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس .. عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل. وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء. وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها ، واجتازوا امتحانها وبلاءها. أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته. وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي ، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين.

وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم ، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة. فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء.

والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات ؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات ، وهم ثابتون على دعوتهم ، ماضون في طريقهم ، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام ، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن .. وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة ، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة. وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع!

من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين ؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق ، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين ، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق ، والنهاية مقدرة من قبل ، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله. إنها الهداية إلى الحق ، والانتهاء إلى النصر : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي. فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية. فساد في القلوب ، وفساد في النظم ، وفساد في الأوضاع. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون ، الذين ينشئون الفساد من ناحية ، ويستغلونه من ناحية. والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد ، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء. الذين يجدون فيه سندا للقيم الزائقة التي يستندون هم في وجودهم إليها .. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم ، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة ، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر ، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري ، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن. وكذلك المجرمون .. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق ، يستميتون في كفاحها. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية ، لأنها تسير مع خط الحياة ، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله ، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله .. (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) ..

ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين الذين يقفون في وجه دعوة القرآن ، والرد عليها :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ..

ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، وينشىء مجتمعا ، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج ؛ وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا ، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا ، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية ، وأشد قابلية لها والتذاذا بها.

ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة ، وهي في طريق نشأتها ونموها ، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج

تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة ، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي «الأوامر اليومية» التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان «الأمر اليومي» مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ ؛ ومع الانطباع والتكليف وفق ما يتلقاه ..

من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويثبته على طريقه ؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل ، وجزءا بعد جزء :

(كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ..

والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي ..

ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا ، وتأثرت به يوما يوما ، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشيء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير ..

ويمضي في تثبيت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتطمينه على إمداده بالحجة البالغة كلما فتحوا له بابا من الجدل ، وكلما اقترحوا عليه اقتراحا ، أو اعترضوا عليه اعتراضا :

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ..

وإنهم ليجادلون بالباطل ، والله يرد عليهم باطلهم بالحق الذي يدمغه. والحق هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها ، وليس مجرد الانتصار في الجدل ، ولا الغلب في المحاجة. إنما هو الحق القوي بنفسه ، الواضح الذي لا يتلبس به الباطل.

والله سبحانه يعد رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالعون في كل جدل يقوم بينه وبين قومه. فهو على الحق ، والله يمده بالحق الذي يعفى على الباطل. فأنى يقف جدلهم لحجة الله البالغة؟ وأنى يقف باطلهم للحق الدامغ الذي يتنزل من عند الله؟

وتنتهي هذه الجولة بمشهدهم يحشرون على وجوههم يوم القيامة ، جزاء تأبيهم على الحق ، وانقلاب مقاييسهم ومنطقهم في جدلهم العقيم :

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ. أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ..

ومشهد الحشر على الوجوه فيه من الإهانة والتحقير والانقلاب ، ما يقابل التعالي والاستكبار ، والإعراض عن الحق. وهو يضع هذا المشهد أمام الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تعزية له عما يلقاه منهم. ويضعه أمامهم تحذيرا لهم مما ينتظرهم. وهو مشهد مجرد عرضه يذل كبرياءهم ويزلزل عنادهم ، ويهز كيانهم. وقد كانت هذه الإنذارات تهزهم هزا ، ولكنهم يتحاملون على أنفسهم ويظلون معاندين.

* * *

ثم يجول بهم جولة في مصارع المكذبين من السابقين :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ، وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ؛ فَقُلْنَا : اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً. وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً. وَعاداً

وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ ، وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ، وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً. وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ؛ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟ بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً ..)

إنها أمثلة مختصرة سريعة ترسم مصائر المكذبين :

فهذا موسى يؤتى الكتاب ويرسل معه أخوه هارون وزيرا ومعينا. ويؤمر بمواجهة (الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ذلك أن فرعون وملأه كانوا مكذبين بآيات الله ـ حتى قبل إرسال موسى وهارون إليهم ، فآيات الله قائمة دائمة ، والرسل إنما يذكرون بها الغافلين .. وقبل أن تتم الآية الثانية في السياق يرسم مصيرهم في عنف وإجمال (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً).

وهؤلاء قوم نوح : (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) .. وهم كذبوا نوحا وحده. ولكن نوحا إنما جاءهم بالعقيدة الواحدة التي أرسل بها الرسل جميعا. فلما كذبوه كانوا قد كذبوا الرسل جميعا. (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) فإن آية الطوفان لا تنسى على الدهر ، وكل من نظر فيها اعتبر إن كان له قلب يتدبر (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) فهو حاضر لا يحتاج إلى إعداد. ويظهر لفظ الظالمين بدل الضمير لإثبات هذا الوصف لهم وبيان سبب العذاب. وهؤلاء عاد وثمود وأصحاب الرس (١) والقرون الكثيرة بين ذلك. كلهم لاقوا ذات المصير بعد أن ضربت لهم الأمثال ، فلم يتدبروا القول ، ولم يتقوا البوار والدمار ..

وهذه الأمثلة كلها من قوم موسى ونوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ومن القرية التي أمطرت مطر السوء ـ وهي قرية لوط ـ كلها تسير سيرة واحدة وتنتهي نهاية واحدة (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) للعظة والاعتبار (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) وكانت عاقبة التكذيب هي التحطيم والتفتيت والدمار. والسياق يستعرض هذه الأمثلة ذلك الاستعراض السريع لعرض هذه المصارع المؤثرة. وينهيها بمصرع قوم لوط وهم يمرون عليه في سدوم في رحلة الصيف إلى الشام. وقد أهلكها الله بمطر بركاني من الأبخرة والحجارة فدمرها تدميرا. ويقرر في نهايته أن قلوبهم لا تعتبر ولا تتأثر لأنهم لا ينتظرون البعث ، ولا يرجون لقاء الله. فذلك سبب قساوة تلك القلوب. وانطماسها. ومن هذا المعين تنبع تصرفاتهم واعتراضاتهم وسخرياتهم من القرآن ومن الرسول.

* * *

وبعد هذا الاستعراض السريع يجيء ذكر استهزائهم برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد سبقه تطاولهم على ربهم ، واعتراضهم على طريقة تنزيل القرآن. وسبقه كذلك مشاهدهم المفجعة في يوم الحشر ، ومصارع المكذبين أمثالهم في هذه الأرض .. كل أولئك تطييبا لقلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليها. ثم يعقب عليه بتهديدهم وتحقيرهم وتنزيلهم إلى أحط من درك الحيوان.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ؛ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

ولقد كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته. فقد كان عندهم ذا مكانة

__________________

(١) البئر المطوية أي التي لم تبن حوائطها وقيل إن أصحابها كانوا بقرية باليمامة فقتلوا نبيهم. واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين حرقوا المؤمنين فيه وقد ذكروا في سورة البروج.

من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش. وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين. ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل. ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا : نعم أنت عندنا غير متهم.

ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟) وهي قولة ساخرة مستنكرة .. أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية ، وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء؟ كلا. إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم. وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية ، وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع.

ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة ، ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين:

روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ـ وكان ذا سن فيهم ـ وقد حضر الموسم ـ موسم الحج ـ فقال لهم : يا معشر قريش : إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا. قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال : بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا : نقول كاهن. قال : لا والله ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : إنه مجنون قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا : فنقول شاعر. قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر. قالوا : فنقول ساحر. قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا : فما تقول يا أبا عبد الشمس؟ قال : والله إن لقوله طلاوة ، وإن أصله لعذق (١) ، وإن فرعه لجناة (٢) وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته .. فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره.

فهذا مثل من الكيد والتدبير يشيء بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته. فما كان اتخاذهم إياه هزوا ، وقولهم ساخرين : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟) بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم ، إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير ، التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية ، استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان.

وبينما كانوا يظهرون الهز والاستخفاف كانت أقوالهم ذاتها تشي بمقدار ما في نفوسهم من شخصه ومن

__________________

(١) أي نخلة. يشبهه بالنخلة ثبت أصلها.

(٢) أي يحمل الجني أي الثمار الناضجة.

حجته ومن القرآن الذي جاء به ، فيقولون :

(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ..

فلقد زلزل قلوبهم إذن باعترافهم حتى كادوا يتركون آلهتهم وعبادتهم ـ على شدة حرصهم على استبقاء ديانتهم وما وراءها من مراكز ومغانم ـ لو لا أنهم قاوموا تأثرهم به وصبروا على آلهتهم! والصبر لا يكون إلا على المقاومة العنيفة للجاذبية العنيفة. وهم يسمون الهداية إضلالا لسوء تقديرهم للحقائق وتقويمهم للقيم. ولكنهم لا يملكون إخفاء الزلزلة التي أصابت قلوبهم من دعوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وشخصيته والقرآن الذي معه حتى وهم يتظاهرون بالاستخفاف بشخصه ودعوته ، إصرارا وعنادا. ومن ثم يعاجلهم بالتهديد المجمل الرهيب :

(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ..

فيعلمون إن كان ما جاءهم به هو الهدى أو أنه هو الضلال. ولكن حين لا ينفع العلم ، حين يرون العذاب. سواء أكان ذلك في الدنيا كما ذاقوا يوم بدر ، أم كان في الآخرة كما يذوقون يوم الحساب.

ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم ، فهو لم يقصر في الدعوة ، ولم يقصر في الحجة ، ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول ، إنما العلة فيهم أنفسهم. فهم يجعلون من هواهم إلها يعبدونه ، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان. وماذا يملك الرسول لمن يتخذ إلهه هواه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً؟) ..

وهو تعبير عجيب يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بارزة ، حين تنفلت النفس من كل المعايير الثابتة والمقاييس المعلومة ، والموازين المضبوطة ، وتخضع لهواها ، وتحكم شهواتها وتتعبد ذاتها ، فلا تخضع لميزان ، ولا تعترف بحد ، ولا تقتنع بمنطق ، متى اعترض هواها الطاغي الذي جعلت منه إلها يعبد ويطاع.

والله ـ سبحانه ـ يخاطب عبده في رفق ومودة وإيناس في أمر هذا النموذج من الناس : (أَرَأَيْتَ؟) ويرسم له هذه الصورة الناطقة المعبرة عن ذلك النموذج الذي لا جدوى من المنطق معه ، ولا وزن للحجة ، ولا قيمة للحقيقة ؛ ليطيب خاطره من مرارة الإخفاق في هدايته. فهو غير قابل للهدى ، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره ، ولا أن يحفل بشأنه : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً؟) ..

ثم يخطو خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يتعبدون هواهم ، ويحكمون شهواتهم ، ويتنكرون للحجة والحقيقة ، تعبدا لذواتهم وهواها وشهواتها. يخطو خطوة أخرى فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل. ثم يخطو الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من مكانة الأنعام إلى درك أسفل وأحط :

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

وفي التعبير تحرز وإنصاف ، إذ يذكر (أَكْثَرَهُمْ) ولا يعمم ، لأن قلة منهم كانت تجنح إلى الهدى ، أو تقف عند الحقيقة تتدبرها. فأما الكثرة التي تتخذ من الهوى إلها مطاعا ، والتي تتجاهل الدلائل وهي تطرق الأسماع والعقول ، فهي كالأنعام. وما يفرق الإنسان من البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك ، والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك من الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع ، ووقوف عند الحجة والاقتناع. بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه ليكونن أحط من البهيمة ، لأن البهيمة تهتدى بما أودعها الله من استعداد ، فتؤدي وظائفها أداء كاملا صحيحا. بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص ، ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة :

(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ..

وهكذا يعقب على استهزائهم برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذلك التعقيب الذي يخرج المستهزئين من اطار الآدمية في عنف واحتقار ومهانة.

وهكذا ينتهي الشوط الثاني في السورة.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢)

في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه ، يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره. وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة ؛ ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين ..

والقرآن يوجه القلوب والعقول دائما إلى مشاهد هذا الكون ؛ ويربط بينها وبين العقول والقلوب. ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح ، يتلقى الأصداء والأضواء ، وينفعل بها ويستجيب. ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه ، المنثورة في أرجائه ، المعروضة في صفحاته ، ويرى فيها يد الصانع المدبر ، ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه ، وكل ما يلمسه حسه ، وكل ما يلتقطه سمعه ؛ ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر ، والاتصال بالله ، عن طريق الاتصال بما صنعت يداه.

وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب ، مستيقظ الحس والروح ، موصول الفكر والخاطر ؛ فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة ، وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معا. وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيرا من رقعة هذه الأرض ؛ وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة ، مرتبط بناموس واحد ، متجه إلى خالق واحد ؛ وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله ؛ ويد الله في كل ما حوله ، وكل ما تقع عليه عينه ، وكل ما تلمسه يداه.

إن شعورا من التقوى ، وشعورا من الأنس ، وشعورا من الثقة لتمتزج في حسه ، وتفيض على روحه ، وتعمر عالمه ، فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله. وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق.

وفي هذا الدرس ينتقل السياق من مشهد الظل اللطيف ، ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف. إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات ، والنهار وما فيه من حركة وانبعاث. إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات. إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان. ومن ماء السماء إلى ماء النطفة ، وإذا هو بشر يصرف الحياة. إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير. إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان.

وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها ؛ ويذكر بقدرته وتدبيره ؛ ويعجب معه إشراك المشركين ، وعبادتهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم ، وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه ، وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران. فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله ، ومشاهد الكون الذي خلقه الله.

فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارئ المصور إليه في طول الحياة.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ـ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ـ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) ..

إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان. وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن ، وتمسح على القرح والألم ، وتهدهد القلب المتعب المكدود ..

أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعد ما ناله من استهزاء ولأواء؟ وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة ، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد ، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين ؛ ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء؟! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان هو البلسم المريح ، والظل الظليل ، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان. وإن الظل وبخاصة في هجير الصحراء المحرق ـ لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال.

والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق ، وتقبضه في لطف : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ؟) .. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) ..

والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار. وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس ، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله ؛ والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها ، وتميز مساحته وامتداده وارتداده. ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظة لطيفة شفيفة ، وهي تتبع صنع البارئ اللطيف القدير .. وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب ، وهي تطول وتطول ، وتمتد وتمتد. ثم في لحظة. لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعا. لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال. أين تراها ذهبت؟ لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها. لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي. ظل الليل والظلام!

إنها يد القدرة القوية اللطيفة. التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال.

(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) .. فبناء الكون المنظور على هذا النسق ، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركا هذه الحركة اللطيفة. ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه. لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض. ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع. فتنسبق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل ، ويمنحها خواصها التي نراها.

وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم ، ونمر بها غافلين ، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا ، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا ، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة. وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب.

* * *

ومن مشهد الظل إلى مشهد الليل الساتر ، والنوم الساكن ، والنهار وما فيه من حركة ونشور :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ، وَالنَّوْمَ سُباتاً ، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) ..

والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس. وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام. والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور. فهو سبات. ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة ، وتدب الحياة في النهار. فهو نشور من ذلك الموت الصغير ، الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من

دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال. وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله ، الذي لا يغفل لحظة ولا ينام.

* * *

ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء :

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) ..

والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة ، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض. ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه ، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكا صحيحا كاملا. وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه ، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب ، ويستبشرون بها ؛ ويحسون فيها رحمة الله ـ إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان.

والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) وهو بصدد ما في الماء من حياة. (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) فيلقي على الحياة ظلا خاصا. ظل الطهارة. فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشىء الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام.

* * *

وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح ؛ وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح :

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) (١) (بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ، وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) ..

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) .. فعرضناه عليهم في صور شتى ، وأساليب متعددة ، ولفتات متنوعة ؛ وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم ، وأرواحهم وأذهانهم ؛ ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم ، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم .. (لِيَذَّكَّرُوا) .. فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر. والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم ، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلها .. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

ومهمة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذن ضخمة شاقة ؛ وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى ، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة ..

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ..

فتوزع المشقة ، وتخف المهمة. ولكن الله اختار لها عبدا واحدا ، هو خاتم الرسل ؛ وكلفه إنذار القرى

__________________

(١) بعض المفسرين يرجع الضمير في «صرفناه» إلى الماء بوصفه أقرب مذكور في العبارة. ولأن القرآن لم يذكر في هذا المقام. ولكننا نرجح أن الضمير عائد على القرآن ، لأنه لا شك في أن قوله : «وجاهدهم به» يعنى القرآن فهو لا يجاهدهم بالماء. والذي يجعل الضمير الثاني راجعا إلى القرآن يجعل الضمير الأول كذلك. إنما هي التفاتة من التفاتات القرآن الكثيرة بمناسبة مضمرة ملحوظة. هذه المناسبة هنا هي إنزال الماء الطهور المحيي ، التي ترد الذهن إلى إنزال القرآن المطهر المحيي الذي تدور السورة كلها عليه.

جميعا ، لتتوحد الرسالة الأخيرة ، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة ، وأعطاه القرآن ليجاهدهم به :

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) ..

وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان ، والتأثير العميق ، والجاذبية التي لا تقاوم ، ما كان يهز قلوبهم هزا ، ويزلزل أرواحهم زلزالا شديدا ؛ فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا.

ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير : «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» .. وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن ؛ وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين ، والسورة والسورتين ، يتلوهما محمد ابن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتنقاد إليه النفوس ، وتهوى إليه الأفئدة.

ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة ، وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن. فلو لا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر ، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير ، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير!

قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدّث : أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة .. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتهم في نفسه شيئا! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا.

«فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ؛ وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به.

«قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!!

«قال : فقام عنه الأخنس وتركه».

فهكذا كانوا يغالبون أنفسهم أن تهفو إلى هذا القرآن فتغلبهم ، لو لا أن يتعاهدوا وهم يحسون ما يتهدد زعامتهم ، لو اطلع عليهم الناس ، وهم مأخوذون شبه مسحورين!

وإن في القرآن من الحق الفطري البسيط ، لما يصل القلب مباشرة بالنبع الأصيل ، فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوار ، وأن يصد عنه تدفق التيار. وأن فيه من مشاهد القيامة ، ومن القصص ، ومن مشاهد الكون الناطقة ، ومن مصارع الغابرين ، ومن قوة التشخيص والتمثيل ، لما يهز القلوب هزا لا تملك معه قرارا.

وإن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان ، وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد!!

فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه أن لا يطيع الكافرين ، وألا يتزحزح عن دعوته وأن يجاهدهم بهذا القرآن. فإنما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر ، ولا يثبت لها جدال أو محال.

* * *

وبعد هذه اللفتة يعود إلى مشاهد الكون ، فيعقب على مشهد الرياح المبشرة والماء الطهور ، بمشهد البحار العذبة والملحة وما بينهما من حجاز :

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ؛ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً ، وَحِجْراً مَحْجُوراً) ..

وهو الذي ترك البحرين ، الفرات العذب والملح المر ، يجريان ويلتقيان ، فلا يختلطان ولا يمتزجان ؛ إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر ، ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح ، ولا يقع العكس إلا شذوذا. وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر ـ وهو أضخم وأغزر ـ على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات. ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام.

وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغى مياه المحيطات الملحة لا على الأنهار ولا على اليابسة حتى في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي على سطح الأرض ، ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما.

يقول صاحب كتاب : الإنسان لا يقوم وحده (العلم يدعو إلى الإيمان) :

«يبعد القمر عنا مسافة مائتين وأربعين ألفا من الأميال ، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر. والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن. بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظما لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدة أقدام ، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية.

«والمريخ له قمر. قمر صغير. لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا ، بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا ، فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها. وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة ، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب ، وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم.

«وإذا فرضنا أن القارات قد اكتسحت ، فإن معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف. وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في أعماق المحيط السحيقة على وجه الاحتمال؟».

ولكن اليد التي تدبر هذا الكون مرجت البحرين وجعلت بينهما برزخا وحاجزا من طبيعتهما ومن طبيعة هذا الكون المتناسق الذي تجري مقاديره بيد الصانع المدبر الحكيم ، هذا الجري المقدر المنسق المرسوم.

* * *

ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) ..

فمن هذا الماء يتخلق الجنين : ذكرا فهو نسب ، وأنثى فهو صهر ، بما أنها موضع للصهر.

وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء. فمن خلية واحدة (من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد ببويضة المرأة في الرحم ، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب .. الإنسان .. أعجب الكائنات الحية على الإطلاق!

ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة ، لا يدرك البشر سرها ، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها. فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى ، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه المميزات .. ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا ، وهذه إلى أن تكون امرأة ، في نهاية المطاف! (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) .. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب!

ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان ، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة ، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله ، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين ، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة.

وهذه لمحات من كتاب : «الإنسان لا يقوم وحده» عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة :

«كل خلية ذكرا أو أنثى. تحتوى على كروموزومات (١) وجينات (وحدات الوراثة) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة. والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان. والسيتوبلازم (٢) هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ الجينات (وحدات الوراثة) من الدقة أنها ـ وهي المسئولة عن المخلوقات البشرية جميعا ، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها ـ لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد ، لكان حجمها أقل من حجم «الكستبان»!

«وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات. «والكستبان» الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها.

«وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي ، إنما يقص تاريخا مسجلا ، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم.

... «لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات ، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم ، وسجل السلف ، والخواص التي لكل شيء حي. وهي تتحكم

__________________

(١) الكروموزوم هي وحدة المادة العضوية ، والعامل في نقل الصفات الوراثية.

(٢) السيتوبلازم هي المادة البروتوبلازمية التي حول نواة الخلية.

تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات. تماما كما تقرر الشكل ، والقشر ، والشعر ، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان».

وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة ، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) ..

* * *

وفي مثل هذا الجو. جو الخلق والتقدير. وأمام تلك الحياة الناشئة من ماء السماء وماء النطفة. المزودة بتلك الخصائص ، التي تجعل من خلية ذكرا بمميزاته كلها ووراثاته ، وتجعل من خلية أنثى بمميزاتها كذلك ووراثاتها .. في مثل هذا الجو تبدو عبادة غير الله شيئا مستغربا مستنكرا تشمئز منه الفطرة .. وهنا يعرض عباداتهم من دون الله.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ. وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) ..

(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) .. كل كافر ـ ومشركو مكة من ضمنهم! ـ إنما هو حرب على ربه الذي خلقه وسواه. فكيف ذلك ، وهو صغير ضئيل لا يبلغ أن يكون حربا ولا ضدا على الله؟ إنه حرب على دينه. وحرب على منهجه الذي أراده للحياة. إنما يريد التعبير أن يفظع جريمته ويبشعها ، فيصوره حربا على ربه ومولاه!

فهو يحارب ربه حين يحارب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورسالته ، فلا على الرسول منه ، فإنما الحرب مع الله ، وهو به كفيل. ثم يطمئن الله عبده ، ويخفف العبء عن عاتقه ، ويشعره أنه حين يؤدي واجبه في التبشير والإنذار ، وجهاد الكفار بما معه من قرآن فلا عليه من عداء المجرمين له ولا عناد الكافرين. والله يتولى عنه المعركة مع أعدائه الذين إنما يعادون الله. فليتوكل على ربه. والله أعلم بذنوب عباده!

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) ..

وبهذا يحدد واجب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو التبشير والإنذار. ولم يكن بعد مأمورا بقتال المشركين وهو في مكة لضمان حرية التبشير والإنذار كما أمر به بعد ذلك في المدينة. وذلك لحكمة يعلمها الله. نحدس منها أنه كان في هذه الفترة يعد الرجال الذين ترتكز إليهم هذه العقيدة الجديدة ، وتعيش في نفوسهم ، وتترجم في حياتهم ، وتتمثل في سلوكهم ، لكي يكونوا نواة المجتمع المسلم الذي يحكمه الإسلام ويهيمن عليه. ولكي لا يدخل في خصومات وثارات دموية تصد قريشا عن الإسلام ، وتغلق قلوبهم دونه ؛ والله يقدر أنهم سيدخلون فيه بعضهم قبل الهجرة وسائرهم بعد الفتح ، ويكون منهم نواة صلبة للعقيدة الخالدة بإذن الله.

على أن لب الرسالة بقي في المدينة كما كان في مكة هو التبشير والإنذار. إنما جعل القتال لإزالة الموانع المادية دون حرية الدعوة ، ولحماية المؤمنين حتى لا تكون فتنة ؛ فالنص صادق في مكة وفي المدينة على السواء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) ..

(قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ..

فليس للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام. ليست هناك إتاوة ، ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم. وهو يدخل في الجماعة المسلمة

بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه. وهذه ميزة الإسلام. ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته ، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته ؛ ليس هنالك «رسم دخول» ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان ؛ ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان .. ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه! (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) .. هذا وحده هو أجره .. يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه ، فهو يبتغي رضاه ، ويتحرى طريقه ، ويتجه إلى مولاه.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ..

وكل ما عدا الله ميت ، لأنه صائر إلى موت ، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت. والتوكل على ميت ، تفارقه الحياة يوما طال عمره أم قصر ، هو ارتكان إلى ركن ينهار ، وإلى ظل يزول. إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول .. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب .. ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً).

وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض ، واستعلاءه على العرش :

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، الرَّحْمنُ ، فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ..

وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا. فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي ، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض. وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظة : (كُنْ) فتتم الكينونة (فَيَكُونُ). ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو ـ إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي. أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ (ثُمَّ) لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة. رتبة الاستواء والاستعلاء.

ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة : (الرَّحْمنُ) .. ومع الرحمة الخبرة : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء. فإذا سألت الله ، فإنما تسأل خبيرا ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

* * *

ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين ، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ : قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً)!

وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول ؛ تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهم لا يوقرون ربهم ، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية ، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم ، ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم (الرَّحْمنُ) ويسألون عنه بما ، زيادة في الاستهتار. (قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ؟). ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا : ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة. يعنون به مسيلمة الكذاب!

ويرد على تطاولهم هذا بتمجيد الله سبحانه وتكبيره والتحدث ببركته وعظمته ، وعظمة خلقه ، وآياته المذكرة به في هذا الخلق العظيم.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً ، وَقَمَراً مُنِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً) ..

والبروج ـ على الأرجح ـ منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة. والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قولة المشركين : (وَمَا الرَّحْمنُ؟) فهذا شيء من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وفي الحقيقة ؛ وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها (سِراجاً) لما تبعث به من ضوء إلى أرضنا وغيرها. وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادئ اللطيف.

ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما. وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس ، وفيهما الكفاية : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً). ولو لا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس ، ويخلف أحدهما أخاه ، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات. بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة.

جاء في كتاب : «الإنسان لا يقوم وحده» (العلم يدعو إلى الإيمان).

«تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة ، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة. والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات. وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار. وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض!»

فتبارك الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا. وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) ..

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه (عِبادُ الرَّحْمنِ) بصفاتهم المميزة ، ومقوماتهم الخاصة ؛ وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال. بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملون الهدى لهذه البشرية. وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل ، والعزاء المريح لحملة الهدى فيما لاقوه من جحود وصلادة وإعراض!.

وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم (الرَّحْمنُ) فهاهم أولاء عباد الرحمن ، الذين يعرفون الرحمن ، ويستحقون أن ينسبوا إليه ، وأن يكونوا عباده. ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم. ها هم أولاء مثلا حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام ، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض ، ويوجه إليهم عنايته ؛ فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم ، لو لا أن هؤلاء فيهم ، ولو لا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء.

* * *

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) ..

ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن : أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة ، ليس فيها تكلف ولا تصنع ، وليس فيها خيلاء ولا تنفج ، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية ، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة ، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها ، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة ، وفيها جد وقوة. وليس معنى : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أنهم يمشون متماوتين منكسي الرءوس ، متداعي الأركان ، متهاوي البنيان ؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا مشى تكفأ تكفيا ، وكان أسرع الناس مشية ، وأحسنها وأسكنها ، قال أبو هريرة : ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كأنما الأرض تطوى له ـ وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع ـ قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب ، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة (١).

__________________

(١) عن زاد المعاد في هدى خير العباد لشمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قيم الجوزية.

وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة ، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء ، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك ، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) لا عن ضعف ولكن عن ترفع ؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء ، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع.

* * *

هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله ، والشعور بجلاله ، والخوف من عذابه.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ. إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) ..

والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن ، في جنح الليل والناس نيام. فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما ، يتوجهون لربهم وحده ، ويقومون له وحده ، ويسجدون له وحده. هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ ، بما هو أروح منه وأمتع ، مشغولون بالتوجه إلى ربهم ، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به ، ينام الناس وهم قائمون ساجدون ؛ ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ، ذي الجلال والإكرام.

وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلىء قلوبهم بالتقوى ، والخوف من عذاب جهنم يقولون : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) .. وما رأوا جهنم ، ولكنهم آمنوا بوجودها ، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق ، وثمرة التصديق.

وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ؛ فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم ، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار ، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته ، فيصرف عنهم عذاب جهنم.

والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد ، متصدية لكل بشر ، فاتحة فاها ، تهم أن تلتهم ، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، يخافونها ويخشونها ، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها ، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها!

ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) : أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله ؛ فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا .. (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم. وأين الاستقرار وهي النار؟ وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار!

* * *

وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن :

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ..

وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع ، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.

والمسلم ـ مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة ـ ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء ـ كما هو الحال في النظام الرأسمالي ، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع ؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي ، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.

والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد ، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان :

(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ..

* * *

وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله ، ويتحرجون من قتل النفس ، ومن الزنا. تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب :

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلا يَزْنُونَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً).

وتوحيد الله أساس هذه العقيدة ، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد ؛ والغموض والالتواء والتعقيد ، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة.

والتخرج من قتل النفس ـ إلا بالحق ـ مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن ؛ وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء.

والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم ، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار.

ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ؛ والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان .. من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن. أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله. وعقب عليها بالتهديد الشديد : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) أي عذابا. وفسر هذا العذاب بما بعده (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) .. فليس هو العذاب المضاعف وحده ، وإنما هي المهانة كذلك ، وهي أشد وأنكى.

ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ). وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال ، وثاب إلى حمى الله ، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ..

وباب التوبة دائما مفتوح ، يدخل منه كل من استيقظ ضميره ، وأراد العودة والمآب. لا يصد عنه

قاصد ، ولا يغلق في وجه لاجىء ، أيا كان ، وأيا ما ارتكب من الآثام.

روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة ، أنه أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة ، فهل له من توبة؟ فقال : «أسلمت؟» فقال : نعم. قال : «فافعل الخيرات واترك السيئات ، فيجعلها الله لك خيرات كلها» قال : وغدراتي وفجراتي؟ قال : «نعم». فما زال يكبر حتى توارى.

ويضع قاعدة التوبة وشرطها : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) .. فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية ، وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية. وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية. فالمعصية عمل وحركة ، يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة ، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع. وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة ، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة. ومن أخبر من الخالق بما خلق؟ سبحانه وتعالى!

* * *

وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات (عِبادُ الرَّحْمنِ) :

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) ..

وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب ، أنهم لا يؤدون شهادة زور ، لما في ذلك من تضييع الحقوق ، والإعانة على الظلم. وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه ، ترفعا منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع. وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) لا يشغلون أنفسهم به ، ولا يلوثونها بسماعه ؛ إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر ، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل.

* * *

ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا ، قريبو الاعتبار إذا وعظوا ، مفتوحو القلوب لآيات الله ، يتلقونها بالفهم والاعتبار:

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً).

وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان ؛ لا يسمعون ولا يبصرون ، ولا يتطلعون إلى هدى أو نور. وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى. فأما عباد الرحمن ، فهم يدركون إدراكا واعيا بصيرا ما في عقيدتهم من حق ، وما في آيات الله من صدق ، فيؤمنوا إيمانا واعيا بصيرا ، لا تعصبا أعمى ولا انكبابا على الوجوه! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير.

* * *

وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ؛ وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها ، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم ، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم ؛ فتقر بهم عيونهم ،

وتطمئن بهم قلوبهم ، ويتضاعف بهم عدد (عِبادُ الرَّحْمنِ) ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه :

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ..

وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق : شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله. وفي أولهم الذرية والأزواج ، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال. والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير ، يأتم به الراغبون في الله. وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله.

* * *

فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان :

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ، وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً ، خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) ..

والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة ، أو المكان الخاص في الجنة ، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض ، عند ما يستقبلون الأضياف. وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم ، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام ، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات. وهو تعبير ذو دلالة. فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس ، ومغريات الحياة ، ودوافع السقوط. والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر. الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان.

وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقرا ومقاما ، يجزيهم الله الجنة (خالِدِينَ فِيها. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله. وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام.

* * *

والآن وقد صور عباد الرحمن. تلك الخلاصة الصافية للبشرية. يختم السورة بهوان البشرية على الله لو لا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء. فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام.

(قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) ..

وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها ؛ ومساقها للتسرية عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم ، وتطاولهم عليه ، وهم يعرفون مقامه ؛ ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون .. فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها ، لو لا القلة المؤمنة التي تدعو الله. وتتضرع إليه. كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون؟

من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل. والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض. والأمة واحدة من أمم هذه الأرض. والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟

وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا ؛ ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه! وهو هين هين ، ضعيف ضعيف ، قاصر قاصر. إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد ، وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله ؛ وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان. فضلا من الله الذي كرم هذا

الإنسان وأسجد له الملائكة ، ليعرفه ويتصل به ويتعبد له ، فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة ؛ وإلا فهو لقي ضائع ، لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان!

(قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) .. وفي التعبير سند للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإعزاز : (قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي). فأنا في جواره وحماه. هو ربي وأنا عبده. فما أنتم بغير الإيمان به ، والانضمام إلى عباده؟ إنكم حصب جهنم (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) ..

* * *

(٢٦) سورة الشّعراء مكيّة

وآياتها سبع وعشرون ومائتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

موضوع هذه السورة الرئيسي هو موضوع السور المكية جميعا .. العقيدة .. ملخصة في عناصرها الأساسية : توحيد الله : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) .. والخوف من الآخرة : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .. والتصديق بالوحي المنزل على محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ؛ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) .. ثم التخويف من عاقبة التكذيب ، إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين ؛ وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)! .. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

ذلك إلى تسلية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين ؛ وتثبيتهم على العقيدة مهما أو ذوا في سبيلها من الظالمين ؛ كما ثبت من قبلهم من المؤمنين.

وجسم السورة هو القصص الذي يشغل ثمانين ومائة آية من مجموع آيات السورة كلها. والسورة هي هذا القصص مع مقدمة وتعقيب. والقصص والمقدمة والتعقيب تؤلف وحدة متكاملة متجانسة ، تعبر عن موضوع السورة وتبرزه في أساليب متنوعة ، تلتقي عند هدف واحد .. ومن ثم تعرض من كل قصة الحلقة أو الحلقات التي تؤدي هذه الأغراض.

ويغلب على القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب ، والعذاب الذي يتبع التكذيب. ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واستهزاءهم بالنذر ، وإعراضهم عن آيات الله ، واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به ؛ مع التقول على الوحي والقرآن ؛ والادعاء بأنه سحر أو شعر تتنزل به الشياطين!

والسورة كلها شوط واحد ـ مقدمتها وقصصها وتعقيبها ـ في هذا المضمار. لذلك نقسمها إلى فقرات أو جولات بحسب ترتيبها. ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار :

* * *

(طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) ..

طا. سين. ميم .. الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين ـ ومنها هذه السورة ـ مؤلفة من مثل هذه الأحرف ؛ وهي في متناول المكذبين بالوحي ؛ وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة. في مقدمتها ونهايتها. كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن.

وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن الكريم ؛ فيسليه ويهون عليه الأمر ؛ ويستكثر ما يعانيه من أجلهم ؛ وقد كان الله قادرا على أن يلوي أعناقهم كرها إلى الإيمان ، بآية قاهرة تقسرهم عليه قسرا :

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ! إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ).

وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة ضيقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهمه بعدم إيمانهم : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) .. وبخع النفس قتلها. وهذا يصور مدى ما كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعاني من تكذيبهم ، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب ، فتذوب نفسه عليهم ـ وهم أهله وعشيرته وقومه ـ ويضيق صدره. فربه يرأف به ، وينهنهه عن هذا الهم القاتل ، ويهون عليه الأمر ، ويقول له : إن إيمانهم ليس مما كلفت ؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم ، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا ، ولا انصرافا عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم عليها مقيمون!

ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزا في كل ناحية :

معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.

معجزا في بنائه الفكري ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ؛ وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها .. وكلها مشدودة إلى محور واحد ، وإلى عروة واحدة ، في اتساق لا يمكن أن تفطن

إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة ، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة ، ونظمته هذا التنظيم.

معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.

لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة ـ ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم ـ ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها ، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب. لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها ؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعا يشهد .. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم ـ لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم ـ ويلبي حاجاتهم كاملة ؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن ؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ؛ ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين :

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ..

ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر ، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحا كريها ؛ وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم ، ويرفضونها ، ويحرمون أنفسهم منها ، وهم أحوج ما يكونون إليها!

ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه :

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) .. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخبارا. إنما سيذوقون العذاب ذاته ، ويصبحون هم أخبارا فيه ، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب! وإنهم يطلبون آية خارقة ؛ ويغفلون عن آيات الله الباهرة فيما حولهم ؛ وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير ؛ وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) ..

ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض ، وجعله زوجا ذكرا وأنثى ، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات ، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات ، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد .. هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة : (أَوَلَمْ يَرَوْا!) والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟

والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون ؛ وينبه الحس الخامد ، والذهن البليد ، والقلب المغلق ، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان ؛ كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي ؛ يشاهد الله في بدائع صنعه ، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه ؛ ويتصل به في كل مخلوقاته ؛

ويراقبه وهو شاعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ويشعر أنه هو واحد من عباده ، متصل بمخلوقاته ، مرتبط بالنواميس التي تحكمهم جميعا. وله دوره الخاص في هذا الكون ، وبخاصة هذه الأرض التي استخلف فيها :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ..

كريم بما فيه من حياة ، صادرة من الله الكريم .. واللفظ يوحي إلى النفس باستقبال صنع الله بما يليق من التكريم والحفاوة والاحتفال ؛ لا بالاستهانة والغفلة والإغفال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً). وهم يطلبون الآيات. ولكن أكثرهم لا يؤمن بهذه الآية : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)!

وتنتهي مقدمة السورة بالتعقيب الذي يتكرر في السورة بعد استعراض كل آية :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

(الْعَزِيزُ) القوي القادر على إبداع الآيات ، وأخذ المكذبين بالعذاب (الرَّحِيمُ) الذي يكشف عن آياته ، فيؤمن بها من يهتدي قلبه ؛ ويمهل المكذبين ؛ فلا يعذبهم حتى يأتيهم نذير. وفي آيات الكون غنى ووفرة ، ولكن رحمته تقتضي أن يبعث بالرسل للتبصير والتنوير. والتبشير والتحذير.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا

هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨)

هذه الحلقة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ تجيء في هذه السورة متناسقة مع موضوع السورة ، ومع اتجاهها إلى بيان عاقبة المكذبين بالرسالة ؛ وإلى طمأنة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتعزيته عما يلقاه من

إعراض المشركين وتكذيبهم ؛ وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا مجردين من القوة وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل ـ وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة ـ وقد كان القصص إحدى وسائل التربية القرآنية في القرآن الكريم.

وقد وردت حلقات من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ حتى الآن في سورة البقرة ، وسورة المائدة ، وسورة الأعراف ، وسورة يونس ، وسورة الإسراء ، وسورة الكهف ، وسورة طه. عدا إشارات إليها في سور أخرى.

وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو الإشارات متناسقة مع موضوع السورة ، أو السياق الذي تعرض فيه ، على نحو ما هي في هذه السورة ؛ وكانت تشارك في تصوير الموضوع الذي يهدف إليه السياق (١).

والحلقة المعروضة هنا هي حلقة الرسالة والتكذيب وما كان من غرق فرعون وملئه جزاء على هذا التكذيب ، وعقابا على ائتماره بموسى ومن معه من المؤمنين. ونجاة موسى وبني إسرائيل من كيد الظالمين. وفي هذا تصديق قول الله سبحانه في هذه السورة عن المشركين : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) .. وقوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

وهذه الحلقة مقسمة إلى مشاهد استعراضية ، بينها فجوات بمقدار ما يسدل الستار على المشهد ، ثم يرفع عن المشهد الذي يليه. وهي ظاهرة فنية ملحوظة في طريقة العرض القرآنية للقصة (٢).

وهنا سبعة مشاهد : أولها مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وربه. وثانيها مشهد مواجهة موسى لفرعون وملئه برسالته وآيتي العصا واليد البيضاء. وثالثها مشهد التآمر وجمع السحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى. ورابعها مشهد السحرة بحضرة فرعون يطمئنون على الأجر والجزاء! وخامسها مشهد المباراة ذاته وإيمان السحرة وتهديد فرعون ووعيده. وسادسها مشهد ذو شقين : الشق الأول مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلا ، والثاني مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل. وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر ونهايته من انفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين.

وقد عرضت هذه المشاهد في سورة الأعراف ، وفي سورة يونس ، وفي سورة طه. ولكنها عرضت في كل موضع من الجانب الذي يناسب ذلك الموضع ، وبالطريقة التي تنفق مع اتجاهه ، وكان التركيز فيها على نقط معينة هنا وهناك.

ففي الأعراف مثلا بدأ بمشهد المواجهة بين موسى وفرعون مختصرا ، ومر بمشهد السحرة ونهايته سريعا ، بينما وسع في عرض مؤامرات فرعون وملئه بعد ذلك ، وعرض آيات موسى مدة إقامته في مصر بعد المباراة قبل مشهد الغرق والنجاة. واستطرد بعد ذلك مع بني إسرائيل بعد مجاوزتهم البحر في حلقات كثيرة .. واختصر هذا هنا فلم يشر إليه. بينما وسع في مشهد الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله سبحانه ووحيه إلى رسوله ؛ وهو موضوع الجدل في هذه السورة بين المشركين والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي يونس بدأ بمشهد المواجهة مختصرا لم يعرض فيه آيتي العصا واليد ، واختصر كذلك في مشهد المباراة. بينما توسع هنا في كليهما.

وفي سورة طه توسع في مشهد المناجاة الأول بين موسى وربه. واستطرد بعد مشهدي المواجهة والمباراة

__________________

(١) تراجع ص ٢٣٢٩ ـ ٢٣٣١ من الجزء السادس عشر من الظلال. وفصل : القصة في القرآن في كتاب التصوير الفني في القرآن.

(٢) فصل : القصة في القرآن. في كتاب التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق».

فصاحب بني إسرائيل في رحلتهم طويلا. ولم يجاوز هنا مشهد الغرق والنجاة.

وكذلك لا نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في سور القرآن. لأن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض ، ومشاهد كل حلقة ، والجانب الذي يختار من كل مشهد ، وطريقة عرضه .. كل أولئك يجعلها جديدة في كل موضع. متناسقة مع هذا الموضع.

* * *

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ. أَلا يَتَّقُونَ؟ قالَ : رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي ، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. قالَ : كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا : إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ..

الخطاب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا القصص ، بعد ما قال له في مطلع السورة : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) .. ثم أخذ يقص عليه أنباء المكذبين المعرضين المستهزئين ، وما حاق بهم من العذاب الأليم.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ. أَلا يَتَّقُونَ؟) ..

وهذا هو المشهد الأول : مشهد التكليف بالرسالة لموسى ـ عليه‌السلام ـ وهو يبدأ بإعلان صفة القوم : (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال ، وظلموا بني إسرائيل بما كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ويعذبونهم بالسخرة والنكال .. لذلك يقدم صفتهم ثم يعينهم (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ثم يعجب موسى من أمرهم ويعجب كل إنسان : (أَلا يَتَّقُونَ؟) ألا يخشون ربهم؟ ألا يخافون مغبة ظلمهم؟ ألا يرجعون عن غيهم؟ ألا إن أمرهم لعجيب يستحق التعجيب! وكذلك كل من كان على شاكلتهم من الظالمين!

ولم يكن أمر فرعون وملئه جديدا على موسى ـ عليه‌السلام ـ فهو يعرفه ، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته ، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم. ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف ، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير.

(قالَ : رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ).

والظاهر من حكاية قوله ـ عليه‌السلام ـ أن خوفه ليس من مجرد التكذيب ، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين ، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده. إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) ومن شأن هذه الحبسة أن تنشئ حالة من ضيق الصدر ، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام. وتزداد كلما زاد الانفعال ، فيزداد الصدر ضيقا .. وهكذا .. وهي حالة معروفة. فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته ، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه ، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف ، لا نكوصا ولا اعتذارا عن التكليف. فهارون أفصح لسانا ومن ثم هو أهدأ انفعالا ؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان. ولقد دعا موسى ربه ـ كما ورد في سورة طه ـ ليحل هذه العقدة من لسانه ، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيرا ومعينا ..

وكذلك الشأن في قوله : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) .. فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة ، والتخلي عن التكليف. ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون. حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده قام هارون من بعده بالرسالة ، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق.

فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية. الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها ، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة. والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص. وهذا هو الذي يليق بموسى ـ عليه‌السلام ـ الذي صنعه الله على عينه ، واصطنعه لنفسه.

ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل ، وطمأنه مما يخاف. والتعبير هنا يختصر مرحلة الاستجابة ، ومرحلة الإرسال إلى هارون ، ومرحلة وصول موسى إلى مصر ولقائه لهارون ؛ ويبرز مشهد موسى وهارون مجتمعين يتلقيان أمر ربهما الكريم ، في نفس اللحظة التي يطمئن الله فيها موسى وينفي مخاوفة نفيا شديدا ، في لفظة تستخدم أصلا للردع وهي كلمة (كَلَّا)!

(قالَ : كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا : إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ).

كلا. لن يضيق صدرك ويحتبس لسانك. وكلا لن يقتلوك. فأبعد هذا كله عن بالك بشدة. واذهب أنت وأخوك. (فَاذْهَبا بِآياتِنا) وقد شهد موسى منها العصا واليد البيضاء ـ والسياق يختصر هما هنا لأن التركيز في هذه السورة موجه إلى موقف المواجهة وموقف السحرة وموقف الغرق والنجاة. اذهبا (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) فأية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان؟ والله معهما ومع كل إنسان في كل لحظة وفي كل مكان. ولكن الصحبة المقصودة هنا هي صحبة النصر والتأييد. فهو يرسمها في صورة الاستماع. الذي هو أشد درجات الحضور والانتباه. وهذا كناية عن دقة الرعاية وحضور المعونة. وذلك على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.

اذهبا (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ) فأخبراه بمهمتكما في غير حذر ولا تلجلج : (فَقُولا : إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة. فهما رسول. رسول رب العالمين. في وجه فرعون الذي يدعي الألوهية ، ويقول لقومه : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى ، بلا تدرج فيها ولا حذر. فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة.

(إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ). وواضح من هذا ومن أمثاله في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ في القرآن ، أنه لم يكن رسولا إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته. إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون. وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل ـ وهو يعقوب أبو يوسف عليهما‌السلام ـ فبهت هذا الدين في نفوسهم ، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد.

* * *

وإلى هنا نحن أمام مشهد البعثة والوحي والتكليف. ولكن الستار يسدل. لنجدنا أمام مشهد المواجهة. وقد اختصر ما هو مفهوم بين المشهدين على طريقة العرض القرآنية الفنية :

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ؟

قالَ : فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ). ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ). فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيبا في قصره منذ أن التقطوا تابوته (١). وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي (٢). وقيل : إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكما مستهزئا مستعجبا :

(قالَ : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ، وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ..

فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟ ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته ، وتدعو إلى إله غيره؟!

وما بالك ـ وقد لبثت فينا من عمرك سنين ـ لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم ؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟!

ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) .. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) برب العالمين الذي تقول به اليوم ، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين!

وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه ردا قاتلا لا يملك موسى ـ عليه‌السلام ـ معه جوابا ، ولا يستطيع مقاومة. وبخاصة حكاية القتل ، وما يمكن أن يعقبها من قصاص ، يتهدده به من وراء الكلمات!

ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه ـ انطلق ـ يجيب :

(قالَ : فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)! ..

فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل ، أندفع اندفاع العصبية لقومي ، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) على نفسي. فقسم الله لي الخير : ووهب لي الحكمة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فلست بدعا من الأمر ، إنما أنا واحد من الرعيل (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣).

ثم يجيبه تهكما بتهكم. ولكن بالحق (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) .. فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل ، وقتلك أبناءهم ، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت ، فتقذف بالتابوت في الماء ، فتلتقطونني ، فأربى في بيتك ، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي ، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!

__________________

(١) سورة طه. الجزء السادس عشر من الظلال.

(٢) سورة القصص.

(٣) يلاحظ من ناحية التنسيق الفني في التعبير أن حرف الفاصلة في السورة هو الميم أو النون وقبلها مد. فقوله : من المرسلين. يتمشى موسيقيا مع الإيقاع السائد في السورة. بعكس ما لو قيل : وجعلني رسولا. ولكنه مع هذا يؤدي معنى مقصودا. وهو أنه واحد من كثيرين وأن الأمر ليس بفذ ولا عجيب. وهكذا يجتمع التناسق الفني والديني في التعبير.

عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة ، وراح يسأله عن صميم دعواه. ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم :

(قالَ فِرْعَوْنُ : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) ..

إنه ـ قبحه الله ـ يسأل : أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول : إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه ، المتهكم على القول والقائل ، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور ، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث!

فيجيبه موسى ـ عليه‌السلام ـ بالصفة المشتملة على ربوبيته ـ تعالى ـ للكون المنظور كله وما فيه :

(قالَ : رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ..

وهو جواب يكافىء ذلك التجاهل ويغطيه .. إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك ـ يا فرعون ـ ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل. وهو ملك صغير ضئيل ، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما. وكذلك كان جواب موسى ـ عليه‌السلام ـ يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه ، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل ، والتفكير فيمن يكون ربه .. فهو رب العالمين! .. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته (١) : «إن كنتم موقنين» فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق.

والتفت فرعون إلى من حوله ، يعجبهم من هذا القول ، أو لعله يصرفهم عن التأثر به ، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب :

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ : أَلا تَسْتَمِعُونَ؟) ..

ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب ، الذي لا عهد لنا به ، ولا قاله أحد نعرفه!

ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.

(قالَ : رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ..

وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه ، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه ، فما هو إلا واحد من عبيده. لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه ، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين. فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين!

وإنها للقاصمة لفرعون. فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون. ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون :

(قالَ : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ..

إن رسولكم الذي أرسل إليكم .. يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها ، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم ، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها. ويتهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بالجنون ، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم. وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين.

ولكن هذا الهتكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى ، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين :

__________________

(١) لم يكن موسى يتكلم العربية. فقد كان يخاطب فرعون باللغة المصرية طبعا. ولكن القرآن يحكي قوله.

(قالَ : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ..

والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم ؛ ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما ، وشدة ألفتهما. واللفظ يدل على الشروق والغروب. كما يدل على مكاني الشروق والغروب. وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما. فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا ، ويوقظ العقول الغافية إيقاظا. وموسى ـ عليه‌السلام ـ يثير مشاعرهم ، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير : «إن كنتم تعقلون» ..

والطغيان لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب ، وصحوة القلوب ؛ ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة ؛ ولا ينقم على أحدكما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية. ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور ، عند ما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح ، الذي يعتمد عليه الطغاة عند ما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين:

(قالَ : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (١) ..

هذه هي الحجة وهذا هو الدليل : التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز ، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد!

غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه .. وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح. يفتحها بقول جديد ، وبرهان جديد :

(قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟) ..

وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إخراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى ؛ ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته ، وهو يدعي أنه مجنون .. ومن ثم وجد نفسه مضطرا أن يطلب منه الدليل :

(قالَ : فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ..

إن كنت من الصادقين في دعواك ؛ أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئا مبينا. فهو ما يزال يشكك في موسى ، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئا.

هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين ؛ وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) ..

والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلا إلى ثعبان تدب فيه الحياة ، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا. يدل على هذا بقوله : «فإذا هي» فلم يكن الأمر تخييلا ، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء ، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة.

ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر ، معجزة تقع في كل لحظة ، ولكن الناس لا يلقون لها

__________________

(١) يقال هنا ما قيل من قبل في قوله : «من المرسلين».

بالا ، لطول الألفة والتكرار ، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي فأما في مثل هذا المشهد. وموسى ـ عليه‌السلام ـ يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب.

وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها ؛ فأسرع يقاومها ويدفعها ؛ وهو يحس ضعف موقفه ، ويكاد يتملق القوم من حوله ؛ ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه ، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة :

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ، فَما ذا تَأْمُرُونَ؟) ..

وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسميها سحرا ؛ فهو يصف صاحبها بأنه ساحر «عليم». ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ). ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلها ، فيطلب أمرهم ومشورتهم : «فما ذا تأمرون؟» ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون!

وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر. ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام. ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى. ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر ، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون!

وأشار عليه الملأ ؛ وقد خدعتهم مكيدته ، وهم شركاء فرعون في باطله ، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان ؛ وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير ، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول .. أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله ، بعد التهيئة والاستعداد :

(قالُوا : أَرْجِهْ وَأَخاهُ. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) ..

أي أمهله وأخاه إلى أجل ؛ وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى. يجمعون السحرة المهرة ، لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه.

* * *

وهنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون ، والناس يجمعون للمباراة ، وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان ؛ وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل ، أو بين الإيمان والطغيان.

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَقِيلَ لِلنَّاسِ : هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ؟) ..

وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ؟) هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد ، ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور ، دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون ، ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات ، ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس. وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه‌السلام!

* * *

ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة ؛ يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين ؛

ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم!

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ : أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ : نَعَمْ ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ..

وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية ؛ تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره ؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية ، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما في كل مكان وفي كل زمان.

وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله!

* * *

ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام :

(قالَ لَهُمْ مُوسى : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ، وَقالُوا : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ : فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. قالَ : آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. قالُوا : لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

ويبدأ المشهد هادئا عاديا. إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه ؛ وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن ، المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة ، ووراءهم فرعون وملؤه ، وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة .. يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون :

(قالَ لَهُمْ مُوسى : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ..

وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة : «ألقوا ما أنتم ملقون» .. بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام.

وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته :

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ؛ وَقالُوا : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) ..

ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم ، كما فصله في سورة الأعراف وطه ، ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق ، وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل ؛ لأن هذا هو هدف السورة الأصيل.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) ..

ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة ؛ فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه ؛ وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه. وهم جمع كثير. محشود من كل مكان. وموسى وحده ، وليس معه إلا عصاه. ثم إذا هي تلقف ما يأفكون ؛ واللقف أسرع حركة للأكل. وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا ، ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا. فلا تبقي لها أثرا. ولو كان ما جاء به موسى سحرا ، لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها. ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا!

عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا. وهم أعرف الناس بأنه الحق :

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) ..

وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم ، ولم يكونوا أصحاب عقيدة

ولا قضية. ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا. لقد كانت هزة رجتهم رجا ، وخضتهم خضا ؛ ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم ، فأزالت عنها ركام الضلال ، وجعلتها صافية حيه خاشعة للحق ، عامرة بالإيمان ، في لحظات قصار. فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا ، بغير إرادة منهم ، تتحرك ألسنتهم ، فتنطلق بكلمة الإيمان ، في نصاعة وبيان : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب ، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا. وصدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» (١). وهكذا انقلب السحرة المأجورون ، مؤمنين من خيار المؤمنين. على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه. لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج ، ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول.

ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه. فالجماهير حاشدة. وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة. عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي ، ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره ، ويريد أن يجعل الحكم لقومه ؛ وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه .. ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته. ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب ؛ ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله ، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله ، ويخلعون عنهم عبادة فرعون ، وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته ، وانتظروا أجره ، واستفتحوا بعزته!

وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون ، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش. أسطورة الألوهية ، أو بنوته للآلهة ـ كما كان شائعا في بعض العصور ـ وهؤلاء هم السحرة. والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها. ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين ، رب موسى وهارون ، والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها. فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة؟ والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما.

إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة ، وذعر الملأ من حوله ، إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة ؛ وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين.

عندئذ جن جنون فرعون ، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال. بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى!

(قالَ : آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ..

(آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) .. لم يقل آمنتم به. إنما عده استسلاما له قبل إذنه. على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته ، عارف بهدفه ، مقدر لعاقبته. ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم. ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة؟ ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير : «إنه لكبيركم الذي علمكم السحر» وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة ـ وهم من الكهنة ـ كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه ، أو كان يختلف إليهم في المعابد. فارتكن فرعون إلى

__________________

(١) أخرجه الشيخان.

هذه الصلة البعيدة ، وقلب الأمر فبدلا من أن يقول : إنه لتلميذكم قال : إنه لكبيركم. ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير!

ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين :

(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ..

إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية ، حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه ، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة ، بلا تحرج من قلب أو ضمير .. وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول .. فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور!

إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان. القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان. القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير :

(قالُوا : لا ضَيْرَ. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

لا ضير. لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف (١). لا ضير في التصليب والعذاب. لا ضير في الموت والاستشهاد .. لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. وليكن في هذه الأرض ما يكون : فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه «أن يغفر لنا ربنا خطايانا» جزاء «أن كنا أول المؤمنين» .. وأن كنا نحن السابقين ..

يا لله! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر. وإذ يفيض على الأرواح. وإذ يكسب الطمأنينة في النفوس. وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين. وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر ، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد.

هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة. لا يزيد شيئا. ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق. وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب.

فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين. وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ .. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ..)

وهنا فجوة في الوقائع والزمن لا تذكر في هذا الموضع. فقد عاش موسى وبنو إسرائيل فترة بعد المباراة ، وقعت فيها الآيات الأخرى المذكورة في سورة الأعراف (٢) قبل أن يوحي الله لموسى بالرحيل بقومه. ولكن السياق هنا يطويها ليصل إلى النهاية المناسبة لموضوع السورة واتجاهها الأصيل.

لقد أوحى الله إلى موسى إذن أن يسري بعباده ، وأن يرحل بهم ليلا ، بعد تدبير وتنظيم. ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده ؛ وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر (وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات) وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة ، فأمر بما يسمى «التعبئة العامة» وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود ، ليدرك موسى وقومه ؛ ويفسد عليهم تدبيرهم ؛ وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير!

وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند .. ولكن هذا الجمع قد يشي بانزعاج فرعون ، وبقوة موسى ومن معه

__________________

(١) اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، واليد اليسرى مع الرجل اليمنى.

(٢) الجزء التاسع من الظلال ص ١٣٥٦ ـ ١٣٥٩.

وعظم خطرهم ، حتى ليحتاج الملك الإله ـ بزعمه! ـ إلى التعبئة العامة. ولا بد إذن من التهوين من شأن المؤمنين :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)!

ففيم إذن ذلك الاهتمام بأمرهم ، والاحتشاد لهم ، وهم شرذمة قليلون!

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) ..

فهم يأتون من الأفعال والأقوال ما يغيظ ويغضب ويثير!

وإذن فلهم شأن وخطر على كل حال! فليقل العملاء : إن هذا لا يهم فنحن لهم بالمرصاد :

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) ..

مستيقظون لمكائدهم ، محتاطون لأمرهم ، ممسكون بزمام الأمور!

إنها حيرة الباطل المتجبر دائما في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين!

* * *

وقبل أن يعرض المشهد الأخير ، يعجل السياق بالعاقبة الأخيرة من إخراج فرعون وملئه مما كانوا فيه من متاع. ووراثة بني إسرائيل المستضعفين :

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ ، وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ..

لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم. فكانت خرجتهم هذه هي الأخيرة. وكانت إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ؛ فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم! لذلك يذكر هذا المصير الأخير عقب خروجهم يقفون أثر المؤمنين. تعجيلا بالجزاء على الظلم والبطر والبغي الوخيم.

(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ..

ولا يعرف أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر بعد خروجهم إلى الأرض المقدسة ؛ وورثوا ملك مصر وكنوز فرعون ومقامه. لذلك يقول المفسرون : إنهم ورثوا مثل ما كان لفرعون وملئه. فهي وراثة لنوع ما كانوا فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم.

* * *

وبعد هذا الاعتراض يجيء المشهد الحاسم الأخير :

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ : كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ..

لقد أسرى موسى بعباد الله ، بوحي من الله وتدبير. فأتبعهم جنود فرعون في الصباح بمكر من فرعون وبطر. ثم ها هو ذا المشهد يقترب من نهايته. والمعركة تصل إلى ذروتها .. إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلحين. وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون! وقالت دلائل الحال كلها : أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم :

(قالَ أَصْحابُ مُوسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ..

وبلغ الكرب مداه ، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين!

ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه ، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد من النجاة ، وإن كان لا يدري كيف تكون. فهي لا بد كائنة والله هو الذي يوجهه ويرعاه.

(قالَ : كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ..

كلا. في شدة وتوكيد. كلا لن نكون مدركين. كلا لن نكون هالكين. كلا لن نكون مفتونين. كلا لن نكون ضائعين «كلا إن معي ربي سيهدين» بهذا الجزم والتأكيد واليقين.

وفي اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب ، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون :

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) ..

ولا يتمهل السياق ليقول إنه ضرب بعصاه البحر. فهذا مفهوم. إنما يعجل بالنتيجة :

(فَانْفَلَقَ. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ..

ووقعت المعجزة ، وتحقق الذي يقول عنه الناس : مستحيل. لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور. والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عند ما يريد.

وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق. ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم. واقتحم بنو إسرائيل ..

ووقف فرعون مع جنوده مبغوتا مشدوها بذلك المشهد الخارق ، وذلك الحادث العجيب.

ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتا فأطال الوقوف ـ وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف ـ قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب.

وتم تدبير الله. فخرج بنو إسرائيل من الشاطئ الآخر ، بينما كان فرعون وجنوده بين فرقي الماء أجمعين. وقد قربهم الله لمصيرهم المحتوم :

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) ..

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)!!!

ومضت آية في الزمان ، تتحدث عنها القرون. فهل آمن بها الكثيرون؟

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

فالآيات الخارقة لا تستتبع الإيمان حتما. وإن خضع لها الناس قسرا. إنما الإيمان هدي في القلوب.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

التعقيب المعهود في السورة بعد عرض الآيات والتكذيب ..

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا

كَذلِك َ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

مضت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وملئه ؛ وانتهت بتلك النهاية ، وفيها البشرى للمؤمنين المستضعفين المضطهدين ـ كما كانت القلة المؤمنة يومذاك في مكة ـ وفيها الدمار للظالمين المتجبرين الذين يشبه موقفهم موقف المشركين.

فالآن تتبعها قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وقومه. ويؤمر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يتلوها على المشركين. ذلك أنهم يزعمون أنهم ورثة إبراهيم ، وأنهم على دينه القديم ؛ وهم يشركون بالله ، ويقيمون الأصنام لعبادتها في بيته الحرام ، الذي بناه إبراهيم خالصا لله .. فاتل عليهم نبأ إبراهيم ليتبينوا منه حقيقة ما يزعمون. والقصص في هذه السورة لا يتبع الخط التاريخي ، لأن العبرة وحدها هي المقصودة. فأما في سورة الأعراف مثلا فقد كان الخط التاريخي مقصودا ، لعرض خط وراثة الأرض ، وتتابع الرسل من عهد آدم ـ عليه‌السلام ـ فمضى القصص فيها يتبع خط التاريخ ، منذ الهبوط من الجنة ، وبدء الحياة البشرية.

والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هي حلقة الرسالة إلى قومه ، وحواره معهم حول العقيدة ، وإنكار الآلهة المدعاة ، والاتجاه بالعبادة إلى الله. والتذكير باليوم الآخر. يعقب هذا مشهد كامل من مشاهد القيامة ، يتنكر فيه العباد للآلهة ، ويندمون على الشرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه. كأنهم قد صاروا فعلا إلى ما هم فيه! وهنا عبرة القصة للمشركين .. ومن ثم يتوسع في الحديث عن مقومات عقيدة

التوحيد ، وفساد عقيدة الشرك ؛ ومصير المشركين في يوم الدين. لأن التركيز متجه إليها. ويختصر ما عدا ذلك مما يفصله في سور أخرى.

وقد وردت حلقات من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في البقرة ، والأنعام ، وهود ، وإبراهيم ، والحجر ، ومريم ، والأنبياء ، والحج. وكانت في كل سورة مناسبة لسياقها العام. وعرض منها ما يتفق مع موضوع السورة وجوها وظلها.

عرضت في سورة البقرة حلقة بنائه للبيت هو وإسماعيل ، ودعائه أن يجعل الله البلد الحرام آمنا ، وإعلانه أن وراثة البيت ووراثة بانيه إنما هي للمسلمين ، الذين يتبعون ملته ، لا لمن يدعون بالنسب وراثته. وكان هذا بصدد مخالفات بني إسرائيل ، وطردهم ولعنهم ، وتوريث دين إبراهيم وبيته للمسلمين ..

وعرضت كذلك حلقة محاجته للملك الكافر في صفة الله الذي يحيي ويميت ، والذي يأتي بالشمس من المشرق ، وتحديه للملك أن يأتي بها من المغرب. فبهت الذي كفر.

كما عرضت حلقة طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، وأمره بذبح أربعة من الطير ، وتوزيع أشلائهن على الجبال ، ثم إحياؤها بين يديه ، فجاءت تسعى إليه.

وهذا وذلك في معرض الحديث في السورة ، عن آيات الله وقدرته على الإماتة والإحياء.

وعرضت في الأنعام حلقة بحثه عن ربه ، واهتدائه إليه ، بعد تأمل في النجوم والقمر والشمس ، وتتبع مشاهد الكون. وكان ذلك في السورة التي تدور حول العقيدة ، وآيات الله في الكون ، ودلالتها على الصانع المبدع الذي لا شريك له.

وعرضت في سورة هود حلقة تبشيره بإسحاق ، وكان ذلك في سياق قصة لوط ، ومرور الملائكة المكلفين تدمير قريته في طريقهم بإبراهيم. وفيها تبدو رعاية الله للمختارين من عباده وتدمير الفاسقين.

وعرضت في سورة إبراهيم حلقة دعائه بجوار البيت المحرم لمن أسكنه من ذريته بواد غير زرع ؛ وحمده على أن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق ؛ وطلبه إلى ربه أن يجعله مقيم الصلاة هو وذريته ، وأن يقبل دعاءه ، ويغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .. وكان سياق السورة كله هو عرض أمة الرسل ؛ برسالة واحدة ، هي التوحيد ؛ وعرض المكذبين بأمة الرسل صفا واحدا كذلك ؛ وكأنما الرسالة شجرة ظليلة في هجير الكفر وصحراء الجحود!

وعرضت في سورة الحجر الحلقة التي عرضت في سورة هود مع شيء من التفصيل ، في صدد ذكر رحمة الله بعباده المؤمنين ، وعذابه للعصاة المذنبين.

وعرضت في سورة مريم حلقة دعوته في رفق لأبيه ، وغلظة أبيه عليه ، واعتزاله لأبيه وقومه ، وهبة إسماعيل وإسحاق له. وذلك في السورة التي تعرض رعاية الله للمصطفين من عباده. وجوها كله تظلله الرحمة والود واللين.

وعرضت في سورة الأنبياء حلقة دعوته لأبيه وقومه ، وزرايته على أصنامهم. وتحطيم هذه الأصنام ، وإلقائه في النار التي كانت بردا وسلاما عليه بأمر الله ، ونجاته هو وابن أخيه لوط إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وذلك في صدد استعراض أمة الرسل ، ورعاية الله لهذه الأمة واتجاهها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس له شريك.

ووردت في سورة الحج إشارة إلى أمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين ..

* * *

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما تَعْبُدُونَ؟) ..

اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته ، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة ؛ وهو يخالف أباه وقومه في شركهم ، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال ، ويسألهم في عجب واستنكار : «ما تعبدون؟».

(قالُوا : نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ)!

وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم : إنها أصنام. تنبىء بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر ، وأنهم مع ذلك يعكفون لها ، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم!

ويأخذ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يوقظ قلوبهم الغافية ، وينبه عقولهم المتبلدة ، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير :

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟)

فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة ، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه!

ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر ؛ وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير :

(قالُوا : بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ..

إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها ، فعكفنا عليها وعبدناها!

وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه ، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث ؛ بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم ، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء ، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق ، فيؤثرونها على الحق ، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس ، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.

وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم ـ على حلمه وأناته ـ إلا أن يهزهم بعنف ، ويعلن عداوته للأصنام ، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات!

(قالَ : أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ..

وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون ، أن يفارقهم بعقيدته ، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم ، هم وآباؤهم ـ وهم آباؤه ـ الأقدمون!

وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم ؛ وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة ، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون.

واستثنى إبراهيم «رب العالمين» من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ..

فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله ، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف ؛ وقد يكون من عبد الله ولكن

أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول ، والدقة الواعية في التعبير ، الجديران بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.

ثم يأخذ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في صفة ربه. رب العالمين. وصلته به في كل حال وفي كل حين. فنحس القربى الوثيقة ، والصلة الندية ، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة ، وفي كل حاجة وغاية.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) ..

ونستشعر من صفة إبراهيم لربه ، واسترساله في تصوير صلته به ، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه. وأنه يتطلع إليه في ثقة ، ويتوجه إليه في حب ؛ وأنه يصفه كأنه يراه ، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه .. والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل ، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد ..

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) .. الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم ؛ فهو أعلم بماهيتي وتكويني ، ووظائفي ومشاعري ، وحالي ومآلي : (فَهُوَ يَهْدِينِ) إليه ، وإلى طريقي الذي أسلكه ، وإلى نهجي الذي أسير عليه. وكأنما يحس إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع ، يصوغها كيف شاء ، على أي صورة أراد. إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين.

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) .. فهي الكفالة المباشرة الحانية الراعية ، الرفيقة الودود ، يحس بها إبراهيم في الصحة والمرض. ويتأدب بأدب النبوة الرفيع ، فلا ينسب مرضه إلى ربه ـ وهو يعلم أنه بمشيئة ربه يمرض ويصح ـ إنما يذكر ربه في مقام الإنعام والإفضال إذ يطعمه ويسقيه .. ويشفيه .. ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) .. فهو الإيمان بأن الله هو الذي يقضي الموت ، وهو الإيمان بالبعث والنشور في استسلام ورضى عميق.

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) .. فأقصى ما يطمع فيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ النبي الرسول ، الذي يعرف ربه هذه المعرفة ، ويشعر بربه هذا الشعور ، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى .. أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين. فهو لا يبرئ نفسه ، وهو يخشى أن تكون له خطيئة ، وهو لا يعتمد على عمله ، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئا ، إلا أنه يطمع في فضل ربه ، ويرجو في رحمته ، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة.

إنه شعور التقوى ، وشعور الأدب ، وشعور التحرج ؛ وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة ، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل.

وهكذا يجمع إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة : توحيد الله رب العالمين. والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شؤون حياتهم على الأرض. والبعث والحساب بعد الموت وفضل الله وتقصير العبد. وهي العناصر التي ينكرها قومه ، وينكرها المشركون.

ثم يأخذ إبراهيم الأواه المنيب في دعاء رخي مديد ، يتوجه به إلى ربه في إيمان وخشوع ؛

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ).

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ..

والدعاء كله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض ؛ ولا حتى صحة البدن. إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى ؛ تحركه مشاعر أصفى. ودعاء القلب الذي عرف الله فأصبح يحتقر ما عداه. والذي ذاق فهو يطلب المزيد ؛ والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) .. أعطني الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة والقيم الزائفة ، فأبقى على الدرب يصلني بما هو أبقى.

«وألحقني بالصالحين» .. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين!

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) .. دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد ، لا بالنسب ولكن بالعقيدة ؛ فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيرا لسان صدق يدعوهم إلى الحق ، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين إبراهيم. ولعلها هي دعوته في موضع آخر. إذ يرفع قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل ثم يقول : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَأَرِنا مَناسِكَنا ، وَتُبْ عَلَيْنا ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) .. وقد استجاب الله له ، وحقق دعوته ، وجعل له لسان صدق في الآخرين ، وبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم .. وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين. هي في عرف الناس أمد طويل ، وهي عند الله أجل معلوم ، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) .. وقد دعا ربه ـ من قبل ـ أن يلحقه بالصالحين ، بتوفيقه إلى العمل الصالح ، الذي يسلكه في صفوفهم. وجنة النعيم يرثها عباد الله الصالحون.

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) .. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له ، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى ؛ وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه «فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه» وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب ، إنما هي قرابة العقيدة .. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في الله ، ولا تقوم صلة بين فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة أنبتت سائر الوشائج ؛ وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة.

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .. ونستشف من قولة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) مدى شعوره بهول اليوم الآخر ؛ ومدى حيائه من ربه ، وخشيته من الخزي أمامه ، وخوفه من تقصيره. وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله ، وتجرده من كل شائبة ، ومن كل مرض ، ومن كل غرض. وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي ـ

__________________

(١) الآيات ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٢٩ من سورة البقرة.

تجعل له قيمة ووزنا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) ؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة ، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض ؛ وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير!

وهنا يرد مشهد من مشاهد القيامة يرسم ذلك اليوم الذي يتقيه إبراهيم ، فكأنما هو حاضر ، ينظر إليه ويراه ، وهو يتوجه لربه بذلك الدعاء الخاشع المنيب :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ. وَقِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ : تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ!).

لقد قربت الجنة وعرضت للمتقين ، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين. ولقد كشفت الجحيم وأبرزت للغاوين ، الذين ضلوا الطريق وكذبوا بيوم الدين ، وإنهم لعلى مشهد من الجحيم يقفون. حيث يسمعون التقريع والتأنيب ، قبل أن يكبكبوا في الجحيم .. إنهم يسألون عما كانوا يعبدون من دون الله ـ وذلك تساوق مع قصة إبراهيم وقومه وما كان بينه وبينهم من حوار عما كانوا يعبدون ـ إنهم ليسألون اليوم : «أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟» أين هم «هل ينصرونكم أو ينتصرون؟» ثم لا يسمع منهم جواب ، ولا ينتظر منهم جواب. إنما هو سؤال لمجرد التقريع والتأنيب (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ). كبكبوا .. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام ، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة ، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه. وإنهم لغاوون ضالون ، وقد كبكب معهم جميع الغاوون هم (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ). والجميع جنود إبليس. فهو تعميم شامل بعد تخصيص.

ثم نستمع إليهم في الجحيم .. إنهم يقولون لآلهتهم من الأصنام : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) فنعبدكم عبادته. إما معه وإما من دونه. الآن يقولونها بعد فوات الأوان. وهم يلقون التبعة على المجرمين منهم ، الذين أضلوهم وصدوهم عن الهدى. ثم يفيقون فيعلمون أن الأوان قد فات ، وأنه لا جدوى من توزيع التبعات : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) فلا آلهة تشفع ، ولا صداقات تنفع .. وإذا لم تكن شفاعة فيما مضى أفلا رجعة إلى الدنيا لنصلح ما فاتنا فيها؟ (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)! وما هو إلا التمني. فلا رجعة ولا شفاعة فهذا يوم الدين!

ثم يجيء التعقيب المعهود : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

وهو نفس التعقيب الذي جاء في السورة بعد عرض مصارع عاد وثمود وقوم لوط. كما جاء تعقيبا على كل آية من آيات الله وقعت للمكذبين. فهذا المشهد من مشاهد القيامة عوض في سياق السورة عن مصارع المكذبين في الدنيا. إذ يصور نهاية قوم إبراهيم. ونهاية الشرك كافة. وهو موضع العبرة في قصص السورة جميعا. ومشاهد القيامة في القرآن تعرض كأنها واقعة ، وكأنما تشهدها الأبصار حين تتلى ، وتتملاها المشاعر ، وتهتز بها الوجدانات. كالمصارع التي تمت على أعين الناس وهم يشهدون.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا

اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٢٢)

كما رجع السياق القهقرى في التاريخ من قصة موسى إلى قصة إبراهيم ، كذلك يرجع القهقرى من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. إن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا ، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب وقصة نوح ، كقصة موسى وقصة إبراهيم ، تعرض في سور شتى من القرآن. وقد عرضت من قبل في سورة «الأعراف» في الخط التاريخي للرسل والرسالات بعد هبوط آدم من الجنة عرضا مختصرا ، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد ، وإنذارهم عذاب يوم عظيم ، واتهام قومه له بالضلال ، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلا منهم ، وتكذيبهم له. ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل.

وعرضت في سورة يونس باختصار كذلك في نهاية رسالته ، إذ تحدى قومه فكذبوه .. ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك ، وإغراق الآخرين.

وعرضت في سورة «هود» بتفصيل في قصة الطوفان والفلك وما بعد الطوفان كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين. وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال حول عقيدة التوحيد.

وعرضت في سورة «المؤمنون» فذكر منها دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد ، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم ؛ ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، واتهامه بالجنون. ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته. وإشارة سريعة إلى الفلك والطوفان.

وهي تعرض في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين ـ وكذلك هي في هذه السورة ـ وأظهر ما في الحلقة المعروضة هنا دعوته لقومه إلى تقوى الله ، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى ، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء ـ وهذا ما كان يواجهه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مكة سواء بسواء ـ ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه. واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين.

* * *

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ..

تلك هي النهاية. نهاية القصة. يبدأ بها لإبرازها منذ البداية. ثم يأخذ في التفصيل.

وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحا. ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين. فالرسالة في أصلها واحدة ، وهي دعوة إلى توحيد الله ، وإخلاص العبودية له. فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين ، فهذه دعوتهم أجمعين. والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة ، بصيغ متعددة ، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية ، تحتضن بها الدعوات جميعا ؛ وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين : صف المؤمنين وصف الكافرين ، على مدار الرسالات ومدار القرون. وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته ، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير. وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين. وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعا ، ويحترم الرسل جميعا ، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد.

إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان. إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل. وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل. في كل زمان وفي كل مكان. وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله ؛ وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن ، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ. ترتفع فتصبح قيمة واحدة. هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع ، ويقوّم بها الجميع.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ : أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه ـ وهو أخوهم ـ وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق. ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة ، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم : (أَلا تَتَّقُونَ؟) وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟

وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة. فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم. وهكذا قال نوح لقومه. وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح :

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) .. لا يخون ولا يخدع ولا يغش ، ولا يزيد شيئا أو ينقص شيئا مما كلفه من التبليغ.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) .. وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله ، ويحددها في هذه المرة ، وينسبها إلى الله تعالى ، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم.

ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها ، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله ، وما يطلب منهم أجرا جزاء هدايتهم إليه ، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس. وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائما ضروريا للدعوة الصحيحة ، تمييزا لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد. وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائما مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب. فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائما متجردين ، لا يطلبون أجرا على الهدى. فأجرهم على رب العالمين.

وهنا يكرر عليهم طلب التقوى والطاعة ، بعد اطمئنانهم من ناحية الأجر والاستغلال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) .. ولكن القوم يطلعون عليه باعتراض عجيب. وهو اعتراض مكرور في البشرية مع كل رسول :

(قالُوا : أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟) ..

وهم يعنون بالأرذلين الفقراء. وهم السابقون إلى الرسل والرسالات ، وإلى الإيمان والاستسلام. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة ، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة. ومن ثم فهم الملبون السابقون. فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم ، وتقعد بهم مصالحهم ، القائمة على الأوضاع المزيفة ، المستمدة من الأوهام

والأساطير ، التي تلبس ثوب الدين. ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس ، حيث تسقط القيم الزائفة كلها ، وترتفع قيمة واحدة. قيمة الإيمان والعمل الصالح. قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين. بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم.

ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ؛ ويحدد اختصاص الرسول ، ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون.

(قالَ : وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

والكبراء يقولون دائما عن الفقراء : إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية ، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف! فنوح يقول لهم : إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان. وقد آمنوا. فأما عملهم قبله فموكول إلى الله ، وهو الذي يزنه ويقدره. ويجزيهم على الحسنات والسيئات. وتقدير الله هو الصحيح (لَوْ تَشْعُرُونَ) بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله. وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

فلما أن واجههم نوح ـ عليه‌السلام ـ بحجته الواضحة ومنطقة المستقيم ؛ وعجزوا عن المضي في الجدل بالحجة والبرهان ، لجأوا إلى ما يلجأ إليه الطغيان كلما أعوزته الحجة ، وخذله البرهان. لجأوا إلى التهديد بالقوة المادية الغليظة التي يعتمد عليها الطغاة في كل زمان ومكان ، عند ما تعوزهم الحجة ، ويعجزهم البرهان :

(قالُوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ..

وأسفر الطغيان عن وجهه الكالح ، وكشف الضلال عن وسيلته الغليظة ، وعرف نوح أن القلوب الجاسية لن تلين

هنا توجه نوح إلى الولي الوحيد ، والناصر الفريد ، الذي لا ملجأ سواه للمؤمنين :

(قالَ : رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وربه يعلم أن قومه كذبوه. ولكنه البث والشكوى إلى الناصر المعين ، وطلب النصفة ، ورد الأمر إلى صاحب الأمر : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) يضع الحد الأخير للبغي والتكذيب : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

واستجاب الله لنبيه الذي يتهدده الطغيان بالرجم ، لأنه يدعو الناس إلى تقوى الله ، وطاعة رسوله ، لا يطلب على ذلك أجرا ، ولا يبتغي جاها ولا مالا :

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) ..

هكذا في إجمال سريع. يصور النهاية الأخيرة للمعركة بين الإيمان والطغيان في فجر البشرية. ويقرر مصير كل معركة تالية في تاريخ البشرية الطويل.

ثم يجيء التعقيب المكرور في السورة عقب كل آية من آيات الله العزيز الرحيم :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

* * *

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٤٠)

وقوم هود كانوا يسكنون الأحقاف ، وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح ، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة من الطوفان الذي طهر وجه الأرض من العصاة.

وقد وردت هذه القصة في الأعراف مفصلة وفي هود ، كما وردت في سورة «المؤمنون» بدون ذكر اسم هود وعاد. وهي تعرض هنا مختصرة بين طرفيها : طرف دعوة هود لقومه ، وطرف العاقبة التي انتهى إليها المكذبون منهم. وتبدأ كما بدأت قصة قوم نوح :

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ : أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول : دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله. وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة ، وترفع عن قيم الأرض الزائلة ، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم.

ثم يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم ، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة ، والإعلان عن الثراء ، والتكاثر والاستطالة في البناء ؛ كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا ، وما يسخرونه فيها من القوى ، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته :

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ؟) ..

والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانا يبدو للناظر من بعد كأنه علامة. وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثم سماه عبثا. ولو كان لهداية المارة ، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم : «تعبثون» .. فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد ، وتنفق البراعة ، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع ، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة.

ويبدو كذلك من قوله : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أن عادا كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغا يذكر ؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور ، وتشييد العلامات على المرتفعات ؛ وحتى ليجول

في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشؤونه بوساطتها من البنيان كافية لحمايتهم من الموت ، ووقايتهم من مؤثرات الجور ومن غارات الأعداء.

ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه :

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) ..

فهم عتاة غلاظ ، يتجبرون حين يبطشون ؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش. شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون.

وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله ، لينهنه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

ويذكرهم نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون. وكان الأجدر بهم أن يتذكروا فيشكروا ، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم ، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم!

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ..

وهكذا يذكرهم بالمنعم والنعمة على وجه الإجمال أولا : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ). وهو حاضر بين أيديهم ، يعلمونه ويعرفونه ويعيشون فيه ، ثم يفصل بعض التفصيل : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهي النعم المعهودة في ذلك العهد ؛ وهي نعمة في كل عهد .. ثم يخوفهم عذاب يوم عظيم. في صورة الإشفاق عليهم من ذلك العذاب. فهو أخوهم ، وهو واحد منهم ، وهو حريص ألا يحل بهم عذاب ذلك اليوم الذي لا شك فيه.

ولكن هذه التذكرة وهذا التخويف ، لا يصلان إلى تلك القلوب الجاسية الفظة الغليظة. فإذا الإصرار والعناد والاستهتار.

(قالُوا : سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) ..

فما يعنينا أن تعظ أو ألا تكون أصلا من الواعظين! وهو تعبير فيه استهانة واستهتار وجفوة. يتبعه ما يشي بالجمود والتحجر والاعتماد على التقليد!

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ .. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ..

فحجتهم فيما هم عليه ، وفيما يستنكره عليهم هود ، أنه خلق الأولين ونهجهم. وهم يسيرون على نهج الأولين! ثم إنهم لينفون احتمال العذاب على خلق الأولين! (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)!

ولا يستطرد السياق هنا في تفصيل ما ثار بينهم وبين رسولهم من جدل ؛ فيمضي قدما إلى النهاية :

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) ..

وفي كلمتين اثنتين ينتهي الأمر ؛ ويطوى قوم عاد الجبارون ؛ وتطوى مصانعهم التي يتخذون ؛ ويطوى ما كانوا فيه من نعيم ، من أنعام وبنين وجنات وعيون!

وكم من أمة بعد عاد ظلت تفكر على هذا النحو ، وتغتر هذا الغرور ، وتبعد عن الله كلما تقدمت في الحضارة ؛ وتحسب أن الإنسان قد أصبح في غنية عن الله! وهي تنتج من أسباب الدمار لغيرها ، والوقاية لنفسها ، ما تحسبه واقيا لها من أعدائها .. ثم تصبح وتمسي فإذا العذاب يصب عليها من فوقها ومن تحتها. عن أي طريق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٥٩)

إنها ذات الدعوة بألفاظها يدعوها كل رسول. ويوحد القرآن عن قصد حكاية العبارة التي يلقيها كل رسول على قومه للدلالة على وحدة الرسالة جوهرا ومنهجا ، في أصلها الواحد الذي تقوم عليه ، وهو الإيمان بالله وتقواه ، وطاعة الرسول الآتي من عند الله.

ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة ، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف. إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة ـ (وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز ، وقد مر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك) ـ ويخوفهم سلب هذه النعمة ، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه :

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ؟).

وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح. ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه ؛ ولا يتدبرون منشأة ومأتاه ، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذا النعيم. فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته ، ويخافوا زواله.

وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية ، وتنبه فيها الحرص والخوف : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ؟) أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة .. وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم .. أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت ، ولا يزعجكم سلب ، ولا يفزعكم تغيير؟

أتتركون في هذا كله من جنات وعيون ، وزروع متنوعات ، ونخل جيدة الطلع ، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة ، وفي أناقة وفراهة؟

وبعد أن يلمس قلوبهم هذه اللمسات الموقظة يناديهم إلى التقوى ، وإلى الطاعة ، وإلى مخالفة الملأ الجائرين البعيدين عن الحق والقصد ، الميالين إلى الفساد والشر.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) ..

ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية ، فلا تصغي لها ولا تلين :

(قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ..

إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهم يهرفون بما لا يعرفون! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون!

(ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) .. وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول. فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيبا دائما ؛ وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشرا ، وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور.

وكانت البشرية تتصور الرسول خلقا آخر غير البشر. أو هكذا ينبغي أن يكون ؛ ما دام يأتي إليها بخير السماء ، وخبر الغيب ، وخبر العالم المحجوب عن البشر .. ذلك أنها ما كانت تدرك سر هذا الإنسان الذي كرمه الله به ، وهو أنه موهوب القدرة على الاتصال بالملأ الأعلى وهو على هذه الأرض مقيم. يأكل وينام ويتزوج ويمشي في الأسواق. ويعالج ما يعالجه سائر البشر من المشاعر والنوازع ، وهو متصل بذلك السر العظيم.

وكانت البشرية جيلا بعد جيل تطلب خارقة معجزة من الرسول تدل على أنه حقا مرسل من الله : (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .. وهكذا طلبت ثمود تلك الخارقة ، فاستجاب الله لعبده صالح ، وأعطاه هذه الخارقة في صورة ناقة ؛ لا نخوض في وصفها كما خاض المفسرون القدامى ، لأنه ليس لدينا سند صحيح نعتمد عليه في هذا الوصف. فنكتفي بأنها كانت خارقة كما طلبت ثمود.

(قالَ : هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ..

لقد جاءهم بالناقة ، على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم ، لا يجورون عليها في يومها ، ولا تجور عليهم في يومهم ، ولا يختلط شرابها بشرابهم ، كما لا يختلط يومها بيومهم. ولقد حذرهم أن ينالوها بسوء على الإطلاق ، وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم.

فماذا فعلت الآية الخارقة بالقوم المتعنتين؟ إنها لم تسكب الإيمان في القلوب الجافة ؛ ولم تطلع النور في الأرواح المظلمة. على الرغم من قهرها لهم وتحديهم بها. وإنهم لم يحفظوا عهدهم ، ولم يوفوا بشرطهم :

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ).

والعقر : النحر. والذين عقروها منهم هم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. ولقد حذرهم منهم صالح وأنذرهم فلم يخشوا النذير. ومن ثم كتبت خطيئتها على الجميع ، وكان الجميع مؤاخذين بهذا الإثم العظيم.

ولقد ندم القوم على الفعلة ، ولكن بعد فوات الأوان وتصديق النذير :

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) .. ولا يفصل نوعه هنا للمسارعة والتعجيل!

ثم يجيء التعقيب : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥)

تجيء قصة لوط هنا. ومكانها التاريخي كان مع قصة إبراهيم. ولكن السياق التاريخي ليس ملحوظا في هذه السورة ـ كما أسلفنا ـ إنما الملحوظ وحدة الرسالة والمنهج ، وعاقبة التكذيب : من نجاة للمؤمنين وهلاك للمكذبين.

ويبدأ لوط مع قومه بما بدأ به نوح وهود وصالح. يستنكر استهتارهم ؛ ويستجيش في قلوبهم وجدان التقوى ، ويدعوهم إلى الإيمان والطاعة ، ويطمئنهم إلى أنه لن يفجعهم في شيء من أموالهم مقابل الهدى. ثم يواجههم باستنكار خطيئتهم الشاذة التي عرفوا بها في التاريخ :

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ؟ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ).

والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط (وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن) هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور ، وترك النساء. وهو انحراف في الفطرة شنيع. فقد برأ الله الذكر والأنثى ؛ وفطر كلا منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل ، الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى. فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام ، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون على إنفاذ المشيئة المدبرة لهذا الوجود. فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف ، ولا يحقق غاية ، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه. وعجيب أن يجد فيه أحد لذة. واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق المشيئة. فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط. ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا ، لخروجهم من ركب الحياة ، ومن موكب الفطرة ، ولتعريهم من حكمة وجودهم ، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد.

فلما دعاهم لوط إلى ترك هذا الشذوذ ، واستنكر ما هم فيه من ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم ، والعدوان على الفطرة وتجاوز الحكمة المكنونة فيها .. تبين أنهم غير مستعدين للعودة إلى ركب الحياة ، وإلى سنة الفطرة :

(قالُوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ).

وقد كان فيهم غريبا. وفد عليهم مع عمه إبراهيم حين اعتزل أباه وقومه ، وترك وطنه وأرضه ، وعبر الأردن

مع إبراهيم والقلة التي آمنت معه. ثم عاش وحده مع هؤلاء القوم حتى أرسله الله إليهم ، ليردهم عما هم فيه ، فإذا بهم يهددونه بالإخراج من بينهم ، إذا لم ينته عن دعوتهم إلى سواء الفطرة القويم!

عندئذ لم يبق إلا أن يعالنهم بكراهة ما هم عليه من شذوذ ؛ في تقزز واستبشاع :

(قالَ : إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) ..

والقلى : الكره البالغ. يقذف به لوط في وجوههم في اشمئزاز. ثم يتوجه إلى ربه بالدعاء أن ينجيه من هذا البلاء هو وأهله :

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) ..

وهو لا يعمل عملهم ؛ ولكنه يحس بفطرته الصادقة أنه عمل مرد مهلك. وهو فيهم. فهو يتوجه إلى ربه أن ينجيه وأهله مما سيأخذ به قومه من التدمير.

واستجاب الله دعوة نبيه :

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) ..

هذه العجوز هي امرأته ـ كما يذكر في سور أخرى ـ وقد كانت عجوز سوء تقر القوم على فعلتهم المنكرة ، وتعينهم عليها!

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ..

قيل خسفت قراهم وغطاها الماء. ومنها قرية سدوم. ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميت في الأردن.

وبعض علماء طبقات الأرض يؤكدون أن البحر الميت يغمر مدنا كانت آهلة بالسكان. وقد كشف بعض رجال الآثار بقايا حصن بجوار البحر ، وبجواره المذبح الذي تقدم عليه القرابين.

وعلى أية حال فقد قص القرآن نبأ قرى لوط ـ على هذا النحو ـ وقوله الفصل في الموضوع.

ثم يعقب على مصرعهم بالتعقيب المكرور :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً : وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨)

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١)

وهذه قصة شعيب ـ ومكانها التاريخي قبل قصة موسى ـ تجيء هنا في مساق العبرة كبقية القصص في هذه السورة. وأصحاب الأيكة هم ـ غالبا ـ أهل مدين. والأيكة الشجر الكثيف الملتف. ويبدو أن مدين كانت تجاورها هذه الغيضة الوريفة من الأشجار. وموقع مدين بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة.

وقد بدأهم شعيب بما بدأ به كل رسول قومه من أصل العقيدة والتعفف عن الأجر ، ثم أخذ يواجههم بما هو من خاصة شأنهم :

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

وقد كان شأنهم ـ كما ذكر في سورتي الأعراف وهود ـ أن يطففوا في الميزان والمكيال ، وأن يأخذوا بالقسر والغصب زائدا عن حقهم ، ويعطوا أقل من حق الناس ، ويشتروا بثمن بخس ويبيعوا بثمن مرتفع. ويبدو أنهم كانوا في ممر قوافل التجارة ، فكانوا يتحكمون فيها. وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط في هذا كله ، لأن العقيدة الصحيحة يتبعها حسن المعاملة. ولا تستطيع أن تغضي عن الحق والعدل في معاملات الناس.

ثم استجاش شعيب مشاعر التقوى في نفوسهم ، وهو يذكرهم بخالقهم الواحد. خالق الأجيال كلها والسابقين جميعا :

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ).

فما كان منهم إلا أن يطلقوا عليه الاتهام بأنه مسحور ، فهو يخلط ويهذي بما يقول :

(قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) ..

وإلا أن يستنكروا رسالته. فهو بشر مثلهم ، وما هكذا ـ في زعمهم ـ يكون الرسول. ويرمونه بالكذب فيما يقول :

(وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ).

وإلا أن يتحدوه أن يأتيهم بما يخوفهم به من العذاب إن كان صادقا فيما يدعيه ؛ وأن يسقط عليهم رجوما من السماء ، أو يحطمها عليهم ويسقطها قطعا :

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ..

وهو تحدي المستهتر الهازئ المستهين! وهو شبيه بتحدي المشركين للرسول الكريم ..

(قالَ : رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ..

ويعجل السياق بالنهاية دون تفصيل ولا تطويل.

(فَكَذَّبُوهُ. فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ..

قيل : أخذهم حر خانق شديد يكتم الأنفاس ويثقل الصدور. ثم تراءت لهم سحابة ، فاستظلوا بها ؛ فوجدوا

لها بردا ، ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية تفزعهم وتدمرهم تدميرا.

وكان ذلك «يوم الظلة» فالظلة كانت سمة اليوم المعلوم!

ثم يجيء التعقيب المكرور :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ويختم القصص في السورة ليجيء على إثره التعقيب الأخير ..

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا

يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

انتهى القصص وكله يعرض قصة الرسل والرسالات. وقصة التكذيب والإعراض. وقصة التحدي والعقاب. وقد بدأ هذا القصص بعد مقدمة السورة. والحديث فيها خاص برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومشركي قريش : «لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين. وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون» .. ثم سيق القصص ، وكله نماذج للقوم يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون!

فلما انتهى القصص عاد السياق إلى موضوع السورة الذي تضمنته المقدمة ؛ فجاء هذا التعقيب الأخير ، يتحدث عن القرآن ، فيؤكد أنه تنزيل رب العالمين ـ ومنه هذا القصص الذي مضت به القرون ، فإذا القرآن ينزل به من رب العالمين ـ ويشير إلى أن علماء بني إسرائيل يعرفون خبر هذا الرسول وما معه من القرآن ، لأنه مذكور في كتب الأولين. إنما المشركون يعاندون الدلائل الظاهرة ؛ ويزعمون أنه سحر أو شعر ، ولو أن أعجميا لا يتكلم العربية نزل عليه هذا القرآن فتلاه عليهم بلغتهم ما كانوا به مؤمنين. لأن العناد هو الذي يقعد بهم عن الإيمان لا ضعف الدليل! وما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما تتنزل بالأخبار على الكهان. وما هو كذلك بشعر ، فإن له منهجا ثابتا والشعراء يهيمون في كل واد وفق الانفعالات والأهواء. إنما هو القرآن المنزل من عند الله تذكيرا للمشركين ، قبل أن يأخذهم الله بالعذاب ، وقبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ..

* * *

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ..

والروح الأمين جبريل ـ عليه‌السلام ـ نزل بهذا القرآن من عند الله على قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو أمين على ما نزل به ، حفيظ عليه ، نزل به على قلبه فتلقاه تلقيا مباشرا ، ووعاه وعيا مباشرا. نزل به على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. هو لسان قومه الذي يدعوهم به ، ويتلو عليهم القرآن. وهم يعرفون مدى ما يملك البشر أن يقولوا ؛ ويدركون أن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وإن كان بلغتهم ؛ وأنه بنظمه ، وبمعانيه ، وبمنهجه ، وبتناسقه. يشي بأنه آت من مصدر غير بشري بيقين.

وينتقل من هذا الدليل الذاتي إلى دليل آخر خارجي :

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) ..

فقد وردت صفة الرسول الذي ينزل عليه القرآن ، كما وردت أصول العقيدة التي جاء بها في كتب الأولين. ومن ثم كان علماء بني إسرائيل يتوقعون هذه الرسالة ، وينتظرون هذا الرسول ، ويحسون أن زمانه قد أظلهم ؛ ويحدث بعضهم بعضا بهذا كما ورد على لسان سلمان الفارسي ، ولسان عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنهما ـ والأخبار في هذا ثابتة كذلك بيقين.

إنما يكابر المشركون ويعاندون لمجرد المكابرة والعناد ، لا لضعف الحجة ولا لقصور الدليل ؛ فلو جاءهم به أعجمي لا ينطق العربية فتلاه عليهم قرآنا عربيا ما آمنوا به ، ولا صدقوه ، ولا اعترفوا أنه موحى به إليه ، حتى مع هذا الدليل الذي يجبه المكابرين :

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) ..

وفي هذا تسرية عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتصوير لعنادهم ومكابرتهم في كل دليل. ثم يعقب على هذا بأن التكذيب مكتوب على القوم ملازم لهم بحكم عنادهم ومكابرتهم. فهكذا قضي الأمر أن يتلقوه بالتكذيب ، كأنه طبع في قلوبهم لا يحول. حتى يأتيهم العذاب وهم في غفلة لا يشعرون :

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

والتعبير يرسم صورة حسية لملازمة التكذيب لهم. فيقول : إنه على هذه الهيئة. هيئة عدم الإيمان والتكذيب بالقرآن. على هذه الهيئة نظمناه في قلوبهم وأجريناه. فهو لا يجري فيها إلا مكذبا به. ويظل على هيئته هذه في قلوبهم (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) .. (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .. وقد بقي بعضهم فعلا على هذا الوضع حتى فارق هذه الأرض بالقتل أو الموت ، ومن ثم إلى العذاب الأليم .. وفي هذه اللحظة فقط يفيقون :

(فَيَقُولُوا : هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ؟) ..

هل نحن مؤجلون إلى فرصة أخرى ، نصلح بها ما فات. وهيهات هيهات!

ولقد كانوا يستعجلون عذاب الله ، على سبيل الاستهزاء والاستهتار ، واغترارا بما هم فيه من متاع ، يبلد حسهم ، ويجعلهم يستبعدون النقلة منه إلى العذاب والنكال. شأنهم شأن ذوي النعمة قلما يخطر ببالهم أن تزول ؛ وقلما يتصورون أن تحول. فهو يوقظهم هنا من هذه الغفلة ، ويرسم لهم صورتهم حين يحل بهم ما يستعجلون :

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ..

فيضع صورة الاستعجال بالعذاب في جانب. وفي الجانب الآخر تحقق الوعيد. وإذا سنون المتاع ساقطة كأنها لم تكن ، لا تغني عنهم شيئا ، ولا تخفف من عذابهم.

وفي الحديث الصحيح : «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول : لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول : لا والله يا رب (١)» ..

ثم يخوفهم بأن الإنذار مقدمة الهلاك. وأن رحمة الله ألا يهلك قرية حتى يبعث فيها رسولا ، يذكرها بدلائل الإيمان :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى. وَما كُنَّا ظالِمِينَ) ..

ولقد أخذ الله على البشر عهد الفطرة أن يوحدوه ويعبدوه. والفطرة بذاتها تحس بوجود الخالق الواحد ما لم تفسد وتنحرف (٢). وبث دلائل الإيمان في الكون ، كلها يوحي بوجود الخالق الواحد. فإذا نسي الناس عهد الفطرة ؛ وأغفلوا دلائل الإيمان ، جاءهم نذير يذكرهم ما نسوا ، ويوقظهم إلى ما أغفلوا. فالرسالة ذكرى تذكر الناسين وتوقظ الغافلين. زيادة في العدل والرحمة (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) في أخذ القرى بعد ذلك بالعذاب

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير ، وقال : في الحديث الصحيح.

(٢) يراجع تفسير : وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم» جزء ٩ ص ١٣٩٢.

والهلاك. فإنما هو جزاء النكسة عن خط الهدى ومنهج اليقين.

* * *

ثم يبدأ معهم جولة جديدة عن القرآن الكريم :

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) ..

لقد قرر في الجولة الماضية أنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ؛ واستطرد مع تكذيبهم به ، واستعجالهم ما يتوعدهم من عذاب فيه .. وها هو ذا ينفي دعواهم أنه من وحي الشياطين على طريقة الكهان ، الذين كانوا يزعمون أن الشياطين تأتيهم بخبر الغيب ، وبالسمع الذي يتكهنون فيه بالأخبار.

وما يليق هذا القرآن بالشياطين. وهو يدعو إلى الهدى والصلاح والإيمان. والشياطين تدعو إلى الضلال والفساد والكفر.

وما هم بمستطيعين أن يأتوا به. فهم معزولون عن سماع الوحي به من الله. إنما يتنزل به الروح الأمين ، بإذن من رب العالمين. وليس هذا بميسور للشياطين.

* * *

وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحذره من الشرك ـ وهو أبعد من يكون عنه ـ ليكون غيره أولى بالحذر. ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين. ويأمره بالتوكل على الله ، الذي يلحظه دائما ويرعاه :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ : إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

وحين يكون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متوعدا بالعذاب مع المعذبين ، لو دعا مع الله إلها آخر. وهذا محال ولكنه فرض للتقريب. فكيف يكون غيره؟ وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين؟! وليس هنالك محاباة ، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول ، لو ارتكب هذا الإثم العظيم!

وبعد إنذار شخصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكلف إنذار أهله. لتكون لمن سواهم عبرة ، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ..

روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا بني عبد المطلب. يا بني فهر. يا بني لؤي. أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا : نعم. قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ..).

وأخرج مسلم ـ بإسناده ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم».

وأخرج مسلم والترمذي ـ بإسناده عن أبي هريرة ـ قال : لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قريشا فعم وخص فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم

من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإنّي والله لا أملك لكم من الله شيئا. إلا أن لكم رحيما سأبلها ببلالها» ..

فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الأمر ، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين ، ونفض يده من أمرهم ، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة ، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم ، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا ، وهو رسول الله .. وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه ، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم.

كذلك بين الله لرسوله كيف يعامل المؤمنين الذين يستجيبون لدعوة الله على يديه :

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة. صورة خفض الجناح ، كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط. وكذلك كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع المؤمنين طوال حياته. فقد كان خلقه القرآن. وكان هو الترجمة الحية الكاملة للقرآن الكريم.

وكذلك بين الله له كيف يعامل العصاة فيكلهم إلى ربهم ، ويبرأ مما يعملون :

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ : إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ..

وكان هذا في مكة ، قبل أن يؤمر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقتال المشركين.

ثم يتوجه به ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى ربه ، يصله به صلة الرعاية الدائمة القريبة :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

دعهم وعصيانهم ، متبرئا من أعمالهم ، وتوجه إلى ربك معتمدا عليه ، مستعينا في أمرك كله به. ويصفه ـ سبحانه ـ بالصفتين المكررتين في هذه السورة : العزة والرحمة. ثم يشعر قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالأنس والقربى. فربه يراه في قيامه وحده للصلاة ، ويراه في صفوف الجماعة الساجدة. يراه في وحدته ويراه في جماعة المصلين يتعهدهم وينظمهم ويؤمهم ويتنقل بينهم. يرى حركاته وسكناته ، ويسمع خطراته ودعواته : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

وفي التعبير على هذا النحو إيناس بالرعاية والقرب والملاحظة والعناية. وهكذا كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يشعر أنه في كنف ربه ، وفي جواره وقربه. وفي جو هذا الأنس العلوي كان يعيش ..

* * *

والجولة الأخيرة في السورة حول القرآن أيضا. ففي المرة الأولى أكد أنه تنزيل من رب العالمين. نزل به الروح الأمين. وفي المرة الثانية نفى أن تتنزل به الشياطين. أما في هذه المرة فيقرر أن الشياطين لا تتنزل على مثل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أمانته وصدقه وصلاح منهجه ؛ إنما تتنزل على كل كذاب آثم ضال من الكهان الذين يتلقون إيحاءات الشياطين ويذيعونها مع التضخيم والتهويل :

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) ..

وكان في العرب كهان يزعمون أن الجن تنقل إليهم الأخبار ، وكان الناس يلجأون إليهم ويركنون إلى نبوءاتهم. وأكثرهم كاذبون. والتصديق بهم جري وراء الأوهام والأكاذيب. وهم على أية حال لا يدعون إلى هدى ،

ولا يأمرون بتقوى ، ولا يقودون إلى إيمان. وما هكذا كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يدعو الناس بهذا القرآن إلى منهج قويم.

ولقد كانوا يقولون عن القرآن أحيانا : إنه شعر ، ويقولون عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنه شاعر. وهم في حيرتهم كيف يواجهون هذا القول الذي لا يعرفون له نظيرا ، والذي يدخل إلى قلوب الناس ، ويهز مشاعرهم ، ويغلبهم على إرادتهم من حيث لا يملكون له ردا.

فجاء القرآن يبين لهم في هذه السورة أن منهج محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومنهج القرآن غير منهج الشعراء ومنهج الشعر أصلا. فإن هذا القرآن يستقيم على نهج واضح ، ويدعو إلى غاية محددة ، ويسير في طريق مستقيم إلى هذه الغاية. والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يقول اليوم قولا ينقضه غدا ، ولا يتبع أهواء وانفعالات متقلبة ؛ إنما يصر على دعوة ، ويثبت على عقيدة ، ويدأب على منهج لا عوج فيه. والشعراء ليسوا كذلك. الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة. تتحكم فيهم مشاعرهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت. ويرون الأمر الواحد في لحظة أسود. وفي لحظة أبيض. يرضون فيقولون قولا ، ويسخطون فيقولون قولا آخر. ثم هم أصحاب أمزجة لا تثبت على حال!

هذا إلى أنهم يخلقون عوالم من الوهم يعيشون فيها ، ويتخيلون أفعالا ونتائج ثم يخالونها حقيقة واقعة يتأثرون بها. فيقل اهتمامهم بواقع الأشياء ، لأنهم يخلقون هم في خيالهم واقعا آخر يعيشون عليه؟

وليس كذلك صاحب الدعوة المحددة ، الذي يريد تحقيقها في عالم الواقع ودنيا الناس. فلصاحب الدعوة هدف ، وله منهج ، وله طريق. وهو يمضي في طريقه على منهجه إلى هدفه مفتوح العين ، مفتوح القلب ، يقظ العقل ؛ لا يرضى بالوهم ، ولا يعيش بالرؤى ، ولا يقنع بالأحلام ، حتى تصبح واقعا في عالم الناس.

فمنهج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومنهج الشعراء مختلفان ، ولا شبهة هناك ، فالأمر واضح صريح :

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟!).

فهم يتبعون المزاج والهوى ومن ثم يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى ، الذين لا منهج لهم ولا هدف.

وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول ، وفق الانفعال الذي يسيطر عليهم في لحظة من اللحظات تحت وقع مؤثر من المؤثرات.

وهم يقولون ما لا يفعلون. لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم ، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها ، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة ، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة!

إن طبيعة الإسلام ـ وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة ، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة ـ إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية ـ في الغالب ـ لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به. فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه ، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع.

والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوّم. فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم ، ولا تنفق مع منهجه الذي يأخذهم به ، دفعهم إلى تغييرها ، وتحقيق المنهج الذي يريد.

ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهوّمة الطائرة. فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة ، وفق منهجه الضخم العظيم.

ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته ـ كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ. إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن. منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها. فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام ، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا ؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها ، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا!

وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية ، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام ، في ضوء الإسلام ، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا.

فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن ، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ.

ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون ، وإلى خفايا النفس البشرية. وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن. وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال.

ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً ، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ..

فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام. هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة ، واستقامت حياتهم على منهج. وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل ، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام. وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه.

ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنهم ـ من شعراء الأنصار ، ومنهم عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في جاهليتهما ، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال لحسان : «اهجهم ـ أو قال هاجهم ـ وجبريل معك» .. وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن الله عزوجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» (رواه الإمام أحمد).

والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها. وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها ، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام.

وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا ؛ ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله .. ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا. وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح ، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلامي

في صميمه. وإن لحظة إشراق واتصال بالله ، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله ، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام.

ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها ، وللعلاقات والروابط فيها. فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام.

* * *

وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل :

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ..

السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم ، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب. كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون.

تنتهي بهذا التهديد المخيف. الذي يلخص موضوع السورة. وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب ؛ يتمثل في صور شتى ، يتمثلها الخيال ويتوقعها. وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا.

* * *

(٢٧) سورة النّمل مكيّة

وآياتها ثلاث وتسعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦)

هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء ؛ وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه ؛ وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع ، ويؤكده ، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم ، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات.

وموضوع السورة الرئيسي ـ كسائر السور المكية ـ هو العقيدة : الإيمان بالله ، وعبادته وحده ، والإيمان بالآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب. والإيمان بالوحي وأن الغيب كله لله ، لا يعلمه سواه. والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم ؛ وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر. والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله ، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.

ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني ؛ وتصوير عاقبة المكذبين بها ، وعاقبة المؤمنين.

تأتي حلقة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ تلي مقدمة السورة. حلقة رؤيته للنار وذهابه إليها ، وندائه من الملأ الأعلى ، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه. ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها وعاقبة التكذيب مع اليقين .. «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين». وكذلك شأن المشركين في مكة كان مع آيات القرآن المبين.

وتليها إشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ ثم قصة سليمان مع النملة ، ومع الهدهد ،

ومع ملكة سبأ وقومها. وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة. وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان. وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول. ويبرز بصفة خاصة استقبال ملكة سبأ وقومها لكتاب سليمان ـ وهو عبد من عباد الله ـ واستقبال قريش لكتاب الله. هؤلاء يكذبون ويجحدون. وأولئك يؤمنون ويسلمون. والله هو الذي وهب سليمان ما وهب ، وسخر له ما سخر. وهو الذي يملك كل شيء ، وهو الذي يعلم كل شيء. وما ملك سليمان وما علمه إلا قطرة من ذلك الفيض الذي لا يغيض.

وتليها قصة صالح مع قومه ثمود. ويبرز فيها تآمر المفسدين منهم عليه وعلى أهله ، وتبييتهم قتله ؛ ثم مكر الله بالقوم ، ونجاة صالح والمؤمنين معه ، وتدمير ثمود مع المتآمرين : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) .. وقد كانت قريش تتآمر على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتبيت له ، كما بيتت ثمود لصالح وللمؤمنين.

ويختم القصص بقصة لوط مع قومه. وهمهم بإخراجه من قريتهم هو والمؤمنون معه ، بحجة أنهم أناس يتطهرون! وما كان من عاقبتهم بعد إذ هاجر لوط من بينهم ، وتركهم للدمار : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) .. ولقد همت قريش بإخراج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتآمرت في ذلك قبل هجرته من بين ظهرانيهم بقليل.

فإذا انتهى القصص بدأ التعقيب بقوله : «قل : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. آلله خير أم ما يشركون؟» .. ثم أخذ يطوف معهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس. يريهم يد الصانع المدبر الخالق الرازق ، الذي يعلم الغيب وحده ، وهم إليه راجعون. ثم عرض عليهم أحد أشراط الساعة وبعض مشاهد القيامة ، وما ينتظر المكذبين بالساعة في ذلك اليوم العظيم.

ويختم السورة بإيقاع يناسب موضوعها وجوها : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

* * *

والتركيز في هذه السورة على العلم. علم الله المطلق بالظاهر والباطن ، وعلمه بالغيب خاصة. وآياته الكونية التي يكشفها للناس. والعلم الذي وهبه لداود وسليمان. وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم .. ومن ثم يجيء في مقدمة السورة : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ). ويجيء في التعقيب (قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) .. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ويجيء في الختام : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) .. ويجيء في قصة سليمان : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) .. وفي قول سليمان : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) .. وفي قول الهدهد : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ). وعند ما يريد سليمان استحضار عرش الملكة ، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن ، إنما يقدر على هذه : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ).

وهكذا تبرز صفة العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع إلى الختام. ويمضي سياق السورة كله في هذا الظل ، حسب تتابعه الذي أسلفنا. فنأخذ في استعراضها تفصيلا.

* * *

«طا. سين» .. الأحرف المقطعة للتنبيه على المادة الأولية التي تتألف منها السورة والقرآن كله. وهي متاحة لجميع الناطقين بالعربية. وهم يعجزون أن يؤلفوا منها كتابا كهذا القرآن ، بعد التحدي والإفحام ..

ويلي ذلك التنبيه ذكر القرآن :

(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) ..

والكتاب هو نفسه القرآن. وذكره بهذه الصفة هنا يبدو لنا أنه للموازنة الخفية بين استقبال المشركين للكتاب المنزل عليهم من عند الله ؛ واستقبال ملكة سبأ وقومها للكتاب الذي أرسله إليهم سليمان. وهو عبد من عباد الله.

ثم يصف القرآن أو يصف الكتاب بأنه :

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ..

وهذه أبلغ مما لو قيل : فيه هدى وبشرى للمؤمنين. فالتعبير القرآني على هذا النحو يجعل مادة القرآن وماهيته هدى وبشرى للمؤمنين. والقرآن يمنح المؤمنين هدى في كل فج ، وهدى في كل طريق. كما يطلع عليهم بالبشرى في الحياتين الأولى والآخرة.

وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة ضخمة عميقة .. إن القرآن ليس كتاب علم نظري أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرؤه ويستوعب ما فيه. إنما القرآن كتاب يخاطب القلب ، أول ما يخاطب ؛ ويسكب نوره وعطره في القلب المفتوح ، الذي يتلقاه بالإيمان واليقين. وكلما كان القلب نديا بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة القرآن ؛ وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف ؛ واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف. وانتفع بصحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس!

وإن الإنسان ليقرأ الآية أو السورة مرات كثيرة ، وهو غافل أو عجول ، فلا تنض له بشيء ؛ وفجأة يشرق النور في قلبه ، فتفتح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببال. وتصنع في حياته صنع المعجزة في تحويلها من منهج إلى منهج ، ومن طريق إلى طريق.

وكل النظم والشرائع والآداب التي يتضمنها هذا القرآن ، إنما تقوم قبل كل شيء على الإيمان. فالذي لا يؤمن قلبه بالله ، ولا يتلقى هذا القرآن على أنه وحي من عند الله وعلى أن ما جاء فيه إنما هو المنهج الذي يريده الله. الذي لا يؤمن هذا الإيمان لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي ولا يستبشر بما فيه من بشارات.

إن في القرآن كنوزا ضخمة من الهدى والمعرفة والحركة والتوجيه. والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز. ولن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان. والذين آمنوا حق الإيمان حققوا الخوارق بهذا القرآن. فأما حين أصبح القرآن كتابا يترنم المترنمون بآياته ، فتصل إلى الآذان ، ولا تتعداها إلى القلوب. فإنه لم يصنع شيئا ، ولم ينتفع به أحد .. لقد ظل كنزا بلا مفتاح!

والسورة تعرض صفة المؤمنين الذين يجدون القرآن هدى وبشرى .. إنهم هم :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ..

يقيمون الصلاة .. فيؤدونها حق أدائها ، يقظة قلوبهم لموقفهم بين يدي الله ، شاعرة أرواحهم بأنهم في حضرة

ذي الجلال والإكرام ، مرتفعة مشاعرهم إلى ذلك الأفق الوضيء ، مشغولة خواطرهم بنجاء الله ودعائه والتوجه إليه في محضره العظيم.

ويؤتون الزكاة .. فيطهرون نفوسهم من رذيلة الشح ؛ ويستعلون بأرواحهم على فتنة المال ؛ ويصلون إخوانهم في الله ببعض ما رزقهم الله ؛ ويقومون بحق الجماعة المسلمة التي هم فيها أعضاء.

وهم بالآخرة هم يوقنون .. فإذا حساب الآخرة يشغل بالهم ، ويصدهم عن جموح الشهوات ، ويغمر أرواحهم بتقوى الله وخشيته والحياء من الوقوف بين يديه موقف العصاة.

هؤلاء المؤمنون الذاكرون الله ، القائمون بتكاليفه ، المشفقون من حسابه وعقابه ، الطامعون في رضائه وثوابه .. هؤلاء هم الذين تنفتح قلوبهم للقرآن ، فإذا هو هدى وبشرى. وإذا هو نور في أرواحهم ، ودفعة في دمائهم ، وحركة في حياتهم. وإذا هو زادهم الذي به يبلغون ؛ وريهم الذي به يشتفون.

وعند ذكر الآخرة يركز عليها ويؤكد في صورة التهديد والوعيد لمن لا يؤمنون بها ، فيسدرون في غيهم ، حتى يلاقوا مصيرهم الوخيم :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ..

والإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات ، ويضمن القصد والاعتدال في الحياة. والذي لا يعتقد بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة أو يكبح فيها نزوة ، وهو يظن أن الفرصة الوحيدة المتاحة له للمتاع هي فرصة الحياة على هذا الكوكب ، وهي قصيرة مهما طالت. وما تكاد تتسع لشيء من مطالب النفوس وأمانيها التي لا تنال! ثم ما الذي يمسكه حين يملك إرضاء شهواته ونزواته ، وتحقيق لذاته ورغباته ؛ وهو لا يحسب حساب وقفة بين يدي الله ؛ ولا يتوقع ثوابا ولا عقابا يوم يقوم الأشهاد؟

ومن ثم يصبح كل تحقيق للشهوة واللذة مزينا للنفس التي لا تؤمن بالآخرة ، تندفع إليه بلا معوق من تقوى أو حياء. والنفس مطبوعة على أن تحب ما يلذ لها ، وأن تجده حسنا جميلا ؛ ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني. فإذا هي تجد لذتها في أعمال أخرى وأشواق أخرى ، تصغر إلى جوارها لذائذ البطون والأجسام!

والله ـ سبحانه ـ هو الذي خلق النفس البشرية على هذا النحو ؛ وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدي ، مستعدة للعماء إن طمست منافذ الإدراك فيها. ومشيئته نافذة ـ وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها ـ في حالتي الاهتداء والعماء. ومن ثم يقول القرآن عن الذين لا يؤمنون بالآخرة : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) .. فهم لم يؤمنوا بالآخرة فنفذت سنة الله في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم .. وهذا هو معنى التزيين في هذا المقام. فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء. أو فهم حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب.

والعاقبة معروفة لمن يزين له الشر والسوء : (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) .. سواء كان سوء العذاب لهم في الدنيا أو في الآخرة ، فالخسارة المطلقة في الآخرة ، محققة جزاء وفاقا على الاندفاع في سوء الأعمال.

وتنتهي مقدمة السورة بإثبات المصدر الإلهي الذي يتنزل منه هذا القرآن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) ..

ولفظ «تلقى» يلقي ظل الهدية المباشرة السنية من لدن حكيم عليم. يصنع كل شيء بحكمة ، ويدبر كل أمر بعلم .. وتتجلى حكمته وعلمه في هذا القرآن. في منهجه ، وتكاليفه ، وتوجيهاته ، وطريقته. وفي تنزيله في إبانه. وفي توالي أجزائه. وتناسق موضوعاته.

ثم يأخذ في القصص. وهو معرض لحكمة الله وعلمه وتدبيره الخفي اللطيف.

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤)

تعرض هذه الحلقة السريعة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد قوله تعالى في هذه السورة : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) .. وكأنما ليقول لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنك لست بدعا في هذا التلقي. فها هو ذا موسى يتلقى التكليف ، وينادى ليحمل الرسالة إلى فرعون وقومه. وليس ما تلقاه من قومك بدعا في التكذيب. فها هم أولاء قوم موسى تستيقن نفوسهم بآيات الله ، ولكنهم يجحدون بها ظلما وعلوا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ولينتظر قومك عاقبة الجاحدين المكابرين!

* * *

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ : إِنِّي آنَسْتُ ناراً. سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).

وقد ذكر هذا الموقف في سورة طه. وهو في طريق عودته من أرض مدين إلى مصر ، ومعه زوجه بنت شعيب عليه‌السلام (١). وقد ضل طريقه في ليلة مظلمة باردة. يدل على هذا قوله لأهله : سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون. وكان ذلك إلى جانب الطور. وكانت النيران توقد في البرية فوق المرتفعات لهداية السالكين بالليل ؛ فإذا جاءوها وجدوا القرى والدفء ، أو وجدوا الدليل على الطريق.

__________________

(١) ليس هناك نص مقطوع به على أن شعيبا كان هو الشيخ الكبير الذي خدمه موسى وتزوج إحدى ابنتيه. ولكن هذا هو الأرجح نظرا لورود قصة موسى بعد قصة شعيب في كل سرد تاريخي للقصتين في القرآن. مما يوحي بأنهما كانا متعاصرين أو متوالين.

(إِنِّي آنَسْتُ ناراً) فقد رآها على بعد ، فشعر لها بالطمأنينة والأنس. وتوقع أن يجد عندها خبر الطريق ، أو أن يقبس منها ما يستدفىء به أهله في قر الليل في الصحراء.

ومضى موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى النار التي آنسها ، ينشد خبرا ، فإذا هو يتلقى النداء الأسمى :

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها. وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

إنه النداء الذي يتجاوب به الكون كله ، وتتصل به العوالم والأفلاك ؛ ويخشع له الوجود كله وترتعش له الضمائر والأرواح. النداء الذي تتصل فيه السماء بالأرض ؛ وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها الكبير ؛ ويرتفع فيه الإنسان الفاني الضعيف إلى مقام المناجاة بفضل من الله.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ) .. بهذا البناء للمجهول ـ وهو معلوم ـ ولكنه التوقير والإجلال والتعظيم للمنادي العظيم.

(نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ..

فمن ذا كان في النار؟ ومن ذا كان حولها؟ إنها على الأرجح لم تكن نارا من هذه النار التي نوقدها. إنما كانت نارا مصدرها الملأ الأعلى. نارا أوقدتها الأرواح الطاهرة من ملائكة الله للهداية الكبرى. وتراءت كالنار وهذه الأرواح الطاهرة فيها. ومن ثم كان النداء : «أن بورك من في النار» إيذانا بفيض من البركة العلوية على من في النار من الملائكة ومن حولها .. وفيمن حولها موسى .. وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا. ومضت هذه البقعة في سجل الوجود مباركة مقدسة بتجلي ذي الجلال عليها ، وإذنه لها بالبركة الكبرى.

وسجل الوجود كله بقية النداء والنجاء : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

نزه الله ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين ، وكشف لعبده أن الذي يناديه هو الله العزيز الحكيم. وارتفعت البشرية كلها في شخص موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى ذلك الأفق الوضيء الكريم. ووجد موسى الخبر عند النار التي آنسها ، ولكنه كان الخبر الهائل العظيم ؛ ووجد القبس الدافئ ، ولكنه كان القبس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.

وكان النداء للاصطفاء ؛ ووراء الاصطفاء التكليف بحمل الرسالة إلى أكبر الطغاة في الأرض في ذلك الحين. ومن ثم جعل ربه يعده ويجهزه ويقويه :

(وَأَلْقِ عَصاكَ) .. باختصار هنا ، حيث لا يذكر ذلك النجاء الطويل الذي في سورة طه. لأن العبرة المطلوبة هي عبرة النداء والتكليف.

(فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ..

فقد ألقى عصاه كما أمر ؛ فإذا هي تدب وتسعى ، وتتحرك حركة سريعة كحركة ذلك النوع الصغير السريع من الحيات «الجان». وأدركت موسى ـ عليه‌السلام ـ طبيعته الانفعالية ، وأخذته هزة المفاجأة التي لم تخطر له ببال ، وجرى بعيدا عن الحية دون أن يفكر في الرجوع! وهي حركة تبدو فيها دهشة المفاجأة العنيفة في مثل تلك الطبيعة الشديدة الانفعال.

ثم نودي موسى بالنداء العلوي المطمئن ؛ وأعلن له عن طبيعة التكليف الذي سيلقاه :

(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ..

لا تخف. فأنت مكلف بالرسالة. والرسل لا يخافون في حضرة ربهم وهم يتلقون التكليف.

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..

إنما يخاف الذين ظلموا. ذلك إلا أن يبدلوا حسنا بعد سوء ، ويدعوا الظلم إلى العدل ؛ ويدعوا الشرك إلى الإيمان ، ويدعوا الشر إلى الخير. فإن رحمتي واسعة وغفراني عظيم.

والآن وقد اطمأن موسى وقر ، يجهزه ربه بالمعجزة الثانية ، قبل أن يكشف له عن جهة الرسالة ووجهة التكليف :

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ..

وكان هذا. وأدخل موسى يده في فتحة ثوبه ـ وهي جيبه ـ فخرجت بيضاء مشرقة لا عن مرض ، ولكن عن معجزة. ووعده ربه أن يؤيده بتسع آيات من هذا النوع الذي شاهد منه اثنتين ؛ وكشف له حينئذ عن وجهته التي من أجلها دعاه وجهزه ورعاه!

(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ..

ولم يعدد هنا بقية هذه الآيات التسع ، التي كشف عنها في سورة الأعراف. وهي سنوان الجدب ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم. لأن التركيز هنا على قوة الآيات لا على ماهيتها. وعلى وضوحها وجحود القوم لها :

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ..

هذه الآيات الكثيرة العدد ، الكاشفة عن الحق ، حتى ليبصره كل من له عينان. ويصف هذه الآيات نفسها بأنها مبصرة ، فهي تبصر الناس وتقودهم إلى الهدى. ومع هذا فقد قالوا عنها : إنها سحر مبين! قالوا ذلك لا عن اقتناع به ، ولا عن شبهة فيه. إنما قالوه «ظلما وعلوا» وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه : (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ). قالوا جحودا ومكابرة ، لأنهم لا يريدون الإيمان ، ولا يطلبون البرهان. استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم.

وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن ، ويستيقنون أنه الحق ، ولكنهم يجحدونه ، ويجحدون دعوة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إياهم إلى الله الواحد. ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم ، لما وراءها من أوضاع تسندهم ، ومغانم تتوافد عليهم. وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة ، التي يحسون خطر الدعوة الإسلامية عليها ، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم ، وترتج في ضمائرهم. ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب!

وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه. بل لأنهم يعرفونه! يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم ، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم ، أو الخطر على أوضاعهم ، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم. فيقفون في وجهه مكابرين ، وهو واضح مبين.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ..

وعاقبة فرعون وقومه معروفة ، كشف عنها القرآن في مواضع أخرى. إنما يشير إليها هنا هذه الإشارة ، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه ، إلى عاقبة فرعون وقومه قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ

إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

ترد هذه الإشارة إلى داود ، وهذه القصة عن سليمان بعد تلك الحلقة من قصة موسى ـ عليهم‌السلام ـ وهم من أنبياء بني إسرائيل ، في السورة التي تبدأ بالحديث عن القرآن ؛ ويجيء فيها : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..

وقصة سليمان ـ عليه‌السلام ـ في هذه السورة مبسوطة بتوسع أكثر منها في أية سورة أخرى. وإن كانت تختص بحلقة واحدة من حلقات حياته. حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ. يمهد لها السياق بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير وإعطائه من كل شيء. وشكره لله على فضله المبين. ثم مشهد موكبه من الجن والإنس والطير ، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب ، وإدراك سليمان لمقالة النملة وشكره لربه على فضله ، وإدراكه أن النعمة ابتلاء ، وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء.

ومناسبة ورود هذا القصص إجمالا في هذه السورة ما سبق بيانه من افتتاح السورة بحديث عن القرآن ، وتقرير أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وقصص موسى وداود وسليمان من أهم الحلقات في تاريخ بني إسرائيل.

أما مناسبة هذه الحلقة ومقدماتها لموضوع هذه السورة فتبدو في عدة مواضع منها ومن السورة :

التركيز في جو السورة وظلالها على العلم ـ كما أسلفنا في أوائلها ـ والإشارة الأولى في قصة داود وسليمان هي :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) وإعلان سليمان لنعمة الله عليه يبدأ بالإشارة إلى تعليمه منطق الطير : (وَقالَ :

يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ). وعذر الهدهد عن غيبته في ثنايا القصة يبدأ بقوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ). والذي عنده «علم» من الكتاب هو الذي يأتي بعرش الملكة في غمضة عين ..

وافتتاح السورة عن القرآن كتاب الله المبين إلى المشركين. وهم يتلقونه بالتكذيب. وفي القصة كتاب سليمان تتلقاه ملكة سبأ ، فما تلبث طويلا حتى تأتي هي وقومها مسلمين. لما رأته من القوى المسخرة لسليمان من الجن والإنس والطير. والله هو الذي سخر لسليمان ما سخر ، وهو القاهر فوق عباده. وهو رب العرش العظيم.

وفي السورة استعراض لنعم الله على العباد ، وآياته في الكون ، واستخلافه للناس وهم يجحدون بآيات الله ، ولا يشكرونه. وفي القصة نموذج للعبد الشاكر ، الذي يسأل ربه أن يوفقه إلى شكر نعمته عليه ؛ المتدبر لآيات الله الذي لا يغفل عنها ، ولا تبطره النعمة ، ولا تطغيه القوة .. فالمناسبات كثيرة وواضحة بين موضوع السورة وإشارات القصة ومواقفها.

وقصة سليمان مع ملكة سبأ نموذج واف للقصة في القرآن ، ولطريقة الأداء الفني كذلك. فهي قصة حافلة بالحركة ، وبالمشاعر ، وبالمشاهد ، وبتقطيع هذه المشاهد ووضع الفجوات الفنية بينها!

فلنأخذ في عرضها بالتفصيل :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً. وَقالا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

هذه هي إشارة البدء في القصة. وإعلان الافتتاح. خبر تقريري عن أبرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ نعمة العلم. فأما عن داود فقد ورد تفصيل ما آتاه الله من العلم في سور أخرى. منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور ، ترتيلا يتجاوب به الكون من حوله ، فتؤوب الجبال معه والطير ، لحلاوة صوته ، وحرارة نبراته ، واستغراقه في مناجاة ربه ، وتجرده من العوائق والحواجز التي تفصل بينه وبين ذرات هذا الوجود. ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب ، وتطويع الحديد له ، ليصوغ منه من هذا ما يشاء. ومنها تعليمه القضاء بين الناس ، مما شاركه فيه سليمان.

وأما سليمان ففي هذه السورة تفصيل ما علمه الله من منطق الطير وما إليه ؛ بالإضافة إلى ما ذكر في سور أخرى من تعليمه القضاء ، وتوجيه الرياح المسخرة له بأمر الله.

تبدأ القصة بتلك الإشارة : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة ، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم ، والحمد لله الذي فضلهما بها على كثير من عباده المؤمنين. فتبرز قيمة العلم ، وعظمة المنة به من الله على العباد ، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين.

ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار. وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله ، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره ، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه ، وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه. فلا يكون العلم مبعدا لصاحبه عن الله ، ولا منسيا له إياه. وهو بعض مننه وعطاياه والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد ، زائغ عن مصدره وعن هدفه. لا يثمر سعادة لصاحبه ولا للناس. إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار ، لأنه انقطع عن مصدره ، وانحرف عن وجهته ، وضل طريقه إلى الله ..

ولقد انتهت البشرية اليوم إلى مرحلة جيدة من مراحل العلم. بتحطيم الذرة واستخدامها. ولكن ماذا جنت البشرية حتى اليوم من مثل هذا العلم الذي لا يذكر أصحابه الله ، ولا يخشونه ، ولا يحمدون له ، ولا يتوجهون

بعلمهم إليه؟ ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي «هيروشيما». و «ناجازاكي» وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب ويتهددهما بالتحطيم والدمار والفناء (١)؟

وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان ، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث :

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ. وَقالَ : يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) ..

وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم. ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان. إنما يذكر العلم. لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال!

«وورث سليمان داود» والمفهوم أنها وراثة العلم ، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر. ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس : «قال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء» .. فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير. وليس هو داود. فهو لم يرث هذا عن أبيه. وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاءه من حيث جاءه ذلك التعليم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) .. يذيعها سليمان ـ عليه‌السلام ـ في الناس تحدثا بنعمة الله ، وإظهارا لفضله ، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس. ويعقب عليها (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) فضل الله الكاشف عن مصدره ، الدال على صاحبه. فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله. وكذلك لا يؤتي أحدا من كل شيء ـ بهذا التعميم ـ إلا الله.

وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم ـ هي لغاتها ومنطقها ـ فيما بينها. والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها ، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها. وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات. ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين. فأما ما وهبه الله لسليمان ـ عليه‌السلام ـ فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر. لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم ، على طريق الظن والحدس ، كما هو حال العلماء اليوم ..

أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصة القرآن عن سليمان ـ عليه‌السلام ـ في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة. وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها ، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله ، أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات ،

__________________

(١) قال البروفسور «م. ي. أولي فنيت» الأستاذ بجامعة برمنجهام وعضو الهيئة الصناعية في إعداد القنبلة الذرية. بعد حادثي هيروشيما وناجازاكي :

«وأنا على يقين أنه سيظهر في مدة قصيرة على مسرح العالم قنابل تفوق القنابل الأولى بعشرة آلاف طن في قوة الانفجار. وستليها قنابل قوتها مليون طن ، ولا ينفع في التوقي منها دفاع أو احتياط. وإن ست قنابل من هذا القبيل تكفي لتدمير انجلترا على بكرة أبيها».

وقد صحت نبوءته وأنتجت القنابل الهيدروجينية التي تعد قنبلتا هيروشيما وناجازاكي بالقياس إليها لعبة أطفال!

وبهذه المناسبة نذكر أن قنبلة هيروشيما قد قتلت لفورها من اليابانيين من يتراوح عددهم بين عشرة ومائتي ألف وأربعين ومائتي ألف.

وذلك غير المشوهين والمحروقين الذين ماتوا بعد ذلك. وهم يعدون بعشرات الألوف!!

هبة لدنية منه ، بلا محاولة ولا اجتهاد. وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع. وهو خالق هذه الأنواع!

على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان. أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته ، وطوع أمره ، كجنوده من الإنس سواء بسواء. والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.

يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم. وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز ..

حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه ، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان ؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام. وإنها خاضعة ـ كحلقة مفردة ـ للناموس العام ، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.

وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم ، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين ، منذ أن وجدت الهداهد. وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول. ومهما بلغ التحوير فيه ، فهو لا يخرج من نوعه ، ليرتقي إلى نوع آخر .. وإن هذا ـ كما يبدو ـ طرف من سنة الله في الخلق ، ومن الناموس العام المنسق للكون.

ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عند ما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام الذي لا نعرف أطرافه. جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله ، يخرق المألوف المعهود للبشر ، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان ، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان.

ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) ..

فهذا هو موكب سليمان محشود محشور. يتألف من الجن والإنس والطير. والإنس معروفون ، أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن. وهو أنه خلقهم من مارج من نار. أي من لهيب متموج من النار. وأنهم يرون البشر والبشر لا يرونهم (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الكلام عن إبليس أو الشيطان وإبليس من الجن) وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية ـ ولا ندري كيف ـ وأن منهم طائفة آمنت برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخبارا : (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ..) ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام ، ويغوصون له في البحر ، ويأتمرون بأمره بإذن الله. ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير.

ونقول : إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير كما سخر له طائفة من الإنس. وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان ـ إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات ـ فكذلك لم يكن جميع الجن ولا جميع الطير مسخرين له ، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء.

ونستند في مسألة الجن إلى أن إبليس وذريته من الجن كما قال القرآن .. (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) .. وقال في سورة «الناس» : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) وهؤلاء كانوا يزاولون الإغواء والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان. وما كانوا ليزاولوا هذا وهم مسخرون له مقيدون بأمره. وهو نبي يدعو إلى الهدى. فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له.

ونستند في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد. ولو كانت جميع الطيور مسخرة له ، محشورة في موكبه ، ومنها جميع الهداهد ، ما استطاع أن يتبين غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد فضلا على بلايين الطير. ولما قال : ما لي لا أرى الهدهد؟ فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته ، وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد ، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه. ويعين على هذا ما ظهر من أن ذلك الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد ولا الطير بصفة عامة. ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان. لا لجميع الهداهد وجميع الطيور. فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس!

حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير. وهو موكب عظيم ، وحشد كبير ، يجمع أوله على آخره (فَهُمْ يُوزَعُونَ) حتى لا يتفرقوا وتشيع فيهم الفوضى. فهو حشد عسكري منظم. يطلق عليه اصطلاح الجنود ، إشارة إلى الحشد والتنظيم.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ. قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ، وَقالَ : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) ..

لقد سار الموكب. موكب سليمان من الجن والإنس والطير. في ترتيب ونظام ، يجمع آخره على أوله ، وتضم صفوفه ، وتتلاءم خطاه. حتى إذا أتوا على واد كثير النمل ، حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه «وادي النمل» قالت نملة. لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي ـ ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم ، تتنوع فيها الوظائف ، وتؤدى كلها بنظام عجيب ، يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله ، على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال ـ قالت هذه النملة للنمل ، بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل ، وباللغة المتعارفة بينها. قالت للنمل : ادخلوا مساكنكم ـ كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده. وهم لا يشعرون بكم.

فأدرك سليمان ما قالت النملة وهش له وانشرح صدره بإدراك ما قالت ، وبمضمون ما قالت. هش لما قالت كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه. وانشرح صدره لإدراكه. فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز. وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك ، وأن يفهم عنها النمل فيطيع!

أدرك سليمان هذا (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) .. وسرعان ما هزته هذه المشاهدة ، وردت قلبه إلى ربه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة ؛ وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة المعزولة من خلقه ؛ واتجه إلى ربه في إنابة يتوسل إليه :

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) ..

(رَبِّ) .. بهذا النداء القريب المباشر المتصل .. (أَوْزِعْنِي) اجمعني كلي. اجمع جوارحي ومشاعري

ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي ، وكلماتي وعباراتي ، وأعمالي وتوجهاتي. اجمعني كلي. اجمع طاقاتي كلها. أولها على آخرها وآخرها على أولها (وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني) لتكون كلها في شكر نعمتك عليّ وعلى والديّ ..

وهذا التعبير يشيء بنعمة الله التي مست قلب سليمان ـ عليه‌السلام ـ في تلك اللحظة ويصور نوع تأثره ، وقوة توجهه ، وارتعاشة وجدانه ، وهو يستشعر فضل الله الجزيل ، ويتمثل يد الله عليه وعلى والديه ، ويحس مس النعمة والرحمة في ارتياع وابتهال.

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) .. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) .. فالعمل الصالح هو كذلك فضل من الله يوفق إليه من يشكر نعمته ، وسليمان الشاكر الذي يستعين ربه ليجمعه ويقفه على شكر نعمته ، ويستعين ربه كذلك ليوفقه إلى عمل صالح يرضاه. وهو يشعر أن العمل الصالح توفيق ونعمة أخرى من الله.

(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) ..

أدخلني برحمتك .. فهو يعلم أن الدخول في عباد الله الصالحين ، رحمة من الله ، تتدارك العبد فتوفقه إلى العمل الصالح ، فيسلك في عداد الصالحين. يعلم هذا ، فيضرع إلى ربه أن يكون من المرحومين الموفقين السالكين في هذا الرعيل. يضرع إلى ربه وهو النبي الذي أنعم الله عليه وسخر له الجن والإنس والطير. غير آمن مكر الله ـ حتى بعد أن اصطفاه. خائفا أن يقصر به عمله ، وأن يقصر به شكره .. وكذلك تكون الحساسية المرهفة بتقوى الله وخشيته والتشوق إلى رضاه ورحمته في اللحظة التي تتجلى فيها نعمته كما تجلت والنملة تقول وسليمان يدرك عنها ما تقول بتعليم الله له وفضله عليه.

ونقف هنا أمام خارقتين لا خارقة واحدة. خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها. وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده. فأما الأولى فهي مما علمه الله لسليمان. وسليمان إنسان ونبي ، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة. فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر ؛ وأنهم يحطمون النمل إذا داسوه. وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة. أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده ، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف. وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال.

* * *

والآن نأتي إلى قصة سليمان مع الهدهد وملكة سبأ وهي مقطعة إلى ستة مشاهد ، بينها فجوات فنية ، تدرك من المشاهد المعروضة. وتكمل جمال العرض الفني في القصة ، وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة ؛ وتحقق العبرة التي من أجلها يساق القصص في القرآن الكريم. وتتناسق التعقيبات مع المشاهد والفجوات تنسيقا بديعا ، من الناحيتين : الفنية الجمالية ، والدينية الوجدانية.

ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الإشارة إلى الجن والإنس والطير ، كما تضمن الإشارة إلى نعمة العلم ، فإن القصة تحتوي دورا لكل من الجن والإنس والطير. ويبرز فيها دور العلم كذلك. وكأنما كانت تلك المقدمة إشارة إلى أصحاب الأدوار الرئيسية في القصة .. وهذه سمة فنية دقيقة في القصص القرآني.

كذلك تتضح السمات الشخصية والمعالم المميزة لشخصيات القصة : شخصية سليمان ، وشخصية الملكة ،

وشخصية الهدهد ، وشخصية حاشية الملكة. كما تعرض الانفعالات النفسية لهذه الشخصيات في شتى مشاهد القصة ومواقفها.

* * *

يبدأ المشهد الأول في مشهد العرض العسكري العام لسليمان وجنوده ، بعد ما أتوا على وادي النمل ، وبعد مقالة النملة ، وتوجه سليمان إلى ربه بالشكر والدعاء والإنابة :

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ : ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ؟ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ..

فها هو ذا الملك النبي. سليمان. في موكبه الفخم الضخم. ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد. ونفهم من هذا أنه هدهد خاص ، معين في نوبته في هذا العرض. وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد. كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته : سمة اليقظة والدقة والحزم. فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير ، الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث.

وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ؟).

ويتضح أنه غائب ، ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم ، كي لا تكون فوضى. فالأمر بعد سؤال الملك هذا السؤال لم يعد سرا. وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند. ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) .. ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض ، إنما هو نبي. وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب ، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه ، ويتبين عذره .. ومن ثم تبرز سمة النبي العادل : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). أي حجة قوية توضح عذره ، وتنفي المؤاخذة عنه.

ويسدل الستار على هذا المشهد الأول في القصة (أو لعله كان ما يزال قائما) ويحضر الهدهد. ومعه نبأ عظيم ، بل مفاجأة ضخمة لسليمان ، ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن!

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ..

إنه يعرف حزم الملك وشدته. فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته ، وتضمن إصغاء الملك له : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) .. فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ)؟!

فإذا ضمن إصغاء الملك بعد هذه المفاجأة أخذ في تفصيل النبأ اليقين الذي جاء به من سبأ ـ ومملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن ـ فذكر أنه وجدهم تحكمهم امرأة ، (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وهي كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ). أي سرير ملك فخم ضخم ، يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة. وذكر أنه وجد الملكة وقومها (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) وهنا يعلل ضلال القوم بأن الشيطان زين لهم أعمالهم ، فأضلهم ، فهم لا يهتدون إلى عبادة الله العليم الخبير (الَّذِي يُخْرِجُ

الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). والخبء : المخبوء إجمالا سواء أكان هو مطر السماء ونبات الأرض ، أم كان هو أسرار السماوات والأرض. وهي كناية عن كل مخبوء وراء ستار الغيب في الكون العريض. (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) وهي مقابلة للخبء في السماوات والأرض بالخبء في أطواء النفس. ما ظهر منه وما بطن.

والهدهد إلى هذه اللحظة يقف موقف المذنب ، الذي لم يقض الملك في أمره بعد ؛ فهو يلمح في ختام النبأ الذي يقصه ، إلى الله الملك القهار ، رب الجميع ، صاحب العرش العظيم ، الذي لا تقاس إليه عروش البشر. ذلك كي يطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ..

فيلمس قلب سليمان ـ في سياق التعقيب على صنع الملكة وقومها ـ بهذه الإشارة الخفية!

ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب. صاحب إدراك وذكاء وإيمان ، وبراعة في عرض النبأ ، ويقظة إلى طبيعة موقفه ، وتلميح وإيماء أريب .. فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية. ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله. ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ، وأنه هو رب العرش العظيم .. وما هكذا تدرك الهداهد. إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص ، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف.

ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه ؛ ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به. إنما يأخذ في تجربته ، للتأكد من صحته. شأن النبي العادل والملك الحازم :

(قالَ : سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ، فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ).

ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب ، فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه ، حتى يفتح ويعلن هناك. وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب!

ويستدل الستار على هذا المشهد ليرفع فإذا الملكة وقد وصل إليها الكتاب ، وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير :

(قالَتْ : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ..

فهي تخبرهم أنه ألقي إليها كتاب. ومن هذا نرجح أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب ، أو لا كيف ألقاه. ولو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به ـ كما تقول التفاسير ـ لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم. ولكنها قالت بصيغة المجهول. مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقي إليها ولا من ألقاه.

وهي تصف الكتاب بأنه «كريم». وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمة أو شكله. أو من محتوياته التي أعلنت عنها للملأ : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) .. وهي كانت لا تعبد الله. ولكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة ، ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم. مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته.

وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة. فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم. ومطلوب فيه أمر واحد :

ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا ، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه.

ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب ؛ ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم ، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة ، برضاهم وموافقتهم :

(قالَتْ : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ..

وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة ؛ فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم ، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء. وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه «كريم» وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة ، ولكنها لا تقول هذا صراحة ، إنما تمهد له بذلك الوصف. ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة!

وعلى عادة رجال الحاشية أبدوا استعدادهم للعمل. ولكنهم فوضوا للملكة الرأي :

(قالُوا : نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ).

وهنا تظهر شخصية «المرأة» من وراء شخصية الملكة. المرأة التي تكره الحروب والتدمير. والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة :

(قالَتْ : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها ، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)!

فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية (والقرية تطلق على المدينة الكبيرة) أشاعوا فيها الفساد ، وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطموا القوة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ؛ وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة. وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه.

والهدية تلين القلب ، وتعلن الود ، وقد تفلح في دفع القتال. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا ، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة ، الذي لا يصرفه عنه مال ، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.

ويسدل الستار على المشهد ، ليرفع ، فإذا مشهد رسل الملكة وهديتهم أمام سليمان. وإذا سليمان ينكر عليهم اتجاههم إلى شرائه بالمال ، أو تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام. ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ : أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ. بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ..

وفي الرد استهزاء بالمال ، واستنكار للاتجاه إليه في مجال غير مجاله. مجال العقيدة والدعوة : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟) أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص؟ (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) لقد آتاني من المال خيرا مما لديكم. ولقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق : العلم والنبوة. وتسخير الجن والطير ، فما عاد شيء من عرض الأرض يفرحني (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). وتهشون لهذا النوع من القيم الرخيصة التي تعني أهل الأرض ، الذين لا يتصلون بالله ، ولا يتلقون هداياه!

ثم يتبغ هذا الاستنكار بالتهديد : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) بالهدية وانتظروا المصير المرهوب : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) جنود لم تسخر للبشر في أي مكان ، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال : (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) مدحورون مهزومون.

ويسدل الستار على هذا المشهد العنيف وينصرف الرسل ، ويدعهم السياق لا يشير إليهم بكلمة كأنما قضي الأمر ، وانتهى الكلام في هذا الشأن.

ثم إذا سليمان ـ عليه‌السلام ـ يدرك أن هذا الرد سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء ـ كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية! ـ ويرجح أنها ستجيب دعوته. أو يؤكد. وقد كان.

ولكن السياق لا يذكر كيف عاد رسلها إليها ، ولا ماذا قالوا لها ، ولا ماذا اعتزمت بعدها. إنما يترك فجوة نعلم مما بعدها أنها قادمة ، وأن سليمان يعرف هذا ، وأنه يتذاكر مع جنوده في استحضار عرشها ، الذي خلفته في بلادها محروسا مصونا :

(قالَ : يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ؟ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ. وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ..

ترى ما الذي قصد إليه سليمان ـ عليه‌السلام ـ من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده ، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله ، والإذعان لدعوته.

وقد عرض عفريت من الجن أن يأتيه به قبل انقضاء جلسته هذه. وكان يجلس للحكم والقضاء من الصبح إلى الظهر فيما يروى. فاستطول سليمان هذه الفترة واستبطأها ـ فيما يبدو ـ فإذا (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه ، ولا يذكر اسمه ، ولا الكتاب الذي عنده علم منه. إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله ، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد. وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين ، ولم يكشف سره ولا تعليله ، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية. وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات!

ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) فقال بعضهم : إنه التوراة. وقال بعضهم : إنه كان يعرف اسم الله الأعظم. وقال بعضهم غير هذا وذاك. وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن. والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع ، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها ، وكم فيه من قوى لا نستخدمها. وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها. فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة ، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره ، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها.

وهذا الذي عنده علم من الكتاب ، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم ، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده ، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي ، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه ـ عليه‌السلام ـ ونحن نرجح أنه غيره. فلو كان هو لأظهره السياق باسمه. ولما أخفاه. والقصة عنه ، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر. وبعضهم قال : إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ : هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان ـ عليه‌السلام ـ وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز ؛ واستشعر أن النعمة ـ على هذا النحو ـ ابتلاء ضخم مخيف ؛ يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه ، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه ؛ ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم ، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه. والله غني عن شكر الشاكرين ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، فينال من الله زيادة النعمة ، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء. ومن كفر فإن الله (غَنِيٌّ) عن الشكر (كَرِيمٌ) يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء.

وبعد هذه الانتفاضة أمام النعمة والشعور بما وراءها من الابتلاء يمضي سليمان ـ عليه‌السلام ـ في تهيئة المفاجئات للملكة القادمة عما قليل :

(قالَ : نَكِّرُوا لَها عَرْشَها. نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ).

غيروا معالمه المميزة له ، لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير. أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير.

ولعل هذا كان اختبارا من سليمان لذكائها وتصرفها ، في أثناء مفاجأتها بعرشها. ثم إذا مشهد الملكة ساعة الحضور :

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ : أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) ..

إنها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال. فأين عرشها في مملكتها ، وعليها أقفالها وحراسها .. أين هو من بيت المقدس مقر ملك سليمان؟ وكيف جيء به؟ ومن ذا الذي جاء به؟

ولكن العرش عرشها من وراء هذا التغيير والتنكير!

ترى تنفي أنه هو بناء على تلك الملابسات؟ أم تراها تقول : إنه هو بناء على ما تراه فيه من أمارات؟ وقد انتهت إلى جواب ذكي أريب : (قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) لا تنفي ولا تثبت ، وتدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة.

وهنا فجوة في السياق. فكأنما أخبرت بسر المفاجأة. فقالت : إنها استعدت للتسليم والإسلام من قبل. أي منذ اعتزمت القدوم على سليمان بعد رد الهدية.

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) ..

ثم يتدخل السياق القرآني لبيان ما كان قد منعها قبل ذلك من الإيمان بالله وصدها عن الإسلام عند ما جاءها كتاب سليمان ؛ فقد نشأت في قوم كافرين ، فصدها عن عبادة الله عبادتها من دونه من خلقه ، وهي الشمس كما جاء في أول القصة :

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) ..

وكان سليمان ـ عليه‌السلام ـ قد أعد للملكة مفاجأة أخرى ، لم يكشف السياق عنها بعد ، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها ـ وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى (١) :

__________________

(١) يراجع فصل القصة في القرآن في كتاب : التصوير الفني في القرآن. صفحة ١٤٨ ـ ١٧٦ من الطبعة الثالثة. «دار الشروق».

(قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي الصَّرْحَ. فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها! قالَ : إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ! قالَتْ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور ، أقيمت أرضيته فوق الماء ، وظهر كأنه لجة. فلما قيل لها : ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها : (قالَ : إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ)!

ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر ، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر. فرجعت إلى الله ، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره. معلنة إسلامها (مَعَ سُلَيْمانَ) لا لسليمان. ولكن (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

لقد اهتدى قلبها واستنار. فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه ، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات. إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين. ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة .. (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله ، والإسلام له. فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين. بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله. لا غالب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله .. رب العالمين .. على قدم المساواة.

ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إياهم إلى الإسلام. وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله ، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء. فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين. بين القائد والتابعين. فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين!

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣)

في معظم المواضع في القرآن ترد قصة صالح وثمود في سياق قصص عام مع نوح وهود ، ولوط وشعيب. وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء. أما في هذه السورة والتركيز فيها على قصص بني إسرائيل ، فقد جاءت قصة موسى وقصة داود وسليمان. واختصرت قصة هود وقصة شعيب من السلسلة ولم تجئ قصة إبراهيم. وفي هذه السورة لا تذكر حلقة الناقة في قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ إنما يذكر تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله ، ومكرهم به وهو لا يشعر ، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون ، ودمرهم وقومهم أجمعين. وأنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وترك بيوت المفسدين خاوية وجعلها لمن بعدهم آية. والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون ..

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) ..

يلخص رسالة صالح ـ عليه‌السلام ـ في حقيقة واحدة : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) فهذه هي القاعدة التي ترتكز عليها رسالة السماء إلى الأرض في كل جيل ، ومع كل رسول. ومع أن كل ما حول البشر في هذا الكون ، وكل ما يكمن فيهم أنفسهم ، يهتف بهم إلى الإيمان بهذه الحقيقة الواحدة ، فقد أمضت البشرية أجيالا وأزمانا لا يعلمها إلا الله ، وهي تقف أمام هذه الحقيقة البسيطة وقفة الإنكار والجحود ، أو وقفة الهزء والتكذيب. وما تزال إلى اليوم تروغ عن هذه الحقيقة الخالدة ، وتجنح إلى شتى السبل ، التي تتفرق بها عن سبيل الله الواحد المستقيم.

فأما قوم صالح ـ ثمود ـ فيحكي القرآن خلاصة موقفهم بعد دعوته إياهم ، وجهده معهم بأنهم أصبحوا فريقين يختصمون. فريقا يستجيب له ، وفريقا يخالف عنه. وكان الفريق المعارض هو الكثرة ، كما نعرف من المواضع الأخرى في القرآن عن هذه القصة.

وهنا فجوة في السورة على طريقة القصص القرآني ندرك منها أن المكذبين المعرضين استعجلوا عذاب الله الذي أنذرهم به صالح ، بدلا من أن يطلبوا هدى الله ورحمته ـ شأنهم في هذا شأن مشركي قريش مع الرسول الكريم ـ فأنكر عليهم صالح أن يستعجلوا بالعذاب ولا يطلبوا الهداية ، وحاول أن يوجههم إلى الاستغفار لعل الله يدركهم برحمته :

(قالَ : يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)!

ولقد كان يبلغ من فساد القلوب أن يقول المكذبون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) .. بدلا من أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إلى الإيمان به والتصديق!

وكذلك كان قوم صالح يقولون. ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار. ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤما عليهم ، ويتوقعون الشر من ورائهم :

(قالُوا : اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ).

والتطير. التشاؤم. مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام ، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان. فقد كان الواحد منهم إذا همّ بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا. فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر. وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر!

وما تدري الطير الغيب ، وما تنبىء حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول. ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه. فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد ، ولا تخضع لعقل ، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين.

وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله ، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه ، لأنهم ـ بزعمهم ـ قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين! ـ هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه .. نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم ١٣ ، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم ، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد .. إلى آخر هذه الخرافات الساذجة. ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة. وهي جوعتها إلى الإيمان ، وعدم استغنائها عنه ، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان ؛ وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام ، لأنه أكبر من الطاقة البشرية ، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان ، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض ، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات! فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة ، الضالة في تيه الوهم والخرافة ، ردهم صالح إلى نور اليقين ، وإلى حقيقته الواضحة ، البعيدة عن الضباب والظلام :

(قالَ : طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ).

حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله. والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور ، وبين لهم الطريق المستنير. فمن اتبع سنة الله ، وسار على هداه ، فهناك الخير ، بدون حاجة إلى زجر الطير. ومن انحرف عن السنة ، وحاد عن السواء ، فهناك الشر ، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ..

تفتنون بنعمة الله ، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر. فاليقظة وتدبر السنن ، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية. لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء.

وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور. وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم. وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله ، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة .. وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس. وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله ، وبخالق الكون ومدبره ، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم.

ولكن هذا المنطق المستقيم إنما تستجيب له القلوب التي لم تفسد ، ولم تنحرف الانحراف الذي لا رجعة منه. وكان من قوم صالح ، من كبرائهم ، تسعة نفر لم يبق في قلوبهم موضع للصلاح والإصلاح. فراحوا يأتمرون به ، ويدبرون له ولأهله في الظلام ..

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. قالُوا : تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ : ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ. وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ..

هؤلاء الرهط التسعة الذين تمحضت قلوبهم وأعمالهم للفساد وللإفساد ، لم يعد بها متسع للصلاح والإصلاح ، فضاقت نفوسهم بدعوة صالح وحجته ، وبيتوا فيما بينهم أمرا. ومن العجب أن يتداعوا إلى القسم بالله مع هذا

الشر المنكر الذي يبيتونه ، وهو قتل صالح وأهله بياتا ، وهو لا يدعوهم إلا لعبادة الله!

وإنه لمن العجب كذلك أن يقولوا : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ : ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ولا حضرنا مقتله .. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) .. فقد قتلوهم في الظلام فلم يشهدوا هلاكهم أي لم يروه بسبب الظلام! وهو احتيال سطحي وحيلة ساذجة. ولكنهم يطمئنون أنفسهم بها ، ويبررون كذبهم ، الذي اعتزموه للتخلص من أولياء دم صالح وأهله. نعم من العجب أن يحرص مثل هؤلاء على أن يكونوا صادقين! ولكن النفس الإنسانية مليئة بالانحرافات والالتواءات ، وبخاصة حين لا تهتدي بنور الإيمان ، الذي يرسم لها الطريق المستقيم.

كذلك دبروا. وكذلك مكروا .. ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه ، ويعلم تدبيرهم ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون:

(وَمَكَرُوا مَكْراً ، وَمَكَرْنا مَكْراً. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

وأين مكر من مكر؟ وأين تدبير من تدبير؟ وأين قوة من قوة؟

وكم ذا يخطىء الجبارون وينخدعون بما يملكون من قوة ومن حيلة ، ويغفلون عن العين التي ترى ولا تغفل ، والقوة التي تملك الأمر كله وتباغتهم من حيث لا يشعرون :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ. أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) ..

ومن لمحة إلى لمحة إذا التدمير والهلاك ، وإذا الدور الخاوية والبيوت الخالية. وقد كانوا منذ لحظة واحدة ، في الآية السابقة من السورة ، يدبرون ويمكرون ، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون!

وهذه السرعة في عرض هذه الصفحة بعد هذه مقصودة في السياق. لتظهر المباغتة الحاسمة القاضية. مباغتة القدرة التي لا تغلب للمخدوعين بقوتهم ؛ ومباغتة التدبير الذي لا يخيب للماكرين المستعزين بمكرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) .. والعلم هو الذي عليه التركيز في السورة وتعقيباتها على القصص والأحداث وبعد مشهد المباغتة يجيء ذكر نجاة المؤمنين الذين يخافون الله ويتقونه ..

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..

والذي يخاف الله يقيه سبحانه من المخاوف فلا يجمع عليه خوفين. كما جاء في حديث قدسي جليل.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) (١)

__________________

(١) هذه نهاية الجزء التاسع عشر في تقسيم المصحف. ولكننا تابعنا السياق إلى نهاية القصة.

هذه الحلقة القصيرة من قصة لوط تجيء مختصرة ، تبرز همّ قوم لوط بإخراجه ، لأنه أنكر عليهم الفاحشة الشاذة التي كانوا يأتونها عن إجماع واتفاق وتعارف وعلانية. فاحشة الشذوذ الجنسي بإتيان الرجال ، وترك النساء ، على غير الفطرة التي فطر الله الناس عليها. بل عامة الأحياء.

وهي ظاهرة غريبة في تاريخ الجماعات البشرية. فقد يشذ أفراد ، لأسباب مرضية نفسية أو لملابسات وقتية ؛ فيميل الذكور لإتيان الذكور ؛ وأكثر ما يكون هذا في معسكرات الجنود حيث لا يوجد النساء ، أو في السجون التي يقيم فيها المسجونون فترات طويلة معرضين لضغط الميل الجنسي ، محرومين من الاتصال بالنساء .. أما أن يشيع هذا الشذوذ فيصبح هو القاعدة في بلد بأسره ، مع وجود النساء وتيسر الزواج ، فهذا هو الحادث الغريب حقا في تاريخ الجماعات البشرية!

لقد جعل الله من الفطرة ميل الجنس إلى الجنس الآخر ، لأنه جعل الحياة كلها تقوم على قاعدة التزاوج. فقال : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). فجعل الأحياء كلها أزواجا سواء نبات الأرض والأنفس وما لا يعلمه الناس في شتى المخلوقات. والتزاوج يبدو أصيلا في بناء الكون كله ـ فضلا على الأحياء ـ فالذرة ذاتها مؤلفة من كهارب والكترونات. أي من كهربائية إيجابية وأخرى سلبية. وهي وحدة الكائنات المكرورة فيها جميعا كما يبدو حتى الآن.

وعلى أية حال فالحقيقة المضمونة أن الأحياء كلها تقوم على قاعدة التزاوج. حتى التي لا يوجد لها من جنسها ذكر وأنثى تجتمع خلايا التذكير والتأنيث في آحادها ، وتتكاثر بهذا الاجتماع.

ولما كان التزاوج هو قاعدة الحياة في ناموس الخلق ، فقد جعل الله التجاذب بين الزوجين هو الفطرة ، التي لا تحتاج إلى تعليم ، ولا تتوقف على تفكير. وذلك كي تسير الحياة في طريقها بدافع الفطرة الأصيل. والأحياء يجدون لذتهم في تحقيق مطالب الفطرة. والقدرة المدبرة تحقق ما تشاؤه من وراء لذتهم المودعة في كيانهم بلا وعي منهم ولا توجيه من غيرهم. وقد جعل الله تركيب أعضاء الأنثى وأعضاء الذكر ، وميول هذا وتلك بحيث تحقق اللذة الفطرية من اجتماعهما. ولم يجعل هذا في أعضاء الذكرين وميولهما.

ومن ثم يكون عجيبا أن تنحرف الفطرة انحرافا جماعيا كما حدث في قوم لوط ، بدون ضرورة دافعة إلى عكس اتجاه الفطرة المستقيم.

وهكذا واجه لوط قومه بالاستنكار والعجب مما يفعلون!

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ..

عجب في عبارته الأولى من إتيانهم هذه الفاحشة ، وهم يبصرون الحياة في جميع أنواعها وأجناسها تجري على نسق الفطرة ، وهم وحدهم الشواذ في وسط الحياة والأحياء .. وصرح في عبارته الثانية بطبيعة تلك الفاحشة. ومجرد الكشف عنها يكفي لإبراز شذوذها وغرابتها لمألوف البشرية ، ولمألوف الفطرة جميعا. ثم دمغهم بالجهل بمعنييه : الجهل بمعنى فقدان العلم. والجهل بمعنى السفه والحمق. وكلا المعنيين متحقق في هذا الانحراف البغيض. فالذي لا يعرف منطق الفطرة يجهل كل شيء ، ولا يعلم شيئا أصلا. والذي يميل هذا الميل عن الفطرة سفيه أحمق معتد على جميع الحقوق!

فماذا كان جواب قوم لوط على هذا الاستنكار للانحراف ، وهذا التوجيه إلى وحي الفطرة السليمة؟

كان جوابهم في اختصار أن هموا بإخراج لوط ومن سمع دعوته وهم أهل بيته ـ إلا امرأته ـ بحجة أنهم أناس يتطهرون!

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

وقولهم هذا قد يكون تهكما بالتطهر من هذا الرجس القذر. وقد يكون إنكارا عليه أن يسمى هذا تطهرا ، فهم من انحراف الفطرة بحيث لا يستشعرون ما في ميلهم المنحرف من قذارة. وقد يكون ضيقا بالطهر والتطهر إذا كان يكلفهم الإقلاع عن ذلك الشذوذ!!

على أية حال لقد هموا همهم ، وحزموا أمرهم. وأراد الله غير ما كانوا يريدون :

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (١). وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ..

ولا يذكر تفصيلات هنا عن هذا المطر المهلك كما وردت تفصيلاته في السور الأخرى. فنكتفي نحن بهذا مجاراة للسياق. ولكننا نلمح في اختيار هلاك قوم لوط بالمطر ، وهو الماء المحيي المنبت أنه مماثل لاستخدامهم ماء الحياة ـ ماء النطف ـ في غير ما جعل له وهو أن يكون مادة حياة وخصب .. والله أعلم بقوله ومراده ، وأعلم بسننه وتدبيره. وإن هو إلا رأي أراه في هذا التدبير.

* * *

__________________

(١) الهالكين بسبب أنها كانت عجوز سوء توافق قومها على الانحراف والشذوذ.

انتهى الجزء التاسع عشر

ويليه الجزء العشرون

مبدوءا بقوله تعالى :

«قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى».

بسم الله الرّحمن الرّحيم

بقية سورة النّمل

وسورة القصص

وقسم من

سورة العنكبوت

الجزء العشرون

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣)

حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

هذا الدرس ختام سورة النمل ، بعد استعراض حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط ـ عليهم‌السلام ـ وهذا الختام متصل بمطلع السورة في الموضوع. والقصص بينهما متناسق مع المطلع والختام. كل قصة تؤدي جانبا من جوانب الغرض الذي يعالجه سياق السورة كلها.

وهو يبدأ بالحمد لله ، وبالسلام على من اصطفاهم من عباده ، من الأنبياء والرسل ، ومنهم الذين ورد قصصهم من قبل. يفتتح بذلك الحمد وهذا السلام جولة عن العقيدة. جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس ، وأطواء الغيب ؛ وفي أشراط الساعة ومشاهد القيامة ، وأهوال الحشر ، التي يفزع لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.

* * *

في هذه الجولة يقفهم أمام مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس ، لا يملكون إنكار وجودها ، ولا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبر القدير.

ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثرة ، تأخذ عليهم أقطار الحجة ، وأقطار المشاعر ؛ وهو يسألهم أسئلة متلاحقة : من خلق السماوات والأرض؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة؟ من جعل الأرض قرارا ، وجعل خلالها أنهارا ، وجعل لها رواسي ، وجعل بين البحرين حاجزا؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ من يجعلكم خلفاء الأرض؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر؟ من يرسل الرياح بشرا

بين يدي رحمته؟ من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ من يرزقكم من السماء والأرض؟ وفي كل مرة يقرعهم : أإله مع الله؟ وهم لا يملكون أن يدعوا هذه الدعوى. لا يملكون أن يقولوا : إن إلها مع الله يفعل من هذا كله شيئا ؛ وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله!

وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب ، لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم ، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم .. يستعرض تكذيبهم بالآخرة ، وتخبطهم في أمرها ، ويعقب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.

ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول ومن فزع. ويرجع بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض ، ثم يردهم إلى مشهد الحشر. وكأنما يهز قلوبهم هزا ويرجها رجا ..

وفي نهاية الجولة يجيء الختام أشبه بالإيقاع الأخير عميقا رهيبا .. ينفض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يده من أمر المشركين المستهزئين بالوعيد ، المكذبين بالآخرة ، وقد وجه قلوبهم إلى مشاهد الكون وأهوال الحشر ، وعواقب الطائعين والعصاة ـ ويتركهم إلى مصيرهم الذي يختارون ؛ ويحدد منهجه ووسيلته ولمن شاء أن يختار : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ..

ثم يختم الجولة كما بدأها بحمد الله الذي يستأهل الحمد وحده ؛ ويكلهم إلى الله يريهم آياته ؛ ويطلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن :

(وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

وتختم السورة بهذا الإيقاع المؤثر العميق.

* * *

(قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) ..

يأمر الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يقول الكلمة التي تليق أن يفتتح بها المؤمن حديثه ودعوته وجداله ، وأن يختمه كذلك : (قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ) .. المستحق للحمد من عباده على آلائه ، وفي أولها هدايتهم إليه ، وإلى طريقه الذي يختاره ، ومنهجه الذي يرضاه. (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) لحمل رسالته وتبليغ دعوته ، وبيان منهجه.

وبعد هذا الافتتاح يأخذ في توقيعاته على القلوب المنكرة لآيات الله ، مبتدئا بسؤال لا يحتمل إلا إجابة واحدة ، يستنكر به أن يشركوا بالله هذه الآلهة المدعاة :

(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) ..

وما يشركون أصنام وأوثان ، أو ملائكة وجن ، أو خلق من خلق الله على أية حال ، لا يرتقي أن يكون شبيها بالله ـ سبحانه ـ فضلا على أن يكون خيرا منه. ولا يخطر على قلب عاقل أن يعقد مقارنة أو موازنة. ومن ثم يبدو هذا السؤال بهذه الصيغة وكأنه تهكم محض ، وتوبيخ صرف ، لأنه غير قابل أن يوجه على سبيل الجد ، أو أن يطلب عنه جواب!

ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر ، مستمد من واقع هذا الكون حولهم ، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم :

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ..

والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها ، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها .. وهي أصنام أو أوثان ، أو ملائكة وشياطين ، أو شمس أو قمر .. فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء. ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه ، مخلوق بذاته ، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض ، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها ، كفيلا بإلزام الحجة ، ودحض الشرك ، وإفحام المشركين. وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد ، ويتضح فيه التدبير ، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد ، الذي تتضح وحدانيته بآثاره. ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه. فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة. إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير.

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) .. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟) ..

والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها ، ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر ، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر ، بهذا القدر ، الذي توجد به الحياة ، على النحو الذي وجدت به ، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة ، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق ، وبهذا التقدير المضبوط. المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان. هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ ...) والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم ، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم. يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون :

(فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) ..

حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة .. ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر. وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث. فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر ـ وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر ـ : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس. سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان. فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول : كيف جاءت هذه الحياة ، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان. ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور.

وعند ما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير ، يهجم عليهم بسؤال :

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) ..

ولا مجال لمثل هذا الادعاء ؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان .. وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا ، وهم يسوون

آلهتهم المدعاة بالله ، فيعبدونها عبادة الله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ..

ويعدلون. إما أن يكون معناها يسوون. أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة. وإما أن يكون معناها : يحيدون. أي يحيدون عن الحق الواضح المبين. بإشراك أحد مع الله في العبادة ؛ وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في الخلق. وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق!

ثم ينتقل بهم إلى حقيقة كونية أخرى ، يواجههم بها كما واجههم بحقيقة الخلق الأولى :

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؟) ..

لقد كانت الحقيقة الكونية الأولى هي حقيقة خلق السماوات والأرض. أما هذه فهي الهيئة التي خلق عليها الأرض. لقد جعلها قرارا للحياة ، مستقرة مطمئنة صالحة يمكن أن توجد فيها الحياة وتنمو وتتكاثر. ولو تغير وضعها من الشمس والقمر ؛ أو تغير شكلها ، أو تغير حجمها ، أو تغيرت عناصرها والعناصر المحيطة في الجو بها ، أو تغيرت سرعة دورتها حول نفسها ، أو سرعة دورتها حول الشمس ، أو سرعة دورة القمر حولها .. إلى آخر هذه الملابسات الكثيرة التي لا يمكن أن تتم مصادفة ، وأن تتناسق كلها هذا التناسق .. لو تغير شيء من هذا كله أدنى تغيير ، لما كانت الأرض قرارا صالحا للحياة.

وربما أن المخاطبين إذ ذاك لم يكونوا يدركون من قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً؟) كل هذه العجائب. ولكنهم كانوا يرون الأرض مستقرا صالحا للحياة على وجه الإجمال ؛ ولا يملكون أن يدعوا أن أحدا من آلهتهم كان له شرك في خلق الأرض على هذا المنوال. وهذا يكفي. ثم يبقى النص بعد ذلك مفتوحا للأجيال ؛ وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئا من معناه الضخم المتجدد على توالي الأجيال. وتلك معجزة القرآن في خطابه لجميع العقول ، على توالي الأزمان!

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً. وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً؟) ..

والأنهار في الأرض هي شرايين الحياة ، وهي تنتشر فيها إلى الشرق وإلى الغرب ، وإلى الشمال وإلى الجنوب ، تحمل معها الخصب والحياة والنماء. والأنهار تتكون من تجمع مياه الأمطار وجريانها وفق طبيعة الأرض. والله الذي خلق هذا الكون هو الذي قدر في تصميمه إمكان تكون السحب ، ونزول المطر ، وجريان الأنهار. وما يملك أحد أن يقول : إن أحدا سوى الخالق المدبر قد شارك في خلق هذا الكون على هذا النحو ؛ وجريان الأنهار حقيقة واقعة يراها المشركون. فمن ذا أوجد هذه الحقيقة؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟).

(وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) ..

والرواسي : الجبال. وهي ثابتة مستقرة على الأرض. وهي في الغالب منابع الأنهار ، حيث تجري منها مياه الأمطار إلى الوديان ؛ وتشق مجراها بسبب تدفقها من قمم الجبال العالية بعنف وقوة.

والرواسي الثابتة تقابل الأنهار الجارية في المشهد الكوني الذي يعرضه القرآن هنا والتقابل التصويري ملحوظ في التعبير القرآني. وهذا واحد منه. لذلك يذكر الرواسي بعد الأنهار.

(وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) ..

البحر الملح الأجاج ، والنهر العذب الفرات. سماهما بحرين على سبيل التغليب من حيث مادتهما المشتركة وهي الماء. والحاجز في الغالب هو الحاجز الطبيعي ، الذي يجعل البحر لا يفيض على النهر فيفسده. إذ أن مستوى سطح النهر أعلى من مستوى سطح البحر. وهذا ما يحجز بينهما مع أن الأنهار تصب في البحار ، ولكن مجرى النهر يبقى

مستقلا لا يطغى عليه البحر. وحتى حين ينخفض سطح النهر عن سطح البحر لسبب من الأسباب فإن هذا الحاجز يظل قائما من طبيعة كثافة ماء البحر وماء النهر. إذ يخف ماء النهر ويثقل ماء البحر فيظل مجرى كل منهما مميزا لا يمتزجان ولا يبغي أحدهما على الآخر. وهذا من سنن الله في خلق هذا الكون ، وتصميمه على هذا النحو الدقيق.

فمن فعل هذا كله؟ من؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) ..

وما يملك أحد أن يدعي هذه الدعوى. ووحدة التصميم أمامه تجبره على الاعتراف بوحدة الخالق .. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

ويذكر العلم هنا لأن هذه الحقيقة الكونية تحتاج إلى العلم لتملي الصنعة فيها والتنسيق ، وتدبر السنة فيها والناموس. ولأن التركيز في السورة كلها على العلم (كما ذكرنا في تلخيص السورة في الجزء الماضي).

ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم :

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) .. فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم ، وواقع أحوالهم.

فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة ، وتشتد الخنقة ، وتتخاذل القوى ، وتتهاوى الأسناد ؛ وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته ، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى ؛ وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى .. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة ، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء ، ويرده إلى الأمن والسلامة ، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.

والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء ، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة ، ويضطرهم الكرب ، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة ، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين.

والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم ، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل. حقائق خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، وإنبات الحدائق البهيجة ، وجعل الأرض قرارا ، والجبال رواسي ، وإجراء الأنهار ، والحاجزين البحرين. فالتجاء المضطر إلى الله ، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق. هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء.

ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) ..

فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا. ثم جعلهم قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟

أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض ، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها ، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى. النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا ؛ والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف

المساعدة للحياة. ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا (١).

وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة ، واستخلف جيلا بعد جيل ؛ ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين ؛ ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير ، لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات ، وتجدد أنماط الحياة ، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور. فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام!

إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق. فمن الذي حقق وجودها وأنشأها؟ من؟

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) ..

إنهم لينسون ويغفلون. هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس ، مشهودة في واقع الحياة :

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)!

ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى. ولما غفل عن ربه ، ولا أشرك به أحدا.

ثم يمضي السياق إلى بعض الحقائق الأخرى الممثلة في حياة الناس ونشاطهم على هذا الكوكب ، ومشاهداتهم التي لا تنكر :

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ!) ..

والناس ـ ومنهم المخاطبون أول مرة بهذا القرآن ـ يسلكون فجاج البر والبحر في أسفارهم ؛ ويسبرون أسرار البر والبحر في تجاربهم .. ويهتدون .. فمن يهديهم؟ من أودع كيانهم تلك القوى المدركة؟ من أقدرهم على الاهتداء بالنجوم وبالآلات وبالمعالم؟ من وصل فطرتهم بفطرة هذا الكون ، وطاقاتهم بأسراره؟ من جعل لآذانهم تلك القدرة على التقاط الأصوات ، ولعيونهم تلك القدرة على التقاط الأضواء؟ ولحواسهم تلك القدرة على التقاط المحسوسات؟ ثم جعل لهم تلك الطاقة المدركة المسماة بالعقل أو القلب للانتفاع بكل المدركات ، وتجميع تجارب الحواس والإلهامات؟

من؟ أإله مع الله؟

(وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟) ..

والرياح ، مهما قيل في أسبابها الفلكية والجغرافية ، تابعة للتصميم الكوني الأول ، الذي يسمح بجريانها على النحو الذي تجري به ، حاملة السحب من مكان إلى مكان ، مبشرة بالمطر الذي تتجلى فيه رحمة الله ، وهو سبب الحياة.

فمن الذي فطر هذا الكون على خلقته ، فأرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ من؟

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) .. (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ!).

ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض ، مع التحدي والإفحام :

__________________

(١) يراجع تفسير قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) في سورة الفرقان. جزء ١٩ ، ص ٢٥٤٨.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها ، ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته. وجوده لأن وجود هذا الكون ملجئ للإقرار بوجوده ؛ وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله. ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته ؛ فعليها آثار التقدير الواحد ، والتدبير الواحد ؛ وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد.

فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون. ولكن الإقرار يبدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجىء كذلك للتصديق بإعادة الخلق ، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء ، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء. فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء. وهذا لا يتم في الحياة الدنيا. فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال .. أما لما ذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء؟ فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير. وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته. وسر الصنعة عند الصانع. وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا!

ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدىء الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟) .. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) ..

والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء. ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان ، والماء والهواء ، للطعام والشراب والاستنشاق ؛ ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات ؛ وكنوز البحر من طعام وزينة. ومنها القوى العجيبة من مغناطيسية وكهرباء ، وقوى أخرى لا يعلمها بعد إلا الله ؛ ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن.

وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا : الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات. ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم ـ وهو من السماء بمدلولها المعنوي ، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة ؛ وهو معنى الارتفاع والاستعلاء.

وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة ، لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة. فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد. وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا .. وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة. فهو في الدنيا للحياة ، وهو في الآخرة للجزاء .. وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب.

والبدء والإعادة حقيقة. والرزق من السماء والأرض حقيقة. ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق ، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام :

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) .. (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

وإنهم ليعجزون عن البرهان ، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الآن. وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة. يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس ؛ فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب ؛ ويوقظ به الفطرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط ؛ ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو

مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان ، ويحجبها الجحود والكفران .. ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس ؛ والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد ، الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي ، وفشا فيما يسمى علم التوحيد ، أو علم الكلام!

* * *

وبعد هذه الجولة في الآفاق وفي أنفسهم لإثبات الوحدانية ونفي الشرك. يأخذ معهم في جولة أخرى عن الغيب المستور الذي لا يعلمه إلا الخالق الواحد المدبر ، وعن الآخرة وهي غيب من غيب الله ، يشهد المنطق والبداهة والفطرة بضرورته ؛ ويعجز الإدراك والعلم البشري عن تحديد موعده :

(قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ! قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ : عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

والإيمان بالبعث والحشر ، وبالحساب والجزاء ، عنصر أصيل في العقيدة ، لا يستقيم منهجها في الحياة إلا به. فلا بد من عالم مرتقب ، يكمل فيه الجزاء ، ويتناسق فيه العمل والأجر ، ويتعلق به القلب ، وتحسب حسابه النفس ، ويقيم الإنسان نشاطه في هذه الأرض على أساس ما ينتظره هناك.

ولقد وقفت البشرية في أجيالها المختلفة ورسالاتها المتوالية موقفا عجيبا من قضية البعث والدار الآخرة ، على بساطتها وضرورتها. فكان أعجب ما تدهش له أن ينبئها رسول أن هناك بعثا بعد الموت وحياة بعد الدثور. ولم تكن معجزة بدء الحياة الواقعة التي لا تنكر تلهم البشرية أن الحياة الأخرى أهون وأيسر. ومن ثم كانت تعرض عن نذير الآخرة ، وتستمرئ الجحود والمعصية ، وتستطرد في الكفر والتكذيب.

والآخرة غيب. ولا يعلم الغيب إلا الله. وهم كانوا يطلبون تحديد موعدها أو يكذبوا بالنذر ، ويحسبوها أساطير ، سبق تكرارها ولم تحقق أبدا!

فهنا يقرر أن الغيب من أمر الله ، وأن علمهم عن الآخرة منته محدود :

(قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ..

ولقد وقف الإنسان منذ بدء الخليقة أمام ستر الغيب المحجوب ، لا ينفذ إليه علمه ، ولا يعرف مما وراء الستر المسدل ، إلا بقدر ما يكشف له منه علام الغيوب. وكان الخير في هذا الذي أراده الله ، فلو علم الله أن في كشف هذا الستر المسبل خيرا لكشفه للإنسان المتطلع الشديد التطلع إلى ما وراءه!

لقد منح الله هذا الإنسان من المواهب والاستعدادات والقوى والطاقات ما يحقق به الخلافة في الأرض ، وما ينهض به بهذا التكليف الضخم .. ولا زيادة .. وانكشاف ستر الغيب له ليس مما يعينه في هذه المهمة. بل إن انطباق أهدابه دونه لما يثير تطلعه إلى المعرفة ، فينقب ويبحث. وفي الطريق يخرج المخبوء في باطن الأرض ، وجوف البحر ، وأقطار الفضاء ؛ ويهتدي إلى نواميس الكون والقوى الكامنة فيه ، والأسرار المودعة في كيانه لخير البشر ، ويحلل في مادة الأرض ويركب ، ويعدل في تكوينها وأشكالها ، ويبتدع في أنماط الحياة ونماذجها ..

حتى يؤدي دوره كاملا في عمارة هذه الأرض ، ويحقق وعد الله بخلافة هذا المخلوق الإنساني فيها.

وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله ، ولكن كل من في السماوات والأرض من خلق الله. من ملائكة وجن غيرهم ممن علمهم عند الله. فكلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم ، فيبقي سره عند الله دون سواه.

(قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ..

وهو نص قاطع لا تبقى بعده دعوى لمدع ، ولا يبقى معه مجال للوهم والخرافة.

وبعد هذا التعميم في أمر الغيب يخصص في أمر الآخرة لأنها القضية التي عليها النزاع مع المشركين بعد قضية التوحيد :

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ..

ينفي عنهم العلم بموعد البعث في أغمض صوره وهو الشعور. فهم لا يعلمون بهذا الموعد يقينا ، ولا يشعرون به حين يقترب شعورا. فذلك من الغيب الذي يقرر أن لا أحد يعلمه في السماوات ولا في الأرض .. ثم يضرب عن هذا ليتحدث في موقفهم هم من الآخرة ، ومدى علمهم بحقيقتها :

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ..

فانتهى إلى حدوده ، وقصر عن الوصول إليها ، ووقف دونها لا يبلغها.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) ..

لا يستيقنون بمجيئها ، بله أن يعرفوا موعدها ، وينتظروا وقوعها.

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ..

بل هم عنها في عمى ، لا يبصرون من أمرها شيئا ، ولا يدركون من طبيعتها شيئا .. وهذه أشد بعدا عن الثانية وعن الأولى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟) ..

وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما : أإذا فارقتنا الحياة ، ورمت أجسادنا وتناثرت في القبور ، وصارت ترابا .. أإذا وقع هذا كله ـ وهو يقع للموتى بعد فترة من دفنهم إلا في حالات نادرة شاذة ـ أإذا وقع هذا لنا ولآبائنا الذين ماتوا قبلنا يمكن أن نبعث أحياء كرة أخرى ، وأن تخرج من الأرض التي اختلط رفاتنا بترابها فصار ترابا؟

يقولون هذا وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الأخرى. وينسون أنهم خلقوا أول مرة ولم يكونوا من قبل شيئا. ولا يدري أحد أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هياكلهم الأولى. فلقد كانت مفرقة في أطواء الأرض وأعماق البحار وأجواز الفضاء ، فمنها ما جاء من تربة الأرض ، ومنها ما جاء من عناصر الهواء والماء ، ومنها ما قدم من الشمس البعيدة ، ومنها ما تنفسه إنسان أو نبات أو حيوان ، ومنها ما انبعث من جسد رمّ وتبخرت بعض عناصره في الهواء! .. ثمّ تمثلت هذه الخلايا والذرات في طعام يأكلونه ، وشراب يشربونه ، وهواء يتنفسونه ، وشعاع يستدفئون به .. ثم إذا هذا الشتيت الذي لا يعلم عدده إلا الله ، ولا يحصي مصادره إلا الله ، يتجمع في هيكل إنسان ؛ وهو ينمو من بويضة عالقة في رحم ، حتى يصير جسدا مسجى في كفن .. فهؤلاء في خلقتهم أول مرة ، فهل عجب أن يكونوا كذلك أو على نحو آخر في المرة الآخرة!

ولكنهم كانوا هكذا يقولون. وبعضهم ما يزال يقوله اليوم مع شيء من الاختلاف!

هكذا كانوا يقولون. ثم يتبعون هذه القولة الجاهلة المطموسة بالتهكم والاستنكار :

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فهم كانوا يعرفون أن الرسل من قبل قد أنذروا آباءهم بالبعث والنشور. مما يدل على أن العرب لم تكن أذهانهم خالية من العقيدة ، ولا غفلا من معانيها. إنما كانوا يرون أن الوعود لم تتحقق منذ بعيد ؛ فيبنون على هذا استهتارهم بالوعد الجديد قائلين : إنها أساطير الأولين يرويها محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غافلين أن للساعة موعدها الذي لا يتقدم لاستعجال البشر ولا يتأخر لرجائهم ، إنما يجيء في الوقت المعلوم لله ، المجهول للعباد في السماوات والأرض سواء. ولقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لجبريل ـ عليه‌السلام ـ وهو يسأله عن الساعة : «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» (١).

وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها إلى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد ويسميهم المجرمين :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم ، فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية ؛ وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها ؛ وما حدث للمجرمين من قبل يحدث للمجرمين من بعد ؛ فإن السنن لا تحيد ولا تحابي. والسير في الأرض يطلع النفوس على مثل وسير وأحوال فيها عبرة ، وفيها تفتيح لنوافذ مضيئة. وفيها لمسات للقلوب قد توقظها وتحييها. والقرآن يوجه الناس إلى البحث عن السنن المطردة ، وتدبر خطواتها وحلقاتها ، ليعيشوا حياة متصلة الأوشاج متسعة الآفاق ، غير متحجرة ولا مغلقة ولا ضيقة ولا منقطعة.

وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن ينفض يديه من أمرهم ، ويدعهم لمصيرهم ، الذي وجههم إلى نظائره ، وألا يضيق صدره بمكرهم ، فإنهم لن يضروه شيئا ، وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ..

وهذا النص يصور حساسية قلبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم ، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير.

ثم يمضي في سرد مقولاتهم عن قضية البعث ، واستهانتهم بالوعيد بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

كانوا يقولون هذا كلما خوفوا بمصائر المجرمين قبلهم ، ومصارعهم التي يمرون عليها مصبحين كقرى لوط ، وآثار ثمود في الحجر ، وآثار عاد في الأحقاف ، ومساكن سبأ بعد سيل العرم .. كانوا يقولون مستهزئين : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به؟ إن كنتم صادقين فهاتوه ، أو خبرونا بموعده على التحديد!

وهنا يجيء الرد يلقي ظلال الهول المتربص ، وظلال التهكم المنذر في كلمات قصار :

(قُلْ : عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ..

__________________

(١) من حديث عبد الله بن عمر. في حقيقة الإسلام والإيمان. أخرجه مسلم وأصحاب السنن.

بذلك يثير في قلوبهم الخوف والقلق من شبح العذاب. فقد يكون وراءهم ـ رديفا لهم كما يكون الرديف وراء الراكب فوق الدابة ـ وهم لا يشعرون. وهم في غفلتهم يستعجلون به وهو خلف رديف! فيالها من مفاجأة ترتعش لها الأوصال. وهم يستهزئون ويستهترون!

ومن يدري. إن الغيب لمحجوب. وإن الستار لمسبل. فما يدري أحد ما وراءه. وقد يكون على قيد خطوات ما يذهل وما يهول! إنما العاقل من يحذر ، ومن يتهيأ ويستعد في كل لحظة لما وراء الستر المسدول!

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ..

وإن فضله ليتجلى في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم وهم مذنبون أو مقصرون ، عسى أن يتوبوا إليه ويثوبوا إلى الطريق المستقيم. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) على هذا الفضل ، إنما يستهزئون ويستعجلون ، أو يسدرون في غيهم ولا يتدبرون.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) ..

وهو يمهلهم ويؤخر العذاب عنهم ، مع علمه بما تكنه صدورهم وما تعلنه ألسنتهم وأفعالهم. فهو الإمهال عن علم ، والإمهال عن فضل. وهم بعد ذلك محاسبون عما تكن صدورهم وما يعلنون.

ويختم هذه الجولة بتقرير علم الله الشامل الكامل ، الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض :

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..

ويجول الفكر والخيال في السماء والأرض ، وراء كل غائبة. من شيء ، ومن سر ، ومن قوة ، ومن خبر ، وهي مقيدة بعلم الله ، لا تند منها شاردة ، ولا تغيب منها غائبة. والتركيز في السورة كلها على العلم. والإشارات إليه كثيرة ، وهذه واحدة منها تختم بها هذه الجولة.

وبمناسبة الحديث عن علم الله المطلق يذكر ما ورد في القرآن من فصل الخطاب فيما اختلف عليه بنو إسرائيل ، بوصفه طرفا من علم الله المستيقن ، ونموذجا من فضل الله وقضائه بين المختلفين. ليكون هذا تعزية لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وليدعهم لله يفصل بينه وبينهم بقضائه الأخير :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ؛ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ..

ولقد اختلف النصارى في المسيح ـ عليه‌السلام ـ وفي أمه مريم.

قالت جماعة : إن المسيح إنسان محض ، وقالت جماعة : إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله بزعمهم مركب من أقانيم ثلاثة ، الأب والابن وروح القدس (والابن هو عيسى) فانحدر الله الذي هو الأب في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنسانا وولد منها في صورة يسوع! وجماعة قالت : إن الابن ليس أزليا كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم ، ولذلك هو دون الأب وخاضع له! وجماعة أنكروا كون روح القدس أقنوما! وقرر مجمع نيقية سنة ٣٢٥ ميلادية ، ومجمع القسطنطينية سنة ٣٨١ بأن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت ، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب وأن الروح القدس منبثق من الأب. وقرر مجمع طليطلة سنة ٥٨٩ بأن روح القدس منبثق من الابن أيضا. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفين .. فجاء القرآن الكريم يقول كلمة الفصل

بين هؤلاء جميعا. وقال عن المسيح : إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه وإنه بشر .. (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ). وكان هذا فصل الخطاب فيما كانوا فيه يختلفون.

واختلفوا في مسألة صلبه مثل هذا الاختلاف. منهم من قال : إنه صلب حتى مات ودفن ثم قام من قبره بعد ثلاثة أيام وارتفع إلى السماء. ومنهم من قال : إن يهوذا أحد حوارييه الذي خانه ودل عليه ألقى عليه شبه المسيح وصلب. ومنهم من قال : ألقي شبهه على الحواري سيمون وأخذ به .. وقص القرآن الكريم الخبر اليقين فقال : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) وقال : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ ..) وكانت كلمة الفصل في ذلك الخلاف.

ومن قبل حرف اليهود التوراة وعدلوا تشريعاتها الإلهية ؛ فجاء القرآن الكريم يثبت الأصل الذي أنزله الله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ..

وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم ، مجردا من الأساطير الكثيرة التي اختلفت فيها رواياتهم ، مطهرا من الأقذار التي ألصقتها هذه الروايات بالأنبياء ، والتي لم يكد نبي من أنبياء بني إسرائيل يخرج منها نظيفا! .. إبراهيم ـ بزعمهم ـ قدم امرأته لأبيمالك ملك الفلسطينيين ، وإلى فرعون ملك مصر باسم أنها أخته لعله ينال بسببها نعمة في أعينهما! ويعقوب الذي هو إسرائيل أخذ بركة جده إبراهيم من والده إسحاق بطريق السرقة والحيلة والكذب ؛ وكانت بزعمهم هذه البركة لأخيه الأكبر عيصو! ولوط ـ بزعمهم ـ أسكرته بنتاه كل منهما ليلة ليضطجع معها لتنجب منه كي لا يذهب مال أبيها إذ لم يكن له وارث ذكر. وكان ما أرادتا! وداود رأى من سطوح قصره امرأة جميلة عرف أنها زوجة أحد جنده ، فأرسل هذا الجندي إلى المهالك ليفوز ـ بزعمهم ـ بامرأته! وسليمان مال إلى عبادة (بغل) بزعمهم. مجاراة لإحدى نسائه التي كان يعشقها ولا يملك معارضتها!

وقد جاء القرآن فطهر صفحات هؤلاء الرسل الكرام مما لوثتهم به الأساطير الإسرائيلية التي أضافوها إلى التوراة المنزلة ، كما صحح تلك الأساطير عن عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام.

وهذا القرآن المهيمن على الكتب قبله الذي يفصل في خلافات القوم فيها ، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه هو الذي يجادل فيه المشركون ، وهو الحكم الفصل بين المتجادلين!

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ..

(لَهُدىً) يقيهم من الاختلاف والضلال ، ويوحد المنهج ، ويعين الطريق ، ويصلهم بالسنن الكونية الكبرى التي لا تختلف ولا تحيد ، (وَرَحْمَةٌ) يرحمهم من الشك والقلق والحيرة ، والتخبط بين المناهج والنظريات التي لا تثبت على حال ؛ ويصلهم بالله يطمئنون إلى جواره ويسكنون إلى كنفه ، ويعيشون في سلام مع أنفسهم ومع الناس من حولهم ، وينتهون إلى رضوان الله وثوابه الجزيل.

والمنهج القرآني منهج فريد في إعادة إنشاء النفوس ، وتركيبها وفق نسق الفطرة الخالصة ؛ حيث تجدها متسقة مع الكون الذي تعيش فيه ، متمشية مع السنن التي تحكم هذا الكون ـ في يسر وبساطة ، بلا تكلف ولا تعمل. ومن ثم تستشعر في أعماقها السّلام والطمأنينة الكبرى ؛ لأنها تعيش في كون لا تصطدم مع قوانينه وسننه ولا تعاديه ولا يعاديها متى اهتدت إلى مواضع اتصالها به ، وعرفت أن ناموسها هو ناموسه. وهذا التناسق بين النفس والكون ، وذلك السّلام الأكبر بين القلب البشري والوجود الأكبر ينبع منه السّلام بين الجماعة ، والسّلام بين

البشر ، وتفيض منه الطمأنينة والاستقرار .. وهذه هي الرحمة في أشمل صورها ومعانيها ..

وبعد هذه اللمحة إلى فضل الله على القوم بهذا القرآن الذي يفصل بين بني إسرائيل في اختلافاتهم ويقود المؤمنين به إلى الهدى ويسبغ عليهم الرحمة .. يقرر لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن ربه سيفصل فيما بينه وبين قومه ، ويحكم بينهم حكمه الذي لا مرد له. حكمه القوي المبني على العلم اليقين :

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) ..

وقد جعل الله انتصار الحق سنة كونية كخلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار. سنة لا تتخلف .. قد تبطئ. تبطئ لحكمة يعلمها الله ، وتتحقق بها غايات يقدرها الله. ولكن السنة ماضية. وعد الله لا يخلف الله وعده. ولا يتم الإيمان إلا باعتقاد صدقه وانتظار تحققه. ولوعد الله أجل لا يستقدم عنه ولا يستأخر.

ويمضي في تسلية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد وإصرارهم على الكفر بعد الجهد الشاق في النصح والبيان ، وبعد مخاطبتهم بهذا القرآن .. يمضي في تسليته والتسرية عنه من هذا كله ؛ فهو لم يقصر في دعوته. ولكنه إنما يسمع أحياء القلوب الذين تعي آذانهم فتتحرك قلوبهم ، فيقبلون على الناصح الأمين. فأما الذين ماتت قلوبهم ، وعميت أبصارهم عن دلائل الهدى والإيمان ، فما له فيهم حيلة ، وليس له إلى قلوبهم سبيل ؛ ولا ضير عليه في ضلالهم وشرودهم الطويل :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ..

والتعبير القرآني البديع يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة. حالة جمود القلب ، وخمود الروح ، وبلادة الحس ، وهمود الشعور. فيخرجهم مرة في صورة الموتى ، والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدعو ، وهم لا يسمعون الدعاء ، لأن الموتى لا يشعرون! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي ، لأنهم لا يسمعون! ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم ؛ لا يرون الهادي لأنهم لا يبصرون! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة ، فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور!

وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون. فهم الأحياء ، وهم السامعون ، وهم المبصرون.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ..

إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله ، بالحياة والسمع والبصر. وآية الحياة الشعور. وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور. والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم. وعمل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو أن يسمعهم ، فيدلهم على آيات الله ، فيستسلمون لتوهم ولحظتهم (فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة ؛ فما يكاد القلب السليم يعرفه ، حتى يستسلم له ، فلا يشاق فيه. وهكذا يصور القرآن تلك القلوب ، القابلة للهدى ، المستعدة للاستماع ، التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله ، فتؤمن لها وتستجيب.

* * *

بعد ذلك يجول بهم جولة أخرى في أشراط الساعة ، وبعض مشاهدها ، قبل الإيقاع الأخير الذي يختم به السورة .. جولة يذكر فيها ظهور الدابة التي تكلم الناس الذين كانوا لا يؤمنون بآيات الله الكونية. ويرسم مشهدا للحشر والتبكيت للمكذبين بالآيات وهم واجمون صامتون. ويعود بهم من هذا المشهد إلى آيتي الليل والنهار

المعروضتين للأبصار وهم عنها غافلون. ثم يرتد بهم ثانية إلى مشهد الفزع يوم ينفخ في الصور ، ويوم تسير الجبال وتمر مر السحاب ؛ ويعرض عليهم مشهد المحسنين آمنين من ذلك الفزع ، والمسيئين كبت وجوههم في النار :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ، أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ).

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ : أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ).

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) ..

وقد ورد ذكر خروج الدابة المذكورة هنا في أحاديث كثيرة بعضها صحيح ؛ وليس في هذا الصحيح وصف للدابة. إنما جاء وصفها في روايات لم تبلغ حد الصحة. لذلك نضرب صفحا عن أوصافها ، فما يعني شيئا أن يكون طولها ستين ذراعا ، وأن تكون ذات زغب وريش وحافر ، وأن يكون لها لحية! وأن يكون رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل. وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هو ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير .. إلخ هذه الأوصاف التي افتن فيها المفسرون!

وحسبنا أن نقف عند النص القرآني والحديث الصحيح الذي يفيد أن خروج الدابة من علامات الساعة ، وأنه إذا انتهى الأجل الذي تنفع فيه التوبة ؛ وحق القول على الباقين فلم تقبل منهم توبة بعد ذلك ؛ وإنما يقضى عليهم بما هم عليه .. عندئذ يخرج الله لهم دابة تكلمهم. والدواب لا تتكلم ، أولا يفهم عنها الناس. ولكنهم اليوم يفهمون ، ويعلمون أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة. وقد كانوا لا يؤمنون بآيات الله ، ولا يصدقون باليوم الموعود.

ومما يلاحظ أن المشاهد في سورة النمل مشاهد حوار وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه‌السلام. فجاء ذكر «الدابة» وتكليمها الناس متناسقا مع مشاهد السورة وجوها ، محققا لتناسق التصوير في القرآن ، وتوحيد الجزئيات التي يتألف منها المشهد العام (١).

ويعبر السياق من هذه العلامة الدالة على اقتراب الساعة ، إلى مشهد الحشر!

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) ..

والناس كلهم يحشرون. إنما شاء أن يبرز موقف المكذبين (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يساقون أولهم على آخرهم ، حيث لا إرادة لهم ولا وجهة ولا اختيار.

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ : أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟).

والسؤال الأول للتخجيل والتأنيب. فمعروف أنهم كذبوا بآيات الله. أما السؤال الثاني فملؤه التهكم ، وله في لغة التخاطب نظائر : أكذبتم؟ أم كنتم تعملون ماذا؟ فما لكم عمل ظاهر يقال : إنكم قضيتم حياتكم فيه ، إلا

__________________

(١) يراجع فصل التناسق الفني في كتاب : التصوير الفني في القرآن من ص ٨٦ إلى ص ١٠٧ من الطبعة الثالثة. «دار الشروق».

هذا التكذيب المستنكر الذي ما كان ينبغي أن يكون .. ومثل هذا السؤال لا يكون عليه جواب إلا الصمت والوجوم ، كأنما وقع على المسئول ما يلجم لسانه ويكبت جنانه :

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) ..

وحق عليهم القضاء بسبب ظلمهم في الدنيا ، وهم واجمون صامتون! ذلك على حين نطقت الدابة قبيل ذلك. وها هم الناس لا ينطقون! وذلك من بدائع التقابل في التعبير القرآني ، وفي آيات الله التي يعبر عنها هذا القرآن.

ونسق العرض في هذه الجولة ذو طابع خاص ، هو المزاوجة بين مشاهد الدنيا ومشاهد الآخرة ، والانتقال من هذه إلى تلك في اللحظة المناسبة للتأثر والاعتبار.

وهو هنا ينتقل من مشهد المكذبين بآيات الله ، المبهوتين في ساحة الحشر إلى مشهد من مشاهد الدنيا ، كان جديرا أن يوقظ وجدانهم ، ويدعوهم إلى التدبر في نظام الكون وظواهره ، ويلقي في روعهم أن هناك إلها يرعاهم ، ويهيئ لهم أسباب الحياة والراحة ، ويخلق الكون مناسبا لحياتهم لا مقاوما لها ولا حربا عليها ولا معارضا لوجودها أو استمرارها :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ومشهد الليل الساكن ، ومشهد النهار المبصر ، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجدانا دينيا يجنح إلى الاتصال بالله ، الذي يقلب الليل والنهار ، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان ، ولكنهم لا يؤمنون.

ولو لم يكن هناك ليل فكان الدهر كله نهارا لانعدمت الحياة على وجه الأرض ؛ وكذلك لو كان الدهر كله ليلا. لا بل إنه لو كان النهار أو الليل أطول مما هما الآن عشر مرات فقط لحرقت الشمس في النهار كل نبات ، ولتجمد في الليل كل نبات. وعندئذ تستحيل الحياة. ففي الليل والنهار بحالتهما الموافقة للحياة آيات. ولكنهم لا يؤمنون.

ومن آيتي الليل والنهار في الأرض ، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور ، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله. وما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار ؛ وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير ، ومن عقاب بالفزع والكب في النار :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ؛ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ، صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

والصور البوق ينفخ فيه. وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السماوات ومن في الأرض ـ إلا من شاء الله أن يأمن ويستقر .. قيل هم الشهداء .. وفيها يصعق كل حي في السماوات والأرض إلا من شاء الله.

ثم تكون نفخة البعث. ثم نفخة المحشر. وفي هذه يحشر الجميع (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أذلاء مستسلمين.

ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك ، وتضطرب دورتها. ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية ، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره. ومشهد الجبال هكذا

يتناسق مع ظل الفزع ، ويتجلى الفزع فيه ؛ وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين ، مفزوعة مع المفزوعين ، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار!

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).

سبحانه! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود. فلا فلتة ولا مصادفة ، ولا ثغرة ولا نقص ، ولا تفاوت ولا نسيان. ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة ، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب. في الصغير والكبير ، والجليل والحقير. فكل شيء بتدبير وتقدير ، يدبر الرؤوس التي تتابعه وتتملاه (١).

(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) ..

وهذا يوم الحساب عما تفعلون. قدره الله الذي اتقن كل شيء. وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ؛ ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير ؛ وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين ، (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ).

في هذا اليوم المفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا ، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها. وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ).

والأمن من هذا الفزع هو وحده جزاء. وما بعده فضل من الله ومنة. ولقد خافوا الله في الدنيا فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة. بل أمنهم يوم يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ..

وهو مشهد مفزع. وهم يكبون في النار على وجوههم. ويزيد عليهم التبكيت والتوبيخ!

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) ..

فقد تنكبوا الهدى ، وأشاحوا عنه بوجوههم ؛ فهم يجزون به كبا لهذه الوجوه في النار وقد أعرضت من قبل عن الحق الواضح وضوح الليل والنهار.

* * *

وفي النهاية تجيء الإيقاعات الأخيرة : حيث يلخص الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دعوته ومنهجه في الدعوة ؛ ويكلهم إلى مصيرهم الذي يرتضونه لأنفسهم بعد ما مضى من بيان ؛ ويختم بحمد الله كما بدأ ، ويدعهم إلى الله يكشف لهم آياته ، ويحاسبهم على ما يعملون :

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ، وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

وهم كانوا يدينون بحرمة البلدة الحرام والبيت الحرام ؛ وكانوا يستمدون سيادتهم على العرب من عقيدة تحريم البيت ؛ ثم لا يوحدون الله الذي حرمه وأقام حياتهم كلها عليه.

فالرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقوّم العقيدة كما ينبغي أن تقوّم ، فيعلن أنه مأمور أن يعبد رب هذه البلدة

__________________

(١) يراجع تفسير قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) في سورة الفرقان. الجزء التاسع عشر.

الذي حرمها ، لا شريك له ؛ ويكمل التصور الإسلامي للألوهية الواحدة ، فرب هذه البلدة هو رب كل شيء في الوجود (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ويعلن أنه مأمور بأن يكون من المسلمين. المسلمين كل ما فيهم له. لا شركة فيهم لسواه. وهم الرعيل الممتد في الزمن المتطاول من الموحدين المستسلمين.

هذا قوام دعوته. أما وسيلة هذه الدعوة فهي تلاوة القرآن :

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) ..

فالقرآن هو كتاب هذه الدعوة ودستورها ووسيلتها كذلك. وقد أمر أن يجاهد به الكفار. وفيه وحده الغناء في جهاد الأرواح والعقول. وفيه ما يأخذ على النفوس أقطارها ، وعلى المشاعر طرقها ؛ وفيه ما يزلزل القلوب الجاسية ويهزها هزا لا تبقى معه على قرار. وما شرع القتال بعد ذلك إلا لحماية المؤمنين من الفتنة ، وضمان حرية الدعوة بهذا القرآن ، والقيام على تنفيذ الشرائع بقوة السلطان. أما الدعوة ذاتها فحسبها كتابها .. (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) ..

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ. وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ..

وفي هذا تتمثل فردية التبعة في ميزان الله ، فيما يختص بالهدى والضلال. وفي فردية التبعة تتمثل كرامة هذا الإنسان ، التي يضمنها الإسلام ، فلا يساق سوق القطيع إلى الإيمان. إنما هي تلاوة القرآن ، وتركه يعمل عمله في النفوس ، وفق منهجه الدقيق العميق ، الذي يخاطب الفطرة في أعماقها ، وفق ناموسها المتسق مع منهج القرآن.

(وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ) مقدمة لما يتحدث عنه من صنع الله :

(سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) ..

وصدق الله. ففي كل يوم يري عباده بعض آياته في الأنفس والآفاق. ويكشف لهم عن بعض أسرار هذا الكون الحافل بالأسرار.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

وهكذا يلقي إليهم في الختام هذا الإيقاع الأخير ، في هذا التعبير الملفوف. اللطيف. المخيف .. ثم يدعهم يعملون ما يعملون ، وفي أنفسهم أثر الإيقاع العميق : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

* * *

(٢٨) سورة القصص مكيّة

وآياتها ثمان وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً

لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣)

هذه السورة مكية ، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة ، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان. نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم ، نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ،

هي قوة الله ؛ وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون ، هي قيمة الإيمان. فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ، ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة ، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ؛ ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله ، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا.

ومن ثم يقوم كيان السورة على قصة موسى وفرعون في البدء ، وقصة قارون مع قومه ـ قوم موسى ـ في الختام .. الأولى تعرض قوة الحكم والسلطان. قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر ؛ وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة ، ولا ملجأ له ولا وقاية. وقد علا فرعون في الأرض ، واتخذ أهلها شيعا ، واستضعف بني إسرائيل ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، وهو على حذر منهم ، وهو قابض على أعناقهم. ولكن قوة فرعون وجبروته ، وحذره ويقظته ، لا تغني عنه شيئا ؛ بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير ، المجرد من كل قوة وحيلة ، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية ، وتدفع عنه السوء ، وتعمي عنه العيون ، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا ، فتدفع به إلى حجره ، وتدخل به عليه عرينه ، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه ، مكفوف الأذى عنه ، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه!

والقصة الثانية تعرض قيمة المال ، ومعها قيمة العلم. المال الذي يستخف القوم وقد خرج عليهم قارون في زينته ، وهم يعلمون أنه أوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء. والعلم الذي يعتز به قارون ، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال. ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم خزائنه ، ولا تستخفهم زينته ؛ بل يتطلعون إلى ثواب الله ، ويعلمون أنه خير وأبقى. ثم تتدخل يد الله فتخسف به وبداره الأرض ، لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه ؛ وتتدخل تدخلا مباشرا سافرا كما تدخلت في أمر فرعون ، فألقته في اليم هو وجنوده فكان من المغرقين.

لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان ؛ ولقد بغى قارون عليهم واستطال بجبروت العلم والمال. وكانت النهاية واحدة ، هذا خسف به وبداره ، وذلك أخذه اليم هو وجنوده. ولم تكن هنالك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة. إنما تدخلت يد القدرة سافرة فوضعت حدا للبغي والفساد ، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.

ودلت هذه وتلك على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا ؛ ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال. عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية ، بلا ستار من الخلق ، ولا سبب من قوى الأرض ، لتضع حد للشر والفساد (١).

وبين القصتين يجول السياق مع المشركين جولات يبصرهم فيها بدلالة القصص ـ في سورة القصص ـ ويفتح

__________________

(١) سبق أن قلت في تفسير سورة طه في صفحة ٢٣٤٥ من الجزء السادس عشر :

إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة. فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستكانة وخوفا. فأما حين استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب ، وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج ، ودون تحرج ، ودون اتقاء التعذيب. فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة ، وإعلان النصر الذي ثم قبل ذلك في الأرواح والقلوب».

والذي قلته هنا أصح ، بشهادة سياق القصة في هذه السورة. وإن كان لما قلت في سورة طه مكانه بتغيير في العبارة. فإن يد القدرة تدخلت منذ أول الأمر لإدارة المعركة. ولكن النصر النهائي لم يتم تمامه إلا بعد استعلان الإيمان في القلوب الذين آمنوا بموسى بعد رسالته ، وجهروا بكلمة الحق في وجه الطغيان العاتي المتجبر.

أبصارهم على آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة ، وفي مصارع الغابرين تارة ، وفي مشاهد القيامة تارة .. وكلها تؤكد العبر المستفادة من القصص ، وتساوقها وتتناسق معها ؛ وتؤكد سنة الله التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان. وقد قال المشركون لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا). فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم ، لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم ، ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه.

فساق الله إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون ، تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ؛ وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار الله ، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس ؛ وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس! وساق لهم قصة قارون تقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى وتؤكدها.

وعقب على مقالتهم (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .. يذكرهم بأنه هو الذي آمنهم من الخوف فهو الذي جعل لهم هذا الحرم الآمن ؛ وهو الذي يديم عليهم أمنهم ، أو يسلبهم إياه ؛ ومضى ينذرهم عاقبة البطر وعدم الشكر : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ).

ويخوفهم عاقبة أمرهم بعد أن أعذر إليهم وأرسل فيهم رسولا. وقد مضت سنة الله من قبل بإهلاك المكذبين بعد مجيء النذير : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ).

ثم يعرض عليهم مشهدهم يوم القيامة حين يتخلى عنهم الشركاء على رؤوس الأشهاد ؛ فيبصرهم بعذاب الآخرة بعد أن حذرهم عذاب الدنيا ؛ وبعد أن علمهم أين يكون الخوف وأين يكون الأمان.

وتنتهي السورة بوعد من الله لرسوله الكريم وهو مخرج من مكة مطارد من المشركين بأن الذي فرض عليه القرآن لينهض بتكاليفه ، لا بد رادّه إلى بلده ، ناصره على الشرك وأهله. وقد أنعم عليه بالرسالة ولم يكن يتطلع إليها ؛ وسينعم عليه بالنصر والعودة إلى البلد الذي أخرجه منه المشركون. سيعود آمنا ظافرا مؤيدا. وفي قصص السورة ما يضمن هذا ويؤكده. فقد عاد موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى البلد الذي خرج منه خائفا طريدا. عاد فأخرج معه بني إسرائيل واستنقذهم ، وهلك فرعون وجنوده على أيدي موسى وقومه الناجين ..

ويختم هذا الوعد ويختم السورة معه بالإيقاع الأخير :

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

هذا هو موضوع السورة وجوها وظلالها العامة ، فلنأخذ في تفصيل أشواطها الأربعة : قصة موسى. والتعقيب عليها. وقصة قارون. وهذا الوعد الأخير ..

* * *

تبدأ السورة بالأحرف المقطعة :

«طا. سين. ميم .. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) ..

تبدأ السورة بهذه الأحرف للتنبيه إلى أنه من مثلها تتألف آيات الكتاب المبين ، البعيدة الرتبة ، المتباعدة المدى بالقياس لما يتألف عادة من هذه الأحرف ، في لغة البشر الفانين :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) ..

فهذا الكتاب المبين ليس إذن من عمل البشر ، وهم لا يستطيعونه ؛ إنما هو الوحي الذي يتلوه الله على عبده ، ويبدو فيه إعجاز صنعته ، كما يبدو فيه طابع الحق المميز لهذه الصنعة في الكبير والصغير :

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

فإلى القوم المؤمنين يوجه هذا الكتاب ؛ يربيهم به وينشئهم ويرسم لهم المنهاج ، ويشق لهم الطريق. وهذا القصص المتلو في السورة ، مقصود به أولئك المؤمنين ، وهم به ينتفعون.

وهذه التلاوة المباشرة من الله ، تلقي ظلال العناية والاهتمام بالمؤمنين ؛ وتشعرهم بقيمتهم العظيمة ومنزلتهم العالية الرفيعة. وكيف؟ والله ذو الجلال يتلو على رسوله الكتاب من أجلهم ، ولهم ؛ بصفتهم هذه التي تؤهلهم لتلك العناية الكريمة : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ. نبأ موسى وفرعون. يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة ـ حلقة ميلاده ـ ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها. ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى ، والظروف القاسية التي ولد فيها ؛ وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون .. ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي ؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر ؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عند ما يعجز عن ضربها البشر ؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ؛ وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية. وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ؛ وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه.

ولقد كانت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة ـ لا من حلقة الميلاد ـ حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي ؛ ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية. فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود ؛ إنما المقصود أن الشرّ حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم ، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم ، وتربيهم ، وتجعلهم أئمة ، وتجعلهم الوارثين.

فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة ؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه ، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض. فهي أداة تربية للنفوس ، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ. وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه ، وتتعاون في بناء القلوب ، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب.

والحلقات المعروضة من القصة هنا هي : حلقة مولد موسى ـ عليه‌السلام ـ وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها ، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته. وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم ، وما وقع فيها من قتل القبطي ، وتآمر فرعون وملئه عليه ، وهربه من مصر إلى أرض مدين ، وزواجه فيها ، وقضاء سنوات الخدمة بها. وحلقة النداء والتكليف بالرسالة. ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون. والعاقبة الأخيرة ـ الغرق ـ مختصرة سريعة.

ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية ـ وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة ـ لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي. وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

وعلى طريقة القرآن في عرض القصة ، قسمها إلى مشاهد ؛ وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال ، فلا يفوت القارئ شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد ، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية.

وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد. والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد. وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة. وبين كل مشهد ومشهد ، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد.

وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث ، والظرف الذي يجري فيه القصص ، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث ، والتي من أجلها يسوق هذا القصص .. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة. تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ..

وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث ، وتنكشف اليد التي تجريها. وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها. وانكشاف هذه اليد ، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها ، متمش مع أبرز هدف لها. ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء. وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب.

ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده ، فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ؛ ولا يزيد في دلالتها شيئا. ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف ـ عليه‌السلام ـ الذي استقدم أباه وإخوته. وأبوه يعقوب هو «إسرائيل» وهؤلاء كانوا ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا.

فلما كان ذلك الفرعون الطاغية (عَلا فِي الْأَرْضِ) وتكبر وتجبر ، وجعل أهل مصر شيعا ، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل ، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف ، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا.

وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف ، فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب ، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته ، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال ، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم ، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث ، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب.

وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل ، ليبادر بذبح الذكور ، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة ، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة.

هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ عند ولادته ، كما وردت في هذه السورة :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ..

ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ؛ ويقدر غير ما يقدر الطاغية. والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم ، فينسون إرادة الله وتقديره ؛ ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون ، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون. ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون.

والله يعلن هنا إرادته هو ، ويكشف عن تقديره هو ؛ ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما ، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير ، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه ؛ فيبث عليهم العيون والأرصاد ، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد ؛ وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدا ولا تابعين ؛ وأن يورثهم الأرض المباركة (التي أعطاهم إياها عند ما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح) وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين. وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما ، وما يتخذون الحيطة دونه ، وهم لا يشعرون! هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها. يعلن واقع الحال ، وما هو مقدر في المآل. ليقف القوتين وجها لوجه : قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير. وقوة الله الحقيقة الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس!

ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها. والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها ، وما ستنتهي إليه ، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها.

ومن ثم تنبض القصة بالحياة ؛ وكأنها تعرض لأول مرة ، على أنها رواية معروضة الفصول ، لا حكاية غبرت في التاريخ. هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام.

* * *

ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار :

لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ؛ ولد والخطر محدق به ، والموت يتلفت عليه ، والشفرة مشرعة على عنقه ، تهم أن تحتز رأسه ..

وها هي ذي أمه حائرة به ، خائفة عليه ، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين ، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة ، عاجزة عن حمايته ، عاجزة عن إخفائه ، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة .. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة.

هنا تتدخل يد القدرة ، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة ، وتلقي في روعها كيف تعمل ، وتوحي إليها بالتصرف :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) ..

يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك ، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)!!

(وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) إنه هنا .. في اليم .. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها ، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردا وسلاما ، وتجعل البحر ملجأ ومناما. اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.

(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) .. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده .. (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. وتلك بشارة الغد ، ووعد الله أصدق القائلين.

هذا هو المشهد الأول في القصة. مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح. وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما. ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى ، ولا كيف نفذته. إنما يسدل الستار عليها ، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني :

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) ..

أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟

وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟

نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفا على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر .. فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر. وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة ، عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر ، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل ، وفي أحضان نسائهم الوالدات!

ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية :

(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).

ليكون لهم عدوا يتحداهم وحزنا يدخل الهم على قلوبهم :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) ..

ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم ، مجردا من كل قوة ، مجردا من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب :

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ : قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ ، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ؛ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته ، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة. ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره .. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ..

وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم ـ فيما عدا المرأة ـ عدوا وحزنا! (لا تَقْتُلُوهُ) ..

وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده!

(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ..

وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا!

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!

وينتهي المشهد الثاني ويسدل الستار عليه إلى حين.

ذلك شأن موسى. فما بال أمه الوالهة وقلبها الملهوف؟

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ. لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ) ..

لقد سمعت الإيحاء ، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وما ذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها : كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟

والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية : (فارِغاً) .. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف!

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) .. وتذيع أمرها في الناس ، وتهتف كالمجنونة : أنا أضعته. أنا أضعت طفلى. أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب!

(لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) .. وشددنا عليه وثبتناها ، وأمسكنا بها من الهيام والشرود.

(لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .. المؤمنين بوعد الله ، الصابرين على ابتلائه ، السائرين على هداه.

ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة!

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ) .. اتبعي أثره ، واعرفي خبره ، إن كان حيا ، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر .. أو أين مقره ومرساه؟

وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية ، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه ؛ وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع :

(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ. فَقالَتْ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟) ..

إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره ، وتكيد به لفرعون وآله ؛ فتجعلهم يلتقطونه ، وتجعلهم يحبونه ، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه ، وتحرم عليه المراضع ، لتدعهم يحتارون به ؛ وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه ، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد ، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع ، فتقول لهم : «هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون»؟ فيتلقفون كلماتها ، وهم يستبشرون ، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!

وينتهي المشهد الرابع ؛ فنجدنا أمام المشهد الخامس والأخير في هذه الحلقة. وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه ، مرموقا في مكانته ، يحميه فرعون ، وترعاه امرأته ، وتضطرب المخاوف من حوله

وهو آمن قرير. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ ، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

* * *

ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى ـ عليه‌السلام ـ والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله. فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته ، وهو الذي يصنع على عين الله ، ويعد لوظيفته ، في وسط عباد فرعون وكهنته ..

يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى ، فقد آتاه الله الحكمة والعلم ، وجزاه جزاء المحسنين :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ..

وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية. والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي. وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين. فهل ظل موسى في قصر فرعون ، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما ، واعتزل القصر ، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى ـ عليه‌السلام ـ؟ وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرّفته من هو ومن قومه وما ديانته. وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع ، والبغي اللئيم ؛ وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم.

ليس لدينا من دليل. ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيء ؛ والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم :

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ : هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ؛ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ؛ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. قالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ لَهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قالَ : رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ..

ودخل المدينة .. والمفهوم أنها العاصمة وقتئذ .. فمن أي مكان جاء فدخلها؟ وهل كان من القصر في عين شمس؟ أم إنه كان قد اعتزل القصر والعاصمة ، ثم دخل إليها على حين غفلة من أهلها ، في وقت الظهيرة مثلا حين تغفو العيون؟

لقد دخل المدينة على كل حال (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ. هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ. فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ..

وقد كان أحدهما قبطيا ـ يقال إنه من حاشية فرعون ، ويقال إنه طباخ القصر. والآخر إسرائيلي. وكانا يقتتلان. فاستغاث الإسرائيلي بموسى مستنجدا به على عدوهما القبطي. فكيف وقع هذا؟ كيف استغاث الإسرائيلي بموسى ربيب فرعون على رجل من رجال فرعون؟ إن هذا لا يقع إذا كان موسى لا يزال في القصر ، متبنى ، أو من الحاشية. إنما يقع إذا كان الإسرائيلي على ثقة من أن موسى لم يعد متصلا بالقصر ، وأنه قد عرف

أنه من بني إسرائيل. وأنه ناقم على الملك والحاشية ، منتصر لقومه المضطهدين. وهذا هو الأنسب لمن في مقام موسى ـ عليه‌السلام ـ فإنه بعيد الاحتمال أن تطيق نفسه البقاء في مستنقع الشر والفساد ..

(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) ..

والوكز الضرب بجمع اليد. والمفهوم من التعبير أنها وكزة واحدة كان فيها حتف القبطي. مما يشي بقوة موسى وفتوته ، ويصور كذلك انفعاله وغضبه ؛ ويعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون ومن يتصل به.

ولكن يبدو من السياق أنه لم يكن يقصد قتل القبطي ، ولم يعمد إلى القضاء عليه. فما كاد يراه جثة هامدة بين يديه حتى استرجع وندم على فعلته ، وعزاها إلى الشيطان وغوايته ؛ فقد كانت من الغضب ، والغضب شيطان ، أو نفخ من الشيطان :

(قالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ..

ثم استطرد في فزع مما دفعه إليه الغضب ، يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر ، ويتوجه إلى ربه ، طالبا مغفرته وعفوه :

(قالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ..

واستجاب الله إلى ضراعته ، وحساسيته ، واستغفاره :

(فَغَفَرَ لَهُ. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..

وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه ، أن ربه غفر له. والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء ، فور الدعاء ، حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوي ؛ وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد .. وارتعش وجدان موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو يستشعر الاستجابة من ربه ، فإذا هو يقطع على نفسه عهدا ، يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه :

(قالَ : رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ..

فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا ومعينا. وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها. حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ ، ومرارة الظلم والبغي.

ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه ؛ ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل.

وهذه الارتعاشة العنيفة ، وقبلها الاندفاع العنيف ، تصور لنا شخصية موسى ـ عليه‌السلام ـ شخصية انفعالية ، حارة الوجدان ، قوية الاندفاع. وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة.

بل نحن نلتقي بها في المشهد الثاني في هذه الحلقة مباشرة :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ؛ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ، قالَ لَهُ مُوسى : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ : يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ..

لقد انتهت المعركة الأولى بالقضاء على القبطي ، وندم موسى على فعلته ، وتوجهه إلى ربه ، واستغفاره إياه ، ومغفرته له ، وعهده على نفسه ألا يكون ظهيرا للمجرمين.

ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره ، يترقب الافتضاح والأذى. ولفظ (يَتَرَقَّبُ) يصور

هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس ، ويتوقع الشر في كل لحظة .. وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك. والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ ، كما أنه يضخمها بكلمتي «في المدينة» فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة ، فإذا كان خائفا يترقب في المدينة ، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر! وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر. وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره.

وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع : (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ)!

إنه صاحبه الإسرائيلي الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي. إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر ؛ وهو يستصرخ موسى لينصره ؛ ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى!

ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى. وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه. ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى. فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه ، ويصفه بالغواية والضلال :

(قالَ لَهُ مُوسى : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ..

غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل. وهم عن الثورة الكاملة عاجزون ، وعن الحركة المثمرة ضعفاء. فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد.

ولكن الذي حدث أن موسى ـ بعد ذلك ـ انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي ، فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس! ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها ، ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى ـ عليه‌السلام ـ بالغيظ من الظلم ، والنقمة على البغي ، والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل ، والتوفز لرد العدوان الطاغي ، الطويل الأمد ، الذي يحتفر في القلب البشري مسارب من الغيظ وأخاديد.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ، قالَ : يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ..

وإنه ليقع حينما يشتد الظلم ، ويفسد المجتمع ، وتختل الموازين ، ويخيم الظلام ، أن تضيق النفس الطيبة بالظلم الذي يشكل الأوضاع والقوانين والعرف ؛ ويفسد الفطرة العامة حتى ليرى الناس الظلم فلا يثورون عليه ، ويرون البغي فلا تجيش نفوسهم لدفعه ؛ بل يقع أن يصل فساد الفطرة إلى حد إنكار الناس على المظلوم أن يدفع عن نفسه ويقاوم ؛ ويسمون من يدفع عن نفسه أو غيره (جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) كما قال القبطي لموسى. ذلك أنهم ألفوا رؤية الطغيان يبطش وهم لا يتحركون ، حتى وهموا أن هذا هو الأصل ، وأن هذا هو الفضل ، وأن هذا هو الأدب ، وأن هذا هو الخلق! وأن هذا هو الصلاح! فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم عن نفسه ، فيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها .. إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا ، وسمّوا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا أو جبارا ، وصبوا عليه لومهم ونقمتهم. ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلا القليل! ولم يجدوا للمظلوم عذرا ـ حتى على فرض تهوره ـ من ضيقه بالظلم الثقيل!

ولقد طال الظلم ببني إسرائيل ، فضاقت به نفس موسى ـ عليه‌السلام ـ حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى

ويندم ، ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله ، ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه.

لذلك لم يتخل الله عنه ، بل رعاه ، واستجاب له ، فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال. وأن الظلم حين يشتد ، وتغلق أبواب النصفة ، يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام. فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى ، كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق.

وهذه هي العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين وما تلاهما ، فهو لا يبرر الفعلة ولكنه كذلك لا يضخمها. ولعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية. وهو المختار ليكون رسول الله ، المصنوع على عين الله .. أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان ؛ والله يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها ، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع. كما كف الله المسلمين في مكة عن الاشتباك حتى جاء الأوان.

ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس ، وأن شبهات تطايرت حول موسى. لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه ، إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه ، ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل.

نرجح هذا لأن قتل موسى لأحد رجال فرعون في معركة بينه وبين إسرائيلي في مثل هذه الظروف يعد حدثا مريحا لنفوس بني إسرائيل ، يشفى بعض غيظهم ، فيشيع عادة وتتناقله الألسنة في همس وفرح وتشف ، حتى يفشو ويتطاير هنا وهناك ، وبخاصة إذا عرف عن موسى من قبل نفرته من البغي ، وانتصاره للمظلومين.

فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة ، لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة ، وهو يراه يهم أن يبطش به ، وقال له تلك المقالة : «أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟».

أما بقية عبارته : «إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين» .. فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح ، لا يحب البغي والتجبر. فهذا القبطي يذكره بهذا ويورّي به ؛ ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه. يريد أن يكون جبارا لا مصلحا ، يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين ، وتهدئة ثائرة الشر. وطريقة خطابه له وموضوع خطابه ، كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون. وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة ، ولما كان هذا موضوع خطابه.

ولقد قال بعض المفسرين : إن هذا القول كان من الإسرائيلي لا من القبطي ، لأنه لما قال له موسى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ، ثم تقدم نحوه وهو غاضب ليبطش بالذي هو عدولهما ، حسب الإسرائيلي أنه غاضب عليه هو ، وأنه يتقدم ليبطش به هو ، فقال مقالته ، وأذاع بالسر الذي يعرفه وحده .. وإنما حملهم على هذا القول أن ذلك السر كان مجهولا عند المصريين.

ولكن الأقرب أن يكون القبطي هو الذي قال ما قال. وقد عللنا شيوع ذلك السر. وأنها قد تكون فراسة أو حدسا من المصري بمساعدة الظروف المحيطة بالموضوع (١).

والظاهر أن موسى لم يقدم بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس ، وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم

__________________

(١) جريت على الرأي الأول في كتاب التصوير الفني في القرآن ولكني إلى هذا الرأي الأخير أميل الآن.

فرعون أن موسى هو صاحبها. فهنا فجوة في السياق بعد المشهد السابق. ثم إذا مشهد جديد. رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة ، يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به ، وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى. قالَ : يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ. فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ..

إنها يد القدرة تسفر في اللحظة المطلوبة ، لتتم مشيئتها!

لقد عرف الملأ من قوم فرعون ، وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى. وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر. فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد ، والانتصار لبني إسرائيل. وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر. ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء. فانتدبت يد القدرة واحدا من الملأ. الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه ، والذي جاء ذكره في سورة (غافر) (١) انتدبته ليسعى إلى موسى (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) في جد واهتمام ومسارعة ، ليبلغه قبل أن يبلغه رجال الملك : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ..

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ. قالَ : رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

ومرة أخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية. التوفز والتلفت. ونلمح معها ، التوجه المباشر بالطلب إلى الله ، والتطلع إلى حمايته ورعايته ، والالتجاء إلى حماه في المخافة ، وترقب الأمن عنده والنجاة : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة ، خائفا يترقب ، وحيدا فريدا ، غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه ؛ والتوجه إليه طالبا عونه وهداه :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ : عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ..

ونلمح شخصية موسى ـ عليه‌السلام ـ فريدا وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة ، وأبعاد مترامية ، لا زاد ولا استعداد ، فقد خرج من المدينة خائفا يترقب ، وخرج منزعجا بنذارة الرجل الناصح ، لم يتلبث ، ولم يتزود ولم يتخذ دليلا. ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه ، مستسلمة له ، متطلعة إلى هداه : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ..

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه‌السلام ـ في قلب المخافة ، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية والطراءة والنعمى. ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا ، يطارده فرعون وجنده ، ويبحثون عنه في كل مكان ، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلا. ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا ، ولا تسلمه لأعدائه أبدا. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل ، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء :

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ. قالَ : ما خَطْبُكُما؟ قالَتا : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ، فَقالَ : رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ..

لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة ، السليمة الفطرة ، كنفس موسى ـ عليه‌السلام ـ وجد الرعاة الرجال يوردون

__________________

(١) «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» الآية (٢٨).

أنعامهم لتشرب من الماء ؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة ، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا ، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما.

ولم يقعد موسى الهارب المطارد ، المسافر المكدود ، ليستريح ، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :

(قالَ : ما خَطْبُكُما؟).

(قالَتا : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ..

فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف ، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال! وثارت نخوة موسى ـ عليه‌السلام ـ وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين أولا ، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة. وهو غريب في أرض لا يعرفها ، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد ، من خلفه اعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف ، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس :

(فَسَقى لَهُما) ..

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله. كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب.

(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ..

مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر ، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر.

(فَقالَ : رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ..

إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه ، ويأوى إلى الظل العريض الممدود. ظل الله الكريم المنان. بروحه وقلبه : «رب. إني لما أنزلت إلي من خير فقير». رب إني في الهاجرة. رب إني فقير. رب إني وحيد. رب إني ضعيف. رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.

ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن ، والركن الركين ، والظل الظليل. نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي ، والانعطاف الرفيق ، والاتصال العميق : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ..

وما نكاد نستغرق مع موسى ـ عليه‌السلام ـ في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج ، معقبا في التعبير بالفاء ، كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ. قالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) ..

يا فرج الله : ويا لقربه ويا لنداه! إنها دعوة الشيخ الكبير استجابة من السماء لدعوة موسى الفقير. دعوة للإيواء والكرامة والجزاء على الإحسان. دعوة تحملها : (إِحْداهُما) وقد جاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. (عَلَى اسْتِحْياءٍ). في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله ، يحكيه القرآن بقوله : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ

لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا). فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح ؛ لا التلجلج والتعثر والربكة. وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة. فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم ، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب. الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج ؛ إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب ، ولا تزيد.

وينهي السياق هذا المشهد فلا يزيد عليه ، ولا يفسح المجال لغير الدعوة من الفتاة ، والاستجابة من موسى. ثم إذا مشهد اللقاء بينه وبين الشيخ الكبير. الذي لم ينص على اسمه. وقيل : إنه ابن أخي شعيب النبي المعروف. وإن اسمه يثرون (١).

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ، قالَ : لا تَخَفْ. نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن ؛ كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور : (لا تَخَفْ) فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة ، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل : (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا سلطان لهم على مدين ، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.

ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة :

(قالَتْ إِحْداهُما : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء ، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله ؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت ؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى. والمرأة العفيفة الروح ، النظيفة القلب ، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة.

وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوى أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. وهو غريب. والغريب ضعيف مهما اشتد. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته. فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل ، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه. وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب ، ولا تخشى سوء الظن والتهمة. فهي بريئة النفس ، نظيفة الحس ؛ ومن ثم لا تخشى شيئا ، ولا تتمم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها.

ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى. كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه ـ فيما قالوا ـ إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى ، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين ، أو سقى لهما مع الرعاء.

__________________

(١) سبق أن قلت مرة في الظلال : إن هذا الرجل هو شعيب. وقلت مرة : إنه قد يكون النبي شعيبا أو لا يكون .. وأنا الآن أميل إلى ترجيح أنه ليس هو وإنما هو شيخ آخر من مدين. والذي يحمل على هذا الترجيح أن هذا الرجل شيخ كبير. وشعيب شهد مهلك قومه ، المكذبين له ، ولم يبق معه إلا المؤمنون به. فلو كان هو شعيب ـ النبي ـ بين بقية قومه المؤمنين ، ما سقوا قبل بنتي نبيهم الشيخ الكبير. فليس هذا سلوك قوم مؤمنين ، ولا معاملتهم لنبيهم وبناته من أول جيل!

يضاف إلى هذا أن القرآن لم يذكر شيئا عن تعليمه لموسى صهره. ولو كان شعيبا النبي لسمعنا صوت النبوة في شيء من هذا مع موسى وقد عاش معه عشر سنوات.

ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة : امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها. أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها .. فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى ـ عليه‌السلام ـ عفيف النظر نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع! واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة ، وميلا فطريا سليما ، صالحا لبناء أسرة. والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله. فجمع الرجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين. فإن زادها إلى عشر فهو تفضل منه لا يلزم به.

(قالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ، عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد ـ ولعله كان يشعر كما أسلفنا ـ أنها محددة ، وهي التي وقع التجاوب والثقة بين قلبها وقلب الفتى. عرضها في غير تحرج ولا التواء. فهو يعرض نكاحا لا يخجل منه. يعرض بناء أسرة وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل ، ولا ما يدعوا إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد ، والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة ، وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة ، تمنع الوالد أو ولي الأمر من التقدم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته ؛ وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم ، أو لا يليق أن يجيء العرض من الجانب الذي فيه المرأة! ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أن الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدثون ويختلطون ويتكشفون بعضهم لبعض في غير ما خطبة ولا نية نكاح. فأما حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح ، فيهبط الخجل المصطنع ، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة!

ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو من يرغب في تزويجهن منهم. كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل ، لا تخدش معه كرامة ولا حياء .. عرض عمر ـ رضي الله عنه ـ ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر ، فلما أخبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا طيب خاطره ، عسى أن يجعل الله لها نصيبا فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعرضت امرأة نفسها على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلا لا يملك إلا سورتين من القرآن ، علمها إياهما فكان هذا صداقها.

وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير ما تلعثم ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء.

وهكذا صنع الشيخ الكبير ـ صاحب موسى ـ فعرض على موسى ذلك العرض واعدا إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل ؛ راجيا بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه. وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه ، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك ، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.

وقبل موسى العرض وأمضى العقد ؛ في وضوح كذلك ودقة ، وأشهد الله :

(قالَ : ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ. وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها ، ولا اللعثمة ، ولا الحياء. ومن ثم يقر موسى العرض ، ويبرم العقد ، على ما عرض الشيخ من الشروط. ثم يقرر هذا ويوضحه : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) .. سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا ، فلا عدوان في تكاليف العمل ، ولا عدوان في تحتيم العشر ؛ فالزيادة على الثمانية اختيار .. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلا.

بين موسى ـ عليه‌السلام ـ هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته ، ووضوح شخصيته ، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان. وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل. فقد روي أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر أنه : «قضى أكثرهما وأطيبهما» (١).

وهكذا اطمأن بموسى ـ عليه‌السلام ـ المقام في بيت حميه ؛ وقد أمن من فرعون وكيده. ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان .. فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي. فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار ..

* * *

وتمضي السنوات العشر التي تعاقد عليها موسى ـ عليه‌السلام ـ لا يذكر عنها شيء في سياق السورة ، ثم تعرض الحلقة الثالثة بعد ما قضى موسى الأجل وسار بأهله ، عائدا من مدين إلى مصر ، يسلك إليها الطريق الذي سلكه منذ عشر سنوات وحيدا طريدا. ولكن جو العودة غير جو الرحلة الأولى .. إنه عائد ليتلقى في الطريق ما لم يخطر له على بال. ليناديه ربه ويكلمه ، ويكلفه النهوض بالمهمة التي من أجلها وقاه ورعاه ، وعلمه ورباه. مهمة الرسالة إلى فرعون وملئه ، ليطلق له بني إسرائيل يعبدون ربهم لا يشركون به أحدا ؛ ويرثون الأرض التي وعدهم ليمكن لهم فيها ؛ ثم ليكون لفرعون وهامان وجنودهما عدوا وحزنا ، ولتكون نهايتهم على يديه كما وعد الله حقا :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ، قالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا ، إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ : أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ؛ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ، يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ، إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. قالَ : رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. قالَ : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ..

وقبل أن نستعرض هذين المشهدين في هذه الحلقة نقف قليلا أمام تدبير الله لموسى ـ عليه‌السلام ـ في هذه السنوات العشر ، وفي هذه الرحلة ذهابا وجيئة ، في هذا الطريق ..

لقد نقلت يد القدرة خطى موسى ـ عليه‌السلام ـ خطوة خطوة. منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه

__________________

(١) أخرجه البخاري.

الحلقة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا. وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف ..

هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه ، ومن التلقي والتجريب ، قبل النداء وقبل التكليف .. تجربة الرعاية والحب والتدليل. وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس ، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة والفزع. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة ، والمشاعر المتباينة ، والخوالج والخواطر ، والإدراك والمعرفة .. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.

إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات ؛ يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي ، إلى جانب هبة الله اللدنية ، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.

ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر ـ عدا رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر ، أعتى ملوك الأرض في زمانه ، وأقدمهم عرشا ، وأثبتهم ملكا ، وأعرقهم حضارة ، وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض.

وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه ، فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ؛ ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.

وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة ؛ انحرفوا عنها ، وفسدت صورتها في قلوبهم. فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ؛ ولا هي باقية على عقيدتها القديمة. ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة. والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا.

وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة ، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا ، له حياة خاصة ، تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير.

ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة ، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة ، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.

فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى ـ عليه‌السلام ـ وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة.

إن لحياة القصور جوا خاصا ، وتقاليد خاصة ، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية. والرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير ، والواجد والمحروم ، وفيهم النظيف والوسخ ، والمهذب والخشن ؛ وفيهم الطيب والخبيث والخير والشرير. وفيهم القوي والضعيف ، والصابر والجزوع .. وفيهم وفيهم .. وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم ، وطريقة فهمهم للأمور ، وطريقة تصورهم للحياة ، وطريقة حديثهم وحركتهم ، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم .. وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين ومشاعر الذين تربوا في القصور ؛ ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها ، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدة للصلاح ، لأن مظهرهم وطبيعة

عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور!

وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا .. وقلوب أهل القصور ـ مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة ـ لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.

فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى ـ عليه‌السلام ـ أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة ؛ وأن تزج به في مجتمع الرعاة ، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى ، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء ، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم ؛ وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم. وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا ، ليمون على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها ..

فلما أن استكملت نفس موسى ـ عليه‌السلام ـ تجاربها ، وأكملت مرانتها ودربتها ، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة ، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه ، ومقر أهله وقومه ، ومجال رسالته وعمله ، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه ، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته ، حتى لا يعتمد على غيره ولو في زيادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة ، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير ؛ حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.

وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله ، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى ، في طريقه إلى هذا التكليف.

* * *

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً. قالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ..

ترى أي خاطر راود موسى ، فعاد به إلى مصر ، بعد انقضاء الأجل ، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها ، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟

إنها اليد التي تنقل خطاه كلها ، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة ، وإلى الوطن والبيئة ، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى.

على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه ، ومعه أهله ، والوقت ليل ، والجو ظلمة ؛ وقد ضل الطريق ، والليلة شاتية ، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها ، ليأتي منها بخبر أو جذوة .. هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة.

فأما المشهد الثاني فهو المفاجأة الكبرى :

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) ..

فها هو ذا يقصد إلى النار التي آنسها ، وها هو ذا في شاطئ الوادي إلى جوار جبل الطور ، الوادي إلى يمينه ، (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) .. المباركة ، منذ هذه اللحظة .. ثم هذا هو الكون كله تتجاوب جنباته بالنداء العلوي الآتي لموسى (مِنَ الشَّجَرَةِ) ولعلها كانت الوحيدة في هذا المكان :

(أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) :

وتلقى موسى النداء المباشر. تلقاه وحيدا في ذلك الوادي العميق ، في ذلك الليل الساكن. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله ، وتمتلئ به السماوات والأرضون. تلقاه لا ندري كيف وبأية جارحة وعن أي طريق. تلقاه ملء الكون من حوله ، وملء كيانه كله. تلقاه وأطاق تلقيه لأنه صنع على عين الله حتى تهيأ لهذه اللحظة الكبرى.

وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي ؛ وبوركت البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال ؛ وتميز الوادي الذي كرّم بهذا التجلي ، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان.

واستطرد النداء العلوي يلقي إلى عبده التكليف :

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ..

وألقى موسى عصاه إطاعة لأمر مولاه ؛ ولكن ماذا؟ إنها لم تعد عصاه التي صاحبها طويلا ، والتي يعرفها معرفة اليقين. إنها حية تدب في سرعة ، وتتحرك في خفة ، وتتلوى كصغار الحيات وهي حية كبرى :

(فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ..

إنها المفاجأة التي لم يستعد لها ؛ مع الطبيعة الانفعالية ، التي تأخذها الوهلة الأولى .. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يفكر في العودة إليها ليتبين ما ذا بها ؛ وليتأمل هذه العجيبة الضخمة. وهذه هي سمة الانفعالين البارزة تتجلى في موعدها!

ثم يستمع إلى ربه الأعلى :

(يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ..

إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعا على هذه النفس ، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعا. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها ؛ وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس ، مقدر في هذه الحياة ، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل ، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطويل. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.

(أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ..

وكيف لا يأمن من تنقل يد القدرة خطاه ، ومن ترعاه عين الله؟

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ..

وأطاع موسى الأمر ، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها. فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة. إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض ، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل.

وأدركت موسى طبيعته. فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة. ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة. ذلك أن يضم يده على قلبه ، فتخفض من دقاته ، وتطامن من خفقاته :

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ).

وكأنما يده جناح يقبضه على صدره ، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه. والرفرفة أشبه بالخفقان ، والقبض أشبه بالاطمئنان. والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن.

والآن وقد تلقى موسى ما تلقى ، وقد شاهد كذلك ما شاهد ، وقد رأى الآيتين الخارقتين ، وقد ارتجف لهما ثم اطمأن .. الآن يعرف ما وراء الآيات ، والآن يتلقى التكليف الذي كان يعد من طفولته الباكرة ليتلقاه ..

(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ..

وإذن فهي الرسالة إلى فرعون وملئه. وإذن فهو الوعد الذي تلقته أم موسى وهو طفل رضيع : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. الوعد اليقين الذي انقضت عليه السنون. وعد الله لا يخلف الله وعده وهو أصدق القائلين.

هنا يتذكر موسى أنه قتل منهم نفسا ، وأنه خرج من بينهم طريدا ، وأنهم تآمروا على قتله فهرب منهم بعيدا. وهو في حضرة ربه. وربه يكرمه بلقائه ، ويكرمه بنجائه ، ويكرمه بآياته ، ويكرمه برعايته ، فما له لا يحتاط لدعوته خيفة أن يقتل فتنقطع رسالته :

(قالَ : رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) ..

يقولها لا ليعتذر ، ولا ليتقاعس ، ولا لينكص ؛ ولكن ليحتاط للدعوة ، ويطمئن إلى مضيها في طريقها ، لو لقي ما يخاف. وهو الحرص اللائق بموسى القوي الأمين :

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ).

إن هارون أفصح لسانا فهو أقدر على المنافحة عن الدعوة. وهو ردء له معين ، يقوي دعواه ، ويخلفه إن قتلوه.

وهنا يتلقى موسى الاستجابة والتطمين :

(قالَ : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ..

لقد استجاب ربه رجاءه ؛ وشد عضده بأخيه. وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) .. فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار. إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان ؛ ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار : (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) .. وحولكما من سلطان الله سياج ، ولكما منه حصن وملاذ.

ولا تقف البشارة عند هذا الحد. ولكنها الغلبة للحق. الغلبة لآيات الله التي يجبهان بها الطغاة. فإذا هي وحدها السلاح والقوة ، وأداة النصر والغلبة : (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).

فالقدرة تتجلى سافرة على مسرح الحوادث ؛ وتؤدي دورها مكشوفا بلا ستار من قوى الأرض ، لتكون الغلبة بغير الأسباب التي تعارف عليها الناس ، في دنيا الناس ، وليقوم في النفوس ميزان جديد للقوى والقيم. إيمان وثقة بالله ، وما بعد ذلك فعلى الله.

* * *

وينتهي هذا المشهد الرائع الجليل ؛ ويطوى الزمان ويطوى المكان ، فإذا موسى وهارون في مواجهة فرعون ، بآيات الله البينات ؛ وإذا الحوار بين الهدى والضلال ؛ وإذا النهاية الحاسمة في هذه الدنيا بالغرق ، وفي الحياة الأخرى باللعنة. في سرعة واختصار :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. وَقالَ مُوسى : رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ :

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ؛ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ..

إن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية ؛ ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال. يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك. ثم لا يقف عند الأخذ في الدنيا ، بل يتابع الرحلة إلى الآخرة .. وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود ، متناسق مع اتجاه القصة في السورة : وهو تدخل يد القدرة بلا ستار من البشر ، فما إن يواجه موسى فرعون حتى يعجل الله بالعاقبة ، وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة ، بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ..

وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مكة يومذاك .. (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) .. فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه. المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب. إنهم يدعون أنه سحر ، ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم ، لم يسمعوا به في آبائهم الأولين!

وهم لا يناقشون بحجة ، ولا يدلون ببرهان ، إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولا يبطل باطلا ولا يدفع دعوى. فأما موسى ـ عليه‌السلام ـ فيحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله. فما أدلوا بحجة ليناقشها ، ولا طلبوا دليلا فيعطيهم ، إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان ، فالاختصار أولى والإعراض أكرم ، وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله :

(وَقالَ مُوسى : رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

وهو رد مؤدب مهذب ، يلمح فيه ولا يصرح. وفي الوقت ذاته ناصع واضح ، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل. فربه أعلم بصدقه وهداه ، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى ، والظالمون في النهاية لا يفلحون. سنة الله التي لا تتبدل. وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الاتجاه. سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه.

وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا ، ولعبا ومداورة ، وتهكما وسخرية :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) ..

يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى .. كلمة فاجرة كافرة ، يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم. ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة. ثم على القهر ، الذي لا يدع لرأس أن يفكر ، ولا للسان أن يعبر. وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت ، ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب!

ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة ، والبحث عن إله موسى ، وهو يلهو ويسخر : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) .. في السماء كما يقول! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى ، ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ)!

وفي هذا الموضع كانت حلقة المباراة مع السحرة. وهي محذوفة هنا للتعجيل بالنهاية :

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) ..

فلما توهموا عدم الرجعة إلى الله استكبروا في الأرض بغير الحق ، وكذبوا بالآيات والنذر (التي جاء ذكرها في مطلع هذه الحلقة ، ووردت بالتفصيل في سور أخرى).

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ).

هكذا في اختصار حاسم. أخذ شديد ونبذ في اليم. نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر. اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع ، فكان مأمنا وملجأ. وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة. فالأمن إنما يكون في جناب الله ، والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ..

فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين. وفيها عبرة للمعتبرين ، ونذير للمكذبين. وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر ، وفي أقل من نصف سطر!

وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ؛ ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب .. يدعون إلى النار ، ويقودون إليها الأتباع والأنصار :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ..

فيا بئساها دعوة! ويا بئساها إمامة!

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) ..

فهي الهزيمة في الدنيا ، وهي الهزيمة في الآخرة ، جزاء البغي والاستطالة. وليست الهزيمة وحدها ، إنما هي اللعنة في هذه الأرض ، والتقبيح في يوم القيامة :

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ).

ولفظة (الْمَقْبُوحِينَ) ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع ، وجو التفزز والاشمئزاز. ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض ، وفتنة الناس بالمظهر والجاه ، والتطاول على الله وعلى عباد الله.

* * *

ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر ، وما حدث خلالها من أحداث ، ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى ، بَصائِرَ لِلنَّاسِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

هذا نصيب موسى. وهو نصيب عظيم. وهذه عاقبة موسى. وهي عاقبة كريمة .. كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون ، (وَهُدىً وَرَحْمَةً) .. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .. يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين ، فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير ، وتختم للمظلومين بالخير والتمكين.

* * *

وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة. شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله. وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله. ذلك إلى تدخل يد القدرة سافرة متحدية للطغيان والطغاة ، حين تصبح القوة فتنة

يعجز عن صدها الهداة. وهي المعاني التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في مكة في حاجة إلى الاطمئنان إليها. وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى تدبرها. وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى ، وحيثما كان طغيان يقف في وجه الهدى.

وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس ، وتقرير لحقائق وسنن في الوجود (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ

آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥)

مضت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي. فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها ؛ ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل ، يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ؛ ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير. يجول معهم جولات

شتى في مشاهد الكون ، وفي مشاهد الحشر ، وفيما هم فيه من الأمر ؛ بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود. وهو رحمة لهم من العذاب ، لو أنهم كانوا يتذكرون.

* * *

والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي. فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان ؛ وما كان حاضر أحداثها ، ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير ، رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك ، (فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ؛ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ؛ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى! أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا : سِحْرانِ : تَظاهَرا. وَقالُوا : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ. قُلْ : فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أجل محدد .. ثلاثين ليلة ، أتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة (على ما ذكر في سورة الأعراف) وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح ، لتكون شريعته في بني إسرائيل. وما كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شاهدا لهذا الميقات ، حتى يعلم نبأه المفصل ، كما ورد في القرآن الكريم وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونا من الناس ـ أي أجيالا متطاولة : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ). فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير ، الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم.

ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين ، ومقام موسى ـ عليه‌السلام ـ بها وتلاها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما كان مقيما في أهل مدين ، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه : (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين.

كذلك صوّر القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) وما سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ النداء ، وما سجل في وقتها تفصيلاته. ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء ، أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يدعوهم إليه ، لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله ـ فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم ، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل ، منذ أبيهم إسماعيل : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

فهي رحمة الله بالقوم. وهي حجته كذلك عليهم ، كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة ، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب ـ وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب ـ فأراد الله أن يقطع حجتهم ، وأن يعذر إليهم ، وأن يقفهم أمام أنفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان :

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ!) ..

كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول. ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة. ولكنهم حين جاءهم الرسول ، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه :

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى! أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا : سِحْرانِ تَظاهَرا ، وَقالُوا : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) ..

وهكذا لم يذعنوا للحق ، واستمسكوا بالتعللات الباطلة : (قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) إما من الخوارق المادية ، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة ، وفيها التوراة كاملة.

ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم ، ولا مخلصين في اعتراضهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟) ولقد كان في الجزيرة يهود ، وكان معهم التوراة ، فلم يؤمن لهم العرب ، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة. ولقد علموا أن صفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكتوبة في التوراة ، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب ؛ فلم يذعنوا لهذا كله ، وادعوا أن التوراة سحر ، وأن القرآن سحر ، وأنهما من أجل هذا يتطابقان ، ويصدق أحدهما الآخر :

(قالُوا : سِحْرانِ تَظاهَرا. وَقالُوا : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)!

فهو المراء إذن واللجاجة ، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين ، ولا ضعف الدليل.

ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج. يقول لهم : إن لم يكن يعجبكم القرآن ، ولم تكن تعجبكم التوراة ؛ فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه :

(قُلْ : فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)!

وهذه نهاية الإنصاف ، وغاية المطاولة بالحجة ، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر ، الذي لا يستند إلى دليل :

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..

إن الحق في هذا القرآن لبين ؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة ، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. وإنهما لطريقان لا ثالث لهما : إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى ، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم. وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق. ولا حجة من غموض في العقيدة ، أو ضعف في الحجة ، أو نقص في الدليل. كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) ..

وهكذا جزما وقطعا. كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها .. إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين. متجنون لا حجة لهم ولا معذرة ، متبعون للهوى ، معرضون عن الحق الواضح :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟) ..

وهم في هذا ظالمون باغون :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..

إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن ، ولم يحيطوا علما بهذا الدين. فما هو إلا أن يصل إليهم ، ويعرض عليهم ، حتى تقوم الحجة ، وينقطع الجدل ، وتسقط المعذرة. فهو بذاته واضح واضح ، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه ، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه ، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم ، وعرضه عليهم ، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل ..

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

* * *

وحين تنتهي هذه الجولة ، فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم ، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية. تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ، وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ؛ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا : آمَنَّا بِهِ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ؛ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا ، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ..

قال سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ، فلما قدموا على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ عليهم : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها ، فجعلوا يبكون وأسلموا ؛ ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) .. إلخ» ..

وروى محمد بن إسحاق في السيرة : «ثم قدم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى ، حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه ، وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى ، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام ، في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال؟ ما نعلم ركبا أحمق منكم! فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيرا».

قال : ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي ذلك كان. قال : ويقال والله أعلم : إن فيهم نزلت هذه الآيات : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) .. إلخ».

قال : وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه ـ رضي الله عنه ـ والآيات اللاتي في سورة المائدة : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) ... إلى قوله ـ (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

وأيا من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات ، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع ، يعلمونه ولا ينكرونه. كي يقفهم وجها لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن ، وتطمئن إليه ، وترى فيه الحق ، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب. ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء ؛ وتحتمل في سبيل الحق

الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء ، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ..

وهذه إحدى الآيات على صحته ، فالكتاب كله من عند الله ، فهو متطابق ، من أوتي أوله عرف الحق في آخره ، فاطمأن له ، وآمن به ، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله.

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا : آمَنَّا بِهِ. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ..

فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من تلاوته فيعرف الذين عرفوا الحق من قبل أنه من ذلك المعين ، وأنه صادر من ذلك المصدر الواحد الذي لا يكذب. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) .. (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ). والإسلام لله هو دين المؤمنين بكل دين.

هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل ، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه :

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) ..

الصبر على الإسلام الخالص. إسلام القلب والوجه. ومغالبة الهوى والشهوة. والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة. أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، جزاء على ذلك الصبر ، وهو عسير على النفوس ، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف. وهؤلاء صبروا عليها جميعا ، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية ، وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان :

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ..

وهذا هو الصبر كذلك. وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية. إنه الاستعلاء على كبرياء النفس ، ورغبتها في دفع السخرية ، ورد الأذى ، والشفاء من الغيظ ، والبرد بالانتقام! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله. درجة السماحة الراضية. التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان ؛ وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه ، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ..

وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال ، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان. فهما من منبع واحد : منبع الاستعلاء على شهوة النفس ، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض. الأولى في النفس ، والثانية في المال. وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن.

وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة :

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ..

واللغو فارغ الحديث ، الذي لا طائل تحته ، ولا حاصل وراءه. وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زادا جديدا ، ولا معرفة مفيدة. وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان ، سواء : أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب.

والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو ، ولا تستمع إلى ذاك الهذر ، ولا تعنى بهذا البذاء. فهي مشغولة بتكاليف الإيمان ، مرتفعة بأشواقه ، متطهرة بنوره :

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) ..

ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله ، ولا يدخلون معهم في جدل حوله ، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو ؛ إنما يتركونهم في موادعة وسلام.

(وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ..

هكذا في أدب ، وفي دعاء بالخير ، وفي رغبة في الهداية .. مع عدم الرغبة في المشاركة :

(لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ..

ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين ، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين!.

إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها. تفيض بالترفع عن اللغو. كما تفيض بالسماحة والود. وترسم لمن يريد أن يتأدب بأدب الله طريقه واضحا لا لبس فيه. فلا مشاركة للجهال ، ولا مخاصمة لهم ، ولا موجدة عليهم ، ولا ضيق بهم. إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء.

* * *

هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن. ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن ؛ ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام. فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه. وما كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليهدي من يحب. إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان ..

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ..

ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد كان يحوطه وينصره ، ويقف دونه في وجه قريش ، ويحميه حتى يبلغ دعوته ، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب. ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبا لابن أخيه ، وحمية وإباء ونخوة. فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، فلم يكتب الله له هذا ، لما يعلمه سبحانه من أمره ..

قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي ـ رضي الله عنه ـ قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية ابن المغيرة. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال : على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول : لا إله إلا الله. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى). وأنزل في أبي طالب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .. (أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري).

ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «يا عماه. قل : لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال : لو لا أن تعيرني بها قريش يقولون : ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. لا أقولها إلا لأقر بها عينك». ونزل قول الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

وروى عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب. وكان آخر ما قاله : هو على ملة عبد المطلب.

وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته. فهذا عم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكافله وحاميه والذائد عنه ، لا يكتب الله له الإيمان ، على شدة حبه لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وشدة حب رسول الله له أن يؤمن. ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة ، ولم يقصد إلى العقيدة. وقد علم الله هذا منه ، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويرجوه.

فأخرج هذا الأمر ـ أمر الهداية ـ من حصة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجعله خاصا بإرادته سبحانه وتقديره. وما على الرسول إلا البلاغ. وما على الداعين بعده إلا النصيحة. والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن ، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال.

* * *

والآن يجيء السياق إلى قولتهم التي قالوها للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة ، التي تعظم الكعبة ، وتدين لسدنتها ، وتعظم أصنامها ، فتتخطفهم تلك القبائل ، أو يتخطفهم أعداؤهم من وراء شبه الجزيرة دون أن تساندهم هذه القبائل. فيبين لهم أين يكون الأمن وأين يكون الخوف من واقعهم التاريخي ، ومن حاضرهم الذي يشهدونه ، بعد ما أبان لهم في هذه السورة عن ذلك في قصة موسى وفرعون. ويجول معهم جولة في مصارع الغابرين تكشف لهم كذلك عن أسباب الهلاك الحقيقة ممثلة في البطر وقلة الشكر والتكذيب بالرسل والإعراض عن الآيات. ثم جولة أخرى أبعد تكشف عن حقيقة القيم وتبدو فيها ضآلة الحياة الدنيا كلها ومتاعها إلى جوار ما عند الله.

(وَقالُوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟) ..

إنها النظرة السطحية القريبة ، والتصور الأرضي المحدود ، هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة ، ويغري بهم الأعداء ، ويفقدهم العون والنصير ، ويعود عليهم بالفقر والبوار : (وَقالُوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) ..

فهم لا ينكرون أنه الهدى ، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله ، وينسون أنه وحده الحافظ ، وأنه وحده الحامي ؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله ؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم ، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى ، ولاختلف تقديرهم للأمور ، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله ، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة ؛ وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه ، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة ، ويأوي إلى ركن شديد ، في واقع الحياة.

إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد : صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة ، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.

وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.

وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم ، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا». فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.

وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض ، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة :

(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟) ..

فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله ، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة ، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله.

فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا ، وأن يأمنوا التخطف حقا ، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) ..

إن بطر النعمة ، وعدم الشكر عليها ، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن ؛ فليحذروا إذن أن يبطروا ، وألا يشكروا ، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها ، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية .. (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً). وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها ، وتروى قصة البطر بالنعمة ؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا ، ولم يرثها بعدهم أحد (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ).

على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده :

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) ..

وحكمة إرسال الرسول في أم القرى ـ أي كبراها أو عاصمتها ـ أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مكة أم القرى العربية. فهو

ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) .. يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!

على أن متاع الحياة الدنيا بكامله ، وعرض الحياة الدنيا جميعه ، وما مكنهم الله فيه من الأرض ، وما وهبهم إياه من الثمرات ، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة ، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد ، إذا قيس بما عند الله :

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها. وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟).

وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده ؛ ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده ؛ ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده. إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ ، وحتى لو كمل ، وحتى لو دام ، فلم يعقبه الهلاك والدمار. إنه كله (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) .. (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) خير في طبيعته وأبقى في مدته.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ..

والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك. ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار!

وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة ، ولمن شاء أن يختار :

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟) ..

فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه. وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد ، ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضارا للحساب. والتعبير يوحي بالإكراه (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين ، لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد!

وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين ، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون. ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن. وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار.

* * *

وعند ما يصل بهم إلى الشاطئ الآخر يجول بهم جولة أخرى في مشهد من مشاهد القيامة ، يصور مغبة ما هم فيه من الشرك والغواية :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ : رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ، تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ. وَقِيلَ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ. فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) ..

والسؤال الأول للتوبيخ والتأنيب :

(أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) ..

والله يعلم أن لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء ، وأن أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئا ، ولا يستطيعون إليهم سبيلا. ولكنه الخزي والفضيحة على رؤوس الأشهاد.

ومن ثم لا يجيب المسئولون عن السؤال ، فليس المقصود به هو الجواب! إنما يحاولون أن يتبرأوا من جريرة إغوائهم لمن وراءهم ، وصدهم عن هدى الله ، كما كان يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم ، فيقولون :

(رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ؛ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ)!

ربنا إننا لم نغوهم قسرا ، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم ؛ إنما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واختيار ، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار. (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) من جريمة إغوائهم. (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنما كانوا يعبدون أصناما وأوثانا وخلقا من خلقك ، ولم نجعل أنفسنا لهم آلهة ، ولم يتوجهوا إلينا نحن بالعبادة!

عندئذ يعود بهم إلى المخزاة التي حولوا الحديث عنها. مخزاة الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله :

(وَقِيلَ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) ..

ادعوهم ولا تهربوا من سيرتهم! ادعوهم ليلبوكم وينقذوكم! ادعوهم فهذا يومهم وهذه فائدتهم!

والبائسون يعرفون أن لا جدوى من دعائهم ، ولكنهم يطيعون الأمر مقهورين :

(فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ..

ولم يكن منتظرا غير ذاك ، ولكنه الإذلال والإعنات!

(وَرَأَوُا الْعَذابَ) ..

رأوه في هذا الحوار. ورأوه ماثلا وراءه. فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب.

وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه ، وهو أمنية المتمني في ذلك الموقف المكروب : وهو بين أيديهم في الدنيا لو أنهم إليه يسارعون :

(لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) ..

ثم يعود بهم إلى ذلك المشهد المكروب :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ، ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) ..

وإن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين. ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل. وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت. ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول :

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ).

والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة. وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم ، وهم لا يعلمون شيئا عن أي شيء! ولا يملكون سؤالا ولا جوابا. وهم في ذهولهم صامتون ساكتون!

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) ..

وهذه هي الصفحة المقابلة. ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين ، يتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحا ، وما ينتظره من الرجاء في الفلاح. ولمن شاء أن يختار. وفي الوقت فسحة للاختيار!

* * *

ثم يرد أمرهم وأمر كل شيء إلى إرادة الله واختياره ؛ فهو الذي يخلق كل شيء ، ويعلم كل شيء ، وإليه مرد الأمر كله في الأولى والآخرة ، وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم في الدنيا وله الرجعة والمآب. وما يملكون أن يختاروا لأنفسهم ولا لغيرهم ، فالله يخلق ما يشاء ويختار :

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ، سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

وهذا التعقيب يجيء بعد حكاية قولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) وبعد استعراض موقفهم يوم الحساب على الشرك والغواية .. يجيء لتقرير أنهم لا يملكون الاختيار لأنفسهم فيختاروا الأمن أو المخافة! ولتقرير وحدانية الله ورد الأمر كله إليه في النهاية.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ..

إنها الحقيقة التي كثيرا ما ينساها الناس ، أو ينسون بعض جوانبها. إن الله يخلق ما يشاء ؛ لا يملك أحد أن يقترح عليه شيئا ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئا ، ولا أن يعدل أو يبدل في خلقه شيئا. وإنه هو الذي يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال والتكاليف والمقامات ؛ ولا يملك أحد أن يقترح عليه شخصا ولا حادثا ولا حركة ولا قولا ولا فعلا .. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم ، ومرد الأمر كله إلى الله في الصغير والكبير ..

هذه الحقيقة لو استقرت في الأخلاد والضمائر لما سخط الناس شيئا يحل بهم ، ولا استخفهم شيء ينالونه بأيديهم ، ولا أحزنهم شيء يفوتهم أو يفلت منهم. فليسوا هم الذين يختارون ، إنما الله هو الذي يختار.

وليس معنى هذا أن يلغوا عقولهم وإرادتهم ونشاطهم. ولكن معناه أن يتقبلوا ما يقع ـ بعد أن يبذلوا ما في وسعهم من التفكير والتدبير والاختيار ـ بالرضى والتسليم والقبول. فإن عليهم ما في وسعهم والأمر بعد ذلك لله.

ولقد كان المشركون يشركون مع الله آلهة مدعاة ؛ والله وحده هو الخالق المختار لا شريك له في خلقه ولا في اختياره ..

(سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ..

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) ..

فهو مجازيهم بما يعلم من أمرهم ، مختار لهم ما هم له أهل ، من هدى أو ضلال.

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .. فلا شريك له في خلق ولا اختيار.

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) .. على اختياره ، وعلى نعمائه ، وعلى حكمته وتدبيره ، وعلى عدله ورحمته ، وهو وحده المختص بالحمد والثناء.

(وَلَهُ الْحُكْمُ) .. يقضي في عباده بقضائه ، لا راد له ولا مبدل لحكمه.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. فيقضي بينكم قضاءه الأخير ..

وهكذا يطوقهم بالشعور بقدرة الله وتفرد إرادته في هذا الوجود واطلاعه على سرهم وعلانيتهم فلا تخفى عليه منهم خافية ؛ وإليه مرجعهم فلا تشرد منهم شاردة. فكيف يشركون بالله بعد هذا وهم في قبضته لا يفلتون؟

* * *

ثم يجول بهم جولة في مشاهد الكون الذي يعيشون فيه غافلين عن تدبير الله لهم ، واختياره لحياتهم ومعاشهم ؛

فيوقظ مشاعرهم لظاهرتين كونيتين عظيمتين. ظاهرتي الليل والنهار ، وما وراءهما من أسرار الاختيار والشهادة بوحدانية الخالق المختار :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..

والناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى. ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها إلا قليلا. ولا يهزهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرا. ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ من البلى والدمار ، أو التعطل والبوار ، أو الملل والهمود.

والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة ، ويلفتهم إلى تملي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة ؛ وذلك حين يخيل إليهم استمرار الليل أبدا أو النهار أبدا ، وحين يخيفهم من عواقب هذا وذاك. وما يشعر الإنسان بقيمة الشيء إلا حين يفقده أو يخاف عليه الفقدان.

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ..

والناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلا في أيام الشتاء ، ويحنون إلى ضياء الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب! فكيف بهم لو فقدوا الضياء. ولو دام عليهم الليل سرمدا إلى يوم القيامة؟ ذلك على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار ، لو لم يطلع عليها النهار!

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) (١) ..

والناس يستروحون الظلال حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار. ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف. ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار. والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار. فكيف بالناس لو ظل النهار سرمدا إلى يوم القيامة على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار إن دام عليها النهار!

ألا إن كل شيء بقدر. وكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون بتدبير. وكل شيء عنده بمقدار :

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..

فالليل سكينة وقرار ، والنهار نشاط وعمل ، والمتجه فيه إلى فضل الله. فما يعطي الناس شيئا إلا من فضله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ما يسره الله لكم من نعمة ومن رحمة ، وما دبره لكم واختاره من توالي الليل والنهار ، ومن كل سنن الحياة التي لم تختاروها ، ولكن اختارها الله عن رحمة وعن علم وعن حكمة تغفلون عنها لطول الإلف والتكرار.

* * *

ويختم هذه الجولات بمشهد سريع من مشاهد القيامة يسألهم فيه سؤال استنكار عما زعموا من شركاء. ويقفهم

__________________

(١) حين ذكر الليل لو كان سرمدا قال : (أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) وحين ذكر النهار لو كان سرمدا قال : (أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) ذلك أن السمع هو حاسة الليل والبصر هو حاسة النهار وذلك من التناسق الفني في الأداء.

وجها لوجه أمام أباطيلهم المدعاة ، حيث تتذاوب وتتهاوى في موقف السؤال والحساب :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا : هاتُوا بُرْهانَكُمْ. فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ..

وتصوير يوم النداء ، وما فيه من سؤال عن الشركاء ، قد سبق في جولة ماضية. فهو يعاد هنا لتوكيده وتثبيته بمناسبة المشهد الجديد الذي يعرض هنا. مشهد نزع شهيد من كل أمة. وهو نبيها الذي يشهد بما أجابته وما استقبلت به رسالته. والنزع حركة شديدة ، والمقصود إقامته وإبرازه وإفراده من بينهم ليشهده قومه جميعا وليشهد قومه جميعا. وفي مواجهة هذا الشاهد يطلب منهم برهانهم على ما اعتقدوا وما فعلوا. وليس لديهم برهان ؛ ولا سبيل لهم يومئذ إلى المكابرة :

(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) .. الحق كله خالصا لا شبهة فيه ولا ريبة.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) .. من شرك ومن شركاء ، فما هو بواجدهم وما هم بواجديه! في وقت حاجتهم إليه في موقف الجدل والبرهان!

* * *

بهذا تنتهي التعقيبات على قصة موسى وفرعون. وقد طوفت بالنفوس والقلوب في تلك الآفاق والعوالم والأحداث والمشاهد. وردتها من الدنيا إلى الآخرة ، ومن الآخرة إلى الدنيا. وطوقت بها في جنبات الكون وفي أغوار النفس ، وفي مصارع الغابرين ، وفي سنن الكون والحياة. متناسقة كلها مع محور السورة الأصيل. ومع القصتين الرئيسيتين في السورة : قصة موسى وفرعون. وقصة قارون. وقد مضت الأولى. فلنستعرض الثانية بعد تلك التعقيبات وهذه الجولات.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١)

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

مضت مطالع السورة بقصة موسى وفرعون ، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم ، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم ، والكفران بالله ، والبعد عن هداه. والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم ، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر ، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق. وتقرر حقيقة القيم ، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح ؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.

ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها ؛ إنما يكتفي بأن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ هناك روايات تقول : إنه كان ابن عم لموسى ـ عليه‌السلام ـ وأن الحادث وقع في زمان موسى. ويزيد بعضها فيذكر أن قارون آذى موسى ، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال ، فبرأ الله موسى وأذن له في قارون ، فخسفت به الأرض ..

ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات ، ولا إلى تحديد الزمان والمكان. فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة ، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها. ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئا ما ترك تحديدها. فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية ، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها ..

* * *

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ ؛ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ : لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) ..

هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها «قارون» وتحدد قومه (قَوْمِ مُوسى) وتقرر مسلكه مع قومه ، وهو مسلك البغي (فَبَغى عَلَيْهِمْ) وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء.

(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) ..

ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس.

لقد كان قارون من قوم موسى ، فآتاه الله مالا كثيرا ، يصور كثرته بأنه كنوز ـ والكنز هو المخبوء المدخر من

المال الفائض عن الاستعمال والتداول ـ وبأن مفاتح هذه الكنوز تعبي المجموعة من أقوياء الرجال .. من أجل هذا بغى قارون على قومه. ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم ـ كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان ـ وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب ، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب.

وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي ، ورجعه إلى النهج القويم ، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء ؛ وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم ؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ؛ ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال ؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم ، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب :

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ : لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ. إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة.

(لا تَفْرَحْ) .. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال ، والاحتفال بالثراء ، والتعلق بالكنوز ، والابتهاج بالملك والاستحواذ .. لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال ؛ وينسي نعمته ، وما يجب لها من الحمد والشكران. لا تفرح فرح الذي يستخفه المال ، فيشغل به قلبه ، ويطير له لبه ، ويتطاول به على العباد ..

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) .. فهم يردونه بذلك إلى الله ، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال ، المتباهين ، المتطاولين بسلطانه على الناس.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة. ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا ، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.

لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ؛ وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ، فتنمو الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها. فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) .. فهذا المال هبة من الله وإحسان. فليقابل بالإحسان فيه. إحسان التقبل وإحسان التصرف ، والإحسان به إلى الخلق ، وإحسان الشعور بالنعمة ، وإحسان الشكران.

(وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) .. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة. والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء. والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) .. كما أنه لا يحب الفرحين.

كذلك قال له قومه : فكان رده جملة واحدة ، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد :

(قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)!

إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله. فما لكم تملون عليّ طريقة خاصة في التصرف فيه ، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة ، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص ، واستحققته بعلمي الخاص؟

إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء.

وهو نموذج مكرر في البشرية. فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح ، غير حاسب لله حسابا ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!

والإسلام يعترف بالملكية الفردية ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه. ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية ـ كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها ـ وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق تحصيله ، وطرق تنميته. وطرق إنفاقه والاستمتاع به. وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات.

ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم. وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم.

ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، ردا على قولته الفاجرة المغرورة :

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً؟ وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ).

فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا. وكان عليه أن يعلم هذا. فهذا هو العلم المنجي. فليعلم. وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم. فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد!

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)!

* * *

ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة ، يتجلى فيه البغي والتطاول ، والإعراض عن النصح ، والتعالي على العظة ، والإصرار على الفساد ، والاغترار بالمال ، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.

ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون. ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا : يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : وَيْلَكُمْ! ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ).

وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله. والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان :

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا : يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ..

وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها ؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.

فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة ، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع. وهم أعلى نفسا ، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا. ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد. وهؤلاء هم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ).

ثواب الله خير من هذه الزينة ، وما عند الله خير مما عند قارون. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون .. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. وعند ما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض ، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.

* * *

وعند ما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما. ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا :

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ، فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) ..

هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) فابتلعته وابتلعت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا. وذهب ضعيفا عاجزا ، لا ينصره أحد ، ولا ينتصر بجاه أو مال.

وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال. وكان هذا المشهد الأخير :

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ :! وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ. لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا.! وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) ..

وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس ، ولم يؤتهم ما آتى قارون. وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة. وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله. فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب. ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف. إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء. وعلموا أن الكافرين لا يفلحون. وقارون لم يجهر بكلمة الكفر

ولكن اغتراره بالمال ، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين ، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين.

* * *

ويسدل الستار على هذا المشهد. وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة ، وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان .. ثم يأخذ في التعقيب في أنسب أوان :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ..

تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم. العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية. تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق. تلك الدار الآخرة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) .. فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ؛ ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها. إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله ، ومنهجه في الحياة. أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا. ولا يبغون فيها كذلك فسادا. أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة. تلك الدار العالية السامية.

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه.

وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه. الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها. والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

والآن وقد انتهى القصص ، وانتهت التعقيبات المباشرة على ذلك القصص. الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة. يتوجه الخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، والذي يعز عليه فراقه ، لو لا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه ، ومهد ذكرياته ، ومقر أهله. يتوجه الخطاب إلى رسول الله ـ صلّى

الله عليه وسلّم ـ وهو في موقفه ذاك :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ..

فما هو بتاركك للمشركين ، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة. ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك ، ويستبدون بك وبدعوتك ، ويفتنون المؤمنين من حولك. إنما فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره ، وفي الوقت الذي فرضه ؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد ، ولكنك غدا منصور إليه عائد.

وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ، ليمضي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في طريقه آمنا واثقا ، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه ، ولا يستريب لحظة فيه.

وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق ؛ وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله ، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية ، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه ، ويخلي عاتقه ، ويؤدي واجبه.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ). ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا. رده فأنقذ به المستضعفين من قومه ، ودمر به فرعون وملأه ، وكانت العاقبة للمهتدين .. فامض إذن في طريقك ، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن :

(قُلْ : رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

ودع الأمر لله يجازي المهتدين والضالين.

وما كان فرض القرآن عليك إلا نعمة ورحمة ؛ وما كان يجول في خاطرك أن تكون أنت المختار لتلقي هذه الأمانة. وإنه لمقام عظيم ما كنت تتطلع إليه قبل أن توهبه :

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ..

وهو تقرير قاطع عن عدم تطلع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الرسالة ؛ إنما هو اختيار الله. والله يخلق ما يشاء ويختار ، فذلك الأفق أعلى من أن يفكر فيه بشر قبل أن يختاره الله له ويؤهله ليرقاه. وهو رحمة من الله بنبيه وبالبشرية التي اختاره لهدايتها بهذه الرسالة. رحمة توهب للمختارين لا للمتطلعين. ولقد كان من حوله كثيرون في العرب وفي بني إسرائيل يتطلعون إلى الرسالة المنتظرة في آخر الزمان. ولكن الله ـ وهو أعلم حيث يجعل رسالته ـ قد اختار لها من لم يتطلّع إليها ولم يرجها ، من دون أولئك الطامعين المتطلعين ، حينما علم منه الاستعداد لتلقّي ذلك الفيض العظيم.

ومن ثم يأمره ربه ـ بما أنعم عليه بهذا الكتاب ـ ألا يكون ظهيرا للكافرين ؛ ويحذره أن يصدوه عن آيات الله ، ويمحض له عقيدة التوحيد خالصة في وجه الشرك والمشركين.

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ؛ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ؛ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

إنه الإيقاع الأخير في السورة ، يفصل ما بين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وطريقه وما بين الكفر والشرك وطريقه ، ويبين لأتباع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ طريقهم إلى يوم القيامة .. الإيقاع الأخير ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في طريق هجرته الفاصلة بين عهدين متميزين من عهود التاريخ.

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) .. فما يمكن أن يكون هناك تناصر أو تعاون بين المؤمنين والكافرين. وطريقاهما

مختلفان ، ومنهاجهما مختلفان. أولئك حزب الله ، وهؤلاء حزب الشيطان. فعلام يتعاونان؟ وفيم يتعاونان؟

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) .. فطريق الكفار دائما أن يصدوا أصحاب الدعوة عن دعوتهم بشتى الطرق والوسائل. وطريق المؤمنين أن يمضوا في طريقهم لا يلويهم عنها المعوقون ، ولا يصدهم عنها أعداؤهم. وبين أيديهم آيات الله ، وهم عليها مؤتمنون.

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) .. دعوة خالصة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. دعوة إلى الله لا لقومية ولا لعصبية ، ولا لأرض ولا لراية. ولا لمصلحة ولا لمغنم ، ولا لتمليق هوى ، ولا لتحقيق شهوة. ومن شاء أن يتبع هذه الدعوة على تجردها فليتبعها ، ومن أراد غيرها معها فليس هذا هو الطريق.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يؤكد هذه القاعدة مرتين بالنهي عن الشرك والنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله. ذلك أنها مفرق الطريق في العقيدة بين النصاعة والغموض. وعلى هذه القاعدة يقوم بناء هذه العقيدة كلها ، وآدابها وأخلاقها وتكاليفها وتشريعاتها جميعا. وهي المحور الذي يلتف عليه كل توجيه وكل تشريع. ومن ثم هي تذكر قبل كل توجيه وقبل كل تشريع.

ثم يمضي في التوكيد والتقرير :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .. (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) .. (لَهُ الْحُكْمُ) .. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .. فلا إسلام إلا لله ، ولا عبودية إلا له ، ولا قوة إلا قوته ، ولا ملاذ إلا حماه.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) .. فكل شيء زائل. وكل شيء ذاهب. المال والجاه. والسلطان والقوة. والحياة والمتاع. وهذه الأرض ومن عليها. وتلك السماوات وما فيها ومن فيها. وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله .. كله. كله. هالك فلا يبقى إلا وجه الله الباقي. متفردا بالبقاء.

(لَهُ الْحُكْمُ) .. يقضي بما يشاء ويحكم كما يشاء ، لا يشركه في حكمه أحد ، ولا يرد قضاءه أحد ، ولا يقف لأمره أمر. وما يشاؤه فهو الكائن دون سواه.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. فلا مناص من حكمه ، ولا مفر من قضائه ، ولا ملجأ دونه ولا مهرب.

* * *

وهكذا تختم السورة التي تتجلى فيها يد القدرة سافرة ، تحرس الدعوة إلى الله وتحميها ، وتدمر القوى الطاغية الباغية وتمحوها. تختم بتقرير قاعدة الدعوة : وحدانية الله سبحانه وتفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء. ليمضي أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى ، وعلى ثقة ، وعلى طمأنينة ، وفي يقين ..

* * *

(٢٩) سورة العنكبوت مكيّة

وآياتها تسع وستّون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣)

سورة العنكبوت مكية. وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية. وذلك لذكر «الجهاد» فيها وذكر «المنافقين» .. ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص كما سيجيء. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك نرجح مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير. لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.

إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة ؛ وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان ، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف.

ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها ؛ فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب ، وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان ، استعراضا سريعا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال.

ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى ، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها ، وقد أخذها الله جميعا :

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) ..

ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهاهنا وتفاهتها :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض ؛ ثم يوحد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكلها من عند الله. وكلها دعوة واحدة إلى الله. ومن ثم يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له ؛ وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. ويتناقضون في منطقهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... (لَيَقُولُنَّ اللهُ!) .. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ!) .. (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .. ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين.

وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة ، غير خائفين من الموت ، إذ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ). غير خائفين من فوات الرزق : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ..

ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) .. فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة ، وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام ، حول محورها الأول وموضوعها الأصيل.

ويمضي سياق السورة حول ذلك المحور الواحد في ثلاثة أشواط :

الشوط الأول يتناول حقيقة الإيمان ، وسنة الابتلاء والفتنة ، ومصير المؤمنين والمنافقين والكافرين. ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة : (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) ..

والشوط الثاني يتناول القصص الذي أشرنا إليه ، وما يصوره من فتن وعقبات في طريق الدعوات والدعاة ، والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله. ويتحدث عن الحق الكامن في دعوة الرسل ، وهو ذاته الحق الكامن في خلق السماوات والأرض. وكله من عند الله.

والشوط الثالث يتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى. إلا الذين ظلموا منهم. وعن وحدة الدين كله ، واتحاده مع هذا الدين الأخير الذي يجحد به الكافرون ، ويجادل فيه المشركون. ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبل الله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ..

* * *

ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته. تهز الوجدان هزا. وتقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة جد صارم ؛ فإما النهوض بها وإما النكوص عنها. وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله.

وهي إيقاعات لا سبيل إلى تصويرها بغير النصوص القرآنية التي وردت فيها. فنكتفي بالإشارة إليها هنا حتى نستعرضها في موضعها مع السياق.

* * *

«ألف. لام. ميم» ..

الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أنها مادة الكتاب الذي أنزله الله على رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مؤلفا من مثل هذه الحروف ، المألوفة للقوم ، الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاؤون من القول ؛ ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب. لأنه من صنع الله لا من صنع إنسان.

وقد قلنا من قبل : إن السور التي صدرت بهذه الحروف تتضمن حديثا عن القرآن ، إما مباشرة بعد هذه الحروف ، وإما في ثنايا السورة ، كما هو الحال في هذه السورة. فقد ورد فيها : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) .. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) .. (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) .. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) .. مما يتمشى مع القاعدة التي اخترناها لتفسير هذه الأحرف في افتتاح السور.

وبعد هذا الافتتاح يبدأ الحديث عن الإيمان ، والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان ؛ وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء :

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ؟ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ).

إنه الإيقاع الأول في هذا المقطع القوي من السورة. يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان ، وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان.

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ؟) ..

إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ـ وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه ـ وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب. هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) ..

والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر ؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم. وهو فضل من الله من جانب ، وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره ، وبما حققه فعله. فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!.

ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين.

إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص. وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء. وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة ؛ وهي أمانة ثقيلة ، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء.

ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان. وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة. ولكنها ليست أعنف صور الفتنة. فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى.

هناك فتنة الأهل والأحياء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعا. وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك. وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير.

وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة. وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا.

وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ؛ وهو وحده موحش عريب طريد.

وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام. فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان. ويجدها غنية قوية ، وهي مشاقة لله!

وهنا لك الفتنة الكبرى. أكبر من هذا كله وأعنف. فتنة النفس والشهوة. وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم

والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان. وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان!

فإذا طال الأمد ، وابطا نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان.

وما بالله ـ حاشا لله ـ أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة. فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه ، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء.

والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع. وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل. وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ؛ وأقواها طبيعة ، وأشدها اتصالا بالله ، وثقة فيما عنده من الحسنيين : النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلّمون الراية في النهاية. مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار.

وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. والذي يبذل من دمه وأعصابه ، ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته. ثم يصبر على الأذى والحرمان ؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام.

فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله. وما يشك مؤمن في وعد الله. فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله. وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله. وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء :

جاء في الصحيح : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» ..

وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات ، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين. مهما انتفخ باطلهم وانتفش ، وبدا عليه الانتصار والفلاح. وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ!) ..

فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق ، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه ، وفسد تقديره ، واختل تصوره. فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين ؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.

وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة ، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله. فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف ، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء.

أما الإيقاع الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون لقاء الله ، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين :

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ؛ ولتنتظر ما وعدها الله إياه ، انتظار الواثق المستيقن ؛ ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين.

والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية. صورة الراجي المشتاق ، الموصول بما هناك. ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح. ويعقب عليه بالطمأنينة الندية ، يدخلها في تلك القلوب. فإن الله يسمع لها ، ويعلم تطلعها : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان ، ومشاق الجهاد ، بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها ، ولإصلاح أمرها وحياتها ؛ وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد ، وإنه لغني عن كل أحد :

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ..

فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق ، فإنما ذلك لإصلاحهم ، وتكميلهم ، وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة. والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ؛ ويرفع من تصوراته وآفاته ؛ ويستعلي به على الشح بالنفس والمال ، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات. وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة ، وما يعود عليها من صلاح حالها ، واستقرار الحق بينها ، وغلبة الخير فيها على الشر ، والصلاح فيها على الفساد.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ).

فلا يقفن أحد في وسط الطريق ، وقد مضى في الجهاد شوطا ؛ يطلب من الله ثمن جهاده ؛ ويمن عليه وعلى دعوته ، ويستبطىء المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده ، وأن يستخلفه في الأرض به ، وأن يأجره في الآخرة بثوابه :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله ، من تكفير للسيئات ، وجزاء على الحسنات. وليصبروا على تكاليف الجهاد ؛ وليثبتوا على الفتنة والابتلاء ؛ فالأمل المشرق والجزاء الطيب ، ينتظرانهم في نهاية المطاف. وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف.

* * *

ثم يجيء إلى لون من ألوان الفتنة أشرنا إليه في مطلع السورة : فتنة الأهل والأحباء. فيفصل في الموقف الدقيق بالقول الحازم الوسط ، لا إفراط فيه ولا تفريط :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) ..

إن الوالدين لأقرب الأقرباء. وإن لهما لفضلا ، وإن لهما لرحما ؛ وإن لهما لواجبا مفروضا : واجب الحب والكرامة والاحترام والكفالة. ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله. وهذا هو الصراط : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) ..

إن الصلة في الله هي الصلة الأولى ، والرابطة في الله هي العروة الوثقى. فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان

والرعاية ، لا الطاعة ولا الاتباع. وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله.

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين. فإذا المؤمنون أهل ورفاق ، ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) ..

وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة ، كما هم في الحقيقة ؛ وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر ، وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا ، فهي روابط عارضة لا أصيلة ، لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها.

روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وأمه حمنة بنت أبي سفيان ، وكان بارا بأمه. فقالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت ، فتتعير بذلك أبد الدهر ، يقال : يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني ، فكلي إن شئت ، وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت. فأنزل الله هذه الآية آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما ، وعدم طاعتهما في الشرك.

وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم ؛ واستبقي الإحسان والبر. وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن ؛ فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان.

* * *

ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء ، ثم الادعاء العريض عند الرخاء. يرسمها في كلمات معدودات ، صورة واضحة الملامح بارزة السمات :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ : إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ. أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟ وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ..

ذلك النموذج من الناس ، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل ، هينة المئونة ، لا تكلف إلا نطقها باللسان ، (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) فاستقبلها في جزع ، واختلت في نفسه القيم ، واهتزت في ضميره العقيدة ؛ وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه ، حتى عذاب الله ؛ وقال في نفسه : ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء ، فعلام أصبر على الإيمان ، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر ، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.

هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.

(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ : إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ)!

إنا كنا معكم .. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي ، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة ، وينتفش المنزوون المتخاذلون ، ويستأسد الضعفاء المهزومون ، فيقولون : (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ)!

(أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟) ..

أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع ، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموهون؟

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ..

وليكشفنهم فيعرفون ؛ فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون.

ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول :

(جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) ..

فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب ، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات ـ وللطاقة البشرية حدود ـ ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل ، وبين عذاب الله العظيم ؛ فلا يختلط في حسهم أبدا عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير ، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال .. إن الله في حس المؤمن لا يقوم له شيء ، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله .. وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق.

* * *

وأخيرا يعرض فتنة الإغواء والإغراء ؛ ويعرض معها فساد تصور الذين كفروا للتبعة والجزاء ؛ ويقرر فردية التبعة وشخصية الجزاء. وهو المبدأ الإسلامي الكبير ، الذي يحقق العدل في أجلى مظاهره ، وأفضل أوضاعه :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ. وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ. إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) ..

وقد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشيا مع تصورهم القبلي في احتمال العشيرة للديات المشتركة والتبعات المشتركة. يحسبون أنهم قادرون على احتمال جريرة الشرك بالله عن سواهم وإعفائهم منها. ذلك إلى التهكم على قصة الجزاء في الآخرة إطلاقا :

(اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) ..

ومن ثم يرد عليهم الرد الحاسم ، فيرد كل إنسان إلى ربه فردا ، يؤاخذه بعمله ، لا يحمل أحد عنه شيئا :

(وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) ..

ويجبهم بما في قولتهم هذه من كذب وادعاء :

(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ..

ويحملهم وزر ضلالهم وشركهم وافترائهم ، ووزر إضلالهم للآخرين. دون أن يعفي هؤلاء من تبعة الضلال :

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).

ويغلق هذا الباب من أبواب الفتنة ؛ فيعلم الناس أن الله لا يحاسبهم جماعات. إنما يحاسبهم أفرادا ، وأن كل امرئ بما كسب رهين ..

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١)

قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥)

انتهى الشوط الأول بالحديث عن سنة الله في ابتلاء الذين يختارون كلمة الإيمان ، وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. وقد أشار إلى الفتنة بالأذى ، والفتنة بالقرابة ، والفتنة بالإغواء والإغراء.

وفي هذا الشوط يعرض نماذج من الفتن التي اعترضت دعوة الإيمان في تاريخ البشرية الطويل من لدن نوح

عليه‌السلام. يعرضها ممثلة فيما لقيه الرسل حملة دعوة الله منذ فجر البشرية. مفصلا بعض الشيء في قصة إبراهيم ولوط ، مجملا فيما عداها.

وفي هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن ، ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة.

ففي قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة ، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم لم يؤمن له إلا القليل (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) ..

وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال. فقد حاول هداهم ما استطاع ، وجادلهم بالحجة والمنطق : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ).

وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها ، وسفورها بلا حياء ولا تحرج ، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ ؛ مع الاستهتار بالنذير : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ..

وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل ، والتكذيب : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة.

كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال ، واستبداد الحكم ، وتمرد النفاق.

ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة الله ، وهي مهما علت واستطالت (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

وينتهي هذا الشوط بدعوة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يتلو الكتاب ، وأن يقيم الصلاة ، وأن يدع الأمر بعد ذلك لله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ..

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ. فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ..

والراجح أن فترة رسالته التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاما. وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة ، وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة. وهو عمر طويل مديد ، يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد. ولكننا نتلقاه من أصدق مصدر في هذا الوجود ـ وهذا وحده برهان صدقه ـ فإذا أردنا له تفسيرا فإننا نستطيع أن نقول : إن عدد البشرية يومذاك كان قليلا ومحدودا ، فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد طول العمر ، لعمارة الأرض وامتداد الحياة. حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار. وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء. فكلما قل العدد وقل النسل طالت الأعمار ، كما في النسور وبعض الزواحف كالسلحفاة. حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام. بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين. والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله :

بغاث الطير أكثرها فراخا

وأم الصقر مقلاة نزور (١)

__________________

(١) بغاث الطير : ضعافه. ومقلاة نزور ، أي مقلة في الفراخ.

ومن ثم يطول عمر الصقر. وتقل أعمار بغاث الطير. ولله الحكمة البالغة. وكل شيء عنده بمقدار. ولم تثمر ألف سنة ـ إلا خمسين عاما ـ غير العدد القليل الذين آمنوا لنوح. وجرف الطوفان الكثرة العظمى وهم ظالمون بكفرهم وجحودهم وإعراضهم عن الدعوة المديدة ، ونجا العدد القليل من المؤمنين ، وهم أصحاب السفينة. ومضت قصة الطوفان والسفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) تحدثهم عن عاقبة الكفر والظلم على مدار القرون.

* * *

وبعد قصة نوح يطوي السياق القرون حتى يصل إلى الرسالة الكبرى. رسالة إبراهيم :

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ، وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ ، وَاشْكُرُوا لَهُ ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ..

لقد دعاهم دعوة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض ؛ وهي مرتبة في عرضها ترتيبا دقيقا يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوات ..

لقد بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها :

(اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) ..

ثم ثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم ، وما تتضمنه من الخير لهم ، لو كانوا يعلمون أين يكون الخير :

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ..

وفي هذا التعقيب ما يحفزهم إلى نفي الجهل عنهم ، واختيار الخير لأنفسهم. وهو في الوقت ذاته حقيقة عميقة لا مجرد تهييج خطابي!

وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه : أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثانا ـ والوثن : التمثال من الخشب ـ وهي عبادة سخيفة ، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله .. وثانيها : أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل ، وإنما يخلقون إفكا وينشئون باطلا ، يخلقونه خلقا بلا سابقة أو مقدمة ، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة .. وثالثها : أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعا ، ولا ترزقهم شيئا :

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) ..

وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق. الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم :

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) ..

والرزق مشغلة النفوس ، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان. ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس.

وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم ، ليعبدوه ويشكروه :

(وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) ..

وأخيرا يكشف لهم أنه لا مفر من الله ، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين :

(إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

فإن كذبوا ـ بعد ذلك كله ـ فما أهون ذلك! فلن يضر الله شيئا ، ولن يخسر رسوله شيئا. فقد كذب

الكثيرون من قبل ، وما على الرسول إلا واجب التبليغ :

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ..

وهكذا يأخذهم خطوة خطوة ، ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها ، ويوقع على أوتارها في دقة عميقة ، وهذه الخطوات تعد نموذجا لطريقة الدعوة جديرا بأن يتملاه أصحاب كل دعوة ، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب.

* * *

وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة ، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق ؛ المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب :

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه. خطاب دليله هذا الكون ؛ ومجاله السماء والأرض ؛ على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضا لآيات الإيمان ودلائله ؛ وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب ، تبحث فيها عن آيات الله ، وترى دلائل وجوده ووحدانيته ، وصدق وعده ووعيده. ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدا لا تغيب عن إنسان. ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة ؛ ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار. فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة ، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي ، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر ، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها. ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر ، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة .. تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه ، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق ..

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ؟ ثُمَّ يُعِيدُهُ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..

وإنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق. يرونه في النبتة النامية ، وفي البيضة والجنين ، وفي كل ما لم يكن ثم يكون ؛ مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه! وإن سر الحياة وحده لمعجز ، كان وما يزال ؛ معجز في معرفة منشئه وكيف جاء ـ ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه ـ ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدئ الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم ، وهم يرون ولا يملكون الإنكار!

فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم ؛ فالذي أنشأه يعيده :

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..

وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى. ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم. فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم. وإلا فالبدء كالإعادة ، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه. وإنما هو توجه الإرادة وكلمة : كن. فيكون ..

ثم يدعوهم إلى السير في الأرض ، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء ، في الجامد والحي سواء ، ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء :

(قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ؛ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ. إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب. وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة. وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه ؛ حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد ، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة ، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه. وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته. وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها ؛ أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه!

فسبحان منزل هذا القرآن ، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس.

(قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ..

إن التعبير هنا بلفظ الماضي (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق. يثير في النفس خاطرا معينا .. ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى ، وكيفية بدء الخليقة فيها. كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة ؛ كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ ـ وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة : ما هي؟ ، ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حيّ؟ ـ ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة ..

ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر. ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا ؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به ـ لو كان ذلك هو المقصود ـ فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم ، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة. ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان. ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة ، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.

وهناك احتمال أهم يتمشى مع طبيعة هذا القرآن ؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا ، ومستوياتهم جميعا ، وملابسات حياتهم جميعا ، ووسائلهم جميعا. ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته. ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا. ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين.

هذا أقرب وأولى.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة ، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن ، بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة!

ومن قدرة الله على كل شيء : تعذيبه لمن يشاء ورحمته لمن يشاء ، وإليه وحده المآب ؛ لا يعجزه أحد ، ولا يمتنع عليه أحد :

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ..

والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله ؛ من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال ؛ وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك ، ويسر له الطريقين سواء ، وهو بعد ذلك ، وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه ، ينتهيان به إلى عون الله له ـ كما كتب على نفسه ـ وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الانقطاع والضلال. ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب.

(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).

تعبير عن المآب فيه عنف ، يناسب المعنى بعده :

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ..

فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله. لا من قوتكم في الأرض ، ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ..

وأين من دون الله الولي والنصير؟ أين الولي والنصير من الناس؟ أو من الملائكة والجن؟ وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فوق أن يملكوا لسواهم شيئا؟

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه ، وينقطع ما بينه وبين ربه. وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله ، وجفت نداوته ، ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل. والعاقبة معروفة : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

* * *

وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة ، الذي جاء خطابا لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمنا .. بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم ، فيبدو هذا الجواب غريبا عجيبا ، ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان ، بما يملك من قوة ومن سلطان :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ. فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

اقتلوه أو حرقوه .. ردا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات.

وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح ؛ ولم يكن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يملك له دفعا ، ولا يستطيع منه وقاية. وهو فرد أعزل لا حول ولا طول. فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك. تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر :

(فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) ..

وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان. ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة ، فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب ، إنما هو الاستعداد للهدى والإيمان :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

الآية الأولى هي تلك النجاة من النار. والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة. والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة. ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات ، وتصريف القلوب ، وعوامل الهدى والضلال.

ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار. فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة. فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم ، قبل أن يعتزلهم جميعا :

(وَقالَ : إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ..

إنه يقول لهم : إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله ، لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة ؛ إنما يجامل بعضكم بعضا ، ويوافق بعضكم بعضا ، على هذه العبادة ؛ ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه ـ حين يظهر الحق له ـ استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد ، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ؛ ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه! وهي الجد كل الجد. الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء.

ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة. فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة ، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليها .. إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام :

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ..

يوم يتنكر التابعون للمتبوعين ، ويكفر الأولياء بالأولياء ، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله ، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه!

ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا ، ولا يدفع عن أحد عذابا :

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ..

النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فنصره الله منها ونجاه. فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة!

وانتهت دعوة إبراهيم لقومه ، والمعجزة التي لا شك فيها. انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط. ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات. وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق ، إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام :

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ. وَقالَ : إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

ونقف أمام قولة لوط : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) .. لنرى فيم هاجر. إنه لم يهاجر للنجاة. ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة. إنما هاجر إلى ربه. هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه. هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه. هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره ، بعيدا عن موطن الكفر والضلال. بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال.

وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله ـ عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته. وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

وهو فيض من العطاء جزيل ، يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته ، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار ، فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما ، وعطفا وإنعاما. جزاء وفاقا.

* * *

ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم ، بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم ، فنزلا بوادي الأردن ؛ ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد. وكانت تسكن مدينة سدوم. وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة.

ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب ، يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية. ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال ، لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء. إذ خلقها الله أزواجا : ذكرانا وإناثا. فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ. أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ : رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) ..

ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه. فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين :

يأتون الرجال. وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها. فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة ، فتكون هذه جريمة فاحشة ، ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها. فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا. وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء. فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر ، وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة. وجهز كيان كل من الزوجين بالاستعداد للالتذاذ بهذه المباشرة ، نفسيا وعضويا ، وفقا لذلك التناسق. فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها ، ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها. فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة ، وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة!

ويقطعون السبيل ، فينهبون المال ، ويروعون المارة ، ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها. وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى ، إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض ..

ويأتون في ناديهم المنكر. يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه ، لا يخجل بعضهم من بعض. وهي درجة أبعد في الفحش ، وفساد الفطرة ، والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح!

والقصة هنا مختصرة ، وظاهر أن لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى ؛ وأنهم أصروا على ما هم فيه ، فخوفهم عذاب الله ، وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ..

فهو التبجح في وجه الإنذار ، والتحدي المصحوب بالتكذيب ، والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة. وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالبا نصره الأخير :

(قالَ : رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) ..

وهنا يسدل الستار على دعاء لوط ، ليرفع عن الاستجابة. وفي الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم ، يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيما :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا : إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ : إِنَ

فِيها لُوطاً. قالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) ..

وهذا المشهد. مشهد الملائكة مع إبراهيم. مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصودا ؛ قد سبق في قصة إبراهيم أن الله وهب له إسحاق ويعقوب ؛ وولادة إسحاق هي موضوع البشرى ، ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة لوط. فذكر أن مرور الملائكة بإبراهيم كان للبشرى. ثم أخبروه بمهمتهم الأولى : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ. إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) ..

وأدركت إبراهيم رقته ورأفته ، فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية لوطا ؛ وهو صالح وليس بظالم!

وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته ، ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة!

(قالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ؛ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) ..

وقد كان هواها مع القوم ، تقر جرائمهم وانحرافهم ، وهو أمر عجيب.

وينتقل إلى مشهد ثالث. مشهد لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح ؛ وهو يعلم شنشنة قومه ، وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعا. فضاق صدره وساءه حضورهم إليه ، في هذا الظرف العصيب :

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) ..

ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف ، ومحاورة لوط لهم ، وهم في سعار الشذوذ المريض .. ويمضي إلى النهاية الأخيرة. إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم ، ويخبرونه بمهمتهم ، وهو في هذا الكرب وذلك الضيق :

(وَقالُوا : لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ. إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ..

وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعا ـ إلا لوطا وأهله المؤمنين ـ وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين. ويغلب أنها ظاهرة بركانية قلبت المدينة وابتلعتها ؛ وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين.

وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون :

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت ، فلم تعد صالحة للإثمار ولا للحياة. ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم.

* * *

ثم إشارة إلى قصة شعيب ومدين :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ..

وهي إشارة تبين وحدة الدعوة ، ولباب العقيدة : (اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) .. وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة. ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان ، وغصب المارين بطريقهم للتجارة ، وبخس الناس أشياءهم ، والإفساد في الأرض ، والاستطالة على الخلق.

وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم ؛ وأخذهم بالهلاك والتدمير ، على سنة الله في أخذ المكذبين.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ..

وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون. فأصبحوا فيها جاثمين. جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين!

* * *

وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود :

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ؛ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) ..

وعاد كانت تسكن بالأحقاف في جنوب الجزيرة بالقرب من حضرموت ، وثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة بالقرب من وادي القرى. وقد هلكت عاد بريح صرصر عاتية ، وهلكت ثمود بالصيحة المزلزلة. وبقيت مساكنها معروفة للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف ، ويشهدون آثار التدمير ، بعد العز والتمكين.

وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم ، وهو سر ضلال الآخرين.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) ..

فقد كانت لهم عقول ، وكانت أمامهم دلائل الهدى ؛ ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم. وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة ، وهي غرورهم بأنفسهم ، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال ، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان. وضيع عليهم الفرصة (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) يملكون التبصر ، وفيهم مدارك ولهم عقول.

* * *

وإشارة إلى قارون وفرعون وهامان. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَما كانُوا سابِقِينَ) ..

وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه ، ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد. وفرعون كان طاغية غشوما ، يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها ، ويسخر الناس ويجعلهم شيعا ، ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتوا وظلما. وهامان كان وزيره المدبر لمكائده ، المعين له على ظلمه وبطشه.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) ..

فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء. لم تعصمهم من أخذ الله ، ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين من عذاب الله ، بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء.

(وَما كانُوا سابِقِينَ) ..

* * *

هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة ، قد أخذهم الله جميعا. بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا :

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا. وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم ، وثمود أخذتهم الصيحة. وقارون خسف به وبداره الأرض ، وفرعون وهامان غرقا في اليم وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ..

* * *

والآن. وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون .. والآن. وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء .. الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال .. إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله. وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن ، من تعلق به أو احتمى ، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية. فهي وما تحتمي به سواء :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ..

إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود. الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا ، فيسوء تقديرهم لجميع القيم ، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات ، وتختل في أيديهم جميع الموازين. ولا يعرفون إلى أين يتوجهون. ما ذا يأخذون وما ذا يدعون؟

وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض ، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم ، ويخشونها ويفزعون منها ، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها ، أو يضمنوا لأنفسهم حماها! وتخدعهم قوة المال ، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة. ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ؛ ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون!

وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال ، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول ، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب!

وتخدعهم هذه القوى الظاهرة. تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول ، فيدورون حولها ، ويتهافتون عليها ، كما يدور الفراش على المصباح ، وكما يتهافت الفراش على النار!

وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة ، وتملكها ، وتمنحها ، وتوجهها ، وتسخرها كما تريد ، حيثما تريد.

وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد ، أو الجماعات ، أو الدول .. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت .. حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من من تكوينها الرخو ، ولا وقاية لها من بيتها الواهن.

وليس هنالك إلا حماية الله ، وإلا حماه ، وإلا ركنه القوي الركين.

هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة ، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ؛ وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون.

لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس ، وعمرت كل قلب ، واختلطت بالدم ، وجرت معه في العروق ، ولم تعد كلمة تقال باللسان ، ولا قضية تحتاج إلى جدل. بل بديهة مستقرة في النفس ، لا يجول غيرها في حس ولا خيال.

قوة الله وحدها هي القوة. وولاية الله وحدها هي الولاية. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ؛ مهما علا واستطال ، ومهما تجبر وطغى ، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل.

إنها العنكبوت : وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى ، وللإغراء والإغواء. لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة ، وهم يواجهون القوى المختلفة. هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم .. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله ، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة ، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ..

إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء. وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق .. عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت!

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ..

فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادة للسخرية والتهكم. وقالوا : إن رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت. ولم يهز مشاعرهم هذا التصوير العجيب لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ..

* * *

ثم يربط تلك الحقيقة الضخمة التي قدمها بالحق الكبير في تصميم هذا الكون كله على طريقة القرآن في ربط كل حقيقة بذلك الحق الكبير :

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ..

وهكذا تجيء هذه الآية عقب قصص الأنبياء ، وعقب المثل المصور لحقيقة القوى في الوجود ، متناسقة معها مرتبطة بها ، بتلك الصلة الملحوظة. صلة الحقائق المتناثرة كلها بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض ؛ والذي قامت به السماوات والأرض ، في ذلك النظام الدقيق الذي لا يتخلف ولا يبطئ ولا يختلف ولا يصدم بعضه بعضا ، لأنه حق متناسق لا عوج فيه!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ..

الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية المبثوثة في تضاعيف هذا الكون وحناياه ، المشهودة في تنسيقه وتنظيمه ، المنثورة في جوانبه حيثما امتدت الأبصار. والمؤمنون هم الذين يدركونها ، لأنهم مفتوحو البصائر والمشاعر للتلقي والإدراك.

* * *

وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويربط الصلاة وذكر الله ، بالحق الذي في السماوات والأرض ، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه‌السلام :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ..

اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة ، والآية الربانية المصاحبة لها ، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض.

وأقم الصلاة إن الصلاة ـ حين تقام ـ تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها ، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما. «من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا» (١). وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها .. وفرق كبير بينهما .. فهي حين تقام ذكر لله. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع. وأكبر من كل تعبد وخشوع.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ..

فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلتبس عليه أمر. وأنتم إليه راجعون. فمجازيكم بما تصنعون ..

* * *

__________________

(١) رواه ابن جرير قال : حدثنا على حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكر الحديث ..

انتهى الجزء العشرون

ويليه الجزء الحادي والعشرون

مبدوءا بقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ)

بسم الله الرحمن الرحيم

بقية سورة العنكبوت

وسور الرّوم ولقمان والسجدة

وقسم من

سورة الأحزاب

الجزء الحادي والعشرون

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً

آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت. وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين. ومحور السورة ـ كما أسلفنا ـ هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان ، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء .. وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين ؛ وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل ، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة ، ويثبتون للابتلاء. سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه‌السلام. وهي السنة التي لا تتبدل ، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون ، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها.

وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب ، وإقامة الصلاة لذكر الله ، ومراقبة الله العليم بما يصنعون.

وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب ، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله. ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ، فبدلوا في كتابهم ، وانحرفوا إلى الشرك ، والشرك ظلم عظيم ـ وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها ، فهي حق من عند الله مصدق لما معهم.

ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم ، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة ، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم ، يخاطبهم به ، ويحدثهم بكلام الله. ولم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه ، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه!

ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله ، ويهددهم بمجيئه بغتة ، ويصور لهم قربه منهم ، وإحاطة جهنم بهم ، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة ؛ يحضهم على الهجره بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده. يلتفت إليهم في أسلوب عجيب ، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم ، وكل معوق يقعد بهم ، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب ؛ فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية ، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير.

وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين ، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله ـ سبحانه ـ بخلق السماوات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وتنزيل الماء من السماء ، وإحياء الأرض الموات ؛ وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين .. ثم هم بعد ذلك يشركون بالله ، ويكفرون بكتابه ، ويؤذون رسوله ، ويفتنون المؤمنين به. ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه ،

والناس من حولهم في خوف وقلق. وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة. ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين.

وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله ، يريدون أن يخلصوا إليه ، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق ، وكثرة المعوقين.

* * *

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ـ وَقُولُوا : آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ..

إن دعوة الله التي حملها نوح ـ عليه‌السلام ـ والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهي دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو رد البشرية الضالة إلى ربها ، وهدايتها إلى طريقه ، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة ، تعبد إلها واحدا. وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله. وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان ، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.

هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن ؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن. أو تبادل أو تجارة. ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان ؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان. ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان.

ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر .. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة. فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عند ما قامت له دولة في المدينة.

وإن بعضهم ليفتري على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين. فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه. فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله. وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات.

(وَقُولُوا : آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ..

وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش. وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) ..

«كذلك». على النهج الواحد المتصل. وعلى السنة الواحدة التي لا تتبدل. وعلى الطريقة التي يوحي بها

الله لرسله (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) .. فوقف الناس بإزائه في صفين : صف يؤمن به من أهل الكتاب ومن قريش ، وصف يجحده ويكفر به مع إيمان أهل الكتاب وشهادتهم بصدقه ، وتصديقه لما بين أيديهم .. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) .. فهذه الآيات من الوضوح والاستقامة بحيث لا ينكرها إلا الذي يغطي روحه عنها ويسترها ، فلا يراها ولا يتملاها! والكفر هو التغطية والحجاب في أصل معناه اللغوي ، وهو ملحوظ في مثل هذا التعبير.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) ..

وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها. فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عاش بينهم فترة طويلة من حياته ، لا يقرأ ولا يكتب ؛ ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين. ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئا كاتبا. فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم؟

ونقول : إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها. فحتى على فرض أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان قارئا كاتبا ، ما جاز لهم أن يرتابوا. فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر. فهو أكبر جدا من طاقة البشر ومعرفة البشر ، وآفاق البشر. والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون. وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة ، وبأن في عباراته سلطانا ، لا يصدران عن بشر!

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) ..

فهو دلائل واضحة في صدور الذين وهبهم الله العلم ، لا لبس فيها ولا غموض ، ولا شبهة فيها ولا ارتياب. دلائل يجدونها بينة في صدورهم ، تطمئن إليها قلوبهم ، فلا تطلب عليها دليلا وهي الدليل. والعلم الذي يستحق هذا الاسم ، هو الذي تجده الصدور في قرارتها ، مستقرا فيها ، منبعثا منها ؛ يكشف لها الطريق ، ويصلها بالخيط الواصل إلى هناك! (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) .. الذين لا يعدلون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور ، والذين يتجاوزون الحق والصراط المستقيم.

(وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ : إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..

يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية. والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها. بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه ؛ والذي تفتح كنوزه لجميع الأجيال ؛ والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها ، وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب!

(قُلْ : إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) .. يظهرها عند الحاجة إليها ، وفق تقديره وتدبيره. وليس لي أن أقترح على الله شيئا. ليس هذا من شأني ولا من أدبي (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). أنذر وأحذر وأكشف وأبين ؛ فأؤدي ما كلفته. ولله الأمر بعد ذلك والتدبير.

إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة. وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار. فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار. ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية ، حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات. ونشأت عنها الانحرافات.

وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن :

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ؛ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير. أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن؟ وهو يتنزل عليهم ، يحدثهم بما في نفوسهم ، ويكشف لهم عما حولهم ؛ ويشعرهم أن عين الله عليهم ، وأنه معنيّ بهم حتى ليحدثهم بأمرهم ، ويقص عليهم القصص ويعلمهم. وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير. وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم .. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله. والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم. ثم هم لا يكتفون!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم ، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ؛ ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير. وهم الذين ينفعهم هذا القرآن ، لأنه يحيا في قلوبهم ، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره ، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور.

فأما الذين لا يشعرون بهذا كله ، فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن! هؤلاء المطموسون الذين لا تفتح قلوبهم للنور. هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم ؛ وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله!

(قُلْ : كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ..

وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة. وهو الذي يعلم أنهم على الباطل :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ..

الخاسرون على الإطلاق. الخاسرون لكل شيء. الخاسرون للدنيا والآخرة. الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور.

إن الإيمان بالله كسب. كسب في ذاته. والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله. إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق ، وثبات على الأحداث ؛ وثقة بالسند ، واطمئنان للحمى ، ويقين بالعاقبة. وإن هذا في ذاته لهو الكسب ؛ وهو هو الذي يخسره الكافرون. و (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

* * *

ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين. عن استعجالهم بالعذاب. وجهنم منهم قريب :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، وَيَقُولُ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

ولقد كان المشركون يسمعون النذير ، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين ؛ فيستعجلون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالعذاب على سبيل التحدي. وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا. أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا ؛ وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات. أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيرا من أولئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى. أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين .. أو لغير

هذا وذاك من تدبير الله المستور ..

ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره ، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي .. (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) .. وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه. مجيئه في حينه. ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه. وحيث يبهتون له ويفاجأون به : (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر. وصدق الله. ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله. ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم ؛ كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية. لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد ، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام ؛ وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل ، إلى أمد طويل. وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله.

وبعد الوعيد بعذاب الدنيا الذي يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ، جعل يكرر استنكاره لاستعجالهم بالعذاب ، وجهنم لهم بالمرصاد :

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ..

وعلى طريقة القرآن في التصوير ، وفي استحضار المستقبل كأنه مشهود ، صور لهم جهنم محيطة بالكافرين. وذلك بالقياس إليهم مستقبل مستور ؛ ولكنه بالقياس إلى الواقع المكشوف لعلم الله حاضر مشهود. وتصويره على حقيقته المستورة يوقع في الحس رهبة ، ويزيد استعجالهم بالعذاب نكارة. فأنى يستعجل من تحيط به جهنم ، وتهم أن تطبق عليه وهو غافل مخدوع؟!

ويرسم لهم صورتهم في جهنم هذه المحيطة بهم ؛ وهم يستعجلون بالعذاب :

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، وَيَقُولُ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

وهو مشهد مفزع في ذاته ، يصاحبه التقريع المخزي والتأنيب المرير : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. فهذه نهاية الاستعجال بالعذاب ؛ والاستخفاف بالنذير.

* * *

ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ليلتفت إلى المؤمنين ، الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم ، ويمنعونهم من عبادة ربهم .. يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم ، والنجاة بعقيدتهم. في نداء حبيب وفي رعاية سابغة ، وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

إن خالق هذه القلوب ، الخبير بمداخلها ، العليم بخفاياها ، العارف بما يهجس فيها ، وما يستكن في حناياها .. إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب : يا عبادي الذين آمنوا : يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها ، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها. بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها : (يا عِبادِيَ) ..

هذه هي اللمسة الأولى. واللمسة الثانية : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) ..

أنتم عبادي. وهذه أرضي. وهي واسعة. فسيحة تسعكم. فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق ، الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة ، ناجين بدينكم ، أحرارا في عبادتكم (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ).

إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة. ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين : بالنداء الحبيب القريب : (يا عِبادِيَ) وبالسعة في الأرض : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) وما دامت كلها أرض الله ، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه.

ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها. فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة. خطر الموت الكامن في محاولة الخروج ـ وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة ، ولا يسمحون لهم بالهجرة عند ما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين ـ ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة. ومن هنا تجيء اللمسة الثانية :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ..

فالموت حتم في كل مكان ، فلا داعي أن يحسبوا حسابه ، وهم لا يعلمون أسبابه. وإلى الله المرجع والمآب. فهم مهاجرون إليه ، في أرضه الواسعة ، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف. وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة. فمن ذا يساوره الخوف ، أو يهجس في ضميره القلق ، بعد هذه اللمسات؟

ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده ؛ بل يكشف عما أعده لهم هناك. وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة. ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض. عوض من نوعها وأعظم منها :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها).

وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله :

(نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ..

وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب ، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع.

ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق ، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف ، وأسباب الرزق المعلومة. فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ، اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ..

لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم. فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، ولا كيف تحتفظ به معها. ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعا. وكذلك يرزق الناس. ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه. إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه. وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله ، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله. فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة. فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا. كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها ، ولكن الله يرزقها ولا يدعها.

ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله ، وإشعارهم برعايته وعنايته ، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم ، ولا يدعهم وحدهم : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

وتنتهي هذه الجولة القصيرة ؛ وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ؛ ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة

الخروج. وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة ، ومكان كل قلق ثقة ، ومكان كل تعب راحة. وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان.

ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب. ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب.

* * *

وبعد هذه الجولة مع المؤمنين يرتد السياق إلى التناقض في موقف المشركين وتصوراتهم. فهم يقرون بخلق الله للسماوات والأرض وتسخيره للشمس والقمر وإنزاله الماء من السماء وإحيائه الأرض بعد موتها. وما يتضمنه هذا من بسط الرزق لهم أو تضييقه عليهم. وهم يتوجهون لله وحده بالدعاء عند الخوف .. ثم هم بعد ذلك كله يشركون بالله ، ويؤذون من يعبدونه وحده ، ويفتنونهم عن عقيدتهم التي لا تناقض فيها ولا اضطراب ، وينسون نعمة الله عليهم في تأمينهم في البيت الحرام ، وهم يروعون عباده في بيته الحرام :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ : اللهُ. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ : اللهُ. قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ؟ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) ..

وهذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب إذ ذاك ؛ وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد ؛ ثم وقع فيها الانحراف. ولا عجب في هذا فهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس ؛ ولم يكونوا يحفلون كثيرا بالديانة الموسوية أو المسيحية وهما معهم في الجزيرة العربية ، اعتزازا منهم بأنهم على دين إبراهيم. غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف.

كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات والأرض ، ومسخر الشمس والقمر ، ومنزل الماء من السماء ، ومحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء .. يقرون أن صانع هذا كله هو الله. ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم ، أو يعبدون الجن ، أو يعبدون الملائكة ؛ ويجعلونهم شركاء لله في العبادة ، وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق .. هو تناقض عجيب. تناقض يعجّب الله منه في هذه الآيات : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي كيف يصرفون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فليس يعقل من يقبل عقله هذا التخليط!

وبين السؤال عن خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر ؛ والسؤال عن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها. يقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له فيربط سنة الرزق بخلق السماوات والأرض وسائر آثار القدرة والخلق ، ويكل هذا إلى علم الله بكل شيء : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..

والرزق ظاهر الارتباط بدورة الأفلاك ، وعلاقتها بالحياة والماء والزرع والإنبات. وبسط الرزق وتضييقه بيد الله ؛ وفق الأوضاع والظواهر العامة المذكورة في الآيات. فموارد الرزق من ماء ينزل ، وأنهار تجري ، وزروع تنبت ، وحيوان يتكاثر. ومن معادن وفلزات في جوف الأرض ، وصيد في البر والبحر .. إلى

نهاية موارد الرزق العامة ، تتبع كلها نواميس السماوات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر تبعية مباشرة ظاهرة. ولو تغيرت تلك النواميس عما هي عليه أدنى تغيير لظهر أثر هذا في الحياة كلها على سطح الأرض ؛ وفي المخبوء فيها من الثروات الطبيعية الأخرى سواء بسواء. فحتى هذا المخبوء في جوف الأرض ؛ إنما يتم تكوينه وتخزينه واختلافه من مكان إلى مكان وفق أسباب من طبيعة الأرض ومن مجموعة تأثراتها بالشمس والقمر (١)!

والقرآن يجعل الكون الكبير ومشاهده العظيمة هي برهانه وحجته ، وهي مجال النظر والتدبر للحق الذي جاء به. ويقف القلب أمام هذا الكون وقفة المتفكر المتدبر ، اليقظ لعجائبه ، الشاعر بيد الصانع وقدرته ، المدرك لنواميسه الهائلة ، بلفتة هادئة يسيرة ، لا تحتاج إلى علم شاق عسير ، إنما تحتاج إلى حس يقظ وقلب بصير. وكلما جلا آية من آيات الله في الكون وقف أمامها يسبح بحمد الله ويربط القلوب بالله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ!).

وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض ، يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها. فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة :

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ..

فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهوا ولعبا حين لا ينظر فيها إلى الآخرة. حين تكون هي الغاية العليا للناس. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة. فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية. هي (الْحَيَوانُ) لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء.

والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيدا. إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه. إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع ، والوقوف فيه عند حدود الله. كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له ، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح. فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن ؛ ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها ، مالكا لحريته معتدلا في نظرته : الدنيا لهو ولعب ، والآخرة حياة مليئة بالحياة.

وبعد هذه الوقفة للوزن والتقويم يمضي في عرض ما هم فيه من متناقضات :

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ..

وهذا كذلك من التناقض والاضطراب. فهم إذا ركبوا في الفلك ؛ وأصبحوا على وجه اليم كاللعبة تتقاذفها الأمواج ؛ لم يذكروا إلا الله. ولم يشعروا إلا بقوة واحدة يلجأون إليها هي قوة الله. ووحدوه في مشاعرهم وعلى ألسنتهم سواء ؛ وأطاعوا فطرتهم التي تحس وحدانية الله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ونسوا وحي الفطرة المستقيم ؛ ونسوا دعاءهم لله وحده مخلصين له الدين ؛ وانحرفوا إلى الشرك بعد الإقرار والتسليم! وغاية هذا الانحراف أن ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة ، وما آتاهم من الفطرة ، وما آتاهم من البينة ؛ وأن يتمتعوا متاع الحياة الدنيا المحدود إلى الأجل المقدور. ثم يكون بعد ذلك ما يكون ، وهو الشر والسوء.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..

__________________

(١) يراجع تفسير قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) في سورة الفرقان الجزء التاسع عشر من الظلال.

وهو التهديد من طرف خفي بسوء ما سوف يعلمون!

ثم يذكر هم بنعمة الله عليهم في إعطائهم هذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه ؛ فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها بتوحيده وعبادته. بل إنهم ليروعون المؤمنين فيه :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ؟) ..

ولقد كان أهل الحرم المكي يعيشون في أمن ، يعظمهم الناس من أجل بيت الله ، ومن حولهم القبائل تتناحر ، ويفزع بعضهم بعضا ، فلا يجدون الأمان إلا في ظل البيت الذي آمنهم الله به وفيه. فكان عجيبا أن يجعلوا من بيت الله مسرحا للأصنام ، ولعبادة غير الله أيا كان! (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ؟ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ؟ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) ..

وهم قد افتروا على الله الكذب بنسبة الشركاء إليه. وهم كذبوا بالحق لما جاءهم وجحدوا به. أليس في جهنم مثوى للكافرين؟ بلى وعن يقين!

* * *

ويختم السورة بصورة الفريق الآخر. الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ؛ ويتصلوا به. الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا. الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس. الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب .. أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم ، ولن ينسى جهادهم. إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم. وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم. وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم. وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ..

* * *

(٣٠) سورة الرّوم مكيّة

وآياتها ستّون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ

تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢)

نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة. ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب. وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين .. ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية ، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية ، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد ، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان.

ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح

لها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين.

ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد ، ولا في حدود ذلك الحادث. إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت. وليصلهم بالكون كله ، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما. وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها. ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود. ثم يطوف بهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي أحوال البشر ، وفي عجائب الفطر .. فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها ، وتوسع آمادها وأهدافها ، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة. عزلة المكان والزمان والحادث. إلى فسحة الكون كله : ماضيه وحاضره ومستقبله ، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه.

ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير. ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون ، وتحكم فطرة البشر ؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة ، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة ؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق ، ويقوّم بها نشاطهم في هذه الأرض ، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة.

وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها ـ حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها ـ ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى ، وفطرة النفس البشرية وأطوارها ، وماضي هذه البشرية ومستقبلها. لا على هذه الأرض وحدها ، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط.

وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة ؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار ، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر. ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله ، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.

* * *

ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات ، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون ، وتثبيت مدلولاتها في القلوب .. يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين :

في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة. ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون. ويقيس عليها قضية البعث والإعادة. ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين. ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ؛ ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب. ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك ، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم .. وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح. طريق الفطرة التي فطر الناس عليها ؛ والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ؛ ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا ، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى.

وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة. ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء ، ويصور حالهم في الرحمة والضر ، وعند بسط الرزق وقبضه. ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته. ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية ؛ فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ؛ ويوجههم إلى السير في الأرض ، والنظر في عواقب المشركين من قبل. ومن ثم يوجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الاستقامة على دين الفطرة ، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه. ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول. ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله ؛ وأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يملك إلا البلاغ ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم. ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها ، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة ، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها. ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصبر على دعوته ، وما يلقاه من الناس فيها ؛ والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت ؛ فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون.

* * *

وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي. وهو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس ، وأحداث الحياة ، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الكون ونواميس الوجود. وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة ، وكل حادث وكل حالة ، وكل نشأة وكل عاقبة ، وكل نصر وكل هزيمة .. كلها مرتبطة برباط وثيق ، محكومة بقانون دقيق. وأن مرد الأمر فيها كله لله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات ؛ والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير ..

* * *

والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل :

(الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللهِ ، لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ..

«بدأت السورة بالأحرف المقطعة : «ألف. لام. ميم» التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن ـ ومنه هذه السورة ـ مصوغ من مثل هذه الأحرف ، التي يعرفها العرب ؛ وهو مع هذا معجز لهم ، لا يملكون صياغة مثله ، والأحرف بين أيديهم ، ومنها لغتهم.

ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين. وقد روى ابن جرير ـ بإسناده ـ عن عبد الله ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : كانت فارس ظاهرة على الروم. وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم. فلما نزلت : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ). قالوا : يا أبا بكر. إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين. قال : صدق. قالوا : هل لك

أن نقامرك (١)؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين. فمضت السبع ولم يكن شيء. ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ؛ فذكر ذلك للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «ما بضع سنين عندكم؟» قالوا : دون العشر. قال : «اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل». قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس. ففرح المؤمنون بذلك.

وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير. وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية.

وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان. ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال ، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب ، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم ، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان.

وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. منذ حوالي أربعة عشر قرنا. ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.

وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر ، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب.

والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله ، كما تبدو في قولة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في غير تلعثم ولا تردد ، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ؛ فما يزيد على أن يقول : صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) .. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل.

والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر ، من قول الله سبحانه : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) .. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية ، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة ، وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف شاء ، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله. وإذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم.

__________________

(١) أي نراهنك. وجاء في خبر آخر أن ذلك كان قبل تحريم الرهان بوصفه من الميسر.

(الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) ..

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ..

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) ..

ولقد صدق وعد الله ، وفرح المؤمنون بنصر الله.

(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف ؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات ، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.

والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودخل يصلي قائلا : (تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اعقلها وتوكل» (١). فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله.

(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع ؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس ؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف.

(وَعْدَ اللهِ. لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ..

ذلك النصر وعد من الله ، فلا بد من تحققه في واقع الحياة : (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) فوعده صادر عن إرادته الطليقة ، وعن حكمته العميقة. وهو قادر على تحقيقه ، لا راد لمشيئته ، ولا معقب لحكمه ، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء.

وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ولو بدا في الظاهر أنهم علماء ، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أن علمهم سطحي ، يتعلق بظواهر الحياة ، ولا يتعمق سننها الثابتة ، وقوانينها الأصيلة ؛ ولا يدرك نواميسها الكبرى ، وارتباطاتها الوثيقة : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) .. ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر ؛ ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه.

وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير ، مهما بدا للناس واسعا شاملا ، يستغرق جهودهم بعضه ، ولا يستقصونه

__________________

(١) أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك.

في حياتهم المحدودة. والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل ، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه.

والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود ؛ ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه ، يظل ينظر وكأنه لا يرى ؛ ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة ، ولكنه لا يدرك حكمته ، ولا يعيش بها ومعها. وأكثر الناس كذلك ، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود ؛ وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس. ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) .. فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة ، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة. والذين لا يدركون حكمة النشأة ، ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة ، ولا يقدرونها قدرها ، ولا يحسبون حسابها ، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود ، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.

والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل ؛ وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم ؛ فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا ؛ ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا ، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود. والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة. ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة ، وقدر زهيد من النصيب الضخم ، وفصل صغير من الرواية الكبيرة!

ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها ، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة ، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ؛ ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان ، ولكل منهما زاوية للنظر ، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال .. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا ؛ وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ، ونواميس شاملة للظاهر والباطن ، والغيب والشهادة ، والدنيا والآخرة ، والموت والحياة ، والماضي والحاضر والمستقبل ، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء .. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه ؛ ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان. الخليفة في الأرض. المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله.

* * *

ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود ، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون. في السماوات والأرض وما بينهما ؛ ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون ، علهم يدركون ذلك الحق الكبير ، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة ؛ ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ).

فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم ، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق ، ثابت على الناموس ، لا يضطرب ، ولا تتفرق به السبل ، ولا تتخلف دورته ، ولا يصطدم بعضه ببعض ،

ولا يسير وفق المصادفة العمياء ، ولا وفق الهوى المتقلب ، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرا. وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة ، يتم فيها الجزاء على العمل ، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة. إنما كل شيء إلى أجله المرسوم. وفق الحكمة المدبرة ؛ وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة ، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون! ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ويخدعهم : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ..

* * *

ومن هذه الجولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما. وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل ، وفي محتوياته المنوعة ، الشاملة للأحياء والأشياء ، والأفلاك والأجرام ، والنجوم والكواكب ، والجليل والصغير ، والخافي والظاهر ، والمعلوم والمجهول .. من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان ، وأبعاد التاريخ ، يرون فيها طرفا من سنة الله الجارية ، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ؛ وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ؛ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى ، أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين ، وهم ناس من الناس ، وخلق من خلق الله ، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية. فسنة الله هي سنة الله في الجميع. وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود ، بلا محاباة لجيل من الناس ، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب. حاشا لله رب العالمين!

وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان ، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون. كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته ، وقيمه وتصوراته ، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا ، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا ؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا.

فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) .. (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) .. فحرثوها وشقوا عن باطنها ، وكشفوا عن ذخائرها (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) .. فقد كانوا أكثر حضارة من العرب ، وأقدر منهم على عمارة الأرض .. ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه : (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) .. فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات ؛ ولم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق. فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ؛ ولم تنفعهم قوتهم ؛ ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم ؛ ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ..

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) .. كانت السوأى هي العاقبة التي لقيها المسيئون وكانت جزاء وفاقا على (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

والقرآن الكريم يدعو المكذبين المستهزئين بآيات الله أن يسيروا في الأرض فلا ينعزلوا في مكانهم كالقوقعة ؛ وأن يتدبروا عاقبة أولئك المكذبين المستهزئين ويتوقعوا مثلها ؛ وأن يدركوا أن سنة الله واحدة وأنها لا تحابي أحدا ؛ وأن يوسعوا آفاق تفكيرهم فيدركوا وحدة البشرية ، ووحدة الدعوة ، ووحدة العاقبة في أجيال البشرية

جميعا. وهذا هو التصور الذي يحرص الإسلام على أن يطبع به قلب المؤمن وعقله ، ويكرر القرآن الإيقاع حوله كثيرا.

* * *

ومن هاتين الجولتين في أغوار الكون وأغوار التاريخ يردهم إلى الحقيقة التي يغفل عنها الغافلون. حقيقة البعث والمآب. وهي طرف من الحق الأكبر الذي يقوم عليه الوجود :

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

وهي حقيقة بسيطة واضحة. والترابط والتناسق بين جزئيها أو بين حلقتيها واضح كذلك. فالإعادة كالبدء لا غرابة فيها. وهما حلقتان في سلسلة النشأة ، مترابطتان لا انفصام بينهما. والرجعة في النهاية إلى رب العالمين ، الذي أنشأ النشأة الأولى والنشأة الآخرة ، لتربية عباده ورعايتهم ومجازاتهم في النهاية على ما يعملون.

وعند ما يصل السياق إلى البعث والمآب يعرض مشهدا من مشاهد القيامة ، ويرسم مصائر المؤمنين والمكذبين حين يرجعون ؛ ويكشف عن عبث اتخاذ الشركاء وسخف عقيدة المشركين :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ..

فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون ، ويكذب بها المكذبون. ها هي ذي تجيء ، أو ها هي ذي تقوم! وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين ، لا أمل لهم في نجاة ، ولا رجاء لهم في خلاص. ولا شفاعة لهم من شركائهم الذين اتخذوهم في الحياة الدنيا ضالين مخدوعين! هؤلاء هم حائرين يائسين لا منقذ لهم ولا شفيع. ثم ها هم أولاء يكفرون بشركائهم الذين عبدوهم في الأرض وأشركوهم مع الله رب العالمين.

ثم ها هو ذا مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) .. ويتلقون فيها ما يفرح القلب ويسر الخاطر ويسعد الضمير.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ..

وتلك نهاية المطاف. وعاقبة المحسنين والمسيئين.

* * *

ومن هذه الجولة في مشاهد القيامة في العالم الآخر يعود بهم إلى هذا العالم ، وإلى مشاهد الكون والحياة. وإلى عجائب الخلق وأسرار النفس ، وإلى خوارق الأحداث ومعجزات التكوين. ويبدأ هذه الجولة بتسبيح الله حين تقلب الليل والنهار وحمد الله في الكون العريض بالعشي والأظهار :

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ

لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ـ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ـ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

إنها جولة ضخمة هائلة ، لطيفة عميقة ، بعيدة الآماد والأغوار. جولة تطوّف بالقلب البشري في الأمسيات والأصباح ، والسماوات والأرض ، والعشي والأظهار ، وتفتح هذا القلب لتدبر الحياة والموت والعمليات الدائبة في النشوء والدثور. وترتد به إلى نشأة الإنسان الأولى ، وإلى ما ركب في فطرته من ميول ونوازع ، وقوى وطاقات ، وما يقوم بين زوجيه من علائق وروابط ، وفق تلك الميول والنوازع وهذه القوى والطاقات. وتوجهه إلى آيات الله في خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان وفقا لاختلاف البيئة والمكان. وإلى تدبر ما يعتري الكائن البشري من نوم ويقظة وراحة وكد. وإلى ما يعتري الكون من ظواهر البرق والمطر ، وما تثيره في نفوس البشر من خوف وطمع ، وفي بنية الأرض من حياة وازدهار. وتمضي هذه الجولة العجيبة في النهاية بالقلب البشري إلى قيام السماوات والأرض في هذا كله بأمر الله ؛ وإلى توجه من في السماوات والأرض كلهم لله. وتنتهي بالحقيقة التي تنجلى حينئذ واضحة هينة يسيرة : إن الله هو يبدئ ويعيد. والإعادة أهون عليه. وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم :

* * *

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) .. إن ذلك التسبيح وهذا الحمد يجيئان تعقيبا على مشهد القيامة في الفقرة السابقة ، وفوز المؤمنين بروضة فيها يحبرون ، وانتهاء الكافرين المكذبين إلى شهود العذاب. ومقدمة لهذه الجولة في ملكوت السماوات والأرض ، وأغوار النفس وعجائب الخلق. فيتسقان مع التعقيب على المشهد وعلى التقديم للجولة كل الاتساق.

والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات : الإمساء والإصباح والعشي والأظهار ؛ كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض. فيتقصى بهما الزمان والمكان ؛ ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان ؛ ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والأظهار .. ومن ثم يظل هذا القلب مفتوحا يقظا حساسا ، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر ، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال ، يذكره بتسبيح الله وحمده ؛ ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها .. وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ..

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) .. تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان ، على سطح الأرض ، وفي أجواز الفضاء ، وفي أعماق البحار .. ففي كل لحظة يتم هذا التحول. بل هذه المعجزة الخارقة التي لا نتبه إليها لطول الألفة والتكرار. في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي. وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة ؛ وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام. ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات ؛ ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة ، وتستعد للإخصاب. وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين. إنسان أو حيوان أو طائر. والجثة التي ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتشحنها بالغازات

هي مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات ، فالحيوان والإنسان! ومثل هذا يتم في أغوار البحار وفي أجواز الفضاء على السواء.

إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير ، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله.

(وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) .. فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعا مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان!

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ..

والتراب ميت ساكن ؛ ومنه نشأ الإنسان. وفي موضع آخر في القرآن جاء : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١) فالطين هو الأصل البعيد للإنسان. ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين. للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك. وذلك بعد قوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) تنسيقا للعرض على طريقة القرآن.

وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة ، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها ؛ والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم ، وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير.

والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر .. نقلة تثير التأمل في صنع الله ؛ وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله ؛ وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم.

ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..

والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر ، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين ؛ وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة. ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجا ، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر ، وجعلت في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب ، وراحة للجسم والقلب ، واستقرارا للحياة والمعاش ، وأنسا للأرواح والضمائر ، واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء.

والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرا موحيا ، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) .. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ..

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .. فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر. ملبيا لحاجته الفطرية : نفسية وعقلية وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء ، والمودة والرحمة ، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر ، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد ..

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) ..

__________________

(١) سورة المؤمنون. آية : ١٢. يراجع تفسيرها في الجزء الثامن عشر ص ٢٤٥٧ ـ ٢٤٥٨.

وآية خلق السماوات والأرض كثيرا ما يشار إليها في القرآن ، وكثيرا ما نمر عليها سراعا دون أن نتوقف أمامها طويلا .. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق.

إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق ؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات. تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات ؛ وما بينها من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب ؛ وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار.

ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام ، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها ؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها .. فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان ؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل ، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل!

هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعا. بينما نتحدث طويلا. وطويلا جدا. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان ؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء! من العلماء!

ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان .. بين بني الإنسان. ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض. فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي ، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان. مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان.

وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان ؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله ، وآياته في خلق السماوات والأرض. وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية. ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن. ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا). وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) ..

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ..

وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية وما يتعلق بها من أحوال البشرية ، وتربط بين هذه وتلك. وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير .. تجمع بين ظاهرتي الليل والنهار ونوم البشر ونشاطهم ابتغاء رزق الله ، الذي يتفضل به على العباد ، بعد أن يبذلوا نشاطهم في الكد والابتغاء ، وقد خلقهم الله متناسقين مع الكون الذي يعيشون فيه ؛ وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار ؛ وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام. مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات. وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) .. والنوم والسعي سكون وحركة يدركان بالسمع. ومن ثم يتناسق هذا التعقيب في الآية القرآنية مع الآية الكونية التي تتحدث عنها على طريقة القرآن الكريم.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني ؛ ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء ، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا. ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق. وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم. وأيا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارئ وقدره تقديرا.

والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرا في ماهية الظواهر الكونية وعللها ؛ إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود. ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق (خَوْفاً وَطَمَعاً) .. وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة. شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانا عند ما يبرق البرق. أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل. وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال ؛ والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ..

والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حيّ ، يحيا ويموت. وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم. فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة ، مطيعة لربها خاضعة خاشعة ، ملبية لأمره مسبحة عابدة. والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه ، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين.

ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض ، يبعث فيها الخصب ، فتنبت الزرع الحي النامي ؛ وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات. ومن ثم في الحيوان والإنسان. والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .. فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ..

وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير. وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا. وما من عاقل يملك أن يقول : إن هذا كله يقع بدون تدبير. وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره ، ملبية لهذا الأمر ، طائعة له ، دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب.

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ..

ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون ، وهذه السلطة على مقدراته ، لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم ، بالخروج من القبور!

ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاما لهذا التقرير ؛ فإذا كل من في السماوات والأرض من خلائق قانتون لله طائعون.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ..

ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين. ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين. إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة ، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت.

ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ـ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ـ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة ، وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) .. وليس شيء أهون على الله ولا أصعب. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم ، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته ، فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله. وهي في طبيعتها أهون وأيسر؟!

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد ، وليس كمثله شيء ، إنما هو الفرد الصمد.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد. الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير.

* * *

وعند ما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد ، والأعماق والأغوار ، والظواهر والأحوال ، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ : هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ، تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه : جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا. وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال. ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار. فيبدو أمرهم عجبا. يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده. ويأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم. ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله. وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير.

وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره .. (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ؟) .. وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) .. أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار ، وتخشون أن يجوروا عليكم ، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم ، لأنهم أكفاء لكم وأنداد؟ هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص؟ وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟

وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه ، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة ، يكشف عن العلة الأصيلة في هذا التناقض المريب : إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير :

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ؟ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ..

والهوى لا ضابط له ولا مقياس. إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة ، ورغباتها ومخاوفها. وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان. وهو الضلال الذي لا يرجى معه هدى ، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ؟) نتيجة لاتباعه هواه؟ (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يمنعونهم من سوء المصير.

* * *

وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها ؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات!

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً. فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ..

هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده ، وفي موضعه ، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده ، وفي أغوار النفس وفطرتها .. يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله ؛ كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل ، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح .. وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن. السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) .. واتجه إليه مستقيما. فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق ، ولا تستمد من علم ، إنما تتبع الشهوات ، والنزوات بغير ضابط ولا دليل .. أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه ، مستقيما على نهيه دون سواه :

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) .. وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين ؛ وكلاهما من صنع الله ؛ وكلاهما موافق لناموس الوجود ؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ). فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .. فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم.

والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم ، ولو أنه موجه إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا أن المقصود به جميع المؤمنين. لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين :

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ..

فهي الإنابة إلى الله والعودة في كل أمر إليه. وهي التقوى وحساسية الضمير ومراقبة الله في السر والعلانية ؛ والشعور به عند كل حركة وكل سكنة. وهي إقامة الصلاة للعبادة الخالصة لله. وهي التوحيد الخالص الذي يميز المؤمنين من المشركين ..

ويصف المشركين بأنهم (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) .. والشرك ألوان وأنماط كثيرة. منهم من يشركون الجن ، ومنهم من يشركون الملائكة ، ومنهم من يشركون الأجداد والآباء. ومنهم من يشركون الملوك والسلاطين. ومنهم من يشركون الكهان والأحبار. ومنهم من يشركون الأشجار والأحجار. ومنهم من يشركون الكواكب والنجوم. ومنهم من يشركون النار. ومنهم من يشركون الليل والنهار. ومنهم من يشركون القيم الزائفة والرغائب والأطماع. ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله .. و (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق ، ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد ، الذي تقوم السماوات والأرض بأمره ، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون.

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا

يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

يمضي هذا الشوط من السورة في مجالها الأصيل. المجال الكوني العام الذي ترتبط به أقدار الناس وأقدار الأحداث ؛ والذي تتناسق فيه سنن الحياة وسنن الكون وسنن الدين القيم بلا تعارض ولا اصطدام.

وفي هذا الشوط يرسم صورة لتقلب الأهواء البشرية أمام ثبات السنن ؛ ووهن عقائد الشرك أمام قوة الدين القيم. ويصور نفوس البشر في السراء والضراء وعند قبض الرزق وبسطه ، وهي تضطرب في تقديراتها وتصوراتها ما لم تستند إلى ميزان الله الذي لا يضطرب أبدا ؛ وما لم ترجع إلى قدر الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وبمناسبة الرزق يوجههم إلى الطريقة التي تنمي المال وتزكيه. الطريقة المتفقة مع النهج القيم والطريق الواصل. ويردهم بهذا إلى معرفة الخالق الرازق الذي يميت ويحيي. أما الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله فماذا يفعلون؟ وينبههم إلى الفساد الذي تنشئه عقيدة الشرك في كل مكان. كما يوجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمسلمين إلى الاستقامة على منهجهم القيم. قبل أن يأتي اليوم الذي لا عمل فيه ولا كسب ، ولكن حساب وجزاء عما كانوا يعملون. وفي معرض الحديث عن رزق الله يوجه قلوبهم إلى أنماط من هذا الرزق. منها ما يتعلق بحياتهم المادية كالماء النازل من السماء الذي يحيي الأرض بعد موتها. وتجري الفلك فيه بأمره. ومنها تلك الآيات البينات التي تنزل على الرسول لإحياء موات القلوب والنفوس ، ولكنهم لا يهتدون ولا يسمعون. ويطوف بهم في جولة مع أطوار نشأتهم وحياتهم حتى ينتهوا إلى خالقهم ، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون .. ويختم هذا الشوط بتثبيت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتوجيهه إلى الصبر حتى يتحقق وعد الله الحق اليقين.

* * *

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ، فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ؟ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة ، ولا تسير على نهج واضح. صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة ، والتصورات العارضة ، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات. فعند مس الضر يذكر الناس ربهم ، ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها ، ولا نجاة إلا بالإنابة إليها. حتى إذا انكشفت الغمة ، وانفرجت الشدة ، وأذاقهم الله رحمة منه : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .. وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم. ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الاضطرار الذي ألجأهم إلى الله ؛ وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه. فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة ، بدلا من الشكر والاستقامة على الإنابة.

وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية ، فيوجه إليهم الخطاب ، ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه :

(فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ..

وهو تهديد ملفوف ، هائل مخيف. وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل ، الذي أنشأه كله بقولة : كن! (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)!

وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به

نعمة الله ورحمته ؛ وهذا الكفر الذي ينتهون إليه :

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ؟) ..

فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله. فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه؟ وهو سؤال استنكاري تهكمي ، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك ، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل. ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر ، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله. وما يأتي بسلطان من عنده. وإلا فهو واهن ضعيف.

ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار ؛ والقنوط من الشدة واليأس من رحمة الله :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ..

وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال ؛ وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات. والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان. فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها ، فيطيرون بها ، ويستغرقون فيها ، ولا يشكرون المنعم ، ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان وابتلاء. حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة (سَيِّئَةٌ) عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة ، وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنهم الغمة ؛ وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه .. وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله ، التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته. أولئك الذين لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا!

ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم ، وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم. فالأمر في السراء والضراء يتبع قانونا ثابتا ، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه ، فهو الذي ينعم بالرحمة ، ويبتلي بالشدة ؛ ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته ، وبمقتضى حكمته. وهذا ما يقع كل آن ، ولكنهم هم لا يبصرون :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) ..

فلا داعي للفرح والبطر عند البسط ، ولا لليأس والقنوط عند القبض ؛ فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله ، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله ، ودلالة على اطراد السنة ، وثبات النظام ، رغم تقلب الأحوال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

* * *

وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه ؛ وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته ؛ فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح. لا كما يظنون هم ، بل كما يهديهم الله :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ؛ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ؛ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ..

وما دام المال مال الله ، أعطاه رزقا لبعض عباده ، فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده ، يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال. ومن ثم سماها حقا. ويذكر هنا من هذه الفئات «ذا القربى

والمساكين وابن السبيل». ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا. ولكن المبدأ كان قد تقرر. مبدأ أن المال مال الله ، بما أنه هو الرازق به ، وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي ، يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال .. وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال. وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام. فما دام المال مال الله ، فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول ، سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته ، أو في طريقة إنفاقه. وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء.

وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح. وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ..

وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس ، كي ترد عليه الهدية مضاعفة! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) .. هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال (١) .. وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ..

هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال : إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس. إنما هي إرادة وجه الله. أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر؟ أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع؟ فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ؛ وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس .. ذلك حساب الدنيا ، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة. فهي التجارة الرابحة هنا وهناك!

* * *

ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك ، وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم ، ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، ثُمَّ رَزَقَكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) ..

وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها ؛ أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها. يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم. وأنه هو الذي رزقهم. وأنه هو يميتهم. وأنه هو يحييهم. فأما الخلق فهم يقرون به. وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئا. وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها. بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه. وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة ، التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم. وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة.

ثم يسألهم : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) ولا ينتظر جوابا منهم ، فهو سؤال للنفي في

__________________

(١) غير أن هذه الطريقة لا حرمة فيها كحرمة الربا المعروف. غير أنها ليست طريقة النماء الزكي الكريم.

صورة التقريع غير محتاج إلى جواب! إنما يعقب عليه بتنزيه الله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد ، ويجعله مسيطرا على أقدارها ، غالبا عليها :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ..

فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا ، ولا يقع مصادفة ؛ إنما هو تدبير الله وسنته .. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) من الشر والفساد ، حينما يكتوون بناره ، ويتألمون لما يصيبهم منه : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فيعزمون على مقاومة الفساد ، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم.

ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم ، وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم ، ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض ، ويمرون بهذه الآثار في الطريق :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ).

وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض ؛ وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق!

* * *

وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه ، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه ..

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ؛ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه ، وجديته ، واستقامته : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) .. وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع ، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد.

وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة. أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء ، والرزق ومضاعفته ، والفساد الناشئ من الشرك ، وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه ، وعاقبة المشركين في الأرض. يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ؛ ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله. يوم يتفرقون فريقين : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ..

ويمهد معناها يمهّد ويعبّد ، ويعد المهد الذي فيه يستريح ، ويهيئ الطريق أو المضجع المريح. وكلها ظلال تتجمع وتتناسق ، لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته. فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهيئ أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها. وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير. وذلك : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .. (مِنْ فَضْلِهِ) .. فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله. وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله. إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين. وكراهيته سبحانه للكافرين : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ..

* * *

بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله ، وما فيها من فضل الله ورحمته ، فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم ، فيعرفون بعضه وينكرون بعضه. ثم لا يشكرون ولا يهتدون.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) ..

إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات ، وإرسال الرسل بالبينات ، ونصر المؤمنين بالرسل ، وإنزال المطر المحيي ، وإحياء الموتى وبعثهم .. وهو جمع له مغزاه .. إنها كلها من رحمة الله ، وكلها تتبع سنة الله. وبين نظام الكون ، ورسالات الرسل بالهدى ، ونصر المؤمنين ، صلة وثيقة. وكلها من آيات الله. ومن نعمته ورحمته ، وبها تتعلق حياتهم ، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) .. تبشر بالمطر. وهم يعرفون الريح المطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها. (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء. (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) سواء بدفع الرياح لها ؛ أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها. وهي تجري ـ مع هذا ـ بأمر الله. ووفق سنته التي فطر عليها الكون ؛ وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته ، وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير ، وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار وضد التيار. وكل شيء عنده بمقدار .. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في الرحلات التجارية ، وفي الزرع والحصاد ، وفي الأخذ والعطاء. وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على نعمة الله في هذا كله .. وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب.

ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ..

ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه ـ وهي أجل وأعظم ـ استقبالهم للرياح المبشرات. ولا انتفعوا بها ـ وهي أنفع وأدوم ـ انتفاعهم بالمطر والماء! ووقفوا تجاه الرسل فريقين : مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله. ومؤمنين يدركون آيات الله ، ويشكرون رحمته ، ويثقون بوعده ، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون .. ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق.

(فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا. وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ..

وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين ؛ وجعله لهم حقا ، فضلا وكرما. وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا. وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر ، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد ، وسنته التي لا تتخلف ، وناموسه الذي يحكم الوجود.

وقد يبطئ هذا النصر أحيانا ـ في تقدير البشر ـ لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله ، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله. والله هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه ، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح. ووعده القاطع واقع عن يقين ، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين.

بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح ، وينزل المطر ، ويحيي الأرض بعد موتها ، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون .. سنة واحدة ، وطريقة واحدة ، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير :

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) .. وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه. (فَتُثِيرُ سَحاباً). بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض. (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ) .. ويفرشه ويمده. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) .. بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض ، أو يصطدم بعضه ببعض ، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة ، أو كسفة منه وكسفة. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وهو المطر يتساقط من خلال السحاب. (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .. ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر. والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة. وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء ، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز!

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) ..

وهذا تقرير لحالهم قبل أن ينزل عليهم المطر : حولهم من اليأس والقنوط والهمود .. ثم هم يستبشرون .. (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) ..! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط ، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود ؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) .. إنها حقيقة واقعة منظورة ، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر. ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة. على طريقة الجدل القرآني ، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة ، وواقع الحياة المشهودة ، مادته وبرهانه ؛ ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه :

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) .. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير.

وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء ؛ ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء .. يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب ـ وهي الريح المهلكة للزرع والضرع ـ أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطاما :

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) ..

يكفرون سخطا ويأسا ، بدلا من أن يستسلموا لقضاء الله ، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء. وهي حال من لا يؤمن بقدر الله ، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره ، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله ؛ وتقدر كل أمر وكل حادث. وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء ..

* * *

وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم ، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم ؛ وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث .. عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم ؛ ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها ، وانطماس بصيرتهم وعماها :

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ..

وهو يصورهم موتى لا حياة فيهم ، صما لا سمع لهم ، عميا لا يهتدون إلى طريق .. والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه. إنما هي حياة حيوانية ، بل أضل وأقل ، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه! والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات! والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى ولو كانت له عينان كالحيوان!

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ..

وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة ، لأن قلوبهم حية ، وبصائرهم مفتوحة ، وإدراكهم سليم. فهم يسمعون فيسلمون. ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب.

* * *

بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة ، لا في مشاهد الكون من حولهم ، ولكن في ذوات أنفسهم ، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض ؛ ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى. في ترابط بين الحياتين وثيق :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ـ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ـ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ. كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ : لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ..

إنها جولة مديدة ، يرون أوائلها في مشهود حياتهم ؛ ويرون أواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة أمامهم. وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) .. ولم يقل خلقكم ضعافا أو في حالة ضعف ؛ إنما قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم .. والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان.

إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين. ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف. ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين.

ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان. الطين. الذي لو لا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية ، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة.

ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات ، والميول والشهوات ، التي لو لا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات ، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) .. قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف. قوة في الكيان الجسدي ، وفي البناء الإنساني ، وفي التكوين النفسي والعقلي.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) .. ضعفا في الكيان الإنساني كله. فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة

بكل ظواهرها. وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل ، ولا يجد من إرادته عاصما. ومع الشيخوخة الشيب ، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها.

وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء ، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر ، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب. إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة ، تخلق ما تشاء ، وتقدر ما تشاء ، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره ، وفق علم وثيق وتقدير دقيق : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ..

ولا بد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة. هذه النهاية يرسمها في مشهد من مشاهد القيامة ، حافل بالحركة والحوار على طريقة القرآن :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) ..

فهكذا يتضاءل في حسهم كل ما وراءهم قبل هذا اليوم ، فيقسمون : ما لبثوا غير ساعة. ويحتمل أن يكون قسمهم منصبا على مدة لبثهم في القبور ، كما يحتمل أن يكون ذلك عن لبثهم في الأرض أحياء وأمواتا. (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ويصرفون عن الحق والتقدير الصحيح حتى يردهم أولو العلم الصحيح إلى التقدير الصحيح :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ : لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ. وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ..

وأولو العلم هؤلاء هم في الغالب المؤمنون ، الذين آمنوا بالساعة ، وأدركوا ما وراء ظاهر الحياة الدنيا ، فهم أهل العلم الصحيح وأهل الإيمان البصير. وهم يردون الأمر هنا إلى تقدير الله وعلمه (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) .. فهذا هو الأجل المقدور ، ولا يهم طويلا كان أم كان قصيرا. فقد كان ذلك هو الموعد ، وقد تحقق :

(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ..

ثم يختم المشهد بالنتيجة الكلية في إجمال يصور ما وراءه مما لحق بالظالمين الذين كانوا يكذبون بيوم الدين :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ..

فلا معذرة منهم تقبل ولا يعتب عليهم أحد فيما فعلوه ، أو يطلب إليهم الاعتذار. فاليوم يوم العقاب لا يوم العتاب!.

* * *

ومن هذا المشهد البائس اليائس يردهم إلى ما هم فيه من عناد وتكذيب ، وتلك كانت عاقبة العناد والتكذيب :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ؛ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ..

وهي نقلة بعيدة في الزمان والمكان ؛ ولكنها تجيء في السياق ، وكأنها قريب من قريب. وينطوي الزمان والمكان ، فإذا هم مرة أخرى أمام القرآن ، وفيه من كل مثل ؛ وفيه من كل نمط من أنماط الخطاب ؛ وفيه من كل وسيلة لإيقاظ القلوب والعقول ؛ وفيه من شتى اللمسات الموحية العميقة التأثير. وهو يخاطب كل قلب وكل عقل في كل بيئة وكل محيط. وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالة من حالاتها ، وفي كل

طور من أطوارها. ولكنهم ـ بعد هذا كله ـ يكذبون بكل آية ، ولا يكتفون بالتكذيب ، بل يتطاولون على أهل العلم الصحيح ، فيقولون عنهم : إنهم مبطلون :

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ..

ويعقب على هذا الكفر والتطاول :

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ..

كذلك. بمثل هذه الطريقة ، ولمثل هذا السبب. فهؤلاء الذين لا يعلمون مطموسو القلوب ، لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله ، متطاولون على أهل العلم والهدى. ومن ثم يستحقون أن يطمس الله على بصيرتهم ، وأن يطبع على قلوبهم ، لما يعلمه سبحانه عن تلك البصائر وهذه القلوب!

ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة بعد تلك الجولات مع المشركين في الكون والتاريخ وفي ذوات أنفسهم وفي أطوار حياتهم ، ثم هم بعد ذلك كله يكفرون ويتطاولون .. يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن معه من المؤمنين :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ..

إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية! والثقة بوعد الله الحق ، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك .. الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين ، ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله. ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين. فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين. مهما يطل هذا الطريق ، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم!

* * *

وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين ، ونصر المؤمنين. تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله ؛ والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون.

فيتناسق البدء والختام. وتنتهي السورة وفي القلب منها إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب ، واليقين الثابت الذي لا يخون ..

* * *

(٣١) سورة لقمان مكيّة

وآياتها أربع وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ

أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩)

جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة ، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها ، ويعلم كيف يخاطبها ، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل ؛ والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن ، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول .. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده ، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح .. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض ؛ وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم ؛ وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه ؛ ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه ؛ ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله ، مستقيما مع العقيدة ، مستقيما مع الفطرة ، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير ..

وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى ، ومن زوايا منوعة ، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره ؛ وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها ..

هذه القضية الواحدة ـ قضية العقيدة ـ تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.

والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى الله في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.

إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره. نهاره وليله. أجواؤه وبحاره ، أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره .. وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة ، وآيات مبثوثة عن الإيمان والشمائل ، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها ، وتأخذ عليها المسالك والدروب.

ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد ، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات ، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح ، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة ، ومتبعة أسلوبا كذلك جديدا في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع

للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة.

* * *

تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة ؛ فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف ، هي آيات الكتاب الحكيم ، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله. ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟. وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ، ويتخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) .. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) .. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق : «كأن في أذنيه وقرا» ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئا من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة ؛ ويبين جزاءهم في الآخرة ، كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب ، ويخاطبها بكل لسان ، ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) .. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة ، التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم : (هذا خَلْقُ اللهِ. فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير.

فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية ، وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة .. (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه لله بالشكر : (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم .. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة : نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب ، صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة ، فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافا ورحمة : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) ويقرن قضية الشكر لله بالشكر لهذين الوالدين ، فيقدمها عليها : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) .. ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة ، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى ، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ). ويقرر معها قضية الآخرة : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو

يصور عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته ، تصويرا يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ. إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) .. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة ، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية ، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى الله. ألا يتطاول على الناس ، فيفسد بالقدرة ما يصلح بالكلام : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) .. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية ، وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود ، بمؤثرات جديدة وبأسلوب جديد.

ثم تبدأ الجولة الثالثة .. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض ، مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها الله للناس وهم لا يشكرون : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) .. وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في الله مستنكرا من الفطرة ، تمجه القلوب المستقيمة .. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) .. وهو موقف سخيف مطموس ، يتبعه بمؤثر مخيف : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) .. ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ .. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) .. ويشير إلى علم الله الواسع الدقيق : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) .. وقرب ختام الجولة يقفهم وجها لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون ، فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ : اللهُ. قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .. ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم الله بلا نهاية ، وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود ؛ ويجعل من هذا دليلا كونيا على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ. إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ..

وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد ؛ والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) .. ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) .. ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ؟) ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم

الذي يبعدها عن بارئها ؛ ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية التوحيد : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ؛ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) .. وبمناسبة موج البحر وهو له يذكرهم بالهول الأكبر ، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائح الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ. وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) .. وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعا ، في إيقاع قوي عميق مرهوب : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ..

هذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب. هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب ..

والآن نأخذ في تفصيل هذا الإجمال. فنعرض هذه الجولات الأربع في درسين لما بين كل اثنين منها من ترابط واتساق ..

* * *

(الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ..

الافتتاح بالأحرف المقطعة. «ألف. لام. ميم» والإخبار عنها بأنها : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف ـ على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف ـ واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة ، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة ، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في جوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة ، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه ، قاصد لما يقول ، مريد لما يهدف إليه. وإنه لكذلك في صميمه. فيه روح. وفيه حياة. وفيه حركة. وله شخصية ذاتية مميزة. وفيه إيناس. وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله ، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي ، وبين الصديق والصديق!

هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) فهذه حاله الأصلية الدائمة .. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار ؛ وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح ؛ وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به ؛ ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه ، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية ، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ ..

* * *

والمحسنون هم : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .. وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملا تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك ، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب ، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة .. وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري ، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون. ويجد

الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان .. واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري ، وتطلعه إلى ما عند الله ، واستعلائه على أوهاق الأرض ، وترفعه على متاع الحياة الدنيا ؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل ؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (١)» ..

وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة ؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة ؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور ، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة ، وتصطلح نفوسهم عليه ، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق. وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق ؛ وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز. إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة ، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين!

وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة .. (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ومن هدي فقد أفلح ، فهو سائر على النور ، واصل إلى الغاية ، ناج من الضلال في الدنيا ، ومن عواقب الضلال في الآخرة ؛ وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود ؛ فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود.

* * *

أولئك المهتدون بالكتاب وآياته ، المحسنون ، المقيمون للصلاة ، المؤتون للزكاة ، الموقنون بالآخرة ، المفلحون في الدنيا والآخرة .. أولئك فريق .. وفي مقابلهم فريق :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ..

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت ، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها ، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان. وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات ، قائما في كل حين. وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) .. يشتريه بماله ويشتريه بوقته ، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص ، يفني فيه عمره المحدود ، الذي لا يعاد ولا يعود ، يشتري هذا اللهو (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) فهو جاهل محجوب ، لا يتصرف عن علم ، ولا يرمي عن حكمة ؛ وهو

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان.

سيّئ النية والغاية ، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيّئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا ، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس. ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) .. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم.

ثم يمضي في استكمال صورة ذلك الفريق : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) وهو مشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر المعرض المستهين. ومن ثم يعالجه بوخزة مهينة تدعو إلى تحقير هذه الهيئة : (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) وكأن هذا الثقل في أذنيه يحجبه عن سماع آيات الله الكريمة ، وإلا فما يسمعها إنسان له سمع ثم يعرض عنها هذا الإعراض الذميم. ويتمم هذه الإشارة المحقرة بتهكم ملحوظ : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فما البشارة في هذا الموضوع إلا نوع من التهكم المهين ؛ يليق بالمتكبرين المستهزئين!

* * *

وبمناسبة الحديث عن جزاء الكافرين المستكبرين المعرضين يتحدث عن جزاء المؤمنين العاملين ، الذين تحدث عنهم في صدر السورة ؛ ويفصل شيئا من أمر فلاحهم الذي أجمله هناك :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ، خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة ؛ إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة ، ما تكاد تستقر في القلب ووحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة ؛ إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة ، ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك ؛ ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع ، المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير.

وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها) .. لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقا لوعد الله الحق. (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه! وهو الغني عن الجميع!

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. القادر على تحقيق وعده ، الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق.

* * *

وآية القدرة ، وآية الحكمة ، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة .. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل ، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه ، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله ؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام ، متناسق التكوين ، يأخذ بالقلب ، ويبهر اللب ، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها ؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم ، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين :

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

وهذه السماوات ـ بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة ـ تواجه النظر والحس ، هائلة فسيحة سامقة. وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء

الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله ؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق. سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها ؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار ، ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار. ومجرد تأملها بالعين المجردة ، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس ، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود. وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق. وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل ، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل ؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك للتأمل الطويل المديد! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات؟

ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد! إلى الأرض الصغيرة. الذرة ، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير ، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير؟ يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ..

والرواسي الجبال. ويقول علماء طبقات الأرض ؛ إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه ، ونقص حجمها ، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد ، ونقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك. وسواء أصحت هذه النظرية أم لم تصح ، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز. وقد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظا لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك ، ويكون نتوء الجبال هنا موازنا لانخفاض في قشرة الأرض هناك. وكلمة الله هي العليا على كل حال. والله هو أصدق القائلين.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) ..

وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة. فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد ـ حتى اليوم ـ إدراكه ولا تفسيره. الحياة في أول صورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه؟ ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية ، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب. ودعك من الأحياء المعقدة. فضلا على الإنسان ، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع ، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال ؛ ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير!!!

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ..

وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار ، والذي تمتلىء به البحيرات ، والذي تتفجر به العيون .. هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق ، مرتبط بنظام السماوات والأرض ، وما بينهما من نسب وأبعاد ، ومن طبيعة وتكوين .. وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب. عجيبة الحياة ، وعجيبة التنوع ، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة ، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة ..

والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريبا جدا. فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث ، إما مجتمعة في زهرة واحدة ، أو في زهرتين في العود الواحد ، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين ، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات ، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء.

ووصف الزوج بأنه «كريم» يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون (خَلْقُ اللهِ) وليرفعه أمام الأنظار مشيرا إليه .. (هذا خَلْقُ اللهِ) وليتحداهم به ويتحدى دعواهم المتهافتة .. (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟) .. وليعقب على هذا التحدي في أنسب وقت : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. وأي ضلال وأي ظلم بعد هذا الشرك ، في هذا المعرض الكوني الباهر الجليل؟

وعند هذا الإيقاع القوي يختم الجولة الأولى في السورة ذلك الختام المؤثر العميق.

* * *

بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية. يبدؤها في نسق جديد. نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر. ويعالج قضية الشكر لله وحده ، وتنزيهه عن الشرك كله ، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ؛ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات : فمن قائل : إنه كان نبيا ، ومن قائل : إنه كان عبدا صالحا من غير نبوة ـ والأكثرون على هذا القول الثاني ـ ثم يقال : إنه كان عبدا حبشيا ، ويقال : إنه كان نوبيا. كما قيل : إنه كان في بني إسرائيل قاضيا من قضاتهم .. وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة. الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) .. وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله. وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر ، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو ، والله غني عنه. فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) .. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة ؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد.

* * *

ثم تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه :

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ـ وَهُوَ يَعِظُهُ ـ : يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ..

وإنها لعظة غير متهمة ؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير ؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك ؛ ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام .. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على قومه ، فيجادلونه فيها ؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها ؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة ، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس ؛ يراد بها الخير المحض ، ولا يراد بها سواه .. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.

* * *

وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم ، وفي وصايا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد ـ وهي حالة خاصة في ظروف خاصة ـ ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة ، كما يريدها الله ؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال ، في غير تأفف ولا شكوى ؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّى الذاهب في أدبار الحياة ، بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه ، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر ؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق .. روى الحافظ أبوبكر البزار في مسنده ـ بإسناده ـ عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هل أديت حقها؟ قال : «لا. ولا بزفرة واحدة». هكذا .. ولا بزفرة .. في حمل أو في وضع ، وهي تحمله وهنا على وهن.

وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول ، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ؛ ويرتب الواجبات ، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين .. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة : (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.

ولكن رابطة الوالدين بالوليد ـ على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة ـ إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة ، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان

من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته ـ وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم! ـ فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة.

ولكن الاختلاف في العقيدة ، والأمر بعدم الطاعة في خلافها ، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) من المؤمنين (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) بعد رحلة الأرض المحدودة (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران ، ومن شرك أو توحيد.

روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت). وروي أنها نزلت في سعد بن مالك. ورواه الطبراني في كتاب العشرة ـ بإسناده ـ عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة ، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى ، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض.

* * *

وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه ، تجيء الفقرة التالية في الوصية ، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة ، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح ، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان ، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف :

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ، أَوْ فِي السَّماواتِ ، أَوْ فِي الْأَرْضِ ، يَأْتِ بِهَا اللهُ. إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) ..

وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله ، وعن قدرة الله سبحانه ، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء ، العميقة الإيقاع .. (١) حبة من خردل. صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) .. صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. (أَوْ فِي السَّماواتِ) .. في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. (أَوْ فِي الْأَرْضِ) ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. (يَأْتِ بِهَا اللهُ) .. فعلمه يلاحقها ، وقدرته لا تفلتها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) .. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف.

ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة ؛ ويتملى علم الله الذي يتابعها. حتى يخشع القلب وينيب ، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب. بهذا الأسلوب العجيب.

* * *

ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه. فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها

__________________

(١) يراجع فصل : «طريقة القرآن» في كتاب : «التصوير الفني في القرآن». «دار الشروق».

في الضمير. بعد الإيمان بالله لا شريك له ؛ واليقين بالآخرة لا ريب فيها ؛ والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل .. فأما الخطوة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة ، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله ، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون :

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ. إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ..

وهذا هو طريق العقيدة المرسوم .. توحيد لله ، وشعور برقابته ، وتطلع إلى ما عنده ، وثقة في عدله ، وخشية من عقابه. ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر. والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر ، بالزاد الأصيل. زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة. ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله ، من التواء النفوس وعنادها ، وانحراف القلوب وإعراضها. ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي. ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء .. (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .. وعزم الأمور : قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم.

* * *

ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله. فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس ؛ والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير. ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل :

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ، وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ..

والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها. والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر. حركة الكبر والازورار ، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار!

والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالاة بالناس. وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق. وهي تعبير عن شعور مريض بالذات ، يتنفس في مشية الخيلاء! (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ..

ومع النهي عن مشية المرح ، بيان للمشية المعتدلة القاصدة : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) .. والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف ، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر ، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق.

والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب ، أو شاك في قيمة قوله ، أو قيمة شخصه ؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق!

والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) .. فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية ، مع النفور والبشاعة. ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع ، ثم يحاول .. شيئا من صوت هذا الحمير ..!

وهكذا تنتهي الجولة الثانية ، بعد ما عالجت القضية الأولى ، بهذا التنويع في العرض ، والتجديد في الأسلوب.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

تبدأ الجولة الثالثة بنسق جديد. تبدأ بعرض الدليل الكوني مرتبطا بالناس ، متلبسا بمصالحهم وحياتهم ومعاشهم ، متعلقا بنعم الله عليهم ، نعمة الظاهرة ونعمه الباطنة ، تلك التي يستمتعون بها ، ولا يستحيون معها أن يجادلوا في الله المنعم المتفضل الوهاب .. ثم تسير على هذا النسق في تقرير القضية الأولى التي عالجتها الجولتان الأولى والثانية ..

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ؛ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) ..

وهذه اللفتة المكررة في القرآن بشتى الأساليب تبدو جديدة في كل مرة ، لأن هذا الكون لا يزال يتجدد في الحس كلما نظر إليه القلب ، وتدبر أسراره ، وتأمل عجائبه التي لا تنفد ؛ ولا يبلغ الإنسان في عمره المحدود أن يتقصاها ؛ وهي تبدو في كل نظرة بلون جديد ، وإيقاع جديد.

والسياق يعرضها هنا من زاوية التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون! مما يقطع بأن هذا التناسق لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ؛ وأنه لا مفر من التسليم بالإرادة الواحدة المدبرة ، التي تنسق بين تركيب هذا الكون الهائل وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير الضئيل .. الأرض ..! إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون. والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض ، وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حية وغير حية ، لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئا إلى جوارها. ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه ، وتكريمه له على كثير من خلقه .. هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب. وأن يهيىء الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه ، ومن ذخائره وخيراته. وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية ، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة ، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض. فوجود الإنسان ابتداء نعمة من الله وفضل ؛ وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل ؛ وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل ؛ ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل ؛ وكل نفس يتنفسه ، وكل خفقة يخفقها قلبه ، وكل منظر تلتقطه عينه ، وكل صوت تلتقطه أذنه ، وكل خاطر يهجس في ضميره ، وكل فكرة يتدبرها عقله .. إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لو لا فضل الله.

وقد سخر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات ، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدي النجوم ، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه. وسخر له ما في الأرض. وهذا أظهر وأيسر ملاحظة وتدبرا. فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض ، ومكنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز. ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر. ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره ؛ ومنه ما لم يعرفه أصلا من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري. وإنه لمغمور في كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها ، ولا يحصي أنماطها .. ومع هذا كله فإن فريقا من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم ، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ..

وتبدو هذه المجادلة مستغربة مستنكرة في ظل ذلك البرهان الكوني ، وفي جوار هذه النعمة السابغة.

ويبدو الجحود والإنكار بشعا شنيعا قبيحا ، تنفر منه الفطرة ، ويقشعر منه الضمير. ويبدو هذا الفريق من الناس الذي يجادل في حقيقة الله ، وعلاقة الخلق بهذه الحقيقة. يبدو منحرف الفطرة ولا يستجيب لداعي الكون كله من حوله ؛ جاحدا النعمة لا يستحيي أن يجادل في المنعم بكل هذه النعم السابغة. ويزيد موقفه بشاعة أنه لا يرتكن في هذا الجدال إلى علم ، ولا يهتدي بهدى ، ولا يستند إلى كتاب ينير له القضية ويقدم له الدليل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ..

فهذا هو سندهم الوحيد ، وهذا هو دليلهم العجيب! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير. التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه ؛ وأن يطلق عقولهم لتتدبر ؛ ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور ، فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف ، ويتمسكوا بالأغلال والقيود.

إن الإسلام حرية في الضمير ، وحركة في الشعور ، وتطلع إلى النور ، ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود. ومع ذلك كان يأباه ذلك الفريق من الناس ، ويدفعون عن أرواحهم هداه ، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .. ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم ، ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب :

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) ..

فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم ، لينتهي بهم إلى عذاب السعير. فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير؟ .. لمسة موقظة ومؤثر مخيف ، بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف.

وبمناسبة ذلك الجدال المتعنت الذي لا يستند إلى علم ، ولا يهتدي بهدى ، ولا يستمد من كتاب. يشير إلى السلوك الواجب تجاه الدليل الكوني والنعمة السابغة :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ ـ وَهُوَ مُحْسِنٌ ـ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ، وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ..

إنه الاستسلام المطلق لله ـ مع إحسان العمل والسلوك ـ الاستسلام بكامل معناه ، والطمأنينة لقدر الله. والانصياع لأوامر الله وتكاليفه وتوجيهاته مع الشعور بالثقة والاطمئنان للرحمة ، والاسترواح للرعاية ، والرضى الوجداني ، رضى السكون والارتياح .. كل أولئك يرمز له بإسلام الوجه إلى الله. والوجه أكرم وأعلى ما في الإنسان ..

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ ـ وَهُوَ مُحْسِنٌ ـ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) .. العروة الوثقى التي لا تنقطع ولا تهن ولا تخون ممسكا بها في سراء أو ضراء ، ولا يضل من يشد عليها في الطريق الوعر والليلة المظلمة ، بين العواصف والأنواء!

هذه العروة الوثقى هي الصلة الوثيقة الثابتة المطمئنة بين قلب المؤمن المستسلم وربه. هي الطمأنينة إلى كل ما يأتي به قدر الله في رضى وفي ثقة وفي قبول ، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها وسكينتها ورباطة جأشها في مواجهة الأحداث ، وفي الاستعلاء على السراء فلا تبطر ، وعلى الضراء فلا تصغر ؛ وعلى المفاجئات فلا تذهل ؛ وعلى اللأواء في طريق الإيمان ، والعقبات تتناثر فيه من هنا ومن هناك.

إن الرحلة طويلة وشاقة وحافلة بالأخطار. وخطر المتاع فيها والوجدان ليس أصغر ولا أقل من خطر الحرمان فيها والشقاء. وخطر السراء فيها ليس أهون ولا أيسر من خطر الضراء. والحاجة إلى السند الذي لا يهن ،

والحبل الذي لا ينقطع ، حاجة ماسة دائمة. والعروة الوثقى هي عروة الإسلام لله والاستسلام والإحسان. (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) .. وإليه المرجع والمصير. فخير أن يسلم الإنسان وجهه إليه منذ البداية ؛ وأن يسلك إليه الطريق على ثقة وهدى ونور ..

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ..

تلك نهاية من يسلم وجهه إلى الله وهو محسن. وهذه نهاية من يكفر ويخدعه متاع الحياة. نهايته في الدنيا تهوين شأنه على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى المؤمنين. (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) .. فشأنه أهون من أن يحزنك ، وأصغر من أن يهمك .. ونهايته في الأخرى التهوين من شأنه كذلك. وهو في قبضة الله لا يفلت وهو مأخوذ بعمله ، والله أعلم بما عمل وبما يخفيه في صدره من نوايا : (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) .. ومتاع الحياة الذي يخدعه قليل ، قصير الأجل ، زهيد القيمة .. (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) .. والعاقبة بعد ذلك مروعة فظيعة وهو مدفوع إليها دفعا لا يملك لها ردا : (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) .. ووصف العذاب بالغلظ يجسمه ـ على طريقة القرآن ـ والتعبير بالاضطرار يلقي ظل الهول الذي يحاول الكافر ألا يواجهه ، مع العجز عن دفعه ، أو التلكؤ دونه! فأين هذا ممن يسلم وجهه إلى الله ويستمسك بالعروة الوثقى ، ويصير إلى ربه في النهاية هادىء النفس مطمئن الضمير؟

* * *

ثم يقفهم أمام منطق فطرتهم ، حين تواجه الكون ، فلا تجد مناصا من الاعتراف بالحقيقة الكامنة فيها وفي فطرة الكون على السواء ؛ ولكنهم يزيغون عنها وينحرفون ، ويغفلون منطقها القويم :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ : اللهُ. قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ..

وما يملك الإنسان حين يستفتي فطرته ويعود إلى ضميره أن ينكر هذه الحقيقة الواضحة الناطقة. فهذه السماوات والأرض قائمة. مقدرة أوضاعها وأحجامها وحركاتها وأبعادها ، وخواصها وصفاتها. مقدرة تقديرا يبدو فيه القصد ، كما يبدو فيه التناسق. وهي قبل ذلك خلائق لا يدعي أحد أنه خلقها ؛ ولا يدعي أحد أن خالقا آخر غير الله شارك فيها ؛ ولا يمكن أن توجد هكذا بذاتها. ثم لا يمكن أن تنتظم وتتسق وتقوم وتتناسق بدون تدبير ، وبدون مدبر. والقول بأنها وجدت وقامت تلقائيا أو فلتة أو مصادفة لا يستحق احترام المناقشة. فضلا على أن الفطرة من أعماقها تنكره وترده.

وأولئك الذين كانوا يواجهون عقيدة التوحيد بالشرك ؛ ويقابلون دعوة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالجدال العنيف ؛ لم يكونوا يستطيعون أن يزيفوا منطق فطرتهم حين تواجه بالدليل الكوني الممثل في وجود السماوات والأرض ، وقيامهما أمام العين ، لا تحتاجان إلى أكثر من النظر!

ومن ثم لم يكونوا يتلجلجون في الجواب : لو سئلوا : (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟) وجوابهم : (اللهُ) .. لذلك يوجه الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليعقب على جوابهم هذا بحمد الله : (قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ) .. الحمد لله على وضوح الحق في الفطرة ، والحمد لله على هذا الإقرار القهري أمام الدليل الكوني. والحمد لله على كل حال. ثم يضرب عن الجدل والتعقيب بتعقيب آخر : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .. ومن ثم يجادلون ويجهلون منطق الفطرة ، ودلالة هذا الكون على خالقه العظيم.

وبمناسبة إقرار فطرتهم بخلق الله للسماوات والأرض يقرر كذلك ملكية الله المطلقة لكل ما في السماوات والأرض. ما سخره للإنسان وما لم يسخره. وهو مع ذلك الغني عن كل ما في السماوات والأرض ، المحمود بذاته ولو لم يتوجه إليه الناس بالحمد :

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ..

* * *

والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد ، وعلمه الذي لا يحد ، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية ، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد :

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ. إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ..

إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة ، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود ؛ والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل.

إن البشر يكتبون علمهم ، ويسجلون قولهم ، ويمضون أوامرهم ، عن طريق كتابتها بأقلام ـ كانت تتخذ من الغاب والبوص ـ يمدونها بمداد من الحبر ونحوه. لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما. وجميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا. بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك .. وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة ، الدالة على علمه ، المعبرة عن مشيئته .. فماذا؟ لقد نفدت الأقلام ونفد المداد. نفدت الأشجار ونفدت البحار .. وكلمات الله باقية لم تنفد ، ولم تأت لها نهاية .. إنه المحدود يواجه غير المحدود. ومهما يبلغ المحدود فسينتهي ؛ ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق .. إن كلمات الله لا تنفد ، لأن علمه لا يحد ، ولأن إرادته لا تكف ، ولأن مشيئته ـ سبحانه ـ ماضية ليس لها حدود ولا قيود.

وتتوارى الأشجار والبحار ، وتنزوي الأحياء والأشياء ؛ وتتوارى الأشكال والأحوال. ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب ؛ وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ..

وأمام هذا المشهد الخاشع يلقي بالإيقاع الأخير في هذه الجولة ؛ متخذا من ذلك المشهد دليلا كونيا على يسر الخلق وسهولة البعث :

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ..

والإرادة التي تخلق بمجرد توجه المشيئة إلى الخلق ، يستوي عندها الواحد والكثير ؛ فهي لا تبذل جهدا محدودا في خلق كل فرد ، ولا تكرر الجهد مع كل فرد. وعندئذ يستوي خلق الواحد وخلق الملايين. وبعث النفس الواحدة وبعث الملايين. إنما هي الكلمة. هي المشيئة : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ..

ومع القدرة العلم والخبرة مصاحبين للخلق والبعث وما وراءهما من حساب وجزاء دقيق : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ..

* * *

وتأتي الجولة الأخيرة تعالج القضية التي عالجتها الجولات الثلاث من قبل. فتقرر أن الله هو الحق وأن

ما يدعون من دونه الباطل. وتقرر إخلاص العبادة لله وحده. وتقرر قضية اليوم الآخر الذي لا يجزى فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .. وتستصحب مع هذه القضايا مؤثرات منوعة جديدة. وتعرضها في المجال الكوني الفسيح ..

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ؟ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟ وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؟ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ..

ومشهد دخول الليل في النهار ، ودخول النهار في الليل ، وتناقصهما وامتدادهما عند اختلاف الفصول ، مشهد عجيب حقا ، ولكن طول الألفة والتكرار يفقد أكثر الناس الحساسية تجاهه فلا يلحظون هذه العجيبة ، التي تتكرر بانتظام دقيق ، لا يتخلف مرة ولا يضطرب ؛ ولا تنحرف تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد .. والله وحده هو القادر على إنشاء هذا النظام وحفظه ؛ ولا يحتاج إدراك هذه الحقيقة إلى أكثر من رؤية تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد.

وعلاقة تلك الدورة بالشمس والقمر وجريانهم المنتظم علاقة واضحة. وتسخير الشمس والقمر عجيبة أضخم من عجيبة الليل والنهار ونقصهما وزيادتهما. وما يقدر على هذا التسخير إلا الله القدير الخبير. وهو الذي يقدر ويعلم أمد جريانهما إلى الوقت المعلوم. ومع حقيقة إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ؛ وحقيقة تسخير الشمس والقمر ـ وهما حقيقتان كونيتان بارزتان ـ حقيقة أخرى مثلهما يقررها معهما في آية واحدة : (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) .. وهكذا تبرز هذه الحقيقة الغيبية ، إلى جانب الحقائق الكونية. حقيقة مثلها ، ذات ارتباط بها وثيق.

ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعا. الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعا. وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة ؛ وتقدم لها بهذا الدليل :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ..

ذلك .. ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق .. ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة ، والتي يقوم بها هذا الوجود. فكون الله هو الحق. سبحانه. هو الذي يقيم هذا الكون ، وهو الذي يحفظه ، وهو الذي يدبره ، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق ، ما شاء الله له أن يكون ..

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) .. كل شيء غيره يتبدل. وكل شيء غيره يتحول. وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان ، وتتعاوره القوة والضعف ، والازدهار والذبول ، والإقبال والإدبار. وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن ، ويزول بعد أن يكون. وهو وحده ـ سبحانه ـ الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول ..

ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) .. بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك. بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير ؛ ويحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير! .. وكذلك : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) .. الذي ليس غيره «علي» ولا «كبير»!!! ترى قلت شيئا يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب؟ أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد ؛ وأن التعبير القرآني ـ كما هو ـ هو وحده التعبير الموحي الفريد!!!

ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني ، وهذه اللمسة الوجدانية ، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر. مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله. ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره ، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) ..

والفلك تجري في البحر وفق النواميس التي أودعها الله البحر والفلك والريح والأرض والسماء. فخلقة هذه الخلائق بخواصها هذه هي التي جعلت الفلك تجري في البحر ولا تغطس أو تقف. ولو اختلت تلك الخواص أي اختلال ما جرت الفلك في البحر. لو اختلت كثافة الماء أو كثافة مادة الفلك. لو اختلت نسبة ضغط الهواء على سطح البحر. لو اختلت التيارات المائية والهوائية. لو اختلت درجة الحرارة عن الحد الذي يبقي الماء ماء ، ويبقي تيارات الماء والهواء في الحدود المناسبة .. لو اختلت نسبة واحدة أي اختلال ما جرت الفلك في الماء ، وبعد ذلك كله يبقى أن الله هو حارس الفلك وحاميها فوق ثبج الأمواج وسط العواصف والأنواء ، حيث لا عاصم لها إلا الله. فهي تجري بنعمة الله وفضله على كل حال. ثم هي تجري حاملة نعمة الله وفضله كذلك. والتعبير يشمل هذا المعنى وذاك : (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) .. وهي معروضة للرؤية ، يراها من يريد أن يرى ؛ وليس بها من غموض ولا خفاء .. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. صبار في الضراء ، شكور في السراء ؛ وهما الحالتان اللتان تتعاوران الإنسان.

ولكن الناس لا يصبرون ، ولا يشكرون ، إنما يصيبهم الضر فيجأرون ، وينجيهم الله من الضر فلا يشكر منهم إلا القليل :

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ..

فأمام مثل هذا الخطر ، والموج يغشاهم كالظلل والفلك كالريشة الحائرة في الخضم الهائل .. تتعرى النفوس من القوة الخادعة ، وتتجرد من القدرة الموهومة ، التي تحجب عنها في ساعات الرضاء حقيقة فطرتها ، وتقطع ما بين هذه الفطرة وخالقها. حتى إذا سقطت هذه الحوائل ، وتعرت الفطرة من كل ستار ، استقامت إلى ربها ، واتجهت إلى بارئها ، وأخلصت له الدين ، ونفت كل شريك ، ونبذت كل دخيل. ودعوا الله مخلصين له الدين.

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ..

لا يجرفه الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار ؛ إنما يظل ذاكرا شاكرا ، وإن لم يوف حق الله في الذكر والشكر ؛ فأقصى ما يبلغه ذاكر شاكر أن يكون مقتصدا في الأداء.

ومنهم من يجحد وينكر آيات الله بمجرد زوال الخطر وعودة الرخاء : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) .. والختار الشديد الغدر ، والكفور الشديد الكفر ؛ وهذه المبالغة الوصفية تليق هنا بمن يجحد آيات الله بعد هذه المشاهد الكونية ، ومنطق الفطرة الخالص الواضح المبين.

* * *

وبمناسبة هول البحر وخطره الذي يعري النفوس من غرور القوة والعلم والقدرة ، ويسقط عنها هذه الحواجز الباطلة ، ويقفها وجها لوجه أمام منطق الفطرة .. بمناسبة هذا الهول يذكرهم بالهول الأكبر.

الذي يبدو هول البحر في ظله صغيرا هزيلا. هول اليوم الذي يقطع أو أصر الرحم والنسب ، ويشغل الوالد عن الولد ، ويحول بين المولود والوالد ، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة ، مجردة من كل عون ومن كل سند ، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) ..

إن الهول هنا هول نفسي ، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب (١). وما تتقطع أو أصر القربى والدم ، ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد ، وبين المولود والوالد. وما يستقل كل بشأنه ، فلا يجزى أحد عن أحد ، ولا ينفع أحدا إلا عمله وكسبه. ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس .. فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب ؛ وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) .. فلا يخلف ولا يتخلف ؛ ولا مفر من مواجهة هذا الهول العصيب. ولا مفر من الحساب الدقيق والجزاء العادل ، الذي لا يغني فيه والد عن ولد ولا مولود عن والد.

(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) .. وما فيها من متاع ولهو ومشغلة ؛ فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) .. من متاع يلهي ، أو شغل ينسي ، أو شيطان يوسوس في الصدور. والشياطين كثير. الغرور بالمال شيطان. والغرور بالعلم شيطان. والغرور بالعمر شيطان. والغرور بالقوة شيطان. والغرور بالسلطان شيطان. ودفعة الهوى شيطان. ونزوة الشهوة شيطان. وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور!

* * *

وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة ، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا ، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب. ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها ، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ..

والله ـ سبحانه ـ قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه ؛ ليبقى الناس على حذر دائم ، وتوقع دائم ، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها ، وهم لا يعلمون متى تأتي ، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة ، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد ، وكنز الرصيد.

والله ينزل الغيث وفق حكمته ، بالقدر الذي يريده ؛ وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله ؛ ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه. والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث ، لأنه سبحانه

__________________

(١) يراجع فصل العالم الآخر في القرآن «في كتاب : مشاهد القيامة في القرآن» ص ٤٢ ـ ٤٤. «دار الشروق».

هو المنشئ للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه. فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة. كما هو ظاهر من النص. وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله. وإن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن. فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) .. اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر (السَّاعَةِ) فهو سبحانه الذي يعلم وحده. علم يقين. ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور. من فيض وغيض. ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم. ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى ، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة. وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته .. فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) .. ماذا تكسب من خير وشر ، ومن نفع وضر ، ومن يسر وعسر ، ومن صحة ومرض ، ومن طاعة ومعصية. فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه ؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة. وهو غيب مغلق ، عليه الأستار. والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب ، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار.

وكذلك : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار.

وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة ، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود ، وعجزها الواضح ، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة. وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس. ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا! بل ماذا يكون اللحظة التالية. وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله.

والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة ..

رقعة فسيحة في الزمان والمكان ، وفي الحاضر الواقع ، والمستقبل المنظور ، والغيب السحيق. وفي خواطر النفس ، ووثبات الخيال : ما بين الساعة البعيدة المدى ، والغيث البعيد المصدر ، وما في الأرحام الخافي عن العيان. والكسب في الغد ، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول .. وموضع الموت والدفن ، وهو مبعد في الظنون.

إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء. ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها ، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول ؛ ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة ، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ، ولا نكشف القاصي منها والدان (١) .. ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان ، لأنها فوق مقدور الإنسان ، ووراء علم الإنسان. تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره ، إلا بإذن منه وإلا بمقدار. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وليس غيره بالعليم ولا بالخبير ..

* * *

__________________

(١) مقتطف من كتاب : التصوير الفني في القرآن. فصل : التناسق الفني. «دار الشروق».

وهكذا تنتهي السورة ، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد. ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة ، الشاملة الشاسعة ، وئيد الخطى لكثرة ما طوّف ، ولجسامة ما يحمل ، ولطول ما تدبر وما تفكر ، في تلك العوالم والمشاهد والحيوانات!

وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية. فتبارك الله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين ..

* * *

(٣٢) سورة السّجدة مكيّة

وآياتها ثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ

عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر ، ويركزها في القلوب : عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد ، خالق الكون والناس ، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله. والتصديق برسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.

هذه هي القضية التي تعالجها السورة ؛ وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص ، ومؤثرات خاصة ؛ تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير ، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها ، ومنحنياتها ودروبها ، العارف بطبيعتها وتكوينها ، وما يستكن فيها من مشاعر ،

وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.

وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى ؛ ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب ، منيرة للروح ، مثيرة للتأمل والتدبر ؛ كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده ؛ وفي نشأة الإنسان وأطواره ؛ وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة ؛ وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها!

كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها ؛ وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء ، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان ، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.

وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة ، وإلى الخوف والخشية مرة ، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد ، وتارة بالإطماع ، وتارة بالإقناع .. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه ، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.

ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة : يبدأ بالأحرف المقطعة «ألف. لام. ميم» منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون : افتراه. ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ..

وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة : قضية الوحي وصدق الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في التبليغ عن رب العالمين.

ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود : في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض ، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر .. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك. والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون.

وهذه هي القضية الثانية : قضية الألوهية وصفتها : صفة الخلق ، وصفة التدبير ، وصفة الإحسان ، وصفة الإنعام ، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.

ثم يعرض قضية البعث ، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب : (وَقالُوا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ)

(جَدِيدٍ؟) ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.

وهذه هي القضية الثالثة : قضية البعث والمصير.

ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة : (إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة ؛ ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئا ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم ـ قبل فوات الأوان ـ لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.

وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض : إذا ذكروا بآيات ربهم.

(خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) .. وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) .. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.

ثم ترد إشارة إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ ووحدة رسالته ورسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمهتدين من قومه ، وصبرهم على الدعوة ، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.

وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون ، وهم يمشون في مساكنهم غافلين .. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء ؛ فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.

وتختم السورة بحكاية قولهم : (مَتى هذَا الْفَتْحُ؟) وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم.

والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل :

* * *

(الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ؟ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ..

«ألف. لام. ميم» .. هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب ؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام ، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن ؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول ، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار. كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية ، وعنصرا مستكنا ، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة ، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها ، لأن السامع يدركها ، ويميزها ، ويهتز لها ، من بين سائر القول ، ولو لم يعلم سلفا أن هذا القرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.

والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام ، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة ، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور .. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام!

ألف. لام. ميم (تَنْزِيلُ الْكِتابِ ـ لا رَيْبَ فِيهِ ـ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. قضية مقطوع بها ، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين .. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية ، بين المبتدأ فيها والخبر ، لأن هذا هو صلب القضية ، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجها لوجه أمام واقع الأمر ، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون ؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه ،

أمام التجربة الواقعة ، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع.

إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن ؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن ، كلما تفتح القلب ، وصفا الحس ، وارتفع الإدراك ، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحا كلما اتسعت ثقافة الإنسان ، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابا مباشرا. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب ، والعقل المثقف ، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة ، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء (١) مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين ، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ؟) ..

ولقد قالوها فيما زعموه متعنتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلا : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ؟) .. هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال ؛ فتاريخ محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة ؛ وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلا ، ولا تدع مجالا للريب والتشكك : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ..

الحق .. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي ؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت ، المستقر في كيانه ، الملحوظ في تناسقه ، واطراد نظامه ، وثبات هذا النظام ، وشموله وعدم تصادم أجزائه ، أو تناثرها ، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.

الحق .. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة ؛ وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.

الحق .. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية ، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير.

الحق .. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه ، في يسر وسهولة ، وفي غير مشقة ولا عنت. لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.

الحق .. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملا ؛ ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها ، وكل نزعاتها وكل حاجاتها ، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة ، تدرك النفوس وتفسد القلوب.

الحق .. الذي لا يظلم أحدا في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة ، فيكفها عن الوجود والنشاط ، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود.

(بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) .. فما هو من عندك ، إنما هو من عند ربك. وهو رب العالمين كما قال في

__________________

(١) يراجع تفسير قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ص ٢٥٤٨ ـ ٢٥٥٠ جزء ١٩ من الظلال.

الآية السابقة ؛ إنما هذه الإضافة هنا للتكريم. تكريم الرسول الذي يتهمونه بالافتراء. وإلقاء ظلال القربى بينه وبين ربه رب العالمين. ردا على الاتهام الأثيم. وتقريرا للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي. وأمانة النقل والتبليغ.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ..

والعرب الذين أرسل إليهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يرسل إليهم أحد قبله ؛ ولا يعرف التاريخ رسولا بين إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ جد العرب الأول وبين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق ، لينذرهم به. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب ، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب.

* * *

هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى. فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه ، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم : (اللهُ) ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ. قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ..

ذلك هو الله ، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها. هذه هي في صفحة الكون المنظور. وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود. وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس ، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ..

والسماوات والأرض وما بينهما هي هذه الخلائق الهائلة التي نعلم عنها القليل ونجهل عنها الكثير .. هي هذا الملكوت الطويل العريض الضخم المترامي الأطراف ، الذي يقف الإنسان أمامه مبهورا مدهوشا متحيرا في الصنعة المتقنة الجميلة المنسقة الدقيقة التنظيم .. هي هذا الخلق الذي يجمع إلى العظمة الباهرة ، الجمال الأخاذ. الجمال الحقيقي الكامل ، الذي لا يرى فيه البصر ، ولا الحس ، ولا القلب ، موضعا للنقص ؛ ولا يمل المتأمل التطلع إليه مهما طالت وقفته ؛ ولا يذهب التكرار والألفة بجاذبيته. المتجددة العجيبة. ثم هي هذه الخلائق المنوعة ، المتعددة الأنواع والأجناس والأحجام والأشكال والخواص والمظاهر والاستعدادات والوظائف ، الخاضعة كلها لناموس واحد ، المتناسقة كلها في نشاط واحد ، المتجهة كلها إلى مصدر واحد تتلقى منه التوجيه والتدبير ، وتتجه إليه بالطاعة والاستسلام.

والله .. هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما .. فهو الحقيق ـ سبحانه ـ بهذا الوصف العظيم ..

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ..

وليست هي قطعا من أيام هذه الأرض التي نعرفها. فأيام هذه الأرض مقياس زمني ناشىء من دورة هذه

الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة ، تؤلف ليلا ونهارا على هذه الأرض الصغيرة الضئيلة ، التي لا تزيد على أن تكون هباءة منثورة في فضاء الكون الرحيب! وقد وجد هذا المقياس الزمني بعد وجود الأرض والشمس. وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة!

أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن فعلمها عند الله ؛ ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها. فهي من أيام الله التي يقول عنها : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ..

تلك الأيام الستة قد تكون ستة أطوار مرت بها السماوات والأرض وما بينهما حتى انتهت إلى ما هي عليه. أو ستة مراحل في النشأة والتكوين. أو ستة أدهار لا يعلم ما بين أحدها والآخر إلا الله .. وهي على أية حال شيء آخر غير الأيام الأرضية التي تعارف عليها أبناء الفناء. فلنأخذها كما هي غيبا من غيب الله لا سبيل إلى معرفته على وجه التحديد. إنما يقصد التعبير إلى تقرير التدبير والتقدير في الخلق ، وفق حكمة الله وعلمه. وإحسانه لكل شيء خلقه في الزمن والمراحل والأطوار المقدرة لهذا الخلق العظيم.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ..

والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله. أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه ، ولا بد من الوقوف عند لفظه. وليس كذلك الاستواء. فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء. ولفظ .. ثم ، لا يمكن قطعا أن يكون للترتيب الزمني ، لأن الله سبحانه ـ لا تتغير عليه الأحوال. ولا يكون في حال أو وضع ـ سبحانه ـ ثم يكون في حال أو وضع تال. إنما هو الترتيب المعنوي. فالاستعلاء درجة فوق الخلق ، يعبر عنها هذا التعبير.

وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم :

(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) ..

وأين؟ ومن؟ وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما؟ وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما؟ فأين هو الولي من دونه؟ وأين هو الشفيع الخارج على سلطانه؟

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) ..

وتذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الإقرار بالله ، والاتجاه إليه وحده دون سواه.

ومع الخلق والاستعلاء .. التدبير والتقدير .. في الدنيا والآخرة .. فكل أمر يدبر في السماوات والأرض وما بينهما يرفع إليه سبحانه في يوم القيامة ، ويرجع إليه مآله في ذلك اليوم الطويل :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ..

والتعبير يرسم مجال التدبير منظورا واسعا شاملا : (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ليلقي على الحس البشري الظلال التي يطيقها ويملك تصورها ويخشع لها. وإلا فمجال تدبير الله أوسع وأشمل من السماء إلى الأرض. ولكن الحس البشري حسبه الوقوف أمام هذا المجال الفسيح ، ومتابعة التدبير شاملا لهذه الرقعة الهائلة التي لا يعرف حتى الأرقام التي تحدد مداها!

ثم يرتفع كل تدبير وكل تقدير بمآله ونتائجه وعواقبه. يرتفع إليه سبحانه في علاه في اليوم الذي قدره لعرض مآلات الأعمال والأقوال ، والأشياء والأحياء (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) .. وليس شيء من هذا كله متروكا سدى ولا مخلوقا عبثا ، إنما يدبر بأمر الله إلى أجل مرسوم .. يرتفع. فكل شيء

وكل أمر وكل تدبير وكل مآل هو دون مقام الله ذي الجلال ، فهو يرتفع إليه أو يرفع بإذنه حين يشاء.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

ذلك .. الذي خلق السماوات والأرض. والذي استوى على العرش. والذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض .. (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) .. المطلع على ما يغيب وما يحضر. وهو الخالق المسيطر المدبر. وهو (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) .. القوي القادر على ما يريد. الرحيم في إرادته وتدبيره للمخاليق.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ..

.. واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل. الحق المتمثل في أشكال الأشياء ، ووظائفها. وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة. وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها. وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد.

سبحانه! هذه صنعته في كل شيء. هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق. هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان ؛ فلا تجاوز ولا قصور ، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص ، ولا إفراط ولا تفريط ، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة. كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص. ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر. ولا يتجاوز مداه ولا يقصر .. كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام. ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام. كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان .. وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث. وكلها من خلق الله. مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها ، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله.

كل شيء ، وكل خلق ، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود ، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا ، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل. هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف. هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون. هذه السمكة. هذا الطائر. هذه الزاحفة. هذا الحيوان .. ثم هذا الإنسان .. وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت. وهذه الأفلاك والعوالم ؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام .. كل شيء. كل شيء. حيثما امتد البصر متقن الصنع. بديع التكوين. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.

والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير ، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه ؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده. والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن ، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال ، ومن إيقاعات التناسق والكمال ، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق ؛ وتسكبها في القلب البشري ؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن ، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب. ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة.

ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة ، ومن ملالة الألفة. وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله ، ويتطلع إلى إيحاءاته. وإلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة. وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه ؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع ؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس ، لأنه

يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله.

إن هذا الوجود جميل. وإن جماله لا ينفد. وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود. قدر ما يريد. وفق ما يريده له مبدع الوجود.

وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود. فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء ، يصل إلى حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو ، وفي كل خلق .. انظر .. هذه النحلة. هذه الزهرة. هذه النجمة. هذا الليل. هذا الصبح. هذه الظلال. هذه السحب. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور!

إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين ؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها ، ونستمتع بها وهو يقول : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) .. فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) .. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ..

ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين. فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة ، وكان في المرحلة الأولى. ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها ، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح. وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة «المؤمنون» .. (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) .. فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلا إلى مرحلة الطين.

وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض ؛ وأنها نشأت من الطين. وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله. وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد. لا ما هو. ولا كيف كان. ومن الخلية الحية نشأ الإنسان. ولا يذكر القرآن كيف تم هذا ، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار. فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح ؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين. وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح.

غير أنه يحسن ـ بهذه المناسبة ـ تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة : بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية ؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان .. أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة ـ التي لم يكن دارون قد عرفها ـ تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه ؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه ، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون. والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع ـ حسب نظريات الوراثة ـ هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام (١)!

__________________

(١) يراجع كتاب العلم يدعو إلى الإيمان. وص ٢٥٧٣ جزء ١٩ من الظلال.

ثم نعود إلى ظلال القرآن!

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ..

من ماء النطفة الذي هو المرحلة الأولى في تطور الجنين : من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى كمال التكوين الجنيني ، في هذه السلالة التي تبدأ بالماء المهين. وإنها لرحلة هائلة حين ينظر إلى طبيعة التطورات التي تمر بها تلك النقطة الضائعة من ذلك الماء المهين. حتى تصل إلى الإنسان المعقد البديع التكوين! وإنها لمسافة شاسعة ضخمة بين الطور الأول والطور الأخير.

وذلك ما يعبر عنه القرآن في آية واحدة تصور هذه الرحلة المديدة :

(ثُمَّ سَوَّاهُ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ..

يا الله. ما أضخم الرحلة! وما أبعد الشقة! وما أعظم المعجزة التي يمر عليها الناس غافلين!

أين تلك النقطة الصغيرة المهينة من ذلك الإنسان الذي تصير إليه في النهاية ، لو لا أنها يد الله المبدعة التي تصنع هذه الخارقة. والتي تهدي تلك النقطة الصغيرة الضعيفة إلى اتخاذ طريقها في النمو والتطور والتحول من هيئتها الساذجة إلى ذلك الخلق المعقد المركب العجيب؟

هذا الانقسام في تلك الخلية الواحدة والتكاثر. ثم التنويع في أصناف الخلايا المتعددة ذات الطبيعة المختلفة ، والوظيفة المختلفة ؛ التي تتكاثر هي بدورها لتقوم كل مجموعة منها بتكوين عضو خاص ذي وظيفة خاصة. وهذا العضو الذي تكونه خلايا معينة من نوع خاص ، يحتوي بدوره على أجزاء ذات وظائف خاصة وطبيعة خاصة ، تكونها خلايا أكثر تخصصا في داخل العضو الواحد .. هذا الانقسام والتكاثر مع هذا التنويع كيف يتم في الخلية الأولى وهي خلية واحدة؟ وأين كانت تكمن تلك الخصائص كلها التي تظهر فيما بعد في كل مجموعة من الخلايا المتخصصة الناشئة من تلك الخلية الأولى؟ ثم أين كانت تكمن الخصائص المميزة لجنين الإنسان من سائر الأجنة؟ ثم المميزة لكل جنين إنساني من سائر الأجنة الإنسانية؟ ثم الحافظة لكل ما يظهر بعد ذلك في الجنين من استعدادات خاصة ، ووظائف معينة ، وسمات وشيات طوال حياته؟!

ومن ذا الذي كان يمكن أن يتصور إمكان وقوع هذه الخارقة العجيبة لو لا أنها وقعت فعلا وتكرر وقوعها؟ إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان ؛ وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان .. إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة ، والناس عنها غافلون .. ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنسانا ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) .. وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير.

ومع كل هذا الفيض من الفضل. الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم. الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء ، والتطور والتحول ، والتجمع والتخصص. ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنسانا .. مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ..

* * *

وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان ، وأطوار هذه النشأة العجيبة ، الخارقة لكل مألوف ، وإن كانت

تتكرر في كل لحظة ، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة ، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة :

(وَقالُوا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) ..

إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقا جديدا ، بعد موتهم ودفنهم ، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض ، ويختلط بذراتها ، ويضل فيها ، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى ، وليس فيها غريب ولا جديد! (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) .. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة ، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.

لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم ، مكتفيا بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ..

هكذا في صورة الخبر اليقين .. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله ، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.

* * *

وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها ، يقفهم وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة ؛ مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ، إِنَّا مُوقِنُونَ ـ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ـ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، إِنَّا نَسِيناكُمْ ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة ، والإقرار بالحق الذي جحدوه ، وإعلان اليقين بما شكوا فيه ، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى .. وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا .. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) .. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا .. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.

وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل ، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله ؛ وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم :

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ..

ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا. هو طريق الهدى ، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها ، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب ؛ أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة ، يملك معها الهدى والضلال ؛ ويختار الهداية أو يحيد عنها ؛ ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة ، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة ، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.

وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم :

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ..

يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر .. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم ، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا (إِنَّا نَسِيناكُمْ) .. والله لا ينسى أحدا. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين ، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.

(وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك ، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.

* * *

يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر ، في ظل آخر ، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب. إنه مشهد المؤمنين. مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين ، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله ، طامعة راجية في فضل الله. وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..

وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة ، اللطيفة ، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه ، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء ، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله ، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير.

هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم (خَرُّوا سُجَّداً) تأثرا بما ذكروا به ، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته ، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل ، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). مع حركة الجسد بالسجود. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) .. فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.

ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب :

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) ..

إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة ، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) .. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله

والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه. والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة ، حتى لكأنها مجسمة ملموسة : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) .. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة ، والصلاة الخاشعة ، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة .. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ..

هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيقة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد. الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة ، والإعزاز الذاتي ، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..

تعبير عجيب يشي بحفاوة الله ـ سبحانه ـ بالقوم ؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون. هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه. والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه! عند لقياه! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله. يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله! ومن هم ـ كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم ـ حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء ، في عناية ورعاية وود واحتفال؟ لو لا أنه فضل الله الكريم المنان؟!

* * *

وأمام مشهد المجرمين البائس الذليل ؛ ومشهد المؤمنين الناعم الكريم ، يعقب بتلخيص مبدأ الجزاء العادل ، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا أو الآخرة ؛ والذي يعلق الجزاء بالعمل ، على أساس العدل الدقيق :

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ، وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ..

وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك ، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء. والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله ، عاملون على منهاجه القويم. والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة ، وقانونه الأصيل. فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة ، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه.

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) التي تؤويهم وتضمهم (نُزُلاً) ينزلون فيه ويثوون ، جزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) .. يصيرون إليها ويأوون. ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد! «كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها» وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار. (وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب.

ذلك مصير الفاسقين في الآخرة. وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد. فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة :

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) ..

لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى ؛ فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم ، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب. فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .. وتستيقظ فطرتهم ، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب. ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذي رأيناه في مشهدهم الأليم. فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟) وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) .. ويا هو له من تهديد. والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب!

* * *

وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين ، وعواقب المؤمنين والفاسقين ، ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون. ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته. جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى ـ عليه‌السلام ـ الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل ؛ كما جعل القرآن كتاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هدى للمؤمنين. وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة. وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين ، وبيانا للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ـ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..

وتفسير هذه العبارة المعترضة : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) على معنى تثبيت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الحق الذي جاء به ؛ وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه ؛ والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان .. هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لموسى عليه‌السلام في ليلة الإسراء والمعراج. فإن اللقاء على الحق الثابت ، والعقيدة الواحدة ، هو الذي يستحق الذكر ، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من التكذيب والإعراض ، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء. وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) .. للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل ، وتوقن كما أيقنوا ، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل. ولتقرير طريق الإمامة والقيادة ، وهو الصبر واليقين.

أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..

* * *

وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ. أَفَلا يَسْمَعُونَ)؟.

ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين ، وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي. وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها ، وضعفها وقوتها. والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين ، واطراد تلك السنن ، ويتخذ من مصارع القرون ، وآثار الماضين ، الدراسة الخربة ، أو الباقية بعد سكانها موحشة. يتخذ منها معارض للعبرة ، وإيقاظ القلوب ، وإثارة الحساسية ، والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين. كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس. ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم ، فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان ؛ وينسى النظام الثابت في حياة البشر ، المطرد على توالي القرون. وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير!

وإن للآثار الخاوية لحديثا رهيبا عميقا ، للقلب الشاعر ، والحس المبصر ، وإن له لرجفة في الأوصال ، ورعشة في الضمائر ، وهزة في القلوب. ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط. والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم ؛ وأن تكون مساكن القوم أمامهم ، يمرون عليها ويمشون فيها ؛ ثم لا يستجيش هذا قلوبهم ، ولا يهز مشاعرهم ، ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله ، وتوقي مثل هذا المصير ؛ ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ. أَفَلا يَسْمَعُونَ؟) ..

يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم ، أو يسمعون هذا التحذير ، قبل أن يصدق بهم النذير ، ويأخذهم النكير!

* * *

وبعد لمسة البلى والدثور ، وما توقعه في الحس من رهبة وروعة ، وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة. يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات ؛ ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة ، كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ؛ أَفَلا يُبْصِرُونَ؟).

فهذه الأرض الميتة البور ، يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي ؛ فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة. الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم. وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء .. إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها ؛ والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها ؛ والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة ؛ إحساس حب وقربى وانعطاف ؛ مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع ، التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود.

وهكذا يطوّف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء ، بعد ما طوّف به في مجالي البلى والدثور ، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك ، وإيقاظه من بلادة الألفة ، وهمود العادة ؛ ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود ، وأسرار الحياة ، وعبر الأحداث ، وشواهد التاريخ.

* * *

وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل. فيحكي استعجالهم بالعذاب الذي يوعدون ؛ وشكهم في صدق الإنذار والتحذير. ويرد عليهم مخوفا محذرا من تحقيق ما يستعجلون به ، يوم لا ينفعهم إيمان ، ولا يمهلون لإصلاح ما فات. ويختم السورة بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

إلى الإعراض عنهم ، وتركهم لمصيرهم المحتوم :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ : يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) ..

والفتح هو الفصل فيما بين الفريقين من خلاف ؛ وتحقق الوعيد الذي كان يخدعهم أنه لا يجيئهم من قريب ؛ وهم غافلون عن حكمة الله في تأخيره إلى أجله الذي قدره ، والذي لا يقدمه استعجالهم ولا يؤخره. وما هم بقادرين على دفعه ولا الإفلات منه.

(قُلْ : يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ..

سواء كان هذا اليوم في الدنيا. إذ يأخذهم الله وهم كافرون ، فلا يمهلهم بعده ، ولا ينفعهم إيمانهم فيه. أو كان هذا اليوم في الآخرة إذ يطلبون المهلة فلا يمهلون :

وهذا الرد يخلخل المفاصل ، ويزعزع القلوب .. ثم يعقبه الإيقاع الأخير في السورة :

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) ..

وفي طياته تهديد خفي بعاقبة الانتظار ، بعد أن ينفض الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يده من أمرهم ، ويدعهم لمصيرهم المحتوم.

* * *

وتختم السورة على هذا الإيقاع العميق ، بعد تلك الجولات والإيحاءات والمشاهد والمؤثرات ، وخطاب القلب البشري بشتى الإيقاعات التي تأخذ من كل جانب ، وتأخذ عليه كل طريق ..

* * *

(٣٣) سورة الأحزاب مدنيّة

وآياتها ثلاث وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨)

هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة ، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشئ.

والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ؛ ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا ، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير. أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره. ذلك كافتتاح السورة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً. ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...) .. وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) .. والتعقيب على موقف المرجفين (يَوْمِ الْأَحْزابِ) التي سميت السورة باسمها. (قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً. قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً؟ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) .. ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة ، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) .. وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها ، وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ..

ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة ، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ؛ ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة. كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وللنظام الإسلامي. والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة ؛ وبيان أصولها من العقيدة والتشريع ؛ كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها ؛ وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد.

وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب ، وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف. كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم.

ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود ؛ وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة. سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة ؛ أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية .. ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية ؛ وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة.

ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتساوق موضوعاتها المنوعة. وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة.

* * *

تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرين

والمنافقين ، واتباع ما يوحي إليه ربه ، والتوكل عليه وحده. وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته. ونظمه وأوضاعه ، وآدابه وأخلاقه .. أصل استشعار القلب لجلال الله ، والاستسلام المطلق لإرادته ؛ واتباع المنهج الذي اختاره ، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته.

وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية. مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) .. يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد ، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد ، وإلا نافق ، واضطربت خطاه. وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا ، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا ؛ وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات.

ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار ـ وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ). ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشىء حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام (١) .. ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون ، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى (التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد). ويستبقى بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على المؤمنين جميعا ؛ ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم ؛ كما ينشىء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجميع المؤمنين : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) .. ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ؛ ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ). وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية.

ويعقب على هذا التنظيم الجديد ، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله ؛ بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين ، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة. على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات ، والمبادئ ، والتوجيهات ، لتقر في الضمائر والأخلاد.

وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة.

* * *

ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين ، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين. ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا ، في مشاهد متعاقبة ، ترسم المشاعر الباطنة ، والحركات الظاهرة ، والحوار بين الجماعات والأفراد. وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب ؛ وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة. من خلال ما وقع فعلا ، وما جاش في الأخلاد والضمائر.

وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس ، وتقرير القيم ، ووضع

__________________

(١) وسنبين ما يتبع في هذه الحالة عند الكلام التفصيلي عن نص الآية.

الموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود .. طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت ، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة ، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها. ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع ، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف ، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة ، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف ، وتنمية الصواب والاستقامة. وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم ، وبفطرة النفس ، ونواميس الوجود.

وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) .. ويتوسطها قوله. (قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً. قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) .. وبقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) .. ويختمها بقوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ..

وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف ، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) .. (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) .. ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) ..

* * *

بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعد ما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم. تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وآثرنه على متاع الحياة. ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة. وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته ، والحكمة التي يسمعنها من النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات.

وكان هذا هو الشوط الثالث.

* * *

فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زيد بن حارثة مولاه. وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله ، ليس لهم منه شيء ، وليس لهم في أنفسهم خيرة. إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء ، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ..

ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق ؛ وما وراءه من إبطال آثار التبني ، الذي سبق الكلام عليه في أول

السورة. إبطاله بسابقة عملية ؛ يختار لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشخصة ، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية ، وصعوبة الخروج عليها. فيقع الابتلاء على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع ، بعد تقريرها في أعماق الضمير : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً. وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ..

وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين كافة : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) ..

ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن معه من المؤمنين .. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ..

* * *

ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول. ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه. ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته ، في حياته وبعد وفاته. وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن. وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أزواجه وبيوته وشعوره ؛ ويلعنهم في الدنيا والآخرة. مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا.

ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) .. وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا. وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة.

* * *

والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة ، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله ، والتلويح بأنها قد تكون قريبا. ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) .. ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) ..

ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً. لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ..

وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية ، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة ؛ وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى. أمانة العقيدة والاستقامة عليها. والدعوة والصبر على تكاليفها ، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم. مما يتمشى مع موضوع السورة ، وجوها ؛ وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه.

والآن نتناول السورة بالتفصيل بعد هذا الإجمال السريع.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ..

هذا هو ابتداء السورة التي تتولى تنظيم جوانب من الحياة الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع الإسلامي الوليد. وهو ابتداء يكشف عن طبيعة النظام الإسلامي والقواعد التي يقوم عليها في عالم الواقع وعالم الضمير.

إن الإسلام ليس مجموعة إرشادات ومواعظ ، ولا مجموعة آداب وأخلاق ، ولا مجموعة شرائع وقوانين ، ولا مجموعة أوضاع وتقاليد .. إنه يشتمل على هذا كله. ولكن هذا كله ليس هو الإسلام .. إنما الإسلام الاستسلام. الاستسلام لمشيئة الله وقدره ؛ والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه ؛ ولاتباع المنهج الذي يقرره دون التلفت إلى أي توجيه آخر وإلى أي اتجاه. ودون اعتماد كذلك على سواه. وهو الشعور ابتداء بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للناموس الإلهي الواحد الذي يصرّفهم ويصرّف الأرض ، كما يصرّف الكواكب والأفلاك ؛ ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر ، وما غاب منه وما حضر ، وما تدركه منه العقول وما يقصر عنه إدراك البشر. وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتباع ما يأمرهم به الله والانتهاء عما ينهاهم عنه ؛ والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم ، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله .. هذه هي القاعدة. ثم تقوم عليها الشرائع والقوانين ، والتقاليد والأوضاع ، والآداب والأخلاق. بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في الضمير ؛ والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله ، والسير على منهجه في الحياة .. إن الإسلام عقيدة. تنبثق منها شريعة. يقوم على هذه الشريعة نظام. وهذه الثلاثة مجتمعة مترابطة متفاعلة هي الإسلام ..

ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة ، هو التوجيه إلى تقوى الله. وكان القول موجها إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القائم على تلك التشريعات والتنظيمات .. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) .. فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى ، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ. وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه.

وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع توجيههم أو اقتراحهم ، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) .. وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأن ضغط الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفا ، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم ، والخضوع لدفعهم وضغطهم. ثم يبقى ذلك النهي قائما في كل بيئة وكل زمان ، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقا ، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة. ليبقى منهجهم خالصا لله ، غير مشوب بتوجيه من سواه.

ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة ـ كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف ـ فإن الله هو العليم الحكيم ؛ وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) .. وما عند البشر إلا قشور ، وإلا قليل!

والتوجيه الثالث المباشر : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). فهذه هي الجهة التي تجيء منها التوجيهات ، وهذا هو المصدر الحقيق بالاتباع. والنص يتضمن لمسات موحية تكمن في صياغة التعبير : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). فالوحي (إِلَيْكَ) بهذا التخصيص. والمصدر (مِنْ رَبِّكَ) بهذه الإضافة. فالاتباع هنا متعين بحكم هذه الموحيات الحساسة ، فوق ما هو متعين بالأمر الصادر من صاحب الأمر المطاع .. والتعقيب : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .. فهو الذي يوحي عن خبرة بكم وبما تعملون ؛ وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون ، ودوافعكم إلى العمل من نوازع الضمير.

والتوجيه الأخير : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) .. فلا يهمنك أكانوا معك أم كانوا عليك ؛ ولا تحفل كيدهم ومكرهم ؛ وألق بأمرك كله إلى الله ، يصرفه بعلمه وحكمته وخبرته .. ورد الأمر إلى الله في النهاية والتوكل عليه وحده ، هو القاعدة الثابتة المطمئنة التي يفىء إليها القلب ؛ فيعرف عندها حدوده ، وينتهي إليها ؛ ويدع ما وراءها لصاحب الأمر والتدبير ، في ثقة وفي طمأنينة وفي يقين.

وهذه العناصر الثلاثة : تقوى الله. واتباع وحيه. والتوكل عليه ـ مع مخالفة الكافرين والمنافقين ـ هي العناصر التي تزود الداعية بالرصيد ؛ وتقيم الدعوة على منهجها الواضح الخالص. من الله ، وإلى الله ، وعلى الله. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ..

إنه قلب واحد ، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه. ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه. ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم ، ويقوّم به الأحداث والأشياء. وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى ، ولم يستقم على اتجاه.

ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ؛ ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع .. فهذا الخليط لا يكوّن إنسانا له قلب. إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام!

وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا ، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها ، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا. لا يملك أن يقول كلمة ، أو يتحرك حركة ، أو ينوي نية ، أو يتصور تصورا ، غير محكوم في هذا كله بعقيدته ـ إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه ـ لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد ، يخضع لناموس واحد ، ويستمد من تصور واحد ، ويزن بميزان واحد.

لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله : فعلت كذا بصفتي الشخصية. وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات. أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام! إنه شخص واحد له قلب واحد ، تعمره عقيدة واحدة. وله تصور واحد للحياة ، وميزان واحد للقيم. وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه ، في كل حالة من حالاته على السواء.

وبهذا القلب الواحد يعيش فردا ، ويعيش في الأسرة ، ويعيش في الجماعة ، ويعيش في الدولة. ويعيش في العالم. ويعيش سرا وعلانية. ويعيش عاملا وصاحب عمل. ويعيش حاكما ومحكوما. ويعيش في السراء والضراء .. فلا تتبدل موازينه ، ولا تتبدل قيمه ، ولا تتبدل تصوراته .. (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ..

ومن ثم فهو منهج واحد ، وطريق واحد ، ووحي واحد ، واتجاه واحد. وهو استسلام لله وحده. فالقلب الواحد لا يعبد إلهين ، ولا يخدم سيدين ، ولا ينهج نهجين ، ولا يتجه اتجاهين. وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام!

* * *

وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني. ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم :

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي. أي حرام محرمة كما تحرم عليّ أمي. ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلقة ، لا هي مطلقة فتتزوج غيره ، ولا هي زوجة فتحل له. وكان في هذا من القسوة ما فيه ؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها ، وسومها كل مشقة وعنت.

فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة ؛ ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى ؛ ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال .. جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف ؛ وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر. وكان مما شرعه هذه القاعدة : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) .. فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة ، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية.

وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من «سورة المجادلة» عند ما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة ، فجاءت إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تشكو تقول ؛ يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني. حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ، ظاهر مني. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ما أراك إلا قد حرمت عليه». فأعادت ذلك مرارا. فأنزل الله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ـ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ـ ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ. وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ؛ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ. وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) .. فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء ـ لا مؤبدا ولا طلاقا ـ كفارته عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا. وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى ، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها. ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) .. وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية ، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت ، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها ، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي.

هذه مسألة الظهار. فأما مسألة التبني ، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم ، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخل

في بناء الأسرة ، وفي بناء المجتمع كله.

ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي ، والاعتزاز بالنسب ، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع ، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور.

كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه. يدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه ، فيتوارث وإياه توارث النسب.

وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون. ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه ، ويتبناه ، ويلحقه بنسبه ، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه ، ويدخل في أسرته. وكان هذا يقع بخاصة في السبي ، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات ؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه ، وأطلق عليه اسمه ، وعرف به ، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها.

ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي. وهو من قبيلة عربية. سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية ؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ـ رضي الله عنها ـ فلما تزوجها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهبته له. ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاختار رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأعتقه ، وتبناه ، وكانوا يقولون عنه : زيد بن محمد. وكان أول من آمن به من الموالي.

فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها ، ويحكم روابطها ، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه .. أبطل عادة التبني هذه ؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية .. علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية. وقال : «وما جعل أدعياءكم أبناءكم» .. (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) .. والكلام لا يغير واقعا ، ولا ينشىء علاقة غير علاقة الدم ، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة ، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي!

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) ..

يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل. ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم ، لا على كلمة تقال بالفم. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) المستقيم ، المتصل بناموس الفطرة الأصيل ، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر ، يصنعونه بأفواههم. بكلمات لا مدلول لها من الواقع. فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ..

وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه. عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية. وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه ، ويرثه ويورثه ، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة ، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده. وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه ؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري ، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد ؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة ، ولا يعطيه مزاياها. ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها!

وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة. ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع. وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق .. وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل ، ضعيف ، مزور الأسس ،

لا يمكن أن يعيش! (١)

ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك ، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب ، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان ، فقد يسر الإسلام الأمر ـ وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة ، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها ـ فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية ، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه :

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) ..

وهي علاقة أدبية شعورية ؛ لا تترتب عليها التزامات محددة ، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات ـ وهي التزامات النسب بالدم ، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني ـ وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني.

وهذا النص : «فإن لم تعلموا آباءهم» .. يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي. وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية. هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة. وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة.

وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح :

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ؛ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ..

وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة ، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون :

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ..

ولقد شدد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي. وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر. قال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم. حدثنا ابن علية. عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال أبو بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال الله عزوجل : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) .. فأنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا من إخوانكم في الدين .. قال أبي (من كلام عيينة بن عبد الرحمن) : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه. وقد جاء في الحديث : «من ادعى إلى غير أبيه ـ وهو يعلم ـ إلا كفر» .. وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل ؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت. ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف.

* * *

بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني. ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا ؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة ، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم .. وذلك مع تقرير الولاية العامة

__________________

(١) ولقد حاول النظام الشيوعي أن يتنكر لقاعدة الأسرة في بناء المجتمع ، فتخبط وما يزال يتخبط. وعلى الرغم من قاعدة النظام المذهبية الفلسفية فإن الفطرة أخذت تكافح في روسيا وتعود شيئا فشيئا إلى السيطرة والبروز!

للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتقديمها على جميع ولايات النسب ؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجميع المؤمنين :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ؛ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ..

لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، فارين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى ، وذخائر المال ، وأسباب الحياة ، وذكريات الطفولة والصبا ، ومودات الصحبة والرفقة ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، متخلين عن كل ما عداها. وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو ، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس ، بما في ذلك الأهل والزوج والولد ـ المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة ، واستيلائها على القلب ، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة. وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ..

كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى. فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت ، وظل آخرون فيها على الشرك. فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم. ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية ؛ وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية.

وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا ، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس ، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة.

هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطي على كل العواطف والمشاعر ، وكل الأوضاع والتقاليد ، وكل الصلات والروابط. لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط ـ في الوقت ذاته ـ الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة ؛ فتقوم بينها مقام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام ، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة. لا بنصوص التشريع ، ولا بأوامر الدولة ؛ ولكن بدافع داخلي ومد شعوري. يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية. وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع.

نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار ، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ؛ فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم ، وفي أموالهم. وتسابقوا إلى إيوائهم ؛ وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة. إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار. وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس ، وطيب خاطر ، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري ، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة!

وآخى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار. وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد. وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم ، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها.

وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية ؛ وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد ـ شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام ـ وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة. بل بما هو أكثر. وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها.

وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف ، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة ، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها. وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية.

وإن الإسلام ـ مع حفاوته بذلك المد الشعوري ، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما ، مستعدة للفيضان. لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية ، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية ، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ؛ ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي ، وللنظام العادي ، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة.

ومن ثم عاد القرآن الكريم ـ بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار ، ووجود أسباب معقولة للارتزاق ، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى ، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم .. عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب ، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر ، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة. ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية. فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب ـ كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ..

وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم ، بل على قرابة النفس! : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) .. وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالنسبة لجميع المؤمنين : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ..

وولاية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه ؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين». وفي الصحيح أيضا أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء حتى من نفسي. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الآن يا عمر».

وليست هذه كلمة تقال ، ولكنها مرتقى عال ، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء ؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور ، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوّع مشاعره ، وراض نفسه ، وخفض من غلوائه في حب ذاته ، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها ، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه ، فإن ملكه كمن في مشاعره ، وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ؛ ولكنه يصعب

عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها ، أو عيبا لشيء من خصائصها ، أو نقدا لسمة من سماتها ، أو تنقصا لصفة من صفاتها. وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية ؛ أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة ، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويكفي أن عمر ـ وهو من هو ـ قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي.

وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم. جاء في الصحيح .. «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا. وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه». والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا.

وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية. مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء. فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته ؛ أو أن يهبه في حياته .. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) ..

ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى ، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) .. فتقر القلوب وتطمئن ؛ وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم.

بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية ؛ وتسير في يسر وهوادة ؛ ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد.

ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان ، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة.

* * *

وبمناسبة ما سطر في كتاب الله ، وما سبقت به مشيئته ، ليكون هو الناموس الباقي ، والمنهج المطرد ، يشير إلى ميثاق الله مع النبيين عامة ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأولي العزم من الرسل خاصة ، في حمل أمانة هذا المنهج ، والاستقامة عليه ، وتبليغه للناس ، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها ؛ وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم ، بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؛ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) ..

إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى خاتم النبيين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ميثاق واحد ، ومنهج واحد ، وأمانة واحدة يتسلمها كل منهم حتى يسلمها.

وقد عمم النص أولا : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) .. ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين : (وَمِنْكَ) .. ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل ، وهم أصحاب أكبر الرسالات ـ

قبل الرسالة الأخيرة ـ (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ..

وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) .. ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق ـ وهو الحبل المفتول ـ الذي استعير للعهد والرابطة. وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر .. وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده ، ليتلقوا وحيه ، ويبلغوا عنه ، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) .. والصادقون هم المؤمنون. فهم الذين قالوا كلمة الصدق ، واعتنقوا عقيدة الصدق. ومن سواهم كاذب ، لأنه يعتقد بالباطل ويقول كلمة الباطل. ومن ثم كان لهذا الوصف دلالته وإيحاؤه. وسؤالهم عن صدقهم يوم القيامة كما يسأل المعلم التلميذ النجيب الناجح عن إجابته التي استحق بها النجاح والتفوق ، أمام المدعوين لحفل النتائج! سؤال للتكريم ، وللإعلان والإعلام على رؤوس الأشهاد ، وبيان الاستحقاق ، والثناء على المستحقين للتكريم في يوم الحشر العظيم!

فأما غير الصادقين. الذين دانوا بعقيدة الباطل ، وقالوا كلمة الكذب في أكبر قضية يقال فيها الصدق أو يقال فيها الكذب. قضية العقيدة. فأما هؤلاء فلهم جزاء آخر حاضر مهيأ ، يقف لهم في الانتظار : (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) ..

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧)

قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧)

في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوما بعد يوم وحدثا بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو ، وتتضح سماتها. وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها الخاصة ، وقيمها الخاصة. وطابعها المميز بين سائر الجماعات.

وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحيانا درجة الفتنة ، وكانت فتنة كفتنة الذهب ، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف ؛ وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها ، فلا تعود خليطا مجهول القيم.

وكان القرآن الكريم يتنزل في إبان الابتلاء أو بعد انقضائه ، يصور الأحداث ، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه ، فتنكشف المواقف والمشاعر ، والنوايا والضمائر. ثم يخاطب القلوب وهي مكشوفة في النور ، عارية من كل رداء وستار ؛ ويلمس فيها مواضع التأثر والاستجابة ؛ ويربيها يوما بعد يوم ، وحادثا بعد

حادث ؛ ويرتب تأثراتها واستجاباتها وفق منهجه الذي يريد.

ولم يترك المسلمون لهذا القرآن ، يتنزل بالأوامر والنواهي ، وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة ؛ إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات ، والفتن والامتحانات ؛ فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة ، ولا تنضج نضجا صحيحا ، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية ، التي تحفر في القلوب ، وتنقش في الأعصاب ؛ وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. أما القرآن فيتنزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته ؛ وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة ، ساخنة بحرارة الابتلاء ، قابلة للطرق ، مطاوعة للصياغة!

ولقد كانت فترة عجيبة حقا تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فترة اتصال السماء بالأرض اتصالا مباشرا ظاهرا ، مبلورا في أحداث وكلمات. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه ، وأن سمع الله إليه ؛ وأن كل كلمة منه وكل حركة ، بل كل خاطر وكل نية ، قد يصبح مكشوفا للناس ، يتنزل في شأنه قرآن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. وحين كان كل مسلم يحس الصلة المباشرة بينه وبين ربه ؛ فإذا حزبه أمر ، أو واجهته معضلة ، انتظر أن تفتح أبواب السماء غدا أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته ، وفتوى في أمره ، وقضاء في شأنه. وحين كان الله سبحانه بذاته العلية ، يقول : أنت يا فلان بذاتك قلت كذا ، وعملت كذا وأضمرت كذا وأعلنت كذا. وكن كذا ، ولا تكن كذا .. ويا له من أمر هائل عجيب! يا له من أمر هائل عجيب أن يوجه الله خطابه المعين إلى شخص معين .. هو وكل من على هذه الأرض ، وكل ما في هذه الأرض ، وكل هذه الأرض. ذرة صغيرة في ملك الله الكبير! لقد كانت فترة عجيبة حقا ، يتملاها الإنسان اليوم ، ويتصور حوادثها ومواقفها ، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع ، الأضخم من كل خيال!

ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيهم ، وتنضج شخصيتهم المسلمة. بل أخذهم بالتجارب الواقعية ، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي ؛ وكل ذلك لحكمة يعلمها ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير.

هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلا ، ندركها ونتدبرها ؛ ونتلقى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير.

* * *

وهذا المقطع من سورة الأحزاب يتولى تشريح حدث من الأحداث الضخمة في تاريخ الدعوة الإسلامية ، وفي تاريخ الجماعة المسلمة ؛ ويصف موقفا من مواقف الامتحان العسيرة ، وهو غزوة الأحزاب ، في السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة ، الامتحان لهذه الجماعة الناشئة ، ولكل قيمها وتصوراتها. ومن تدبر هذا النص القرآني ، وطريقة عرضه للحادث ، وأسلوبه في الوصف والتعقيب ووقوفه أمام بعض المشاهد والحوادث ، والحركات والخوالج ، وإبرازه للقيم والسنن .. من ذلك كله ندرك كيف كان الله يربي هذه الأمة بالأحداث والقرآن في آن.

ولكي ندرك طريقة القرآن الخاصة في العرض والتوجيه فإننا قبل البدء في شرح النص القرآني ، نثبت رواية الحادث كما عرضتها كتب السيرة ـ مع الاختصار المناسب ـ ليظهر الفارق بين سرد الله سبحانه ، وسرد البشر للوقائع والأحداث.

عن محمد بن إسحاق قال ـ بإسناده عن جماعة :

إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري ، وحيي بن أخطب النضري ، وكنانة بن أبي الحقيق النضري ، وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبو عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) إلى قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ؛ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً).

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واتعدوا له.

ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان ـ من قيس عيلان ـ فدعوهم إلى حرب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا معهم فيه.

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف من بني مرة ، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع.

فلما سمع بهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما أجمعوا لهم من الأمر ضرب الخندق على المدينة ؛ فعمل فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعمل معه المسلمون فيه. فدأب فيه ودأبوا. وأبطأ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويستأذنه المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له ، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله في أولئك المؤمنين .. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .. ثم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ، ويذهبون بغير إذن من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

ولما فرغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة ، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد. وخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ؛ فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم ،

وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام (أي الحصون).

وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم. وكان قد وادع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن قومه ، وعاقده على ذلك وعاهده .. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب (أي ما زال يروضه ويخاتله) حتى سمح له ـ على أن أعطاه عهدا وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب ابن أسد عهده ، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ؛ وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث : يا رسول الله ، إن بيوتنا عورة من العدو ـ وذلك عن ملأ من رجال قومه ـ فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا ، فإنها خارج من المدينة.

فأقام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة ، قريبا من شهر. لم تكن بينه وبينهم حرب إلا الرميا بالنبل والحصار.

فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف ـ وهما قائدا غطفان ـ فأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه (١) ، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتابة ؛ ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ (سيد الأوس) وسعد بن عبادة (سيد الخزرج) فذكر ذلك لهما. واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول الله ، أمرا تحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال : «بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما». فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا.

وأقام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم (٢).

__________________

(١) وكان اليهود قد وعدوهم ثمر خيبر سنة إن نصروهم (عن إمتاع الأسماع للمقريزي)

(٢) قالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفي الفتح ، وحنين. لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة ، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفا. حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا.

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر (من غطفان) أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة».

(وقد فعل حتى أفقد الأحزاب الثقة بينهم وبين بني قريظة في تفصيل مطول تحدثت عنه روايات السيرة ونختصره نحن خوف الإطالة) ..

وخذل الله بينهم ـ وبعث الله عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد. فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم (يعني خيامهم وما يتخذونه للطبخ من مواقد .. إلخ).

فلما انتهى إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما اختلف من أمرهم ، وما فرق الله من جماعتهم ، دعا حذيفة بن اليمان ، فبعثه إليهم لينظر ما فعله القوم ليلا.

قال ابن إسحاق : فحدثني زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال :

قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله. أرأيتم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصحبتموه؟ قال : نعم يا ابن أخي. قال : فكيف كنتم تصنعون؟ قال : والله لقد كنا نجهد. فقال : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ، ولحملناه على أعناقنا. قال : فقال حذيفة : يا ابن أخي. والله لقد رأيتنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالخندق ، وصلّى رسول الله ـ هويا من الليل ؛ ثم التفت إلينا فقال : «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ، ثم يرجع ، يشرط له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف ، وشدة الجوع ، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. فقال : «يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ، ولا تحدث شيئا حتى تأتينا» قال : فذهبت فدخلت في القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، ولا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة : فأخذت الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت؟ قال : فلان ابن فلان! ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخف (يعني الخيل والجمال) وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون. ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء .. فارتحلوا فإني مرتحل .. ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث. فو الله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولو لا عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني ، ثم شئت لقتلته بسهم.

قال حذيفة : فرجعت إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو قائم يصلي في مرط (أي كساء) لبعض نسائه مرجل (من وشي اليمن) فلما رآني أدخلني إلى رجليه ، وطرح عليّ طرف المرط ؛ ثم ركع وسجد وإني لفيه. فلما سلم أخبرته الخبر .. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.

* * *

إن النص القرآني يغفل أسماء الأشخاص ، وأعيان الذوات ، ليصور نماذج البشر وأنماط الطباع. ويغفل تفصيلات الحوادث وجزئيات الوقائع ، ليصور القيم الثابتة والسنن الباقية. هذه التي لا تنتهي بانتهاء الحادث ، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص ، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات ، ومن ثم تبقى قاعدة ومثلا لكل جيل ولكل قبيل. ويحفل بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص ، ويظهر فيها يد الله

القادرة وتدبيره اللطيف ، ويقف عند كل مرحلة في المعركة للتوجيه والتعقيب والربط بالأصل الكبير.

ومع أنه كان يقص القصة على الذين عاشوها ، وشهدوا أحداثها ، فإنه كان يزيدهم بها خبرا ، ويكشف لهم من جوانبها ما لم يدركوه وهم أصحابها وأبطالها! ويلقي الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبآت الضمائر ؛ ويكشف للنور الأسرار والنوايا والخوالج المستكنة في أعماق الصدور.

ذلك إلى جمال التصوير ، وقوته ، وحرارته ، مع التهكم القاصم ، والتصوير الساخر للجبن والخوف والنفاق والتواء الطباع! ومع الجلال الرائع والتصوير الموحي للإيمان والشجاعة والصبر والثقة في نفوس المؤمنين.

إن النص القرآني معد للعمل ـ لا في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث وشاهدوه فحسب. ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك وفي كل تاريخ. معد للعمل في النفس البشرية إطلاقا كلما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة ، والبيئات المنوعة. بنفس القوة التي عمل بها في الجماعة الأولى.

ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي واجهتها أول مرة. هنا تنفتح النصوص عن رصيدها المذخور ، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة. وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات. وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها. تنتفض خلائق حية ، موحية ، دافعة ، دافقة ، تعمل في واقع الحياة ، وتدفع بها إلى حركة حقيقية ، في عالم الواقع وعالم الضمير.

إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة .. وكفى .. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة ؛ وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة ، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب ، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب!

وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات ؛ ثم يقف الموقف ، أو يواجه الحادث ، فإذا النص القرآني جديد ، يوحي إليه بما لم يوح من قبط قط ، ويجيب على السؤال الحائر ، ويفتي في المشكلة المعقدة ، ويكشف الطريق الخافي ، ويرسم الاتجاه القاصد ، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه ، وإلى الاطمئنان العميق.

وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث.

* * *

يبدأ السياق القرآني الحديث عن حادث الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم أن رد عنهم الجيش الذي همّ أن يستأصلهم ، لو لا عون الله وتدبيره اللطيف. ومن ثم يجمل في الآية الأولى طبيعة ذلك الحادث ، وبدءه ونهايته ، قبل تفصيله وعرض مواقفه. لتبرز نعمة الله التي يذكرهم بها ، ويطلب إليهم أن يتذكروها ؛ وليظهر أن الله الذي يأمر المؤمنين باتباع وحيه ، والتوكل عليه وحده ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه ، من عدوان الكافرين والمنافقين :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ..

وهكذا يرسم في هذه البداءة المجملة بدء المعركة وختامها ، والعناصر الحاسمة فيها .. مجيء جنود الأعداء. وإرسال ريح الله وجنوده التي لم يرها المؤمنون. ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم ، وبصره بعملهم.

ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ؛ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ، وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ : يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ، يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ـ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ..

إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب. من أعلاها ومن أسفلها. فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج. ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا. والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه.

وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير.

ننظر فنرى الموقف من خارجه : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ..

ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) .. وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب.

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) .. ولا يفصل هذه الظنون. ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب.

ثم تزيد سمات الموقف بروزا ، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحا : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) .. والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولا مروعا رعيبا.

قال محمد بن مسلمة وغيره : كان ليلنا بالخندق نهارا ؛ وكان المشركون يتناوبون بينهم ، فيغدو أبو سفيان ابن حرب في أصحابه يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ، ويغدو عمرو بن العاص يوما ، ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما. ويغدو ضرار بن الخطاب يوما. حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا.

ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع. قال :

ثم وافى المشركون سحرا ، وعبأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هويّ من الليل ، وما يقدر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم. وما قدر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء ؛ فجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ما صلينا! فيقول. ولا أنا والله ما صليت! حتى كشف الله المشركين ، ورجع كل من الفريقين إلى منزله ، وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق ، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة ـ وعليها خالد بن الوليد ـ فناوشهم ساعة ، فزرق وحشى الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق ، فقتله كما قتل حمزة ـ رضي الله عنه ـ بأحد. وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يومئذ : «شغلنا

المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا (١)» ..

وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا ـ ولا يشعر بعضهم ببعض ، ولا يظنون إلا أنهم العدو. فكانت بينهم جراحة وقتل. ثم نادوا بشعار الإسلام! «حم. لا ينصرون» فكف بعضهم عن بعض. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد» ..

ولقد كان أشد الكرب على المسلمين ، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق ، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم. فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق ، وأن تميل عليهم يهود ، وهم قلة بين هذه الجموع ، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة.

ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف :

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ..

فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل ، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيثة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد ؛ وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله ، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون. فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك. وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم ؛ فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل ، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين!

ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة ؛ وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء. فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان!

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ : يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) ..

فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف ، والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا ، لا موضع لها ولا محل ، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم .. وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على النساء والذراري. والخطر محدق والهول جامح ، والظنون لا تثبت ولا تستقر!

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ، يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) ..

يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو. متروكة بلا حماية.

وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة :

(وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) ..

ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار :

(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ..

وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقولون : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجع

__________________

(١) في حديث جابر أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنما شغل يومئذ عن صلاة العصر. والظاهر أن ذلك تكرر. فمرة شغل عن العصر فقال ذلك الدعاء. ومرة شغل عن تلك الصلوات كلها ..

إلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله لا تأذن لهم. إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا .. فردهم ..

فهكذا كان أولئك الذين يجبهم القرآن بأنهم : (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ..

* * *

ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية المصورة لموقف البلبلة والفزع والمراوغة. يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض. صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة ، وخور القلب ، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء ، ولا متجملين لشيء :

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها ، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) ..

ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة ؛ ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع ، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع ، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها .. (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) وطلبت إليهم الردة عن دينهم (لَآتَوْها) سراعا غير متلبثين ، ولا مترددين (إِلَّا قَلِيلاً) من الوقت ، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا! فهي عقيدة واهنة لا تثبت ؛ وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة!

هكذا يكشفهم القرآن ؛ ويقف نفوسهم عارية من كل ستار .. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد. ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا ؛ ثم لم يرعوا مع الله عهدا :

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة : هم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها. ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا. فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم.

فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته ، وثبتهم ، وعصمهم من عواقب الفشل. وكان ذلك درسا من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد. فأما اليوم ، وبعد الزمن الطويل ، والتجربة الكافية ، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة.

* * *

وعند هذا المقطع ـ وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع ـ يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها ؛ ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار :

(قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ؛ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً. قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً ؛ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ..

إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر ، يدفعها في الطريق المرسوم ، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب ، في موعده القريب. وكل موعده في الدنيا قريب ، وكل متاع فيها قليل ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة ، ولا مولى لهم ولا نصير ، من دون الله ، يحميهم ويمنعهم من قدر الله.

فالاستسلام الاستسلام. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع الله ، في السراء والضراء. ورجع

الأمر إليه ، والتوكل الكامل عليه. ثم يفعل الله ما يشاء.

ثم يستطرد إلى تقرير علم الله بالمعوقين ، الذين يقعدون عن الجهاد ويدعون غيرهم إلى القعود. ويقولون لهم : (لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) .. ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة. وهي ـ على صدقها ـ تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس. صورة للجبن والانزواء ، والفزع والهلع. في ساعة الشدة. والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء. والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه. والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد .. والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز :

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ : هَلُمَّ إِلَيْنا ، وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ. وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) ..

ويبدأ هذا النص بتقرير علم الله المؤكد بالمعوقين الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة. الذين يدعون إخوانهم إلى القعود (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) ولا يشهدون الجهاد إلا لماما. فهم مكشوفون لعلم الله ، ومكرهم مكشوف.

ثم تأخذ الريشة المعجزة في رسم سمات هذا النموذج :

«أشحة عليكم» ففي نفوسهم كزازة على المسلمين. كزازة بالجهد وكزازة بالمال ، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء.

(فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ..

وهي صورة شاخصة ، واضحة الملامح ، متحركة الجوارح ، وهي في الوقت ذاته مضحكة ، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان ، الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار!

وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن :

(فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) ..

فخرجوا من الجحور ، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش ، وانتفخت أوداجهم بالعظمة ، ونفشوا بعد الانزواء ، وادعوا في غير حياء ، ما شاء لهم الادعاء ، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال ، والشجاعة والاستبسال ..

ثم هم : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) ..

فلا يبذلون للخير شيئا من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم ؛ مع كل ذلك الادعاء العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان!

وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل. فهو موجود دائما. وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء. وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف. وهو شحيح بخيل على

الخير وأهل الخير ، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان!

(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) ..

فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان ، ولم تهتد بنوره ، ولم تسلك منهجه. (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) .. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) ..

وليس هنالك عسير على الله ، وكان أمر الله مفعولا ..

فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) ..

فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويخذّلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت ، وأنه قد ذهب الخوف ، وجاء الأمان!

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) ..

يا للسخرية! ويا للتصوير الزري! ويا للصورة المضحكة! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام. ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية ، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير. ولا يعلمون ـ حتى ـ ما يجري عند أهلها. إنما هم يجهلونه ، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب! مبالغة في البعد والانفصال ، والنجاة من الأهوال!

يتمنون هذه الأمنيات المضحكة ، مع أنهم قاعدون ، بعيدون عن المعركة ، لا يتعرضون لها مباشرة ؛ إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) ..

وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة. صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح ، وذات السمات .. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج ، والسخرية منه ، والابتعاد عنه ، وهوانه على الله وعلى الناس.

* * *

ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف ، وتلك كانت صورتهم الرديئة. ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة .. كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام ، مطمئنة في وسط الزلزال ، واثقة بالله ، راضية بقضاء الله ، مستيقنة من نصر الله ، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب.

ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) ..

وقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في هذا الحادث الضخم لما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم ؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة ؛ ويذكر الله ولا ينساه.

ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال. إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل.

خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعمل في الخندق مع المسلمين. يضرب بالفأس ، ويجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل. ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية : كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل ، فكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اسمه ، وسماه عمرا. فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج :

سماه من بعد جعيل عمرا

وكان للبائس يوما ظهرا

فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة «عمرو» ، قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «عمرا». وإذا مروا بكلمة «ظهر» قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ظهرا».

ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء. ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم ؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز.

وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أما إنه نعم الغلام! وغلبته عيناه فنام في الخندق. وكان القر شديدا. فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو لا يشعر. فلما قام فزع. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك»! ثم قال : «من له علم بسلاح هذا الغلام»؟ فقال عمارة : يا رسول الله هو عندي. فقال : فرده عليه. ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا!

وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب ، لكل من في الصف ، صغيرا أو كبيرا. كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة : «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك!» ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم ، في أحرج الظروف ..

ثم كانت روحه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ؛ فيحدث بها المسلمين ، ويبث فيهم الثقة واليقين.

قال ابن إسحاق : وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت عليّ صخرة ، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قريب مني. فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى. قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى. قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال : «أو قد رأيت ذلك يا سلمان»؟ قال : قلت. نعم : قال : «أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق» ..

وجاء في «إمتاع الأسماع للمقريزي» أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان. رضي الله عنهما.

ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب ، والخطر محدق بها محيط.

ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب ؛ وقد أخذه القر

الشديد ؛ ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه. فإذا هو في صلاته واتصاله بربه ، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بين رجليه ، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو. ويمضي في صلاته. حتى ينتهي ، فينبئه حذيفة النبأ ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبعث حذيفة يبصر أخبارها!

أما أخبار شجاعته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الهول ، وثباته ويقينه ، فهي بارزة في القصة كلها ، ولا حاجة بنا إلى نقلها ، فهي مستفيضة معروفة.

وصدق الله العظيم : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) ..

* * *

ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر. الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين :

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ. وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ. وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) ..

لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) ..

لقد كانوا ناسا من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق .. على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.

ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة. والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع. يشرط له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» .. ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء. فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني! .. ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة ..

ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس .. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر. ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) .. وها هم أولاء يزلزلون. فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ. وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) .. (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) ..

(هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) .. هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق. وعدنا عليه النصر .. فلا بد أن يجيء النصر : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) .. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها .. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) ..

لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من اطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته. فلهذا خلقهم الله. خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا .. كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة. ولكنهم كانوا ـ مع هذا ـ مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ وتمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط .. وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير.

وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور. علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة وضعف. وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.

وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق .. فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر. فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق ..

وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه :

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) ..

هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه. نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. ثم ولم يوفوا بعهد الله : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) ..

روى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن ثابت قال : «عمي أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ سميت به ـ لم يشهد مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم بدر ، فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غبت

عنه! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليرين الله عزوجل ما أصنع. قال : فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم أحد. فاستقبل سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ فقال له أنس ـ رضي الله عنه ـ يا أبا عمرو. أين واها لريح الجنة! إني أجده دون أحد. قال : فقاتلهم حتى قتل ـ رضي الله عنه ـ قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته ـ عمتي الرّبّيع ابنة النضر ـ : فما عرفت أخي إلا ببنانه. قال : فنزلت هذه الآية : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) .. إلخ» قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضى الله عنهم. (ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة).

وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان ، في مقابل صورة النفاق

والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق. لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن.

ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء ، وعاقبة النقض والوفاء ؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ ـ إِنْ شاءَ ـ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ..

ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد ـ ليرد الأمر كله إلى الله ، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع. فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة. إنما تقع وفق حكمة مقدرة ، وتدبير قاصد. وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب. وفيها تتجلى رحمة الله بعباده. ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ..

ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم ؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم ؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية :

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) ..

وقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها في يد الله ، يصرفها كيف يشاء. وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره. فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريرا لهذه الحقيقة ، وتثبيتا لها في القلوب ؛ وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح.

* * *

ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم. بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود :

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها. وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ..

فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين ..

إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة. وكان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطا عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدوا ، ولا يمدوا يدا بأذى.

ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول. وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة. كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة. فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه! وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام. ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه. ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود. فطلب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه! فقالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فخرج عندئذ عبد الله بن سلام إليهم ، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به. فوقعوا فيه ، وقالوا قالة السوء ، وحذروا منه أحياء اليهود. وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي. فاعتزموا الكيد لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كيدا لا هوادة فيه.

ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود!

لقد بدأت في أول الأمر حربا باردة ، بتعبير أيامنا هذه. بدأت حرب دعاية ضد محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وضد الإسلام. واتخذوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله. اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة. واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض. بين الأوس والخزرج مرة ، وبين الأنصار والمهاجرين مرة. واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين. واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين .. وأخيرا أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين ، كالذي حدث في غزوة الأحزاب ..

وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة. وكان لكل منها شأن مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومع المسلمين.

فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود ، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر ؛ وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته ، بعد ما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم.

وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن إسحاق ما كان من أمرهم قال :

وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال : «يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.

وذكر ابن هشام عن طريق عبد الله بن جعفر قال :

كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها ، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، وشدت يهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال :

فحاصرهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى نزلوا على حكمه ، فقام عبد الله بن أبيّ بن سلول (١) ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن في مواليّ ـ وكانوا حلفاء الخزرج ـ قال : فأبطأ عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا محمد أحسن في مواليّ. قال : فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أرسلني. وغضب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى رأوا لوجهه ظللا. ثم قال : ويحك! أرسلني. قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ. أربع مائة حاسر. وثلاث مائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود. تحصدهم في غداة واحدة.

__________________

(١) رأس المنافقين.

إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هم لك.

وكان عبد الله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه. فقبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة ، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح. وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة.

وأما بنو النضير ، فإن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم. فلما أتاهم قالوا : نعم يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟

ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة ، فألهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، وأمر بالتهيؤ لحربهم. فتحصنوا منه في الحصون. وأرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول (رأس النفاق) أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم. إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم. ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم. وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال. وسألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. ففعل. فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم ـ ممن سار إلى خيبر ـ سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب .. هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب.

* * *

والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة. وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلبا على المسلمين مع المشركين ، بتحريض من زعماء بني النضير ، وحيي بن أخطب على رأسهم. وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة.

ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين ، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين انتهى إليه الخبر ، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة ، وخوات بن جبير ـ رضي الله عنهم ـ فقال : «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس» .. (مما يصور ما كان يتوقعه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وقع الخبر في النفوس).

فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. نالوا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا : من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد! .. ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالتلميح لا بالتصريح. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الله أكبر. أبشروا يا معشر المسلمين» .. (تثبيتا للمسلمين من وقع الخبر السيء أن يشيع في الصفوف).

ويقول ابن إسحاق : وعظم عند ذلك البلاء ؛ واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم. حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين .. إلخ.

فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب.

فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره ، ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيرا ؛ وكفى الله المؤمنين القتال .. رجع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى المدينة منصورا ، ووضع الناس السلاح ، فبينما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يغتسل من وعثاء المرابطة ، في بيت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ إذ تبدى له جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال : «أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : نعم». قال : «ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم». ثم قال : «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» ـ وكانت على أميال من المدينة ـ. وذلك بعد صلاة الظهر. وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة». فسار الناس في الطريق ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلّى بعضهم في الطريق ، وقالوا : لم يرد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا تعجيل المسير. وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يعنف واحدا من الفريقين.

وتبعهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم (صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى ..) رضي الله عنه ـ وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ثم نازلهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة. فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس ـ رضي الله عنه ـ لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك. ولم يعلموا أن سعدا ـ رضي الله عنه ـ كان قد أصابه سهم في أكحله (وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع) أيام الخندق ؛ فكواه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب ؛ وقال سعد ـ رضي الله عنه ـ فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنا لها ؛ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ؛ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه. وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم ، طلبا من تلقاء أنفسهم.

فعند ذلك استدعاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من المدينة ليحكم فيهم. فلما أقبل ـ وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه ـ جعل الأوس يلوذون به ، يقولون : يا سعد إنهم مواليك ، فأحسن عليهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه. وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال ـ رضي الله عنه ـ : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم!

فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال رسول الله : «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون فأنزلوه ؛ إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.

فلما جلس قال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن هؤلاء ـ وأشار إليهم ـ قد نزلوا على حكمك. فاحكم فيهم بما شئت» فقال ـ رضي الله عنه ـ : وحكمي نافذ عليهم؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نعم». قال : وعلى من في هذه الخيمة؟ قال : «نعم». قال : وعلى من هاهنا (وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو معرض بوجهه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إجلالا وإكراما وإعظاما). فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نعم». فقال ـ رضي الله عنه ـ : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق

سبعة أرقعة» (أي سماوات).

ثم أمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالأخاديد فخدت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم. وكانوا ما بين السبع مائة ، والثماني مائة. وسبي من لم ينبت (كناية عن البلوغ) مع النساء والأموال. وفيهم حيي بن أخطب. وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم.

ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود ، وضعفت حركة النفاق في المدينة ؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم ، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون. وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين ، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم. حتى كان فتح مكة والطائف. ويمكن أن يقال : إنه كان هناك تلازم بين حركات اليهود وحركات المنافقين وحركات المشركين. وإن طرد اليهود من المدينة قد أنهى هذا التلازم ، وإنه كان فارقا واضحا بين عهدين في نشأة الدولة الإسلامية واستقرارها.

فهذا مصداق قول الله سبحانه :

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها. وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

والصياصي : الحصون والأرض التي ورثها المسلمون ولم يطؤوها ، ربما كانت أرضا مملوكة لبني قريظة خارج محلتهم. وقد آلت للمسلمين فيما آل إليهم من أموالهم. وربما كانت إشارة إلى تسليم بني قريظة أرضهم بغير قتال. ويكون الوطء معناه الحرب التي توطأ فيها الأرض.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ..

فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع ؛ وهو التعقيب الذي يرد الأمر كله إلى الله. وقد مضى السياق في عرض المعركة كلها يرد الأمر كله إلى الله. ويسند الأفعال فيها إلى الله مباشرة. تثبيتا لهذه الحقيقة الكبيرة ، التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالأحداث الواقعة ، وبالقرآن بعد الأحداث ، ليقوم عليها التصور الإسلامي في النفوس.

وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم. وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء.

وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية ؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها ، ولاتجاهها وتصوراتها. وتستقر القيم ، وتطمئن القلوب ، بالابتلاء وبالقرآن سواء!

انتهى الجزء الحادي والعشرون

ويليه الجزء الثاني والعشرون

مبدوءا بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ...)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بقيّة سورة الأحزاب

وسورتا

سبأ وفاطر

الجزء الثاني والعشرون

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥)

هذا الدرس الثالث في سورة الأحزاب خاص بأزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما عدا الاستطراد الأخير لبيان جزاء المسلمين كافة والمسلمات ـ ولقد سبق في أوائل السورة تسميتهن «أمهات المؤمنين». ولهذه الأمومة تكاليفها. وللمرتبة السامية التي استحققن بها هذه الصفة تكاليفها. ولمكانتهن من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تكاليفها. وفي هذا الدرس بيان لشيء من هذه التكاليف ؛ وإقرار للقيم التي أراد الله لبيت النبوة الطاهر أن يمثلها ، وأن يقوم عليها ، وأن يكون فيها منارة يهتدي بها السالكون.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، قُلْ لِأَزْواجِكَ : إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) ..

لقد اختار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف ، لا عجزا عن حياة المتاع ، فقد عاش حتى فتحت له الأرض ، وكثرت غنائمها ، وعم فيؤها ، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد! ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته نار. مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا. ولكن ذلك كان اختيارا للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله. رغبة الذي يملك ولكنه يعف ويستعلي

ويختار .. ولم يكن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته ، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته ؛ ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف ، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا ، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها ، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها .. ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه ، إلا أن يختارها من يريد ، استعلاء على اللذائذ والمتاع ، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها.

ولكن نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كن نساء ، من البشر ، لهن مشاعر البشر. وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة ، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن. فلما أن رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أمر النفقة.

فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب ، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى ؛ إذ كانت نفسه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقه وارتفاع ورضى ؛ متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال ؛ وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها. لا بوصفه حلالا وحراما ـ فقد تبين الحلال والحرام ـ ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة!

ولقد بلغ الأسى برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه. وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه. وجاءوا فلم يؤذن لهم. روى الإمام أحمد ـ بإسناده عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : أقبل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يستأذن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والناس ببابه جلوس ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالس ، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر ـ رضي الله عنه ـ فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فدخلا ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالس وحوله نساؤه ، وهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ساكت. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : لأكلمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعله يضحك. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد ـ امرأة عمر ـ سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها! فضحك النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى بدت نواجذه ، وقال : «هن حولي يسألنني النفقة»! فقام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما ليس عنده؟! فنهاهما الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلن : والله لا نسأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد هذا المجلس ما ليس عنده .. قال : وأنزل الله عزوجل الخيار ، فبدأ بعائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال : «إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» قالت : وما هو؟ قال : فتلا عليها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) .. الآية. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أفيك استأمر أبويّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله. وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأت منهن عما اخترت إلا أخبرتها (١)».

وفي رواية البخاري ـ بإسناده ـ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبرته أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير

__________________

(١) وأخرجه مسلم من حديث زكريا بن إسحاق.

أزواجه. قالت : فبدأ بي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» ـ وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه ـ قالت : ثم قال : «إن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلى تمام الآيتين. فقلت له : ففي أيّ هذا استأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.

لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة. هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحياته الخاصة ؛ وأن تتحقق في أدق صورة وأوضحها في هذا البيت الذي كان ـ وسيبقى ـ منارة للمسلمين وللإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق. فإما الحياة الدنيا وزينتها ، وإما الله ورسوله والدار الآخرة. فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

وقد كانت نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد قلن : والله لا نسأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد هذا المجلس ما ليس عنده. فنزل القرآن ليقرر أصل القضية. فليست المسألة أن يكون عنده أو لا يكون. إنما المسألة هي اختيار الله ورسوله والدار الآخرة كلية ، أو اختيار الزينة والمتاع. سواء كانت خزائن الأرض كلها تحت أيديهن أم كانت بيوتهن خاوية من الزاد. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختيارا مطلقا بعد هذا التخيير الحاسم. وكن حيث تؤهلهن مكانتهن من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي ذلك الأفق العالي الكريم اللائق ببيت الرسول العظيم. وفي بعض الروايات أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فرح بهذا الاختيار.

ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه.

إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم ؛ ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة. ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة ؛ بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء. ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه.

هذا من جانب ومن الجانب الآخر يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والذين عاشوا معه واتصلوا به. وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر ؛ لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإنسانية. مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها ؛ ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه. فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس. ولكنها ارتفعت ، وصفت من الأوشاب. ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة ، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان.

وكثيرا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ صورة غير حقيقية ، أو غير كاملة ، نجردهم فيها من كل المشاعر والعواطف البشرية ، حاسبين أننا نرفعهم بهذا وننزههم عما نعده نحن نقصا وضعفا!

وهذا الخطأ يرسم لهم صورة غير واقعية ، صورة ملفعة بهالات غامضة لا نتبين من خلالها ملامحهم الإنسانية الأصيلة. ومن ثم تنقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم. وتبقى شخوصهم في حسنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس ولا تتماسك في الأيدي! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقا آخر غيرنا .. ملائكة أو خلقا مثلهم مجردا من مشاعر البشر وعواطفهم على كل حال! ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنها

تبعدهم عن محيطنا ، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر. يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية. وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك ، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد. وتحل محلها الروعة والانبهار ، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية .. ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة. لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون ، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن. ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا.

وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر ، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر. كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة ؛ وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم ، وإن صفت ورفت وارتقت. فيحبوهم حب الإنسان للإنسان ؛ ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير.

وفي حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في المتاع ؛ كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ونسائه ـ رضي الله عنهن ـ وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا ، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة. فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية ، تصفى وترفع ، ولكنها لا تخمد ولا تكبت! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه. فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط ؛ فيفرح قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.

ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يحب عائشة حبا ظاهرا ؛ ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير ؛ ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد ؛ فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها ـ وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت ـ وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا تخطئ عائشة ـ رضي الله عنها ـ من جانبها في إدراكها ؛ فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها. ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنسانا يحب زوجه الصغيرة ، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه ؛ وتبقى معه على هذا الأفق ، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه ، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته. كذلك تبدو عائشة ـ رضي الله عنها ـ إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها ؛ فتسجل بفرح حرصه عليها ، وحبه لها ، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء. ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك ، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار ، وميزتها على بقية نسائه ، أو على بعضهن في هذا المقام! .. وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يقول لها : «إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» .. فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير ؛ ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير ؛ بل يقدم العون لكل من تريد العون. كي ترتفع على نفسها ، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع! هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا ـ ونحن نعرض السيرة ـ ألا نطمسها ، وألا نهملها ، وألا نقلل من

قيمتها. فإدراكها على حقيقتها هو الذي يربط بيننا وبين شخصية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وشخصيات أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ برباط حي ، فيه من التعاطف والتجاوب ما يستجيش القلب إلى التأسي العملي والاقتداء الواقعي.

* * *

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النص القرآني. فنجده ـ بعد تحديد القيم في أمر الدنيا والآخرة ؛ وتحقيق قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) في صورة عملية في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأهل بيته .. نجده بعد هذا البيان يأخذ في بيان الجزاء المدخر لأزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه خصوصية لهن وعليهن ، تناسب مقامهن الكريم ، ومكانهن من رسول الله المختار :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) ..

إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه. وهن أزواج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهن أمهات المؤمنين. وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة ، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة. فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لاخفاء فيها ، كانت مستحقة لضعفين من العذاب. وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه .. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) .. لا تمنعه ولا تصعبه مكانتهن من رسول الله المختار. كما قد يتبادر إلى الأذهان!

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) .. والقنوت الطاعة والخضوع. والعمل الصالح هو الترجمة العملية للطاعة والخضوع .. (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) .. كما أن العذاب يضاعف للمقارفة ضعفين. (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) .. فهو حاضر مهيأ ينتظرها فوق مضاعفة الأجر. فضلا من الله ومنة.

* * *

ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء ؛ ويقرر واجباتهن في معاملة الناس ، وواجبهن في عبادة الله ، وواجبهن في بيوتهن ؛ ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم ، وحياطته وصيانته من الرجس ؛ ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ، مما يلقي عليهن تبعات خاصة ، ويفردهن بين نساء العالمين :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ؛ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ؛ وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ ، وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ـ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ..

لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي ـ كغيره من المجتمعات في ذلك الحين ـ ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع ، وإشباع الغريزة. ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة.

كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية. ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة.

هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس ؛ وانحطاط الذوق الجمالي ؛ والاحتفال بالجسديات العارمة ، وعدم

الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف .. يبدو هذا في أشعار الجاهلين حول جسد المرأة ، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه ، وإلى أغلظ معانيه!

فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ؛ ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين ؛ فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد ، وإطفاء لفورة اللحم والدم ، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة ، بينهما مودة ورحمة ، وفي اتصالهما سكن وراحة ؛ ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان ، وعمارة الأرض ، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله.

كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ؛ ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ؛ ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ؛ ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته ، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات.

والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام ، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن. وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع ؛ وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي ، وبالنظافة في علاقات الجنسين ، وصيانتها من كل تبذل ، وتصفيتها من عرامة الشهوة ، حتى في العلاقات الجسدية المحضة.

وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا. وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس ، وفي خاصة أنفسهن ، وفي علاقتهن بالله. توجيه يقول لهن الله فيه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ـ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

فلننظر في وسائل إذهاب الرجس ، ووسائل التطهر ، التي يحدثهن الله ـ سبحانه ـ عنها ، ويأخذهن بها. وهن أهل البيت ، وزوجات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأطهر من عرفت الأرض من النساء. ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبيته الرفيع.

إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن ، ورفيع مقامهن ، وفضلهن على النساء كافة ، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين. على أن يوفين هذا المكان حقه ، ويقمن فيه بما يقتضيه :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) ..

لستن كأحد من النساء إن اتقيتن .. فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد ، ولا تشاركن فيه أحدا. ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى. فليست المسألة مجرد قرابة من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن.

وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين ؛ والذي يقرره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته ، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا : «يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من ما لي ما شئتم (١)».

وفي رواية أخرى : «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها (٢)».

__________________

(١) أخرجه مسلم

(٢) رواه مسلم والترمذي.

وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها ، وهو التقوى ، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا :

(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ..

ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال ، ويحرك غرائزهم ، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم!

ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؛ إنهن أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأمهات المؤمنين ، اللواتي لا يطمع فيهن طامع ، ولا يرف عليهن خاطر مريض ، فيما يبدو للعقل أول مرة. وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار .. ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول ، وتترقق في اللفظ ، ما يثير الطمع في قلوب ، ويهيج الفتنة في قلوب. وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد ، وفي كل بيئة ، وتجاه كل امرأة ، ولو كانت هي زوج النبي الكريم ، وأم المؤمنين. وأنه لا طهارة من الدنس ، ولا تخلص من الرجس ، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.

فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه. في عصرنا المريض الدنس الهابط ، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات ، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة ، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة ، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع ، في هذا العصر ، في هذا الجو ، ونساء يتخنثن في نبراتهن ، ويتميعن في أصواتهن ، ويجمعن كل فتنة الأنثى ، وكل هتاف الجنس ، وكل سعار الشهوة ؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث. وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟!

(وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ..

نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة ؛ وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة ؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث. فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ، ولا هذر ولا هزل ، ولا دعابة ولا مزاح ، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد.

والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات. كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق!

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ..

من وقر. يقر. أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن. إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها.

والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.

«ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها

فريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه .. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.

«وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال (١)».

فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكع في النوادي والمجتمعات .. فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان!

ولقد كان النساء على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا. ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم!

في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.

وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل!

فما ذا أحدث النساء في حياة عائشة ـ رضي الله عنها ـ؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!

(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ..

ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت. ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج. ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة!

قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال. فذلك تبرج الجاهلية!

وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج. فنهى الله تعالى عن ذلك!

وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج!

وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن.

__________________

(١) عن كتاب : «السلام العالمي والإسلام» فصل : «سلام البيت» ص ٥٤ ـ ٥٥ «دار الشروق».

هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك!

ونقول : ذوقه .. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أخط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر.

وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوي الإنساني وتقدمه. فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا. ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر!

ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.

والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان!

وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على طهارته ووضاءته ونظافته.

والقرآن الكريم يوجه نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :

(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ ، وَآتِينَ الزَّكاةَ ، وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ..

وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للارتفاع إلى ذلك المستوي ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق. فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد. ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه. ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة. وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله.

والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم .. كلها في نطاق العقيدة. ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين. وبدونهما لا يقوم هذا الكيان.

ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم. لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة .. وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ..

وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون ..

فهو يسميهم (أَهْلَ الْبَيْتِ) بدون وصف للبيت ولا إضافة. كأنما هذا البيت هو (الْبَيْتِ) الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة. فإذا قيل (الْبَيْتِ) فقد عرف وحدد ووصف. ومثل هذا قيل عن الكعبة. بيت الله. فسميت البيت. والبيت الحرام. فالتعبير عن بيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم.

وهو يقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ـ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .. وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته. تلطف يشي بأن الله سبحانه ـ يشعرهم بأنه بذاته العلية ـ يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم. وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت. وحين نتصور من هو القائل ـ سبحانه وتعالى ـ رب هذا الكون. الذي قال للكون : كن. فكان. الله ذو الجلال والإكرام. المهيمن العزيز الجبار المتكبر .. حين نتصور من هو القائل ـ جل وعلا ـ ندرك مدى هذا التكريم العظيم.

وهو ـ سبحانه ـ يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه.

وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت. فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي. وهذا هو طريق الإسلام .. شعور وتقوى في الضمير. وسلوك وعمل في الحياة. يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.

ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمثل ما بدأها به .. بتذكيرهن بعلو مكانتهن ، وامتيازهن على النساء ، بمكانهن من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبما أنعم الله عليهن فجعل بيوتهن مهبط القرآن ومنزل الحكمة ، ومشرق النور والهدى والإيمان :

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ..

وإنه لحظ عظيم يكفي التذكير به ، لتحس النفس جلالة قدره ، ولطيف صنع الله فيه ، وجزالة النعمة التي لا يعدلها نعيم.

وهذا التذكير يجيء كذلك في ختام الخطاب الذي بدأ بتخيير نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين متاع الحياة الدنيا وزينتها ، وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة. فتبدو جزالة النعمة التي ميزهن الله بها ؛ وضآلة الحياة الدنيا بمتاعها كله وزينتها ..

* * *

وفي صدد تطهير الجماعة الإسلامية ، وإقامة حياتها على القيم التي جاء بها الإسلام. الرجال والنساء في هذا سواء. لأنهم في هذا المجال سواء .. يذكر الصفات التي تحقق تلك القيم في دقة وإسهاب وتفصيل :

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ، وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ .. أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ..

وهذه الصفات الكثيرة التي جمعت في هذه الآية تتعاون في تكوين النفس المسلمة. فهي الإسلام ، والإيمان ،

والقنوت ، والصدق ، والصبر ، والخشوع ، والتصدق ، والصوم ، وحفظ الفروج ، وذكر الله كثيرا .. ولكل منها قيمته في بناء الشخصية المسلمة.

والإسلام : الاستسلام ، والإيمان التصديق. وبينهما صلة وثيقة أو أن أحدهما هو الوجه الثاني للآخر. فالاستسلام إنما هو مقتضى التصديق. والتصديق الحق ينشأ عنه الاستسلام.

والقنوت : الطاعة الناشئة من الإسلام والإيمان ، عن رضى داخلي لا عن إكراه خارجي.

والصدق : هو الصفة التي يخرج من لا يتصف بها من صفوف الأمة المسلمة لقوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) فالكاذب مطرود من الصف. صف هذه الأمة الصادقة.

والصبر : هو الصفة التي لا يستطيع المسلم حمل عقيدته والقيام بتكاليفها إلا بها. وهي تحتاج إلى الصبر في كل خطوة من خطواتها. الصبر على شهوات النفس ، وعلى مشاق الدعوة ، وعلى أذى الناس. وعلى التواء النفوس وضعفها وانحرافها وتلونها. وعلى الابتلاء والامتحان والفتنة. وعلى السراء والضراء ، والصبر على كلتيهما شاق عسر.

والخشوع : صفة القلب والجوارح ، الدالة على تأثر القلب بجلال الله ، واستشعار هيبته وتقواه.

والتصدق : وهو دلالة التطهر من شح النفس ، والشعور بمرحمة الناس ، والتكافل في الجماعة المسلمة. والوفاء بحق المال. وشكر المنعم على العطاء.

والصوم : والنص يجعله صفة من الصفات إشارة إلى اطراده وانتظامه. وهو استعلاء على الضرورات ، وصبر عن الحاجات الأولية للحياة. وتقرير للإرادة ، وتوكيد لغلبة الإنسان في هذا الكائن البشري على الحيوان.

وحفظ الفرج : وما فيه من تطهر ، وضبط لأعنف ميل وأعمقه في تركيب كيان الإنسان ، وسيطرة على الدفعة التي لا يسيطر عليها إلا تقي يدركه عون الله. وتنظيم للعلاقات ، واستهداف لما هو أرفع من فورة اللحم والدم في التقاء الرجل والمرأة ، وإخضاع هذا الالتقاء لشريعة الله ، وللحكمة العليا من خلق الجنسين في عمارة الأرض وترقية الحياة.

وذكر الله كثيرا : وهو حلقة الاتصال بين نشاط الإنسان كله وعقيدته في الله. واستشعار القلب لله في كل لحظة ؛ فلا ينفصل بخاطر ولا حركة عن العروة الوثقى. وإشراق القلب ببشاشة الذكر ، الذي يسكب فيه النور والحياة.

هؤلاء الذين تتجمع فيهم هذه الصفات ، المتعاونة في بناء الشخصية المسلمة الكاملة .. هؤلاء (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ..

وهكذا يعمم النص في الحديث عن صفة المسلم والمسلمة ومقومات شخصيتهما ، بعد ما خصص نساء النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في أول هذا الشوط من السورة. وتذكر المرأة في الآية بجانب الرجل كطرف من عمل الإسلام في رفع قيمة المرأة ، وترقية النظرة إليها في المجتمع ، وإعطائها مكانها إلى جانب الرجل فيما هما فيه سواء من العلاقة بالله ؛ ومن تكاليف هذه العقيدة في التطهر والعبادة والسلوك القويم في الحياة ..

* * *

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨)

هذا الدرس شوط جديد في إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. وهو يختص ابتداء بإبطال نظام التبني الذي ورد الحديث عنه في أول السورة. وقد شاء الله أن ينتدب لإبطال هذا التقليد من الناحية العملية رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد كانت العرب تحرم مطلقة الابن بالتبني حرمة مطلقة الابن من النسب ؛ وما كانت تطيق أن تحل مطلقات الأدعياء عملا ، إلا أن توجد سابقة تقرر هذه القاعدة الجديدة. فانتدب الله رسوله ليحمل هذا العبء فيما يحمل من أعباء الرسالة. وسنرى من موقف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من هذه التجربة أنه ما كان سواه قادرا على احتمال هذا العبء الجسيم ، ومواجهة المجتمع بمثل هذه الخارقة لمألوفه العميق! وسنرى كذلك أن التعقيب على الحادث كان تعقيبا طويلا لربط النفوس بالله ولبيان علاقة المسلمين بالله وعلاقتهم بنبيهم ، ووظيفة النبي بينهم .. كل ذلك لتيسير الأمر على النفوس ، وتطييب القلوب لتقبل أمر

الله في هذا التنظيم بالرضى والتسليم.

ولقد سبق الحديث عن الحادث تقرير قاعدة أن الأمر لله ورسوله ، وأنه ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. مما يوحي كذلك بصعوبة هذا الأمر الشاق المخالف لمألوف العرب وتقاليدهم العنيفة.

* * *

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ..

روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ حينما أراد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة ؛ فيرد الناس سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكان الموالي (١) ـ وهم الرقيق المحرر ـ طبقة أدنى من طبقة السادة. ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي تبناه. فأراد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم ، قريبته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زينب بنت جحش ؛ ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه ، في أسرته. وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تتخذ منه الجماعة المسلمة أسوة ، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق.

روى ابن كثير في التفسير قال : قال العوفي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ). الآية. وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ فدخل على زينب بنت جحش الأسدية ـ رضي الله عنها ـ فخطبها ، فقالت : لست بناكحته! فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بلى فانكحيه». قالت : يا رسول الله. أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) .. الآية. قالت : قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نعم»! قالت : إذن لا أعصي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد أنكحته نفسي!

وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : خطب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زينب بنت جحش لزيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسبا ـ وكانت امرأة فيها حدة ـ فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ...) الآية كلها.

وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ حين خطبها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على مولاه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ فامتنعت ثم أجابت.

وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال : وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ـ رضي الله عنها ـ وكانت أول من هاجر من النساء ـ يعني بعد صلح الحديبية ـ فوهبت نفسها للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «قد قبلت». فزوجها زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ (يعني والله أعلم بعد فراقه زينب) فسخطت هي وأخوها ، وقال : إنما أردنا رسول الله ـ صلّى الله

__________________

(١) قد تطلق هذه الكلمة على غير هذه الطبقة. فقد كانت قبيلة تكون موالي قبيلة ، تنصرها ، وتتكافل معها في الديات والتعويضات. على غير معنى الرق والعتق.

عليه وسلّم ـ فزوجنا عبده! قال : فنزل القرآن : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) إلى آخر الآية. قال : وجاء أمر أجمع من هذا : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قال : فذاك خاص وهذا أجمع.

وفي رواية ثالثة : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ثابت البناني ، عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : خطب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على جليبيب (١) امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال : حتى أستأمر أمها. فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «فنعم إذن». قال : فانطلق الرجل إلى امرأته ، فذكر ذلك لها ، فقالت : لاها الله! إذن ما وجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا جليبيبا ، وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال : والجارية في سترها تسمع. قال : فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذلك. فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال : فكأنها جلت عن أبويها. وقالا : صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : إن كنت قد رضيته فقد رضيناه. قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «فإني قد رضيته». قال : فزوجها .. ثم فزع أهل المدينة ، فركب جليبيب ، فوجدوه قد قتل ، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس ـ رضي الله عنه ـ فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة ..

فهذه الروايات ـ إن صحت ـ تعلق هذه الآية بحادث زواج زينب من زيد ـ رضي الله عنهما ـ أو زواجه من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

وقد أثبتنا الرواية الثالثة عن جليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه ، وتولى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تغييره بفعله وسنته. وهو جزء من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس منطق الإسلام الجديد ، وتصوره للقيم في هذه الأرض ، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام ، المستمدة من روحه العظيم.

ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص. وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني ، وإحلال مطلقات الأدعياء ، وحادث زواج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب ـ رضي الله عنها ـ بعد طلاقها من زيد. الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه. والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى اليوم ، ويلفقون حوله الأساطير!

وسواء كان سبب نزول الآية ما جاء في تلك الروايات ، أو كانت بصدد زواج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب ـ رضي الله عنها ـ فإن القاعدة التي تقررها الآية أعم وأشمل ، وأعمق جدا في نفوس المسلمين وحياتهم وتصورهم الأصيل.

فهذا المقوّم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا ؛ واستيقنته أنفسهم ، وتكيفت به مشاعرهم .. هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء ؛ وليس لهم من أمرهم شيء. إنما هم وما ملكت أيديهم لله. يصرفهم كيف يشاء ، ويختار لهم ما يريد. وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام. وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام ؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة ؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم. وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به ، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة ؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح ؛ وإن هم إلا أجراء ،

__________________

(١) وهو من الموالي.

لهم أجرهم على العمل ، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة!

عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله. أسلموها بكل ما فيها ؛ فلم يعد لهم منها شيء. وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله ؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة ؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها ، لا تحاول أن تخرج عنها ، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله.

وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله ، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء ، وكل أحد ، وكل حادث ، وكل حالة. واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة.

وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم ، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل ؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر. إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه ، معروف في ضميره ، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!

ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه ، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه ، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله ، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي ، وهم راضون مستروحون ، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق ، وفي غير من ولا غرور ، وفي غير حسرة ولا أسف. وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه ؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون ، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم.

إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم ، وتصرف حركاتهم ؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم ، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين ، سائرون معها في بساطة ويسر ولين.

وهم ـ مع هذا ـ يعملون ما يقدرون عليه ، ويبذلون ما يملكون كله ، ولا يضيعون وقتا ولا جهدا ، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة. ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون ، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص ، ومن ضعف وقوة ؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات ، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا أن بقولوا غير ما يفعلون.

وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة ، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون .. هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها ؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال!

واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة ، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك. وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك ، وخطوات الزمان ، ولا تحتك بها أو تصطدم ، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام. وهو الذي بارك تلك الجهود ، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان.

ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود ، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود .. كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر ؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات ، والكواكب والأفلاك ؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص.

وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن .. حيث يقول الله تبارك وتعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .. أو يقول : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .. أو يقول : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) .. فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع. هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود ؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود.

ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه ؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود ؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه.

ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) .. أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه. وأنه يقرر كلية أساسية ، أو الكلية الأساسية ، في منهج الإسلام!

* * *

ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب بنت جحش ، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات :

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ؛ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً. وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ. وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ، وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ..

مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم ، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ..).

ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته. فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس. ولا بد من سوابق عملية مضادة. ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار ؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين.

وقد مضى أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زوج زيد بن حارثة ـ الذي كان متبناه ، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعي إلى أبيه ـ من زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة ، ويحقق معنى قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي.

ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك ـ فيما يحمل من أعباء الرسالة ـ مؤنة إزالة آثار نظام التبني ؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة. ويواجه المجتمع بهذا العمل ، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به ، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها!

وألهم الله نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن زيدا سيطلق زينب ؛ وأنه هو سيتزوجها ، للحكمة التي قضى الله بها. وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت ، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا.

وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اضطراب حياته مع زينب ؛ وغدم استطاعته المضي معها. والرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على شجاعته في مواجهة القومة في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية ـ يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق ؛ فيقول لزيد (الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له ، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء. والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب) .. يقول له : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) .. ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس. كما قال الله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ!) .. وهذا الذي أخفاه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به. حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب ، فيما سيكون بعد. لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له. حتى بعد إبطال عادة التبني فى ذاتها. ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء. إنما كان حادث زواح النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة. بعد ما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.

وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات!

إنما كان الأمر كما قال الله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) .. وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما حمل ؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية. حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد ، وذم الآلهة والشركاء ؛ وتخطئة الآباء والأجداد!

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) .. لا مرد له ، ولا مفر منه. واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه.

وكان زواجه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب ـ رضي الله عنها ـ بعد انقضاء عدتها. أرسل إليها زيدا زوجها السابق. وأحب خلق الله إليه. أرسله إليها ليخطبها عليه.

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما انقضت عدة زينب ـ رضي الله عنها ـ قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لزيد بن حارثة. «اذهب فاذكرها عليّ» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، وأقول : إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذكرها! فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب. أبشري. أرسلني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذكرك. قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي عزوجل. فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فدخل عليها بغير إذن (١) ...

__________________

(١) رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة ..

وقد روى البخاري ـ رحمه‌الله ـ عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : إن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ كانت تفخر على أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سماوات.

ولم تمر المسألة سهلة ، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله ؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : تزوج حليلة ابنه!

ولما كانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد فقد مضى القرآن يؤكدها ؛ ويزيل عنصر الغرابة فيها ، ويردها إلى أصولها البسيطة المنطقية التاريخية :

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) ..

فقد فرض له أن يتزوج زينب ، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء. وإذن فلا حرج في هذا الأمر ، وليس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيه بدعا من الرسل.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ..

فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل. والتي تتعلق بحقائق الأشياء ، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) ..

فهو نافذ مفعول ، لا يقف في وجهه شيء ولا أحد. وهو مقدر بحكمة وخبرة ووزن ، منظور فيه إلى الغاية التي يريدها الله منه. ويعلم ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها. وقد أمر الله رسوله أن يبطل تلك العادة ويمحو آثارها عمليا ، ويقرر بنفسه السابقة الواقعية. ولم يكن بد من نفاذ أمر الله.

وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل :

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ..

فلا يحسبون للخلق حسابا فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة ، ولا يخشون أحدا إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ..

فهو وحده الذي يحاسبهم ، وليس للناس عليهم من حساب.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) فزينب ليست حليلة ابنه ، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.

والعلاقة بين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبين جميع المسلمين ـ ومنهم زيد بن حارثة ـ هي علاقة النبي بقومه ، وليس هو أبا لأحد منهم :

(وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) ..

ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية ، لتسير عليها البشرية ؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض ، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ..

فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، وما يصلحها ؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض ، واختار له

ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم ، إذا ما قضوا منهن وطرا ، وانتهت حاجتهم منهن ، وأطلقوا سراحهن .. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين ؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.

* * *

ثم يمضي السياق القرآني في ربط القلوب بهذا المعنى الأخير ، ووصلهم بالله الذي فرض على رسوله ما فرض ، واختار للأمة المسلمة ما اختار ؛ يريد بها الخير ، والخروج من الظلمات إلى النور :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) ..

وذكر الله اتصال القلب به ، والاشتغال بمراقبته ؛ وليس هو مجرد تحريك اللسان. وإقامة الصلاة ذكر الله. بل إنه وردت آثار تكاد تخصص الذكر بالصلاة :

روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين ، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» ..

وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة. فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه ، ويتصل به قلبه. سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر. والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال.

وإن القلب ليظل فارغا أو لاهيا أو حائرا حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به. فإذا هو مليء جاد ، قار ، يعرف طريقه ، ويعرف منهجه ، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه!

ومن هنا يحض القرآن كثيرا ، وتحض السنة كثيرا ، على ذكر الله. ويربط القرآن بين هذا الذكر وبين الأوقات والأحوال التي يمر بها الإنسان ، لتكون الأوقات والأحوال مذكرة بذكر الله ومنبهة إلى الاتصال به حتى لا يغفل القلب ولاينسى :

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ..

وفي البكرة والأصيل خاصة ما يستجيش القلوب إلى الاتصال بالله ، مغير الأحوال ، ومبدل الظلال ؛ وهو باق لا يتغير ولا يتبدل ، ولا يحول ولا يزول. وكل شيء سواه يتغير ويتبدل ، ويدركه التحول والزوال وإلى جانب الأمر بذكر الله وتسبيحه ، إشعار القلوب برحمة الله ورعايته ، وعنايته بأمر الخلق وإرادة الخير لهم ؛ وهو الغني عنهم ، وهم الفقراء المحاويج ، لرعايته وفضله :

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) ..

وتعالى الله ، وجلت نعمته ، وعظم فضله ، وتضاعفت منته ؛ وهو يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج الفانين ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا بقاء لهم ولا قرار. يذكرهم ، ويعني بهم ، ويصلي عليهم هو وملائكته ، ويذكرهم بالخير في الملأ الأعلى فيتجاوب الوجود كله بذكرهم ، كما قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه (١)» ..

__________________

(١) أخرجه البخاري.

ألا إنها لعظيمة لا يكاد الإدراك يتصورها. وهو يعلم أن هذه الأرض ومن عليها وما عليها إن هي إلا ذرة صغيرة زهيدة بالقياس إلى تلك الأفلاك الهائلة. وما الأفلاك وما فيها ومن فيها إلا بعض ملك الله الذي قال له : كن. فكان!

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ..

ونور الله واحد متصل شامل ؛ وما عداه ظلمات تتعدد وتختلف. وما يخرج الناس من نور الله إلا ليعيشوا في ظلمة من الظلمات ، أو في الظلمات مجتمعة ؛ وما ينقذهم من الظلام إلا نور الله الذي يشرق في قلوبهم ، ويغمر أرواحهم ، ويهديهم إلى فطرتهم. وهي فطرة هذا الوجود. ورحمة الله بهم وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم ، هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تتفتح قلوبهم للإيمان : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) ..

ذلك أمرهم في الدنيا دار العمل. فأما أمرهم في الآخرة دار الجزاء ، فإن فضل الله لا يتخلى عنهم ، ورحمته لا تتركهم ؛ ولهم فيها الكرامة والحفاوة والأجر الكريم :

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) ..

سلام من كل خوف ، ومن كل تعب ، ومن كل كد .. سلام يتلقونه من الله تحمله إليهم الملائكة. وهم يدخلون عليهم من كل باب ، يبلغونهم التحية العلوية. إلى جانب ما أعد لهم من أجر كريم .. فيا له من تكريم!

فهذا هو ربهم الذي يشرع لهم ويختار. فمن ذا الذي يكره هذا الاختيار؟!

* * *

فأما النبي الذي يبلغهم اختيار الله لهم ؛ ويحقق بسنته العملية ما اختاره الله وشرعه للعباد ، فيلتفت السياق التفاتة كذلك إلى بيان وظيفته وفضله على المؤمنين في هذا المقام :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ..

فوظيفة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيهم أن يكون (شاهِداً) عليهم ؛ فليعملوا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور ، ولا تبدل ، ولا تغير. وأن يكون (مُبَشِّراً) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ، ومن فضل وتكريم. وأن يكون (نَذِيراً) للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال ، فلا يؤخذوا على غرة ، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار. (وَداعِياً إِلَى اللهِ) .. لا إلى دنيا ، ولا إلى مجد ، ولا إلى عزة قومية ، ولا إلى عصبية جاهلية ، ولا إلى مغنم ، ولا إلى سلطان أو جاه. ولكن داعيا إلى الله. في طريق واحد يصل إلى الله (بِإِذْنِهِ) .. فما هو بمبتدع ، ولا بمتطوع ، ولا بقائل من عنده شيئا. إنما هو إذن الله له وأمره لا يتعداه. (وَسِراجاً مُنِيراً) .. يجلو الظلمات ، ويكشف الشبهات ، وينير الطريق ، نورا هادئا هاديا كالسراج المنير في الظلمات.

وهكذا كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما جاء به من النور. جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود ، ولعلاقة الوجود بالخالق ، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه ، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله ، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه ؛ وللمنشأ والمصير ، والهدف والغاية ، والطريق والوسيلة. في قول فصل لا شبهة فيه ولا غموض. وفي أسلوب يخاطب الفطرة خطابا مباشرا وينفذ إليها من أقرب السبل وأوسع الأبواب وأعمق المسالك والدروب!

ويكرر ويفصل في وظيفة الرسول مسألة تبشير المؤمنين : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) .. بعد ما أجملها في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) .. زيادة في بيان فضل الله ومنته على المؤمنين ، الذين يشرع لهم على يدي هذا النبي ، ما يؤول بهم إلى البشرى والفضل الكبير.

وينهي هذا الخطاب للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بألا يطيع الكافرين والمنافقين ، وألا يحفل أذاهم له وللمؤمنين ، وأن يتوكل على الله وحده وهو بنصره كفيل :

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَدَعْ أَذاهُمْ ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ..

وهو ذات الخطاب الوارد في أول السورة ، قبل ابتداء التشريع والتوجيه ، والتنظيم الاجتماعي الجديد. بزيادة توجيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألا يحفل أذى الكافرين والمنافقين ؛ وألا يتقيه بطاعتهم في شيء أو الاعتماد عليهم في شيء. فالله وحده هو الوكيل (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ..

* * *

وهكذا يطول التقديم والتعقيب على حادث زينب وزيد ، وإحلال أزواج الأدعياء ، والمثل الواقعي الذي كلفه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مما يشي بصعوبة هذا الأمر ، وحاجة النفوس فيه إلى تثبيت الله وبيانه ، وإلى الصلة بالله والشعور بما في توجيهه من رحمة ورعاية. كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم ..

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ

فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢)

هذا الشوط من السورة يتضمن في أوله حكما عاما من أحكام القرآن التشريعية في تنظيم شؤون الأسرة. ذلك حكم المطلقات قبل الدخول. يجيء بعده أحكام خاصة لتنظيم حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حياته الزوجية الخاصة مع نسائه وعلاقات نسائه كذلك ببقية الرجال ، وعلاقة المسلمين ببيت الرسول. وكرامة الرسول وبيته على الله وعلى ملائكته والملأ الأعلى .. وينتهي بحكم عام يشترك فيه نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين ، يأمرهن فيه بإرخاء جلابيبهن عند الخروج لقضاء الحاجة حتى يتميزن بهذا الزي السابغ ويعرفن ، فلا يتعرض لهن ذوو السيرة السيئة من المنافقين والمرجفين والفساق الذين كانوا يتعرضون للنساء في المدينة! ويختم بتهديد هؤلاء المنافقين والمرجفين بالإجلاء عن المدينة ما لم ينتهوا عن إيذاء المؤمنات وإشاعة الفساد ..

وهذه التشريعات والتوجيهات طرف من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. فأما ما يختص بحياة الرسول الشخصية ، فقد شاء الله أن يجعل حياة هذا البيت صفحة معروضة للأجيال ، فضمنها

هذا القرآن الباقي ، المتلو في كل زمان ومكان ؛ وهي في الوقت ذاته آية تكريم الله ـ سبحانه ـ لهذا البيت ، الذي يتولى بذاته العلية أمره ، ويعرضه للبشرية كافة في قرآنه الخالد على الزمان ..

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) ..

ولقد سبق في سورة البقرة بيان حكم المطلقات قبل الدخول في قوله تعالى :

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..

فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر ، فلها نصف ذلك المهر المسمى. وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقا .. وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة. فقرر أن لا عدة عليها. إذ أنه لم يكن دخول بها. والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل ، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق ، كي لا تختلط الأنساب ، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه ، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة. فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة ، ولا عدة إذن ولا انتظار : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) .. (فَمَتِّعُوهُنَّ) إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر ، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية. (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) .. لا عضل فيه ولا أذى. ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة.

وهذا حكم عام جاء في سياق السورة في صدد تنظيم الحياة العامة للجماعة المسلمة.

* * *

بعد ذلك يبين الله لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يحل له من النساء ، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته ، بعد ما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ..

وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء ، تزوج بكل منهن لمعنى خاص. عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر. وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تكريمهن ، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب ، إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج. وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها ، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى ، وعرفناه في قصتها. ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب. وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى ، توثيقا لعلاقته بالقبائل ، وتكريما لهما ، وقد أسلمتا بعد ما نزل بأهلهما من الشدة.

وكن قد أصبحن «أمهات المؤمنين» ونلن شرف القرب من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير. فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد

النساء. وقد نظر الله إليهن ، فاستثنى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ذلك القيد ، وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته ، وجعلهن كلهن حلا له ، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا ، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى. فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن ، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه ، بعد ما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة .. وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ، وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ، وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها ، خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً. تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ، وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ـ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ـ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) ..

ففي الآية يحل الله للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنواع النساء المذكورات فيها ـ ولو كن فوق الأربع ـ مما هو محرم على غيره. وهذه الأنواع هي : الأزواج اللواتي أمهرهن. وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء ، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن ـ إكراما للمهاجرات ـ وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي. إن أراد النبي نكاحها (وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج ، والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين) وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا. فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم. ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه.

ثم ترك الخيار له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه ، أو يؤجل ذلك. ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء .. وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد. ثم يعود .. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) .. فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والرغبات الموجهة إليه ، والحرص على شرف الاتصال به ، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً).

ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلا ، لا من ناحية العدد ، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن ؛ ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم :

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ـ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) لا يستثني من ذلك ـ (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) .. فله منهن ما يشاء .. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) .. والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب.

وقد روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتركت له حرية الزواج. ولكنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة. فكن هن أمهات المؤمنين ..

* * *

بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبنسائه ـ أمهات المؤمنين ـ في حياته وبعد وفاته كذلك. ويواجه حالة كانت واقعة ، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في بيوته وفي نسائه. فيحذرهم تحذيرا شديدا ، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته. ويهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ ـ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ـ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ..

روى البخاري ـ بإسناده ـ عن أنس بن مالك قال : بنى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم. فأرسلت على الطعام داعيا. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون. ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه. فقلت : يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه. قال : «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فانطلق إلى حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال : «السّلام عليكم ـ أهل البيت ـ ورحمة الله وبركاته». قالت : وعليك السّلام ورحمة الله. كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك. فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة. ثم رجع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شديد الحياء. فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا. فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه. أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب.

والآية تتضمن آدابا لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها ـ كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان ـ وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة. وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاما يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام ـ سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة ـ ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأهله. وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي ـ زينب بنت جحش ـ جالسة وجهها إلى الحائط! والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم! حتى تولى الله ـ سبحانه ـ عنه الجهر بالحق (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ).

ومما يذكر أن عمر ـ رضي الله عنه ـ بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الحجاب ؛ وكان يتمناه على ربه. حتى نزل القرآن الكريم مصدقا لاقتراحه مجيبا لحساسيته!

من رواية للبخاري ـ بإسناده ـ عن أنس بن مالك. قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله. يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب ..»

وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن. فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا. فأما إذا لم

يدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث .. وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون. فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث ؛ وأهل البيت ـ الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب ـ متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم.

ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والرجال :

(وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ..

وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع :

(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ..

فلا يقل أحد غير ما قال الله. لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك .. إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين. لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) .. يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات. أمهات المؤمنين. وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولا. ويقول خلق من خلقه قولا. فالقول لله ـ سبحانه ـ وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد!

والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقول الله. والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول. وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل. (وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار) (١).

وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة ؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث .. كان يؤذي النبي فيستحيي منهم. وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله. وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده ؛ وهن بمنزلة أمهاتهم. ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظا بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده :

(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ..

وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة!

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ..

وما أهول ما يكون عند الله عظيما!

ولا يقف السياق عند هذا الإنذار الهائل ، بل يستطرد إلى تهديد آخر هائل :

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ، فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ..

__________________

(١) راجع بتوسع فصل «سلام البيت» في كتاب : «السّلام العالمي والإسلام». «دار الشروق».

وإذن فالله هو الذي يتولى الأمر. وهو عالم بما يبدو وما يخفى ، مطلع على كل تفكير وكل تدبير. والأمر عنده عظيم. ومن شاء فليتعرض. فإنما يتعرض لبأس الله الساحق الهائل العظيم.

وبعد الإنذار والتهديد يعود السياق إلى استثناء بعض المحارم الذين لا حرج على نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أن يظهرن عليهم :

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ ، وَلا أَبْنائِهِنَّ ، وَلا إِخْوانِهِنَّ ، وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ ، وَلا نِسائِهِنَّ ، وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ. وَاتَّقِينَ اللهَ. إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) ..

وهؤلاء المحارم هم الذين أبيح لنساء المسلمين عامة أن يظهرن عليهم .. ولم أستطع أن أتحقق أي الآيات كان أسبق في النزول ؛ الآية الخاصة بنساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هنا ، أم الآية العامة لنساء المسلمين جميعا في سورة النور. والأرجح أن الأمر كان خاصا بنساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم عمم. فذلك هو الأقرب إلى طبيعة التكليف.

ولا يفوتنا أن نلحظ هذا التوجيه إلى تقوى الله ، والإشارة إلى اطلاعه على كل شيء : (وَاتَّقِينَ اللهَ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً). فالإيحاء بالتقوى ومراقبة الله يطرد في مثل هذه المواضع ، لأن التقوى هي الضمان الأول والأخير ، وهي الرقيب اليقظ الساهر على القلوب.

* * *

ويستمر السياق في تحذير الذين يؤذون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في نفسه أو في أهله ؛ وفي تفظيع الفعلة التي يقدمون عليها .. وذلك عن طريقين : الطريق الأولى تمجيد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبيان مكانته عند ربه وفي الملأ الأعلى. والطريق الثانية تقرير أن إيذاءه إيذاء الله ـ سبحانه ـ وجزاؤه عند الله الطرد من رحمته في الدنيا والآخرة ، والعذاب الذي يناسب الفعلة الشنيعة :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) ..

وصلاة الله على النبي ذكره بالثناء في الملأ الأعلى ؛ وصلاة ملائكته دعاؤهم له عند الله سبحانه وتعالى .. ويا لها من مرتبة سنية حيث تردد جنبات الوجود ثناء الله على نبيه ؛ ويشرق به الكون كله وتتجاوب به أرجاؤه. ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم الأبدي الباقي. وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة وهذا التكريم. وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي وتسليمه ، وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى وتسليمهم ؛ إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته وتسليمهم إلى تسليمه ؛ وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلوي الكريم الأزلي القديم.

وفي ظل هذا التمجيد الإلهي يبدو إيذاء الناس للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشعا شنيعا ملعونا قبيحا : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) .. ويزيده بشاعة وشناعة أنه إيذاء لله من عبيده ومخاليقه. وهم لا يبلغون أن يؤذوا الله. إنما هذا التعبير يصور الحساسية بإيذاء رسوله ، وكأنما هو إيذاء لذاته جل وعلا. فما أفظع! وما أبشع!

وما أشنع! ويستطرد كذلك إلى إيذاء المؤمنين والمؤمنات عامة. إيذاؤهم كذبا وبهتانا ، بنسبة ما ليس فيهم إليهم من النقائص والعيوب :

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ..

وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يومذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات ، بنشر قالة السوء عنهم ، وتدبير المؤامرات لهم ، وإشاعة التهم ضدهم. وهو عام في كل زمان وفي كل مكان. والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين ، والمنافقين ، والذين في قلوبهم مرض. والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد ، ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان. وهو أصدق القائلين.

* * *

ثم أمر الله نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة ـ إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن ـ وهي فتحة الصدر من الثوب ـ بجلباب كاس. فيميزهن هذا الزي ، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق. فإن معرفتهن وحشمتهن معا تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتتبعون النساء لمعابثتهن :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ. وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ..

قال السدي في هذه الآية : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طريق المدينة فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب. قالوا : هذه حرة. فكفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها ..

وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة. وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.

ومن ذلك نرى الجهد المستمر في تطهير البيئة العربية ، والتوجيه المطر لإزالة كل أسباب الفتنة والفوضى ، وحصرها في أضيق نطاق ، ريثما تسيطر التقاليد الإسلامية على الجماعة كلها وتحكمها.

* * *

وفي النهاية يأتي تهديد المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين الذين ينشرون الشائعات المزلزلة في صفوف الجماعة المسلمة .. تهديدهم القوي الحاسم ، بأنهم إذا لم يرتدعوا عما يأتونه من هذا كله ، وينتهوا عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات ، والجماعة المسلمة كلها ، أن يسلط الله عليهم نبيه ، كما سلطه على اليهود من قبل ، فيطهر منهم جو المدينة ، ويطاردهم من الأرض ؛ ويبيح دمهم فحيثما وجدوا أخذوا وقتلوا. كما جرت سنة الله فيمن قبلهم من اليهود على يد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وغير اليهود من المفسدين في الأرض في القرون الخالية :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ؛ مَلْعُونِينَ ، أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ..

ومن هذا التهديد الحاسم ندرك مدى قوة المسلمين في المدينة بعد بني قريظة ، ومدى سيطرة الدولة الإسلامية عليها. وانزواء المنافقين إلا فيما يدبرونه من كيد خفي ، لا يقدرون على الظهور ؛ إلا وهم مهددون خائفون.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣)

في هذا الدرس الأخير من السورة حديث عن سؤال الناس عن الساعة ، واستعجالهم بها ، وشكهم فيها. وجواب عن هذا السؤال يدع أمرها إلى الله ، مع تحذيرهم من قربها ، واحتمال أن تأخذهم على غرة أخذا سريعا. ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الساعة لا يسر المستعجلين بها ، يوم تقلب وجوههم في النار. ويوم يندمون على عدم طاعة الله ورسوله. ويوم يطلبون لسادتهم وكبرائهم ضعفين من العذاب. وهو مشهد مفجع لا يستعجل به مستعجل .. ثم يعود بهم من هذا المشهد في الآخرة إلى هذه الأرض مرة أخرى! يعود ليحذر الذين آمنوا أن يكونوا كقوم موسى الذين آذوه واتهموه فبرأه الله مما قالوا ـ ويبدو أن هذا كان ردا على أمر واقع. ربما كان هو حديث بعضهم عن زواج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بزينب ، ومخالفته لمألوف العرب ـ ويدعو المؤمنين أن يقولوا قولا سديدا بعيدا عن اللمز والعيب. ليصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم. ويحببهم في طاعة الله ورسوله ويعدهم عليها الفوز العظيم.

ويختم السورة بالإيقاع الهائل العميق. عن الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال ، وحملها الإنسان ، وهي ضخمة هائلة ساحقة. ذلك ليتم تدبير الله في ترتيب الجزاء على العمل ، ومحاسبة الإنسان على ما رضي لنفسه واختار : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ..

* * *

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ. قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ..

وقد كانوا ما يفتأون يسألون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الساعة التي حدثهم عنها طويلا ؛ وخوفهم بها طويلا ؛ ووصف القرآن مشاهدها حتى لكأن قارئه يراها. يسألونه عن موعدها ؛ ويستعجلون هذا الموعد ؛ ويحمل هذا الاستعجال معنى الشك فيها ، أو التكذيب بها ، أو السخرية منها ، بحسب النفوس السائلة ، وقربها من الإيمان أو بعدها.

والساعة غيب قد اختص به الله سبحانه ، ولم يشأ أن يطلع عليه أحدا من خلقه جميعا ، بما فيهم الرسل والملائكة المقربون. وفي حديث حقيقة الإيمان والإسلام : عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ؛ وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال : صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال : فأخبرني عن الإيمان. قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال : صدقت! قال : فأخبرني عن الإحسان. قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال : فأخبرني عن الساعة. قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل .. إلخ. ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «فإنه جبريل عليه‌السلام أتاكم يعلمكم دينكم (١)».

فالمسؤول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والسائل ـ جبريل عليه‌السلام ـ كلاهما لا يعلم علم الساعة ؛ (قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) .. على وجه الاختصاص والتفرد من دون عباد الله.

قدر الله هذا لحكمة يعلمها ، نلمح طرفا منها ، في ترك الناس على حذر من أمرها ، وفي توقع دائم لها ، وفي استعداد مستمر لفجأتها. ذلك لمن أراد الله له الخير ، وأودع قلبه التقوى. فأما الذين يغفلون عن الساعة ، ولا يعيشون في كل لحظة على أهبة للقائها ، فأولئك الذين يختانون أنفسهم ، ولا يقونها من النار. وقد بين الله لهم وحذرهم وأنذرهم ؛ وجعل الساعة غيبا مجهولا متوقعا في أية لحظة من لحظات الليل والنهار : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ..

* * *

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) ..

إنهم يسألون عن الساعة. فهذا مشهد من مشاهد الساعة :

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) ..

إن الله طرد الكافرين من رحمته ، وهيأ لهم نارا مسعرة متوقدة ، فهي معدة جاهزة حاضرة.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ..

__________________

(١) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

باقين فيها عهدا طويلا ، لا يعلم مداه إلا الله ؛ ولا نهاية له إلا في علم الله ، حيث يشاء الله. وهم مجردون من كل عون ، محرومون من كل نصير ، فلا أمل في الخلاص من هذا السعير ، بمعونة من ولي ولا نصير :

(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ..

أما مشهدهم في هذا العذاب فهو مشهد بائس أليم :

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ..

والنار تغشاهم من كل جهة ، فالتعبير على هذا النحو يراد به تصوير الحركة وتجسيمها ، والحرص على أن تصل النار إلى كل صفحة من صفحات وجوههم زيادة في النكال!

(يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) ..

وهي أمنية ضائعة ، لا موضع لها ولا استجابة ، فقد فات الأوان. إنما هي الحسرة على ما كان!

ثم تنطلق من نفوسهم النقمة على سادتهم وكبرائهم ، الذين أضلوهم ، وبالإنابة إلى الله وحده ، حيث لا تنفع الإنابة :

(وَقالُوا : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) ..

هذه هي الساعة. ففيم السؤال عنها؟ إن العمل لها هو المخلص الوحيد من هذا المصير المشئوم فيها!

* * *

ويبدو أن زواج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ مخالفا في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية. يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر ؛ وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب ، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط ، انطلقت تغمز وتلمز ، وتؤول وتعترض ، وتهمس وتوسوس. وتقول قولا عظيما! والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون. فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم. كالذي رأينا في غزوة الأحزاب. وفي حديث الإفك. وفي قسمة الفيء. وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغير حق.

وفي هذا الوقت ـ بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل ـ لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر. فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين ، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين. وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات ، وينشرون الأكاذيب ، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم ، ويسايرهم في بعض ما يروجون. فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ ويوجههم إلى تسديد القول ، وعدم إلقائه على عواهنه ، بغير ضبط ولا دقة ؛ ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا. وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) ..

ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى ؛ ولكن وردت روايات تعينه. ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن. فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

وقد ضرب بني إسرائيل مثلا للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة. فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم ، وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه ، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلا صارخا للانحراف والالتواء.

وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه ، (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ذا وجاهة وذا مكانة. والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبا وبهتانا. ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه. ويوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه ، ومعرفة هدفه واتجاهه. قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه ؛ وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث. ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح. فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصویب والتسديد. والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح ؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون. ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.

«ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً»

والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله. والاستقامة على نهج مريحة مطمئنة. والاهتداء إلى طريق المستقيم الواصل سعادة بذاته ، لو لم يكن وراءه جزاء سواه. وليس الذي يسير في الطريق المهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه يؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها ، وهي الفوز العظيم ، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة. فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق من يشاء بغير حساب.

* * *

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان ، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه. وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال. والتي أخذها على عاتقه ، وتعهد بحملها وحده ، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات ، وقصور العلم ، وقصر العمر ، وحواجز الزمان والمكان ، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ؛ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ..

إن السماوات والأرض والجبال ـ التي اختارها القرآن ليحدث عنها ـ هذه الخلائق الضخمة الهائلة ، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة ، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها ؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها ؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا ..

وهذه الأرض تدور دورتها ، وتخرج زرعها ، وتقوت أبناءها ، وتواري موتاها ، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة الله بلا إرادة منها.

وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب. وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء .. وهذه الجبال. وهذه الوهاد .. كلها .. كلها .. تمضي لشأنها ، بإذن ربها ، وتعرف بارئها ، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة. لقد أشفقت من أمانة التبعة. أمانة الإرادة. أمانة المعرفة الذاتية ، أمانة المحاولة الخاصة. «وحملها الإنسان».

الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره. ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره. ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده. ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ، ومقاومة انحرافاته ونزغاته ، ومجاهدة ميوله وشهواته .. وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد. مدرك. يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق!

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم ، القليل القوة ، الضعيف الحول ، المحدود العمر ؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع ..

وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم «كان ظلوما» لنفسه «جهولا» لطاقته. هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة. حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه ، والاهتداء المباشر لناموسه ، والطاعة الكاملة لإرادة ربه. المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال .. الخلائق التي تعرف مباشرة ، وتهتدي مباشرة ، وتطيع مباشرة ، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء .. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة ، وهو واع مدرك مريد. فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ، ومكان بين خلق الله فريد.

إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة .. هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى ، وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) .. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله. ولينهض بالأمانة التي اختارها ؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ...!

ذلك كان .. «ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات. وكان الله غفورا رحيما» ..

فاختصاص الإنسان بحمل الأمانة ؛ وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه ، ويهتدي بنفسه ، ويعمل بنفسه ، ويصل بنفسه .. هذا كان ليحتمل عاقبة اختياره ، وليكون جزاؤه من عمله. وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات. وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات ، فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من نقص وضعف ، وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع ، وما يشدهم من جواذب وأثقال .. فذلك فضل الله وعونه. وهو أقرب إلى المغفرة والرحمة بعباده : «وكان الله غفورا رحيما» ..

* * *

وبهذا الإيقاع الهائل العميق تختم السورة التي بدأت بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى طاعة الله وعصيان الكافرين والمنافقين ، واتباع وحي الله ، والتوكل عليه وحده دون سواه. والتي تضمنت توجيهات وتشريعات يقوم عليها نظام المجتمع الإسلامي ، خالصا لله ، متوجها له ، مطيعا لتوجيهاته.

بهذا الإيقاع الذي يصور جسامة التبعة وضخامة الأمانة. ويحدد موضع الجسامة ومنشأ الضخامة. ويحصرها

كلها في نهوض الإنسان بمعرفة الله والاهتداء إلى ناموسه ، والخضوع لمشيئته ..

بهذا الإيقاع تختم السورة ، فيتناسق بدؤها وختامها ، مع موضوعها واتجاهها. ذلك التناسق المعجز ، الدال بذاته على مصدر هذا الكتاب!

* * *

(٣٤) سورة سبإ مكيّة

وآياتها أربع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩)

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد الله ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث. وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية. وبيان أن الإيمان والعمل الصالح ـ لا الأموال ولا الأولاد ـ هما قوام الحكم والجزاء عند الله. وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله ؛ وما من شفاعة عنده إلا بإذنه.

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى ؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.

فعن قضية البعث يقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ..

وعن قضية الجزاء يقول : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ..

وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ).

ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) ..

وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ. وَقالُوا : آمَنَّا بِهِ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ).

وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) ..

ويرد تعقيبا على التكذيب بمجيء الساعة : (قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..

ويرد قرب ختام السورة : (قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ..

وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ..

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله : (قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ..

وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً

ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ قالُوا : سُبْحانَكَ! أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ..

وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) ..

وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) .. وقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ. وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ..

ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) .. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ..

ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله. وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون. وما وقع لهؤلاء وهؤلاء. وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد.

* * *

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة. ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلا في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب. وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة. وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة. وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة. وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود.

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) .. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ..

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جنا يقفهم وجها لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : (وَلا

تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ..

أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ..) إلخ».

والمكذبون لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيدا عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : (قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ..

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة. حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا ..

* * *

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط ؛ لتيسير عرضها وشرحها. وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديدا دقيقا .. وهذا هو طابع السورة الذي يميزها ..

تبدأ السورة بالحمد لله ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير. وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، عن علم دقيق. وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق. وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفا عليهم ..

وبذلك ينتهي الشوط الأول.

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفا من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله. غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب. وهم لا يعلمون الغيب. وقد ظلوا يعملون لسليمان عملا شاقا مهينا بعد موته وهم لا يعلمون .. وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر. قصة سبأ. وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) .. وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين!

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله. وهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) .. وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله ـ ولو كانوا من الملائكة ـ فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق .. ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض. والله مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك .. ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون .. ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء. (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معا قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد. ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين. كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين .. ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل. وهو لا يطلب إليهم أجرا على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون .. ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة. وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية : (قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ. قُلْ : إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) .. وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف.

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل ..

* * *

(الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ ، وَما فِي الْأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ، وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ ، وَما يَعْرُجُ فِيها ، وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) ..

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله ، وتكذيبهم لرسوله ، وشكهم في الآخرة ، واستبعادهم للبعث والنشور. ابتداء بالحمد لله. والله محمود لذاته ـ ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر ـ وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ، ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله.

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ؛ فليس لأحد معه شيء ، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك ، فله ـ سبحانه ـ كل شيء فيهما .. وهذه هي القضية الأولى في العقيدة. قضية التوحيد. والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) .. الحمد الذاتي. والحمد المرتفع من عباده. حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا ، أو يشركون معه غيره عن ضلالة ، تتكشف في الآخرة ، فيتمحض له الحمد والثناء.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) .. الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة .. الخبير الذي يعلم بكل شيء ، وبكل أمر ، وبكل تدبير علما كاملا شاملا عميقا يحيط بالأمور.

ثم يكشف صفحة من صحائف علم الله ، مجالها الأرض والسماء :

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ، وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ ، وَما يَعْرُجُ فِيها) ..

ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة ، فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء ، والحركات ، والأحجام ، والأشكال ، والصور ، والمعاني ، والهيئات ، لا يصمد لها الخيال!

ولو أن أهل الأرض جميعا وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين!

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شيء في هذا اللحظة يخرج منها؟ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها؟

كم من شيء يلج في الأرض؟ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز ، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليه ساهرة لا تنام؟

وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟ وكم من نبع يفور؟ وكم من بر كان يتفجر؟ وكم من غاز يتصاعد؟ وكم من مستور ينكشف؟ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى ، ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير؟

وكم مما ينزل من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق ، وكم من شعاع منير؟ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد. وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر .. وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله.

وكم مما يعرج فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه.

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة. وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله. وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله.

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر ، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه؟! كم في لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاءهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟ وعلم الله الشامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان .. وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله ، وهو مع هذا يستر ويغفر .. (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) ..

وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر. فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر ؛ ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر ، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعه الله بارئ هذا الوجود! التي لا تشبهها صنعة العبيد!

* * *

وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة ؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم به الغد ؛ والله هو العليم بالغيب ؛ الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض ؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ : قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، عالِمِ الْغَيْبِ ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ..

وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشئ من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره. فحكمة الله لا تترك الناس سدى ، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء ؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه ، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته. وقد أخبر الله على لسان رسله : أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة. فكل من يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره .. ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة.

ومن ثم يقولون قولتهم هذه : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) .. فيرد عليهم مؤكدا جازما : (قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) .. وصدق الله تعالى وصدق رسول الله ـ عليه صلوات الله ـ وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله ، ويجزمون بما لا علم لهم به. والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو : (عالِمِ الْغَيْبِ) .. فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين.

ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة ، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر ، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور :

(لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ؛ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..

ومرة أخرى نقول : إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية. وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء. فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ ...) .. ولست أعرف في كلام البشر اتجاها إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل. فهو الله ، سبحانه ، الذي يصف نفسه ، ويصف علمه ، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال.

وأقرب تفسير لقوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أنه علم الله الذي يقيد كل شيء ، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

ونقف أمام لفتة في قوله تعالى : (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) .. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ). والذرة كان معروفا ـ إلى عهد قريب ـ أنها أصغر الأجسام. فالآن يعرف البشر ـ بعد تحطيم الذرة ـ أن هناك ما هو أصغر من الذرة ، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عند ما يشاء.

مجيء الساعة حتما وجزما ، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ..

فهناك حكمة وقصد وتدبير. وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وللذين سعوا في آيات الله معاجزين ..

فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم (مَغْفِرَةٌ) لما يقع منهم من خطايا ولهم (رِزْقٌ كَرِيمٌ) والرزق يجيء ذكره كثيرا في هذه السورة ، فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف ، وهو رزق من رزق الله على كل حال.

وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله ، فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه. والرجز هو العذاب السيّء. جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء!

وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره ، وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم ؛ وهي لا بد أن تجيء ..

* * *

وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم ـ وهي غيب من غيب الله ـ وتأكيد الله لمجيئها ـ وهو عالم الغيب ـ

وتبليغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ..

وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب ، الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق ، وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد.

ومجال الآية أكبر وأشمل. فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان ، من أي جيل ومن أي قبيل ، يرون هذا متى صح علمهم واستقام ؛ واستحق أن يوصف بأنه (الْعِلْمَ)! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال. وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح. وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله. وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل.

(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ..

وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود ؛ واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه. وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله ، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها ، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه.

يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه ؛ ومكان هذا الإنسان منه ، ودوره فيه ؛ وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله ـ وهو معها ـ في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه ؛ وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى بارئ الوجود.

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير ، وإقامته على أسس سليمة ، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية ؛ بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه ، والاستعانة بها ، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق.

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية. ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق ـ أفرادا وجماعات ـ مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه .. كل ذلك في بساطة ويسر ولين.

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة ، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء ، وسائر الخلائق ؛ فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته. وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير.

إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط. الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط ، العارف بطبيعة هذا وذاك. وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق. فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق؟!

* * *

وبعد هذه اللمسة الموقظة الموجهة يستأنف حكاية حديثهم عن البعث ، ودهشتهم البالغة لهذا الأمر ، الذي يرونه عجيبا غريبا ، لا يتحدث به إلا من أصابه طائف من الجن ، فهو يتفوه بكل غريب عجيب ، أو يفتري

الكذب ويقول بما لا يمكن أن يكون.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ! أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) ..

إلى هذا الحد من الاستغراب والدهش كانوا يقابلون قضية البعث. فيعجبون الناس من أمر القائل بها في أسلوب حاد من التهكم والتشهير : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) هل ندلكم على رجل عجيب غريب ، ينطق بقول مستنكر بعيد ، حتى ليقول : إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد ، وتعودون للوجود؟!

ويمضون في العجب والتعجيب ، والاستنكار والتشهير : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟) .. فما يقول مثل هذا الكلام ـ بزعمهم ـ إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله ، أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب!

ولم هذا كله؟ لأنه يقول لهم : إنكم ستخلقون خلقا جديدا! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء؟ إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة. عجيبة خلقهم الأول. ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد. ولكنهم ضالون لا يهتدون. ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيبا شديدا مرهوبا :

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) ..

وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة ، فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه ، وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء .. وقد يكون هذا تعبيرا عن معنى آخر. معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال. وهي حقيقة عميقة. فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي. لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة. وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة ، وثوابها للمحسن وعقابها للمسىء. وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر ، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة ؛ وإن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله. والذي يحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال. يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه!

إن الاعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبهما الله لمن يستحقهما من عباده بإخلاص القلب ، وتحري الحق ، والرغبة في الهدى. وأرجح أن هذا هو الذي تشير إليه الآية ، وهي تجمع على الذين لا يؤمنون بالآخرة بين العذاب والضلال البعيد.

* * *

هؤلاء المكذبون بالآخرة يوقظهم بعنف على مشهد كوني يصور لهم أنه واقع بهم ـ لو شاء الله ـ وظلوا هم في ضلالهم البعيد. مشهد الأرض تخسف بهم والسماء تتساقط قطعا عليهم :

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ..

وهو مشهد كوني عنيف ، منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة على كل حال.

فخسف الأرض يقع ويشهده الناس. وترويه القصص والروايات أيضا. وسقوط قطع من السماء يقع كذلك عند سقوط الشهب وحدوث الصواعق. وهم رأوا شيئا من هذا أو سمعوا عنه. فهذه اللمسة توقظ الغفاة الغافلين ، الذين يستبعدون مجيء الساعة. والعذاب أقرب إليهم لو أراد الله أن يأخذهم به في هذه الأرض قبل قيام الساعة. يمكن أن يقع بهم من هذه الأرض وهذه السماء التي يجدونها من بين أيديهم ومن خلفهم ، محيطة بهم ، وليست بعيدة عنهم بعد الساعة المغيبة في علم الله. ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون.

وفي هذا الذي يشهدونه من السماء والأرض ، والذي يتوقع من خسف الأرض في أية لحظة أو سقوط قطع من السماء. في هذا آية للقلب الذي يرجع ويثوب :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .. لا يضل ذلك الضلال البعيد ..

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١)

يحوي هذا الشوط صورا من الشكر والبطر ؛ وصورا من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقا لا تسخر عادة للبشر. ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر. وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون. وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان ، وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره. وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صورة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة. وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السورة ..

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً. يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ، وَاعْمَلُوا صالِحاً. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..

وداود عبد منيب ، كالذي ختم بذكره الشوط الأول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .. والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة ؛ ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل. ثم يبين هذا الفضل :

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) ..

وتذكر الروايا أن داود عليه‌السلام أوتي صوتا جميلا خارقا في الجمال ؛ كان يرتل به مزاميره ، وهي تسابيح دينية ، ورد منها في كتاب «العهد القديم» ما الله أعلم بصحته. وفي الصحيح أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سمع صوت أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته. ثم قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لقد أوتي هذا مزمارا من زمامير آل داود».

والآية تصور من فضل الله على داود ـ عليه‌السلام ـ أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات ؛ فاتصلت حقيقتها بحقيقته ، في تسبيح بارئها وبارئه ؛ ورجّعت معه الجبال والطير ، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز ، حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة ؛ تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع ، وبين كائن من خلق الله وكائن ؛ وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة ، التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق ؛ فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق ، وتتلاقى في نعمة واحدة ، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ، يزيح عنه حجاب كيانه المادي ، ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود ، وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود.

وحين انطلق صوت داود ـ عليه‌السلام ـ يرتل مزاميره ويمجد خالقه ، رجّعت معه الجبال والطير ، وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد ، المتجهة إلى بارئه الواحد .. وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر ، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته!

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

وهو طرف آخر من فضل الله عليه. وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر. فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلا للطرق ، إنما كان ـ والله أعلم ـ معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة. وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلا من الله يذكر. ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات ، وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).

والسابغات الدروع. روي أنها كانت تعمل قبل داود ـ عليه‌السلام ـ صفائح. الدرع صفيحة واحدة ، فكانت تصلب الجسم وتثقله. فألهم الله داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم ؛ وأمر بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح. وهو التقدير في السرد. وكان الأمر كله إلهاما وتعليما من الله.

وخوطب داود وأهله :

(وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..

لا في الدروع وحدها بل في كل ما تعملون ؛ مراقبين الله الذي يبصر ما تعملون ويجازي عليه ، فلا يفلت منه شيء ، والله به بصير ..

* * *

ذلك ما آتاه الله داود ـ عليه‌السلام ـ فأما سليمان فقد آتاه الله أفضالا أخرى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ، وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ. وَقُدُورٍ راسِياتٍ. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

وتسخير الريح لسليمان تتكاثر حوله الروايات ، وتبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات ـ وإن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها ـ والتحرج من الخوض في تلك الروايات أولى. والاكتفاء بالنص القرآني أسلم. مع الوقوف به عند ظاهر اللفظ لا نتعداه. ومنه يستفاد أن الله سخر الريح لسليمان ، وجعل غدوها أي توجهها غادية إلى بقعة معينة (ذكر في سورة الأنبياء أنها الأرض المقدسة) يستغرق شهرا ، ورواحها أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهرا كذلك. وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها ، يدركها سليمان ـ عليه‌السلام ـ ويحققها بأمر الله .. ولا نملك أن نزيد هذا إيضاحا حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها ولا تحقيق.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) ..

والقطر النحاس. وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة كإلانة الحديد لداود. وقد يكون ذلك بأن فجر الله له عينا بركانية من النحاس المذاب من الأرض. أو بأن ألهمه الله إذابة النحاس حتى يسيل ويصبح قابلا للصب والطرق. وهو فضل من الله كبير.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ..

وكذلك سخر له طائفة من الجن يعملون بأمره بإذن ربه. والجن كل مستور لا يراه البشر. وهناك خلق سماهم الله الجن ولا نعرف نحن من أمرهم شيئا إلا ما ذكره الله عنهم. وهو يذكر هنا أن الله سخر طائفة منهم لنبيه سليمان ـ عليه‌السلام ـ فمن عصى منهم ناله عذاب الله :

(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) ..

ولعل هذا التعقيب ـ قبل الانتهاء من قصة التسخير ـ يذكر على هذا النحو لبيان خضوع الجن لله. وكان بعض المشركين يعبدهم من دون الله. وهم مثلهم معرضون للعقاب عند ما يزيغون عن أمر الله.

وهم مسخرون لسليمان ـ عليه‌السلام ـ :

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ..

والمحاريب من أماكن العبادة ، والتماثيل الصور من نحاس وخشب وغيره. والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء. وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفانا كبيرة للطعام تشبه الجوابي ، وتصنع له قدورا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها .. وهذه كلها نماذج مما سخر الله الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن الله. وكلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها إلا بأنها خارقة من صنع الله. وهذا هو تفسيرها الواضح الوحيد.

ويختم هذا بتوجيه الخطاب إلى آل داود :

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) ..

سخرنا لكم هذا وذلك في شخص داود وشخص سليمان ـ عليهما‌السلام ـ فاعملوا يا آل داود شكرا لله. لا للتباهي والتعالي بما سخره الله. والعمل الصالح شكر لله كبير.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ..

تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص. يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها. ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله. وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء. فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس؟!

وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة؟ .. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .. وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه ، وعن أيمانه وعن شمائله ، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه. وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام!

كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب ، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال. ذلك حينما جاء قطنا الصغير «سوسو» يدور هنا وهناك من حولنا ، يبحث عن شيء ؛ وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئا ، ولكنه لا يملك أن يقول ؛ ولا نملك نحن أن ندرك. حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء. وكان هذا. وكان في شدة العطش. وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير .. وأدركنا في هذه اللحظة شيئا من نعمة الله علينا بالنطق واللسان ، والإدراك والتدبير. وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة .. وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل.

وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس. وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحيانا. وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع. ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال! ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس. لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا ، وفي جوارحه كلها ، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة .. الله! هذه هي الشمس. شمس ربنا وما تزال تطلع .. الحمد لله!

فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية ، ونحن نستحم في الضوء والدفء. ونسبح ونغرق في نعمة الله؟ وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة؟!

وحين نمضي نستعرض آلاء الله على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله ، ونبذل الجهد كله ، ولانبلغ من هذا شيئا. فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية ، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء ، ليتدبرها كل قلب ، ويمضي على إثرها ، قدر ما يوفقه الله لنعمة الشكر ، وهي إحدى آلاء الله ، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص ..

ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها. مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله ؛ وهي لا تعلم نبأ موته ، حتى يدلهم على ذلك أكل الأرضة لعصاه ، التي كان مرتكزا عليها ، وسقوطه :

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) ..

وقد روي أنه كان متكئا على عصاه حين وافاه أجله ؛ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد ؛ فلم تدرك أنه مات ، حتى جاءت دابة الأرض. قيل إنها الأرضة ، التي تتغذى بالأخشاب ، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة ، في الأماكن التي تعيش فيها. وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفا من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر. فلما نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض. وحينئذ فقط علمت الجن موته. وعندئذ (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) ..

فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس. هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله. وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب ؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد!

* * *

وفي قصة آل داود تعرض صفحة الإيمان بالله والشكر على أفضاله وحسن التصرف في نعمائه. والصفحة المقابلة هي صفحة سبأ. وقد مضى في سورة النمل ما كان بين سليمان وبين ملكتهم من قصص. وهنا يجيء نبؤهم بعد قصة سليمان. مما يوحي بأن الأحداث التي تتضمنها وقعت بعد ما كان بينها وبين سليمان من خبر.

يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق. وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبؤها في سورة النمل مع سليمان في فلك عظيم ، وفي خير عميم. ذلك إذ يقص الهدهد على سليمان : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) .. وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين. فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله ؛ وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم.

وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم ، وما طلب إليهم من شكر المنعم بقدر ما يطيقون : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ..

وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن ؛ وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منها بقية إلى اليوم. وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق ، فأقاموا خزانا طبيعيا يتألف جانباه من جبلين ، وجعلوا على فم الوادي بينهما سدا به عيون تفتح وتغلق ، وخزنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد ، وتحكموا فيها وفق حاجتهم. فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم. وقد عرف باسم : «سد مأرب».

وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل ، ومن ثم كانت آية تذكر بالمنعم الوهاب. وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين :

(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) ..

وذكروا بالنعمة. نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات.

(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ..

سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء. وسماحة في السماء بالعفو والغفران. فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران؟

ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا :

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ : خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) ..

أعرضوا عن شكر الله ، وعن العمل الصالح ، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم ، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه ؛ وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه ، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ؛ ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت. وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة :

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ : خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) ..

والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك. والأثل شجر يشبه الطرفاء. والسدر النبق. وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل!

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) ..

والأرجح أنه كفران النعمة ..

(وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ..

وكانوا إلى هذا الوقت ما يزالون في قراهم وبيوتهم. ضيق الله عليهم في الرزق ، وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة ؛ ولكنه لم يمزقهم ولم يفرقهم. وكان العمران ما يزال متصلا بينهم وبين القرى المباركة : مكة في الجزيرة ، وبيت المقدس في الشام. فقد كانت اليمن ما تزال عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة. والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك مأمون :

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) ..

وقيل كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل دخول الظلام. فكان السفر فيها محدود المسافات ، مأمونا على المسافرين. كما كانت الراحة موفورة لتقارب المنازل وتقارب المحطات في الطريق.

وغلبت الشقوة على سبأ ، فلم ينفعهم النذير الأول ؛ ولم يوجههم إلى التضرع إلى الله ، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء. بل دعوا دعوة الحمق والجهل :

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ..

تطلبوا الأسفار البعيدة المدى ؛ التي لا تقع إلا مرات متباعدة على مدار العام. لا تلك السفرات القصيرة المتداخلة المنازل ، التي لا تشبع لذة الرحلات! وكان هذا من بطر القلب وظلم النفس :

(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ..

واستجيبت دعوتهم ، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر :

(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ..

شردوا ومزقوا ؛ وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل ؛ وعادوا أحاديث يرويها الرواة ، وقصة على الألسنة والأفواه. بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ..

يذكر الصبر إلى جوار الشكر .. الصبر في البأساء. والشكر في النعماء. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.

هذا فهم في الآية. وهناك فهم آخر. فقد يكون المقصود بقوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) .. أي قرى غالبة ذات سلطان. بينما تحول سبأ إلى قوم فقراء ، حياتهم صحراوية جافة. وكثرت أسفارهم وانتقالاتهم وراء المراعي ومواضع الماء. فلم يصبروا على الابتلاء. وقالوا : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) .. أي قلل من أسفارنا فقد تعبنا. ولم يصحبوا هذا الدعاء باستجابة وإنابة لله تستحق استجابته لدعائهم. وكانوا قد بطروا النعمة ، ولم يصبروا للمحنة. ففعل الله بهم ما فعل ، ومزقهم كل ممزق ؛ فأصبحوا أثرا بعد عين ، وحديثا يروى وقصة تحكى .. ويكون التعقيب : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. مناسبا لقلة شكرهم على النعمة ، وقلة صبرهم على المحنة .. وهو وجه رأيته في الآية والله أعلم بمراده.

* * *

وفي ختام القصة يخرج النص من اطار القصة المحدود ، إلى اطار التدبير الإلهي العام ، والتقدير المحكم الشامل ، والسنة الإلهية العامة ؛ ويكشف عن الحكمة المستخلصة من القصة كلها ، وما يكمن فيها وخلفها من تقدير وتدبير :

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ. إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ..

لقد سلك القوم هذا المسلك ، الذي انتهى إلى تلك النهاية ، لأن إبليس صدق عليهم ظنه في قدرته على غوايتهم ، فأغواهم ، (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .. كما يقع عادة في الجماعات فلا تخلو من قلة مؤمنة تستعصي على الغواية ؛ وتثبت أن هنالك حقا ثابتا يعرفه من يطلبه ؛ ويمكن لكل من أراد أن يجده وأن يستمسك به ، حتى في أحلك الظروف. وما كان لإبليس من سلطان قاهر عليهم لا يملكون رفعه. فليس هنالك قهر لهم منه ولا سيطرة عليهم له. إنما هو تسليطه عليهم ليثبت على الحق من يثبت ، وليزيغ منهم من لا يبتغي الحق ويتحراه. وليظهر في عالم الواقع (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) فيعصمه إيمانه من الانحراف ، (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) .. فهو يتأرجح أو يستجيب للغواية. بلا عاصم من رقابة لله ولا تطلع لليوم الآخر.

والله يعلم ما يقع قبل ظهوره للناس. ولكنه سبحانه يرتب الجزاء على ظهوره ووقوعه فعلا في دنيا الناس.

وفي هذا المجال الواسع المفتوح. مجال تقدير الله وتدبيره للأمور والأحداث. ومجال غواية إبليس للناس ، بلا سلطان قاهر عليهم ، إلا تسليطه ليظهر المكنون في علم الله من المصائر والنتائج .. في هذا المجال الواسع تتصل قصة سبأ بقصة كل قوم ، في كل مكان وفي كل زمان. ويتسع مجال النص القرآني ومجال هذا التعقيب ، فلا يعود قاصرا على قصة سبأ ، إنما يصلح تقريرا لحال البشر أجمعين. فهي قصة الغواية والهداية وملابساتهما وأسبابهما وغاياتهما ونتائجهما في كل حال.

(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ..

فلا يند شيء ولا يغيب ، ولا يهمل شيء ولا يضيع ..

* * *

وهكذا تنتهي الجولة الثانية في السورة بالحديث عن الآخرة كما انتهت الجولة الأولى. وبالتركيز على علم الله وحفظه. وهما الموضوعات اللذان يشتد عليهما التركيز في السورة والتوكيد.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

إنها جولة قصيرة حول قضية الشرك والتوحيد. ولكنها جولة تطوّف بالقلب البشري في مجال الوجود كله. ظاهره وخافيه. حاضره وغيبه. سمائه وأرضه. دنياه وآخرته. وتقف به مواقف مرهوبة ترجف فيها الأوصال ؛ ويغشاها الذهول من الجلال. كما تقف به أمام رزقه وكسبه ، وحسابه وجزائه. وفي زحمة التجمع والاختلاط ، وفي موقف الفصل والعزل والتميز والانفراد .. كل أولئك في إيقاعات قوية ، وفواصل متلاحقة ، وضربات كأنها المطارق : «قل .. قل .. قل ..» كل قولة منها تدمغ بالحجة ، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان.

* * *

(قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ..

إنه التحدي في مجال السماوات والأرض على الإطلاق :

(قُلِ : ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ..

ادعوهم. فليأتوا. وليظهروا. وليقولوا أو لتقولوا أنتم ماذا يملكون من شيء في السماوات أو في الأرض جل أو هان؟

(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ..

ولا سبيل لأن يدعوا ملكية شيء في السماوات أو في الأرض. فالمالك لشيء يتصرف فيه وفق مشيئته. فماذا يملك أولئك المزعومون من دون الله؟ وفي أي شيء يتصرفون تصرف المالك في هذا الكون العريض؟

لا يملكون في السماوات والأرض مثقال ذرة ملكية خالصة ، ولا على سبيل المشاركة :

(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) ..

والله ـ سبحانه ـ لا يستعين بهم في شيء. فما هو في حاجة إلى معين :

(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ..

ويظهر أن الآية هنا تشير إلى نوع خاص من الشركاء المزعومين. وهم الملائكة الذين كانت العرب تدعوهم بنات الله ؛ وتزعم لهم شفاعة عند الله. ولعلهم ممن قالوا عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) .. ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية. وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال :

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ..

فالشفاعة مرهونة بإذن الله. والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته. فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم ، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء!

ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة ؛ وهو مشهد مذهل مرهوب :

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ..

إنه مشهد في اليوم العصيب. يوم يقف الناس ، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام. ويطول الانتظار. ويطول التوقع. وتعنو الوجوه. وتسكن الأصوات. وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام.

ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة ، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم. ويتوقف إدراكهم عن الإدراك.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) .. وكشف الفزع الذي أصابهم ، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم. (قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟) يقولها بعضهم لبعض. لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى. (قالُوا : الْحَقَّ) .. ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة : (قالُوا الْحَقَّ). قال ربكم : الحق. الحق الكلي. الحق الأزلي. الحق اللدني. فكل قوله الحق. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) .. وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب ..

وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة ، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة!

فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب. وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم. فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله ، شفعاء في من يشرك بالله؟!

* * *

ذلك هو الإيقاع الأول ، في ذلك المشهد الخاشع الواجف المرهوب العسير. ويليه الإيقاع الثاني عن الرزق الذي يستمتعون به ، ويغفلون عن مصدره ، الدال على وحدة الخالق الرازق. الباسط القابض ، الذي ليس له شريك :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. قُلِ : اللهُ. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

والرزق مسألة واقعة في حياتهم. رزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور .. ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون

ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشف آنا بعد آن .. ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز .. وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشف غيره على مدار الزمان ..

(قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) ..

(قُلِ : اللهُ) ..

فما يملكون أن يماروا في هذا ولا أن يدعوا سواه.

قل : الله. ثم كل أمرهم وأمرك إلى الله. فأحدكما لا بد مهتد وأحدكما لا بد ضال. ولا يمكن أن تكون أنت وهم على طريق واحد من هدى أو من ضلال :

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للمشركين : إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى ، والآخر لا بد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم ، والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هاد ومعلم ، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم ، لمجرد الإذلال والإفحام!

الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام ، المستكبرين على الإذعان والاستسلام ، وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق. وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة ..

* * *

ومنه كذلك الإيقاع الثالث ، الذي يقف كل قلب أمام عمله وتبعته ، في أدب كذلك وقصد وإنصاف :

(قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

ولعل هذا كان ردا على اتهام المشركين بأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن معه هم المخطئون الجارمون! وقد كانوا يسمونهم : «الصابئين» أي المرتدين عن دين الآباء والأجداد. وذلك كما يقع من أهل الباطل أن يتهموا أهل الحق بالضلال! في تبجح وفي غير ما استحياء!

(قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..

فلكل عمله. ولكل تبعته ولكل جزاؤه .. وعلى كل أن يتدبر موقفه ، ويرى إن كان يقوده إلى فلاح أو إلى بوار.

وبهذه اللمسة يوقظهم إلى التأمل والتدبر والتفكر. وهذه هي الخطوة الأولى في رؤية وجه الحق. ثم في الاقتناع.

* * *

ثم الإيقاع الرابع :

(قُلْ : يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) ..

ففي أول الأمر يجمع الله بين أهل الحق وأهل الباطل ، ليلتقي الحق بالباطل وجها لوجه ، وليدعو أهل الحق إلى حقهم ، ويعالج الدعاة دعوتهم. وفي أول الأمر تختلط الأمور وتتشابك ، ويصطرع الحق والباطل ؛

وقد تقوم الشبهات أمام البراهين ؛ وقد يغشى الباطل على الحق .. ولكن ذلك كله إلى حين .. ثم يفصل الله بين الفريقين بالحق ، ويحكم بينهم حكمه الفاصل المميز الحاسم الأخير .. (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) .. الذي يفصل ويحكم عن علم وعن معرفة بين المحقين والمبطلين ..

وهذا هو الاطمئنان إلى حكم الله وفصله. فالله لا بد حاكم وفاصل ومبين عن وجه الحق. وهو لا يترك الأمور مختلطة إلا إلى حين. ولا يجمع بين المحقين والمبطلين إلا ريثما يقوم الحق بدعوته ، ويبذل طاقته ، ويجرب تجربته ؛ ثم يمضي الله أمره ويفصل بفصله.

والله سبحانه هو الذي يعلم ويقدر متى يقول كلمة الفصل. فليس لأحد أن يحدد موعدها ، ولا أن يستعجلها. فالله هو الذي يجمع وهو الذي يفتح. (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) ..

* * *

ثم يأتي الإيقاع الأخير ، شبيها بالإيقاع الأول في التحدي عن الشركاء المزعومين :

(قُلْ : أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ. كَلَّا. بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

وفي السؤال استنكار واستخفاف : (أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) .. أروني إياهم. من هم؟ وما هم؟ وما قيمتهم؟ وما صفتهم؟ وما مكانهم؟ وبأي شيء استحقوا منكم هذه الدعوى؟ .. وكلها تشي بالاستنكار والاستخفاف.

ثم الإنكار في ردع وتأنيب : (كَلَّا) .. فما هم بشركاء. وما له سبحانه من شركاء.

(بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

ومن هذه صفاته لا يكون هؤلاء شركاء له. ولا يكون له على الإطلاق شريك ..

* * *

بهذا ينتهي ذلك الشوط القصير ، وتلك الإيقاعات العنيفة العميقة. في هيكل الكون الهائل. وفي موقف الشفاعة المرهوب. وفي مصطرع الحق والباطل. وفي أعماق النفوس وأغوار القلوب.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا

النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٤٢)

هذه الجولة تتناول موقف الذين كفروا مما جاءهم به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وموقف المترفين من كل رسالة ، وهم الذين تغرهم أموالهم وأولادهم ، وما يجدون من أعراض هذه الدنيا في أيديهم ، فيحسبونها دليلا على اختيارهم وتفضيلهم ؛ ويحسبون أنها ما نعتهم من العذاب في الدنيا والآخرة. ومن ثم يعرض عليهم مشاهدهم في الآخرة ، كأنها واقعة ، ليروا إن كان شيء من ذلك نافعا لهم أو واقيا. وفي هذه المشاهد يتضح كذلك أنه لا الملائكة ولا الجن الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويستعينونهم يملكون لهم في الآخرة شيئا .. وفي خلال الجدل يوضح القرآن حقيقة القيم التي لها ثقل في ميزان الله ؛ فتنكشف القيم الزائفة التي يعتزون بها في الحياة ؛ ويتقرر أن بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله ، وليسا دليلا على رضى أو غضب ولا على قربى أو بعد. إنما ذلك ابتلاء ..

* * *

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ : لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) ..

يجيء هذا البيان بعد الجولة الماضية ، وما فيها من تقرير فردية التبعة ؛ وأنه ليس بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل إلا الدعوة والبيان ، وأمرهم بعد ذلك إلى الله.

ويتبعه هنا بيان وظيفة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجهلهم بحقيقتها ؛ واستعجالهم له بما يعدهم ويوعدهم

من الجزاء ؛ وتقرير أن ذلك موكول إلى موعده المقدور له في غيب الله :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ..

هذه هي حدود الرسالة العامة للناس جميعا .. التبشير والإنذار. وعند هذا الحد تنتهي ؛ أما تحقيق هذا التبشير وهذا الإنذار فهو من أمر الله :

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) ..

وهذا السؤال يوحي بجهلهم لوظيفة الرسول ؛ وعدم إدراكهم لحدود الرسالة. والقرآن حريص على تجريد عقيدة التوحيد. فما محمد إلا رسول محدد الوظيفة. وهو قائم في حدود وظيفته لا يتخطاها. والله هو صاحب الأمر. هو الذي أرسله ، وهو الذي حدد له عمله ؛ وليس من عمله أن يتولى ـ ولا حتى أن يعلم ـ تحقيق الوعد والوعيد .. ذلك موكول إلى ربه ، وهو يعرف حدوده. فلا يسأل مجرد سؤال عن شيء لم يطلعه عليه ربه ، ولم يكل إليه أمره. وربه يكلفه أن يرد عليهم ردا معينا فيقوم به :

(قُلْ : لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) ..

وكل ميعاد يجيء في أجله الذي قدره الله له. لا يستأخر لرغبة أحد ، ولا يستقدم لرجاء أحد. وليس شيء من هذا عبثا ولا مصادفة. فكل شيء مخلوق بقدر. وكل أمر متصل بالآخر. وقدر الله يرتب الأحداث والمواعيد والآجال وفق حكمته المستورة التي لا يدركها أحد من عباده إلا بقدر ما يكشف الله له.

والاستعجال بالوعد والوعيد دليل على عدم إدراك هذه الحقيقة الكلية. ومن ثم فإن أكثر الناس لا يعلمون. وعدم العلم يقودهم إلى السؤال والاستعجال.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ..

فهو العناد والإصرار ابتداء على رفض الهدى في كل مصادره. لا القرآن ، ولا الكتب التي سبقته ، والتي تدل على صدقه. فلا هذا ولا ذاك هم مستعدون للإيمان به لا اليوم ولا الغد. ومعنى هذا أنهم يصرون على الكفر ، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في دلائل الهدى كائنة ما كانت. فهو العمد إذن وسبق الإصرار! عندئذ يجبههم بمشهدهم يوم القيامة ، وفيه جزاء هذا الإصرار :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ! قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى ، بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ! وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً .. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ؛ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) ..

ذلك كان قولهم في الدنيا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) .. فلو ترى قولهم في موقف آخر. لو ترى هؤلاء الظالمين وهم (مَوْقُوفُونَ) على غير إرادة منهم ولا اختيار ؛ إنما هم مذنبون بالوقوف في انتظار الجزاء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) .. ربهم الذي يجزمون بأنهم لن يؤمنوا بقوله وكتبه. ثم ها هم أولاء موقوفون عنده! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضا ، ويؤنب بعضهم بعضا ، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض : (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) .. فما ذا يرجعون من القول؟

(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ..

فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة ، وما يتوقعون بعدها من البلاء! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم ؛ ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة. كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام ، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم ، والكرامة التي منحها إياهم ، والإدراك الذي أنعم به عليهم. أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة ، وواجهوا العذاب الأليم ، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين! (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)!

ويضيق الذين استكبروا بالذين استضعفوا. فهم في البلاء سواء. وهؤلاء الضعفاء يريدون أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء! وعندئذ يردون عليهم باستنكار ، ويجبهونهم بالسب الغليظ :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)! فهو التخلي عن التبعة ، والإقرار بالهدى ، وقد كانوا في الدنيا لا يقيمون وزنا للمستضعفين ولا يأخذون منهم رأيا ، ولا يعتبرون لهم وجودا ، ولا يقبلون منهم مخالفة ولا مناقشة! أما اليوم ـ وأما العذاب ـ فهم يسألونهم في إنكار : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟) .. (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) .. من ذات أنفسكم ، لا تهتدون ، لأنكم مجرمون!

ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة. ولكنهم في الآخرة حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة ؛ وتتفتح العيون المغلقة وتظهر الحقائق المستورة. ومن ثم لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون ، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهارا ولا ليلا للصد عن الهدى ؛ وللتمكين للباطل ، ولتلبيس الحق ، وللأمر بالمنكر ، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء :

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) ..

ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء ، ولا ينجي المستكبرين ولا المستضعفين. فلكل جريمته وإثمه. المستكبرون عليهم وزرهم ، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم. والمستضعفون عليهم وزرهم ، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة ، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين. لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية ، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية ؛ ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولا ؛ وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين. فاستحقوا العذاب جميعا ؛ وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضرا لهم مهيأ :

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ..

وهي حالة الكمد الذي يدفن الكلمات في الصدور ، فلا تفوه بها الألسنة ، ولا تتحرك بها الشفاه.

ثم أخذهم العذاب المهين الغليظ الشديد :

(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ..

ثم يلتفت السياق يحدث عنهم وهم مسحوبون في الأغلال ، مهملا خطابهم إلى خطاب المتفرجين!

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) ..

ويسدل الستار على المستكبرين والمستضعفين من الظالمين. وكلاهما ظالم. هذا ظالم بتجبره وطغيانه وبغيه وتضليله. وهذا ظالم بتنازله عن كرامة الإنسان ، وإدراك الإنسان ، وحرية الإنسان ، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان .. وكلهم في العذاب سواء. لا يجزون إلا ما كانوا يعملون ..

يسدل الستار وقد شهد الظالمون أنفسهم في ذلك المشهد الحي الشاخص. شهدوا أنفسهم هناك وهم بعد أحياء في الأرض. وشهدهم غيرهم كأنما يرونهم. وفي الوقت متسع لتلا في ذلك الموقف لمن يشاء!

* * *

ذلك الذي قاله المترفون من كبراء قريش قاله قبلهم كل مترف أمام كل رسالة :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ..

فهي قصة معادة ، وموقف مكرور ، على مدار الدهور. وهو الترف يغلظ القلوب ، ويفقدها الحساسية ؛ ويفسد الفطرة ويغشيها فلا ترى دلائل الهداية ؛ فتستكبر على الهدى وتصر على الباطل ، ولا تتفتح للنور.

والمترفون تخدعهم القيم الزائفة والنعيم الزائل ، ويغرهم ما هم فيه من ثراء وقوة ، فيحسبونه مانعهم من عذاب الله ، ويخالون أنه آية الرضى عنهم ، أو أنهم في مكان أعلى من الحساب والجزاء :

(وَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ..

والقرآن يضع لهم ميزان القيم كما هي عند الله ؛ ويبين لهم أن بسط الرزق وقبضه ، ليست له علاقة بالقيم الثابتة الأصيلة ؛ ولا يدل على رضى ولا غضب من الله ؛ ولا يمنع بذاته عذابا ولا يدفع إلى عذاب. إنما هو أمر منفصل عن الحساب والجزاء ، وعن الرضى والغضب ، يتبع قانونا آخر من سنن الله :

(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

وهذه المسألة. مسألة بسط الرزق وقبضه ؛ وتملك وسائل المتاع والزينة أو الحرمان منها ، مسألة يحيك منها شيء في صدور كثيرة. ذلك حين تتفتح الدنيا أحيانا على أهل الشر والباطل والفساد ، ويحرم من أعراضها أحيانا أهل الخير والحق والصلاح ؛ فيحسب بعض الناس أن الله ما كان ليغدق على أحد إلا وهو عنده ذو مقام. أو يشك بعض الناس في قيمة الخير والحق والصلاح ، وهم يرونها محوطة بالحرمان!

ويفصل القرآن هنا بين أعراض الحياة الدنيا والقيم التي ينظر الله إليها. ويقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وأن هذه مسألة ورضاه وغضبه مسألة أخرى ولا علاقة بينهما. وقد يغدق الله الرزق على من هو عليه غاضب كما يغدقه على من هو عليه راض. وقد يضيق الله على أهل الشر كما يضيق على أهل الخير. ولكن العلل والغايات لا تكون واحدة في جميع هذه الحالات.

لقد يغدق الله على أهل الشر استدراجا لهم ليزدادوا سوءا وبطرا وإفسادا ، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة ، ثم يأخذهم في الدنيا أو في الآخرة ـ وفق حكمته وتقديره ـ بهذا الرصيد الأثيم! وقد يحرمهم فيزدادوا شرا وفسوقا وجريمة ، وجزعا وضيقا ويأسا من رحمة الله ، وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الشر والضلال.

ولقد يغدق الله على أهل الخير ، ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة ما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق ، وليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل ؛ ويذخروا بهذا كله رصيدا من الحسنات يستحقونه عند الله بصلاحهم وبما يعلمه من الخير في قلوبهم. وقد يحرمهم فيبلو صبرهم على الحرمان ، وثقتهم بربهم ، ورجاءهم فيه ، واطمئنانهم إلى قدره ، ورضاهم بربهم وحده ، وهو خير وأبقى ؛ وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان.

وأيا ما كانت أسباب بسط الرزق وقبضه من عمل الناس ، ومن حكمة الله ، فهي مسألة منفصلة عن أن تكون دليلا بذاتها على أن المال والرزق والأبناء والمتاع قيم تقدم أو تؤخر عند الله. ولكنها تتوقف على تصرف

المبسوط لهم في الرزق أو المضيق عليهم فيه. فمن وهبه الله مالا وولدا فأحسن فيهما التصرف فقد يضاعف له الله في الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله. وليست الأموال والأولاد بذاتها هي التي تقربهم من الله ؛ ولكن تصرفهم في الأموال والأولاد هو الذي يضاعف لهم في الجزاء :

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ..

ثم يكرر قاعدة أن بسط الرزق وقبضه أمر آخر يريده الله لحكمة منفصلة ؛ وأن ما ينفق منه في سبيل الله هو الذخر الباقي الذي يفيد ، لتقر هذه الحقيقة واضحة في القلوب :

(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ..

* * *

ويختم هذه الجولة بمشهدهم محشورين يوم القيامة ، حيث يواجههم الله سبحانه بالملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ؛ ثم يذوقون عذاب النار الذي كانوا يستعجلون به ، ويقولون متى هذا الوعد؟ كما جاء في أول هذا الشوط :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ قالُوا : سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ. فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ..

فهؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، أو يتخذونهم عنده شفعاء. هؤلاء هم يواجهون بهم ، فيسبحون الله تنزيها له من هذا الادعاء ، ويتبرأون من عبادة القوم لهم. فكأنما هذه العبادة كانت باطلا أصلا ، وكأنما لم تقع ولم تكن لها حقيقة. إنما هم يتولون الشيطان. إما بعبادته والتوجه إليه ، وإما بطاعته في اتخاذ شركاء من دون الله. وهم حين عبدوا الملائكة إنما كانوا يعبدون الشيطان! ذلك إلى أن عبادة الجن عرفت بين العرب ؛ وكان منهم فريق يتوجه إلى الجن بالعبادة أو الاستعانة : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) .. ومن هنا تجيء علاقة قصة سليمان والجن بالقضايا والموضوعات التي تعالجها السورة ، على طريقة سياقة القصص في القرآن الكريم.

وبينما المشهد معروض يتغير السياق من الحكاية والوصف إلى الخطاب والمواجهة. ويوجه القول إليهم بالتأنيب والتبكيت :

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ..

لا الملائكة يملكون للناس شيئا. ولا هؤلاء الذين كفروا يملك بعضهم لبعض شيئا. والنار التي كذب بها الظالمون ، وكانوا يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، ها هم أولاء يرونها واقعا لا شك فيه :

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)

وبهذا تختم الجولة مركزة على قضية البعث والحساب والجزاء كسائر الجولات في هذه السورة.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤)

هذا الشوط الأخير في السورة يبدأ بالحديث عن المشركين ، ومقولاتهم عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن القرآن الذي جاء به ؛ ويذكرهم بما وقع لأمثالهم ، ويريهم مصرع الغابرين الذين أخذهم النكير في الدنيا ، وهم كانوا أقوى منهم وأعلم وأغنى ..

ويعقب هذا عدة إيقاعات عنيفة كأنما هي مطارق متوالية. يدعوهم في أول إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجردين ثم يتفكروا غير متأثرين بالحواجز التي تمنعهم من الهدى ومن النظر الصحيح. وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث التي تجعل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يلاحقهم بالدعوة ، وليس له من وراء ذلك نفع ، ولا هو يطلب على ذلك أجرا ، فما لهم يتشككون في دعوته ويعرضون؟ ثم تتوالى الإيقاعات : قل. قل. قل. وكل منها يهز القلب هزا ولا يتماسك له قلب به بقية من حياة وشعور!

ويختم الشوط وتختم معه السورة بمشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة ، يناسب إيقاعه تلك الإيقاعات السريعة العنيفة.

* * *

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ. وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ـ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ ـ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..

لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ برواسب غامضة من آثار الماضي ، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح ، وليس لها قوام متماسك. ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك. أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك :

(ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) ..

ولكن هذا وحده لا يكفي. فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعنا مقنعا لجميع العقول والنفوس. ومن ثم أتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله :

(وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) ..

والإفك هو الكذب والافتراء ؛ ولكنهم يزيدونه توكيدا : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) ..

ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء ، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي.

ثم مضوا يصفون القرآن ذاته :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ..

فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب ، فلا يكفي أن يقولوا : إنه مفترى. فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب. فقالوا : إنه سحر مبين!

فهي سلسلة من الاتهامات ، حلقة بعد حلقة ، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب. ولا دليل لهم على دعواهم. ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير. أما الذين كانوا يقولون هذا القول ـ وهم الكبراء والسادة ـ فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم ، فوق مقدور البشر ، وفوق طاقة المتكلمين! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضا في أمر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأمر القرآن ؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس (١)! وقد كشف القرآن أمرهم ، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتابا يقيسون به الكتب ؛ ويعرفون به الوحي ؛ فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتابا وليس وحيا ، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون :

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)!

__________________

(١) كحديث الوليد بن المغيرة وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق.

ويلمس قلوبهم بتذكيرهم بمصارع الذين كذبوا من قبل. وهم لم يؤتوا معشار ما أوتي أولئك الغابرون. من علم ، ومن مال ، ومن قوة ، ومن تعمير. فلما كذبوا الرسل أخذهم النكير. أي الهجوم المدوي المنكر الشديد :

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ـ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ ـ فَكَذَّبُوا رُسُلِي. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..

ولقد كان النكير عليهم مدمرا مهلكا. وكانت قريش تعرف مصارع بعضهم في الجزيرة. فهذا التذكير يكفي. وهذا السؤال التهكمي (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) سؤال موح يلمس قلوب المخاطبين. وهم يعرفون كيف كان ذلك النكير!

* * *

وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق ، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل :

(قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ .. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ..

إنها دعوة إلى القيام لله. بعيدا عن الهوى. بعيدا عن المصلحة. بعيدا عن ملابسات الأرض. بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله. بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة. والمؤثرات الشائعة في الجماعة.

دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط ، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ؛ ولا مع العبارات المطاطة ، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها.

دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي ، بعيدا عن الضجيج والخلط واللبس ؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.

وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه.

وهي (بِواحِدَةٍ) .. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله .. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة .. التجرد .. الخلوص .. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.

(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ. مَثْنى وَفُرادى) .. مثنى ليراجع أحدهما الآخر ، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء .. وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق.

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) .. فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئا يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين.

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ..

لمسة تصور العذاب الشديد وشيكا أن يقع ، وقد سبقه النذير بخطوة لينقذ من يستمع. كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق. وهو تصوير ـ فوق أنه صادق ـ بارع موح مثير ..

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريرة عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال : خرج علينا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوما ، فنادى ثلاث مرات : «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم. فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم ، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه. أيها الناس آتيتم. أيها الناس آتيتم. أيها الناس آتيتم» ..

وروي بهذا الإسناد قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بعثت أنا والساعة جميعا. إن كادت لتسبقني» ..

ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي. يتبعه الإيقاع الثاني :

(قُلْ : ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ..

دعاهم في المرة الأولى إلى التفكر الهادئ البريء .. ما بصاحبكم من جنة .. ويدعوهم هنا أن يفكروا ويسألوا أنفسهم عما يدعوه إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد. ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية :

(قُلْ : ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)!

خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكم. وفيه توجيه. وفيه تنبيه.

(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ..

هو الذي كلفني. وهو الذي يأجرني. وأجره هو الذي أتطلع إليه. ومن يتطلع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هين عنده هزيل زهيد لا يستحق التفكير.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ..

يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء. وهو عليّ شهيد. فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول.

ويشتد الإيقاع الثالث وتقصر خطاه :

(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ..

وهذا الذي جئتكم به هو الحق. الحق القوي الذي يقذف به الله. فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟ إنه تعبير مصور مجسم متحرك. وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق .. يقذف بها الله (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فهو يقذف بها عن علم ، ويوجهها على علم ، ولا يخفى عليه هدف ، ولا تغيب عنه غاية ، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوق. فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور!

ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته :

(قُلْ : جاءَ الْحَقُّ ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) ..

جاء هذا الحق في صورة من صوره ، في الرسالة ، وفي قرآنها ، وفي منهجها المستقيم. قل : جاء الحق. أعلن هذا الإعلان. وقرر هذا الحدث. واصدع بهذا النبأ. جاء الحق. جاء بقوته. جاء بدفعته. جاء باستعلائه وسيطرته (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) .. فقد انتهى أمره. وما عادت له حياة ، وما عاد له مجال ، وقد تقرر مصيره وعرف أنه إلى زوال.

إنه الإيقاع المزلزل ، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى ، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال.

وإنه لكذلك. فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح. ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم. ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف ، إلا أنها ليست غلبة على الحق. إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ. وهذه موقوتة ثم تزول. أما الحق فواضح بين صريح.

والإيقاع الأخير :

(قُلْ : إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي. وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) ..

فلا عليكم إذن إن ضللت. فإنما أضل على نفسي. وإن كنت مهتديا فإن الله هو الذي هداني بوحيه ، لا أملك لنفسي منه شيئا إلا بإذنه. وأنا تحت مشيئته أسير فضله.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) ..

وهكذا كانوا يجدون الله. هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم. كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية. كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم. وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة ؛ وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة. وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه. ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم. في كنفه. في جواره. في عطفه. في رعايته. ويجدون هذا كله في نفوسهم حيا ، واقعا ، بسيطا ، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) ..

* * *

وأخيرا يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد ، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف :

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ. وَقالُوا : آمَنَّا بِهِ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) ..

(وَلَوْ تَرى) .. فالمشهد معروض للأنظار. (إِذْ فَزِعُوا) .. من الهول الذي فوجئوا به. وكأنما أرادوا الإفلات (فَلا فَوْتَ) ولا إفلات (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) .. ولم يبعدوا في محاولتهم البائسة وحركتهم المذهولة.

(وَقالُوا : آمَنَّا بِهِ) .. الآن بعد فوات الأوان .. (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟) وكيف يتناولون الإيمان من مكانهم هذا. ومكان الإيمان بعيد عنهم فقد كان ذلك في الدنيا ، فضيعوه!

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) .. فانتهى الأمر ، ولم يعد لهم أن يحاولوه اليوم!

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) .. ذلك حين أنكروا هذا اليوم ، وهو غيب كان ، فلم يكن لهم على إنكاره من دليل ، إنما كانوا يقذفون بالغيب من مكان بعيد. واليوم يحاولون تناول الإيمان به من مكان كذلك بعيد!

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) .. من الإيمان في غير موعده ، والإفلات من العذاب الذي يشهدونه ، والنجاة من الخطر الذي يواجهونه. (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) .. ممن أخذهم الله ، فطلبوا النجاة بعد نفاذ الأمر ، وبعد أن لم يعد منه مفر.

(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) .. فها هو ذا اليقين بعد الشك المريب!

* * *

وهكذا تختم السورة في هذا الإيقاع السريع العنيف الشديد. وتختم بمشهد من مشاهد القيامة ؛ يثبت القضية التي عليها التركيز والتوكيد في السورة. كما مضى في نهاية كل شوط فيها وفي ثناياها. وقد بدأت السورة بهذه القضية وختمت بها هذا الختام العنيف.

* * *

(٣٥) سورة فاطر مكيّة

وآياتها خمس وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣)

هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها. أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد. فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها. إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزا ، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ، وروعة هذا الكون ؛ وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه ، المتناثرة في صفحاته ؛ وليتذكر آلاء الله ، ويشعر برحمته ورعايته ؛ وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة ؛ وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله ، وآثار يده في أطواء الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي حياة البشر ، وفي أحداث التاريخ. وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة .. ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ، ويتأثر تأثر الأحياء.

والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات. يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات. فهي كلها موضوع واحد. كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث. فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ، إلى الإيمان والخشوع والإذعان.

والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة. وإظهار هذه اليد

تحرك الخيوط كلها وتجمعها ؛ وتقبضها وتبسطها ، وتشدها وترخيها. بلا معقب ولا شريك ولا ظهير.

ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ، وتطرد إلى ختامها ..

هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض. بلا معقب ولا شريك :

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) ..

وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرة : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. كَذلِكَ النُّشُورُ) ..

والعزة كلها الله ومنه وحده تستمد : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ..

والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنها : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..

وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) ..

ويد الله المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ، وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ).

وهذه اليد تنقل خطى البشر ، وتورث الجيل الجيل : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) .. (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ..

وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال. (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) ..

وهي القابضة على أزمة الأمور لا يعجزها شيء على الإطلاق : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ..

وهو (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .. وهو (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وهو (عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) .. «و (لَهُ الْمُلْكُ) .. وهو (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) .. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) .. وهو (عَزِيزٌ غَفُورٌ) .. وهو (غَفُورٌ شَكُورٌ) .. وإنه بعباده (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) .. وهو (عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. وهو (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) .. وكان (حَلِيماً غَفُوراً) .. وكان (عَلِيماً قَدِيراً) .. وكان (بِعِبادِهِ بَصِيراً) ..

ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ، والسمة الغالبة عليها ، والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم.

ونظرا لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها. وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها ..

* * *

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

تبدأ السورة بتقديم الحمد لله. فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى الله ، وإيقاظه لرؤية آلائه ، واستشعار رحمته وفضله ، وتملي بدائع صنعه في خلقه ، وامتلاء الحس بهذه البدائع ، وفيضه بالتسبيح والحمد والابتهال :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) ..

ويتلو حمد الله ذكر صفته الدالة على الخلق والإبداع :

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ..

فهو منشئ هذه الخلائق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا ، والتي لا نعرف إلا القليل عن أصغرها وأقربها إلينا .. أمنا الأرض .. والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق ، على ما بينها من أبعاد هائلة لا يتصورها خيالنا البشري إلا بمشقة عظيمة ؛ والتي تحوي ـ مع ضخامتها وتباعد أفلاكها ومداراتها ـ من أسرار التناسب فيما بينهما ما لو اختلف فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بددا.

وإننا لنمر على مثل هذه الإشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض ، دون أن نقف أمامها طويلا لنتدبر مدلولها الهائل ؛ كما نمر على مشاهد السماوات والأرض ذاتها بمثل هذه البلادة ، لا نقف أمامها إلا قليلا. ذلك أن حسنا قد تبلد ، فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك الإيقاعات الموقظة الموحية ، التي توقعها على القلوب الموصولة بذكر الله ، المتيقظة لآثار يده المبدعة في هذا الوجود. وذلك أن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى.

ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء ، وأحجامها ونسبها ، ونسب الفضاء حولها ، وطرق سيرها في مداراتها ، وعلاقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها ... لا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب. فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره. حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء. حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء. حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق. حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء .. بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي .. بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها ..

والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبّر هذه الخلائق .. الجليل منها والدقيق ... وحسب القلب واحدة منها لإدراك عظمة فاطرها ، والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والابتهال ..

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ).

والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل الله من الحق .. والملائكة هم رسل الله بالوحي إلى من يختاره من عباده في الأرض. وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله. ومن ثم يذكر الله الملائكة بصفتهم رسلا عقب ذكره لخلق السماوات والأرض. وهم صلة ما بين السماء والأرض. وهم يقومون بين فاطر السماوات والأرض ، وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها.

ولأول مرة ـ فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلال ـ نجد وصفا للملائكة يختص بهيئتهم. وقد ورد وصفهم من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١) .. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢) .. أما هنا فنجد شيئا يختص بتكوينهم الخلقي : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) .. وهو وصف لا يمثلهم للتصور. لأننا لا نعرف كيف هم ولا كيف أجنحتهم هذه. ولا نملك إلا الوقوف عند هذا الوصف ، دون تصور معين له. فكل تصور قد يخطئ. ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد. والذي ورد في القرآن هو هذا ؛ وهو قوله تعالى في وصف جهنم : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ ، لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣) .. وهو كذلك لا يحدد شكلا ولا هيئة. والذي ورد في الأثر : «أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى جبريل في صورته مرتين» وفي رواية : «له ستمائة جناح (٤)» .. وهو كذلك لا يعين شكلا ولا هيئة. فالأمر إذن مطلق. والعلم لله وحده في هذه الغيبيات.

وبمناسبة ذكر الأجنحة مثنى وثلاث ورباع. حيث لا يعرف الإنسان إلا شكل الجناحين للطائر. يذكر أن الله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) .. فيقرر طلاقة المشيئة ، وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق .. وفيما نشهده نحن ونعلمه أشكال لا تحصى من الخلق. ووراء ما نعلم أكثر وأكثر .. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .. وهذا التعقيب أوسع من سابقه وأشمل. فلا تبقى وراءه صورة لا يتناولها مدلوله ، من صور الخلق والإنشاء والتغيير والتبديل.

* * *

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى. وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعا.

إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله. وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب الله. وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض وتشرع له طريقه إلى الله.

ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد ؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه ، وتكريمه بما كرمه ؛ وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته ؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.

__________________

(١) سورة الأنبياء. آية : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) سورة الأعراف. آية : ٢٠٦.

(٣) سورة التحريم. آية : ٦.

(٤) متفق عليه من رواية ابن مسعود.

ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوع. ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان .. يجدها في نفسه ، وفي مشاعره ؛ ويجدها في نفسه ، وفي مشاعره ؛ ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان ، وكيفما كان. ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان .. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حالة ، وفي كل مكان. ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان! وما من نعمة ـ يمسك الله معها رحمته ـ حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة ـ تحفها رحمة الله ـ حتى تكون هي بذاتها نعمة .. ينام الإنسان على الشوك ـ مع رحمة الله ـ فإذا هو مهاد. وينام على الحرير ـ وقد أمسكت عنه ـ فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور ـ برحمة الله ـ فإذا هي هوادة ويسر. ويعالج أيسر الأمور ـ وقد تخلت رحمة الله ـ فإذا هي مشقة وعسر. ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!

ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة. ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!

هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب ، وتوصد جميع النوافذ ، وتسد جميع المسالك .. فلا عليك. فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء .. وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!

هذا الفيض يفتح ، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن. ويضيق العيش ، وتخشن الحياة ، ويشوك المضجع .. فلا عليك. فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء. فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!

المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان .. تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.

يبسط الله الرزق ـ مع رحمته ـ فإذا هو متاع طيب ورخاء ؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.

ويمنح الله الذرية ـ مع رحمته ـ فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار!

ويهب الله الصحة والقوة ـ مع رحمته ـ فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، والتذاذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويدخر السوء ليوم الحساب!

ويعطي الله السلطان والجاه ـ مع رحمته ـ فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ، ومصدر طغيان وبغي بهما ، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ، ويدخر

بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار!

والعلم الغزير. والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال .. مع الإمساك ومع الإرسال .. وقليل من المعرفة يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة.

والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد. في كل أمر وفي كل وضع ، وفي كل حال .. ولا يصعب القياس على هذه الأمثال!

ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك. ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة. والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها. وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبدا. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في النار. ووجدها يوسف ـ عليه‌السلام ـ في الجب كما وجدها في السجن. ووجدها يونس ـ عليه‌السلام ـ في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ووجدها موسى ـ عليه‌السلام ـ في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض : (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ). ووجدها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار .. ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها. منقطعا عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في رحمة ، قاصدا باب الله وحده دون الأبواب.

ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها. ومتى أمسكها فلا مرسل لها. ومن ثم فلا مخافة من أحد. ولا رجاء في أحد. ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء. ولا خوف من فوت وسيلة ، ولا رجاء مع الوسيلة. إنما هي مشيئة الله. ما يفتح الله فلا ممسك. وما يمسك الله فلا مرسل. والأمر مباشرة إلى الله .. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) ..

وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه ، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام.

(وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ).

فلا رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه. فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله.

أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟! آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة ؛ وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة ؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها. ذهبت أم جاءت. كبرت أم صغرت. جلت أم هانت. كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء!

صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات. ولو تضافر عليها الإنس والجن. وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ، ولا يمسكونها حين

يفتحها .. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام. الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ، تنشئ في الأرض ما شاء الله أن ينشئ من عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، ونظم وأوضاع. وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام. الفئة التي كانت قدرا من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات. ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن ، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها .. وكفى .. ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن ، وتعيش في واقعها بها ، ولها ..

وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ، قادرا على أن ينشئ بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الأرض ـ بإذن الله ـ ما يشاء الله .. ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ، فتأخذها جدا ، وتتمثلها حقا. حقا تحسه ، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار ..

* * *

ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية ..

لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي ، وشقاء نفسي ، وضيق بضائقة ، وعسر من مشقة .. واجهتني في ذات اللحظة. ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها. وأن تسكب حقيقتها في روحي ؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها. تقدم نفسها لي تفسيرا واقعيا لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيرا. ومررت بها من قبل كثيرا. ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها ، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول : هأنذا .. نموذجا من رحمة الله حين يفتحها. فانظر كيف تكون!

إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها ، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق. وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته. آية من القرآن تفتح كوة من النور. وتفجر ينبوعا من الرحمة. وتشق طريقا ممهودا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان. اللهم حمدا لك. اللهم منزل هذا القرآن. هدى ورحمة للمؤمنين ...

* * *

ونعود بعد تسجيل هذه الومضة إلى سياق السورة .. فنجده يؤكد في الآية الثالثة إيحاء الآيتين الأولى والثانية ؛ فيذكر الناس بنعمة الله عليهم ؛ وهو وحده الخالق وهو وحده الرازق. الذي لا إله إلا هو ؛ ويعجب كيف يصرفون عن هذا الحق الواضح المبين :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) ..

ونعمة الله على الناس لا تتطلب إلا مجرد الذكر ؛ فإذا هي واضحة بينة ، يرونها ويحسونها ويلمسونها ، ولكنهم ينسون فلا يذكرون.

وحولهم السماء والأرض تفيضان عليهم بالنعم ، وتفيضان عليهم بالرزق ؛ وفي كل خطوة ، وفي كل لحظة فيض ينسكب من خيرات الله ونعمه من السماء والأرض. يفيضها الخالق على خلقه. فهل من خالق غيره يرزقهم بما في أيديهم من هذا الفيض العميم؟ إنهم لا يملكون أن يقولوا هذا ، وما كانوا يدعونه وهم في أغلظ شركهم وأضله. فإذا لم يكن هناك خالق رازق غير الله ، فما لهم لا يذكرون ولا يشكرون؟ وما لهم ينصرفون عن حمد الله والتوجه إليه وحده بالحمد والابتهال؟ إنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فكيف يصرفون عن الإيمان بهذا الحق الذي لا مراء فيه .. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) .. وإنه لعجيب أن ينصرف منصرف عن مثل هذا الحق ، الذي يواجههم به ما بين أيديهم من الرزق. وإنه لعجيب أن ينصرف عن حمد الله وشكره من لا يجد مفرا من الاعتراف بذلك الحق المبين!

* * *

هذه الإيقاعات الثلاثة القوية العميقة هي المقطع الأول في السورة. وفي كل منها صورة تخلق الإنسان خلقا جديدا حين تستقر في ضميره على حقيقتها العميقة. وهي في مجموعها متكاملة متناسقة في شتى الاتجاهات ..

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨)

انتهى المقطع الأول من السورة بتلك الإيقاعات الثلاثة العميقة ، بتلك الحقائق الكبيرة الأصيلة : حقيقة وحدانية الخالق المبدع. وحقيقة الاختصاص بالرحمة. وحقيقة الانفراد بالرزق.

وفي المقطع الثاني يتجه أولا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالتسلية والتسرية عن تكذيبهم له ، ويرجع الأمر كله إلى الله. ويتجه ثانيا إلى الناس يهتف بهم : إن وعد الله حق ، ويحذرهم لعب الشيطان بهم ليخدعهم عن تلك الحقائق الكبرى ، ويذهب بهم إلى السعير ـ وهو عدوهم الأصيل ـ ويكشف لهم عن جزاء المؤمنين وجزاء المخدوعين بالعدو الأصيل! ويتجه أخيرا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألا يأسى عليهم وتذهب نفسه حسرات فإن الهدى والضلال بيد الله. والله عليم بما يصنعون.

* * *

يخاطب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ..

تلك هي الحقائق الكبرى واضحة بارزة ؛ فإن يكذبوك فلا عليك من التكذيب ، فلست بدعا من الرسل : (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) والأمر كله لله ، وإليه ترجع الأمور ، وما التبليغ والتكذيب إلا وسائل وأسباب. والعواقب متروكة لله وحده ، يدبر أمرها كيف يريد.

ويهتف بالناس :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) ..

إن وعد الله حق .. إنه آت لا ريب فيه. إنه واقع لا يتخلف. إنه حق والحق لا بد أن يقع ، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد. ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا). ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) .. والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) لا تركنوا إليه ، ولا تتخذوه ناصحا لكم ، ولا تتبعوا خطاه ، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير ، ولا ينتهي بكم إلى نجاة : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)!

فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟! إنها لمسة وجدانية صادقة. فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان ، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات. يتحفز لدفع الغواية والإغراء ؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه ، ويتوجس من كل هاجسة ، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين ، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم!

وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير. حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية ؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادرة من عدوه وكل حركة خفية! حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه ، وضد هواتفه المستسرة في النفس ، وأسبابه الظاهرة للعيان. حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبدا.

ثم يدعم هذه التعبئة وهذا الحذر وهذا التوفر ببيان عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان ، وحالة المؤمنين الذين طاردوه :

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ..

* * *

ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية ، وحقيقة عمل الشيطان ، والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله ؛ ويمتد منه طريق الضلال الذي لا يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ...؟) ..

هذا هو مفتاح الشر كله .. أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسنا. أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها. ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه ، لأنه واثق من أنه لا يخطئ! متأكد أنه دائما على صواب! معجب بكل ما يصدر منه! مفتون بكل ما يتعلق بذاته. لا يخطر على باله أن يراجع

نفسه في شيء ، ولا أن يحاسبها على أمر. وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه. لأنه حسن في عين نفسه. مزين لنفسه وحسه. لا مجال فيه للنقد ، ولا موضع فيه للنقصان!

هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان ؛ وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال. فإلى البوار!

إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب. فلا يأمن مكر الله. ولا يأمن تقلب القلب. ولا يأمن الخطأ والزلل. ولا يأمن النقص والعجز. فهو دائم التفتيش في عمله. دائم الحساب لنفسه. دائم الحذر من الشيطان. دائم التطلع لعون الله.

وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال ، وبين الفلاح والبوار.

إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) ..

إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير. ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين. هو هذا الغرور. هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق. ولا يحسن عملا لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء. ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطئ! ولا يصلح فاسدا لأنه مستيقن أنه لا يفسد! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح!

إنه باب الشر. ونافذة السوء. ومفتاح الضلال الأخير ..

ويدع السؤال بلا جواب .. (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً؟) .. ليشمل كل جواب. كأن يقال : أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟ أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء؟ .. إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال. وهو أسلوب كثير التردد في القرآن.

وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد :

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ..

وكأنما يقول : إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة ؛ مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ؛ وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال!

فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ؛ بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا. طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء. وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى .. وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال.

وما دام الأمر كذلك (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ..

إن هذا الشأن. شأن الهدى والضلال. ليس من أمر بشر. ولو كان هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنما هو من أمر الله. والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. وهو مقلب القلوب والأبصار .. والله ـ سبحانه ـ يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له. حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم ، ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال. وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم ، ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفا بينهم! وهو حرص بشري معروف. يرفق الله سبحانه برسوله من وقعه في حسه ، فيبين له أن هذا ليس من أمره ، إنما هو من أمر الله.

وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم ، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير. ورأوا الناس

في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ؛ ولا يرون ما فيها من الخير والجمال. ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال. وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله ـ سبحانه ـ رسوله. فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد. ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ..

وهو يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه بحقيقة صنعهم. والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ؛ ويعلمها بعد أن تكون. وهو يقسم لهم وفق علمه الأزلي. ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون.

* * *

وبذلك ينتهي المقطع الثاني في السورة. وهو متصل بالمقطع الأول. ومتسق كذلك مع المقطع الذي يليه ..

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤)

هذا المقطع الثالث جولات متتابعة في المجال الكوني الذي يعرض فيه القرآن دلائل الإيمان ؛ ويتخذ من مشاهده المعروضة للبصائر والأبصار أدلته وبراهينه.

وهذه الجولات المتتابعة تجيء في السورة عقب الحديث عن الهدى والضلال ، وعن تسلية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن إعراض المعرضين ، وتفويض هذا الأمر لصاحبه العليم بما يصنعون .. فمن شاء أن يؤمن

فهذه أدلة الإيمان معروضة في صفحة الكون حيث لا خفاء فيها ولا غموض. ومن شاء أن يضل فهو يضل عن بينة وقد أخذته الحجة من كل جانب.

وفي مشهد الحياة النابضة بعد الموات حجة. وفيه دليل على البعث والنشور. وفي خلق الإنسان من تراب ، ثم صيرورته إلى هذا الخلق الراقي حجة. وكل مرحلة من مراحل خلقه وحياته تمضي وفق قدر مرسوم في كتاب مبين.

وفي مشهد البحرين المتميزين وتنويعهما حجة. وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان.

وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران حجة. وفيهما على التقدير والتدبير دليل. وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق العجيب.

هذه كلها حجج ودلائل معروضة في المجال الكوني الفسيح. وهذا هو الله خالقها ومالكها. والذين يدعون من دون الله ما يملكون من قطمير. ولا يسمعون ولا يستجيبون. ويوم القيامة يتبرأون من عبادهم الضلال.

فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

* * *

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. كَذلِكَ النُّشُورُ) ..

وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن. مشهد الرياح ، تثير السحب ؛ تثيرها من البحار ، فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار ؛ والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحابا ؛ ثم يسوق الله هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة ، فتذهب يمينا وشمالا إلى حيث يريد الله لها أن تذهب ، وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات ، حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل .. إلى بلد ميت .. مقدر في علم الله أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب. والماء حياة كل شيء في هذه الأرض. (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) .. وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها. وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة. وهو يقع بين أيديهم في الدنيا .. (كَذلِكَ النُّشُورُ) .. في بساطة ويسر ، وبلا تعقيد ولا جدل بعيد!

هذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه دليل واقعي ملموس ، لا سبيل إلى المكابرة فيه. ولأنه من جانب آخر يهز القلوب حقا حين تتملاه وهي يقظى ؛ ويلمس المشاعر لمسا موحيا حين تتجه إلى تأمله. وهو مشهد بهيج جميل مثير. وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء. ثم يمر عليها غدا وهي ممرعة خضراء من آثار الماء. والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم ، مما يمرون عليه غافلين. وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون.

* * *

ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة ـ شيئا ـ إلى معنى نفسي ومطلب شعوري.

ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء. ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح الذي يرفعه الله. كما يعرض الصفحة المقابلة. صفحة التدبير السيّء والمكر الخبيث ، وهو يهلك ويبور :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ، وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ

السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) ..

ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات ، والكلمة الطيبة والعمل الصالح ، هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك ؛ وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة. وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) .. وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة ؛ وما فيهما من حياة ونماء. والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء!

وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة ، وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة ، وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان. العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال. مما جعلهم يقولون : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) ..

فالله يقول لهم :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)

وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها ، وتبدل الوسائل والخطط أيضا!

إن العزة كلها لله. وليس شيء منها عند أحد سواه. فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره. ليطلبها عند الله ، فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد ، ولا في أي كنف ، ولا بأي سبب (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ..

إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة ؛ وتخشى اتباع الهدى ـ وهي تعترف أنه الهدى ـ خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى. إن الناس هؤلاء القبائل والعشائر وما إليها ، إن هؤلاء ليسوا مصدرا للعزة ، ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) .. وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله. وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله. وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر الأول ، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر. ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة ، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم. وهم مثله طلاب محاويج ضعاف!

إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية. وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين ، وتعديل الحكم والتقدير ، وتعديل النهج والسلوك ، وتعديل الوسائل والأسباب! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزا كريما ثابتا في وقفته غير مزعزع ، عارفا طريقه إلى العزة ، طريقه الذي ليس هنالك سواه!

إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر. ولا لعاصفة طاغية. ولا لحدث جلل. ولا لوضع ولا لحكم. ولا لدولة ولا لمصلحة ، ولا لقوة من قوى الأرض جميعا. وعلام؟ والعزة لله جميعا. وليس لأحد منها شيء إلا برضاه؟

ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح :

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ..

ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه. فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله. القول الطيب والعمل الصالح. القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه ؛ والعمل الصالح

الذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع. ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء.

والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس. حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله. حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي. يستعلي بها على شهواته المذلة ، ورغائبه القاهرة ، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس. ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه. فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ، ومخاوفهم ومطامعهم. ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان .. وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان!

إن العزة ليست عنادا جامحا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل. وليست طغيانا فاجرا يضرب في عتو وتجبر وإصرار. وليست اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذل للشهوة. وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح .. كلا! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس ، واستعلاء على القيد والذل ، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله. ثم هي خضوع لله وخشوع ؛ وخشية لله وتقوى ، ومراقبة لله في السراء والضراء .. ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه. ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه. ومن هذه المراقبة لله لا تغنى إلا برضاه.

هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة ، وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق. ثم تكمل بالصفحة المقابلة :

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ).

ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون. ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء. فهؤلاء لهم عذاب شديد. فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور. فلا يحيا ولا يثمر. من البوار ومن البوران سواء. وذلك تنسيقا مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة.

والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلبا للعزة الكاذبة ، والغلبة الموهومة. وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء ، وأنهم أعزاء ، وأنهم أقوياء. ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله ، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه. وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل. فأما المكر السيئ قولا وعملا فليس سبيلا إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان. إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد. وعد الله ، لا يخلف الله وعده. وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم.

* * *

ثم يجيء مشهد النشأة الأولى للإنسان بعد الكلام عن نشأة الحياة كلها بالماء. ويذكر ما يلابس تلك النشأة من حمل في البطون ؛ ومن عمر طويل وعمر قصير. وكله في علم الله المكنون.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..

والإشارة إلى النشأة الأولى من التراب تتردد كثيرا في القرآن ؛ وكذلك الإشارة إلى أول مراحل الحمل : النطفة .. والتراب عنصر لا حياة فيه ، والنطفة عنصر فيه الحياة. والمعجزة الأولى هي معجزة هذه الحياة التي لا يعلم أحد كيف جاءت ، ولا كيف تلبست بالعنصر الأول. وما يزال هذا سرا مغلقا على البشر ؛ وهو حقيقة قائمة مشهودة ، لا مفر من مواجهتها والاعتراف بها. ودلالتها على الخالق المحيي القدير دلالة لا يمكن دفعها ولا المماحكة فيها.

هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان. وتأمل هذه النقلة لا ينتهي ولا يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة. وكل سر منها أضخم من الآخر وأعجب صنعا.

والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين ، حين يتميز الذكر من الأنثى ، وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية : (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) .. سواء كان المقصود جعلكم ذكرا وأنثى وأنتم أجنة ، أو كان المقصود جعلكم أزواجا بعد ولادتكم وتزاوج الذكر والأنثى .. هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة! فأين الخلية الواحدة في النطفة من ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد ، الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف؟ وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك الخلق الحافل بالخصائص المتميزة؟

إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد ؛ وتتركب كل مجموعة خاصة من الخلايا المتولدة منها لتكوين عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة. ثم تعاون هذه الأعضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقا واحدا على هذا النحو العجيب ؛ ومخلوقا متميزا من سائر المخلوقات الأخرى من جنسه ، بل من أقرب الناس إليه ، بحيث لا يتماثل أبدا مخلوقان اثنان .. وكلهم من نطفة لا تميز فيها يمكن إدراكه! .. ثم تتبع هذه الخلايا حتى تصير أزواجا ، قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة ، تسير في ذات المراحل ، دون انحراف .. إن هذا كله لعجب لا ينقضي منه العجب. ومن ثم هذه الإشارة التي تتردد في القرآن كثيرا عن تلك الخارقة المجهولة السر ؛ بل تلك الخوارق المجهولة الأسرار! لعل الناس يشغلون قلوبهم يتدبرها ، ولعل أرواحهم تستيقظ على الإيقاع المتكرر عليها!

وإلى جوار هذه الإشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم الله (كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في سورة سبأ) صورة علم الله المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الأرض جميعا :

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

والنص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات. وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها ، فالبيضة حمل من نوع خاص. جنين لا يتم نموه في داخل جسم الأم ؛ بل ينزل بيضة ، ثم يتابع نموه خارج جسم الأم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى يصبح جنينا كاملا ثم يفقس ويتابع نموه العادي.

وعلم الله على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف!!!

وتصوير علم الله المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه لا في التصور ولا في التعبير ـ كما قلنا في سورة سبأ ـ فهو بذاته دليل على أن الله هو منزل هذا القرآن. وهذه إحدى السمات الدالة على مصدره الإلهي المتفرد.

ومثلها الحديث عن العمر في الآية ذاتها :

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..

فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الأحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على اختلاف في الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والمواطن والأزمنة ؛ ثم يتصور أن كل فرد من أفراد

هذا الحشد ـ الذي لا يمكن حصره ، ولا يعلم إلا خالقه عدده ـ يعمر فيطول عمره ، أو ينقص من عمره فيقصر وفق قدر مقدور ، ووفق علم متعلق بهذا الفرد ، متابع له ، عمر أم لم يعمر.

بل متعلق بكل جزء من كل فرد. يعمر أو ينقص من عمره. فهذه الورقة من تلك الشجرة يطول عمرها أو تذبل أو تسقط عن قريب. وهذه الريشة من ذلك الطائر يطول مكثها أو تذهب مع الريح. وهذا القرن من ذلك الحيوان يبقى طويلا أو يتحطم في صراع. وهذه العين في ذلك الإنسان أو هذه الشعرة تبقى وتسقط وفق تقدير معلوم.

كل ذلك (فِي كِتابٍ) .. من علم الله الشامل الدقيق. وأن ذلك لا يكلف جهدا ولا عسرا : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..

إذا مضى الخيال يتدبر هذا ويتتبعه ؛ ثم يتصور ما وراءه .. إنه لأمر عجيب جد عجيب .. وإنه لاتجاه إلى حقيقة لا يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو. واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير مألوف البشر كذلك. وإنما هو التوجيه الإلهي الخاص إلى هذا الأمر العجيب.

والتعمير يكون بطول الأجل وعد الأعوام ؛ كما يكون بالبركة في العمر ، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقا مثمرا ، واحتشاده بالمشاعر والحركات والأعمال والآثار. وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين ؛ أو نزع البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ.

ورب ساعة تعدل عمرا بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر ، وبما يتم فيها من أعمال وآثار. ورب عام يمر خاويا فارغا لا حساب له في ميزان الحياة ، ولا وزن له عند الله!

وكل ذلك في كتاب .. كل ذلك من كل كائن في هذا الكون الذي لا يعرف حدوده إلا الله ..

والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد .. كل منها يعمر أو ينقص من عمره. والنص يشمله.

بل إن الأشياء لكالأحياء. وإني لأتصور الصخرة المعمرة ، والكهف المعمر ، والنهر المعمر ، والصخرة التي ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات ؛ والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود ؛ والنهر الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد!

ومن الأشياء ما تصنعه يد الإنسان. البناء المعمر أو القصير العمر. والجهاز المعمر أو قصير العمر. والثوب المعمر أو قصير العمر .. وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان.

وكلها من أمر الله العليم الخبير ..

وإن تصور الأمر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد ، وأسلوب جديد. وإن القلب الذي يستشعر يد الله وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل. وهو حيثما تلفت وجد يد الله. ووجد عين الله. ووجد عناية الله ، ووجد قدرة الله ، متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا الوجود.

وهكذا يصنع القرآن القلوب!

* * *

ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات. يمضي إلى مشهد الماء في هذه الأرض من زاوية معينة. زاوية تنويع الماء. فهذا عذب سائغ ، وهذا ملح مر. وكلاهما يفترقان ويلتقيان ـ بتسخير

الله ـ في خدمة الإنسان.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ .. هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ .. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها. وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..

إن إرادة التنويع في خلق الماء واضحة ؛ ووراءها حكمة ـ فيما نعلم ـ ظاهرة ؛ فأما الجانب العذب السائغ اليسير التناول فنحن نعرف جانبا من حكمة الله فيما نستخدمه وننتفع به ؛ وهو قوام الحياة لكل حي. وأما الجانب الملح المر وهو البحار والمحيطات فيقول أحد العلماء في بيان التقدير العجيب في تصميم هذا الكون الضخم :

«وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ـ ومعظمها سام ـ فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبة المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء ـ أي المحيط ـ الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، والنباتات. وأخيرا الإنسان نفسه ..» (١).

وهذا بعض ما تكشف لنا من حكمة الخلق والتنويع ، واضح فيه القصد والتدبير ، ومنظور فيه إلى تناسقات وموازنات يقوم بعضها على بعض في حياة هذا الكون ونظامه. ولا يصنع هذا إلا الله خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه. فإن هذا التنسيق الدقيق لا يجيء مصادفة واتفاقا بحال من الأحوال. والإشارة إلى اختلاف البحرين توحي بمعنى القصد في هذه التفرقة وفي كل تفرقة أخرى. وستأتي في السورة إشارات إلى نماذج منها في عالم المشاعر والاتجاهات والقيم والموازين.

ثم يلتقي البحران المختلفان في تسخيرهما للإنسان :

(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) ..

واللحم الطري هو الأسماك والحيوانات البحرية على اختلافها. والحلية من اللؤلؤ والمرجان. واللؤلؤ يوجد في أنواع من القواقع يتكون في أجسامها نتيجة دخول جسم غريب كحبة رمل أو نقطة ماء ، فيفرز جسم القوقعة داخل الصدفة إفرازا خاصا يحيط به هذا الجسم الغريب ، كي لا يؤذي جسم القوقعة الرخو. وبعد زمن معين يتصلب هذا الإفراز ، ويتحول إلى لؤلؤة! والمرجان نبات حيواني يعيش ويكون شعابا مرجانية تمتد في البحر أحيانا عدة أميال ، وتتكاثر حتى تصبح خطرا على الملاحة في بعض الأحيان ؛ وخطرا على كل حي يقع في براثنها! وهو يقطع بطرق خاصة وتتخذ منه الحلي!

والفلك تمخر البحار والأنهار ـ أي تشقها ـ بما أودع الله الأشياء في هذا الكون من خصائص. ولكثافة الماء وكثافة الأجسام التي تتكون منها السفن دخل في إمكان طفو السفن على سطح الماء وسيرها فيه. وللرياح كذلك. وللقوي التي سخرها الله للإنسان وعرفه كيف يستخدمها كقوة البخار وقوة الكهرباء وغيرهما من القوى. وكلها من تسخير الله للإنسان.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) .. بالسفر والتجارة ، والانتفاع باللحم الطري والحلي واستخدام الماء والسفن في البحار والأنهار.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .. وقد يسر الله لكم أسباب الشكر ، وجعلها حاضرة بين أيديكم. ليعينكم على الأداء.

* * *

__________________

(١) كتاب : الإنسان لا يقوم وحده تأليف (ا. كريسي. موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك) ترجمة محمود صالح الفلكي بعنوان : العلم يدعو إلى الإيمان.

ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار. ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم :

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ..

وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين. مشهد دخول الليل في النهار ، والضياء يغيب قليلا قليلا ، والظلام يدخل قليلا قليلا حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب. ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ، وينتشر الضياء رويدا رويدا ، ويتلاشى الظلام رويدا رويدا ، حتى تشرق الشمس ويعم الضياء .. كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه. وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه .. وقد يعنيهما معا بتعبير واحد. وكلها مشاهد تطوف بالقلب في سكون ، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط ، وتطوي ذاك الخط ، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط. في نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب. ولا يختل يوما أو عاما على توالي القرون ..

وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما ، والذي لا يعلمه إلا خالقهما .. هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان ، سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ، ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما ومداها .. أم لا يعلم من هذا كله شيئا .. فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ، ويصعدان وينحدران أمام كل بصر. وهذه الحركة الدائبة التي لا تفتر ولا تختل حركة مشهودة لا يحتاج تدبرها إلى علم وحساب! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الأجيال على السواء. وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة. وليس هذا هو المهم. إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ، وإن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم .. والحياة حياة القلوب ..

* * *

وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ، وبطلان كل ادعاء بالشرك ، وخسران عاقبته يوم القيامة :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ. وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ..

ذلكم. الذي أرسل الرياح بالسحاب ، والذي أحيا الأرض بعد موتها ، والذي خلقكم من تراب ، والذي جعلكم أزواجا ، والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ، والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ، والذي خلق البحرين ، والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى .. ذلكم هو (اللهُ رَبُّكُمْ) ..

(لَهُ الْمُلْكُ) .. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) .. والقطمير غلاف النواة! وحتى هذا الغلاف الزهيد لا يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون الله!

ثم يمعن في الكشف عن حقيقة أمرهم.

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ..

فهم أصنام أو أوثان أو أشجار ، أو نجوم أو كواكب ، أو ملائكة أو جن .. وكلهم لا يملكون بالفعل قطميرا. وكلهم لا يسمعون لعبادهم الضالين. سواء كانوا لا يسمعون أصلا ، أو لا يسمعون لكلام البشر ..

(وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ..

كالجن والملائكة. فالجن لا يملكون الاستجابة. والملائكة لا يستجيبون للضالين.

هذه في الحياة الدنيا. فأما يوم القيامة فيبرأون من الضلال والضالين :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ..

يحدث بهذا الخبير بكل شيء ، وبكل أمر ، وبالدنيا والآخرة :

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ..

وبهذا ينتهي هذا المقطع ، وتختم هذه الجولات والمشاهد في تلك العوالم ؛ ويعود القلب البشري منها بزاد يكفيه حياته كلها لو ينتفع بالزاد. وإنه لحسب القلب البشري مقطع واحد من سورة واحدة لو كان الذي يريد هو الهدى ، ولو كان الذي يطلب هو البرهان!

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦)

مرة أخرى يرجع إلى الهتاف بالناس أن ينظروا في علاقتهم بالله ، وفي حقيقة أنفسهم ؛ ويرجع إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالتسلية عما يلقى ، والتسرية عما يجد من إعراض وضلال ـ كالشأن في المقطع الثاني من السورة ـ ويزيد هنا الإشارة إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال ، وأن الاختلاف بين طبيعتهما أصيل

عميق كأصالة الاختلاف بين العمى والبصر والظلمات والنور والظل والحرور والموت والحياة. وأن بين الهدى والبصر والنور والظل والحياة صلة وشبها ؛ كما أن بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة وشبها! ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ..

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات إلى نور الله وهداه. في حاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله. وأن الله غني عنهم كل الغنى. وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم ، وهو المحمود بذاته. وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض. فإن ذلك عليه يسير ..

الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله ـ جل وعلا ـ يعنى بهم ، ويرسل إليهم الرسل ؛ ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى ، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور. ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئا في ملكه تعالى! والله هو الغني الحميد.

وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته ، ويفيض عليهم من رحمته ، ويغمرهم بسابغ فضله ـ بإرسال رسله إليهم ، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء .. إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلا وكرما ومنا. لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته. لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئا بهداهم ، أو ينقصون من ملكه شيئا بعماهم. ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال ، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل.

وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه ، حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر ، الضعيف العاجز ، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل!

والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض. والأرض تابع صغير من توابع الشمس. والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم. والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة ـ على ضخامتها الهائلة ـ متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده. وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله!

ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية .. ينشئه ، ويستخلفه في الأرض ، ويهبه كل أدوات الخلافة ـ سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته ـ ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره. فيرسل الله إليه الرسل ، رسولا بعد رسول ، وينزل على الرسل الكتب والخوارق. ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصا يحدث بها الناس ، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم ، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ، ومن عجز وضعف ، بل إنه ـ سبحانه ـ ليحدث عن فلان وفلان بالذات ، فيقول لهذا : أنت فعلت وأنت تركت ،

ويقول لذاك : هاك حلا لمشكلتك ، وهاك خلاصا من ضيقتك!

كل ذلك ، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض ، التابعة الصغيرة من توابع الشمس ، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس! والله ـ سبحانه ـ هو فاطر السماوات والأرض ، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة. بمجرد توجه الإرادة. وهو قادر على أن يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة ..

والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته. وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران.

فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ، إلى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة. والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر ؛ لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ؛ ولأنه هو الحق وبالحق نزل. فلا يتحدث إلا بالحق ، ولا يقنع إلا بالحق ، ولا يعرض إلا الحق ، ولا يشير بغير الحق ..

* * *

ولمسة أخرى بحقيقة أخرى. حقيقة فردية التبعة ، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا. فما بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من حاجة إلى هدايتهم يحققها لنفسه ، فهو محاسب على عمله وحده ، كما أن كلا منهم محاسب على ما كسبت يداه ، يحمل حمله وحده ، لا يعينه أحد عليه. ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ، وهو الكاسب وحده لا سواه ؛ والأمر كله صائر إلى الله :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ..

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ. وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ..

وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي ، وفي السلوك العملي سواء. فشعور كل فرد بأنه مجزيّ بعمله ، لا يؤاخذ بكسب غيره ، ولا يتخلص هو من كسبه ، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل أن تحاسب! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ، أو أن يحمل عنه أحد شيئا. كما أنه ـ في الوقت ذاته ـ عامل مطمئن ، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ؛ فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب. ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة.

إن الله ـ سبحانه ـ لا يحاسب الناس جملة بالقائمة! إنما يحاسبهم فردا فردا ؛ كل على عمله. وفي حدود واجبه. ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده. فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها ، فإنما هو محاسب على إحسانه. كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح. فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا!

والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ، فتكون أعمق وأشد أثرا. يصور كل نفس حاملة حملها. فلا تحمل نفس حمل أخرى. وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئا ، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئا مما يثقلها!

إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ، حتى يقف أمام الميزان والوزّان! وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء ، واهتمام كل بحمله وثقله ، وانشغاله عن البعداء والأقرباء!

وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ، يلتفت إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ..

فهؤلاء هم الذين يفلح فيهم الإنذار. هؤلاء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه. ويقيمون الصلاة ليتصلوا بربهم ويعبدوه. هؤلاء هم الذين ينتفعون بك ، ويستجيبون لك. فلا عليك ممن لا يخشى الله ولا يقيم الصلاة.

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ..

لا لك. ولا لغيرك. إنما هو يتطهر لينتفع بطهره. والتطهر معنى لطيف شفاف. يشمل القلب وخوالجه ومشاعره ، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره. وهو معنى موح رفاف.

(وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ..

وهو المحاسب ، والمجازي ، فلا يذهب عمل صالح ، ولا يفلت عمل سيئ. ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون ..

* * *

ولن يستوي عند الله الإيمان والكفر ، والخير والشر ، والهدى والضلال ؛ كما لا يستوي العمى والبصر ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والحياة والموت. وهي مختلفة الطبائع من الأساس :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ..

وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة. كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة ..

إن الإيمان نور ، نور في القلب ونور في الجوارح ، ونور في الحواس. نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد. فالمؤمن ينظر بهذا النور ، نور الله ، فيرى تلك الحقائق ، ويتعامل معها ، ولا يخبط في طريقه ولا يلطش في خطواته!

والإيمان بصر ، يرى. يرى رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ولا مخلخلة. ويمضي بصاحبه في الطريق على نور وعلى ثقة وفي اطمئنان.

والإيمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل!

والإيمان حياة. حياة في القلوب والمشاعر. حياة في القصد والاتجاه. كما أنه حركة بانية. مثمرة. قاصدة. لا خمود فيها ولا همود. ولا عبث فيها ولا ضياع.

والكفر عمى. عمى في طبيعة القلب. وعمى عن رؤية دلائل الحق. وعمى عن رؤية حقيقة الوجود. وحقيقة الارتباطات فيه. وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء.

والكفر ظلمة أو ظلمات. فعند ما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال. ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء.

والكفر هاجرة. حرور. تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف ، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير. ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك!

والكفر موت. موت في الضمير. وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل. وانفصال عن الطريق الواصل.

وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي ، المؤثرين في سير الحياة!

ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ، ولن يستوي عند الله هذا وذاك.

* * *

وهنا يلتفت إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعزيه ويسري عنه ، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله. وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء :

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..

إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس. واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، والحياة والموت. ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته. وقدرته على ما يشاء.

وإذن فالرسول ليس إلا نذيرا. وقدرته البشرية تقف عند هذا الحد. فما هو بمسمع من في القبور. ولا من يعيشون بقلوب ميتة فهم كأهل القبور! والله وحده هو القادر على إسماع من يشاء ، وفق ما يشاء ، حسبما يشاء. فماذا على الرسول أن يضل من يضل ، ويعرض من يعرض متى أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، فسمع من شاء الله أن يسمع ، وأعرض من شاء الله أن يعرض؟

ومن قبل قال الله لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

لقد أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا. شأنه شأن إخوانه من الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ وهم كثير. فما من أمة إلا سبق فيها رسول :

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ).

فإن لقي من قومه التكذيب ، فتلك هي طبيعة الأقوام في استقبال الرسل ؛ لا عن تقصير من الرسل ، ولا عن نقص في الدليل :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) ..

والبينات الحجج في صورها الكثيرة ، ومنها الخوارق المعجزة التي كانوا يطلبون أو يتحداهم بها الرسول. والزبر الصحف المتفرقة بالمواعظ والنصائح والتوجيهات والتكاليف. والكتاب المنير. الأرجح أنه كتاب موسى. التوراة. وكلهم كذبوا بالبينات والزبر والكتاب المنير.

هذا كان شأن أمم كثيرة في استقبال رسلهم وما معهم من دلائل الهدى. فالأمر إذن ليس جديدا ، وليس فريدا ، إنما هو ماض مع سنة الأولين.

وهنا يعرض على المشركين مصائر المكذبين. لعلهم يحذرون :

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ..

ويسأل سؤال تعجيب وتهويل :

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..

ولقد كان النكير شديدا ، وكان الأخذ تدميرا. فليحذر الماضون على سنة الأولين ، أن يصيبهم ما أصاب الأولين!

إنها لمسة قرآنية ينتهي بها هذا المقطع. وتختم بها هذه الجولة. ثم تبدأ جولة جديدة في واد جديد ..

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨)

وهذه الجولة قراءات في كتاب الكون وفي الكتاب المنزل. قراءات في كتاب الكون في صحائفه المعجبة الرائعة ، المتنوعة الألوان والأنواع والأجناس. الثمار المتنوعة الألوان ، والجبال الملونة الشعاب ، والناس والدواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة .. هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح ..

وقراءات في الكتاب المنزل وما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة. وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة. ودرجات الوارثين. وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين ؛ ومشهدهم في دار النعيم. ومقابلهم مشهد الكافرين الأليم. وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة الألوان بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم الله العليم بذات الصدور ..

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ؛ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ. إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) ..

إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب. لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها. في الثمرات. وفي الجبال. وفي الناس. وفي الدواب والأنعام. لفتة تجمع في كلمات قلائل ، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعا ، وتدع القلب مأخوذا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعا.

وتبدأ بإنزال الماء من السماء ، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان. ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات ، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) .. وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الأجيال. فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر. بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد. فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون!

وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية. ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها ، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها!

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) ..

والجدد الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة ، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه ، وهناك جدد غرابيب سود ، حالكة شديدة السواد.

واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ، تهز القلب هزا ، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي ، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة ، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة ، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك ، يستحق النظر والالتفات.

ثم ألوان الناس. وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر. فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه. بل متميز من توأمه الذي شاركه حملا واحدا في بطن واحدة!

وكذلك ألوان الدواب والأنعام. والدواب أشمل والأنعام أخص. فالدابة كل حيوان. والأنعام هي الإبل

والبقر والغنم والماعز ، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان. والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء.

هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين ، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول : إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله :

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ..

وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب. ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية. يعرفونه بآثار صنعته. ويدركونه بآثار قدرته. ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه. ومن ثم يخشونه حقا ويتقونه حقا ، ويعبدونه حقا. لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون. ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر .. وهذه الصفحات نموذج من الكتاب .. والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب. العلماء به علما واصلا. علما يستشعره القلب ، ويتحرك به ، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل.

إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه. ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها. هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح. ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ، لتنشأ الثمار. وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها! .. والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه ، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان. وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال.

الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه. ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) ..

عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء. غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ، وهم يرون بدائع صنعته.

* * *

ومن كتاب الكون ينتقل الحديث إلى الكتاب المنزل ، والذين يتلونه ، وما يرجون من تلاوته ، وما ينتظرهم من جزاء :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..

وتلاوة كتاب الله تعني شيئا آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت. تعني تلاوته عن تدبر ، ينتهي إلى إدراك وتأثر ، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك. ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة ، وبالإنفاق سرا وعلانية من رزق الله. ثم رجاؤهم بكل هذا (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) .. فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون. ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح. يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة ؛ ويتأجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة. تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم ، وزيادتهم من فضل الله .. (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) .. يغفر التقصير ويشكر الأداء. وشكره ـ تعالى ـ كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء. ولكن التعبير

يوحي للبشر بشكر المنعم. تشبها واستحياء. فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟!

* * *

ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب ، وما فيه من الحق ، تمهيدا للحديث عن ورثة هذا الكتاب :

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ..

ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه ؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته ، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة. وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره. والحق واحد لا يتعدد فيها وفيه. ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم ، وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم : (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ..

هذا هو الكتاب في ذاته. وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة ، اصطفاها لهذه الوراثة ، كما يقول هنا في كتابه :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ..

وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله ؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة. وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب؟

إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة ؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء :

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) ..

فالفريق الأول ـ ولعله ذكر أولا لأنه الأكثر عددا ـ (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) تربى سيئاته في العمل على حسناته. والفريق الثاني وسط (مُقْتَصِدٌ) تتعادل سيئاته وحسناته. والفريق الثالث (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) ، تربى حسناته على سيئاته .. ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعا. فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية. على تفاوت في الدرجات.

ولا ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه الأمة باصطفائها ، وكرم الله سبحانه في جزائها. فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ، وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه الأمة جميعا ـ بفضل الله ـ ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم الله.

نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره الله لهذه الأمة بصنوفها الثلاثة من حسن الجزاء :

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ. وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ..)

إن المشهد (١) يتكشف عن نعيم مادي ملموس ، ونعيم نفسي محسوس. فهم (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) .. وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ، الذي يلبي بعض رغائب النفوس. وبجانبه ذلك الرضا وذلك الأمن وذلك الاطمئنان : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) .. والدنيا بما فيها من

__________________

(١) عن كتاب : مشاهد القيامة في القرآن ص ١٠٠ ، ١٠١. «دار الشروق».

قلق على المصير ، ومعاناة للأمور تعد حزنا بالقياس إلى هذا النعيم المقيم. والقلق يوم الحشر على المصير مصدر حزن كبير. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) .. غفر لنا وشكر لنا أعمالنا بما جازانا عليها. (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) .. للإقامة والاستقرار (مِنْ فَضْلِهِ) فما لنا عليه من حق ، إنما هو الفضل يعطيه من يشاء. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) .. بل يجتمع لنا فيها النعيم والراحة والاطمئنان.

فالجو كله يسر وراحة ونعيم. والألفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني الرحيم. حتى (الْحَزَنَ) لا يتكأ عليه بالسكون الجازم. بل يقال (الْحَزَنَ) بالتسهيل والتخفيف. والجنة (دارَ الْمُقامَةِ). والنصب واللغوب لا يمسانهم مجرد مساس. والإيقاع الموسيقي للتعبير كله هادئ ناعم رتيب.

ثم نتلفت إلى الجانب الآخر. فنرى القلق والاضطراب وعدم الاستقرار على حال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ..

فلا هذه ولا تلك. حتى الرحمة بالموت لا تنال!

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ..

ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الأرجاء. إنه صوت المنبوذين في جهنم :

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) ..

وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعا .. فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول. إنه يقول :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ..

إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن. ولكن بعد فوات الأوان. فها نحن أولاء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب القاسي :

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ؟) ..

فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ، وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) ..

زيادة في التنبيه والتحذير. فلم تتذكروا ولم تحذروا.

(فَذُوقُوا. فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ..

إنهما صورتان متقابلتان : صورة الأمن والراحة ، تقابلها صورة القلق والاضطراب. ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء. ومظهر العناية والتكريم ، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب. والجرس اللين والإيقاع الرتيب ، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف. فيتم التقابل ، ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء (١).

وأخيرا يجيء التعقيب على هذه المشاهد جميعا ، وعلى ما سبقها من اصطفاء وتوريث :

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

__________________

(١) عن كتاب مشاهد القيامة في القرآن ص ١٠٠ ـ ١٠١. «دار الشروق».

والعلم الشامل اللطيف الدقيق أنسب تعقيب على تنزيل الكتاب. وعلى اصطفاء من يرثونه ويحملونه. وعلى تجاوز الله عن ظلم بعضهم لنفسه. وعلى تفضله عليهم بذلك الجزاء. وعلى حكمه على الذين كفروا بذلك المصير .. فهو عالم غيب السماوات والأرض. وهو عليم بذات الصدور. وبهذا العلم الشامل اللطيف الدقيق يقضي في كل هذه الأمور ..

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

هذا المقطع الأخير في السورة يشتمل على جولات واسعة المدى كذلك ، ولمسات للقلب وإيحاءات شتى : جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة ، يخلف بعضها بعضا. وجولة في الأرض والسماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله. وجولة في السماوات والأرض كذلك لرؤية يد الله القوية القادرة تمسك

بالسماوات والأرض أن تزولا. وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ، ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الدائرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة الله الجارية .. ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). وفضل الله العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الأخذ المدمر المبيد ..

* * *

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ. فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).

إن تتابع الأجيال في الأرض ، وذهاب جيل ومجيء جيل ، ووراثة هذا لذاك ، وانتهاء دولة وقيام دولة ، وانطفاء شعلة واتقاد شعلة. وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور .. إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة ، وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين ، يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم ، كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم. وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار ، وتقلب الصولجان ، وتديل الدول ، وتورث الملك ، وتجعل من الجيل خليفة لجيل. وكل شيء يمضي وينتهي ويزول ، والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول.

ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي ، فلا يخلد ولا يبقى. من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ؛ وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل ، وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل. من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل ، ويترك وراءه الذكر الجميل ، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير.

هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر ، حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور ، والطلوع والأفول ، والدول الدائلة ، والحياة الزائلة ، والوراثة الدائبة جيلا بعد جيل :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ..

وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر ، يذكرهم بفردية التبعة ، فلا يحمل أحد عن أحد شيئا ، ولا يدفع أحد عن أحد شيئا ؛ ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال ، وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف :

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).

والمقت أشد البغض. ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره؟ وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران؟!

* * *

والجولة الثانية في السماوات والأرض ، لتقصّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون الله ، والسماوات والأرض لا تحس لهم أثرا ، ولا تعرف عنهم خبرا :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً).

والحجة واضحة والدليل بيّن. فهذه الأرض بكل ما فيها ومن فيها. هذه هي مشهودة منظورة. أي جزء فيها أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحدا ـ غير الله ـ خلقه وأنشأه! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه

الدعوى لو جرؤ عليها مدع. وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو الله ؛ وهو يحمل آثار الصنعة التي لا يدعيها مدع ، لأنه لا تشبهها صنعة ، مما يعمل العاجزون أبناء الفناء!

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟) ..

ولا هذه من باب أولى! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه الآلهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات ، ولا مشاركة في ملكية السماوات. كائنة ما كانت. حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملائكة .. فقصارى ما كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلاغهم خبر السماء. أو يستشفعوا بالملائكة عند الله. ولم يرتق ادعاؤهم يوما إلى الزعم بأن لهم شركا في السماء!

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟) ..

وحتى هذه الدرجة ـ درجة أن يكون الله قد آتى هؤلاء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه ، واثقون بما فيه ـ لم يبلغها أولئك الشركاء المزعومون .. والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال الإنكاري موجها إلى المشركين أنفسهم ـ لا إلى الشركاء ـ فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه من الله فهم على بينة منه وبرهان. وليس هذا صحيحا ولا يمكن أن يدعوه. وعلى هذا المعنى يكون هناك إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من الله بيّن. وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق. وليس لهم من هذا شيء يدعونه ؛ بينما الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد جاءهم بكتاب من عند الله بيّن. فما لهم يعرضون عنه ، وهو السبيل الوحيد لاستمداد العقيدة؟!

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) ..

والظالمون يعد بعضهم بعضا أن طريقتهم هي المثلى ؛ وأنهم هم المنتصرون في النهاية. وإن هم إلا مخدوعون مغرورون ، يغر بعضهم بعضا ، ويعيشون في هذا الغرور الذي لا يجدي شيئا ..

* * *

والجولة الثالثة ـ بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض ـ تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ..

ونظرة إلى السماوات والأرض ؛ وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود. وكلها قائمة في مواضعها ، تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها ، لا تختل ، ولا تخرج عنها ، ولا تبطئ أو تسرع في دورتها ، وكلها لا تقوم على عمد ، ولا تشد بأمراس (١) ، ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك .. نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول.

ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها ، واختلت وتناثرت بددا ، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبدا. وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيرا لنهاية هذا العالم. حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر ؛ ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه.

__________________

(١) الأمراس : الحبال المتينة.

وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا. والانتهاء إلى العالم الآخر ، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافا كاملا.

ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله :

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ..

(حَلِيماً) يمهل الناس ، ولا ينهي هذا العالم بهم ، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم. ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد. (غَفُوراً) لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيرا. وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود.

* * *

والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا الله عليه ، ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد ، وفساد في الأرض. وتحذير لهم من سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تبديل فيها ولا تحويل :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ـ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ـ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ؟ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..

ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ؛ وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء سلوكهم ما يرون ؛ وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم ، وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به. وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ؛ ويقسمون بالله حتى ما يدعون مجالا للتشديد في القسم : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) .. يعنون اليهود. يعرضون بهم بهذا التعبير ولا يصرحون!

ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم .. يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلاء القوم في جاهليتهم. ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق الله أمنيتهم ، وأرسل فيهم نذيرا :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ!) ..

وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم استكبارا في الأرض ومكر السيّء. والقرآن يكشفهم هذا الكشف ، ويسجل عليهم هذا المسلك. ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم ، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري :

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ..

فما يصيب مكرهم السيّء أحدا إلا أنفسهم ؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم.

وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن؟ إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وهو معروف لهم. وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد :

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..

* * *

والأمور لا تمضي في الناس جزافا ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثا ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا

يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة ، محصورين في فترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة ، وسنن الوجود ، فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم ؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.

وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ـ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ـ وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ. إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً).

والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ؛ والوقوف على مصارع الغابرين ، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه .. كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى ..

ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين ، وآثار الذاهبين. وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ، فيها فلا تقف. وإذا وقفت لا تحس. وإذا أحست لا تعتبر. وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة. وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية. وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم ، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ؛ لا رابط لها ، ولا قاعدة تحكمها. والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس.

وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم ـ وكانوا أشد منهم قوة ـ فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم. أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى. القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ..

ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض أسانيدها :

(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ..

يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ؛ وتقوم قدرته إلى جانب علمه. فلا يند عن علمه شيء ، ولا يقف لقدرته شيء. ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه : (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ..

* * *

وأخيرا يجيء ختام السورة ، يكشف عن حلم الله ورحمته إلى جانب قوته وقدرته ؛ ويؤكد أن إمهال الناس عن حلم وعن رحمة ، لا يؤثر في دقة الحساب وعدل الجزاء في النهاية :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) ..

إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله ، ومن شر في الأرض وفساد ، ومن ظلم في الأرض وطغيان. إن هذا كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ الله الناس به ، لتجاوزهم ـ لضخامته وشناعته وبشاعته ـ إلى كل حي على ظهر هذه الأرض. ولأصبحت الأرض كلها غير صالحة للحياة إطلاقا. لا لحياة البشر فحسب ، ولكن لكل حياة أخرى!

والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم الله به مؤاخذة سريعة.

غير أن الله حليم لا يعجل على الناس :

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ..

يؤخرهم أفرادا إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا. ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر. ويؤخرهم جنسا إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى. ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعا.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) ..

وانتهى وقت العمل والكسب ، وحان وقت الحساب والجزاء ، فإن الله لن يظلمهم شيئا :

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) ..

وبصره بعباده كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم ، لا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة.

* * *

هذا هو الإيقاع الأخير في السورة التي بدأت بحمد الله فاطر السماوات والأرض. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) يحملون رسالة السماء إلى الأرض. وما فيها من تبشير وإنذار فإما إلى جنة وإما إلى نار ..

وبين البدء والختام تلك الجولات العظام في تلك العوالم التي طوفت بها السورة. وهذه نهاية المطاف. ونهاية الحياة. ونهاية الإنسان ..

انتهى الجزء الثاني والعشرون

ويليه الجزء الثالث والعشرون

مبدوءا بسورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سور يس

والصّافات وص

الجزء الثالث والعشرون

(٣٦) سورة يس مكيّة

وآياتها ثلاث وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ

فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثا وثمانين ، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها ـ سورة فاطر ـ وعدد آياتها خمس وأربعون.

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص ، فتتلاحق إيقاعاتها ، وتدق على الحس دقات متوالية ، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار.

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية. وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة. فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ..). وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه. وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) ..

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية. فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) ..

والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور ، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة. تجيء في أولها : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) .. وتأتي في قصة أصحاب القرية ، فيما وقع للرجل المؤمن. وقد كان جزاؤها العاجل في السياق : (قِيلَ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ. قالَ : يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) .. ثم ترد في وسط السورة : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) .. ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة. وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ. قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ..

هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها.

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة ـ بصفة خاصة ـ ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنسانا وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون!

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه : منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ؛ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار .. ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) .. وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.

* * *

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط :

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين : «يا. سين» وبالقرآن الحكيم ، على رسالة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنه على صراط مستقيم. يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون. وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلا ، وأن يحال بينهم وبينها أبدا. وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان .. ثم يوجه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى أن يضرب لهم مثلا أصحاب القرية ، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين. كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق ..

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به. غير معتبرين بمصارع المكذبين ، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير .. وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة ، كما يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل.

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها. فينفي في أوله أن ما جاء به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلا. ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة!. ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة .. وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

والآن نأخذ بعد هذا العرض المجمل في التفصيل ..

* * *

(يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ..

يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين : «يا. سين» كما يقسم بالقرآن الحكيم. وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور ؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن. وأن آية كونه من عند الله ، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها ، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم ؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف.

ويصف القرآن ـ وهو يقسم به ـ بأنه (الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ). والحكمة صفة العاقل. والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة. وهي من مقتضيات أن يكون حكيما. ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها. فإن لهذا القرآن لروحا! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات ، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته ، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره ؛ ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن. كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب! والقرآن حكيم. يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه. ويضرب على الوتر الحساس في قلبه. ويخاطبه بقدر. ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه.

والقرآن حكيم. يربي بحكمة ، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم. منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم. ويقرر للحياة نظاما كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم.

يقسم الله سبحانه بياء وسين والقرآن الحكيم على حقيقة الوحي والرسالة إلى الرسول الكريم :

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..

وما به سبحانه من حاجة إلى القسم. ولكن هذا القسم منه ـ جل جلاله ـ بالقرآن وحروفه ، يخلع على المقسم به عظمة وجلالا ، فما يقسم الله سبحانه إلا بأمر عظيم ، يرتفع إلى درجة القسم به واليمين!

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. والتعبير على هذا النحو يوحي بأن إرسال الرسل أمر مقرر ، له سوابق مقررة. فليس هو الذي يراد إثباته. إنما المراد أن يثبت هو أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من هؤلاء المرسلين. ويخاطبه هو بهذا القسم ـ ولا يوجهه إلى المنكرين المكذبين ـ ترفعا بالقسم وبالرسول وبالرسالة عن أن تكون موضع جدل أو مناقشة. إنما هو الإخبار المباشر من الله للرسول.

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..

وهذا بيان لطبيعة الرسالة بعد بيان حقيقة الرسول. وطبيعة هذه الرسالة الاستقامة. فهي قائمة كحد السيف لا عوج فيها ولا انحراف ، ولا التواء فيها ولا ميل. الحق فيها واضح لا غموض فيه ولا التباس. ولا يميل مع هوى ولا ينحرف مع مصلحة. يجده من يطلبه في يسر وفي دقة وفي خلوص.

وهي لاستقامتها ـ بسيطة لا تعقيد فيها ولا لف ولا دوران. لا تعقد الأمور ولا توقع في إشكالات من القضايا

والتصورات والأشكال الجدلية. وإنما تصدع بالحق في أبسط صورة من صوره ، وأعراها عن الشوائب والأخلاط ، وأغناها عن الشرح ، وتفصيص العبارات وتوليد الكلمات ، والدخول بالمعاني في الدروب والمنحنيات! يمكن أن يعيش بها ومعها البادي والحاضر ، والأمي والعالم ، وساكن الكوخ وساكن العمارة ؛ ويجد فيها كل حاجته ؛ ويدرك منها ما تستقيم به حياته ونظامه وروابطه في يسر ولين.

وهي مستقيمة مع فطرة الكون وناموس الوجود ، وطبيعة الأشياء والأحياء حول الإنسان ، فلا تصدم طبائع الأشياء ، ولا تكلف الإنسان أن يصدمها ، إنما هي مستقيمة على نهجها ، متناسقة معها ، متعاونة كذلك مع سائر القوانين التي تحكم هذا الوجود وما فيه ومن فيه.

وهي من ثم مستقيمة على الطريق إلى الله ، واصلة إليه موصلة به ، لا يخشى تابعها أن يضل عن خالقه ، ولا أن يلتوي عن الطريق إليه. فهو سالك دربا مستقيما واصلا ينتهي به إلى رضوان الخالق العظيم.

والقرآن هو دليل هذا الصراط المستقيم. وحيثما سار الإنسان معه وجد هذه الاستقامة في تصويره للحق ، وفي التوجيه إليه ، وفي أحكامه الفاصلة في القيم ، ووضع كل قيمة في موضعها الدقيق.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ..

يعرف الله عباده بنفسه في مثل هذه المواضع ، ليدركوا حقيقة ما نزل إليهم. فهو العزيز القوي الذي يفعل ما يريد. وهو الرحيم بعباده الذي يفعل بهم ما يفعل ، وهو يريد بهم الرحمة فيما يفعل.

فأما حكمة هذا التنزيل فهي الإنذار والتبليغ :

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) ..

والغفلة أشد ما يفسد القلوب. فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته. معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة. تمر به دلائل الهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها. ودون أن ينبض أو يستقبل. ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة التي كان فيها القوم ، الذين مضت الأجيال دون أن ينذرهم منذر ، أو ينبههم منبه. فهم من ذرية إسماعيل ولم يكن لهم بعده من رسول. فالإنذار قد يوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة ، الذين لم يأتهم ولم يأت آباءهم نذير.

ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين ؛ وعما نزل بهم من قدر الله ، وفق ما علم الله من قلوبهم ومن أمرهم. ما كان منه وما سيكون :

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ..

لقد قضي في أمرهم ، وحق قدر الله على أكثرهم ، بما علمه من حقيقتهم ، وطبيعة مشاعرهم. فهم لا يؤمنون. وهذا هو المصير الأخير للأكثرين. فإن نفوسهم محجوبة عن الهدى مشدودة عن رؤية دلائله أو استشعارها.

وهنا يرسم مشهدا حسيا لهذه الحالة النفسية ، يصورهم كأنهم مغلولون ممنوعون قسرا عن النظر ، محال بينهم وبين الهدى والإيمان بالحواجز والسدود ، مغطى على أبصارهم فلا يبصرون :

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا. فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ..

إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم ، موضوعة تحت أذقانهم. ومن ثم فإن رؤوسهم مرفوعة قسرا ، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام! ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف!

وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحق والهدى بسد من أمامهم وسد من خلفهم ؛ فلو أرخي الشد فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود! وقد سدت عليهم سبيل الرؤية وأغشيت أبصارهم بالكلال!

ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع ، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلا عنيفا كهذا بينهم وبينه. وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي ، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع ، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك .. مشدودة عن الهدى قسرا وملفوتة عن الحق لفتا. وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك. وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود. وهو يصدع بالحجة ، ويدلي بالبرهان. وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ..

فلقد قضى الله فيهم بأمره ، بما علمه من طبيعة قلوبهم التي لا ينفذ إليها الإيمان. ولا ينفع الإنذار قلبا غير مهيأ للإيمان ، مشدود عنه ، محال بينه وبينه بالسدود. فالإنذار لا يخلق القلوب ، إنما يوقظ القلب الحي المستعد للتلقي :

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ..

والذكر يراد به هنا القرآن ـ على الأرجح ـ والذي اتبع القرآن ، وخشي الرحمن دون أن يراه ، هو الذي ينتفع بالإنذار ، فكأنه هو وحده الذي وجه إليه الإنذار. وكأنما الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد خصه به ، وإن كان قد عمم. إلا أن أولئك حيل بينهم وبين تلقيه ، فانحصر في من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب. وهذا يستحق التبشير بعد انتفاعه بالإنذار : (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) .. المغفرة عما يقع فيه من الخطايا غير مصر. والأجر الكريم على خشية الرحمن بالغيب ، واتباعه لما أنزل الرحمن من الذكر. وهما متلازمان في القلب. فما تحل خشية الله في قلب إلا ويتبعها العمل بما أنزل. والاستقامة على النهج الذي أراد.

وهنا يؤكد وقوع البعث ؛ ودقة الحساب ، الذي لا يفوته شيء :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ..

وإحياء الموتى هو إحدى القضايا التي استغرقت جدلا طويلا. وسيرد منه في هذه السورة أمثلة منوعة. وهو ينذرهم أن كل ما قدمت أيديهم من عمل ، وكل ما خلفته أعمالهم من آثار ، كلها تكتب وتحصى ، فلا يند منها شيء ولا ينسى. والله سبحانه هو الذي يحيي الموتى ، وهو الذي يكتب ما قدموا وآثارهم ، وهو الذي يحصي كل شيء ويثبته. فلا بد إذن من وقوع هذا كله على الوجه الذي يليق بكل ما تتولاه يد الله.

والإمام المبين. واللوح المحفوظ. وأمثالها. أقرب تفسير لها هو علم الله الأزلي القديم وهو بكل شيء محيط.

* * *

وبعد عرض قضية الوحي والرسالة ، وقضية البعث والحساب ، في هذه الصورة التقريرية ، يعود السياق ليعرضهما في صورة قصصية. تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ، فَقالُوا : إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا : رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. قالُوا : إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ

مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. قالُوا : طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) ..

ولم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية. وقد اختلفت فيها الروايات. ولا طائل وراء الجري مع هذه الروايات.

وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئا في دلالة القصة وإيحائها. ومن ثم أغفل التحديد ، ومضى إلى صميم العبرة ولبابها. فهي قرية أرسل الله إليها رسولين. كما أرسل موسى وأخاه هارون ـ عليهما‌السلام ـ إلى فرعون وملئه. فكذبهما أهل تلك القرية ، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله. وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد (فَقالُوا : إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) ..

هنا اعتراض أهل القرية عليهم بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات ..

(قالُوا : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) .. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) .. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) ..

وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك ، كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول. فقد كانوا يتوقعون دائما أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير .. أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير؟ كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها؟! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلئ بها الأسواق والبيوت؟!

وهذه هي سذاجة التصور والتفكير. فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة. وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية. وإن هنالك لسرا هائلا ضخما ، ولكنه يتمثل في الحقيقة البسيطة الواقعة. حقيقة إيداع إنسان من هؤلاء البشر الاستعداد اللدني الذي يتلقى به وحي السماء ، حين يختاره الله لتلقي هذا الوحي العجيب. وهو أعجب من أن يكون الرسول ملكا كما كانوا يقترحون!

والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية. وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي. النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به. وهم بشر. فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجا من الحياة يملكون هم أن يقلدوه.

ومن ثم كانت حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معروضة لأنظار أمته. وسجل القرآن ـ كتاب الله الثابت ـ المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها ، بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون. ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية. حتى خطرات قلبه سجلها القرآن في بعض الأحيان ، لتطلع عليها الأجيال وترى فيها قلب ذلك النبي الإنسان.

ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان!

ولقد قال أهل تلك القرية لرسلهم الثلاثة : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) .. وقصدوا أنكم لستم برسل .. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) .. مما تدعون أنه نزله عليكم من الوحي والأمر بأن تدعونا إليه. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) .. وتدعون أنكم مرسلون!

وفي ثقة المطمئن إلى صدقه ، العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل :

(قالُوا : رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ..

إن الله يعلم. وهذا يكفي وإن وظيفة الرسل البلاغ. وقد أدوه. والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون

لأنفسهم من تصرف. وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار. والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن الله ؛ فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله.

ولكن المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير ؛ ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى ؛ فتأخذهم العزة بالإثم ؛ ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد :

(قالُوا : إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

قالوا : إننا نتشاءم منكم ؛ ونتوقع الشر في دعوتكم ؛ فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم ، ولن ندعكم في دعوتكم : (لَنَرْجُمَنَّكُمْ ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

وهكذا أسفر الباطل عن غشمه ؛ وأطلق على الهداة تهديده ؛ وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة ، وعربد في التعبير والتفكير!

ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق :

(قالُوا : طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ..

فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة ؛ وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم. إنما هو معهم. مرتبط بنواياهم وأعمالهم ، متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا أو أن يجعلوه شرا. فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه ، ومن خلال اتجاهه ، ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح. أما التشاؤم بالوجوه ، أو التشاؤم بالأمكنة ، أو التشاؤم بالكلمات .. فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم!

وقالوا لهم : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟) ..

يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير؟

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) ..

تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير ؛ وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد ؛ وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!

* * *

تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل. وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى ؛ وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.

فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ، فكان له مسلك آخر وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة :

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ؛ قالَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) ..

إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة. فيها الصدق. والبساطة. والحرارة. واستقامة الإدراك.

وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه. وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتا ؛ ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور ؛ ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره. سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون. وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق ، وفي كفهم عن البغي ، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان. ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته. ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها ..

(قالَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ..

إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة ، وهو لا يطلب أجرا ، ولا يبتغي مغنما .. إنه لصادق. وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفا من الله؟ ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة؟ ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة؟ والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم ، وهو لا يجني من ذلك كسبا ، ولا يطلب منهم أجرا؟

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) .. (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ..

وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم. فهم يدعون إلى إله واحد. ويدعون إلى نهج واضح. ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض. فهم مهتدون إلى نهج سليم ، وإلى طريق مستقيم.

ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه ، ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم :

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

إنه تساؤل الفطرة الشاعرة بالخالق ، المشدودة إلى مصدر وجودها الوحيد .. (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي؟) وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر على النفس أول ما يخطر؟ إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها ، تتجه إليه أول ما تتجه ، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها. ولا تلتوي إلا بمؤثر آخر ليس من طبيعتها. والتوجه إلى الخالق هو الأولى ، وهو الأول ، وهو المتجه الذي لا يحتاج إلى عنصر خارج عن طبيعة النفس وانجذابها الفطري. والرجل المؤمن يحس هذا في قرارة نفسه ، فيعبر عنه هذا التعبير الواضح البسيط ، بلا تكلف ولا لف ولا تعقيد!

وهو يحس بفطرته الصادقة الصافية كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية. كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل. فيقول :

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

ويتساءل لم لا أعبد الذي فطرني ، والذي إليه المرجع والمصير؟ ويتحدث عن رجعتهم هم إليه. فهو خالقهم كذلك. ومن حقه أن يعبدوه.

ثم يستعرض المنهج الآخر المخالف للمنهج الفطري المستقيم. فيراه ضلالا بينا : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟) ..

وهل أضل ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه ، وينحرف إلى عبادة غير الخالق بدون ضرورة ولا دافع؟ وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلاله؟

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

والآن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الأخير في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين. لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل تكذيب :

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) ..

وهكذا ألقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة. وأشهدهم عليها. وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها. أو أنه لا يبالي بهم ماذا يقولون!

* * *

ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه. وإن كان لا يذكر شيئا من هذا صراحة. إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها ، وعلى القوم وما هم فيه ؛ ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق ، متبعا صوت الفطرة ، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل. نراه في العالم الآخر. ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة. تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد :

(قِيلَ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ. قالَ : يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ..

وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الآخرة. ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء. وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة. ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق. ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم. ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين.

ونرى الرجل المؤمن. وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة ، يذكر قومه طيب القلب رضي النفس ، يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة ، ليعرفوا الحق ، معرفة اليقين.

* * *

هذا كان جزاء الإيمان. فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره. فهو ضعيف ضعيف :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ. وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ..

ولا يطيل هنا في وصف مصرع القوم ، تهوينا لشأنهم ، وتصغيرا لقدرهم. فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم .. ويسدل الستار على مشهدهم البائس المهين الذليل!

* * *

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٦٨)

بعد الحديث في الدرس الأول عن المشركين الذين واجهوا دعوة الإسلام بالتكذيب ؛ والمثل الذي ضربه لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين ؛ وما انتهى إليه أمرهم (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) .. يبدأ الحديث في هذا الدرس بالتعميم في موقف المكذبين بكل ملة ودين ؛ ويعرض صورة البشرية الضالة على مدار القرون ، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين ، الذين يذهبون أمامهم ولا يرجعون إلا يوم الدين : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ..

ثم يأخذ في استعراض الآيات الكونية التي يمرون عليها معرضين غافلين ؛ وهي مبثوثة في أنفسهم وفيما حولهم وفي تاريخهم القديم .. وهم مع هذا لا يشعرون ؛ وإذا ذكروا لا يذكرون : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) .. وهم يستعجلون بالعذاب غير مصدقين : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وبمناسبة الاستعجال والتكذيب يستعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة يرون فيه مصيرهم الذي به يستعجلون ، كأنه حاضر تراه العيون.

* * *

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ! ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ..

والحسرة انفعال نفسي على حال مؤسفة لا يملك الإنسان شيئا حيالها ، سوى أن يتحسر وتألم نفسه. والله سبحانه وتعالى ـ لا يتحسر على العباد ؛ ولكنه يقرر أن حالة هؤلاء العباد مما يستحق حسرة المتحسرين! فهي حال بائسة مؤسفة تنتهي بأصحابها إلى شر وخيم وبلاء عظيم!

يا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة النجاة فيعرضون عنها ، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم لا يتدبرونها

ولا ينتفعون بها. ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين ؛ ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة ويسيئون الأدب مع الله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) ..

ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون ، على مدار السنين وتطاول القرون. لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر. ولكن العباد البائسين لا يتدبرون. وهم صائرون إلى ذات المصير. فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف؟!

إن الحيوان ليرجف حين يرى مصرع أخيه أمامه ؛ ويحاول أن يتوقاه قدر ما يستطيع. فما بال الإنسان يرى المصارع تلو المصارع ، ثم يسير مندفعا في ذات الطريق؟ والغرور يملي له ويخدعه عن رؤية المصير المطروق! وهذا الخط الطويل من مصارع القرون معروض على الأنظار ولكن العباد كأنهم عمي لا يبصرون!

وإذا كان الهالكون الذاهبون لا يرجعون إلى خلفائهم المتأخرين ، فإنهم ليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين ..

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ..

* * *

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ؛ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ، أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) ..

إنهم يكذبون الرسل ، ولا يتدبرون مصارع المكذبين ، ولا يدركون دلالة كونهم يذهبون ولا يرجعون. والرسل إنما يدعونهم إلى الله. وكل ما في الوجود حولهم يحدثهم عن الله ، ويدل عليه ويشهد بوجوده. وهذه هي الأرض القريبة منهم ، يرونها ميتة لا حياة فيها ، ولا ماء ينشئ الحياة ثم يرونها حية تنبت الحب ، وتزدان بالجنات من نخيل وأعناب ، وتتفجر فيها العيون ، فتجري بالحياة حيث تجري.

والحياة معجزة لا تملك يد البشر أن تجريها ؛ إنما هي يد الله التي تجري المعجزات ، وتبث روح الحياة في الموات. وإن رؤية الزرع النامي ، والجنان الوارفة ، والثمر اليانع ، لتفتح العين والقلب على يد الله المبدعة ، وهي تشق التربة عن النبتة المتطلعة للحرية والنور ، وتنضر العود المستشرف للشمس والضياء ، وتزين الغصن اللدن بالورق والثمار ، وتفتح الزهرة وتنضج الثمرة ، وتهيئها للجني والقطاف .. (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) .. ويد الله هي التي أقدرتهم على العمل ، كما أقدرت الزرع على الحياة والنماء! (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟).

ويلتفت عنهم بعد هذه اللمسة الرفيقة ليسبح الله الذي أطلع لهم النبت والجنان ، وجعل الزرع أزواجا ذكرانا وإناثا كالناس وكغيرهم من خلق الله الذي لا يعلمه سواه :

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) ..

وهذه التسبيحة تنطلق في أوانها وفي موضعها ؛ وترتسم معها حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود. حقيقة وحدة الخلق .. وحدة القاعدة والتكوين .. فقد خلق الله الأحياء أزواجا. النبات فيها كالإنسان. ومثل ذلك غيرهما .. (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). وإن هذه الوحدة لتشي بوحدة اليد المبدعة. التي توجد قاعدة التكوين مع اختلاف الأشكال والأحجام والأنواع والأجناس ، والخصائص والسمات ، في هذه الأحياء التي لا يعلم علمها إلا الله ..

ومن يدري فربما كانت هذه قاعدة الكون كله حتى الجماد! وقد أصبح معلوما أن الذرة ـ أصغر ما عرف من قبل من أجزاء المادة ـ مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربي ، سالب وموجب يتزاوجان ويتحدان! كذلك شوهدت ألوف من الثنائيات النجمية. تتألف من نجمين مرتبطين يشد بعضهما بعضا ، ويدوران في مدار واحد كأنما يوقعان على نغمة رتيبة!

* * *

تلك آية الأرض الميتة تنبثق فيها الحياة .. ومنها إلى آية السماء وما يتعلق بها من ظواهر يراها العباد رأي العين ، ويد الله تجريها بالخوارق المعجزات :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ..

ومشهد قدوم الليل ، والنور يختفي والظلمة تغشى .. مشهد مكرور يراه الناس في كل بقعة في خلال أربع وعشرين ساعة (فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب) وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعو إلى التأمل والتفكير.

والتعبير القرآني عن هذه الظاهرة ـ في هذا الموضع ـ تعبير فريد. فهو يصور النهار متلبسا بالليل ؛ ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون. ولعلنا ندرك شيئا من سر هذا التعبير الفريد حين نتصور الأمر على حقيقته. فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس تمر كل نقطة منها بالشمس ؛ فإذا هذه النقطة نهار ؛ حتى إذا دارت الأرض وانزوت تلك النقطة عن الشمس ، انسلخ منها النهار ولفها الظلام ـ وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام. فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) ..

والشمس تدور حول نفسها. وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها. إنما هي تجري. تجري فعلا. تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية! والله ـ ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها ـ يقول : إنها تجري لمستقر لها. هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه. ولا يعلم موعده سواه.

وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه. وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء ، لا يسندها شيء ، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم :

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ..

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ..

والعباد يرون القمر في منازله تلك. يولد هلالا. ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدرا. ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالا مقوسا كالعرجون القديم. والعرجون هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة.

والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة يدرك ظل التعبير القرآني العجيب : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) .. وبخاصة ظل ذلك اللفظ (الْقَدِيمِ). فالقمر في لياليه الأولى هلال. وفي لياليه الأخيرة هلال .. ولكنه في

الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وفتوة. وفي الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم ، ويكسوه شحوب وذبول. ذبول العرجون القديم! فليست مصادفة أن يعبر القرآن الكريم عنه هذا التعبير الموحي العجيب!

والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة. والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة ، لا ينجو من تأثرات واستجابات ، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال ؛ المدبرة للأجرام بذلك النظام. سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم. فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب ، واستجاشة الشعور ، وإثارة التدبر والتفكير.

وأخيرا يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة ، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق :

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ..

ولكل نجم أو كوكب فلك ، أو مدار ، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال. وهذه المسافات على بعدها ليست شيئا يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا. وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية. وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة! (أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل!).

وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع ـ حتى يأتي الأجل المعلوم ـ فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار ، ولا يزحمه في طريقه ، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبدا فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان!

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ..

وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطا سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.

وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل ، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة ، والكواكب السيارة. متناثرة في ذلك الفضاء ، سابحة في ذلك الخضم ، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح!!!

* * *

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ..

إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بني آدم! مناسبة في الشكل ، ومناسبة في الحركة ، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله ، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء.

وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها. بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبرا لو فتحوا قلوبهم للآيات.

ولعل الفلك المشحون المذكور هنا هو فلك نوح أبي البشر الثاني ؛ الذي حمل فيه ذرية آدم. ثم جعل الله لهم من مثله هذه السفن التي تمخر بهم العباب. وهؤلاء وهؤلاء حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه ؛ وتجعل الفلك يعوم على وجه الماء ، بحكم خواص الفلك ، وخواص الماء ، وخواص الريح أو البخار ، أو الطاقة المنطلقة من الذرة ، أو غيرها من القوى. وكلها من أمر الله وخلقه وتقديره.

(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) .. والسفينة في الخضم كالريشة في مهب الريح ، مهما ثقلت وضخمت وأتقن صنعها. وإلا تدركها رحمة الله فهي هالكة هالكة في لحظة من ليل أو نهار. والذين ركبوا البحار سواء عبروها في قارب ذي شراع أو في عابرة ضخمة للمحيط ، يدركون هول البحر المخيف ؛ وضآلة العصمة من خطره الهائل وغضبه الجبار. ويحسون معنى رحمة الله ؛ وأنها وحدها العاصم بين العواصف والتيارات في هذا الخلق الهائل الذي تمسك يد الرحمة الإلهية عنانه الجامح ، ولا تمسكه يد سواها في أرض أو سماء. وذلك حتى يقضي الكتاب أجله ، ويحل الموعد المقدور في حينه ، وفق ما قدره الحكيم الخبير : (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ..

* * *

ومع تلك الآيات الواضحات فالعباد في غفلة ، لا تتوجه أنظارهم ، ولا تستيقظ قلوبهم ؛ ولا يكفون عن سخريتهم وتكذيبهم ، واستعجالهم بالعذاب الذي ينذرهم به المرسلون :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) ..

إن تلك الآيات بذاتها لا تثير في قلوبهم التطلع والتدبر والحساسية والتقوى. وهي بذاتها كافية أن تثير في القلب المفتوح هزة ورعشة وانتفاضة ؛ وأن تخلطه بهذا الوجود. هذا الكتاب المفتوح الذي تشير كل صفحة من صفحاته إلى عظمة الخالق ، ولطيف تدبيره وتقديره. ولكن هؤلاء المطموسين لا يرونها. وإذا رأوها لا يتدبرونها. والله ـ لعظيم رحمته ـ لا يتركهم مع هذا بلا رسول ينذرهم ويوجههم ويدعوهم إلى رب هذا الكون وبارئ هذا الوجود. ويثير في قلوبهم الحساسية والخوف والتقوى ويحذرهم موجبات الغضب والعذاب ، وهي محيطة بهم ، من بين أيديهم ومن خلفهم ، إلا ينتبهوا لها يقعوا فيها في كل خطوة من خطواتهم. وتتوالى عليهم الآيات مضافة إلى الآيات الكونية التي تحيط بهم في حيثما يتجهون. ولكنهم مع هذا يظلون في عمايتهم سادرين :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ..

وإذا دعوا إلى إنفاق شيء من مالهم لإطعام الفقراء : قالوا ساخرين متعنتين :

(أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ؟) ..

وتطاولوا على من يدعونهم إلى البر والإنفاق قائلين :

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)!

وتصورهم للأمر على هذا النحو الآلي يشي بعدم إدراكهم لسنن الله في حياة العباد. فالله هو مطعم الجميع ،

وهو رازق الجميع. وكل ما في الأرض من أرزاق ينالها العباد هي من خلقه ، فلم يخلقوا هم لأنفسهم منها شيئا ، وما هم بقادرين على خلق شيء أصلا. ولكن مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد ؛ وفلاحة هذه الأرض ؛ وصناعة خاماتها ؛ ونقل خيراتها من مكان إلى مكان ، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان. كما اقتضت أن يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكاملة في هذه الأرض. وهذه الخلافة الكاملة في هذه الأرض. وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها ، إنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخرى قد تحقق ضرورات أساسية لخلافة الجنس الإنساني في الأرض ، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها!

وفي خلال هذا الخضم الواسع لحاجات الخلافة ومطالبها ، والمواهب والاستعدادات اللازمة لها ، وما يترتب على هذه وتلك من تداول للمنافع والأرزاق ، وتصارع وتضارب في الأنصبة والحظوظ .. في خلال هذا الخضم الواسع المترابط الحلقات لا في جيل واحد ، بل في أجيال متعددة قريبة وبعيدة ، ماضية وحاضرة ومستقبلة .. في خلال هذا الخضم تتفاوت الأرزاق في أيدي العباد .. ولكي لا ينتهي هذا التفاوت إلى إفساد الحياة والمجتمع ، بينما هو ناشئ أصلا من حركة الحياة لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض ، يعالج الإسلام الحالات الفردية الضرورية بخروج أصحاب الثراء عن قدر من مالهم يعود على الفقراء ويكفل طعامهم وضرورياتهم. وبهذا القدر تصلح نفوس كثيرة من الفقراء والأغنياء سواء. فقد جعله الإسلام زكاة. وجعل في الزكاة معنى الطهارة. وجعلها كذلك عبادة. وألف بها بين الفقراء والأغنياء في مجتمعه الفاضل الذي ينشئه على غير مثال.

فقولة أولئك المحجوبين عن إدراك حكمة الله في الحياة : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ؟) .. وتطاولهم على الداعين إلى الإنفاق بقولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. إن هو إلا الضلال المبين الحقيقي عن إدراك طبيعة سنن الله ، وإدراك حركة الحياة ، وضخامة هذه الحركة ، وعظمة الغاية التي تتنوع من أجلها المواهب والاستعدادات ، وتتوزع بسببها الأموال والأرزاق.

والإسلام يضع النظام الذي يضمن الفرص العادلة لكل فرد ، ثم يدع النشاط الإنساني المتنوع اللازم للخلافة في الأرض يجري مجراه النظيف. ثم يعالج الآثار السيئة بوسائله الواقية.

وأخيرا يجيء شكهم في الوعد ، واستهزاؤهم بالوعيد :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) ..

ووعد الله لا يستقدم لاستعجال البشر ؛ ولا يستأخر لرجائهم في تأخيره. فكل شيء عند الله بمقدار. وكل أمر مرهون بوقته المرسوم. إنما تقع الأمور في مواعيدها وفق حكمة الله الأزلية التي تضع كل شيء في مكانه ، وكل حادث في إبانه ، وتمضي في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه وفق النظام المقدر المرسوم في إمام مبين.

أما الرد على هذا السؤال المنكر فيجيء في مشهد من مشاهد القيامة يرون فيه كيف يكون ، لا متى يكون ..

* * *

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا : يا وَيْلَنا! مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ..

يسأل المكذبون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .. فيكون الجواب مشهدا خاطفا سريعا .. صيحة تصعق كل حي ، وتنتهي بها الحياة والأحياء :

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ..

فهي تأخذهم بغتة وهم في جدالهم وخصامهم في معترك الحياة ، لا يتوقعونها ولا يحسبون لها حسابا. فإذا هم منتهون. كل على حاله التي هو عليها. لا يملك أن يوصي بمن بعده. ولا يملك أن يرجع إلى أهله فيقول لهم كلمة .. وأين هم؟ إنهم مثله في أماكنهم منتهون!

ثم ينفخ في الصور فإذا هم ينتفضون من القبور. ويمضون سراعا ، وهم في دهش وذعر يتساءلون : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟). ثم تزول عنهم الدهشة قليلا ، فيدركون ويعرفون : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)! ثم إذا الصيحة الأخيرة. صيحة واحدة. فإذا هذا الشتيت الحائر المذهول المسارع في خطاه المدهوش. يثوب : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) .. وتنتظم الصفوف ، ويتهيأ الاستعراض في مثل لمح البصر ورجع الصدى. وإذا القرار العلوي في طبيعة الموقف ، وطبيعة الحساب والجزاء يعلن على الجميع :

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

وفي هذه السرعة الخاطفة التي تتم بها تلك المشاهد الثلاثة تناسق في الرد على أولئك الشاكين المرتابين في يوم الوعد المبين!

ثم يطوي السياق موقف الحساب مع المؤمنين ، ويعجل بعرض ما صاروا إليه من نعيم :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ. سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ..

إنهم مشغولون بما هم فيه من النعيم ، ملتذون متفكهون. وإنهم لفي ظلال مستطابة يستروحون نسيمها .. وعلى أرائك متكئين في راحة ونعيم هم وأزواجهم. لهم فيها فاكهة ولهم كل ما يشاءون ؛ وهم ملاك محقق لهم فيها كل ما يدعون. ولهم فوق اللذائذ التأهيل والتكريم : (سَلامٌ) .. يتلقونه من ربهم الكريم : (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ..

فأما الآخرون فلا يطوي السياق موقف حسابهم ، بل يعرضه ويبرز فيه التبكيت والتنكيل :

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ـ يا بَنِي آدَمَ ـ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ..

إنهم يتلقون التحقير والترذيل : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) .. انعزلوا هكذا بعيدا عن المؤمنين!

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ـ يا بَنِي آدَمَ ـ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ؟) ..

ونداؤهم هنا (يا بَنِي آدَمَ) .. فيه من التبكيت ما فيه. وقد أخرج الشيطان أباهم من الجنة ثم هم يعبدونه ، وهو لهم عدو مبين.

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) .. (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ..

واصل إليّ مؤد إلى رضاي.

فلم تحذروا عدوكم الذي أضل منكم أجيالا كثيرة .. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟).

وفي نهاية هذا الموقف العصيب المهين يعلن الجزاء الأليم ، في تهكم وتأنيب :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)!

ولا يقف المشهد عند هذا الموقف المؤذي ويطويه. بل يستطرد العرض فإذا مشهد جديد عجيب :

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..

وهكذا يخذل بعضهم بعضا ، وتشهد عليهم جوارحهم ، وتتفكك شخصيتهم مزقا وآحادا يكذب بعضها بعضا. وتعود كل جارحة إلى ربها مفردة ، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلما.

إنه مشهد عجيب رهيب تذهل من تصوره القلوب!

* * *

كذلك انتهى المشهد وألسنتهم معقودة وأيديهم تتكلم ، وأرجلهم تشهد ، على غير ما كانوا يعهدون من أمرهم وعلى غير ما كانوا ينتظرون. ولو شاء الله لفعل بهم غير ذلك ، ولأجرى عليهم من البلاء ما يريد .. ويعرض هنا نوعين من هذا البلاء لو شاء الله لأخذ بهما من يشاء :

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ، وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) ..

وهما مشهدان فيهما من البلاء قدر ما فيهما من السخرية والاستهزاء. السخرية بالمكذبين والاستهزاء بالمستهزئين ، الذين كانوا يقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) ..

فهم في المشهد الأول عميان مطموسون. ثم هم مع هذا العمى يستبقون الصراط ويتزاحمون على العبور ، ويتخبطون تخبط العميان حين يتسابقون! ويتساقطون تساقط العميان حين يسارعون متنافسين! (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) وهم في المشهد الثاني قد جمدوا فجأة في مكانهم ، واستحالوا تماثيل لا تمضي ولا تعود ؛ بعد أن كانوا منذ لحظة عميانا يستبقون ويضطربون!

وإنهم ليبدون في المشهدين كالدمى واللعب ، في حال تثير السخرية والهزء. وقد كانوا من قبل يستخفون بالوعيد ويستهزئون!

* * *

ذلك كله حين يحين الموعد الذي يستعجلون .. فأما لو تركوا في الأرض ، وعمروا طويلا وأمهلهم الوعد المرسوم بعض حين ؛ فإنهم صائرون إلى شر يحمدون معه التعجيل .. إنهم صائرون إلى شيخوخة وهرم ، ثم إلى خرف ونكسة في الشعور والتفكير :

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ. أَفَلا يَعْقِلُونَ) ..

والشيخوخة نكسة إلى الطفولة. بغير ملاحة الطفولة وبراءتها المحبوبة! وما يزال الشيخ يتراجع ، وينسى ما علم ، وتضعف أعصابه ، ويضعف فكره ، ويضعف احتماله ، حتى يرتد طفلا. ولكن الطفل محبوب اللثغة ، تبسم له القلوب والوجوه عند كل حماقة. والشيخ مجتوى لا تقال له عثرة إلا من عطف ورحمة ، وهو مثار السخرية كلما بدت عليه مخايل الطفولة وهو عجوز. وكلما استحمق وقد قوست ظهره السنون!

فهذه العاقبة كتلك تنتظر المكذبين ، الذين لا يكرمهم الله بالإيمان الراشد الكريم ..

* * *

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣)

في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة .. قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية. وقضية البعث والنشور .. تستعرض في مقاطع مفصلة. مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة. كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها. ويتمثل هذا المعنى مركزا في النهاية في الآية التي تختم السورة : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم. وهي خلقت الإنسان من نطفة. وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة. وهي جعلت من الشجر الأخضر نارا. وهي أبدعت السماوات والأرض. وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود .. وذلك قوام هذا المقطع الأخير ..

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ـ وَما يَنْبَغِي لَهُ ـ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) ..

وردت قضية الوحي في أول السورة : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ..) .. والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأنه شاعر ؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر.

وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك. وأن ما جاءهم به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قول غير معهود في لغتهم. وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر. إنما كان هذا طرفا من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أوساط الجماهير. معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر ، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه.

وهنا ينفي الله ـ سبحانه ـ أنه علم الرسول الشعر. وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم. فما يعلم أحد شيئا إلا ما يعلمه الله ..

ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) فللشعر منهج غير منهج النبوة. الشعر انفعال. وتعبير عن هذا الانفعال. والانفعال يتقلب من حال إلى حال. والنبوة وحي. على منهج ثابت. على صراط مستقيم. يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله. ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة ، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال.

والنبوة اتصال دائم بالله ، وتلق مباشر عن وحي الله ، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. بينما الشعر ـ في أعلى صوره ـ أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته. فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد ، وفورة لحم ودم! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس. هذه ـ في أعلى صورها ـ أشواق تصعد من الأرض. وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء ..

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) ..

ذكر وقرآن .. وهما صفتان لشيء واحد. ذكر بحسب وظيفته. وقرآن بحسب تلاوته. فهو ذكر لله يشتغل به القلب ، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان. وهو منزل ليؤدي وظيفة محدودة :

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) ..

ويضع التعبير القرآني الكفر في مقابل الحياة. فيجعل الكفر موتا ، ويجعل استعداد القلب للإيمان حياة. ويبين وظيفة هذا القرآن بأنه نزل على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لينذر من به حياة. فيجدي فيهم الإنذار ، فأما الكافرون فهم موتى لا يسمعون النذير ؛ وظيفة القرآن بالقياس إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب ، فإن الله لا يعذب أحدا حتى تبلغه الرسالة ثم يكفر عن بينة ويهلك بلا حجة ولا معذرة!

وهكذا يعلم الناس أنهم إزاء هذا القرآن فريقان : فريق يستجيب فهو حي. وفريق لا يستجيب فهو ميت. ويعلم هذا الفريق أن قد حق عليه القول ، وحق عليه العذاب!

* * *

والمقطع الثاني في هذا القطاع يعرض قضية الألوهية والوحدانية ، في اطار من مشاهدات القوم ، ومن نعم البارئ عليهم ، وهم لا يشكرون :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ؟ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ. فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ..

أو لم يروا؟ فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم ، ليست غائبة ولا بعيدة ، ولا غامضة تحتاج إلى تدبر

أو تفكير .. إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها. وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها ، وينتفعون بها منافع شتى .. وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره ؛ ومن إيداعه ما أودع من الخصائص في الناس وفي الأنعام ، فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها. وجعلها مذللة نافعة ملبية لشتى حاجات الإنسان. وما يملك الناس أن يصنعوا من ذلك كله شيئا. وما يملكون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له. وما يملكون أن يذللوا ذبابة لم يركب الله في خصائصها أن تكون ذلولا لهم! .. (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) ..

وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم. فإنه يحس لتوه أنه مغمور بفيض من نعم الله. فيض يتمثل في كل شيء حوله. وتصبح كل مرة يركب فيها دابة ، أو يأكل قطعة من لحم ، أو يشرب جرعة من لبن ، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن. أو يلبس ثوبا من شعر أو صوف أو وبر .. إلى آخره إلى آخره .. لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته. ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله ، وكل ما يستخدمه من حي أو جامد في هذا الكون الكبير. وتعود حياته كلها تسبيحا لله وحمدا وعبادة آناء الليل وأطراف النهار ..

ولكن الناس لا يشكرون. وفيهم من اتخذ مع هذا كله آلهة من دون الله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) : وفي الماضي كانت الآلهة أصناما وأوثانا ، أو شجرا أو نجوما ، أو ملائكة أو جنا .. والوثنية ما تزال حتى اليوم في بعض بقاع الأرض. ولكن الذين لا يعبدون هذه الآلهة لم يخلصوا للتوحيد. وقد يتمثل شركهم اليوم في الإيمان بقوى زائفة غير قوة الله ؛ وفي اعتمادهم على أسناد أخرى غير الله. والشرك ألوان ، تختلف باختلاف الزمان والمكان.

ولقد كانوا يتخذون تلك الآلهة يبتغون أن ينالوا بها النصر. بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد أو يصيبها بسوء ، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) .. وكان هذا غاية في سخف التصور والتفكير. غير أن غالبية الناس اليوم لم ترتق عن هذا السخف إلا من حيث الشكل. فالذين يؤلهون الطغاة والجبارين اليوم ، لا يبعدون كثيرا عن عباد تلك الأصنام والأوثان. فهم جند محضرون للطغاة. وهم الذين يدفعون عنهم ويحمون طغيانهم. ثم هم في الوقت ذاته يخرون للطغيان راكعين! إن الوثنية هي الوثنية في شتى صورها. وحيثما اضطربت عقيدة التوحيد الخالص أي اضطراب جاءت الوثنية ، وكان الشرك ، وكانت الجاهلية! ولا عصمة للبشرية إلا بالتوحيد الخالص الذي يفرد الله وحده بالألوهية. ويفرده وحده بالعبادة. ويفرده وحده بالتوجه والاعتماد. ويفرده وحده بالطاعة والتعظيم.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

الخطاب للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يواجه أولئك الذين اتخذوا من دون الله آلهة. والذين لا يشكرون ولا يذكرون. ليطمئن بالا من ناحيتهم. فهم مكشوفون لعلم الله. وكل ما يدبرونه وما يملكونه تحت عينه. فلا على الرسول منهم. وأمرهم مكشوف للقدرة القادرة. والله من ورائهم محيط ..

ولقد هان أمرهم بهذا. وما عاد لهم من خطر يحسه مؤمن يعتمد على الله. وهو يعلم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنهم في قبضته وتحت عينه وهم لا يشعرون!

* * *

والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ. قالَ : مَنْ يُحْيِ

الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ..

ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه. وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته ، ويشهده بعينه وحسه مكررا معادا. ثم لا ينتبه إلى دلالته ، ولا يتخذ منه مصداقا لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره ..

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ..

فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين ، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا .. خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل!

والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ـ وَنَسِيَ خَلْقَهُ ـ قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ..

يا للبساطة! ويا لمنطق الفطرة! ومنطق الواقع القريب المنظور!

وهل تزيد النطفة حيوية أو قدرة أو قيمة على العظم الرميم المفتوت؟ أو ليس من تلك النطفة كان الإنسان؟ أو ليست هذه هي النشأة الأولى؟ أو ليس الذي حول تلك النطفة إنسانا ، وجعله خصيما مبينا بقادر على أن يحول العظم الرميم مخلوقا حيا جديدا؟

إن الأمر أيسر وأظهر من أن يدور حوله سؤال. فما بال الجدل الطويل؟!

(قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ..

ثم يزيدهم إيضاحا لطبيعة القدرة الخالقة ، وصنعها فيما بين أيديهم وتحت أعينهم مما يملكون :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) ..

والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة! العجيبة التي يمرون عليها غافلين. عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء ، يحتك بعضه ببعض فيولد نارا ؛ ثم يصير هو وقود النار. بعد اللدونة والاخضرار .. والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها ، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة ؛ والتي تولد النار عند الاحتكاك ، كما تولد النار عند الاحتراق .. هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزا في الحس ووضوحا. والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه. والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي. فلا تكشف لنا عن أسرارها المعجبة. ولا تدلنا على مبدع الوجود. ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها ، ولعشنا معها في عبادة دائمة وتسبيح!

ثم يستطرد في عرض دلائل القدرة وتبسيط قضية الخلق والإعادة للبشر أجمعين :

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ..

والسماوات والأرض خلق عجيب هائل دقيق .. هذه الأرض التي نعيش عليها ويشاركنا ملايين الأجناس والأنواع ، ثم لا نبلغ نحن شيئا من حجمها ، ولا شيئا من حقيقتها ، ولا نعلم عنها حتى اليوم إلا القليل .. هذه الأرض كلها تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها .. وهذه الشمس واحدة من مائة مليون في المجرة الواحدة التي تتبعها شمسنا ، والتي تؤلف دنيانا القريبة! وفي الكون مجرات أخرى كثيرة. أو دنييات كدنيانا القريبة. عد الفلكيون حتى اليوم منها مائة مليون مجرة بمناظيرهم المحدودة. وهم في انتظار المزيد كلما أمكن تكبير المناظير والمراصد. وبين مجرتنا أو دنيانا والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مائة ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية تقدر بستة وعشرين مليون مليون من الأميال!) .. وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن أنه من نثارها كانت تلك الشموس. وهذا هو الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة!

تلك الشموس التي لا يحصيها العد. لكل منها فلك تجري فيه. ولمعظمها توابع ذات مدارات حولها كمدار الأرض حول الشمس .. وكلها تجري وتدور في دقة وفي دأب. لا تتوقف لحظة ولا تضطرب. وإلا تحطم الكون المنظور واصطدمت هذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسيع ..

هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد ، كأنها ذرات صغيرة. لا نحاول تصويره ولا تصوره .. فذلك شيء يدير الرؤوس!

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟).

وأين الناس من ذلك الخلق الهائل العجيب؟

(بَلى! وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ..

ولكن الله ـ سبحانه ـ يخلق هذا وذلك ويخلق غيرهما بلا كلفة ولا جهد. ولا يختلف بالقياس إليه خلق الكبير وخلق الصغير :

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ).

يكون هذا الشيء سماء أو أرضا. ويكون بعوضة أو نملة. هذا وذلك سواء أمام الكلمة .. كن .. فيكون! ليس هناك صعب ولا سهل. وليس هنالك قريب ولا بعيد .. فتوجه الإرادة لخلق الشيء كاف وحده لوجوده كائنا ما يكون. إنما يقرب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود.

* * *

وعند هذا المقطع يجيء الإيقاع الأخير في السورة. الإيقاع المصور لحقيقة العلاقة بين الوجود وخالق الوجود :

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

ولفظة ملكوت بصياغتها هذه تضخم وتعظم حقيقة هذه العلاقة. علاقة الملكية المطلقة لكل شيء في الوجود. والسيطرة القابضة على كل شيء من هذا المملوك.

ثم إن إليه وحده المرجع والمصير ..

إنه الإيقاع الختامي المناسب لهذه الجولة الهائلة ، وللسورة كلها ، ولموضوعاتها المتعلقة بهذه الحقيقة الكبيرة ، التي يندرج فيها كل تفصيل ..

* * *

(٣٧) سورة الصّافّات مكيّة

وآياتها ثنتان وثمانون ومائة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي

الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨)

هذه السورة المكية ـ كسابقتها ـ قصيرة الفواصل ، سريعة الإيقاع ، كثيرة المشاهد والمواقف ، متنوعة الصور والظلال ، عميقة المؤثرات ، وبعضها عنيف الوقع ، عنيف التأثير.

وهي تستهدف ـ كسائر السور المكية ـ بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله. ولكنها ـ بصفة خاصة ـ تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى. وتقف أمام هذه الصورة طويلا ؛ وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى .. تلك هي الصورة التي كانت

جاهلية العرب تستسيغها ، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله ـ سبحانه ـ وبين الجن. وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزاوج بين الله ـ تعالى ـ والجنة ولدت الملائكة. ثم تزعم أن الملائكة إناث ، وأنهن بنات الله!

هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة ؛ تكشف عن تهافتها وسخفها. ونظرا لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) .. ويتلوها حديث عن الشياطين المردة ، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كي لا يقربوا من الملأ الأعلى. ولا يتسمعوا لما يدور فيه ؛ ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة! كذلك يشبه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرؤوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ .. سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ!) ..

وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية. فتثبت فكرة التوحيد مستذلة بالكون المشهود : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) .. وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ؛ وَيَقُولُونَ : أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء. (وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) .. ثم تعرض بهذه المناسبة مشهدا مطولا فريدا من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجئات!

وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قولهم : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟) والرد عليهم : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) ..

وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم. تعرض سلسلة من قصص الرسل : نوح وإبراهيم وبنيه. وموسى وهارون. وإلياس. ولوط. ويونس. تتكشف فيها رحمة الله ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ..

وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل. قصة الذبح والفداء وتبرز فيها الطاعة والاستسلام لله في أروع صورها وأعمقها وأرفعها ؛ وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء.

* * *

والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها ، تتمثل بشكل واضح في :

مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) ..

وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة ، ومفاجآتها الفريدة ، وانفعالاتها القوية. والمشاهد التي تحويها هذه السورة

ذات طابع فريد حقا سنلمسه عند استعراضه تفصيلا في مكانه من السورة.

وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته. وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل ـ عليهما‌السلام ، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهز القلوب هزا عميقا عنيفا.

ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة وهو ذو طابع مميز يتفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة.

* * *

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط رئيسية :

الشوط الأول يتضمن افتتاح السورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة : والصافات صفا. فالزاجرات زجرا. فالتاليات ذكرا على وحدانية الله رب المشارق ، مزين السماء بالكواكب. ثم تجيء مسألة الشياطين وتسمعهم للملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة. يتلوها سؤال لهم : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أم تلك الخلائق : الملائكة والسماء والكواكب والشياطين والشهب؟ للتوصل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزئون بوقوعه. ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطول للبعث والحساب والنعيم والعذاب. وهو مشهد فريد ..

والشوط الثاني يبدأ بأن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السابقين ، الذين جاءتهم النذر فكان أكثرهم من الضالين. ويستطرد في قصص أولئك المنذرين من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس ؛ وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين.

والشوط الثالث يتحدث عن تلك الأسطورة التي مر ذكرها : أسطورة الجن والملائكة. ويقرر كذلك وعد الله لرسله بالظفر والغلبة : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) .. وينتهي بختام السورة بتنزيه الله سبحانه والتسليم على رسله والاعتراف بربوبيته : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. وهي القضايا التي تتناولها السورة في الصميم ..

والآن نأخذ في التفصيل :

* * *

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ، إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ..

والصافات والزاجرات والتاليات .. طوائف من الملائكة ذكرها هنا بأعمالها التي يعلمها. والتي يجوز أن تكون هي الصافات قوائمها في الصلاة ، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله. والزاجرات لمن يستحق الزجر من العصاة في أثناء قبض أرواحهم مثلا أو عند الحشر والسوق إلى جهنم أو في أية حالة وفي أي موضع. والتاليات للذكر .. القرآن أو غيره من كتب الله أو المسبحات بذكر الله.

يقسم الله سبحانه بهذه الطوائف من الملائكة على وحدانيته : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) .. ومناسبة هذا القسم ـ كما أسلفنا ـ هو تلك الأسطورة التي كانت شائعة في جاهلية العرب من نسبة الملائكة إلى الله ، واتخاذهم آلهة بما أنهم ـ بزعمهم ـ بنات الله!

ثم يعرف الله عباده بنفسه في صفته المناسبة للوحدانية :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ..

وهذه السماوات والأرض قائمة حيال العباد ؛ تحدثهم عن الخالق البارئ المدبر لهذا الملكوت الهائل ؛ الذي لا يدعي أحد أنه يملك خلقه وتدبيره ؛ ولا يملك أحد أن يهرب من الاعتراف لخالقه بالقدرة المطلقة والربوبية الحقة. (وَما بَيْنَهُما) .. من هواء وسحاب ، وضوء ونور ، ومخلوقات دقيقة يعرف البشر شيئا منها الحين بعد الحين ، ويخفى عليهم منها أكثر مما يكشف لهم!

والسماوات والأرض وما بينهما من الضخامة والعظمة والدقة والتنوع والجمال والتناسق بحيث لا يملك الإنسان نفسه أمامها ـ حين يستيقظ قلبه ـ من التأثر العميق ، والروعة البالغة ، والتفكر الطويل. وما يمر الإنسان بهذا الخلق العظيم من غير ما تأثر ولا تدبر إلا حين يموت قلبه ، فيفقد التأثر والاستجابة لإيقاعات هذا الكون الحافل بالعجائب.

(وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ..

ولكل نجم مشرق ، ولكل كوكب مشرق ، فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السماوات الفسيحة .. وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك. فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة ـ كما تتوالى المغارب ـ فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس كان هناك مشرق على هذا القطاع ، وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية. حتى إذا تحركت الأرض كان هناك مشرق آخر على القطاع التالي ومغرب آخر على القطاع المقابل له وهكذا .. وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم ؛ ولكن خبرهم بها الله في ذلك الزمان القديم!

وهذا النظام الدقيق في توالي المشارق على هذه الأرض. وهذا البهاء الرائع الذي يغمر الكون في مطالع المشارق .. كلاهما جدير بأن يوقع في القلب البشري من التأثرات الموحية ، ما يهتف به إلى تدبر صنعة الصانع المبدع ، وإلى الإيمان بوحدانية الخالق المدبر ، بما يبدو من آثار الصنعة الموحدة التي لا اختلاف في طابعها الدقيق الجميل.

تلك هي مناسبة ذكر هذه الصفة من صفات الله الواحد في هذا المقام. وسنرى أن ذكر السماء وذكر المشارق له مناسبة أخرى فيما يلي هذه الآيات من السورة. عند الحديث عن الكواكب والشهب والشياطين والرجوم ..

* * *

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

بعد ما مس في مطلع السورة شطر الأسطورة الخاص بالملائكة ، عاد يمس هنا شطرها الثاني وهو الخاص بالشياطين. وكانوا يزعمون أن بين الله وبين الجنة نسبا. وبعضهم كانوا يعبدون الشياطين على هذا الأساس. وعلى أساس أن الشياطين يعرفون الغيب لاتصالهم بالملأ الأعلى ..

وبعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما وذكر المشارق .. إما مشارق النجوم والكواكب. وإما المشارق المتوالية على قطاعات الأرض .. وإما هذه وتلك وأنوارها وأضوائها .. يجيء ذكر الكواكب :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) ..

ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ؛ ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون ؛ وأن

صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق ؛ وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي ؛ وأن تصميمه قائم على جمال التكوين كما هو قائم على كمال الوظيفة سواء بسواء. فكل شيء فيه بقدر ، وكل شيء فيه يؤدي وظيفته بدقة ؛ وهو في مجموعه جميل.

والسماء. وتناثر الكواكب فيها ، أجمل مشهد تقع عليه العين. ولا تمل طول النظر إليه. وكل نجمة توصوص بضوئها وكل كوكب يوصوص بنوره ؛ وكأنه عين محبة تخالسك النظر ؛ فإذا أنت حدقت فيها أغمضت وتوارت ؛ وإذا أنت التفت عنها أبرقت ولمعت! وتتبع مواقعها وتغير منازلها ليلة بعد ليلة وآنا بعد آن متعة نفسية لا تملها النفس أبدا!

ثم تقرر الآية التالية أن لهذه الكواكب وظيفة أخرى ، وأن منها شهبا ترجم بها الشياطين كي لا تدنو من الملأ الأعلى :

«وحفظا من كل شيطان مارد. لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب. إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب» ..

فمن الكواكب رجوم تحفظ السماء من كل شيطان عات متمرد وتذوده عن الاستماع إلى ما يدور في الملأ الأعلى ؛ فإذا حاول التسمع تلقفته الرجوم من كل جانب ، فتدحره دحرا ، وله في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع. ولقد يخطف الشيطان المارد خطفة سريعة مما يدور في الملأ الأعلى ، فيتبعه شهاب يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقا.

ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد ؛ ولا كيف يخطف الخطفة ؛ ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب. لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها ؛ ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها. وهل نعلم عن شيء في هذا الكون إلا القشور؟!

والمهم أن هذه الشياطين التي تمنع من الوصول إلى الملأ الأعلى ، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسبا ، ولو كان شيء من هذا صحيحا لتغير وجه المعاملة. ولما كان مصير الأنسباء والأصهار ـ بزعمهم ـ هو المطاردة والرجم والحرق أبدا!

* * *

وبعد ذكر الملائكة. وذكر السماوات والأرض وما بينهما. وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا. وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها .. يكلف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يسألهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق؟ وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها ، ويستبعدون وقوعها ، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ. بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ : وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟).

فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله. فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق؟

ولا ينتظر منهم جوابا ، فالأمر ظاهر ؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب. وغفلتهم عما حولهم ، والسخرية من تقديرهم للأمور. ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى. وهي طين رخو لزج

من بعض هذه الأرض ، التي هي إحدى تلك الخلائق :

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ..

فهم قطعا ليسوا أشد خلقا من تلك الخلائق! وموقفهم إذن عجيب. وهم يسخرون من آيات الله ، ومن وعده لهم بالبعث والحياة. وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم في موقفهم سادرون :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) ..

وحق لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يعجب من أمرهم. فإن المؤمن الذي يرى الله في قلبه كما يراه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويرى آيات الله واضحة هذا الوضوح ، كثيرة هذه الكثرة ، يعجب ـ لا شك ـ ويدهش كيف يمكن أن تعمى عنها القلوب؟ وكيف يمكن أن تقف منها هذا الموقف العجيب!

وبينهما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعجب منهم هذا العجب ، إذا هم يسخرون من القضية الواضحة التي يعرضها عليهم ، سواء في وحدانية الله ، أو في شأن البعث والنشور. وإذا هم مطموسون لا تتفتح قلوبهم للتذكير وإذا هم يتلقون آيات الله بالسخرية الشديدة ، والتعجيب ممن يريهم إياها ، واستدعاء أسباب السخرية وطلبها طلبا كما يوحي لفظ (يَسْتَسْخِرُونَ)!

ومن ذلك وصفهم القرآن بأنه سحر ، وعجبهم مما يعدهم به من البعث :

(وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) ..

لقد غفلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم ، وفي ذات أنفسهم. غفلوا عن آثار هذه القدرة في خلق السماوات والأرض وما بينهما ؛ وفي خلق الكواكب والشهب ؛ وفي خلق الملائكة والشياطين ؛ وفي خلقهم هم أنفسهم من طين لازب. غفلوا عن آثار القدرة في هذا كله ووقفوا يستبعدون على هذه القدرة أن تعيدهم إذا ماتوا وصاروا ترابا وعظاما ، هم وآباءهم الأولين! وما في هذا البعث والإعادة من غريب على تلك القدرة ولا بعيد ؛ لمن يتأمل هذا الواقع ويتدبره أقل تدبر ؛ في ضوء هذه المشاهدات التي تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم.

* * *

وإذ كانوا لا يتدبرون هذه المشاهدات في هوادة ويسر ، وفي طمأنينة وهدوء. فهو يوقظهم إذن بشدة وعنف ، على مشهدهم في الآخرة مبعوثين. ويصور لهم ذلك المشهد وهم فيه يضطربون (١) :

«قل : نعم وأنتم داخرون» ..

نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الأولون. ستبعثون وأنتم داخرون ، ذلولون ، مستسلمون. غير مستعصين ولا متأبين .. نعم .. ثم يدخل في استعراض ذلك كيف يكون. وإذا هم أمام مشهد من المشاهد المطولة المتعددة الجوانب. المتنوعة الأساليب. المزدحمة بالمناظر الحية والحركات المتتابعة. يلتقي فيها الوصف بالحوار. فتسير على نسق الحكاية فترة ، ثم تنتقل إلى نسق الحوار أخرى. ويتخلل عرض الأحداث والحركات تعليقات وتعقيبات عليها. وبذلك يستكمل المشهد كل سمات الحياة :

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) ..

__________________

(١) نستعير هنا في تفسير هذا المشهد صفحات من كتاب : «مشاهد القيامة في القرآن» نشر «دار الشروق» مع تصرف قليل.

هكذا في ومضة خاطفة بمقدار ما تنبعث صيحة واحدة. تسمى «زجرة» للدلالة على لون من الشدة فيها ، والعنف في توجيهها ، والاستعلاء في مصدرها .. «فإذا هم ينظرون» .. فجأة وبلا تمهيد أو تحضير. وإذا هم يصيحون مبهوتين :

«وقالوا : يا ويلنا. هذا يوم الدين» ..

وبينما هم في بهتتهم وبغتتهم إذا صوت يحمل إليهم التقريع من حيث لا يتوقعون :

«هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون» ..!

وهكذا ينتقل السياق من الخبر إلى الخطاب موجها لمن كانوا يكذبون بيوم الدين. وإن هي إلا تقريعة واحدة حاسمة. ثم يوجه الأمر إلى الموكلين بالتنفيذ :

«احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فأهدوهم إلى صراط الجحيم. وقفوهم إنهم مسؤولون».

احشروا الذين ظلموا ومن هم على شاكلتهم من المذنبين ، فهم أزواج متشاكلون .. وفي الأمر ـ على ما فيه من لهجة جازمة ـ تهكم واضح في قوله : «فاهدوهم إلى صراط الجحيم» .. فما أعجبها من هداية خير منها الضلال. وإنها لهي الرد المكافئ لما كان منهم من ضلال عن الهدى القويم. وإذ لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم ، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم!

وها هم أولاء قد هدوا. هدوا إلى صراط الجحيم. ووقفوا على استعداد للسؤال. وها هو ذا الخطاب يوجه إليهم بالتقريع في صورة سؤال بريء!

«ما لكم لا تناصرون؟»!

ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا ، وأنتم هنا جميعا؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر المعين؟! ومعكم آلهتكم التي كنتم تعبدون!

ولا جواب بطبيعة الحال ولا كلام! إنما يرد التعليق والتعقيب :

«بل هم اليوم مستسلمون» ..

عابدين. ومعبودين!!!

ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحكاية ، ويعرض مشهدهم يجادل بعضهم بعضا :

«وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قالوا : إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين» ..

أي كنتم توسوسون لنا عن يميننا ـ كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالبا ـ فأنتم مسؤولون عما نحن فيه.

وعندئذ ينبري المتهمون لتسفيه هذا الاتهام ، وإلقاء التبعة على موجهيه :

«قالوا : بل لم تكونوا مؤمنين» ..

فلم تكن وسوستنا هي التي أغوتكم بعد إيمان ، وأضلتكم بعد هدى ..

«وما كان لنا عليكم من سلطان» ..

نرغمكم به على قبول ما نراه ، ونضطركم إليه اضطرارا لا ترغبون فيه.

«بل كنتم قوما طاغين» ..

متجاوزين للحق ، ظالمين لا تقفون عند حد.

«فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون» ..

فاستحققنا نحن وأنتم العذاب ، وحق علينا الوعيد بأن نذوق العذاب.

وقد انزلقتم معنا بسبب استعدادكم للغواية ، وما فعلنا بكم إلا أنكم اتبعتمونا في غوايتنا :

«فأغويناكم إنا كنا غاوين» ..

وهنا يرد تعليق آخر ، وكأنه حكم يعلن على رؤوس الأشهاد ، يحمل أسبابه ، ويعرض ما كان منهم في الدنيا مما حقق قول الله عليهم في الآخرة :

«فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون. إنا كذلك نفعل بالمجرمين. إنهم كانوا إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ؛ ويقولون : أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون» ..

ثم يكمل التعليق متوجها فيه بالتأنيب والتقبيح لقائلي هذا الكلام المرذول :

«بل جاء بالحق وصدق المرسلين. إنكم لذائقو العذاب الأليم. وما تجزون إلا ما كنتم تعملون. إلا عباد الله المخلصين» ..

وعلى ذكر عباد الله المخلصين ـ الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين. ويعود العرض متبعا نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه ـ في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين ـ :

«أولئك لهم رزق معلوم. فواكه وهم مكرمون. في جنات النعيم. على سرر متقابلين. يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون. وعندهم قاصرات الطرف عين. كأنهن بيض مكنون ..».

وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم. نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس. وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم.

فهم ـ أولا ـ عباد الله المخلصون. وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم. وهم ـ ثانيا ـ «مكرمون» في الملأ الأعلى. ويا له من تكريم! ثم إن لهم «فواكه» وهم على «سرر متقابلين». وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئا من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم : «يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون» .. وتلك أجمل أوصاف الشراب ، التي تحقق لذة الشراب ، وتنفي عقابيله. فلا خمار يصدع الرؤوس ، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع! «وعندهم قاصرات الطرف عين» حور حييات لا تمتد أبصارهن إلى غير أصحابهن حياء وعفة ، مع أنهن «عين» واسعات جميلات العيون! وهن كذلك مصونات مع رقة ولطف ونعومة : «كأنهن بيض مكنون» .. لا تبتذله الأيدي ولا العيون!

ثم يمضي في الحكاية المصورة ؛ فإذا عباد الله المخلصون هؤلاء ـ بعد ما يسرت لهم كل ألوان المتاع ـ ينعمون بسمر هادئ ، يتذاكرون فيه الماضي والحاضر ـ وذلك في مقابل التخاصم والتلاحي الذي يقع بين المجرمين في أول المشهد ـ وإذا أحدهم يستعيد ماضيه ، ويقص على إخوانه طرفا مما وقع له :

«قال قائل منهم : إني كان لي قرين. يقول : أإنك لمن المصدقين. أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون؟» ..

لقد كان صاحبه وقرينه ذاك يكذب باليوم الآخر ، ويسائله في دهشة : أهو من المصدقين بأنهم مبعوثون

فمحاسبون بعد إذ هم تراب وعظام؟!

وبينما هو ماض في قصته يعرضها في سمره مع إخوانه ، يخطر له أن يتفقد صاحبه وقرينه ذاك ليعرف مصيره. وهو يعرف بطبيعة الحال أنه قد صار إلى الجحيم. فيتطلع ويدعو إخوانه إلى التطلع معه :

قال : «هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم» ..

عندئذ يتوجه إلى قرينه الذي وجده في وسط الجحيم. يتوجه إليه ليقول له : يا هذا. لقد كدت توردني موارد الردى بوسوستك. لولا أن الله قد أنعم علي ، فعصمني من الاستماع إليك :

«قال : تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين» ..

أي لكنت من الذين يساقون إلى الموقف وهم كارهون.

وتثير رؤيته لقرينه في سواء الجحيم شعوره بجزالة النعمة التي نالها هو وإخوانه من عباد الله المخلصين. فيحب أن يؤكدها ويستعرضها ، ويطمئن إلى دوامها ، تلذذا بها وزيادة في المتاع بها فيقول :

«أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى؟ وما نحن بمعذبين؟ إن هذا لهو الفوز العظيم» ..

وهنا يرد تعليق يوقظ القلوب ويوجهها إلى العمل والتسابق لمثل هذا المصير :

«لمثل هذا» النعيم الذي لا يدركه فوت ، ولا يخشى عليه من نفاد ، ولا يعقبه موت ، ولا يتهدده العذاب. لمثل هذا فليعمل العاملون .. فهذا هو الذي يستحق الاحتفال. وما عداه مما ينفق فيه الناس أعمارهم على الأرض زهيد زهيد حين يقاس إلى هذا الخلود.

ولكي يتضح الفارق الهائل بين هذا النعيم الخالد الآمن الدائم الراضي ؛ والمصير الآخر الذي ينتظر الفريق الآخر. فإن السياق يستطرد إلى ما ينتظر هذا الفريق بعد موقف الحشر والحساب الذي ورد في مطلع المشهد الفريد :

«أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم! إنا جعلناها فتنة للظالمين. إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون. ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم. ثم إن مرجعهم لإلي الجحيم» ..

أذلك النعيم المقيم خير منزلا ومقاما أم شجرة الزقوم؟

وما شجرة الزقوم؟

«إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين» ..

والناس لا يعرفون رؤوس الشياطين كيف تكون! ولكنها مفزعة ولا شك. ومجرد تصورها يثير الفزع والرعب. فكيف إذا كانت طلعا يأكلونه ويملأون منه البطون؟!

لقد جعل الله هذه الشجرة فتنة للظالمين. فحين سمعوا باسمها سخروا وقالوا : كيف تنبت شجرة في الجحيم ولا تحترق. وقال قائل منهم هو أبو جهل ابن هشام يسخر ويتفكه : «يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا : لا. قال : عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقما! ولكن شجرة الزقوم هذه شيء آخر غير ذلك الطعام الذي كانوا يعرفون!

«فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون» ..

فإذا شاكت حلوقهم وهي كرؤوس الشياطين ـ وحرقت بطونهم ـ وهي تنبت في أصل الجحيم ولا تحترق

لأنها من نوع الجحيم! ـ وتطلعوا إلى برد الشراب ينقع الغلة ويطفئ اللهيب. فإنهم لشاربون عليها ماء ساخنا مشوبا غير خالص : «ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم» ..

وبعد هذه الوجبة يغادرون تلك المائدة عائدين إلى مقرهم المقيم. ويا له من نزل! ويا له من معاد!

«ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم» ..

بذلك يختم المشهد الفريد. وينتهي الشوط الأول من السورة. وكأنما كان قطعة من الواقع المشهود.

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)

سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨)

في هذا الدرس يعود السياق من الجولة الأولى في ساحة الآخرة ، وفي مجالي النعيم ودارات العذاب ، يعود ليستأنف جولة أخرى في تاريخ البشر مع آثار الذاهبين الأولين ، يعرض فيها قصة الهدى والضلال منذ فجر البشرية الأولى ؛ فإذا هي قصة مكرورة معادة ؛ وإذا القوم الذين يواجهون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مكة بالكفر والضلال بقية من أولئك المكذبين الضالين. ويكشف لهؤلاء عما جرى لمن كان قبلهم ، ويلمس قلوبهم بهذه الصفحات المطوية في بطون التاريخ. ويطمئن المؤمنين برعاية الله التي لم تتخل في الماضي عن المؤمنين.

وفي هذا السياق يستعرض طرفا من قصص نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل وإسحاق ، وموسى وهارون ، وإلياس ، ولوط ، ويونس .. ويقف وقفة أطول أمام قصة إبراهيم وإسماعيل. يعرض فيها عظمة الإيمان والتضحية والطاعة ، وطبيعة الإسلام الحقيقية كما هي في نفسي إبراهيم وإسماعيل ، في حلقة لا تعرض في غير هذه السورة ، ولا ترد إلا في هذا السياق .. وهذا القصص هو قوام هذا الدرس الأصيل ..

* * *

«إنهم ألفوا آباءهم ضالين ، فهم على آثارهم يهرعون. ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين. ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين. إلا عباد الله المخلصين» ..

إنهم عريقون في الضلالة ، وهم في الوقت ذاته مقلدون لا يفكرون ولا يتدبرون ؛ بل يطيرون معجلين يقفون خطى آبائهم الضالين غير ناظرين ولا متعقلين :

«إنهم ألفوا آباءهم ضالين ، فهم على آثارهم يهرعون» ..

وهم وآباؤهم صورة من صور الضلال التي يمثلها أكثر الأولين :

«ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين».

وكان ضلالهم بعد الإنذار والتحذير :

«ولقد أرسلنا فيهم منذرين» ..

ولكن كيف كانت العاقبة؟ كيف كانت عاقبة المكذبين؟ وكيف كانت عاقبة عباد الله المخلصين؟ إنها معروضة في سلسلة القصص. وهذا الإعلان في مقدمتها للتنبيه :

«فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ، إلا عباد الله المخلصين» ..

* * *

ويبدأ بقصة نوح في إشارة سريعة تبين العاقبة ، وتقرر عناية الله بعباده المخلصين :

«ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم. وجعلنا ذريته هم الباقين. وتركنا عليه في الآخرين ، سلام على نوح في العالمين. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين. ثم أغرقنا الآخرين».

وتتضمن هذه الإشارة توجه نوح بالنداء إلى ربه ، وإجابة دعوته إجابة كاملة وافية. إجابتها من خير مجيب. الله سبحانه. «فلنعم المجيبون». وتتضمن نجاته هو وأهله من الكرب العظيم. كرب الطوفان الذي لم ينج منه إلا من أراد له الله النجاة وقدر له الحياة .. وتتضمن قدر الله بأن يجعل من ذرية نوح عمارا لهذه الأرض وخلفاء. وأن يبقى ذكره في الأجيال الآتية إلى آخر الزمان : «وتركنا عليه في الآخرين» ... وتعلن في الخافقين سلام الله على نوح. جزاء إحسانه : «سلام على نوح في العالمين. إنا كذلك نجزي المحسنين» .. وأي جزاء بعد سلام الله. والذكر الباقي مدى الحياة! أما مظهر الإحسان وسبب الجزاء فهو الإيمان : «إنه من عبادنا المؤمنين» .. وهذه هي عاقبة المؤمنين .. فأما غير المؤمنين من قوم نوح فقد كتب الله عليهم الهلاك والفناء : «ثم أغرقنا الآخرين» .. ومضت سنة الله منذ فجر البشرية البعيد. وفق ذلك الإجمال في مقدمة القصص : «ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين. إلا عباد الله المخلصين» ..

* * *

ثم تجيء قصة إبراهيم. تجيء في حلقتين رئيسيتين : حلقة دعوته لقومه ، وتحطيم الأصنام ، وهمهم به

ليقتلوه ، وحماية الله له وخذلان شانئيه ـ وهي حلقة تكررت من قبل في سور القرآن ـ وحلقة جديدة لا تعرض في غير هذه السورة. وهي الخاصة بحادث الرؤيا والذبح والفداء ، مفصلة المراحل والخطوات والمواقف ، في أسلوبها الأخاذ وأدائها الرهيب! ممثلة أعلى صور الطاعة والتضحية والفداء والتسليم في عالم العقيدة في تاريخ البشرية الطويل.

«وإن من شيعته لإبراهيم. إذ جاء ربه بقلب سليم. إذ قال لأبيه وقومه : ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟» ..

هذا هو افتتاح القصة ، والمشهد الأول فيها .. نقلة من نوح إلى إبراهيم. وبينهما صلة من العقيدة والدعوة والطريق. فهو من شيعة نوح على تباعد الزمان بين الرسولين والرسالتين ؛ ولكنه المنهج الإلهي الواحد ، الذي يلتقيان عنده ويرتبطان به ويشتركان فيه.

ويبرز من صفة إبراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير :

«إذ جاء ربه بقلب سليم» ..

وهي صورة الاستسلام الخالص. تتمثل في مجيئه لربه. وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه. والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله ، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم. ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة ، والإخلاص والاستقامة .. إلا أنه يبدو بسيطا غير معقد ، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد.

وبهذا القلب السليم ، استنكر ما عليه قومه واستبشعه. استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك :

«إذ قال لأبيه وقومه : ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟ .. وهو يراهم يعبدون أصناما وأوثانا. فيهتف بهم هتاف الفطرة السليمة في استنكار شديد. «ماذا تعبدون؟» ماذا؟ فإن ما تعبدون ليس من شأنه أن يعبد ، ولا أن يكون له عابدون! وما يعبده الإنسان في شبهة من حق. إنما هو الإفك المحض. والافتراء الذي لا شبهة فيه. فهل أنتم تقصدون إلى الإفك قصدا وإلى الافتراء عمدا : «أإفكا آلهة دون الله تريدون؟» وما هو تصوركم لله؟ وهل يهبط وينحرف إلى هذا المستوي الذي تنكره الفطرة لأول وهلة : «فما ظنكم برب العالمين؟» .. وهي كلمة يبدو فيها استنكار الفطرة السليمة البريئة ، وهي تطلع على الأمر البين الذي يصدم الحس والعقل والضمير.

ويسقط السياق هنا ردهم عليه ، وحوارهم معه ؛ ويمضي مباشرة في المشهد التالي إلى عزيمته التي قررها في نفسه تجاه هذا الإفك المكشوف :

«فنظر نظرة في النجوم. فقال : إني سقيم. فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال : ألا تأكلون؟ مالكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضربا باليمين» ..

ويروى أنه كان للقوم عيد ـ ربما كان هو عيد النيروز ـ يخرجون فيه إلى الحدائق والخلوات ، بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها. ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأخذون طعامهم المبارك! وأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بعد أن يئس من استجابتهم له ؛ وأيقن بانحراف فطرتهم الانحراف الذي لا صلاح له ، اعتزم أمرا. وانتظر هذا اليوم الذي يبعدون فيه عن المعابد والأصنام لينفذ ما اعتزم. وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه ، فلما دعي إلى مغادرة المعبد ، قلب نظره إلى السماء ، وقال : «إني

سقيم» .. لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات. فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق ـ وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح.

قال ذلك معبرا عن ضيقه وتعبه. وأفصح عنه ليتركوه وشأنه. ولم يكن هذا كذبا منه. إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم. وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه!

وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم في ذلك العيد ؛ فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره ، بل تولوا عنه مدبرين ، مشغولين بما هم فيه. وكانت هذه هي الفرصة التي يريد.

لقد أسرع إلى آلهتهم المدعاة. وأمامها أطايب الطعام وبواكير الثمار. فقال في تهكم : «ألا تأكلون؟» .. ولم تجبه الأصنام بطبيعة الحال. فاستطرد في تهكمه وعليه طابع الغيظ والسخرية : «ما لكم لا تنطقون؟» .. وهي حالة نفسية معهودة. أن يوجه الإنسان كلامه إلى ما يعلم حقيقته ، ويستيقن أنه لا يسمع ولا ينطق! إنما هو الضيق بما وراء الآلهة المزعومة من القوم وتصورهم السخيف! .. ولم تجبه الآلهة مرة أخرى!! وهنا أفرغ شحنة الغيظ المكتوم حركة لا قولا : «فراغ عليهم ضربا باليمين» .. وشفى نفسه من السقم والهم والضيق ...! وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد. وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع ، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء. يختصر هذا ليقفهم وجها لوجه أمام إبراهيم!

«فأقبلوا إليه يزفون» ..

لقد تسامعوا بالخبر ، وعرفوا من الفاعل ، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفا .. وهم جمع كثير غاضب هائج ، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد واضح التصور لإلهه. عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه ، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة ، المدخولة العقيدة ، المضطربة التصور. ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم! «قال : أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون؟» ..

إنه منطق الفطرة يصرخ في وجههم : «أتعبدون ما تنحتون؟» .. والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع : «والله خلقكم وما تعملون» .. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.

ومع وضوح هذا المنطق وبساطته ، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له ـ ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ ـ واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة :

«قالوا : ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم» ..

إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقا سواه ؛ عند ما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.

ويختصر السياق هنا ما حدث بعد قولتهم تلك ، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين :

«فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين» ..

وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل ـ من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء ـ إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟ ..

ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم .. لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه. لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم ، وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين ؛ ونجاه من كيدهم أجمعين.

عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة ؛ وطوى صفحة لينشر صفحة :

«وقال : إني ذاهب إلى ربي سيهدين» ..

هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض ، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففا من كل شيء ، طارحا وراءه كل شيء ، مسلما نفسه لربه لا يستبقي منها شيئا. موقن أن ربه سيهديه ، وسيرعى خطاه ، وينقلها في الطريق المستقيم.

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع ، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.

وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدا لا عقب له ؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى ، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته ، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :

«رب هب لي من الصالحين» ..

واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد ، الذي ترك وراءه كل شيء ، وجاء إليه بقلب سليم ..

«فبشرناه بغلام حليم».

هو إسماعيل ـ كما يرجح سياق السيرة والسورة ـ وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام. ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام ، الذي يصفه ربه بأنه حليم.

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم. بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم ..

«فلما بلغ معه السعي. قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ، فانظر ماذا ترى. قال : يا أبت افعل ما تؤمر : ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ..

يا لله! وبالروعة الإيمان والطاعة والتسليم ..

هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به ، وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ، ويرافقه في الحياة .. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟ إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم .. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحيا صريحا ، ولا أمرا مباشرا. ولكنها إشارة من ربه .. وهذا يكفي .. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن

يسأل ربه .. لما ذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب .. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب :

«قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى» ..

فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه!

والأمر شاق ـ ما في ذلك شك ـ فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته .. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده. يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه .. وهو ـ مع هذا ـ يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه. وينتهي. إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما ، لا قهرا واضطرارا. لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى ..

فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه :

«قال : يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني ـ إن شاء الله ـ من الصابرين» ..

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين ..

«يا أبت» .. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته.

«افعل ما تؤمر» .. فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه. يحس أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.

ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :

«ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ..

ولم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا .. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به : «ستجدني ـ إن شاء الله ـ من الصابرين» ..

يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان. ويا لنبل الطاعة. ويا لعظمة التسليم!

ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ :

«فلما أسلما وتله للجبين» ..

ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان ..

إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا. وقد وصل الأمر

إلى أن يكون عيانا.

لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.

إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان ، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر .. ليس هنا دم فائر ، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد ، العارف بما يفعل ، المطمئن لما يكون. لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!

وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل ، ويسيل دمه ، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله ، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما ..

كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا ، وقد حققوا التكليف ، وقد جازوا الامتحان بنجاح.

وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا :

«وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم» ..

قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلا. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة. وأنت ـ يا إبراهيم ـ قد فعلت. جدت بكل شيء. وبأعز شيء. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم. قيل : إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل!

وقيل له : «إنا كذلك نجزي المحسنين» .. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لما ذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا ، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!.

ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء ؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء ، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية. مستسلمة لا تقدم بين يديه ، ولا تتألى عليه ، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات

والآلام. واحتسبها لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها ..

«وتركنا عليه في الآخرين» ..

فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله له عقبا ونسبا إلى يوم الدين.

«سلام على إبراهيم» ..

سلام عليه من ربه. سلام يسجل في كتابه الباقي. ويرقم في طوايا الوجود الكبير.

«كذلك نجزي المحسنين» ..

كذلك نجزيهم بالبلاء .. والوفاء والذكر. والسّلام. والتكريم.

«إنه من عبادنا المؤمنين» ..

وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين.

ثم يتجلى عليه ربه بفضله مرة أخرى ونعمته فيهب له إسحاق في شخوخته. ويباركه ويبارك إسحاق. ويجعل إسحاق نبيا من الصالحين.

«وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى إسحاق» ..

وتتلاحق من بعدهما ذريتهما. ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج : فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد :

«ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين» ..

* * *

ومن ذريتهما موسى وهارون :

«ولقد مننا على موسى وهارون. ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم. ونصرناهم فكانوا هم الغالبين. وآتيناهما الكتاب المستبين. وهديناهما الصراط المستقيم. وتركنا عليهما في الآخرين. سلام على موسى وهارون. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنهما من عبادنا المؤمنين» ..

وهذه اللمحة من قصة موسى وهارون تعنى بإبراز منة الله عليهما باختيارهما واصطفائهما. وبنجاتهما وقومهما «من الكرب العظيم» الذي تفصله القصة في السور الأخرى. وبالنصر والغلبة على جلاديهم من فرعون وملئه. وبإعطائهما الكتاب الواضح المستبين. وهدايتهما إلى الصراط المستقيم. صراط الله الذي يهدي إليه المؤمنين. وبإيقاء ذكرهما في الأجيال الآتية والقرون الأخيرة وتنتهي هذه اللمحة بالسلام من الله على موسى وهارون. والتعقيب المتكرر في السورة لتقرير نوع الجزاء الذي يلقاه المحسنون ، وقيمة الإيمان الذي يكرم من أجله المؤمنون ..

* * *

وتعقب تلك اللمحة لمحة مثلها عن إلياس ، والأرجح أنه النبي المعروف في العهد القديم باسم إيلياء. وقد أرسل إلى قوم في سورية كانوا يعبدون صنما يسمونه بعلا. وما تزال آثار مدينة بعلبك تدل على آثار هذه العبادة.

«وإن إلياس لمن المرسلين. إذ قال لقومه ألا تتقون؟ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين. الله ربكم ورب آبائكم الأولين؟ فكذبوه فإنهم لمحضرون. إلا عباد الله المخلصين. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إلياسين. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين» ..

ولقد دعا إلياس قومه إلى التوحيد ، مستنكرا عبادتهم لبعل ، وتركهم «أحسن الخالقين» ربهم ورب آبائهم الأولين. كما استنكر إبراهيم عبادة أبيه وقومه للأصنام. وكما استنكر كل رسول عبادة قومه الوثنيين.

وكانت العاقبة هي التكذيب. والله سبحانه يقسم ويؤكد أنهم سيحضرون مكرهين ليلقوا جزاء المكذبين. إلا من آمن منهم واستخلصه الله من عباده فيهم.

وتختم اللمحة القصيرة عن إلياس تلك الخاتمة المكررة المقصودة في السورة ، لتكريم رسل الله بالسلام عليهم من قبله. ولبيان جزاء المحسنين. وقيمة إيمان المؤمنين.

وسيرة إلياس ترد هنا لأول مرة في مثل تلك اللمحة القصيرة. ونقف لنلم بالناحية الفنية في الآية : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) فقد روعيت الفاصلة وإيقاعها الموسيقي في إرجاع اسم إلياس بصيغة (إِلْ ياسِينَ) على طريقة القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير (١).

* * *

ثم تأتي لمحة عن قصة لوط. التي ترد في المواضع الأخرى تالية لقصة إبراهيم :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ..

وهي أشبه باللمحة التي جاءت عن قصة نوح. فهي تشير إلى رسالة لوط ونجاته مع أهله إلا امرأته. وتدمير المكذبين الضالين. وتنتهي بلمسة لقلوب العرب الذين يمرون على دار قوم لوط في الصباح والمساء ولا تستيقظ قلوبهم ولا تستمع لحديث الديار الخاوية. ولا تخاف عاقبة كعاقبتها الحزينة!

* * *

وتختم هذه اللمحات بلمحة عن يونس صاحب الحوت :

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ..

ولا يذكر القرآن أين كان قوم يونس. ولكن المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر. وتذكر الروايات أن يونس ضاق صدرا بتكذيب قومه. فأنذرهم بعذاب قريب. وغادرهم مغضبا آبقا. فقاده الغضب إلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة. وفي وسط اللجة ناوأتها الرياح والأمواج. وكان هذا إيذانا عند القوم بأن من بين الركاب راكبا مغضوبا عليه لأنه ارتكب خطيئة. وأنه لا بد أن يلقى في الماء لتنجو السفينة من الغرق. فاقترعوا على من يلقونه من السفينة. فخرج سهم يونس ـ وكان معروفا عندهم بالصلاح. ولكن سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر. أو ألقى هو نفسه. فالتقمه الحوت وهو (مُلِيمٌ) أي مستحق للوم ، لأنه تخلى عن المهمة التي أرسله الله بها ، وترك قومه مغاضبا قبل أن يأذن الله له. وعند ما أحس بالضيق في بطن الحوت سبح الله واستغفره وذكر أنه كان من الظالمين. وقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فسمع الله دعاءه واستجاب له. فلفظه الحوت. (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وقد خرج من بطن الحوت سقيما عاريا على الشاطئ. (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). وهو القرع. يظلله

__________________

(١) يراجع فصل التناسق الفني في كتاب : «التصوير الفني في القرآن» فقرة الإيقاع الموسيقي «دار الشروق».

بورقه العريض ويمنع عنه الذباب الذي يقال إنه لا يقرب هذه الشجرة. وكان هذا من تدبير الله ولطفه. فلما استكمل عافيته رده الله إلى قومه الذين تركهم مغاضبا. وكانوا قد خافوا ما أنذرهم به من العذاب بعد خروجه ، فآمنوا ، واستغفروا ، وطلبوا العفو من الله فسمع لهم ولم ينزل بهم عذاب المكذبين : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) وكانوا مائة ألف يزيدون ولا ينقصون. وقد آمنوا أجمعين (١).

وهذه اللمحة بسياقها هنا تبين عاقبة الذين آمنوا ، بجانب ما تبينه القصص السابقة من عاقبة الذين لا يؤمنون. فيختار قوم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إحدى العاقبتين كما يشاءون!!

وكذلك ينتهي هذا الشوط من السورة بعد تلك الجولة الواسعة على مدار التاريخ من لدن نوح ، مع المنذرين : المؤمنين منهم وغير المؤمنين ..

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

__________________

(١) تراجع القصة في سورة الأنبياء الجزء السابع عشر.

على ضوء ذلك القصص الذي سبق به الشوط الثاني في السورة ، وما اشتمل عليه من حقيقة الصلة بين الله وعباده ، ومن أخذه المكذبين بهذه الحقيقة ، الذين يعبدون غير الله أو يشركون معه بعض خلقه. وعلى ضوء تلك الحقيقة ذاتها كما تضمنها الدرس الأول في السورة .. يوجه في هذا الشوط الأخير من السورة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يناقش معهم تلك الأسطورة التي يزعمون فيها أن الملائكة بنات الله. والأسطورة الأخرى التي يزعمون فيها أن بينه ـ سبحانه ـ وبين الجنة نسبا. وأن يواجههم بما كانوا يقولونه قبل أن تأتيهم هذه الرسالة من تمنيهم أن يرسل الله فيهم رسولا ، ومن أنهم على استعداد للهدى لو جاءهم رسول. وكيف كفروا عند ما جاءهم الرسول .. وتختم السورة بتسجيل وعد الله لرسله أنهم هم الغالبون ، وبتنزيه الله سبحانه عما يصفون. والتوجه بالحمد لله رب العالمين ..

* * *

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

إنه يحاصر أسطورتهم في كل مساربها ؛ ويحاجهم بمنطقهم ومنطق بيئتهم التي يعيشون فيها. وهم كانوا يؤثرون البنين على البنات ؛ ويعدون ولادة الأنثى محنة ، ويعدون الأنثى مخلوقا أقل رتبة من الذكر. ثم هم هم الذين يدعون أن الملائكة إناث. وأنهم بنات الله!

فهو هنا يستطرد معهم وفق منطقهم ، ويأخذهم به ليروا مدى تهافت الأسطورة وسخفها حتى بمقاييسهم الشائعة :

(فَاسْتَفْتِهِمْ .. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ)؟

أإذا كان الإناث أقل رتبة كما يدعون ؛ جعلوا لربهم البنات واستأثروا هم بالبنين؟! أو اختار الله البنات وترك لهم البنين؟! إن هذا أو ذاك لا يستقيم! فاسألهم عن هذا الزعم المتهافت السقيم.

واستفتهم كذلك عن منشأ الأسطورة كلها. من أين جاءهم علم أن الملائكة إناث؟ وهل هم شهدوا خلقهم فعرفوا جنسهم؟

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟).

ويستعرض نص مقولتهم المفتراة الكاذبة على الله :

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ..

وهم كاذبون حتى بحكم عرفهم الشائع ومنطقهم الجاري في اصطفاء البنين على البنات. فكيف اصطفى الله البنات على البنين؟

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ)!

ويعجب من حكمهم الذي ينسون فيه منطقهم الجاري :

(ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟).

ومن أين تستمدون السند والدليل على الحكم المزعوم؟

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

والأسطورة الأخرى. أسطورة الصلة بينه ـ سبحانه ـ وبين الجنة :

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) ..

وكانوا يزعمون أن الملائكة هم بنات الله ـ بزعمهم ـ ولدتهم له الجنة! وذلك هو النسب والقرابة! والجن تعلم أنها خلق من خلق الله. وأنها محضرة يوم القيامة بإذن الله. وما هكذا تكون معاملة النسب والصهر!

وهنا ينزه ذاته سبحانه عن هذا الإفك المتهافت :

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) ..

ويستثنى من الجن الذين يحضرون للعذاب مكرهين تلك الطائفة المؤمنة. وقد كان في الجن مؤمنون ..

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ..

ثم يتوجه الخطاب إلى المشركين وما يعبدون من آلهة مزعومة ، وما هم عليه من عقائد منحرفة. يتوجه الخطاب إليهم ، من الملائكة كما يبدو من التعبير :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ. وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ).

أي إنكم وما تعبدون لا تفتنون على الله ولا تضلون من عباده إلا من هو محسوب من أهل الجحيم ، الذين قدر عليهم أن يصلوها. وما أنتم بقادرين على فتنة قلب مؤمن الفطرة محسوب من الطائعين. فللجحيم وقود من نوع معروف ، طبيعته تؤهله أن يستجيب للفتنة ؛ ويستمع للفاتنين.

ويرد الملائكة على الأسطورة ، بأن لكل منهم مقامه الذي لا يتعداه. فهم عباد من خلق الله. لهم وظائف في طاعة الله فهم يصفون للصلاة ، ويسبحون بحمد الله. ويقف كل منهم على درجة لا يتجاوز حده. والله هو الله.

* * *

ثم يعود للحديث عن المشركين الذين يطلقون هذه الأساطير ؛ فيعرض عهودهم ووعودهم ، يوم كانوا يحسدون أهل الكتاب على أنهم أهل كتاب ؛ ويقولون لو كان عندنا ذكر من الأولين ـ من إبراهيم أو من جاء بعده ـ لكنا على درجة من الإيمان يستخلصنا الله من أجلها ويصطفينا :

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ : لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ..

حتى إذا جاءهم ذكر هو أعظم ما جاء إلى هذه الأرض تنكروا لما كانوا يقولون :

(فَكَفَرُوا بِهِ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..

فالتهديد الخفي في قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هو اللائق بالكفر بعد التمني والوعود! وبمناسبة التهديد يقرر وعد الله لرسله بالنصر والغلبة :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) ..

والوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين. ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار. وذهبت سطوتهم ودولتهم ؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل. تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم. وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر

على البشر في أنحاء الأرض. وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل. باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها. وحقت كلمة الله لعباده المرسلين. إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون.

هذه بصفة عامة. وهي ظاهرة ملحوظة. في جميع بقاع الأرض. في جميع العصور.

وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة. إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل. ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله. والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. الوعد بالنصر والغلبة والتمكين.

هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية. سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة ؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء .. ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء. ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة. ولكنها لا تخلف أبدا ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!

ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله. ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى. فيكون ما يريده الله. ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون .. ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة. وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام. وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام.

ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء ؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر. ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم.

لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ).

* * *

وعند إعلان هذا الوعد القاطع ، وهذه الكلمة السابقة ، يأمر الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يتولى عنهم ، ويدعهم لوعد الله وكلمته ، ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة ، ويدعهم ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ..

فتول عنهم ، وأعرض ولا تحفلهم ؛ ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد الله فيك وفيهم وإذا كانوا يستعجلون بعذابنا ، فياويلهم يوم ينزل بهم. فإنه إذا نزل بساحة قوم صبحهم بما يسوء ، وقد قدم له النذير.

ويكرر الأمر بالإعراض عنهم والإهمال لشأنهم والتهديد الملفوف في ذلك الأمر المخيف : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) .. كما يكرر الإشارة إلى هول ما سيكون : (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) .. ويدعه مجملا يوحي بالهول المرهوب ..

* * *

ويختم السورة بتنزيه الله سبحانه واختصاصه بالعزة. وبالسلام من الله على رسله. وبإعلان الحمد لله الواحد .. رب العالمين بلا شريك ..

(سُبْحانَ رَبِّكَ ـ رَبِّ الْعِزَّةِ ـ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

وهو الختام المناسب لموضوعات السورة. الملخص للقضايا التي عالجتها السورة.

* * *

(٣٨) سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦)

هذه السورة مكية ، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد ، وقضية الوحي إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقضية الحساب في الآخرة. وتعريض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم إلى توحيد الله ؛ وإخبارهم بقصة الوحي واختياره

رسولا من عند الله : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ : أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) .. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب : (وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ..

لقد استكثروا أن يختار الله ـ سبحانه ـ رجلا منهم ، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد الله. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيبا على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) ساءلهم : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) .. ليقول لهم : إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض ، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء. وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير ، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد ، ولا حساب .. وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان ؛ وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك ، ومن تسخير الجبال والطير ، وتسخير الجن والريح ، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع.

وهما ـ مع هذا كله ـ بشر من البشر ؛ يدركهما ضعف البشر وعجز البشر ؛ فتتداركهما رحمة الله ورعايته ، وتسد ضعفهما وعجزهما ، وتقبل منهما التوبة والإنابة ، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله.

وجاء مع القصتين توجيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين ، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) .. إلخ» ..

كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء. وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع. وتصور حسن العاقبة ، وتداركه برحمة الله ، تغمره بفيضها ، وتمسح على آلامه بيدها الحانية .. وفي عرضها تأسية للرسو ل ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وللمؤمنين ، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة ؛ وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة ، تفيض من خزائن الله عند ما يشاء.

وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة ، ويؤلف الشوط الثاني منها.

كذلك تتضمن السورة ردا على استعجالهم بالعذاب ، وقولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) .. فيعرض بها ـ بعد القصص ـ مشهد من مشاهد القيامة ، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين. والجحيم التي تنتظر المكذبين. ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء. حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون ، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله ، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء. وبينما المتقون لهم حسن مآب (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ، مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) .. فإن للطاغين لشر مآب (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) .. وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون ، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين : (وَقالُوا : ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟) فإنهم لا يجدونهم في جهنم. وقد عرف أنهم هنالك في الجنان! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء!

وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة.

كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أمر الوحي. ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملأ الأعلى. حيث لم يكن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حاضرا ؛ إنما هو إخبار الله له بما كان ، مما لم يشهده ـ غير آدم ـ إنسان .. وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس ، وذهب به إلى الطرد واللعنة ، كان هو حسده لآدم ـ عليه‌السلام ـ واستكثاره أن يؤثره الله عليه ويصطفيه. كما أنهم هم يستكثرون على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يصطفيه الله من بينهم بتنزيل الذكر ؛ ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين!

وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها ؛ بقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم : إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده ، ولا يطلب عليه أجرا ، وإن له شأنا عظيما سوف يتجلى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ..

* * *

هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى ؛ تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين ، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين ، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ. إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) ..

تعرض على القلب البشري هذه الصفحة. صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين. ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين ، في قصص داود وسليمان وأيوب.

هذا وذلك في واقع الأرض .. ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان. وصور الجحيم والغضب. حيث يرى لونا آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء. بعد ما لقياه في دار الفناء ..

والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول ، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار. وهم غافلون.

كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض. وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض. فهذا من ذلك : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) .. وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة ..

والآن نأخذ في التفصيل ..

* * *

(ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ، فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ..

هذا الحرف .. «صاد» يقسم به الله سبحانه كما يقسم بالقرآن ذي الذكر. وهذا الحرف من صنعة الله تعالى. فهو موجده. موجده صوتا في حناجر البشر ؛ وموجده حرفا من حروف الهجاء التي يتألف من جنسها التعبير القرآني. وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله. وهو متضمن صنعة الله

التي لا يملك البشر الإتيان بمثلها لا في القرآن ولا في غير القرآن. وهذا الصوت .. «صاد» .. الذي تخرجه حنجرة الإنسان ، إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع ، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات. وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية من جزئيات كيانهم القريب! ولو عقلوها ما دهشوا لوحي يوحيه الله لبشر يختاره منهم. فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات! (ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ..

والقرآن يشتمل الذكر كما يشتمل غيره من التشريع والقصص والتهذيب .. ولكن الذكر والاتجاه إلى الله هو الأول. وهو الحقيقة الأولى في هذا القرآن. بل إن التشريع والقصص وغيرهما إن هي إلا بعض هذا الذكر. فكلها تذكر بالله وتوجه القلب إليه في هذا القرآن. وقد يكون معنى ذي الذكر. أي المذكور المشهور. وهو وصف أصيل للقرآن :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) ..

وهذا الإضراب في التعبير يلفت النظر. فهو يبدو كأنه انقطاع عن الموضوع الأول. موضوع القسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. هذا القسم الذي لم يتم في ظاهر التعبير. لأن المقسم عليه لم يذكر واكتفى بالمقسم به ثم أخذ يتحدث بعده عن المشركين. وما هم فيه من استكبار ومن مشاقة. ولكن هذا الانقطاع عن القضية الأولى هو انقطاع ظاهري ، يزيد الاهتمام بالقضية التي تليه. لقد أقسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. فدل على أنه أمر عظيم ، يستحق أن يقسم به الله سبحانه. ثم عرض إلى جانب هذا استكبار المشركين ومشاقتهم في هذا القرآن. فهي قضية واحدة قبل حرف الإضراب (بَلِ) وبعده. ولكن هذا الالتفات في الأسلوب يوجه النظر بشدة إلى المفارقة بين تعظيم الله ـ سبحانه ـ لهذا القرآن ، واستكبار المشركين عنه ومشاقتهم فيه. وهو أمر عظيم!

وعقب على الاستكبار والمشاقة ، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم ، ممن كذبوا مثلهم ، واستكبروا استكبارهم ، وشاقوا مشاقتهم. ومشهدهم وهم يستغيثون فلا يغاثون ، وقد تخلى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذلة ، وتخلوا عن الشقاق ولجأوا إلى الاستعطاف. ولكن بعد فوات الأوان :

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ، فَنادَوْا ، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)!

فلعلهم حين يتملون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم ؛ وأن يرجعوا عن شقاقهم. وأن يتمثلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون. ينادون ويستغيثون. وفي الوقت أمامهم فسحة ، قبل أن ينادوا ويستغيثوا ، ولات حين مناص. ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص!

يطرق قلوبهم تلك الطرقة ، ويوقع عليها هذا الإيقاع قبل أن يعرض تفصيل تلك العزة وهذا الشقاق .. ثم يفصل الأمر ويحكي ما هم فيه من عزة وشقاق :

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، وَقالَ الْكافِرُونَ : هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ! وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ : أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ. إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ..

هذه هي العزة : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) .. وذلك هو الشقاق : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ..؟) ..

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ..!) .. (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) .. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) .. إلخ

وقصة العجب من أن يكون الرسول بشرا قصة قديمة ، مكرورة معادة ، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات. وتكرر إرسال الرسل من البشر ؛ وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض :

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ..

وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم. بشرا يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون ؛ ويحس ما يعتلج في نفوسهم ، وما يشتجر في كيانهم ، وما يعانون من نقص وضعف ، وما يجدون من ميول ونزعات ، وما يستطيعون أولا يستطيعون من جهد وعمل ، وما يعترضهم من عوائق وعقبات ، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات ..

بشرا يعيش بين البشر ـ وهو منهم ـ فتكون حياته قدوة لهم ؛ وتكون لهم فيه أسوة. وهم يحسون أنه واحد منهم ، وأن بينهم وبينه شبها وصلة. فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه ، ويدعوهم لاتباعه. وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته ..

بشرا منهم. من جيلهم. ومن لسانهم. يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم. ويعرفون لغته ، ويفهمون عنه ، ويتفاهمون معه ، ويتجاوبون وإياه. ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه. أو اختلاف لغته. أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته.

ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون ، هو الذي كان دائما موضع العجب ، ومحط الاستنكار ، وموضوع التكذيب! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار ؛ كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة. وبدلا من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله. كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التي لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة! كانوا يريدونها مثلا خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي ، ولا تبصر في النور ، ولا تدرك في وضوح ، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس! وعندئذ يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة!

ولكن الله أراد للبشرية ـ وبخاصة في الرسالة الأخيرة ـ أن تعيش بهذه الرسالة عيشة طبيعية واقعية. عيشة طيبة ونظيفة وعالية ، ولكنها حقيقة في هذه الأرض. لا وهما ولا خيالا ولا مثلا طائرا في سماء الأساطير والأحلام! يعز على التحقيق ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام!

(وَقالَ الْكافِرُونَ : هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) ..

قالوا كذلك استبعادا لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم. وقالوه كذلك تنفيرا للعامة من محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتهويشا على الحق الواضح في حديثه ، والصدق المعروف عن شخصه.

والحق الذي لا مرية فيه أن كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي يعرفونه حق المعرفة : إنه ساحر وإنه كذاب! إنما كان هذا سلاحا من أسلحة التهويش والتضليل وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء ؛ ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثل في هذه العقيدة ؛ ويزلزل القيم الزائفة والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء!

ولقد نقلنا من قبل وننقل هنا واقعة الاتفاق بين كبراء قريش على استخدام حرب الدعاية ضد محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والحق الذي جاء به ، لحماية أنفسهم وأوضاعهم بين الجماهير في مكة. ولصد القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج ، عن الدين الجديد وصاحبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

قال ابن إسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ـ وكان ذا سن فيهم ـ وقد حضر الموسم. فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا. قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقل به. قال : بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا : نقول : كاهن. قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأين الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : مجنهون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا : فنقول : شاعر. قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر. قالوا : فنقول : ساحر. قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق (١) ، وإن فرعه لجناة (٢). وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس ـ حين قدموا الموسم ـ لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره ..

فذلك كان شأن الملأ من قريش في قولهم : ساحر كذاب. وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون. ويعرفون أنه لم يكن ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بساحر ولا كذاب!

وعجبوا كذلك من دعوته إياهم إلى عبادة الله الواحد. وهي أصدق كلمة وأحقها بالاستماع :

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟) إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم : أن امشوا واصبروا على آلهتكم ، إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق» ..

ويصور التعبير القرآني مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطرية القريبة .. (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟) كأنه الأمر الذي لا يتصوره متصور! (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) .. حتى البناء اللفظي (عُجابٌ) يوحي بشدة العجب وضخامته وتضخيمه!

كما يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير ، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة. وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئا غير ظاهرها ؛ وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور ، مدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء! (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) .. فليس هو الدين ، وليست هي العقيدة ، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة. شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه ، ولمن يحسنون فهم المخبآت وإدراك المناورات! وتنصرف هي إلى عادتها الموروثة ، وآلهتها المعروفة ، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة! فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها. فلتطمئن الجماهير ، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم!

إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة ، والبحث وراء الحقيقة ، وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة. ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة ، وخطر على الكبراء ، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير. وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل!

__________________

(١) العذق : الكثير الشعب والأطراف.

(٢) جناة : أي فيه ثمر يجنى.

ثم يموهون على الناس بظواهر العقيدة القريبة منهم. عقيدة أهل الكتاب. بعد ما دخلت إليها الأساطير التي حرفتها عن التوحيد الخالص فيقولون :

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ).

وكانت عقيدة التثليث قد شاعت في المسيحية. وأسطورة العزيز قد شاعت كذلك في اليهودية. فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون : «ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله. الذي جاء به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فما يقول إذن إلا اختلاقا!

ولقد حرص الإسلام حرصا شديدا على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على العقائد التي سبقته. حرص هذا الحرص لأن التوحيد حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله ؛ ويشهد بها هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة. ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشرية كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها.

ويحسن ونحن نستعرض مقاومة قريش لهذه العقيدة ودهشتها وعجبها من جعل الآلهة إلها واحدا. ومقاومة المشركين قبل قريش على مدار القرون ومدار الرسالات لهذه الحقيقة كذلك. وإصرار كل رسول عليها ، وقيام كل رسالة على أساسها. والجهد الضخم الذي بذل في إقرار هذه الحقيقة في نفوس البشر على مدار الزمان .. يحسن أن نتوسع قليلا في بيان قيمة هذه الحقيقة.

إنها حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها الوجود ، ويشهد بها كل ما في الوجود ..

إن وحدة النواميس الكونية التي تتحكم في هذا الكون الذي نراه واضحة ؛ وناطقة بأن الإرادة التي أنشأت هذه النواميس لا بد أن تكون واحدة .. وحيثما نظرنا إلى هذا الكون واجهتنا هذه الحقيقة ، حقيقة وحدة النواميس. وحدة تشي بوحدة الإرادة.

كل ما في هذا الكون في حركة دائمة منتظمة .. الذرة الصغيرة وهي الوحدة الأولى لكل ما في الكون من شيء ـ حي أو غير حي ـ في حركة مستمرة. فهي مؤلفة من الكترونات تتحرك حول النواة المؤلفة من بروتونات. كما تدور الكواكب حول الشمس في المجموعة الشمسية. وكما تدور المجرة المؤلفة من مجموعات شمسية ومن كتل سديمية حول نفسها .. واتجاه الدورة في الكواكب وفي الشمس وفي المجرة اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق. عكس دورة الساعة! (١).

والعناصر التي تتكون منها الأرض وبقية الكواكب السيارة واحدة. وعناصر النجوم هي كذلك من عناصر الأرض. والعناصر مؤلفة من ذرات. والذرات مؤلفة من الكترونات وبروتونات ونيوترونات .. كلها مؤلفة من هذه اللبنات الثلاث بلا استثناء ..

«وفي الوقت الذي ترد فيه المادة إلى ثلاث لبنات. يرد العلماء «القوى» إلى أصل واحد : الضوء والحرارة. الأشعة السينية ، الأشعة اللاسلكية ، الأشعة الجيمية. وكل إشعاع في الدنيا .. كلها صور متعددة لقوة واحدة. تلك القوة المغناطيسية الكهربائية. إنها جميعا تسير بسرعة واحدة ، وما اختلافها إلا اختلاف موجة.

«المادة ثلاث لبنات. والقوى موجات متأصلات.

«ويأتي أينشتين وفي نظريته النسبية الخاصة ، يكافئ بين المادة والقوى ؛ ويقول : إن المادة والقوى شيء

__________________

(١) عن كتاب : مع الله في السماء للدكتور أحمد زكي المدير السابق لجامعة القاهرة.

سواء. وتخرج التجارب تصدق دعواه. وخرجت تجربة أخيرة صدقت دعواه بأعلى صوت تسمعه الدنيا. ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليودينوتية.

«المادة والقوى إذن شيء سواء» (١).

هذه هي الوحدة في تكوين الكون كما عرفها الإنسان أخيرا في تجاربه المحسوسة .. وهناك الوحدة الظاهرة في نظام الكون كما أشرنا إلى قانون الحركة الدائبة. ثم هي الحركة المنظمة المنسقة التي لا يشذ فيها شيء في هذا الكون. ولا يضطرب فيها شيء .. توازن هذه الحركة في جميع الكائنات بحيث لا يعطل بعضها بعضا ولا يصدم بعضها بعضا. وأقرب مثل هذه الكواكب والنجوم والمجرات الضخمة التي تسبح في الفضاء : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) .. والتي تشهد بأن مجريها في هذا الفضاء ، المنظم لحركتها وأبعادها ومواقعها واحد لا يتعدد ، عارف بطبيعتها وحركتها. مقدر لهذا كله في تصميم هذا الكون العجيب.

ونكتفي بهذه اللمحة الخاطفة في تتبع حقيقة الوحدة التي ينطق بها نظام هذا الكون ويشهد بها كل ما فيه. وهي حقيقة لا يستقيم أمر هذه البشرية إلا عليها. فوضوح هذه الحقيقة في الضمير البشري ذو أهمية بالغة في تصور البشر للكون من حولهم ، ولموضعهم هم في هذا الكون ، ولعلاقتهم بكل ما فيه من أشياء وأحياء. ثم في تصورهم لله الواحد ولحقيقة ارتباطهم به ، وبما عداه ومن عداه في هذا الوجود .. وكل ذلك ذو أهمية بالغة في تكييف مشاعر البشر وتصورهم لكل شؤون الحياة.

والمؤمن بالله الواحد ، المدرك لمعنى هذه الوحدانية ، يكيف علاقته بربه على هذا الأساس ، ويضع علاقته بمن عدا الله وبما عداه ، في موضعها الذي لا تتعداه. فلا تتوزع طاقاته ومشاعره بين آلهة مختلفة الأمزجة! ولا بين متسلطين عليه غير الله ممن خلق الله!

والمؤمن بأن الله الواحد هو مصدر هذا الوجود الواحد يتعامل مع الوجود ومن فيه وما فيه على أساس من التعارف والتعاون والألفة والمودة ، يجعل للحياة طعما وشكلا غير ما لها في نفس من لا يؤمن بهذه الوحدة ، ولا يحسها بينه وبين كل ما حوله ومن حوله.

والمؤمن بوحدة الناموس الإلهي في الكون يتلقى تشريعات الله له وتوجيهاته تلقيا خاصا ، لينسق بين القانون الذي يحكم حياة البشر والناموس الذي يحكم الكون كله ؛ ويؤثر قانون الله ، لأنه هو الذي ينسق بين حركة البشر وحركة الكون العام.

وعلى الجملة فإن إدراك هذه الحقيقة ضروري لصلاح الضمير البشري واستقامته واستنارته وتصالحه مع الكون من حوله. وتنسيق حركته مع الحركة الكونية العامة. ووضوح الارتباطات بينه وبين خالقه. ثم بينه وبين الكون حوله. ثم بينه وبين كل ما في الكون من أحياء ومن أشياء! وما يتبع هذا من تأثرات أخلاقية وسلوكية واجتماعية وإنسانية عامة في كل مجال من مجالات الحياة (٢).

ومن ثم كان هذا الحرص على إقرار عقيدة التوحيد. وكان هذا الجهد الموصول المكرور مع كل رسالة وكل رسول. وكان هذا الإصرار من الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ على كلمة التوحيد بلا هوادة.

__________________

(١) كتاب : «مع الله في السماء» للدكتور أحمد زكي مدير جامعة القاهرة السابق.

(٢) أرجو أن يوفق الله إلى تفصيل هذا كله في كتاب : «فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان».

وفي القرآن الكريم يتضح الحرص والجهد والإصرار في تكرار عرض قضية التوحيد ومقتضياتها في السور المكية على وجه التخصيص وفي السور المدينة كذلك في صور تناسب طبيعة الموضوعات التي تعالجها السور المدنية.

وهذه هي الحقيقة التي كان المشركون يعجبون ذلك العجب من إصرار محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليها ويحاورونه فيها ويداورونه ، ويعجبون الناس منه ومنها ، ويصرفونهم عنها بكل وسيلة.

* * *

وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليكون رسولا :

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) ..

وما كان في هذا من غرابة. ولكنه كان الحسد. الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق.

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدث ، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض. لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرقوا .. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به كذلك! قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! فقام عنه الأخنس وتركه ..

فهو الحسد كما نرى. يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى ما لا مطمع فيه لطامع. وهو السر في قولة من كانوا يقولون :

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) ..

وهم الذين كانوا يقولون : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) .. يقصدون بالقريتين مكة والطائف ، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون ؛ الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين ، كلما سمعوا أن نبيا جديدا قد أطل زمانه. والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله ـ على علم ـ نبيه محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفتح له من أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين.

ويرد على تساؤلهم ذاك ردا تفوح منه رائحة التهكم والإنذار والتهديد :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) ..

إنهم يسألون : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا!) .. وهم في شك من الذكر ذاته ، لم تستيقن نفوسهم أنه من عند الله ؛ وإن كانوا يمارون في حقيقته ، وهو فوق المألوف من قول البشر مما يعرفون.

ثم يضرب عن قولهم في الذكر ، وعن شكهم فيه ، ليستقبل بهم تهديدا بالعذاب ، (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) .. وكأنما ليقول : إنهم يقولون ما يقولون لأنهم في منجاة بعد من العذاب ؛ فأما حين يذوقونه فلن يقولوا من هذا شيئا ، لأنهم حينئذ سيعرفون!

ثم يعقب على استكثارهم رحمة الله لمحمد في اختياره رسولا من بينهم ، بسؤالهم إن كانوا يملكون خزائن رحمة الله ، حتى يتحكموا فيمن يعطون ومن يمنعون :

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟) ..

ويندد بسوء أدبهم مع الله ، وتدخلهم فيما ليس من شأن العبيد. والله يعطي من يشاء ويمنع من يريد. وهو العزيز القادر الذي لا يملك أحد أن يقف لإرادته. وهو الوهاب الكريم الذي لا ينفد عطاؤه.

وهم يستكثرون على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يختاره الله. فبأي حق وبأية صفة يوزعون عطاء الله؟ وهم لا يملكون خزائن رحمته؟!

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟) ..

وهي دعوى لا يجرؤون على ادعائها. ومالك السماوات والأرض وما بينهما هو الذي يمنح ويمنع ، ويصطفي من يشاء ويختار. وإذ لم يكن لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فما بالهم يدخلون في شؤون المالك المتصرف فيما يملك بما يشاء؟

وعلى سبيل التهكم والتبكيت عقب على السؤال عما إذا كان لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما. بأنه إن كان الأمر كذلك (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) .. ليشرفوا على السماوات والأرض وما بينهما ، ويتحكموا في خزائن الله ؛ ويعطوا من يشاءون ويمنعوا من يشاءون. كما هو مقتضى اعتراضهم على اختيار الله المالك المتصرف فيما يملك بما يشاء!

ثم أنهى هذا الفرض التهكمي بتقرير حقيقتهم الواقعية :

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) ..

إنهم ما يزيدون على أن يكونوا جندا مهزوما ملقى (هُنالِكَ) بعيدا ؛ لا يقرب من تصريف هذا الملك وتدبير تلك الخزائن. ولا شأن له فيما يجري في ملك الله ؛ ولا قدره له على تغيير إرادة الله ؛ ولا قوة له على اعتراض مشيئة الله .. (جُنْدٌ ما) .. جند مجهول منكر هين الشأن ، (مَهْزُومٌ) .. كأن الهزيمة صفة لازمة له ، لا صقة به ، مركبة في كيانه! (مِنَ الْأَحْزابِ) .. المختلفة الاتجاهات والأهواء!

وما يبلغ أعداء الله ورسوله إلا أن يكونوا في هذا الموضع الذي تصوره ظلال التعبير القرآني ، الموحية بالعجز والضعف والبعد عن دائرة التصريف والتدبير .. مهما تبلغ قوتهم ، ويتطاول بطشهم ، ويتجبروا في الأرض فترة من الزمان.

ويضرب الله الأمثال لأولئك المتجبرين على مدار القرون ؛ فإذا هم (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ. أُولئِكَ الْأَحْزابُ).

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) ..

فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشا في التاريخ. قوم نوح. وعاد. وفرعون صاحب الأهرام التي تقوم في الأرض كالأوتاد. وثمود. وقوم لوط. وقوم شعيب أصحاب الأيكة ـ الغابة الملتفة ـ (أُولئِكَ الْأَحْزابُ)! الذين كذبوا الرسل. فماذا كان من شأنهم وهم طغاة بغاة متجبرون؟ .. (فَحَقَّ عِقابِ) .. وكان ما كان من أمرهم. وذهبوا فلم يبق منهم غير آثار تنطق بالهزيمة والاندحار!

ذلك كان شأن الأحزاب الغابرة في التاريخ .. فأما هؤلاء فمتروكون ـ في عمومهم ـ إلى الصيحة التي تنهي الحياة في الأرض قبيل يوم الحساب :

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ..

هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة. وهي المسافة بين الحلبتين! لأنها تجيء في موعدها المحدد ، الذي لا يستقدم ولا يستأخر. كما قدر الله لهذه الأمة الأخيرة أن ينظرها ويمهلها ، فلا يأخذها بالدمار والهلاك كما أخذ من قبل أولئك الأحزاب.

وكان هذا رحمة بهم من الله. ولكنهم لم يعرفوا قدر هذه الرحمة ، ولم يشكروا لله هذه المنة. فاستعجلوا جزاءهم ، وطلبوا أن يوفيهم الله حظهم ونصيبهم ، قبل اليوم الذي أنظرهم إليه :

(وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ..

وعند هذا الحد يتركهم السياق ويلتفت إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسليه عن حماقة القوم وسوء أدبهم مع الله ، واستعجالهم بالجزاء ، وتكذيبهم بالوعيد ، وكفرهم برحمة الله .. ويدعوه أن يذكر ما وقع للرسل قبله من ابتلاء. وما نالهم من رحمة الله بعد البلاء ..

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨)

هذا الدرس كله قصص وأمثلة من حياة الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ تعرض كي يذكرها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويدع ما يعانيه من قومه من تكذيب واتهام وتعجيب وافتراء ؛ ويصبر على ما يواجهونه به مما تضيق به الصدور.

وهذا القصص يعرض ـ في الوقت ذاته ـ آثار رحمة الله بالرسل قبله : وما أغدق عليهم من نعمة وفضل ، وما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام. وذلك ردا على عجب قومه من اختيار الله له. وما هو ببدع من الرسل. وفيهم من آتاه الله إلى جانب الرسالة الملك والسلطان ؛ وفيهم من سخر له الجبال يسبحن معه والطير ؛ وفيهم من سخر له الريح والشياطين .. كداود وسليمان .. فما وجه العجب في أن يختار الله محمدا الصادق لينزل عليه الذكر من بين قريش في آخر الزمان؟

كذلك يصور هذا القصص رعاية الله الدائمة لرسله ، وحياطتهم بتوجيهه وتأديبه. فقد كانوا بشرا ـ كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر ـ وكان فيهم ضعف البشر. وكان الله يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم ؛ إنما يبين لهم ويوجههم ، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم. وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى رعاية ربه له ، وحمايته وحياطته في كل خطوة يخطوها في حياته.

* * *

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ، إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) ..

(اصْبِرْ) .. إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل ـ عليهم صلوات الله ـ الطريق الذي يضمهم أجمعين. فكلهم سار في هذا الطريق. كلهم عانى. وكلهم ابتلي. وكلهم صبر. وكان الصبر هو زادهم جميعا وطابعهم جميعا. كل حسب درجته في سلم الأنبياء .. لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات ؛ مفعمة بالآلام ؛ وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكا للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء. وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال ..

ونستعرض حياة الرسل جميعا ـ كما قصها علينا القرآن الكريم ـ فنرى الصبر كان قوامها ، وكان العنصر البارز فيها. ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها ..

لكأنما كانت تلك الحياة المختارة ـ بل إنها لكذلك ـ صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية ، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات ؛ وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض ؛ وتتجرد من الشهوات والمغريات ؛ وتخلص لله وتنجح في امتحانه ، وتختاره على كل شيء سواه .. ثم لتقول للبشرية في النهاية : هذا هو الطريق. هذا هو الطريق إلى الاستعلاء ، وإلى الارتفاع. هذا هو الطريق إلى الله.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) .. وقد قالوا : (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) .. وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) .. وقالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) .. وغير ذلك كثير. والله يوجه نبيه إلى الصبر على ما يقولون. ويوجهه إلى أن يعيش بقلبه مع نماذج أخرى غير هؤلاء الكفار. نماذج مستخلصة كريمة. هم إخوانه من الرسل الذين كان يذكرهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويحسن بالقرابة الوثيقة بينه وبينهم ؛ ويتحدث عنهم حديث الأخوة والنسب والقرابة. وهو يقول .. رحم الله أخي فلانا .. أو أنا أولى بفلان.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ..

يذكر داود هنا بأنه ذو القوة. وبأنه أواب .. وقد جاء من قبل ذكر قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة .. وهم طغاة بغاة. كان مظهر قوتهم هو الطغيان والبغي والتكذيب. فأما داود فقد كان ذا قوة ، ولكنه كان أوابا ، يرجع إلى ربه طائعا تائبا عابدا ذاكرا. وهو القوي ذو الأيد والسلطان.

وقد مضى في سورة البقرة بدء قصة داود ، وظهوره في جيش طالوت ، في بني إسرائيل ـ من بعد موسى ـ إذ قالوا لنبي لهم : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. فاختار لهم طالوت ملكا. ولقي بهم عدوهم الجبار جالوت وجنوده. وقتل داود جالوت. وكان إذ ذاك فتى. ومنذ ذلك الحين ارتفع نجمه حتى ولي الملك أخيرا ؛ وأصبح ذا سلطان. ولكنه كان أوابا رجاعا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.

ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلبا ذاكرا وصوتا رخيما ، يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه. وبلغ من قوة استغراقه في الذكر ، ومن حسن حظه في الترتيل ، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون. وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها ، وتمجيدها له وعبادتها. فإذا الجبال تسبح معه ، وإذا الطير مجموعة عليه ، تسبح معه لمولاها ومولاه :

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) ..

ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ .. الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق ، حينما يخلو إلى ربه ، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره. والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده .. لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ ، إذ يخالف مألوفهم ، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان ، وجنس الطير ، وجنس الجبال!

ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة. وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات .. حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله : أحيائه وأشيائه جميعا. وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء ، فإن تلك الحاجز تنزاح ؛ وتناسح الحقيقة المجردة لكل منهم. فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة!

وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية ؛ وسخر الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا لله. وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان ، مع النبوة والاستخلاص.

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ. وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) ..

فكان ملكه قويا عزيزا. وكان يسوسه بالحكمة والحزم جميعا. وفصل الخطاب قطعه والجزم فيه برأي لا تردد فيه. وذلك مع الحكمة ومع القوة غاية الكمال في الحكم والسلطان في عالم الإنسان.

ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء ؛ وكانت عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه ، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه ، وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ؟ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ. قالُوا : لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ. وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ. إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ، فَقالَ : أَكْفِلْنِيها ، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ. قالَ : لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ـ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ـ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ..

وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك ، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك ، وللقضاء بين الناس. ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحا لله في المحراب. وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس.

وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه. ففزع منهم. فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين! فبادرا يطمئنانه. (قالُوا : لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ). وجئنا للتقاضي أمامك (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ). وبدأ أحدهما فعرض خصومته : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ. فَقالَ : أَكْفِلْنِيها) (أي اجعلها لي وفي ملكي وكفالتي) (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (أي شدد علي في القول وأغلظ).

والقضية ـ كما عرضها أحد الخصمين ـ تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا ، ولم يطلب إليه بيانا ، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم : (قالَ : لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) ـ (أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض) ـ (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) .. ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان : فقد كانا ملكين جاء للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس ، ليقضي بينهم بالحق والعدل ، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة .. ولكن القاضي عليه ألا يستثار ، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته ؛ فقد يتغير وجه المسألة كله ، أو بعضه ، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعا أو كاذبا أو ناقصا!

عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء :

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ..

وهنا أدركته طبيعته .. إنه أواب .. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ..

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) .. وخاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضا كبيرا. تتنزه عنه طبيعة النبوة. ولا يتفق إطلاقا مع حقيقتها. حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطا. وهي لا تصلح للنظر من الأساس. ولا تتفق مع قول الله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ..

والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة ؛ ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) ..

فهي الخلافة في الأرض ، والحكم بين الناس بالحق ، وعدم اتباع الهوى. واتباع الهوى ـ فيما يختص بني ـ هو السير مع الانفعال الأول ، وعدم التريث والتثبيت والتبيين .. مما ينتهي مع الاستطراد فيه إلى الضلال. أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل الله. وهو نسيان الله والتعرض للعذاب الشديد يوم الحساب.

ومن رعاية الله لعبده داود ، أنه نبهه عند أول لفتة. ورده عند أول اندفاعة. وحذره النهاية البعيدة. وهو لم يخط إليها خطوة! وذلك فضل الله على المختارين من عباده. فهم ببشريتهم قد تعثر أقدامهم أقل عثرة ، فيقيلها الله ، ويأخذ بيدهم ، ويعلمهم ، ويوفقهم إلى الإنابة ، ويغفر لهم ، ويغدق عليهم ، بعد الابتلاء ..

* * *

وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض ، وفي الحكم بين الناس .. وقبل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق .. يرد هذا الحق إلى أصله الكبير. أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما. أصله العريق في كيان هذا الكون كله. وهو أشمل من خلافة الأرض ، ومن الحكم بين الناس. وهو أكبر من هذه الأرض. كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا. إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة. ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة ، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..

وهكذا : في هذه الآيات الثلاث ، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة. بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها ..

إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلا ، ولم يقم على الباطل. إنما كان حقا وقام على الحق. ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق. الحق في خلافة الأرض. والحق في الحكم بين الخلق. والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم ؛ فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار. والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة ، التي لا يتصورها الكافرون ، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون ، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئا .. (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ..

إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون. وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس. وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي ، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف. وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ؛ وهو أمر عظيم إذن ، وشر كبير ، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق. فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود .. ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة ، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة!

وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب ..

* * *

وبعد هذا التعقيب المعترض في صلب القصة لكشف تلك الحقيقة الضخمة ، يمضي السياق يعرض نعمة الله على داود في عقبه وولده سليمان ؛ وما وهبه الله من ألوان الإنعام والإفضال. كما يعرض فتنته وابتلاءه ورعاية الله له ، وإغداقه عليه بعد الفتنة والابتلاء :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ. نِعْمَ الْعَبْدُ. إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ. فَقالَ : إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. رُدُّوها عَلَيَّ. فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ..

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة. وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان .. كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها. ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصورا يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه. ولم أجد أثرا صحيحا أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح. صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعا. ونصه : «قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأت. كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يقل : إن شاء الله. فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأت واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» .. وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال .. أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان ـ عليه‌السلام ـ استعرض خيلا له بالعشي. ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب. فقال ردوها عليّ. فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل الله .. وكلتا الروايتين لا دليل عليها. ويصعب الجزم بشيء عنها.

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئا عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن.

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان ـ عليه‌السلام ـ في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل. وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :

(قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ..

وأقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان ـ عليه‌السلام ـ أنه لم يرد به أثرة. إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة. فقد أراد به النوع. أراد به ملكا ذا خصوصية تميزه من كل ملك آخر يأتي بعده. وذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس.

وقد استجاب له ربه ، فأعطاه فوق الملك المعهود ، ملكا خاصا لا يتكرر :

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ).

وتسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله ؛ لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله. وهي مسخرة لإرادته تعالى ولا شك ، تجري بأمره وفق نواميسه ؛ فإذا يسر الله لعبد من عباده في فترة من الفترات أن يعبر عن إرادة الله سبحانه وأن يوافق أمره أمر الله فيها ؛ وأن تجري الريح رخاء حيث أراد ؛ فذلك أمر ليس على الله بمستبعد. ومثله يقع في صور شتى. والله سبحانه يقول في القرآن للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) ..

فما معنى هذا؟ معناه أنهم إذا لم ينتهوا فستتجه إرادتنا إلى تسليطك عليهم وإخراجهم من المدينة. وسيتم هذا بتوجيه إرادتك أنت ورغبتك إلى قتالهم وإخراجهم ؛ فتتم إرادتنا بهم عن طريقك. فهذا لون من توافق أمر الله ـ سبحانه ـ وأمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإرادة الله وأمره هما الأصيلان. وهما يتجليان في إرادة الرسول وأمره وفق ما أراد الله. وهذا يقرب إلينا معنى تسخير الريح لأمر سليمان ـ عليه‌السلام ـ تسخيرها لأمره المطابق لأمر الله في توجيه هذه الرياح ، الممثل لأمر الله المعبر عنه على كل حال.

كذلك سخر له الشياطين لتبني له ما يشاء ؛ وتغوص له في البحر والأرض في طلب ما يشاء. وأعطاه السلطة لعقاب المخالفين والمفسدين ممن سخرهم له وتكبيلهم بالأصفاد مقرونة أيديهم إلى أرجلهم. أو مقرنين اثنين اثنين أو أكثر في القيود عند الاقتضاء.

ثم قيل له : إنك مطلق اليد فيما وهب الله لك من سلطة ومن نعمة. تعطي من تشاء كيف تشاء. وتمسك عمن تشاء قدر ما تشاء :

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ..

وذلك زيادة في الإكرام والمنة. ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة :

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ..

وتلك درجة عظيمة من الرعاية والرضى والإنعام والتكريم.

* * *

ثم نمضي مع قصة الابتلاء والصبر ، والإنعام بعد ذلك والإفضال. نمضي في السياق مع قصة أيوب :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ. هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ..

وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة ؛ وهي تضرب مثلا للابتلاء والصبر. ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها. والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب ـ عليه‌السلام ـ كان كما جاء في القرآن عبدا صالحا أوّابا ؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا ، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا ولكنه ظل على صلته بربه ، وثقته به ، ورضاه بما قسم له.

وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له ـ ومنهم زوجته ـ بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه. وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عددا عينه ـ قيل مائة.

وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان ، ومداخله إلى نفوس خلصائه ، ووقع هذا الإيذاء في نفسه :

(أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) ..

فلما عرف ربه منه صدقه وصبره ، ونفوره من محاولات الشيطان ، وتأذيه بها ، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه ، ورد عليه عافيته .. إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ :

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ. هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) ..

ويقول القرآن الكريم :

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ..

وتقول بعض الروايات : إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم ، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات. وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين. وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية. مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك.

والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه وترضى نفوسهم بقضائه.

فأما قسمه ليضربن زوجه. فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به ، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده. فيضربها به ضربة واحدة. تجزئ عن يمينه ، فلا يحنث فيها :

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) ..

هذا التيسير ، وذلك الإنعام ، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء :

(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ ، إِنَّهُ أَوَّابٌ) ..

* * *

وبعد عرض هذه القصص الثلاثة بشيء من التفصيل ؛ ليذكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويصبر على ما يلاقيه. يجمل السياق الإشارة إلى مجموعة من الرسل. في قصصهم من البلاء والصبر ، ومن الإنعام والإفضال ، ما في قصص داود وسليمان وأيوب ـ عليهم‌السلام ـ ومنهم سابقون على هؤلاء معروف زمانهم. ومنهم من لا نعرف زمانه ، لأن القرآن والمصادر المؤكدة لدينا لم تحدده :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ..) ..

وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ وكذلك إسماعيل ـ كانوا قبل داود وسليمان قطعا. ولكن لا نعرف أين هم من زمان أيوب. وكذلك اليسع وذو الكفل. ولم يرد عنهما في القرآن إلا إشارات سريعة. وهناك نبي من أنبياء بني إسرائيل اسمه بالعبرية : «اليشع» وهو اليسع بالعربية على وجه الترجيح. فأما ذو الكفل فلا نعرف عنه شيئا إلا صفته هذه (مِنَ الْأَخْيارِ) ..

ويصف الله سبحانه : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، بأنهم (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) .. كناية عن العمل الصالح بالأيدي

والنظر الصائب أو الفكر السديد بالأبصار. وكأن من لا يعمل صالحا لا يد له. ومن لا يفكر تفكيرا سليما لا عقل له أو لا نظر له!

كما يذكر من صفتهم التكريمية أن الله أخلصهم بصفة خاصة ليذكروا الدار الآخرة ، ويتجردوا من كل شيء سواها : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) .. فهذه ميزتهم ورفعتهم. وهذه جعلتهم عند الله مختارين أخيارا : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) ..

وكذلك يشهد الله ـ سبحانه ـ لإسماعيل واليسع وذي الكفل أنهم من الأخيار. ويوجه خاتم أنبيائه وخير

رسله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليذكرهم ويعيش بهم ، ويتأمل صبرهم ورحمة الله بهم. ويصبر على ما يلقاه من قومه المكذبين الضالين. فالصبر هو طريق الرسالات. وطريق الدعوات. والله لا يدع عباده الصابرين حتى يعوضهم من صبرهم خيرا ورحمة وبركة واصطفاء .. وما عند الله خير. وهان كيد الكائدين وتكذيب المكذبين إلى جانب رحمة الله ورعايته وإنعامه وإفضاله ..

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

كانت الجولة الماضية حياة وذكرى مع المختارين من عباد الله. مع الابتلاء والصبر. والرحمة والإفضال. كان هذا ذكرا لتلك الحيوات الرفيعة في الأرض وفي هذه الدنيا .. ثم يتابع السياق خطاه مع عباد الله المتقين ، ومع المكذبين الطاغين إلى العالم الآخر وفي الحياة الباقية .. يتابعه في مشهد من مشاهد القيامة نستعير لعرضه صفحات من كتاب مشاهد القيامة في القرآن مع تصرف قليل :

يبدأ المشهد بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع وفي الأجزاء ، وفي السمات والهيئات : منظر «المتقين» لهم (لَحُسْنَ مَآبٍ). ومنظر «الطاغين» لهم (لَشَرَّ مَآبٍ). فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحة لهم الأبواب. ولهم فيها راحة الاتكاء ، ومتعة الطعام والشراب. ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب. وهن مع شبابهن (قاصِراتُ الطَّرْفِ) لا يتطلعن ولا يمددن بأبصارهن. وكلهن شواب أتراب. وهو متاع دائم ورزق من عند الله (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ).

وأما الآخرون فلهم مهاد. ولكن لا راحة فيه. إنه جهنم (فَبِئْسَ الْمِهادُ)! ولهم فيه شراب ساخن وطعام

مقيئ. إنه ما يغسق ويسيل من أهل النار! أو لهم صنوف أخرى من جنس هذا العذاب. يعبر عنها بأنها (أَزْواجٌ)!

ثم يتم المشهد بمنظر ثالث حي شاخص بما فيه من حوار : فها هي ذي جماعة من أولئك الطاغين من أهل جهنم. كانت في الدنيا متوادة متحابة. فهي اليوم متناكرة متنابذة كان بعضهم يملي لبعض في الضلال. وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين ، ويهزأ من دعوتهم ودعواهم في النعيم. كما يصنع الملأ من قريش وهم يقولون :

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) ..

ها هم أولاء يقتحمون النار فوجا بعد فوج وها هم أولاء يقول بعضهم لبعض : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) .. فماذا يكون الجواب؟ يكون الجواب في اندفاع وحنق : «لا مرحبا بهم إنهم صالو النار»! فهل يسكت المشتومون؟ كلا! إنهم يردون : (قالُوا : بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ!) .. فلقد كنتم أنتم السبب في هذا العذاب. وإذا دعوة فيها الحنق والضيق والانتقام : (قالُوا : رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ)!

ثم ماذا؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين ، الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا ، ويظنون بهم شرا ، ويسخرون من دعواهم في النعيم. ها هم أولاء يفتقدونهم فلا يرونهم معهم مقتحمين في النار ، فيتساءلون : أين هم؟ أين ذهبوا؟ أم تراهم هنا ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟ : (وَقالُوا : ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) (١) (؟ أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟) .. بينما هؤلاء الرجال الذين يتساءلون عنهم هناك في الجنان!

ويختم المشهد بتقرير واقع أهل النار :

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)!!

فما أبعد مصيرهم عن مصير المتقين. الذين كانوا يسخرون منهم ، ويستكثرون اختيار الله لهم. وما أبأس نصيبهم الذي كانوا يستعجلون به وهم يقولون : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)!

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ

__________________

(١) هناك قراءة لا تجعل جملة (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) استفهامية. ولكن إخبارية وقد اخترنا هذه القراءة لأن المعنى على أساسها أدق وأوضح. وتكون اتخذناهم سخريا تكملة للجملة قبلها ووصفا لرجالا.

مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

هذا الدرس الأخير في السورة يعود إلى تقرير القضايا التي عرضت في مقدمتها : قضية التوحيد. والوحي. وقضية الجزاء في الآخرة. ويستعرض قصة آدم دليلا على الوحي بما دار في الملأ الأعلى ذات يوم. وما تقرر يوم ذاك من الحساب على الهدى والضلال في يوم الحساب. كما تتضمن القصة لونا من الحسد في نفس الشيطان هو الذي أراده وطرده من رحمة الله ؛ حينما استكثر على آدم فضل الله الذي أعطاه. كذلك تصور المعركة المستمرة بين الشيطان وأبناء آدم ، والتي لا يهدأ أوارها ولا تضع أوزارها. والتي يهدف من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد منهم في حبائله ، لإيرادهم النار معه ، انتقاما من أبيهم آدم ، وقد كان طرده بسببه ، وهي معركة معروفة الأهداف. ولكن أبناء آدم يستسلمون لعدوهم القديم!

وتختم السورة بتوكيد قضية الوحي ، وعظمة ما وراءه ، مما يغفل عنه المكذبون الغافلون ..

* * *

(قُلْ : إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) ..

قل لأولئك المشركين ، الذين يدهشون ويعجبون ويقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) قل لهم : إن هذه هي الحقيقة : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) .. وقل لهم : إنه ليس لك من الأمر ، وليس عليك منه إلا أن تنذر وتحذر ؛ وتدع الناس بعد ذلك إلى الله الواحد القهار : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) .. فليس له من شريك. وليس من دونه ملجأ في السماوات أو في الأرض أو فيما بينهما. وهو (الْعَزِيزُ) القوي القادر. وهو (الْغَفَّارُ) الذي يتجاوز عن الذنب ويقبل التوبة ، ويغفر لمن يثوبون إلى حماه.

وقل لهم : إن ما جئتهم به وما يعرضون عنه أكبر وأعظم مما يظنون. وإن وراءه ما وراءه مما هم عنه غافلون : (قُلْ : هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ..

وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهره القريب. إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله. وشأن من شؤون هذا الكون بكامله. إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود. ليس منفصلا ولا بعيدا عن شأن السماوات والأرض ، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد.

ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشا في مكة ، والعرب في الجزيرة ، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض. ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان ؛ ويؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها ؛ ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله ، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدره الله له.

ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم. سواء في ذلك من آمن به ومن صدّ عنه. ومن جاهد معه ومن قاومه. في جيله وفي الأجيال التي تلته. ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم.

ولقد أنشأ من القيم والتصورات ، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها ، وفي أجيال البشرية جميعها ، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال!

وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغير وجه الأرض ؛ ويوجه سير التاريخ ؛ ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة ؛ ويؤثر في ضمير البشرية وفي واقعها ؛ ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله ، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما. وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة. يؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة.

والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر. لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود ؛ ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود ؛ ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضا واقعيا ، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ الذين يهمهم دائما أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ .. ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان ..

ولقد كان العرب الأولون يظنون أن الأمر هو أمرهم وأمر محمد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واختياره من بينهم ، لينزل عليه الذكر. وكانوا يحصرون همهم في هذه الشكلية. فالقرآن يوجه أنظارهم بهذا إلى أن الأمر أعظم من هذا جدا. وأنه أكبر منهم ومن محمد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأن محمدا ليس إلا حاملا لهذا النبأ ومبلغا ؛ وأنه لم يبتدعه ابتداعا ؛ وما كان له أن يعلم ما وراءه لو لا تعليم الله إياه ؛ وما كان حاضرا ما دار في الملأ الأعلى منذ البدء إنما أخبره الله :

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..

* * *

وعند هذا يأخذ السياق في عرض قصة البشرية ؛ وما دار في الملأ الأعلى بشأنها منذ البدء. مما يحدد خط سيرها ، ويرسم أقدارها ومصائرها. وهو ما أرسل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليبلغه وينذر به في آخر الزمان :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ..

وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة. وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله ولا ندري عن كنههم إلا ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله. ولا حاجة بنا إلى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه. إنما نمضي إلى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القرآن.

لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين. كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين. فمن الطين كل عناصرها. فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد من أين جاء ولا كيف جاء. ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر. وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنسانا. من الطين كل عناصر جسده. فهو من أمه الأرض. ومن عناصرها تكون. وهو يستحيل إلى تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول ؛ وتفارقه معه آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في الحياة.

ونحن نجهل كنه هذه النفخة ؛ ولكننا نعرف آثارها. فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض. ميزته بخاصية القابلية للرقي العقلي والروحي. هي التي جعلت عقله ينظر تجارب الماضي ، ويصمم خطط المستقبل. وجعلت روحه يتجاوز المدرك بالحواس والمدرك بالعقول ، ليتصل بالمجهول للحواس والعقول.

وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة ، لا يشاركه فيها سائر الأحياء في هذه الأرض. وقد عاصر مولد الإنسان الأول أجناس وأنواع شتى من الأحياء. ولم يقع في هذا التاريخ الطويل أن ارتقى نوع أو جنس ـ ولا أحد أفراده ـ عقليا أو روحيا. حتى مع التسليم بوقوع الارتقاء العضوي.

لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري ، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض ؛ وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له. حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات.

لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة. ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة ، واستمد من هذا المصدر في استقامة. فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق ، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام ؛ وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطرا على سلامة اتجاهه. إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية ، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي. ولو تضخمت علومه وتجاريه في جانب من جوانب الحياة.

وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم ، المحدود القوة ، القصير الأجل ، المحدود المعرفة .. ما كان له أن ينال شيئا من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة .. وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء. وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم. ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه .. فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن ؛ إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السر كريم كريم. فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد .. من طين!

ولقد استجاب الملائكة لأمر ربهم كما هي فطرتهم :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ..

كيف؟ وأين؟ ومتى؟ كل أولئك غيب من غيب الله. ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئا. هذا المغزى الذي يبرز في تقدير قيمة هذا الإنسان المخلوق من الطين ؛ بعد ما ارتفع عن أصله بتلك النفخة من روح الله العظيم.

سجد الملائكة امتثالا لأمر الله ، وشعورا بحكمته فيما يراه.

(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ..

فهل كان إبليس من الملائكة؟ الظاهر أنه لا. لأنه لو كان من الملائكة ما عصى. فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .. وسيجيء أنه خلق من نار. والمأثور أن الملائكة خلق من نور .. ولكنه كان مع الملائكة وكان مأمورا بالسجود. ولم يخص بالذكر الصريح عند الأمر إهمالا لشأنه بسبب ما كان من عصيانه. إنما عرفنا أن الأمر كان قد وجه إليه من توجيه التوبيخ إليه :

(قالَ : يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ أَسْتَكْبَرْتَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟) ..

ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ والله خالق كل شيء. فلا بد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه. هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن وإيداعه نفخة من روح الله دلالة على هذه العناية.

أستكبرت؟ عن أمري (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟) الذين لا يخضعون؟

(قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)!

إنه الحسد ينضح من هذا الرد. والغفلة أو الإغفال للعنصر الكريم الزائد على الطين في آدم ، والذي يستحق هذا التكريم. وهو الرد القبيح الذي يصدر عن الطبيعة التي تجردت من الخير كله في هذا الموقف المشهود.

هنا صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح :

(قالَ : فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ..

ولا نملك أن نحدد عائد الضمير في قوله : (مِنْها) فهل هي الجنة؟ أم هل هي رحمة الله .. هذا وذلك جائز. ولا محل للجدل الكثير. فإنما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله الكريم.

هنا تحول الحسد إلى حقد. وإلى تصميم على الانتقام في نفس إبليس :

(قالَ : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ..

واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه إلى ما طلب ، وأن يمنحه الفرصة التي أراد :

(قالَ : فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ..

وكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه حقده :

(قالَ : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ..

وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه. إنه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الآدميين. لا يستثني إلا من ليس له عليهم سلطان. لا تطوعا منه ولكن عجزا عن بلوغ غايته فيهم! وبهذا يكشف عن الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده ؛ والعاصم الذي يحول بينهم وبينه. إنه عبادة الله التي تخلصهم لله. هذا هو طوق النجاة. وحبل الحياة! .. وكان هذا وفق إرادة الله وتقديره في الردى والنجاة. فأعلن ـ سبحانه ـ إرادته. وحدد المنهج والطريق :

(قالَ : فَالْحَقُّ. وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ..

والله يقول الحق دائما. والقرآن يقرر هذا ويؤكد الإشارة إليه في هذه السورة في شتى صوره ومناسباته. فالخصم الذين تسوروا المحراب على داود يقولون له : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) .. والله ينادي عبده

داود : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) .. ثم يعقب على هذا بالإشارة إلى الحق الكامن في خلق السماوات والأرض : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) .. ثم يجيء ذكر الحق على لسان القوي العزيز : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) .. فهو الحق الذي تتعدد مواضعه وصوره ، وتتحد طبيعته وكنهه. ومنه هذا الوعد الصادق :

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ..

وهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم ، يخوضونها على علم. والعاقبة مكشوفة لهم في وعد الله الصادق الواضح المبين. وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان. وقد شاءت رحمة الله ألا يدعهم جاهلين ولا غافلين. فأرسل إليهم المنذرين.

* * *

وفي نهاية الشوط وختام السورة يكلف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يلقي إليهم بالقول الأخير :

(قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ؛ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ..

إنها الدعوة الخالصة للنجاة ، بعد كشف المصير وإعلان النذير. الدعوة الخالصة التي لا يطلب صاحبها أجرا وهو الداعية السليم الفطرة ، الذي ينطق بلسانه ، لا يتكلف ولا يتصنع ، ولا يأمر إلا بما يوحي منطق الفطرة القريب. وإنه للتذكير للعالمين أجمعين فقد ينسون ويغفلون. وإنه للنبأ العظيم الذي لا يلقون بالهم إليه اليوم. وليعلمن نبأه بعد حين. نبأه في الأرض ـ وقد علموه بعد سنوات من هذا القول ـ ونبأه في اليوم المعلوم. عند ما يحق وعد الله اليقين : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ..

إنه الختام الذي يتناسق مع افتتاح السورة ومع موضوعها والقضايا التي تعالجها : وهو الإيقاع المدوي العميق ، الموحي بضخامة ما سيكون : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ..

انتهى الجزء الثالث والعشرون

ويليه الجزء الرابع والعشرون

مبدوءا بسورة الزّمر

__________________

(١) ينتهي الجزء الثالث والعشرون بالآية ٣١ من سورة الزمر ولكننا آثرنا عرض السورة كاملة في الجزء الرابع والعشرين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سور الزّمر

وغافر وفصّلت

الجزء الرابع والعشرون

(٣٩) سورة الزّمر مكيّة

وآياتها خمس وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد. وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة ؛ وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة ؛ وتهزه هزا عميقا متواصلا لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها ، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة. ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها ؛ يعرض في صور شتى.

ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) .. إلخ» .. وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصا. وإما مفهوما ..

نصا كقوله : (قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) .. إلخ» .. أو قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ؟ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

ومفهوما كقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ، وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً : الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .. أو قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ. أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟) ..

وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته ، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة. ذلك كقوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ، وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) .. (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ : ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) .. (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ..

وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة .. إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها. وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة ؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها. ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة. مثل هذه الإشارات : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟) .. (قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .. (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) .. (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) .. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) .. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) .. (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) .. (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ..) .. وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزا من السورة كبيرا ، وتظلل جوها بظلال الآخرة.

أما المشاهد الكونية التي لا حظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة ..

هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) ..

ومشهد آخر في وسطها : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ؛ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ؛ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ؛ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ..

وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين.

كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر ، وفي أغوار نفوسهم ، تتوزع في ثناياها.

يرد في مطالعها عن نشأة البشرية : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ؛ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟).

ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ؛ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) .. إلخ» .. (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ؛ ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ..) ..

ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حالة : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ؛ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..

ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطرا على السورة كلها كما أسلفنا. حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

هذا الظل يتناسق مع جو السورة ، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها. فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش. ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته. نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب ، والتخويف منه : (قُلْ : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ). (قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .. (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) .. ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع.

* * *

والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولات قصيرة متتابعة ؛ تكاد كل جولة منها تختم بمشهد من مشاهد القيامة ، أو ظل من ظلالها. وسنحاول أن نستعرض هذه الجولات المتتابعة كما وردت في السياق. إذ أنه يصعب تقسيم السورة إلى دروس كبيرة. وكل مجموعة قليلة من آياتها تصلح حلقة تعرض في موضعها. ومجموع هذه الحلقات يتناول حقيقة واحدة. حقيقة التوحيد الكبيرة ..

* * *

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى. إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ).

تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ..

العزيز القادر على تنزيله.

الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولما ذا أنزله ؛ ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير.

ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلا ؛ فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفا عليها ؛ والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها. قضية توحيد الله ، وإفراده بالعبادة ، وإخلاص الدين له ، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره ؛ والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ).

وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب ، هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود. وفي الآية الخامسة من السورة يجيء : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ). فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض ، وأنزل به هذا الكتاب. الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض ؛ والذي ينطق به هذا الكتاب. الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود ..

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).

والخطاب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي أنزل إليه الكتاب بالحق. وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة .. عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.

وتوحيد الله وإخلاص الدين له ، ليس كلمة تقال باللسان ؛ إنما هو منهاج حياة كامل. يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير ؛ وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة.

والقلب الذي يوحد الله ، يدين لله وحده ، ولا يحني هامته لأحد سواه ، ولا يطلب شيئا من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه. فالله وحده هو القوي عنده ، وهو القاهر فوق عباده. والعباد كلهم ضعاف مهازيل ، لا يملكون له نفعا ولا ضرا ؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم. وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. والله وحده هو المانح المانع ، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء.

والقلب الذي يوحد الله ، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله ؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد ، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه. ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم ، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة.

والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء ؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ؛ ويحس يد الله في كل ما حوله ، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه. ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد ، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله. خالق كل شيء ، ومحيي كل حي. ربه ورب كل شيء وكل حي ..

وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر ، كما تبدو في السلوك والتصرفات. وترسم للحياة كلها منهاجا كاملا واضحا متميزا. ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان. ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله : وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد ، في كل عصر ، وفي كل بيئة. فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ..

يعلنها هكذا ملوية عالية في ذلك التعبير المجلجل. بأداة الافتتاح (أَلا) وفي أسلوب القصر (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ). فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة .. فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها. بل التي يقوم عليها الوجود كله. ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الجازم الحاسم : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ..

ثم يعالج الأسطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى. إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) ..

فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض .. ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة ، وفي إخلاص الدين لله بلا شريك. إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه. ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها. ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة ـ وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة ـ ليست عبادة لها في ذاتها ؛ إنما هي زلفى وقربى لله. كي تشفع لهم عنده ، وتقربهم منه!

وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها ، إلى هذا التعقيد والتخريف. فلا الملائكة بنات الله. ولا الأصنام تماثيل للملائكة. ولا الله ـ سبحانه ـ يرضى بهذا الانحراف. ولا هو يقبل فيهم شفاعة. ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق!

وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول. وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة ـ أو تماثيل الملائكة ـ تقربا إلى الله ـ بزعمهم ـ وطلبا لشفاعتهم عنده. وهو سبحانه يحدد الطريق إليه. طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب!

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) ..

فهم يكذبون على الله. يكذبون عليه بنسبة بنوة الملائكة إليه ؛ ويكذبون عليه بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده! وهم يكفرون بهذه العبادة ؛ ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح.

والله لا يهدي من يكذب عليه ، ويكفر به. فالهداية جزاء على التوجه والإخلاص والتحرج ، والرغبة في الهدى ، وتحري الطريق. فأما الذين يكذبون ويكفرون فهم لا يستحقون هداية الله ورعايته. وهم يختارون لأنفسهم البعد عن طريقه.

ثم يكشف عن سخف ذلك التصور وتهافته :

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ. سُبْحانَهُ! هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

وهو فرض جدلي لتصحيح التصور. فالله لو أراد أن يتخذ ولدا لاختار ما يشاء من بين خلقه ؛ فإرادته مطلقة غير مفيده. ولكنه ـ سبحانه ـ نزه نفسه عن اتخاذ الولد. فليس لأحد أن ينسب إليه ولدا ، وهذه إرادته ، وهذه مشيئته ، وهذا تقديره ؛ وهذا تنزيهه لذاته عن الولد والشريك :

(سُبْحانَهُ! هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ..

وما اتخاذه الولد؟ وهو مبدع كل شيء ؛ وخالق كل شيء ، ومدبر كل شيء؟ وكل شيء وكل أحد ملكه يفعل به ما يشاء :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ؛ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) ..

وهذه اللفتة إلى ملكوت السماوات والأرض ، وإلى ظاهرة الليل والنهار ، وإلى تسخير الشمس والقمر توحي إلى الفطرة بحقيقة الألوهية التي لا يليق معها أن يكون هناك ولد ولا شريك. فالذي يخلق هذا الخلق وينشئه إنشاء ، لا يحتاج إلى الولد ولا يكون معه شريك.

وآية الوحدانية ظاهرة في طريقة خلق السماوات والأرض ، وفي الناموس الذي يحكم الكون. والنظر المجرد إلى السماوات والأرض يوحي بوحدة الإرادة الخالقة المدبرة. وما كشفه الإنسان ـ حتى اليوم ـ من دلائل الوحدة فيه الكفاية. فقد اتضح أن الكون المعروف للبشر مؤلف كله من ذرات متحدة في ماهيتها ، وأنها بدورها تتألف من إشعاعات ذات طبيعة واحدة. وقد اتضح كذلك أن جميع الذرات وجميع الأجرام التي تتألف منها سواء في ذلك الأرض التي نسكنها أم الكواكب والنجوم الأخرى في حركة دائمة ، وأن هذه الحركة قانون ثابت لا يتخلف لا في الذرة الصغيرة ولا في النجم الهائل. واتضح أن لهذه الحركة نظاما ثابتا هو الآخر يوحي بوحدة الخلق ووحدة التدبير .. وفي كل يوم يكشف الإنسان عن جديد من دلائل الوحدة في تصميم هذا الوجود. ويكشف عن حق ثابت في هذا التصميم لا يتقلب مع هوى ، ولا ينحرف مع ميل ، ولا يتخلف لحظة ولا يحيد.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ..

وأنزل الكتاب بالحق .. فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب .. وكلاهما صادر من مصدر واحد. وكلاهما آية على وحدة المبدع العزيز الحكيم.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) ..

وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان ، لأنها نظريات تخطئ وتصيب ، وتثبت اليوم وتبطل غدا. والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته ، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل!

مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الأرض. فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض. فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكورا والليل يتبعه مكورا كذلك. وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل. وهكذا في حركة دائبة : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) .. واللفظ يرسم الشكل ، ويحدد الوضع ، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ..

والشمس تجري في مدارها. والقمر يجري في مداره. وهما مسخران بأمر الله. فما يزعم أحد أنه يجريهما. وما يقبل منطق الفطرة أن يجريا بلا محرك ، يدبرهما بمثل هذا النظام الدقيق الذي لا يختل شعرة في ملايين السنين.

وستجري الشمس وسيجري القمر (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) .. لا يعلمه إلا الله سبحانه.

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) ..

فمع القوة والقدرة والعزة ، هو غفار لمن يتوب إليه وينيب ، ممن يكذبون عليه ويكفرون به ، ويتخذون معه آلهة ، ويزعمون له ولدا ـ وقد سبق حديثهم ـ والطريق أمامهم مفتوح ليرجعوا إلى العزيز الغفار ..

* * *

ومن تلك اللفتة إلى آفاق الكون الكبير ، ينتقل إلى لمسة في أنفس العباد ؛ ويشير إلى آية الحياة القريبة منهم في أنفسهم وفي الأنعام المسخرة لهم :

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟).

وحين يتأمل الإنسان في نفسه. نفسه هذه التي لم يخلقها. والتي لا يعلم عن خلقها إلا ما يقصه الله عليه. وهي نفس واحدة. ذات طبيعة واحدة. وذات خصائص واحدة. خصائص تميزها عن بقية الخلائق ، كما أنها تجمع كل أفرادها في اطار تلك الخصائص. فالنفس الإنسانية واحدة في جميع الملايين المنبثين في الأرض في جميع الأجيال وفي جميع البقاع. وزوجها كذلك منها. فالمرأة تلتقي مع الرجل في عموم الخصائص البشرية ـ رغم كل اختلاف في تفصيلات هذه الخصائص ـ مما يشي بوحدة التصميم الأساسي لهذا الكائن البشري. الذكر والأنثى. ووحدة الإرادة المبدعة لهذه النفس الواحدة بشقيها.

وعند الإشارة إلى خاصية الزوجية في النفس البشرية ترد الإشارة إلى هذه الخاصية في الأنعام كذلك. مما يشي بوحدة القاعدة في الأحياء جميعا :

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) :

والأنعام الثمانية كما جاءت في آية أخرى : هي الضأن والمعز والبقر والإبل. من كل ذكر وأنثى. وكل من الذكر والأنثى يسمى زوجا عند اجتماعهما. فهي ثمانية في مجموعها .. والتعبير يعبر عن تسخيرها للإنسان بأنه إنزال لها من عند الله. فهذا التسخير منزل من عنده. منزل من عليائه إلى عالم البشر. ومأذون لهم فيه من عنده تعالى.

ثم يعود ـ بعد هذه الإشارة إلى وحدة خاصية الزوجية في الناس والأنعام ـ إلى تتبع مراحل الخلق للأجنة في بطون أمهاتها :

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ..

من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام. إلى الخلق الواضح فيه عنصر البشرية.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ..

ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين. وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس. وظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم. ويد الله تخلق هذه الخلية الصغيرة خلقا من بعد خلق. وعين الله ترعى هذه الخليقة وتودعها القدرة على النمو. والقدرة على التطور : والقدرة على الارتقاء. والقدرة على السير في تمثيل خطوات النفس البشرية كما قدر لها بارئها.

وتتبع هذه الرحلة القصيرة الزمن ، البعيدة الآماد ؛ وتأمل هذه التغيرات والأطوار ؛ وتدبر تلك الخصائص

العجيبة التي تقود خطى هذه الخلية الضعيفة في رحلتها العجيبة .. في تلك الظلمات وراء علم الإنسان وقدرته وبصره ..

هذا كله من شأنه أن يقود القلب البشري إلى رؤية يد الخالق المبدع. رؤيتها بآثارها الحية الواضحة الشاخصة والإيمان بالوحدانية الظاهرة الأثر في طريقة الخلق والنشأة. فكيف يصرف قلب عن رؤية هذه الحقيقة؟ :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) ..

* * *

وأمام هذه الرؤية الواضحة لآية الوحدانية المطلقة ، وآية القدرة الكاملة ، يقفهم أمام أنفسهم. في مفرق الطريق بين الكفر والشكر. وأمام التبعة الفردية المباشرة في اختيار الطريق. ويلوح لهم بنهاية الرحلة ، وما ينتظرهم هناك من حساب ، يتولاه الذي يخلقهم في ظلمات ثلاث. والذي يعلم ما تكن صدورهم من خفايا الصدور :

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ. وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ..

إن هذه الرحلة في بطون الأمهات هي مرحلة في الطريق الطويل. تليها مرحلة الحياة خارج البطون. ثم تعقبها المرحلة الأخيرة مرحلة الحساب والجزاء. بتدبير المبدع العليم الخبير.

والله ـ سبحانه ـ غني عن العباد الضعاف المهازيل. إنما هي رحمته وفضله أن يشملهم بعنايته ورعايته. وهم من هم من الضعف والهزال! (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ..

فإيمانكم لا يزيد في ملكه شيئا. وكفركم لا ينقص منه فتيلا. ولكنه لا يرضى عن كفر الكافرين ولا يحبه :

(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ..

(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ..

ويعجبه منكم ، ويحبه لكم ، ويجزيكم عليه خيرا.

وكل فرد مأخوذ بعمله ، محاسب على كسبه ؛ ولا يحمل أحد عبء أحد. فلكل حمله وعبؤه :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ..

والمرجع في النهاية إلى الله دون سواه ؛ ولا مهرب منه ولا ملجأ عند غيره :

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

ولا يخفى عليه من أمركم شيء :

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ..

هذه هي العاقبة. وتلك هي دلائل الهدى. وهذا هو مفرق الطريق .. ولكل أن يختار. عن بينة. وعن تدبر. وبعد العلم والتفكير ..

* * *

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠)

في الجولة الأولى لمس قلوبهم بعرض قصة وجودهم ؛ وخلقهم من نفس واحدة ؛ وتزويجها من جنسها ؛ وخلق الأنعام أزواجا كذلك ؛ وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث. وأشعرهم يد الله تمنحهم خصائص جنسهم البشري أول مرة ؛ ثم تمنحهم خصائص البقاء والارتقاء.

وهنا يلمس قلوبهم لمسة أخرى وهو يعرض عليهم صورتهم في الضراء وصورتهم في السراء ؛ ويريهم تقلبهم وضعفهم وادعاءهم وقلة ثباتهم على نهج ؛ إلا حين يتصلون بربهم ، ويتطلعون إليه ، ويقنتون له ، فيعرفون الطريق ، ويعلمون الحقيقة ؛ وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان.

* * *

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ. ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً ، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ، إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ..

إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر ؛ ويسقط عنها الركام ؛ وتزول عنها الحجب ، وتتكشف عنها الأوهام ؛ فتتجه إلى ربها ، وتنيب إليه وحده ؛ وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره. وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء.

فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء ، ويخوله الله نعمة منه ، ويرفع عنه البلاء. فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام ، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه. وتطلعه إليه في المحنة وحده ، حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته .. ينسى هذا كله ويذهب يجعل لله أندادا. إما آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى ؛ وإما قيما وأشخاصا وأوضاعا يجعل لها في نفسه شركة مع الله ، كما يفعل في جاهلياته الكثيرة! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولاده وحكامه وكبراءه كما يعبد الله أو أخلص عبادة ؛ ويحبها كما يحب الله أو أشد حبا! والشرك ألوان. فيها الخفي الذي لا يحسبه الناس شركا ، لأنه لا يأخذ شكل الشرك المعروف وإنما هو من الشرك في الصميم.

وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدد. وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو وحده الطريق إليه. والعقيدة في الله لا تحتمل شركة في القلب. لا تحتمل شركة من مال ولا ولد ولا وطن ولا

أرض ولا صديق ولا قريب ، فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد لله ، وضلال عن سبيل الله ، منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الأرض :

(قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً : إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ..

وكل متاع في هذه الأرض قليل مهما طال. وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمر. بل إن حياة الجنس البشري كله على الأرض لمتاع قليل ، حين يقاس إلى أيام الله!

* * *

وإلى جانب هذه الصورة النكدة من الإنسان ، يعرض صورة أخرى .. صورة القلب الخائف الوجل ، الذي يذكر الله ولا ينساه في سراء ولا ضراء ؛ والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة ؛ وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله ؛ وفي اتصال بالله ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟ قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

وهي صورة مشرقة مرهفة. فالقنوت والطاعة والتوجه ـ وهو ساجد وقائم ـ وهذه الحساسية المرهفة ـ وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ـ وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة. وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي .. هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة. فلا جرم يعقد هذه الموازنة :

(قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟) ..

فالعلم الحق هو المعرفة. هو إدراك الحق. هو تفتح البصيرة. هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود.

وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن ، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى ، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس.

وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة .. هذا هو .. القنوت لله. وحساسية القلب ، واستشعار الحذر من الآخرة ، والتطلع إلى رحمة الله وفضله ؛ ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة .. هذا هو الطريق ، ومن ثم يدرك اللب ويعرف ، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب ؛ وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة. فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة ، والمشاهدات الظاهرة ، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء ..

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..

وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق. المنتفعة بما ترى وتعلم ، التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه ، ولا تنسى يوم لقاه ..

* * *

وبعد عرض هاتين الصورتين يتجه إلى الذين آمنوا يناديهم ليتقوا ويحسنوا ؛ ويتخذوا من حياتهم القصيرة على هذه الأرض وسيلة للكسب الطويل في الحياة الآخرة :

(قُلْ : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ. وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ..

وفي التعبير : (قُلْ : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) التفاتة خاصة. فهو في الأصل : قل لعبادي الذين آمنوا .. قل لهم : اتقوا ربكم. ولكنه جعله يناديهم ، لأن في النداء إعلانا وتنبيها. والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يقول لهم : (يا عِبادِ) فهم عباد الله. فهناك هذه الالتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم الله. فالنداء في حقيقته من الله. وما محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا مبلغ عنه للنداء.

(قُلْ : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا. اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ..

والتقوى هي تلك الحساسية في القلب ، والتطلع إلى الله في حذر وخشية ، وفي رجاء وطمع ، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف .. إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة ، التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد الله.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) ..

وما أجزل الجزاء! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام. تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام.

ولكنه فضل الله على هذا الإنسان. الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده. فيكرمه ويرعاه!

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ).

فلا يقعد بكم حب الأرض ، وإلف المكان ، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها ، إذا ضاقت بكم في دينكم ، وأعجزكم فيها الإحسان. فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ؛ ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان.

وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري ، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه ، تنبئ عن مصدر هذا القرآن. فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به ، العليم بخفاياه.

والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس ، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق ، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان : ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب :

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ..

فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب ، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي ، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة. ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب .. فسبحان العليم بهذه القلوب ، الخبير بمداخلها ومساربها ، المطلع فيها على خفي الدبيب.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ

يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) (٢٠)

هذا المقطع كله يظلله جو الآخرة ، وظل الخوف من عذابها ، والرجاء في ثوابها. ويبدأ بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة ؛ وإعلان خوفه ـ وهو النبي المرسل ـ من عاقبة الانحراف عنها ، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه ، وتركهم هم إلى منهجهم وطريقهم. وبيان عاقبة هذا الطريق وذاك ، يوم يكون الحساب.

* * *

(قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ؛ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ..

وهذا الإعلان من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأنه مأمور أن يعبد الله وحده ، ويخلص له الدين وحده ؛ وأن يكون بهذا أول المسلمين ؛ وأنه يخاف عذاب يوم عظيم إن هو عصى ربه .. هذا الإعلان ذو قيمة كبرى في تجريد عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام. فالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في هذا المقام هو عبد لله. هذا مقامه لا يتعداه. وفي مقام العبادة يقف العبيد كلهم صفا ، وترتفع ذات الله سبحانه متفردة فوق جميع العباد .. وهذا هو المراد.

وعند ذلك يقر معنى الألوهية ، ومعنى العبودية ، ويتميزان ، فلا يختلطان ولا يشتبهان ، وتتجرد صفة الوحدانية لله سبحانه بلا شريك ولا شبيه. وحين يقف محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مقام العبودية لله وحده يعلن هذا الإعلان ، ويخاف هذا الخوف من العصيان ، فليس هنالك مجال لدعوى شفاعة الأصنام أو الملائكة بعبادتهم من دون الله أو مع الله بحال من الأحوال.

ومرة أخرى يكرر الإعلان مع الإصرار على الطريق ، وترك المشركين لطريقهم ونهايته الأليمة :

(قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. قُلْ : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ..

مرة أخرى يعلن : إنني ماض في طريقي. أخص الله بالعبادة ، وأخلص له الدينونة. فأما أنتم فامضوا في الطريق التي تريدون ؛ واعبدوا ما شئتم من دونه. ولكن هنالك الخسران الذي ما بعده خسران. خسران النفس التي تنتهي إلى جهنم. وخسران الأهل سواء كانوا مؤمنين أم كافرين. فإن كانوا مؤمنين فقد خسرهم المشركون لأن هؤلاء إلى طريق وهؤلاء إلى طريق. وإن كانوا مشركين مثلهم فكلهم خسر نفسه بالجحيم .. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ..

ثم يعرض مشهد الخسران المبين :

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ..

وهو مشهد رعيب حقا. مشهد النار في هيئة ظلل من فوقهم وظلل من تحتهم ، وهم في طيات هذه الظلل المعتمة تلفهم وتحتوي عليهم. وهي من النار!

إنه مشهد رعيب. يعرضه الله لعباده وهم بعد في الأرض يملكون أن ينأوا بأنفسهم عن طريقه. ويخوفهم مغبته لعلهم يجتنبونه :

(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ..

ويناديهم ليحذروا ويتقوا ويسلموا :

(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ).

وعلى الضفة الأخرى يقف الناجون ، الذين خافوا هذا المصير المشئوم :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ. وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..

والطاغوت صياغة من الطغيان ؛ نحو ملكوت وعظموت ورحموت. تفيد المبالغة والضخامة. والطاغوت كل ما طغا وتجاوز الحد. والذين اجتنبوا عبادتها هم الذين اجتنبوا عبادة غير المعبود في أية صورة من صور العبادة. وهم الذين أنابوا إلى ربهم. وعادوا إليه ، ووقفوا في مقام العبودية له وحده.

هؤلاء (لَهُمُ الْبُشْرى) صادرة إليهم من الملأ الأعلى. والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يبلغها لهم بأمر الله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) .. إنها البشرى العلوية يحملها إليهم رسول كريم. وهذا وحده نعيم!

هؤلاء من صفاتهم أنهم يستمعون ما يستمعون من القول ، فتلتقط قلوبهم أحسنه وتطرد ما عداه ، فلا يلحق بها ولا يلصق إلا الكلم الطيب ، الذي تزكو به النفوس والقلوب .. والنفس الطيبة تتفتح للقول الطيب فتتلقاه وتستجيب له. والنفس الخبيثة لا تتفتح إلا للخبيث من القول ولا تستجيب إلا له.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) ..

فقد علم الله في نفوسهم خيرا فهداهم إلى استماع أحسن القول والاستجابة له. والهدى هدى الله.

(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..

فالعقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الزكاة ، وإلى النجاة. ومن لا يتبع طريق الزكاة والنجاة فكأنه مسلوب العقل محروم من هذه النعمة التي أعطاها له الله.

وقبل أن يعرض مشهد هؤلاء في نعيمهم في الآخرة يقرر أن عبدة الطاغوت قد وصلوا فعلا إلى النار. وأن أحدا لا يملك أن ينقذهم من هذه النار :

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) ..

والخطاب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإذا كان هو لا يملك إنقاذهم من النار التي هم فيها فمن يملكها إذن سواه؟

وأمام مشهد هؤلاء في النار ـ وكأنهم فيها فعلا الآن. مادام قد حق عليهم العذاب ـ يعرض مشهد الذين اتقوا

ربهم ، وخافوا ما خوفهم الله :

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَعْدَ اللهِ. لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) ..

ومشهد الغرف المبنية ، من فوقها غرف ، تجري الأنهار من تحتها .. هذا المشهد يتقابل مع مشهد ظلل النار هناك من فوقهم ومن تحتهم. هذا التقابل الذي ينسقه التعبير القرآني وهو يرسم المشاهد للأنظار.

ذلك وعد الله. ووعد الله واقع. لا يخلف الله الميعاد.

ولقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة. عاشوا هذه المشاهد فعلا وواقعا. فلم تكن في نفوسهم وعدا أو وعيدا يتلقونهما من مستقبل بعيد. إنما كان هذا وذلك واقعا تشهده قلوبهم وتحسه وتراه. وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه. ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول ؛ وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بذلك الواقع الأخروي ، الذي كانوا يعيشونه ويحيون به وهم بعد في الحياة! وهكذا ينبغي أن يتلقى المسلم وعد الله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩)

في هذا المقطع من السورة لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء ؛ وانتهائها إلى غايتها القريبة ، وكثيرا ما يضرب هذا مثلا للحياة الدنيا في حقيقتها الزائلة ـ وتوجيه لأولي الألباب الذين يذكرون ويتدبرون ليتدبروا هذا المثل ويذكروه. وعلى ذكر إنزال الماء من السماء يشير إلى الكتاب المنزل من السماء كذلك لتحيا به القلوب وتنشرح له الصدور ؛ مع تصوير موح لاستجابة القلوب المفتوحة لهذا الكتاب ، بخشية وقشعريرة ثم لين وطمأنينة. وتصوير كذلك لعاقبة المستجيبين لذكر الله ، والقاسية قلوبهم من ذكر الله ، وفي النهاية يتجه إلى حقيقة التوحيد ، فيضرب مثالا لمن يعبد إلها واحدا ومن يعبد آلهة متعددة. وهما لا يستويان مثلا ولا يتفقان حالا. كما لا يستوي حال العبد الذي يملكه سادة متنازعون والعبد الذي يعمل لسيد واحد لا ينازعه أحد فيه!

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

* * *

إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر ، ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض ، حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها. والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة.

فهذا الماء النازل من السماء .. ما هو وكيف نزل؟ إننا نمر بهذه الخارقة سراعا لطول الألفة وطول التكرار. إن خلق الماء في ذاته خارقة. ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة ، فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما ، وبوجود الماء من هذا الاتحاد. ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض. ولولا الماء ما وجدت حياة. إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة. والله من وراء هذا التدبير ، وكله مما صنعت يداه .. ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة ، ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله.

ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء :

(فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) ..

سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ؛ أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية ، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيونا ، أو يتكشف آبارا. ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبدا!

(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ..

والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيرا. ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها ؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويدا رويدا .. هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة. بل في النبتة الواحدة. بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ؛ يشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلا! هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة ، يبلغ تمامه ، ويستوفي أيامه :

(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ..

وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود ، وفي نظام الكون ، وفي مراحل الحياة ، فينضج للحصاد :

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) ..

وقد استوفى أجله ، وأدى دوره ، وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة ..

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ..

الذين يتدبرون فيذكرون ، وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك.

* * *

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ؛ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ. ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ..

وكما ينزل الماء من السماء ؛ فينبت لهم به زرعا مختلفا ألوانه ؛ كذلك ينزل من السماء ذكرا تتلقاه القلوب الحية ؛ فتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة ، وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة!

والله يشرح للإسلام قلوبا يعلم منها الخير ، ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء. والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد. (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) ..

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

وهذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به. وتصور حالها مع الله. حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة ، والإشراق والاستنارة. كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها ، وعتمتها وظلامها. ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره ، ليس قطعا كالقاسية قلوبهم من ذكر الله. وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء.

كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن. هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته ، ولا في روحه ، ولا في خصائصه. فهو «متشابه» وهو (مَثانِيَ) تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده. ولكنها لا تختلف ولا تتعارض ، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار. في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة. لا تعارض فيها ولا اصطدام.

والذين يخشون ربهم ويتقونه ، ويعيشون في حذر وخشية ، وفي تطلع ورجاء ، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش ، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ؛ ثم تهدأ نفوسهم ، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر ؛ فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله ..

وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات ، فتكاد تشخص فيها الحركات.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) ..

فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق. والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ..

فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال ، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال.

ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال!

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ..

والإنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه. فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه ، فيدفعها بوجهه ، ويتقي به سوء العذاب. مما يدل على الهول والشدة والاضطراب. وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التأنيب ، وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)!

ويلتفت من هذا المشهد إلى الحديث عن المكذبين الذين يواجهون محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليعرض عليهم ما جرى للمكذبين قبلهم لعلهم يتداركون أنفسهم :

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ..

فهذه حال المكذبين في الدنيا والآخرة. في الدنيا أذاقهم الله الخزي. وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأكبر. وسنة الله ماضية لا تتخلف. ومصارع القرون من قبلهم شاهدة. ووعيد الله لهم في الآخرة قائم. والفرصة أمامهم سانحة. وهذا الذكر لمن يتعظ ويذكر (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)!

* * *

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضا فيه ، وهو بينهم موزع ؛ ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ؛ وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ؛ ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه! وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ، ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح ..

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟) ..

إنهما لا يستويان. فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين. وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحدا منهم فضلا على أن يرضي الجميع!

وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى ، لأن بصره أبدا معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق. ولأنه يعرف مصدرا واحدا للحياة والقوة والرزق ، ومصدرا واحدا للنفع والضر ، ومصدرا واحدا للمنح والمنع ، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته. ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره. ويخدم سيدا واحدا يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه .. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد ، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء ..

ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة

والاستقرار. وهم مع هذا ينحرفون ، وأكثرهم لا يعلمون ..

وهذا مثل من الأمثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون. وهو قرآن عربي ، مستقيم ، واضح ، لا لبس فيه ولا عوج ولا انحراف. يخاطب الفطرة بمنطقها القريب المفهوم.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٥)

هذا المقطع تعقيب على ما قبله فبعد أن عرض آية الماء النازل من السماء ، وآية الزرع الذي يخرج بهذا الماء ، وآية الكتاب النازل من عند الله ؛ وأشار إلى ما يضربه في القرآن من الأمثال (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) عقب على هذا بأن أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأمرهم موكول إلى الله ؛ وأنه هو الذي يحكم بينهم بعد الموت ، فيجازي الكاذبين المكذبين بما يستحقون ؛ ويجازي الصادقين المصدقين جزاء المحسنين.

* * *

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ..

إنه الموت نهاية كل حي ؛ ولا يتفرد بالبقاء إلا الله وفي الموت يستوي كل البشر بما فيهم محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكر هذه الحقيقة هنا حلقة من حلقات التوحيد الذي تقرره السورة كلها وتؤكده. ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت. فالموت ليس نهاية المطاف. إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة ، التي ليس شيء منها عبثا ولا سدى. فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف. ويجيء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه ، ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ؟ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟)

سؤال للتقرير. فليس هنالك من هو أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له بنات وأنه له شركاء ؛ وكذب بالصدق الذي جاء به رسوله ؛ فلم يصدق بكلمة التوحيد. إنه الكفر. وفي جهنم مثوى للكافرين. على سبيل التقرير الذي يرد في صورة سؤال لزيادة الإيضاح والتوكيد.

هذا طرف من الخصومة فأما الطرف الآخر فهو الذي جاء بالصدق من عند الله. وصدق به فبلغه عن عقيدة واقتناع. ويشترك مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في هذه الصفة كل الرسل قبله. كما يشاركه فيها كل

من دعا إلى هذا الصدق وهو مقتنع به مؤمن بأنه الحق ، يشارك قلبه لسانه فيما يدعو إليه .. (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ..

ويتوسع في عرض صفة المتقين هؤلاء وما أعده لهم من جزاء :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ..

وهو تعبير جامع ، يشمل كل ما يخطر للنفس المؤمنة من رغائب ، ويقرر أن هذا (لَهُمْ) عند ربهم ، فهو حقهم الذي لا يخيب ولا يضيع .. (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ..

ذلك ليحقق الله ما أراده لهم من خير ومن كرامة ، ومن فضل يزيد على العدل يعاملهم به ، متفضلا محسنا :

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ؛ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) ..

فالعدل أن تحسب الحسنات وتحسب السيئات ؛ ثم يكون الجزاء.

والفضل هو هذا الذي يتجلى به الله على عباده المتقين هؤلاء أن يكفر عنهم أسوأ أعمالهم فلا يبقى لها حساب في ميزانهم. وأن يجزيهم أجرهم بحساب الأحسن فيما كانوا يعملون ، فتزيد حسناتهم وتعلو وترجح في الميزان.

إنه فضل الله يؤتيه من يشاء. كتبه الله على نفسه بوعده. فهو واقع يطمئن إليه المتقون المحسنون ..

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)

قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

هذه الجولة أوسع مقاطع السورة. وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة. تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة ؛ واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى الله يوم القيامة ؛ ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستيقنا بالمصير.

يتلو هذا بيان وظيفة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم. إنما الله هو المسيطر عليهم ؛ الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم. وليس لهم من دونه شفيع فإن لله الشفاعة جميعا. وإليه ملك السماوات والأرض. وإليه المرجع والمصير.

ثم يصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك. ويعقب على هذا بدعوة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة ، وترك أمر المشركين لله. ويصورهم يوم القيامة وهم يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه. وقد تكشف لهم من الله ما يذهل ويخيف!

ذلك. وهم يدعون الله وحده إذا أصابهم الضر. فإذا وهبهم منه نعمة ادعوا دعاوي عريضة وقال قائلهم : إنما أوتيته على علم عندي! الكلمة التي قالها الذين من قبلهم فأخذهم الله القادر على أن يأخذ هؤلاء. وما هم بمعجزين. وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله ، تجري وفق حكمته وتقديره وهو وحده الباسط القابض : «إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون» ..

* * *

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ. أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ. قُلْ : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟ قُلْ : حَسْبِيَ اللهُ ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ. قُلْ : يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ

يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ..

هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح ، في بساطته وقوته ، ووضوحه ، وعمقه. كما هو في قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة ، وكل قائم بدعوة. وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه ، ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم.

وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من آلهتهم ، ويحذرونه من غضبها ، وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها ، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى ..

ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل. فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة. كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن ، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)؟

بلى! فمن ذا يخيفه ، وماذا يخيفه؟ إذا كان الله معه؟ وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ..

فكيف يخاف؟ والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله. وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟

إنها قضية بسيطة واضحة ، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن .. إنه الله. ومن هم دون الله. وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه.

وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة. وهو الذي يقضي في العباد قضاءه. في ذوات أنفسهم ، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) ..

وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله ، ومن يستحق الهدى فيهديه. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء.

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟)

بلى. وإنه لعزيز قوي. وإنه ليجازي كلا بما يستحق. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يخشى أحدا أو شيئا من يقوم بحق العبودية له ، وهو كافله وكافيه؟

ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم ، ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللهُ. قُلْ. أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ؟ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟ قُلْ : حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..

لقد كانوا يقررون ـ حين يسألون ـ أن الله هو خالق السماوات والأرض. وما تملك فطرة أن تقول غير هذا ، وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا. فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعا بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة .. إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض. فهل يملك أحد أو شيء في هذه

السماوات والأرض أن يكشف ضرا أراد الله أن يصيب به عبدا من عباده؟ أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبدا من عباده؟

والجواب القاطع : أن لا .. فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله؟ ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه؟ وليس أحد بكاشف الضر عنه؟ وليس أحد بمانع الرحمة عنه؟ وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه؟ إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه. وقد انقطع الجدل. وانقطع الخوف وانقطع الأمل. إلا في جناب الله سبحانه. فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده :

(قُلْ : حَسْبِيَ اللهُ. عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..

ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين. الطمأنينة التي لا تخاف. والثقة التي لا تقلق. واليقين الذي لا يتزعزع. والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق :

(قُلْ : يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ..

يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم. إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق. وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا ، ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة ..

لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود .. إن الله هو خالق السماوات والأرض. القاهر فوق السماوات والأرض. وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة. فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئا أو لدعاته؟ ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضرا أو يمسك عنهم رحمة؟ وإذا لم يكن. فما ذا يخشون وما ذا يرجون عند غير الله؟

ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق ؛ ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال!

* * *

تلك حقيقة الوضع بين رسل الله وسائر قوى الأرض التي تقف لهم في الطريق. فما حقيقة وظيفتهم وما شأنهم مع المكذبين؟

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ. فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ؟ قُلْ : أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ؟ قُلْ : لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) .. الحق في طبيعته. والحق في منهجه. والحق في شريعته. الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض ؛ ويلتقي عليه نظام البشرية في هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق. هذا الحق نزل (لِلنَّاسِ) ليهتدوا به ويعيشوا معه ويقوموا عليه. وأنت مبلغ. وهم بعد ذلك وما يشاءون لأنفسهم من هدى أو ضلال ، ومن نعيم أو عذاب. فكل مورد نفسه ما يشاء ؛ وما أنت بمسيطر عليهم ولا بمسؤول عنهم :

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ..

إنما الوكيل عليهم هو الله. وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم ، وهو يتصرف بهم كما يشاء :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ..

فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت. وهو يتوفاها كذلك في منامها ـ وإن لم تمت بعد ـ ولكنها في النوم متوفاة إلى حين. فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ. والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو. إلى أن يحل أجلها المسمى. فالأنفس في قبضته دائما في صحوها ونومها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..

* * *

إنهم هكذا في قبضة الله دائما. وهو الوكيل عليهم. ولست عليهم بوكيل. وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها. وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين .. فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص؟

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ؟ قُلْ : أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ؟ قُلْ : لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى! (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ؟) .. يعقبه تقرير جازم بأن لله الشفاعة جميعا. فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد من شاء. فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون الله شركاء؟!

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. فليس هنا لك خارج على إرادته في هذا الملك .. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. فلا مهرب ولا مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف ..

* * *

وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك ، الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود :

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

والآية تصف واقعة حال على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ؛ وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد. ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان. فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلها ، وإلى شريعة الله وحدها قانونا ، وإلى منهج الله وحده نظاما. حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث ، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد. هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجا منهم في هذه الآية ، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان. هم الممسوخو الفطرة ، المنحرفو الطبيعة ، الضالون المضلون ، مهما تنوعت البيئات والأزمنة ، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام.

والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مواجهة مثل هذه الحال :

(قُلِ : اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..

إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض ؛ ويتعذر عليها أن تجد لها خالقا إلا الله فاطر السماوات والأرض ، فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار. وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض. (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) المطلع

على الغائب والحاضر ، والباطن والظاهر. (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) .. فهو وحده الحكم يوم يرجعون إليه. وهم لا بد راجعون.

* * *

وبعد هذا التلقين يعرض حالهم المفزعة يوم يرجعون للحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون :

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب. فلو أن لهؤلاء الظالمين ـ الظالمين بشركهم وهو الظلم العظيم ـ لو أن لهؤلاء (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) .. مما يحرصون عليه وينأون عن الإسلام اعتزازا به. (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) .. لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة ..

وهول آخر يتضمنه التعبير الملفوف : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) ..

ولا يفصح عما بدا لهم من الله ولم يكونوا يتوقعونه. لا يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف .. فهو الله. الله الذي يبدو منه لهؤلاء الضعاف ما لا يتوقعون! هكذا بلا تعريف ولا تحديد!.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

وهذه كذلك تزيد الموقف سوءا. حين يتكشف لهم قبح ما فعلوا ؛ وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من الوعيد والنذير. وهم في ذلك الموقف الأليم الرعيب ..

* * *

وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون ، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده ، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة. بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب. فهم ينكرون وحدانية الله. فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين. حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا. ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ، قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

والآية تصور نموذجا مكررا للإنسان ، ما لم تهتد فطرته إلى الحق ، وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء.

إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود. فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده. حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء ، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء. وقال عن النعمة والرزق والفضل : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) .. قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان. غافلا عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدر الأرزاق.

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

هي فتنة للاختبار والامتحان. ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال.

والقرآن ـ رحمة بالعباد ـ يكشف لهم عن السر ، وينبهم إلى الخطر ، ويحذرهم الفتنة. فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان.

وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم. مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ..

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) ..

هي ذاتها هذه الكلمة الضالة قالها الذين من قبلهم ، فانتهت بهم إلى السوء والوبال. ولم يغن عنهم علمهم ولا ما لهم ولا قوتهم شيئا. وهؤلاء سيصيبهم ما أصاب الغابرين. فسنة الله لا تتبدل (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) .. فالله لا يعجزه خلقه الضعاف المهازيل!

فأما ما أعطاهم الله من نعمة ، وما وهبهم من رزق ، فإنه يتبع إرادة الله وفق حكمته وتقديره في بسط الرزق وقبضه ، ليبتلي عباده ، ولينفذ مشيئته كما يريد :

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .. فلا يجعلوا آيات الله سببا في الكفر والضلال. وهي جاءت للهدى والإيمان.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)

ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ

ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) .. عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة. ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية. ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين. ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا ، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان ..

* * *

(قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ. إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..

إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية. كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة. دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال. دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم. ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه. ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد. ويأخذ عليهم كل طريق. ويجلب عليهم بخيله ورجله. وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه. وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده. وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم ..

يعلم الله ـ سبحانه ـ عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ؛ ويوسع له في الرحمة ؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط. وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل. في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ. إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..

وليس بينه ـ وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق ـ ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان :

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).

الإنابة. والإسلام. والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام .. هذا هو كل شيء. بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء!

إنه حساب مباشر بين العبد والرب. وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق. من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب. ومن أراد الإنابة من الضالين ، فلينب. ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم. وليأت .. ليأت وليدخل فالباب مفتوح. والفيء والظل والندى والرخاء : كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب!

وهيا. هيا قبل فوات الأوان. هيا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) .. فما هنا لك من نصير. هيا فالوقت غير مضمون. وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار. هيا.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) .. وهو هذا القرآن بين أيديكم .. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) ..

هيا قبل أن تتحسروا على فوات الفرصة ، وعلى التفريط في حق الله ، وعلى السخرية بوعد الله :

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) ..

أو تقول إن الله كتب عليّ الضلال ولو كتب عليّ الهدى لاهتديت واتقيت : (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ..

وهي علالة لا أصل لها. فالفرصة ها هي ذي سانحة ، ووسائل الهدى ما تزال حاضرة. وباب التوبة ها هو ذا مفتوح!

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ : لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ..

وهي أمنية لا تنال. فإذا انتهت هذه الحياة فلا كرة ولا رجوع. وها أنتم أولاء في دار العمل. وهي فرصة واحدة إذا انقضت لا تعود. وستسألون عنها مع التبكيت والترذيل :

(بَلى. قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)!

ثم يمضي السياق وقد وصل بالقلوب والمشاعر إلى ساحة الآخرة .. يمضي في عرض مشهد المكذبين والمتقين ، في ذلك الموقف العظيم :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ؟ وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ..

وهذا هو المصير الأخير. فريق مسود الوجوه من الخزي ، ومن الكمد ، ومن لفح الجحيم. هو فريق المتكبرين في هذه الأرض ، الذين دعوا إلى الله ، وظلت الدعوة قائمة حتى بعد الإسراف في المعصية ، فلم يلبوا هاتف النجاة. فهم اليوم في خزي تسود له الوجوه. وفريق ناج فائز لا يمسه السوء ولا يخالطه الحزن. هو فريق المتقين ، الذين عاشوا في حذر من الآخرة ، وفي طمع في رحمة الله. فهم اليوم يجدون النجاة والفوز والأمن والسلامة : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ..

ومن شاء بعد هذا فليلب النداء إلى الرحمة الندية الظليلة وراء الباب المفتوح. ومن شاء فليبق في إسرافه وفي شروره حتى يأخذهم العذاب وهم لا يشعرون!

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ

عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥)

هذا القطاع الأخير في السورة ، يعرض حقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء ، المالك المتصرف في كل شيء. فتبدو دعوة المشركين للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه! تبدو هذه الدعوة مستغربة ، والله هو خالق كل شيء ، وهو المتصرف في ملكوت السماوات والأرض بلا شريك. فأنى يعبد معه غيره ، وله وحده مقاليد السماوات والأرض؟!

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) .. وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة ، ينتهي بموقف الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وينطق الوجود كله بحمده : (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. فتكون هذه هي كلمة الفصل في حقيقة التوحيد.

* * *

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ..

إنها الحقيقة التي ينطق بها كل شيء. فما يملك أحد أن يدعي أنه خلق شيئا. وما يملك عقل أن يزعم أن هذا الوجود وجد من غير مبدع. وكل ما فيه ينطق بالقصد والتدبير ؛ وليس أمر من أموره متروكا لقى أو للمصادفة من الصغير إلى الكبير : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .. وإلى الله قياد السماوات والأرض. فهو يصرفها وفق ما يريد ؛ وهي تسير وفق نظامه الذي قدره ؛ وما تتدخل إرادة غير إرادته في تصريفها ، على ما تشهد الفطرة ، وينطق الواقع ، ويقر العقل والضمير.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ..

خسروا لإدراك الذي يجعل حياتهم في الأرض متسقة مع حياة الكون كله ؛ وخسروا راحة الهدى وجمال الإيمان وطمأنينة الاعتقاد وحلاوة اليقين. وخسروا في الآخرة أنفسهم وأهليهم. فهم الخاسرون الذين ينطبق عليهم لفظ (الْخاسِرُونَ)!

* * *

وعلى ضوء هذه الحقيقة التي تنطق بها السماوات والأرض ، ويشهد بها كل شيء في الوجود ، يلقن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استنكار ما يعرضونه عليه من مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يعبدوا معه إلهه. كأن الأمر أمر صفقة يساوم عليها في السوق!

(قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ؟) ..

وهو الاستنكار الذي تصرخ به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبئ عن الجهل المطلق المطبق المطموس.

ويعقب عليه بتحذير من الشرك. يبدأ أول ما يبدأ بالأنبياء والمرسلين. وهم ـ صلوات الله عليهم ـ لا يتطرق إلى قلوبهم طائف الشرك أبدا. ولكن التحذير هنا ينبه سواهم من أقوامهم إلى تفرد ذات الله سبحانه في مقام العبادة ، وتوحد البشر في مقام العبودية ، بما فيهم الأنبياء والمرسلون :

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..

ويختم هذا التحذير من الشرك بالأمر بالتوحيد. توحيد العبادة والشكر على الهدى واليقين ، وعلى آلاء الله التي تغمر عباده ، ويعجزون عن إحصائها ، وهم فيها مغمورون :

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ..

* * *

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ..

نعم. ما قدروا الله حق قدره ، وهم يشركون به بعض خلقه. وهم لا يعبدونه حق عبادته. وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته. وهم لا يستشعرون جلاله وقوته.

ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته. على طريقة التصوير القرآنية ، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية في صورة جزئية ، يتصورها إدراكهم المحدود :

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ..

وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه ، وفي صورة يتصورونها. ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة ، التي لا تتقيد بشكل ، ولا تتحيز في حيز ، ولا تتحدد بحدود (١).

* * *

ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الأولى ، وينتهي بانتهاء الموقف ، وسوق أهل النار إلى النار. وأهل الجنة إلى الجنة. وتفرد الله ذي الجلال. وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد.

وهو مشهد رائع حافل ، يبدأ متحركا ، ثم يسير وئيدا ، حتى تهدأ كل حركة ، وتسكن كل نأمة ، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت ، ورهبة الخشوع ، بين يدي الله الواحد القهار!

ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث ، فيصعق من يكون باقيا على ظهر الأرض من الأحياء ، ومن في السماوات كذلك ـ إلا من شاء الله ـ ولا نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ..

ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا. صيحة الحشر والتجميع. ولا تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام. لأن هذا المشهد يرسم هنا في هدوء ، ويتحرك في سكون.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ..

أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض. ونور ربها الذي لا نور غيره في هذا المقام ..

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) .. الحافظ لأعمال العباد ..

(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) .. ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون .. وطوي كل خصام وجدال ـ في هذا المشهد ـ تنسيقا لجوه مع الجلال والخشوع الذي يسود الموقف العام :

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ..

فلا حاجة إلى كلمة تقال ، ولا إلى صوت واحد يرتفع. ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى. لأن المقام هنا مقام روعة وجلال.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً). (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) ..

واستقبلهم خزنتها يسجلون استحقاقهم لها ويذكرونهم بأسباب مجيئهم إليها :

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)؟

(قالُوا : بَلى. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) ..

فالموقف موقف إذعان وتسليم. لا موقف مخاصمة ولا مجادلة. وهم مقرون مستسلمون!

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)!

ذلك ركب جهنم ركب المتكبرين. فكيف ركب الجنة؟ ركب المتقين؟

__________________

(١) يراجع بتوسع فصل : التصوير الفني. وفصل : التخييل الحسي والتجسيم. وفي كتاب : التصوير الفني في القرآن «دار الشروق».

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً. حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : سَلامٌ عَلَيْكُمْ. طِبْتُمْ. فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ..

فهو الاستقبال الطيب. والثناء المستحب. وبيان السبب. (طِبْتُمْ) وتطهرتم. كنتم طيبين. وجئتم طيبين. فما يكون فيها إلا الطيب. وما يدخلها إلا الطيبون. وهو الخلود في ذلك النعيم ..

هنا تهينم أصوات أهل الجنة بالتسبيح والتحميد :

(وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ. الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ). فهذه هي الأرض التي تستحق أن تورث. وهم يسكنون فيها حيث شاءوا ، وينالون منها الذي يريدون.

(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ..

ثم يختم المشهد بما يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلال ، وما يتسق مع جو المشهد كله وظله ، وما يختم سورة التوحيد أنسب ختام ؛ والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد ؛ في خشوع واستسلام. وكلمة الحمد ينطق بها كل حي وكل موجود في استسلام :

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

* * *

(٤٠) سورة غافر مكيّة

وآياتها خمس وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ

لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢٠)

هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق ، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين .. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم ، واستغفار الملائكة لهم ، واستجابة الله لدعائهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

وجو السورة كله ـ من ثم ـ كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين ، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة ـ وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر ـ وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله ، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص : (غافِرِ الذَّنْبِ. وَقابِلِ التَّوْبِ. شَدِيدِ الْعِقابِ. ذِي الطَّوْلِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع ، مستقرة المقاطع ، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!

كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا .. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.

* * *

وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحيانا فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق ، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.

ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك ..

من مصارع الغابرين : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. فَأَخَذْتُهُمْ. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟) .. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ؛ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) ..

ومن مشاهد القيامة : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) .. (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ..)

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..

ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً. إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) .. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ. فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها ، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.

* * *

ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة : (غافِرِ الذَّنْبِ. وَقابِلِ التَّوْبِ. شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم ؛ وقد أخذهم الله أخذا ، بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك .. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم ، ويتوجهون إليه بالعبادة ، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح .. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) .. وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار ، يقرون بذنبهم ، ويعترفون بربهم ، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار ،

إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار .. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا .. (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه ، كما يتوارى الطغاة والفجار ..

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله ؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر ، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة ؛ ويحذرهم يوم القيامة ، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر ؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف ـ عليه‌السلام ـ ورسالته .. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا ، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق ، والتوجه إلى إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله ، وهو أكبر من الناس جميعا. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله ؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عميا : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ. قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ). ويذكرهم بمجيء الساعة ، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكنا والنهار مبصرا. والأرض قرارا والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يبرأ من عبادتهم ، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم ، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة .. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أمر الذين يجادلون في الله ؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) .. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئا! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) .. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى ، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك ..

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلا قبله كثيرين. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) .. على أن في الكون

آيات قائمة ، وبين أيديهم آيات قريبة ؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها .. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟. وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين ، وهم يرون بأس الله فيؤمنون ؛ (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) .. هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين ، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.

فلنسر الآن مع سياق السورة بالتفصيل ..

* * *

(حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ..

هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين : «حا. ميم». منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر : «عين. سين. قاف». وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها ، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها.

وتليها الإشارة إلى تنزيل الكتاب .. إحدى الحقائق التي يتكرر الحديث عنها في السور المكية بوجه خاص ، في معرض بناء العقيدة :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ..

وهي مجرد إشارة ينتقل السياق منها إلى التعريف ببعض صفات الله الذي نزل هذا الكتاب. وهي مجموعة من الصفات ذات علاقة موضوعية بمحتويات السورة كلها وقضاياها :

(الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ..

العزة. والعلم. وغفران الذنب. وقبول التوبة. وشدة العقاب. والفضل والإنعام. ووحدانية الألوهية ، ووحدانية المرجع والمصير ..

وكل موضوعات السورة تتعلق بهذه المعاني ، التي جاءت في مطلع السورة. والتي سيقت في إيقاعات ثابتة الجرس ، قوية التركيب ، توحي بالاستقرار والثبات والرسوخ.

والله ـ سبحانه ـ يعرف نفسه لعباده بصفاته ، ذات الأثر في حياتهم ووجودهم ، ويلمس بها مشاعرهم وقلوبهم ؛ فيثير رجاءهم وطمعهم ؛ كما يثير خوفهم وخشيتهم ، ويشعرهم بأنهم في قبضته لا مهرب لهم من تصريفه. ومنها هذه الصفات :

(الْعَزِيزِ) : القوي القادر الذي يغلب ولا يغلب ، والذي يصرف الأمر لا يقدر عليه أحد ، ولا يعقب عليه أحد.

(الْعَلِيمِ) .. الذي يصرف الوجود عن علم وعن خبرة ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يند عن علمه شيء.

(غافِرِ الذَّنْبِ) .. الذي يعفو عن ذنوب العباد ، بما يعلمه ـ سبحانه ـ من استحقاقهم للغفران.

(وَقابِلِ التَّوْبِ) .. الذي يتوب على العصاة ، ويتقبلهم في حماه ، ويفتح لهم بابه بلا حجاب.

(شَدِيدِ الْعِقابِ) الذي يدمر على المستكبرين ويعاقب المعاندين ، الذين لا يتوبون ولا يستغفرون.

(ذِي الطَّوْلِ) .. الذي يتفضل بالإنعام ، ويضاعف الحسنات ، ويعطي بغير حساب.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .. فله الألوهية وحده لا شريك له فيها ولا شبيه.

(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .. فلا مهرب من حسابه ولا مفر من لقائه. وإليه الأوبة والمعاد.

وهكذا تتضح صلته بعباده وصلة عباده به. تتضح في مشاعرهم وتصوراتهم وإدراكهم ، فيعرفون كيف يعاملونه في يقظة وفي حساسية ؛ وفي إدراك لما يغضبه وما يرضيه.

وقد كان أصحاب العقائد الأسطورية يعيشون مع آلهتهم في حيرة ، لا يعرفون عنها شيئا مضبوطا ؛ ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها ، ويصورونها متقلبة الأهواء ، غامضة الاتجاهات ، شديدة الانفعالات ، ويعيشون معها في قلق دائم يتحسسون مواضع رضاها ، بالرقى والتمائم والضحايا والذبائح ، ولا يدرون سخطت أم رضيت إلا بالوهم والتخمين!

فجاء الإسلام واضحا ناصعا ، يصل الناس بإلههم الحق ، ويعرفهم بصفاته ، ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه ، وكيف يرجون رحمته ، ويخشون عذابه ، على طريق واضح قاصد مستقيم.

* * *

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ، فَأَخَذْتُهُمْ ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ..

بعد تقرير تلك الصفات العلوية ، وتقرير الوحدانية ، يقرر أن هذه الحقائق مسلمة من كل من في الوجود ، وكل ما في الوجود ، ففطرة الوجود كله مرتبطة بهذه الحقائق ، متصلة بها الاتصال المباشر ، الذي لا تجادل فيه ولا تماحل. والوجود كله مقتنع بآيات الله الشاهدة بحقيقته ووحدانيته. وما من أحد يجادل فيها إلا الذين كفروا وحدهم ، شذوذا عن كل ما في الوجود وكل من في الوجود :

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ..

فهم وحدهم من بين هذا الوجود الهائل يشذون ؛ وهم وحدهم من بين هذا الخلق العظيم ينحرفون. وهم ـ بالقياس إلى هذا الوجود ـ أضعف وأقل من النمل بالقياس إلى هذه الأرض. وهم حين يقفون في صف يجادلون في آيات الله ؛ ويقف الوجود الهائل كله في صف معترفا بخالق الوجود مستندا إلى قوة العزيز الجبار .. هم في هذا الموقف مقطوع بمصيرهم ، مقضي في أمرهم ؛ مهما تبلغ قوتهم ؛ ومهما يتهيأ لهم من أسباب المال والجاه والسلطان :

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) ..

فمهما تقلبوا ، وتحركوا ، وملكوا ، واستمتعوا ، فهم إلى اندحار وهلاك وبوار. ونهاية المعركة معروفة.

إن كان ثمت معركة يمكن أن تقوم بين قوة الوجود وخالقه ، وقوة هؤلاء الضعاف المساكين!

ولقد سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم ، توحي عاقبتهم بعاقبة كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرض لها من يعرض نفسه لبأس الله :

«كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، فأخذتهم ، فكيف كان عقاب

فهي قصة قديمة من عهد نوح. ومعركة ذات مواقع متشابهة في كل زمان. وهذه الآية تصور هذه القصة. قصة الرسالة والتكذيب والطغيان على مدى القرون والأجيال كما تصور العاقبة في كل حال.

رسول يجيء. فيكذبه طغاة قومه. ولا يقفون عند مقارعة الحجة بالحجة ، إنما هم يلجأون إلى منطق الطغيان الغليظ ، فيهمون أن يبطشوا بالرسول ، ويموهون على الجماهير بالباطل ليغلبوا به الحق .. هنا تتدخل يد القدرة الباطشة ، فتأخذهم أخذا يعجب ويدهش ، ويستحق التعجيب والاستعراض :

(فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟) ..

ولقد كان عقابا مدمرا قاضيا عنيفا شديدا ، تشهد به مصارع القوم الباقية آثارها ، وتنطق به الأحاديث والروايات.

ولم تنته المعركة. فهي ممتدة الآثار في الآخرة :

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ..

ومتى حقت كلمة الله على أحد فقد وقعت ، وقضي الأمر ، وبطل كل جدال.

وهكذا يصور القرآن الحقيقة الواقعة. حقيقة المعركة بين الإيمان والكفر ، وبين الحق والباطل ، وبين الدعاة إلى الله الواحد والطغاة الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق. وهكذا نعلم أنها معركة قديمة بدأت منذ فجر البشرية. وأن ميدانها أوسع من الأرض كلها ، لأن الوجود كله يقف مؤمنا بربه مسلما مستسلما ، ويشذ منه الذين كفروا يجادلون في آيات الله وحدهم دون سائر هذا الكون الكبير. ونعلم كذلك نهاية المعركة ـ غير المتكافئة ـ بين صف الحق الطويل الضخم الهائل وشرذمة الباطل القليلة الضئيلة الهزيلة ، مهما يكن تقلبها في البلاد ، ومهما يكن مظهرها من القوة والسيطرة والمتاع!

هذه الحقيقة ـ حقيقة المعركة والقوى البارزة فيها ، وميدانها في الزمان والمكان ـ يصورها القرآن لتستقر في القلوب ؛ وليعرفها ـ على وجه خاص ـ أولئك الذين يحملون دعوة الحق والإيمان في كل زمان ومكان ؛ فلا تتعاظمهم قوة الباطل الظاهرة ، في فترة محدودة من الزمان ، ورقعة محدودة من المكان ؛ فهذه ليست الحقيقة. إنما الحقيقة هي التي يصورها لهم كتاب الله ، وتنطق بها كلمة الله. وهو أصدق القائلين. وهو العزيز العليم.

* * *

ويتصل بتلك الحقيقة الأولى أن حملة العرش ومن حوله ـ وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود ـ يذكرون المؤمنين من البشر عند ربهم ، ويستغفرون لهم ، ويستنجزون وعد الله إياهم ؛ بحكم رابطة الإيمان بينهم وبين المؤمنين :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ـ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ـ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..

ونحن لا نعرف ما هو العرش؟ ولا نملك صورة له ، ولا نعرف كيف يحمله حملته ، ولا كيف يكون من حوله ، حوله ؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها ، ولا من

الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحدا من المتجادلين عليها ؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عبادا مقربين من الله ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) .. وينص القرآن على إيمانهم ـ وهو مفهوم بداهة ـ ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر .. هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن.

وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال. يقولون :

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ..

يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم ـ في طلب الرحمة للناس ـ إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء ؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء ؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون :

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ..

وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة ، وبصفة الله هناك : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) .. كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيم ، بصفة الله : (شَدِيدِ الْعِقابِ) ..

ثم يرتقون في الدعاء من الغفران والوقاية من العذاب إلى سؤال الجنة واستنجاز وعد الله لعباده الصالحين :

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

ودخول الجنة نعيم وفوز. يضاف إليه صحبة من صلح من الآباء والأزواج والذريات. وهي نعيم آخر مستقل. ثم هي مظهر من مظاهر الوحدة بين المؤمنين أجمعين. فعند عقدة الإيمان يلتقي الآباء والأبناء والأزواج ، ولولا هذه العقدة لتقطعت بينهم الأسباب :

والتعقيب على هذه الفقرة من الدعاء : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يشير إلى القوة كما يشير إلى الحكمة. وبها يكون الحكم في أمر العباد ..

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ. وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..

وهذه الدعوة ـ بعد الدعاء بإدخالهم جنات عدن ـ لفتة إلى الركيزة الأولى في الموقف العصيب. فالسيئات هي التي توبق أصحابها في الآخرة ، وتوردهم مورد التهلكة. فإذا وقى الله عباده المؤمنين منها وقاهم نتائجها وعواقبها. وكانت هذه هي الرحمة في ذلك الموقف. وكانت كذلك أولى خطوات السعادة. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .. فمجرد الوقاية من السيئات هو أمر عظيم!

* * *

وبينما أن حملة العرش ومن حوله يتجهون إلى ربهم بهذا الدعاء لإخوانهم المؤمنين. نجد الذين كفروا في الموقف الذي تتطلع كل نفس فيه إلى المعين وقد عز المعين. نجد الذين كفروا هؤلاء ـ وقد أنبتت العلاقات بينهم وبين كل أحد وكل شيء في الوجود. وإذا هم ينادون من كل مكان بالترذيل والمقت والتأنيب. وإذا هم في موقف الذلة بعد الاستكبار. وفي موقف الرجاء ولات حين رجاء :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ قالُوا : رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟ ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ،

وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) ..

والمقت : أشد الكره. وهم ينادون من كل جانب. إن مقت الله لكم يوم كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، أشد من مقتكم لأنفسكم وأنتم تطلعون اليوم على ما قادتكم إليه من شر ونكر ، بكفرها وإعراضها عن دعوة الإيمان ، قبل فوات الأوان .. وما أوجع هذا التذكير وهذا التأنيب في ذلك الموقف المرهوب العصيب!

والآن ـ وقد سقط عنهم غشاء الخداع والضلال ـ يعرفون أن المتجه لله وحده فيتجهون :

(قالُوا : رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ..

وهي كلمة الذليل اليائس البائس .. (رَبَّنا) .. وقد كانوا يكفرون وينكرون. أحييتنا أول مرة فنفخت الروح في الموات فإذا هو حياة ، وإذا نحن أحياء. ثم أحييتنا الأخرى بعد موتنا ، فجئنا إليك. وإنك لقادر على إخراجنا مما نحن فيه. وقد اعترفنا بذنوبنا. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟). بهذا التنكير الموحي باللهفة واليأس المرير.

هنا ـ في ظل هذا الموقف البائس ـ يجبههم بسبب هذا المصير :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).

فهذا هو الذي يقودكم إلى ذلك الموقف الذليل. إيمانكم بالشركاء ، وكفركم بالوحدانية. فالحكم لله العلي الكبير : وهما صفتان تناسبان موقف الحكم. الاستعلاء على كل شيء ، والكبر فوق كل شيء. في موقف الفصل الأخير.

* * *

وفي ظل هذا المشهد يستطرد إلى شيء من صفة الله تناسب موقف الاستعلاء ؛ ويوجه المؤمنين في هذا المقام إلى التوجه إليه بالدعاء ، موحدين ، مخلصين له الدين ؛ كما يشير إلى الوحي للإنذار بيوم التلاقي والفصل والجزاء ، يوم يتفرد الله بالملك والقهر والاستعلاء :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً ، وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ، ذُو الْعَرْشِ ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ. لا ظُلْمَ الْيَوْمَ. إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ..

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) .. وآيات الله ترى في كل شيء في هذا الوجود. في المجالي الكبيرة من شمس وكواكب ، وليل ونهار ، ومطر ويرق ورعد .. وفي الدقائق الصغيرة من الذرة والخلية والورقة والزهرة .. وفي كل منها آية خارقة ، تتبدى عظمتها حين يحاول الإنسان أن يقلدها ـ بله أن ينشئها ـ وهيهات هيهات التقليد الكامل الدقيق ، لأصغر وأبسط ما أبدعته يد الله في هذا الوجود.

(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) .. عرف الناس منه المطر ، أصل الحياة في هذه الأرض ، وسبب الطعام والشراب. وغير المطر كثير يكشفه الناس يوما بعد يوم. ومنه هذه الأشعة المحيية التي لولاها ما كانت حياة على هذا الكوكب الأرضي. ولعل من هذا الرزق تلك الرسالات المنزلة ، التي قادت خطى البشرية منذ طفولتها ونقلت أقدامها في الطريق المستقيم ، وهدتها إلى مناهج الحياة الموصولة بالله ، وناموسه القويم.

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) .. فالذي ينيب إلى ربه يتذكر نعمه ويتذكر فضله ويتذكر آياته التي ينساها غلاظ القلوب.

وعلى ذكر الإنابة وما تثيره في القلب من تذكر وتدبر يوجه الله المؤمنين ليدعوا الله وحده ويخلصوا له الدين ، غير عابئين بكره الكافرين :

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) :

ولن يرضى الكافرون من المؤمنين أن يخلصوا دينهم لله ، وأن يدعوه وحده دون سواه. ولا أمل في أن يرضوا عن هذا مهما لاطفهم المؤمنون أو هادنوهم أو تلمسوا رضاهم بشتى الأساليب. فليمض المؤمنون في وجهتهم ، يدعون ربهم وحده ، ويخلصون له عقيدتهم ، ويصغون له قلوبهم. ولا عليهم رضي الكافرون أم سخطوا. وما هم يوما براضين!

ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون. يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ..

فهو ـ سبحانه ـ وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي. وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده. وهذا كناية عن الوحي بالرسالة. ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولا حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد .. وكلها ظلال متناسقة مع صفة اللهالْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) ..

فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) ..

وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعا. ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا. ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي.

ثم هو اليوم الذي يبرزون فيه بلا ساتر ولا واق ولا تزييف ولا خداع :

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ..

والله لا يخفى عليه منهم شيء في كل وقت وفي كل حال. ولكنهم في غير هذا اليوم قد يحسبون أنهم مستورون ، وأن أعمالهم وحركاتهم خافية ، أما اليوم فيحسون أنهم مكشوفون ، ويعلمون أنهم مفضوحون ؛ ويقفون عارين من كل ساتر حتى ستار الأوهام!

ويومئذ يتضاءل المتكبرون ، وينزوي المتجبرون ، ويقف الوجود كله خاشعا ، والعباد كلهم خضعا. ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسلطان. وهو سبحانه متفرد به في كل آن. فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان ، بعد انكشافه للجنان. ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر. وتصمت كل نأمة وتسكن كل حركة. وينطلق صوت جليل رهيب يسأل ويجيب ؛ فما في الوجود كله يومئذ من سائل غيره ولا مجيب :

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) .. (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ..

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ. لا ظُلْمَ الْيَوْمَ. إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ..

اليوم يوم الجزاء الحق. اليوم يوم العدل. اليوم يوم القضاء الفصل. بلا إمهال ولا إبطاء.

ويخيم الجلال والصمت ، ويغمر الموقف رهبة وخشوع ، وتسمع الخلائق وتخشع ، ويقضى الأمر ، وتطوى صحائف الحساب.

ويتسق هذا الظل مع قوله عن الذين يجادلون في آيات الله ـ في مطلع السورة ـ : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) .. فهذه نهاية التقلب في الأرض ، والاستعلاء بغير الحق ، والتجبر والتكبر والثراء والمتاع.

* * *

ويستطرد السياق يوجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى إنذار القوم بذلك اليوم ، في مشهد من مشاهد القيامة يتفرد فيه الله بالحكم والقضاء ؛ بعد ما عرضه عليهم في صورة حكاية لم يوجه لهم فيها الخطاب :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ. وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ..

والآزفة .. القريبة والعاجلة .. وهي القيامة. واللفظ يصورها كأنها مقتربة زاحفة. والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ؛ وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على صدورهم ؛ وهم لا يجدون حميما يعطف عليهم ولا شفيعا ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب!

وهم بارزون في هذا اليوم لا يخفى على الله منهم شيء ، حتى لفتة العين الخائنة ، وسر الصدر المستور :

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) :

والعين الخائنة تجتهد في إخفاء خيانتها. ولكنه لا تخفى على الله. والسر المستور تخفيه الصدور ، ولكنه مكشوف لعلم الله.

والله وحده هو الذي يقضي في هذا اليوم قضاءه الحق. وآلهتهم المدعاة لا شأن لها ولا حكم ولا قضاء :

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) ..

والله يقضي بالحق عن علم وعن خبرة ، وعن سمع وعن رؤية. فلا يظلم أحدا ولا ينسى شيئا :

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ..

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)

وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ

مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥)

سبق أن أجملنا موضوع هذا الشوط من السورة. وقبل الاستعراض التفصيلي له نلاحظ أن هذه الحلقة من القصة تجيء هنا متمشية بموضوعها مع موضوع السورة ، ومتمشية بطريقة التعبير فيها ـ وأحيانا بعباراتها ذاتها ـ مع طريقة التعبير في السورة كذلك ، وتكرر بعض عباراتها .. وعلى لسان الرجل المؤمن من آل فرعون ترد معان وتعبيرات وردت من قبل في السورة. فهو يذكر فرعون وهامان وقارون بأنهم يتقلبون في البلاد ، ويحذرهم يوما مثل يوم الأحزاب ، كما يحذرهم يوم القيامة الذي عرضت مشاهده في مطالع السورة كذلك. ويتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله ومقت الله لهم ومقت المؤمنين كما جاء ذلك في الشوط الأول. ثم يعرض السياق مشهدهم في النار أذلاء ضارعين يدعون فلا يستجاب لهم ، كما عرض مشهد أمثالهم من قبل في السورة.

وهكذا وهكذا مما يوحي بأن منطق الإيمان ومنطق المؤمنين واحد ، لأنه يستمد من الحق الواحد. ومما ينسق جو السورة ، ويجعل لها «شخصية» موحدة الملامح. وهي الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن.

* * *

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَكَفَرُوا ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) ..

هذا المعبر بين قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ وموضوع السورة قبلها يذكر المجادلين في آيات الله من مشركي

العرب بعبرة التاريخ قبلهم ؛ ويوجههم إلى السير في الأرض ، ورؤية مصارع الغابرين ، الذين وقفوا موقفهم. وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض. ولكنهم ـ مع هذه القوة والعمارة ـ كانوا ضعافا أمام بأس الله. وكانت ذنوبهم تعزلهم عن مصدر القوة الحقيقية ، وتستعدي عليهم قوى الإيمان ومعها قوة الله العزيز القهار : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) .. ولا واقي إلا الإيمان والعمل الصالح والوقوف في جبهة الإيمان والحق والصلاح. فأما التكذيب بالرسل وبالبينات فنهايته إلى الدمار والنكال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَكَفَرُوا ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) ..

* * *

وبعد هذه الإشارة الكلية المجملة يبدأ في عرض نموذج من نماذج الذين كانوا من قبلهم ، وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض. فأخذهم الله بذنوبهم. وهم فرعون وقارون وهامان. ومن معهم من المتجبرين الطغاة.

وتنقسم هذه الحلقة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى مواقف ومناظر ، تبدأ من موقف عرض الرسالة على فرعون وملئه. وتنتهي هنالك في الآخرة ، وهم يتحاجون في النار. وهي رحلة مديدة. ولكن السياق يختار «لقطات» معينة من هذه الرحلة ، هي التي تؤدي الغرض من هذه الحلقة في هذه السورة بالذات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ، إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ ، فَقالُوا : ساحِرٌ كَذَّابٌ) ..

هذا هو موقف اللقاء الأول. موسى ومعه آيات الله ، ومعه الهيبة المستمدة من الحق الذي بيده. وفرعون وهامان وقارون. ومعهم باطلهم الزائف وقوتهم الظاهرة ومركزهم الذي يخافون عليه من مواجهة الحق ذي السلطان .. عندئذ لجأوا إلى الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق : (فَقالُوا : ساحِرٌ كَذَّابٌ) ..

* * *

ويجمل السياق تفصيل ما حدث بعد هذا الجدال ، ويطوي موقف المباراة مع السحرة ، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون. ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ).

ويعقب عليه قبل أن تكمل الآية :

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ..

إنه منطق الطغيان الغليظ ، كلما أعوزته الحجة ، وخذله البرهان ، وخاف أن يستعلي الحق ، بما فيه من قوة وفصاحة ووضوح ، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب. كما استجاب السحرة الذين جيء بهم ليغلبوا موسى وما معه ، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار.

فأما فرعون وهامان وقارون فقالوا :

(اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) ..

ولقد كان فرعون ـ في أيام مولد موسى ـ قد أصدر مثل هذا الأمر. وهناك أحد احتمالين فيما حدث بعد ذلك الأمر الأول .. الاحتمال الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده ، ولم يكن الأمر منفذا في العهد الجديد ، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد ، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد ، ويعرف تربيته في القصر ، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل. فحاشيته تشير إلى هذا الأمر ، وتوحي بتخصيصه بمن آمنوا بموسى ، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل

الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه .. والاحتمال الثاني : أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى ، ما يزال على عرشه. وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته. فالحاشية تشير بتجديده ، وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف.

فأما فرعون فكان له فيما يبدو رأي آخر ، أو اقتراح إضافي في أثناء التآمر. ذلك أن يتخلص من موسى نفسه. فيستريح!

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) ..

ويبدو من قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) .. أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة ـ من ناحية الرأي ـ كأن يقال مثلا : إن قتل موسى لا ينهي الإشكال. فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه واعتباره شهيدا ، والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به ، وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع ، وإعلانهم سبب إيمانهم ، وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه .. وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له ، ويبطش بهم. وليس هذا ببعيد ، فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة ، ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه! ويكون قول فرعون : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) .. ردا على هذا التلويح! وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون ، كانت تبجحا واستهتارا ، لقي جزاءه في نهاية المطاف كما سيجيء.

ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى :

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) ..

فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني ، عن موسى رسول الله ـ عليه‌السلام ـ (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ)؟!!

أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟

إنه منطق واحد ، يتكرر كلما التقى الحق والباطل ، والإيمان والكفر. والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.

فأما موسى ـ عليه‌السلام ـ فالتجأ إلى الركن الركين والحصن الحصين ، ولاذ بالجناب الذي يحمي اللائذين ، ويجير المستجيرين :

(وَقالَ مُوسى : إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) ..

قالها. واطمأن. وسلّم أمره إلى المستعلي على كل متكبر ، القاهر لكل متجبر ، القادر على حماية العائذين به من المستكبرين. وأشار إلى وحدانية الله ربه وربهم لم ينسها أو يتركها أمام التهديد والوعيد. كما أشار إلى عدم الإيمان بيوم الحساب. فما يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب ، وهو يتصور موقفه يومئذ حاسرا خاشعا خاضعا ذليلا ، مجردا من كل قوة ، ما له من حميم ولا شفيع يطاع.

* * *

هنا انتدب رجل من آل فرعون ، وقع الحق في قلبه ، ولكنه كتم إيمانه. انتدب يدفع عن موسى ، ويحتال

لدفع القوم عنه ، ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى ، ويتدسس إلى قلوبهم بالنصيحة ويثير حساسيتها بالتخويف والإقناع :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ : رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا؟ قالَ فِرْعَوْنُ : ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ. وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ؛ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ : لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ. الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ..

إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه. وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك.

إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ : رَبِّيَ اللهُ) .. فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب ، واقتناع نفس ، تستحق القتل ، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة.

ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة : (رَبِّيَ اللهُ) .. يقولها ومعه حجته ، وفي يده برهانه : (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) .. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى ـ عليه‌السلام ـ ورأوها ، وهم ـ فيما بينهم وبعيدا عن الجماهير ـ يصعب أن يماروا فيها!

ثم يفرض لهم أسوأ الفروض ؛ ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية ؛ تمشيا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) .. وهو يحمل تبعة عمله ، ويلقى جزاءه ، ويحتمل جريرته. وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال!

وهناك الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون صادقا. فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال ، وعدم التعرض لنتائجه :

(وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) .. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية ، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام.

ثم يهددهم من طرف خفي ، وهو يقول كلاما ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) .. فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه ، فدعوه له يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون ، فيصيبكم هذا المآل!

وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب ، يهجم عليهم مخوفا بعقاب الله ، محذرا من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هم فيه من ملك وسلطان ، مذكرا إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران :

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا؟) ..

إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن ، من أن بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في

الأرض ؛ فهم أحق الناس بأن يحذروه ، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه ، وأن يبيتوا منه على وجل ، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان ، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا؟) ليشعرهم أن أمرهم يهمه ، فهو واحد منهم ، ينتظر مصيره معهم ؛ وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم ، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام ، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص. وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه ، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف.

هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتا على سلطانه ، ونقصا من نفوذه ، ومشاركة له في النفوذ والسلطان :

(قالَ فِرْعَوْنُ : ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ..

إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا ، وأعتقده نافعا. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!

ولكن الرجل المؤمن يجد من إيمانه غير هذا ؛ ويجد أن عليه واجبا أن يحذر وينصح ويبدي من الرأي ما يراه. ويرى من الواجب عليه أن يقف إلى جوار الحق الذي يعتقده كائنا ما كان رأي الطغاة. ثم هو يطرق قلوبهم بإيقاع آخر لعلها تحس وتستيقظ وترتعش وتلين. يطرق قلوبهم بلفتها على مصارع الأحزاب قبلهم. وهي شاهدة ببأس الله في أخذ المكذبين والطغاة :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ..

ولكل حزب كان يوم. ولكن الرجل المؤمن يجمعها في يوم واحد : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) فهو اليوم الذي يتجلى فيه بأس الله .. وهو يوم واحد في طبيعته على تفرق الأحزاب .. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) إنما يأخذهم بذنوبهم ، ويصلح من حولهم ومن بعدهم بأخذهم بأيام الله.

ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى ، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله. يوم القيامة. يوم التنادي :

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ..

وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف. وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار. وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة .. فالتنادي واقع في صور شتى. وتسميته (يَوْمَ التَّنادِ) تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك ، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) .. وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم ، أو محاولتهم الفرار. ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار. وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض ، أصحاب الجاه والسلطان!

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) .. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) .. وتلميحا بأن الهدى هدى الله. وأن من أضله الله فلا هادي له. والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال.

وأخيرا يذكرهم بموقفهم من يوسف ، ومن ذريته كان موسى ـ عليهما‌السلام ـ وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات ، فلا يكرروا الموقف من موسى ، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف ، فكانوا منه في شك وارتياب. ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولا ، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف ويكذب هذا المقال :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ : لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ. الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ..

وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف ـ عليه‌السلام ـ للقوم في مصر. وقد عرفنا من سورة يوسف ، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض ، المتصرف فيها. وأنه أصبح «عزيز مصر» وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر. وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر ـ وإن لم يكن ذلك مؤكدا ـ وذلك قوله :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) ..

وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئا آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية. وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان. ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن. حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل ، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان! (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) .. وكأنما استراحوا لموته ، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة ، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص ، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) .. فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول ، لأن هذه كانت رغبتهم. وكثيرا ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه ، لأن تحققه يلبي هذه الرغبة!

والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ..

فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته وقد جاءته معها البينات.

ثم يشتد في مواجهتهم بمقت الله ومقت المؤمنين لمن يجادل في آيات الله بغير حجة ولا برهان. وهم يفعلون هذا في أبشع صورة. ويندد بالتكبر والتجبر ، وينذر بطمس الله لقلوب المتكبرين المتجبرين!

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ..

والتعبير على لسان الرجل المؤمن يكاد يكون طبق الأصل من التعبير المباشر في مطالع السورة. المقت للمجادلين في آيات الله بغير برهان ، والإضلال للمتكبرين المتجبرين حتى ما يبقى في قلوبهم موضع للهدى ، ولا منفذ للإدراك.

* * *

وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها ؛ فقد ظل فرعون في ضلاله ، مصرا على التنكر للحق. ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى. ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته

كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها. فاتخذ فرعون لنفسه مهربا جديدا :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً. وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) ..

يا هامان ابن لي بناء عاليا لعلي أبلغ به أسباب السماوات ، لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) .. هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور ، كي لا يواجه الحق جهرة ، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه ، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه. وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. وبعيد أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور. إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى. وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله ، وتبجحه في جحوده : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) ..

وهو مستحق لأن يصد عن السبيل ، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل.

ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار :

(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) ..

* * *

وأمام هذه المراوغة ، وهذا الاستهتار ، وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة ، بعد ما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله ، وهو طريق الرشاد. وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة ؛ وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية ؛ وحذرهم عذاب الآخرة ؛ وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ. وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ. فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ. إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ..

إنها الحقائق التي تقررت من قبل في صدر السورة ، يعود الرجل المؤمن فيقررها في مواجهة فرعون وملئه. إنه يقول في مواجهة فرعون :

(يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ..

وقد كان فرعون منذ لحظات يقول : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق لا يخشى فيها سلطان فرعون الجبار ، ولا ملأه المتآمرين معه من أمثال هامان وقارون. وزيري فرعون فيما يقال.

ويكشف لهم عن حقيقة الحياة الدنيا : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) .. متاع زائل لاثبات له ولا دوام. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) .. فهي الأصل وإليها النظر والاعتبار.

ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار :

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ..

فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات ، رحمة من الله بعباده ، وتقديرا لضعفهم ، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة ، فضاعف لهم الحسنات ، وجعلها كفارة للسيئات. فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب ، رزقهم الله فيها بغير حساب.

ويستنكر الرجل المؤمن أن يدعوهم إلى النجاة فيدعونه إلى النار ، فيهتف بهم في استنكار :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) ..

وهم لم يدعوه إلى النار. إنما دعوه إلى الشرك. وما الفرق بين الدعوة إلى الشرك والدعوة إلى النار؟ إنها قريب من قريب. فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية :

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) ..

وشتان بين دعوة ودعوة. إن دعوته لهم واضحة مستقيمة. إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار. يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته ، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره. يدعوهم إليه ليغفر لهم وهو القادر على أن يغفر ، الذي تفضل بالغفران : (الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) .. فإلى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله. عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز!

ويقرر من غير شك ولا ريبة أن هؤلاء الشركاء ليس لهم من الأمر شيء ، وليس لهم شأن لا في دنيا ولا في آخرة ، وأن المرد لله وحده ، وأن المسرفين المتجاوزين للحد في الادعاء سيكونون أهل النار :

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ. وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

وماذا يبقى بعد هذا البيان الواضح الشامل للحقائق الرئيسية في العقيدة؟ وقد جهر بها الرجل في مواجهة فرعون وملئه بلا تردد ولا تلعثم ، بعد ما كان يكتم إيمانه ، فأعلن عنه هذا الإعلان؟ لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله ، وقد قال كلمة وأراح ضميره ، مهددا إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى. والأمر كله إلى الله :

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ..

وينتهي الجدل والحوار. وقد سجل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.

* * *

ويجمل السياق حلقات القصة بعد هذا. وما كان بين موسى وفرعون وبني إسرائيل. إلى موقف الغرق والنجاة :

ويقف ليسجل «لقطات» بعد هذا الموقف الأخير. وبعد الحياة :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها ، إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ. وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا : بَلى. قالُوا :

فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ..

لقد طويت الدنيا ، وعرضت أول صفحة بعدها. فإذا الرجل المؤمن الذي قال كلمة الحق ومضى ، قد وقاه الله سيئات مكر فرعون وملئه ، فلم يصبه من آثارها شيء في الدنيا ، ولا فيما بعدها أيضا. بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب :

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

والنص يلهم أن عرضهم على النار غدوا وعشيا ، هو في الفترة من بعد الموت إلى قيام الساعة. وقد يكون هذا هو عذاب القبر. إذ أنه يقول بعد هذا : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) .. فهو إذن عذاب قبل يوم القيامة. وهو عذاب سيىء. عرض على النار في الصباح وفي المساء. إما للتعذيب برؤيتها وتوقع لذعها وحرها ـ وهو عذاب شديد ـ وإما لمزاولتها فعلا. فكثيرا ما يستعمل لفظ العرض للمس والمزاولة. وهذه أدهى .. ثم إذا كان يوم القيامة أدخلوا أشد العذاب!

فأما في الآية التالية فقد كانت القيامة فعلا ، والسياق يلتقط لهم موقفا في النار! وهم يتحاجون فيها :

(فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟).

إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا. لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولا وإمعات! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنما تساق! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار!

لقد منحهم الله الكرامة. كرامة الإنسانية. وكرامة التبعة الفردية. وكرامة الاختيار والحرية. ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعا. تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية. لم يقولوا لهم : لا. بل لم يفكروا أن يقولوها. بل لم يفكروا أن يتدبروا ما يقولونه لهم وما يقودونهم إليه من ضلال .. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) .. وما كان تنازلهم عما وهبهم الله واتباعهم الكبراء ليكون شفيعا لهم عند الله. فهم في النار. ساقهم إليها قادتهم كما كانوا يسوقونهم في الحياة. سوق الشياه! ثم ها هم أولاء يسألون كبراءهم : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) .. كما كانوا يوهمونهم في الأرض أنهم يقودونهم في طريق الرشاد ، وأنهم يحمونهم من الفساد ، وأنهم يمنعونهم من الشر والضر وكيد الأعداء!

فأما الذين استكبروا فيضيقون صدرا بالذين استضعفوا ، ويجيبونهم في ضيق وبرم وملالة. وفي إقرار بعد الاستكبار :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) ..

(إِنَّا كُلٌّ فِيها) .. إنا كل ضعاف لا نجد ناصرا ولا معينا. إنا كل في هذا الكرب والضيق سواء. فما سؤالكم لنا وأنتم ترون الكبراء والضعاف سواء؟

(إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) .. فلا مجال لمراجعة في الحكم ، ولا مجال لتغيير فيه أو تعديل. وقد قضي الأمر ، وما من أحد من العباد يخفف شيئا من حكم الله.

وحين أدرك هؤلاء وهؤلاء أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، اتجه هؤلاء وهؤلاء لخزنة جهنم في ذلة تعم الجميع ، وفي ضراعة تسوي هؤلاء بهؤلاء :

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) ..

إنهم يستشفعون حراس جهنم ، ليدعوا ربهم. في رجاء يكشف عن شدة البلاء : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا

يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) .. يوما. يوما فقط. يوما يلقطون فيه أنفاسهم ويستريحون. فيوم واحد يستحق الشفاعة واللهفة والدعاء.

ولكن خزنة جهنم لا يستجيبون لهذه الضراعة البائسة الذليلة الملهوفة. فهم يعرفون الأصول. ويعرفون سنة الله ، ويعرفون أن الأوان قد فات. وهم لهذا يزيدون المعذبين عذابا بتأنيبهم وتذكيرهم بسبب هذا العذاب :

(قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ .. قالُوا : بَلى).

وفي السؤال وفي جوابه ما يغني عن كل حوار. وعندئذ نفض الخزنة أيديهم منهم ، وأسلموهم إلى اليأس مع السخرية والاستهتار :

(قالُوا : فَادْعُوا) ..

إن كان الدعاء يغير من حالكم شيئا ، فتولوا أنتم الدعاء.

وتعقب الآية قبل تمامها على هذا الدعاء :

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ..

لا يبلغ. ولا يصل. ولا ينتهي إلى جواب. إنما هو الإهمال والازدراء للكبراء والضعفاء سواء.

* * *

عند هذا الموقف الحاسم يجيء التعقيب الأخير على الحلقة كلها ، وعلى ما تقدمها من الإشارة إلى الأحزاب التي تعرضت لبأس الله ، بعد التكذيب والاستكبار.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.) ..

هذا التعقيب الجازم ، يناسب ذلك الموقف الحاسم. ولقد اطلعت منه البشرية على مثل من نهاية الحق والباطل. نهايتهما في هذه الأرض ونهايتهما كذلك في الآخرة. ورأت كيف كان مصير فرعون وملئه في الحياة الدنيا ، كما رأوهم يتحاجون في النار ، وينتهون إلى إهمال وصغار. وذلك هو الشأن في كل قضية كما يقرر القرآن :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ..

فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان.

إن وعد الله قاطع جازم : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ..) .. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذبا مطرودا ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد .. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل!

ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.

إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر

ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة .. إبراهيم عليه‌السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها .. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك ـ في منطق العقيدة ـ أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! .. والحسين ـ رضوان الله عليه ـ وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين!

وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال ..

ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم. قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!

على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا. من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة. فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية. وفق تقدير الله وترتيبه.

وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا. ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها. وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله. وإن هنالك لأشكالا من الشرك خفية ؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله. ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول. وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله ، ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير. فسيكل هذا كله لله. ويلتزم. ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير .. وذلك معنى من معاني النصر .. النصر على

الذات والشهوات. وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

وقد رأينا في المشهد السابق كيف لا تنفع الظالمين معذرتهم. وكيف باءوا باللعنة وبسوء الدار. فأما صورة من صور النصر في قصة موسى فهو ذاك :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ..

وكان هذا نموذجا من نماذج نصر الله. إيتاء الكتاب والهدى. ووراثة الكتاب والهدى. وهذا النموذج الذي ضربه الله مثلا في قصة موسى ، يكشف لنا رقعة فسيحة ، نرى فيها صورة خاصة من صور النصر تشير إلى الاتجاه.

وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع ، توجيها لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن كانوا معه من المؤمنين في مكة في موقف الشدة والمعاناة. ولكل من يأتي بعدهم من أمته ، ويواجهون مثل الموقف الذي كانوا فيه :

(فَاصْبِرْ. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ..

الإيقاع الأخير .. الدعوة إلى الصبر .. الصبر على التكذيب. والصبر على الأذى. والصبر على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان. والصبر على طباع الناس وأخلاقهم وتصرفاتهم من هنا ومن هناك. والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال. والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد تجيء من جانب الأصدقاء قبل أن تجيء من جانب الأعداء!

(فَاصْبِرْ. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) .. مهما يطل الأمد ، ومهما تتعقد الأمور ، ومهما تتقلب الأسباب. إنه وعد من يملك التحقيق ، ومن وعد لأنه أراد.

وفي الطريق ، خذ زاد الطريق :

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ..

هذا هو الزاد ، في طريق الصبر الطويل الشاق. استغفار للذنب ، وتسبيح بحمد الرب. والاستغفار المصحوب بالتسبيح وشيك أن يجاب ، وهو في ذاته تربية للنفس وإعداد. وتطهير للقلب وزكاة. وهذه هي صورة النصر التي تتم في القلب ، فتعقبها الصورة الأخرى في واقع الحياة.

واختيار العشي والإبكار. إما كناية عن الوقت كله ـ فهذان طرفاه ـ وإما لأنهما آنان يصفو فيهما القلب ، ويتسع المجال للتدبر والسياحة مع ذكر الله.

هذا هو المنهج الذي اختاره الله لتوفير عدة الطريق إلى النصر وتهيئة الزاد. ولا بد لكل معركة من عدة ومن زاد ..

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧٧)

هذا الشوط متصل تمام الاتصال بالشوط الذي قبله ، وهو استمرار للفقرة الأخيرة من الدرس الماضي. وتكملة لتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للصبر على التكذيب والإيذاء والصد عن الحق والتبجح بالباطل. فبعد هذا التوجيه يكشف عن علة المجادلة في آيات الله بغير حجة ولا برهان. إنه الكبر الذي يمنع أصحابه

من التسليم بالحق وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر الذي يحيك في الصدور.

ومن ثم يجيء التنبيه إلى عظمة هذا الكون الذي خلقه الله ، وصغر الناس جميعا بالقياس إلى السماوات والأرض. ويمضي الدرس يعرض بعض الآيات الكونية. وفضل الله في تسخير بعضها للناس وهم أصغر منها وأضأل. ويشير إلى فضل الله على الناس في ذوات أنفسهم. وهذه وتلك تشهد بوحدانية المبدع الذي يشركون به. ويوجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الجهر بكلمة التوحيد والإعراض عما يعبدون من دون الله. وينتهي الشوط بمشهد عنيف من مشاهد القيامة يسألون فيه عما يشركون سؤال التبكيت والترذيل. ويختم كما ختم الشوط الماضي. بتوجيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصبر سواء أبقاه الله ليشهد بعض ما وعدهم ، أم توفاه إليه قبل مجيء وعد الله. فالأمر لله. وهم إليه راجعون على كل حال.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ. فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ، قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) ..

إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة ، ينسى أنه كائن صغير ضعيف ، يستمد القوة لا من ذاته ، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول. من الله. فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ ، ويورم ، ويتشامخ ، ويتعالى. يحيك في صدره الكبر. يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر. ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله!

وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر. وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة. وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع ، ويجادل لأنه غير مستيقن. والله العليم بعباده ، السميع البصير المطلع على السرائر ، يقرر أنه الكبر. والكبر وحده. هو الذي يحيك في الصدر. وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه. الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته. ومحاولة أخذ مكان ليس له ، ولا تؤهله له حقيقته. وليست له حجة يجادل بها ، ولا برهان يصدع به. إنما هو ذلك الكبر وحده :

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ..

ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود. ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه. ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود ، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو ، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود .. لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح ، ولتطامن كذلك وتواضع ، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله. وفي استسلام لله وإسلام.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ..

والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه. فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح ، الذي يتوقع منه الشر والأذى .. وفي الكبر هذا كله. وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله ؛ وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين. فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه .. (إِنَّهُ هُوَ

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .. الذي يسمع ويرى ، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع. فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه.

ثم يكشف للإنسان عن وضعه الحقيقي في هذا الكون الكبير. وعن ضآلته بالقياس إلى بعض خلق الله الذي يراه الناس ، ويدركون ضخامته بمجرد الرؤية ، ويزيدون شعورا به حين يعلمون حقيقته :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

والسماوات والأرض معروضتان للإنسان يراهما ، ويستطيع أن يقيس نفسه إليهما. ولكنه حين «يعلم» حقيقة النسب والأبعاد وحقيقة الأحجام والقوى ، يطامن من كبريائه ، ويتصاغر ويتضاءل حتى ليكاد يذوب من الشعور بالضئالة. إلا أن يذكر العنصر العلوي الذي أودعه الله إياه ، والذي من أجله كرمه. فهو وحده الذي يمسك به أمام عظمة هذا الكون الهائل العظيم ..

ولمحة خاطفة عن السماوات والأرض تكفي لهذا الإدراك.

هذه الأرض التي نحيا عليها تابع صغير من توابع الشمس تبلغ كتلتها ثلاثة من مليون من كتلة الشمس! ويبلغ حجمها أقل من واحد من مليون من حجم الشمس.

وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا ؛ والتي نحن منها. وقد كشف البشر ـ حتى اليوم ـ نحو مائة مليون من هذه المجرات! متناثرة في الفضاء الهائل من حولها تكاد تكون تائهة فيه! والذي كشفه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يذكر من بناء الكون! وهو ـ على ضآلته ـ هائل شاسع يدير الرؤوس مجرد تصوره. فالمسافة بيننا وبين الشمس نحو من ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. ذلك أنها رأس أسرة كوكبنا الأرضي الصغير. بل هي ـ على الأرجح ـ أم هذه الأرض الصغيرة. ولم تبعد أرضنا عن أحضان أمها بأكثر من هذه المسافة : ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال!

أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها نحو من مائة ألف مليون سنة .. ضوئية .. والسنة الضوئية تعني مسافة ست مائة مليون ميل! لأن سرعة الضوء هي ستة وثمانون ومائة ألف ميل في الثانية!

وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية ..!

ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها. وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض!

والله ـ سبحانه ـ يقول :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

وليس على قدرة الله أكبر ولا أصغر. ولا أصعب ولا أيسر. فهو خالق كل شيء بكلمة .. إنما هي الأشياء كما تبدو في طبيعتها ، وكما يعرفها الناس ويقدرونها .. فأين الإنسان من هذا الكون الهائل؟ وأين يبلغ به كبره من هذا الخلق الكبير؟

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) .. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) .. فالبصير يرى ويعلم ؛ ويعرف قدره وقيمته ، ولا يتطاول ، ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر. والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه ، ولا نسبته إلى ما حوله ، فيخطئ تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به ، ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير .. وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء. إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير.

وهذا عمي وجهل فهو يسيء .. يسيء كل شيء. يسيء إلى نفسه ، ويسيء إلى الناس. ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله. ويخطئ في قياس نفسه إلى ما حوله. فهو أعمى .. والعمى عمى القلوب!

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) ..

ولو تذكرنا لعرفنا. فالأمر واضح قريب. لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير ..

ثم لو تذكرنا الآخرة ، ووثقنا من مجيئها ، وتصورنا موقفنا فيها ، واستحضرنا مشهدنا بها :

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ..

ومن ثم فهم يجادلون ويستكبرون ، فلا يذعنون للحق ، ولا يعرفون مكانهم الحق ، فلا يتجاوزوه.

والتوجه إلى الله بالعبادة ، ودعاؤه والتضرع إليه ، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به ، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله ـ سبحانه ـ يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه ، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه ؛ وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار :

(وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) ..

وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها ، أو تخصيص وقت أو ظرف ، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله ، والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول : «أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه» وهي كلمة القلب العارف ، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما ـ حين يوفق الله ـ متوافقان متطابقان.

فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة ، وفي هذه الحياة الرخيصة ، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار.

* * *

ولما ذكر الذين يستكبرون عن عبادة الله ، شرع يعرض بعض نعم الله على الناس ، تلك النعم التي توحي بعظمته تعالى والتي لا يشكرون الله عليها ، بل يستكبرون عن عبادته والتوجه إليه :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً. إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ. اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. هُوَ الْحَيُّ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والأرض والسماء خلقان كونيان كذلك. وهي تذكر مع تصوير الله للبشر وإحسان صورهم ، ومع رزق الله لهم من الطيبات .. وتعرض كلها في معرض نعم الله وفضله على الناس ، وفي معرض الوحدانية وإخلاص الدين لله. فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني ، وعلى وجود

الصلة بينها ، ووجوب تدبرها في محيطها الواسع ، وملاحظة الارتباط بينها والاتفاق.

إن بناء الكون على القاعدة التي بناه الله عليها ، ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله له ، هو الذي سمح بوجود الحياة في هذه الأرض ونموها وارتقائها ، كما أنه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانية في شكلها الذي نعهده ، ووافق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته. وهو الذي جعل الليل مسكنا له وراحة واستجماما ، والنهار مبصرا معينا على الرؤية والحركة ، والأرض قرارا صالحا للحياة والنشاط ، والسماء بناء متماسكا لا يتداعى ولا ينهار ، ولا تختل نسبه وأبعاده ـ ولو اختلت لتعذر وجود الإنسان على هذه الأرض وربما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان ، الذي صوره الله فأحسن صورته ، وأودعه الخصائص والاستعدادات المتسقة مع هذا الكون ، الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطا بهذا الوجود الكبير .. فهذه كلها أمور مرتبطة متناسقة كما ترى ؛ ومن ثم يذكرها القرآن في مكان واحد ، بهذا الترابط. ويتخذ منها برهانه على وحدانية الخالق. ويوجه في ظلها القلب البشري إلى دعوة الله وحده ، مخلصا له الدين ، هاتفا : الحمد لله رب العالمين. ويقرر أن الذي يصنع هذا ويبدعه بهذا التناسق هو الذي يليق أن يكون إلها. وهو الله. رب العالمين. فكيف يصرف الناس عن هذا الحق الواضح المبين؟

ونذكر هنا لمحات خاطفة تشير إلى بعض نواحي الارتباط في تصميم هذا الكون وعلاقته بحياة الإنسان .. مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الإشارة المجملة في كتاب الله ..

«لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار ..

«لو دارت الأرض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل ، وتفككت الأرض ، وتناثرت هي الأخرى في الفضاء ..

«لو دارت الأرض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الناس من حر ومن برد. وسرعة دوران الأرض حول نفسها ، هذه السرعة القائمة الكائنة اليوم ، هي سرعة توافق ما على الأرض من حياة حيوانية نباتية بأوسع معانيها.

«لو لا دوران الأرض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها.

«ما ذا يحدث لو استقام محور الأرض ، وجرت الأرض في مدارها حول الشمس في دائرة ، الشمس مركزها؟ إذن لاختفت الفصول ، ولم يدر الناس ما صيف وما شتاء ، وما ربيع وما خريف (١)».

«لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام ، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين. ولما أمكن وجود حياة النبات.

«ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره.

«لو كان الأوكسجين بنسبة ٥٠ في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من ٢١ في المائة فإن جميع المواد القابلة

__________________

(١) عن كتاب «مع الله. في السماء للدكتور أحمد زكي.

للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال. لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى ١٠ في المائة أو أقل فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان ـ كالنار مثلا ـ تتوافر له (١)».

وهناك آلاف الموافقات في تصميم هذا الكون لو اختل واحد منها أدنى اختلال ما كانت الحياة في صورتها هذه التي نعرفها ، موافقة هكذا لحياة الإنسان.

فأما الإنسان ذاته فمن حسن صورته هذه الهيئة المتفردة بين سائر الأحياء ؛ وهذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقة ؛ وهذا التوافق بين تكوينه والظروف الكونية العامة التي تسمح له بالوجود والحركة في هذا الوسط الكوني كما هو كائن ؛ وذلك كله فوق خاصيته الكبرى التي جعلت منه خليفة في الأرض ؛ مجهزا بأداة الخلافة الأولى : العقل والاتصال الروحي بما وراء الأشكال والأعراض.

ولو رحنا نبحث دقة التكوين الإنساني وتناسق أجزائه ووظائفه ـ بوصفها داخلة في قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ـ لوقفنا أمام كل عضو صغير ، بل أمام كل خلية مفردة ، في هذا الكيان الدقيق العجيب.

ونضرب مثلا لهذه الدقة العجيبة فك الإنسان ووضع الأسنان فيه من الناحية الآلية البحتة. إن هذا الفك من الدقة بحيث إن بروز واحد على عشرة من المليمتر في اللثة أو في اللسان ، يزحم اللثة واللسان ؛ وبروز مثل هذا الحجم في ضرس أو سن يجعله يصطك بما يقابله ويحتك! ووجود ورقة كورقة السيجارة بين الفكين العلوي والسفلي يجعلها تتأثر بضغط الفكين عليها فتظهر فيها علامات الضغط لأنها من الدقة بحيث يلتقيان تماما ليمضغ الفك ويطحن ما هو في سمك ورقة السيجارة!

ثم .. إن هذا الإنسان بتكوينه هذا مجهز ليعيش في هذا الكون .. عينه هذه مقيسة على الذبذبات الضوئية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكل حاسة فيه أو جارحة مصممة وفق الوسط المهيأ لحياته ، ومجهزة كذلك بالقدرة على التكيف المحدود عند تغير بعض الظروف.

إنه مخلوق لهذا الوسط. ليعيش فيه ، ويتأثر به ، ويؤثر فيه. وهناك ارتباط وثيق بين تصميم هذا الوسط وتكوين هذا الإنسان. وتصوير الإنسان على هذه الصورة ذو علاقة بوسطه. أي بالأرض والسماء. ومن ثم يذكر القرآن صورته في نفس الآية التي يذكر فيها الأرض والسماء .. ألا إنه الإعجاز في هذا القرآن ..

وتكفي هذه الإشارات بهذا الاختصار إلى دقة صنع الله وتناسقه بين الكون والإنسان.

ونقف وقفات سريعة أمام النصوص القرآنية :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) ..

إن السكون بالليل ضرورة لكل حي. ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية وتستكن لتزاول نشاطها في النور. ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون. بل لا بد من ليل. لا بد من ظلام. فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تصل إلى حد من الإجهاد تتلف معه أنسجتها لأنها لم تتمتع بقسط ضروري لها من السكون.

__________________

(١) عن كتاب «العلم يدعو للإيمان» ترجمة محمود صالح الفلكي.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) .. والتعبير على هذا النحو تعبير مصور مشخص. وكأنما النهار حي يبصر ويرى. وإنما الناس هم الذين يبصرون فيه. لأن هذه هي الصفة الغالبة ..

وتقلب الليل والنهار على هذا النحو نعمة في طيها نعم. ولو كان أحدهما سرمدا. بل لو كان أطول مما هو مرات معدودة لانعدمت الحياة. فلا عجب أن يقرن توالي الليل والنهار بذكر الفضل الذي لا يشكره أكثر الناس :

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ..

ويعقب على هاتين الظاهرتين الكونيتين ، بأن الذي خلقهما هو الذي يكون إلها يستحق هذا الاسم العظيم :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) ..

وإنه لعجيب يستحق التعجيب أن يرى الناس يد الله في كل شيء ، ويعلموا أنه الخالق لكل شيء معرفة حتمية مفروضة على العقل فرضا بحكم وجود الأشياء ، واستحالة ادعاء أحد أنها من خلقه ، وعدم استقامة القول بأنها وجدت من غير موجد. عجيب يستحق التعجيب أن يكون هذا كله ، ثم يصرف الناس عن الإيمان والإقرار .. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) ..

ولكنه هكذا يصرف ناس عن هذا الحق الواضح. هكذا كما يقع من المخاطبين الأولين بالقرآن. كذلك كان في كل زمان ؛ بلا سبب ولا حجة ولا برهان :

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ..

وينتقل من ظاهرتي الليل والنهار ، إلى تصميم الأرض لتكون قرارا ، والسماء لتكون بناء :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) ..

والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها إجمالا. والسماء بناء ثابت النسب والأبعاد والحركات والدورات ومن ثم تضمن الاستقرار والثبات لحياة هذا الإنسان ، المحسوب حسابها في تصميم هذا الوجود ، المقدرة في بنائه تقديرا ..

ويربط بتكوين السماء والأرض تكوين الإنسان ورزقه من الطيبات على النحو الذي أشرنا إلى بعض أسراره :

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ..

ويعقب على هذه الآيات والهبات كما عقب على الأولى :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ. فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ..

ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر ، ويراعيكم ويقدر لكم مكانا في ملكه .. ذلكم الله ربكم. (فَتَبارَكَ اللهُ) .. وعظمت بركته وتضاعفت. (رَبُّ الْعالَمِينَ) .. أجمعين.

(هُوَ الْحَيُّ) ..

أجل. هو وحده الحي. الحي حياة ذاتية غير مكسوبة ولا مخلوقة. وغير مبتدئة ولا منتهية. وغير حائلة ولا زائلة. وغير متقلبة ولا متغيرة. وما من شيء له هذه الصفة من الحياة. سبحانه هو المتفرد بالحياة.

وهو المتفرد بالألوهية. بما أنه المتفرد بالحياة. فالحي الواحد هو الله :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ..

ومن ثم .. (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .. واحمدوه في الدعاء : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

* * *

وأمام هذه الآيات والهبات ، وما تلاها من تعقيبات ، وفي أشد اللحظات امتلاء بحقيقة الوحدانية ، وحقيقة الألوهية. وحقيقة الربوبية. يجيء التلقين لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليعلن للقوم أنه منهي عن عبادة ما يدعون من دون الله ، مأمور بالإسلام لله رب العالمين :

(قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ..

أعلن لهؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله ويجحدون هباته ، أنك نهيت عن عبادة ما يدعون من دون الله. وقل لهم : إنني نهيت وانتهيت (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) فعندي بينة ، وأنا بها مؤمن ، ومن حق هذه البينة أن أقتنع بها وأصدق ، ثم أعلن كلمة الحق .. ومع الانتهاء عن عبادة غير الله ـ وهو سلب ـ الإسلام لرب العالمين ـ وهو إيجاب ـ ومن الشقين تتكامل العقيدة.

ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعد ما استعرض آياته في الآفاق. هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة ؛ وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ..

وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان ، لأنه كان قبل وجود الإنسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه. ولكن هذا إنما تم حديثا بعد نزول هذا القرآن بقرون!

فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض. ومنها الحياة الإنسانية. ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة ، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة. وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة ، واتحادهما ، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة .. وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى ، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله ، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة : مرحلة الطفولة. ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين. ثم الشيخوخة. وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أن يبلغ هذه المراحل جميعا أو بعضها. (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) مقدرا معلوما لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .. فمتابعة رحلة الجنين. ورحلة الوليد. وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير ، مما للعقل فيه دور كبير ..

ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقا. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص. ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرنا أمر يستوقف النظر. ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه.

ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي

مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته. فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر .. فيحسون .. ثم يستجيبون أو لا يستجيبون!

وهو يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة. وحقيقة الخلق والإنشاء جميعا :

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ..

وتكثر الإشارة في القرآن إلى آيتي الحياة والموت. لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدة وعمق. ثم لأنهما الظاهرتان البارزتان المكررتان في كل ما يقع عليه حس الإنسان. وللإحياء والإماتة مدلول أكبر مما يبدو لأول مرة. فالحياة ألوان. والموت ألوان. وإن رؤية الأرض الميتة. ثم رؤيتها تنبض بالحياة. ورؤية الشجرة الجافة الأوراق والأغصان في موسم ، ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع ، وتخضر وتورق وتزهر ، كما لو كانت الحياة تتفجر منها وتفيض. ورؤية البيضة .. ثم الفرخ. ورؤية البذرة ثم النبتة .. وعكس هذه الرحلة .. من الحياة إلى الموت ، كالرحلة من الموت إلى الحياة .. كلها تلمس القلب وتستجيشه إلى قدر من التأثر والتدبر يختلف باختلاف النفوس والحالات.

ومن الحياة والموت إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع. وإن هي إلا الإرادة يتمثل اتجاهها إلى الخلق. خلق أي شيء. في كلمة (كُنْ) .. فإذا الوجود ينبثق على إثرها (فَيَكُونُ) فتبارك الله أحسن الخالقين ..

* * *

وأمام نشأة الحياة البشرية. وفي ظل مشهد الحياة والموت. وحقيقة الإنشاء والإبداع .. يبدو الجدال في آيات الله مستغربا مستنكرا ؛ ويبدو التكذيب بالرسل عجيبا نكيرا. ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ. ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ..

إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله ، في ظل استعراض هذه الآيات. مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك!

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) ..

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) ..

وهم كذبوا كتابا واحدا. ورسولا واحدا. ولكنهم إنما يكذبون بهذا كل ما جاء به الرسل. فهي عقيدة واحدة ، تتمثل في أكمل صورها في الرسالة الأخيرة. ومن ثم فهم كذبوا بكل رسالة وبكل رسول .. كل مكذب في القديم والحديث صنع هذا حين كذب رسوله الذي جاءه بالحق الواحد وبعقيدة التوحيد.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..

ثم يعرض ماذا سوف يعلمون ..

إنها الإهانة والتحقير في العذاب. لا مجرد العذاب. (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) ..

بهذه المهانة كما تسحب الأنعام والوحوش! وعلام التكريم؟ وقد خلعوا عن أنفسهم شارة التكريم؟!

وبعد السحب والجر في هذا العذاب وفي هذه المهانة ، ينتهي بهم المطاف إلى ماء حار وإلى نار :

(فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ..

أي يربطون ويحبسون ، على طريقة سجر الكلاب. أي يملأ لهم المكان ماء حارا ونارا موقدة. وإلى هذا ينتهون.

وبينما هم في هذا العذاب المهين يوجه إليهم التبكيت والترذيل والإحراج والإعنات :

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟) ..

فيجيبون إجابة المخدوع الذي انكشفت له خدعته ، وهو يائس حسير.

(قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا. بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) ..

غابوا عنا فلم نعد نعرف لهم طريقا ، وما عادوا يعرفون لنا طريقا. بل لم نكن ندعو من قبل شيئا. فقد كانت كلها أوهاما وأضاليل!

وعلى إثر الجواب البائس يجيء التعقيب العام :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) ..

ثم يوجه إليهم التأنيب الأخير :

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ..

يا مغيث! وأين إذن كان السحب في السلاسل والأغلال ، وكان الماء الحار والنار؟ يبدو أنها كانت مقدمة للدخول في جهنم للخلود .. (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) .. فعن الكبر نشأت هذه المهانة. وجزاء على الكبر كان هذا التحقير!

* * *

وأمام هذا المشهد. مشهد الذل والمهانة والعذاب الرعيب. وعاقبة الجدال في آيات الله ، والكبر النافخ في الصدور .. أمام هذا المشهد وهذه العاقبة يتجه السياق إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوصيه بالصبر على ما يجده من كبر ومن جدال ، والثقة بوعد الله الحق على كل حال. سواء أراه الله بعض الذي يعدهم في حياته ، أو قبضه إليه وتولى الأمر عنه. فالقضية كلها راجعة إلى الله ، وليس على الرسول إلا البلاغ ، وهم إليه راجعون :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ..

وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق. إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود ، يقال له ما مفهومه : أد واجبك وقف عنده. فأما النتائج فليست من أمرك. حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين ليس له أن يعلق به قلبه! إنه يعمل وكفى. يؤدي واجبه ويمضي. فالأمر ليس أمره. والقضية ليست قضيته. إن الأمر كله لله. والله يفعل به ما يريد.

يا لله! يا للمرتقى العالي. ويا للأدب الكامل. الذي يأخذ الله به أصحاب هذه الدعوة. في شخص رسوله الكريم.

وإنه لأمر شاق على النفس البشرية. أمر يحتاج إلى الصبر على أشواق القلب البشري العنيفة. لعله من أجل هذا كان التوجيه إلى الصبر في هذا الموضع من السورة. فلم يكن هذا تكرارا للأمر الذي سبق فيها. إنما كان توجيها إلى صبر من لون جديد. ربما كان أشق من الصبر على الإيذاء والكبر والتكذيب؟!

إن احتجاز النفس البشرية عن الرغبة في أن ترى كيف يأخذ الله أعداءه وأعداء دعوته ، بينما يقع عليها العداء والخصومة من أولئك الأعداء ، أمر شديد على النفس صعيب. ولكنه الأدب الإلهي العالي ، والإعداد الإلهي لأصفيائه المختارين ، وتخليص النفس المختارة من كل شيء لها فيه أرب ، حتى ولو كان هذا الأرب هو الانتصار من أعداء هذا الدين!

ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغي أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله في كل حين. فهذا هو حزام النجاة في خضم الرغائب ، التي تبدو بريئة في أول الأمر ، ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم!

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥)

هذا الشوط استكمال للتعقيب في آخر الدرس الماضي. استكمال لتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين إلى الصبر ، حتى يأذن الله ، ويتحقق وعده ووعيده ، سواء تحقق هذا في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أم استأخر بعد وفاته. فالأمر ليس أمره ، إنما هو أمر هذه العقيدة والمؤمنين بها والمجادلين فيها ، المستكبرين عنها. والحكم في هذا الأمر هو الله. وهو الذي يقود حركتها ويوجه خطواتها كما يشاء.

فأما هذا الشوط الجديد ـ الذي تختم به السورة ـ فيستطرد في عرض جوانب أخرى من هذه الحقيقة ..

إن قصة هذا الأمر قصة طويلة وقديمة ، ولم تبدأ برسالة الإسلام ورسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فقبله كانت رسل. قص الله بعضهم عليه وبعضهم لم يقصصهم عليه. وكلهم ووجهوا بالتكذيب والاستكبار. وكلهم طولب بالآيات والخوارق. وكلهم تمنى لو يأتي الله بخارقة يذعن لها المكذبون. ولكن ما من آية إلا بإذن الله ، في الوقت الذي يريده الله. فهي دعوته ، وهو يصرفها كيف يشاء.

على أن آيات الله مبثوثة في الكون ، معروضة للأنظار في كل زمان ومكان. يتحدث منها هنا عن الأنعام ، والفلك ، ويشير إشارة عامة إلى سائرها الذي لا يملك إنكاره أحد.

ويختم السورة بلمسة قوية عن مصارع الغابرين ، الذين وقفوا موقف المكذبين ، وغرهم ما كانوا فيه من القوة والعمارة والعلم. ثم أدركتهم سنة الله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) ..

وبهذا الإيقاع تختم السورة التي دارت كلها على المعركة بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والصلاح والطغيان حتى ختمت هذا الختام الأخير ..

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ؛ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) ..

إن لهذا الأمر سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه. وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم ؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف ؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح.

وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكئ عليها لتقررها تقريرا شديدا :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ..

فالنفس البشرية ـ ولو كانت نفس رسول ـ تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعا. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق ؛ ويروضوا أنفسهم عليه ؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر ؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله.

ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة ..

كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم ؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) ..

ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير.

* * *

ثم يوجه طلاب الخوارق إلى آيات الله الحاضرة التي ينسون وجودها بطول الألفة. وهي لو تدبروها بعض

هذه الخوارق التي يطلبون ؛ وهي شاهدة كذلك بالألوهية ؛ لبطلان أي ادعاء بأن أحدا غير الله خلقها ، وأي ادعاء كذلك بأنها خلقت بلا خالق مدبر مريد :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ؟) ..

وخلق هذه الأنعام ابتداء آية خارقة كخلق الإنسان. فبث الحياة فيها وتركيبها وتصويرها كلها خوارق ، لا يتطاول الإنسان إلى ادعائها! وتذليل هذه الأنعام وتسخيرها للإنسان ، وفيها ما هو أضخم منه جسما وأشد منه قوة ، وهو جعلها : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ ..). وهذه لا يستحق الاحترام أن يقول قائل : إنها هكذا وجدت والسّلام! وإنها ليست خارقة معجزة بالقياس إلى الإنسان! وإنها لا تدل على الخالق الذي أنشأها وسخرها بما أودعها من خصائص وأودع الإنسان! ومنطق الفطرة يقر بغير هذا الجدال والمراء.

ويذكرهم بما في هذه الآيات الخوارق من نعم كبار :

(لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ. وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ..

والحاجات التي كانت في الصدور والتي كانوا يبلغونها على الأنعام هي حاجات ضخمة في ذلك الزمان. قبل نشوء كل وسائل النقل والسفر والاتصال إلا على هذه الأنعام. وما تزال هناك حاجات تبلغ على هذه الأنعام حتى اليوم وغد. وهناك حتى اللحظة أسفار في بعض الجبال لا تبلغها إلا الأنعام مع وجود القطار والسيارة والطيارة ، لأنها مجازات ضيقة لا تتسع لغير أقدام الأنعام!

(وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ..

وهذه كتلك آية من آيات الله. ونعمة من نعمه على الإنسان. وسير الفلك على الماء قائم على نواميس وموافقات في تصميم هذا الكون : سمائه وأرضه. يابسه ومائه. وفي طبيعة أشيائه وعناصره. لا بد أن توجد حتى يمكن أن يسير الفلك على الماء. سواء سار بالشراع أم بالبخار أم بالذرة ، أم بغيرها من القوى التي أودعها الله هذا الكون ، ويسر استخدامها للإنسان .. ومن ثم تذكر في معرض آيات الله ، وفي معرض نعمه على السواء.

وكم هنالك من آيات من هذا النوع الحاضر المتناثر في الكون ، لا يملك إنسان أن ينكره وهو جاد :

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ. فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ؟)

نعم إن هنالك من ينكر. وهنالك من يجادل في آيات الله. وهنالك من يجادل بالباطل ليدحض به الحق. ولكن أحدا من هؤلاء لا يجادل إلا عن التواء ، أو غرض ، أو كبر ، أو مغالطة ، لغاية أخرى غير الحقيقة.

هنالك من يجادل لأنه طاغية كفرعون وأمثاله ، يخشى على ملكه ، ويخشى على عرشه ، لأن هذا العرش يقوم على أساطير يذهب بها الحق ، الذي يثبت بثبوت حقيقة الألوهية الواحدة!

وهنالك من يجادل لأنه صاحب مذهب في الحكم كالشيوعية يتحطم إذا ثبتت حقيقة العقيدة السماوية في نفوس البشر. لأنه يريد أن يلصق الناس بالأرض ؛ وأن يعلق قلوبهم بمعداتهم وشهوات أجسادهم ؛ وأن يفرغها من عبادة الله لتعبد المذهب أو تعبد الزعيم!

وهنالك من يجادل لأنه ابتلي بسيطرة رجال الدين ـ كما وقع في تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى ـ ومن ثم فهو يريد الخلاص من هذه السيطرة. فيشتط فيرد على الكنيسة إلهها ، الذي تستعبد باسمه الناس!

وهنالك أسباب وأسباب .. غير أن منطق الفطرة ينفر من هذا الجدال ، ويقر بالحقيقة الثابتة في ضمير الوجود ؛ والتي تنطق بها آيات الله بعد كل جدال!

* * *

وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع القوي الأخير :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ. وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

ومصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية ؛ وبعضها ما تزال له آثار تحكي قصته ؛ وبعضها حفظته الروايات على الألسنة ، أو حفظته الأوراق والكتب. والقرآن كثيرا ما يوجه القلوب إليها ، لما فيها من دلالة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية ؛ ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف. والقرآن يخاطب الفطرة بما يعلمه منزل هذا القرآن من حقيقة الفطرة ، ومساربها ومداخلها ، وأبوابها التي تطرق فتفتح ، بعضها بعد نقرة خفيفة وبعضها بعد طرقات كثيرة إن كان قد ران عليها الركام!

وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الأرض ، بعين مفتوحة ، وحس متوفز ، وقلب بصير لينظروا ويتدبروا ما كان في الأرض قبلهم ؛ وما يتعرضون هم لجريانه عليهم :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟) ..

وقبل أن يذكر كيف كان هذه العاقبة ، يصف حال الذين من قبلهم ، ويقرن إليها حالهم هم لتتم الموازنة ، وتتم العبرة :

(كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ، وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) ..

توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران. ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل العرب ، قص الله على رسوله بعضها ، ولم يقصص عليه بعضها. ومنهم من كان العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره ..

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..

ولم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا عمارة ، مما كانوا يعتزون به ويغترون. بل كان هذا هو أصل شقائهم ، وسبب هلاكهم :

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ..

والعلم ـ بغير إيمان ـ فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور ، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة ، ويملك مقدرات عظيمة ، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون ؛ ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل. وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه ، وخفف من فرحه الذي يستخفه.

وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم. واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه :

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

فلما عاينوا بأس الله ، سقط عنهم القناع ، وأدركوا مدى الغرور ، واعترفوا بما كانوا ينكرون ، وأقروا بوحدانية الله ، وكفروا بشركائهم من دونه. ولكن الأوان كان قد فات :

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ..

ذلك أن سنة الله قد جرت على أن لا تقبل التوبة بعد ظهور بأس الله : فهي توبة الفزع لا توبة الإيمان :

(سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) ..

وسنة الله ثابتة لا تضطرب ولا تختلف ولا تحيد عن الطريق.

(وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

* * *

وعلى هذا المشهد العنيف. مشهد بأس الله يأخذ المكذبين. ومشهدهم يستغيثون ويفزعون ، ويعلنون كلمة الإذعان والتسليم. تختم السورة. فيتناسق هذا الختام مع جوها وظلها وموضوعها الأصيل.

ولقد مررنا في ثنايا السورة بقضايا العقيدة التي تعالجها السور المكية : قضية التوحيد ، وقضية البعث ، وقضية الوحي .. ولكنها لم تكن هي موضوع السورة البارز. إنما كانت المعركة بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والصلاح والطغيان ، هي البارزة ، وكانت ملامح المعركة هي التي ترسم «شخصية السورة» .. وسماتها المميزة لها بين سور القرآن ..

* * *

(٤١) سورة فصّلت مكيّة

وآياتها أربع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا

قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ

الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)

قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة .. الألوهية الواحدة. والحياة الآخرة. والوحي بالرسالة. يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية.

وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق ، واستدلال عليها. وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق ، وتحذير من التكذيب بها ، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة ، وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة. وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده ؛ بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة ... كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسلمون ويستسلمون.

فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) .. و : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) .. ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) .. وفي وسطها يرد : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) .. وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا : آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) ..

وعن قضية الآخرة يرد تهديد للذين لا يؤمنون بالآخرة : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) .. وتختم بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) .. كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعا. بل إن هذا الطريق أشد توكيدا لهذه القضية وتشخيصا.

وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي. فهي تفتتح به في تفصيل : (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ..) ... وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآن : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) .. ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ما يُقالُ لَكَ : إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ...) ..

وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً ، وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة. تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام. وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين. وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين. وأخيرا تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق ؛ وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد.

ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .. ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ؛ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .. أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة ، وتعرض على أصحابها عارية من كل ستار : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ : هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ..

ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..

ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا : أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعين : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ!) ..

وهكذا تعرض حقائق العقيدة ـ في السورة ـ في هذا الحشد من المؤثرات العميقة. ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة ، ويصور طابعها ، ويرسم ظلالها .. والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق ..

* * *

ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين ، متماسكي الحلقات ..

الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه. وتليها قصة خلق السماء والأرض. فقصة عاد وثمود. فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال ، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس. يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. ومن آثار هذا قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا. وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة ـ لا قرناء السوء ـ يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة. ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية .. وبذلك ينتهي هذا الشوط.

ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة ، والأرض الخاشعة ، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه ، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب. ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه. ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب. وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها. وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات ، وما تكنه الأرحام من أنسال. ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها. ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر ، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.

وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ..

وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير ..

والآن نبدأ في التفصيل ..

* * *

(حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ. فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ؛ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ..

سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سورة شتى. وتكرار هذا الافتتاح : «حا. ميم» .. يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري ، لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه ؛ فهو ينسى إذا طال عليه الأمد ؛ وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه. والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات ، وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء.

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) .. وكأن «حا. ميم» اسم للسورة. أو لجنس القرآن. إذ أنها من جنس الأحرف التي صيغ منها لفظ هذا القرآن. وهي تقع مبتدأ .. و (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) خبر المبتدأ.

وذكر الرحمن الرحيم عند ذكر تنزيل الكتاب ؛ يشير إلى الصفة الغالبة في هذا التنزيل. صفة الرحمة.

وما من شك أن تنزيل هذا الكتاب جاء رحمة للعالمين. رحمة لمن آمنوا به واتبعوه ورحمة كذلك لغيرهم. لا من الناس وحدهم ، ولكن للأحياء جميعا. فقد سن منهجا ورسم خطة تقوم على الخير للجميع. وأثر في حياة البشرية ، وتصوراتها ، ومدركاتها ، وخط سيرها ؛ ولم يقتصر في هذا على المؤمنين به إنما كان تأثيره عالميا ومطردا منذ أن جاء إلى العالمين. والذين يتتبعون التاريخ البشري بإنصاف ودقة ؛ ويتتبعونه في معناه الإنساني العام ، الشامل لجميع أوجه النشاط الإنساني ، يدركون هذه الحقيقة ، ويطمئنون إليها. وكثيرون منهم قد سجلوا هذا واعترفوا به في وضوح.

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ..

والتفصيل المحكم ، وفق الأغراض والأهداف ، ووفق أنواع الطبائع والعقول ، ووفق البيئات والعصور ، ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة .. التفصيل المحكم وفق هذه الاعتبارات سمة واضحة في هذا الكتاب. وقد فصلت هذه الآيات وفق تلك الاعتبارات. فصلت قرآنا عربيا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) .. لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة والتمييز.

وقام هذا القرآن يؤدي وظيفته :

(بَشِيراً وَنَذِيراً) ..

يبشر المؤمنين العاملين ، وينذر المكذبين المسيئين ، ويبين أسباب البشرى وأسباب الإنذار ، بأسلوبه العربي المبين. لقوم لغتهم العربية. ولكن أكثرهم مع هذا لم يقبل ويستجب :

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)

وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلا ، ويتحامون أن يعرضوا قلوبهم لتأثير هذا القرآن القاهر. وكانوا يحضون الجماهير على عدم السماع كما سيجيء قولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ..

وأحيانا كانوا يسمعون ، وكأنهم لا يسمعون ، لأنهم يقاومون أثر هذا القرآن في نفوسهم ؛ فكأنهم صم لا يسمعون!

(وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ..

قالوا هذا إمعانا في العناد ، وتيئيسا للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليكف عن دعوتهم ، لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته ، على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين!

قالوا : قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك. وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك. ومن بيننا وبينك حجاب ، فلا اتصال بيننا وبينك. فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا. أو أنهم قالوا غير مبادلين : نحن لا نبالي قولك وفعلك ، وإنذارك ووعيدك. فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا. لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل. وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين.

هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو ، لا يكف عن الدعوة ، ولا ييأس من التيئيس ، ولا يستبطئ وعد الله له ولا وعيده للمكذبين. كان يمضي مأمورا أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده ؛ فما هو إلا بشر يتلقى الوحي ، فيبلغ به ، ويدعو الناس إلى الله الواحد. وإلى الاستقامة على الطريق ، وينذر المشركين كما أمر أن يفعل. والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئا ، فهو ليس إلا بشرا مأمورا :

(قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ؛ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) ..

يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال ، والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف ، واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار ، دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين .. إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة ، ومن عظمة في احتمال هذه المشقة ، إلا من يكابد طرفا من هذا الموقف في واقع الحياة. ثم يمضي في الطريق!

ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل. فطريق الدعوة هو طريق الصبر. الصبر الطويل. وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة ، ثم إبطاء النصر. بل إبطاء أماراته. ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول!

إن أقصى ما كان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول :

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ..

وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة ، لم نقف عليها ، فهذه الآية مكية. والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة. وإن كان أصل الزكاة كان معروفا في مكة. والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال ، وتحصيلها كفريضة معينة. أما في مكة فقد كانت أمرا عاما يتطوع به المتطوعون ، غير محدود ، وأداؤه موكول إلى الضمير .. أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور.

وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك. وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف.

* * *

ثم يمضي الداعية يكشف لهم عن شناعة الجرم الذي يرتكبونه بالشرك والكفر. يمضي بهم في المجال الكوني العريض. مجال السماوات والأرض ، والكون الذي هم بالقياس إليه شيء ضئيل هزيل. يمضي بهم في هذا المجال ليكشف لهم عن سلطان الله الذي يكفرون به في فطرة هذا الكون الذي هم جزء منه. ثم ليخرجهم من الزاوية الضيقة الصغيرة التي ينظرون منها إلى هذه الدعوة ، حيث يرون أنفسهم وذواتهم كبيرة كبيرة ؛ ويشغلهم النظر إليها وإلى اختيار محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من دونهم. والحرص على مكانتهم ومصالحهم .. إلى آخر هذه الاعتبارات الصغيرة .. يشغلهم هذا عن النظر إلى الحقيقة الضخمة التي جاءهم بها محمد ، وفصلها هذا القرآن. الحقيقة التي تتصل بالسماوات والأرض ؛ وتتصل بالبشرية كلها في جميع أعصارها ؛ وتتصل بالحق الكبير الذي يتجاوز زمانهم ومكانهم وشخوصهم ؛ وتتصل بالكون كله في الصميم :

(قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ..

قل لهم : إنكم إذ تكفرون. إذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار. إنما تأتون أمرا عظيما ، مستنكرا قبيحا ، إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها. وبارك فيها. وقدر فيها أقواتها.

والذي خلق السماوات ونظم أمرها. وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا. والذي أسلمت له السماء والأرض قيادهما طائعتين مستسلمتين .. وأنتم .. أنتم بعض سكان هذه الأرض تتأبون وتستكبرون!

ولكن النسق القرآني يعرض هذه الحقائق بطريقة القرآن التي تبلغ أعماق القلوب وتهزها هزا. فلنحاول أن نسير مع هذا النسق بالترتيب والتفصيل :

(قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً. ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) ..

إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين. ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الأرض. يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض. (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) .. وأنتم تكفرون به وتجعلون له أندادا. وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها. فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟!

وما هذه الأيام : الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض. والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الأقوات ، وأحل فيهما البركة. فتمت بهما الأيام الأربعة؟

إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها. وليست من أيام هذه الأرض. فأيام هذه الأرض إنما هي مقياس زمني مستحدث بعد ميلاد الأرض. وكما للأرض أيام ، هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس ، فللكواكب الأخرى أيام ، وللنجوم أيام ، وهي غير أيام الأرض. بعضها أقصر من أيام الأرض وبعضها أطول.

والأيام التي خلقت فيها الأرض أولا ، ثم تكونت فيها الجبال ، وقدرت فيها الأقوات ، هي أيام أخرى مقيسة بمقياس آخر ، لا نعلمه ، ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة.

وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طورا بعد طور ، حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها. وهذه قد استغرقت ـ فيما تقول النظريات التي بين أيدينا ـ نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا!

وهذه مجرد تقديرات علمية مستندة إلى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بوساطتها. ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ إلى تلك التقديرات على أنها حقائق نهائية. فهي في أصلها ليست كذلك. وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل. فنحن لا نحمل القرآن عليها ؛ إنما نجد أنها قد تكون صحيحة إذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقاربا ، ووجدنا أنها تصلح تفسيرا للنص القرآني بغير تمحل. فنأخذ من هذا أن هذه النظرية أو تلك أقرب إلى الصحة لأنها أقرب إلى مدلول النص القرآني.

والراجح الآن في أقوال العلم أن الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس الآن ـ والأرجح أنها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب غير متفق على تقديره ـ وأنها استغرقت أزمانا طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت. وأن جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور.

ولما بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت. وكانت في أول الأمر صخرية صلبة. طبقات من الصخر بعضها فوق بعض.

وفي وقت مبكر جدا تكونت البحار من اتحاد الإيدروجين بنسبة ٢ والأكسجين بنسبة ١ ومن اتحادهما ينشأ الماء.

«والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته ، وحمله وترسيبه ، حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع. وتعاونا على نحر الجبال والنجاد ، وملء الوهاد ، فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا أثر الهدم وأثر البناء» (١).

«إن هذه القشرة الأرضية في حركة دائمة ، وفي تغير دائم ، يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها ، ويتبخر ماء البحر. تبخره الشمس ، فيصعد إلى السماء فيكون سحبا تمطر الماء عذبا ، فينزل على الأرض متدفقا ، فتكون السيول ، وتكون الأنهار ، تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها. تؤثر في صخره فتحله فتبدل فيه من صخر صخرا. (أي تحوله إلى نوع آخر من الصخور) وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله. ويتبدل وجه الأرض على القرون ، ومئات القرون وآلافها. وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل. وتفعل الرياح بوجه الأرض ما يفعل الماء. وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح ، بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور. والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك. ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين.

«وتسأل عالم الأرض ـ العالم الجيولوجي ـ عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشيء الكثير ، ويأخذ يحدثك عن أنواعها الثلاثة الكبرى.

«يحدثك عن الصخور النارية. تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخرا منصهرا. ثم برد. ويضرب لك منها مثلا بالجرانيت والبازلت. ويأتيك بعينة منها يشير لك فيها إلى ما احتوته من بلورات ، بيضاء وحمراء أو سوداء ، ويقول لك : إن كل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي ، له كيان بذاته. فهذه الصخور أخلاط. ويلفت فكرك إلى أنه من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الأرض عند ما تمت الأرض تكونا في القديم الأقدم من الزمان. ثم قام يفعل فيها الماء ، هابطا من السماء أو جاريا في الأرض ، أو جامدا في الثلج ، وقام يفعل الهواء ويفعل الريح .. وقامت تفعل الشمس. قامت جميعها تغير من هذه الصخور. من طبيعتها ومن كيميائها. فولدت منها صخورا غير تلك الصخور حتى ما يكاد يجمعها في منظر أو مخبر شيء.

«وينتقل بك الجيولوجي إلى الصنف الأكبر الثاني من الصخور. إلى الصخور التي أسموها بالمترسبة أو الراسبة ، وهي تلك الصخور التي اشتقت ، بفعل الماء والريح والشمس ، أو بفعل الأحياء من صخور أكثر في الأرض أصالة وأعقد. وأسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى. إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى ، أو وهي في سبيل اشتقاق. حملها الماء أو حملتها الريح ، ثم هبطت ورسبت واستقرت حيث هي من الأرض.

«ويضرب لك الجيولوجي مثلا للصخور الراسبة بالحجر الجيري الذي يتألف منه جبل كجبل المقطم ، ومن حجره تبني القاهرة بيوتها. ويقول لك : إنه مركب كيماوي يعرف بكربونات الكلسيوم ، وإنه اشتق في الأرض من عمل الأحياء أو عمل الكيمياء. ويضرب لك مثلا ، بالرمل ، ويقول لك : إن أكثره أكسيد السيلسيوم ، وإنه مشتق كذلك ، ومثلا آخر بالطفل والصلصال ، وكلها من أصول سابقة.

__________________

(١) عن كتاب «مع الله في السماء» للدكتور أحمد زكي.

«وتسأل عن هذه الأصول السابقة التي منها اشتقت تلك الصخور الراسبة ، على اختلافها ، فتعلم أنها الصخور النارية. بدأت الأرض عند ما انجمد سطحها من بعد انصهار ، في قديم الأزل ، ولا شيء على هذا السطح المنجمد غير الصخر الناري. ثم جاء الماء ، وجاءت البحار ، وتفاعل الصخر الناري والماء. وشركهما الهواء. شركهما غازات متفاعلة ، وشركهما رياحا عاصفة ، وشركتهما الشمس نارا ونورا. وتفاعلت كل هذه العوامل جميعا. وفقا لما أودع فيها من طبائع. فغيرت من صخر ناري صلد غير نافع ، إلى صخر نافع. صخر ينفع في بناء المساكن ، وصخر ينفع في استخراج المعادن. وأهم من هذا ، وأخطر من هذا ، أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد ، الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه ، استخرجت تربة ، رسبت على سطح الأرض ، مهدت لقدوم الأحياء والخلائق.

«إن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا ، ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه ومن أشباه له. وبظهور هذه التربة ظهر النبات ، وبظهور النبات ظهر الحيوان. وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض. ذلك الإنسان ..» (١)

هذه الرحلة الطويلة كما يقدرها العلم الحديث ، قد تساعدنا على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها ، والمباركة فيها ، وتقدير أقواتها في أربعة أيام .. من أيام الله .. التي لا نعرف ما هي؟ ما طولها؟ ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتما ..

ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القرآني قبل أن نغادر الأرض إلى السماء!

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) .. وكثيرا ما يرد تسمية الجبال (رَواسِيَ) وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي إنها هي راسية ، وهي ترسي الأرض ، وتحفظ توازنها فلا تميد .. ولقد غير زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن : إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق ، لا تستند إلى شيء .. ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء! فليطمئن. فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء. ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز!

ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها (رَواسِيَ) وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد. ولعلها ـ كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال ـ تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد.

وهذا عالم يقول :

«إن كل حدث يحدث في الأرض ، في سطحها أو فيما دون سطحها ، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها. فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك. (أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة) حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران. وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران. وسقوط في قاع البحار ، أو بروز في سطح الأرض

__________________

(١) كتاب «مع الله في السماء» ..

هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران .. ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما. ولو انكماشا أو تمددا طفيفا لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام» (١).

فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد ، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا.

(وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) .. وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها .. فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة ، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا ..

وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء. وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع. وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار .. وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات.

وهناك الهواء. ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا ..

«إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر. وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء. وتلف الصخر والماء جميعا طبقة من هواء. وهي طبقة من غاز سميكة. كالبحر ، لها أعماق. ونحن ـ بني الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، نعيش في هذه الأعماق ، هانئين بالذي فيها.

«فمن الهواء نستمد أنفاسنا ، من أكسجينه. ومن الهواء يا بني النبات جسمه ، من كربونه ، بل من أكسيد كربونه ، ذلك الذي يسميه الكيماواون ثاني أكسيد الكربون. يا بني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا. ونحن نأكل النبات. ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات. ومن كليهما نبني أجسامنا. بقي من غازات الهواء النتروجين ، أي الأزوت ، فهذا لتخفيف الأكسيجين حتى لا نحترق بأنفاسنا. وبقي بخار الماء هذا لترطيب الهواء. وبقيت طائفة من غازات أخرى ، توجد فيه بمقادير قليلة هي ـ في غير ترتيب ـ الأرجون ، والهليوم ، والنيون ، وغيرها. ثم الإدروجين ، وهذه تخلفت ـ على الأكثر ـ في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى» (٢).

والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا ـ والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون ـ كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو في جوها سواء. وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو؟ إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسيجين. والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسيجين .. وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة .. إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعة فيها .. فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات .. في أربعة أيام .. فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة .. هي أيام الله ، التي لا يعلم مقدارها إلا الله.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) المصدر السابق.

والاستواء هنا القصد. والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة. و (ثُمَّ) قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للارتقاء المعنوي. والسماء في الحس أرفع وأرقى.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) .. إن هناك اعتقادا أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم.

وهذا السديم غاز .. دخان

«والسدم ـ من نيرة ومعتمة ـ ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم. إن نظرية الخلق تقول : إن المجرة كانت من غاز وغبار. ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم. وبقيت لها بقية. ومن هذه البقية كانت السدم. ولا يزال من هذه البقية منتشرا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار ، يساوي ما تكونت منه النجوم. ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها. فهي تكنس السماء منه كنسا. ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولا» (١)

وهذا الكلام قد يكون صحيحا لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) .. وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل. في يومين من أيام الله.

ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة :

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) ..

إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس ، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته. فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرها في أغلب الأحيان. إنه خاضع حتما لهذا الناموس ، لا يملك أن يخرج عنه ، وهو ترس صغير جدا في عجلة الكون الهائلة ؛ والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره. ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعا طاعة الأرض والسماء. إنما يحاول أن يتفلت ، وينحرف عن المجرى الهين اللين ؛ فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه ـ وقد تحطمه وتسحقه ـ فيستسلم خاضعا غير طائع. إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم .. تصطلح كلها مع النواميس الكلية ، فتأتي طائعة ، وتسير هينة لينة ، مع عجلة الكون الهائلة ، متجهة إلى ربها مع الموكب ، متصلة بكل ما فيه من قوى ،. وحينئذ تصنع الأعاجيب ، وتأتي بالخوارق ، لأنها مصطلحة مع الناموس ، مستمدة من قوته الهائلة ، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله (طائِعِينَ) ..

إننا نخضع كرها. فليتنا نخضع طوعا. ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء. في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين.

إننا نأتي أحيانا حركات مضحكة .. عجلة القدر تدور بطريقتها. وبسرعتها. ولوجهتها. وتدير الكون كله معها. وفق سنن ثابتة .. ونأتي نحن فنريد أن نسرع. أو أن نبطئ. نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل. نحن بما يطرؤ على نفوسنا ـ حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير ـ من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة .. ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض. ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم. ونصطدم هنا وهناك ونتحطم. والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها. وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى. فأما حين تؤمن قلوبنا حقا ، وتستسلم لله حقا ، وتتصل بروح الوجود حقا. فإننا ـ حينئذ ـ نعرف دورنا على حقيقته ؛ وننسق بين

__________________

(١) المصدر السابق.

خطانا وخطوات القدر ؛ ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة ، في المدى المناسب. نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود. ونصنع أعمالا عظيمة فعلا ، دون أن يدركنا الغرور. لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة. ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية ، إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى.

ويا للرضى. ويا للسعادة. ويا للراحة. ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة ، على هذا الكوكب الطائع الملبي ، السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف ..

ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق. كله مستسلم لربه ، ونحن معه مستسلمون. لا تشذ خطانا عن خطاه ، ولا يعادينا ولا نعاديه. لأننا منه. ولأننا معه في الاتجاه :

(قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) .. (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) .. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) ..

واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم. أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله. والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها ، على هدى من الله وتوجيه ؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديدا. فقد تكون درجة البعد سماء. وقد تكون المجرة الواحدة سماء. وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات .. وقد يكون غير ذلك. مما تحتمله لفظة سماء وهو كثير.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) ..

والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد. فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء. وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح.

(وَحِفْظاً) .. من الشياطين .. كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن .. ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئا مفصلا. أكثر من الإشارات السريعة في القرآن. فحسبنا هذا ..

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ..

وهل يقدر هذا كله؟ ويمسك الوجود كله ، ويدبر الوجود كله .. إلا العزيز القوي القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر؟

* * *

فكيف ـ بعد هذه الجولة الكونية الهائلة ـ يكون موقف الذين يكفرون بالله ويجعلون له أندادا؟ كيف. والسماء والأرض تقولان لربهما : (أَتَيْنا طائِعِينَ) وهذا النمل الصغير العاجز من البشر الذي يدب على الأرض يكفر بالله في تبجح واستهتار؟

وما يكون جزاء هذا التبجح وهذا الاستهتار؟

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ. قالُوا : لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..

وهذا الإنذار المرهوب المخيف : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب ، وتبجح المشركين الذي حكي في مطلع السورة ، وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عرض قبل هذا الإنذار.

وقد روى ابن إسحاق قصة عن هذا الإنذار قال : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ ـ وذلك حين أسلم حمزة ـ رضي الله عنه ـ ورأوا أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يزيدون ويكثرون ـ فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا بن أخي. إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها. قال : فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «قل يا أبا الوليد أسمع». قال : يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ؛ وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ؛ وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء ، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه .. أو كما قال .. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يستمع منه قال : «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم. قال : «فاستمع مني». قال : أفعل. قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ثم مضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، يستمع منه حتى انتهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي .. خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.

وقد روى البغوي في تفسيره حديثا بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح ـ وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي (قال ابن كثير : وقد ضعف بعض الشيء) عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه. وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم .. إلخ ..

ثم لما حدثوه في هذا قال : «فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب. فخشيت أن ينزل بكم العذاب» ..

فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على قلب رجل لم يؤمن! ولا

نترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن. وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه ، وقلبه مشغول بما هو أعظم ، حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز : ولكن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتلقاها حليما ، ويستمع كريما ، وهو مطمئن هادئ ودود. لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة. حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة : «أفرغت يا أبا الوليد؟». فيقول : نعم. فيقول : ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «فاستمع مني» ولا يفاجئه بالقول حتى يقول : أفعل. وعندئذ يتلو ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم ..) ..

إنها صورة تلقي في القلب المهابة. والثقة. والمودة. والاطمئنان .. ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه .. الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين!

صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. وصدق الله العظيم : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ..

ونعود بعد هذه الوقفة القصيرة إلى النص القرآني الكريم :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ..).

إنها جولة في مصارع الغابرين ، بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض. جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين :

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ..

الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين. وقام عليها بنيان كل دين.

(قالُوا : لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ..

وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول. وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر. يعرفهم ويعرفونه. ويجدون فيه قدوة واقعية ، ويعاني هو ما يعانونه. ولكن عادا وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم ، لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون!

وإلى هنا أجمل مصير عاد وثمود. وهو واحد. إذ انتهى هؤلاء وهؤلاء إلى الأخذ بالصاعقة. ثم فصل قصة كل منهما بعض التفصيل :

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) ..

إن الحق أن يخضع العباد لله ، وألا يستكبروا في الأرض ، وهم من هم بالقياس إلى عظمة خلق الله. فكل استكبار في الأرض فهو بغير الحق. استكبروا واغتروا (وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) ..

وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة. الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم. وينسون :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟) ..

إنها بديهة أولية .. إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة. لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة. ولكن الطغاة لا يذكرون :

(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ..

وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم! ويتباهون بقوتهم. إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ. لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ..

إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحس عليهم. وإنه الخزي في الحياة الدنيا. الخزي اللائق بالمستكبرين المتباهين المختالين على العباد ..

ذلك في الدنيا .. وليسوا بمتروكين في الآخرة :

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى. وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) ..

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ..

ويظهر أن هذه إشارة إلى اهتدائهم بعد آية الناقة ، ثم ردتهم وكفرهم بعد ذلك. وإيثارهم العمى على الهدى. والضلال بعد الهدى عمى أشد العمى!

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..

والهوان أنسب عاقبة. فليس هو العذاب فحسب ، وليس هو الهلاك فحسب. ولكنه كذلك الهوان جزاء على العمى بعد الإيمان.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..

وتنتهي الجولة على مصرع عاد وثمود. والإنذار بهذا المصرع المخيف المرهوب. ويتكشف لهم سلطان الله الذي لا ترده قوة ولا يعصم منه حصن ، ولا يبقي على مستكبر مريد.

* * *

والآن وقد كشف لهم عن سلطان الله في فطرة الكون ؛ وسلطان الله في تاريخ البشر ، يطلعهم على سلطان الله في ذوات أنفسهم ، التي لا يملكون منها شيئا ، ولا يعصمون منها شيئا من سلطان الله. حتى سمعهم وأبصارهم وجلودهم تطيع الله وتعصيهم في الموقف المشهود ، وتكون عليهم بعض الشهود :

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا : أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ. وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ..

إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب. وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب. وهم يوصمون بأنهم أعداء الله. فما مصير أعداء الله؟ إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع! إلى أين؟ إلى النار! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب ، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب. إن ألسنتهم معقودة لا تنطق ، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ. وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم ، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة ، تروي عنهم ما حسبوه سرا. فقد يستترون من الله. ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم ، ويتخفون بجرائمهم. ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم. وكيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستورا عن الخلق أجمعين. وعن الله رب العالمين!

يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي ، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب!

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟) ..

فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة :

(قالُوا : أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)؟

أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة؟ وإنه لقادر على أن يجعل سواها. وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين.

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..

فإليه المنشأ وإليه المصير ، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير.

وهذا ما أنكروه بالعقول. وهذا ما تقرره لهم الجلود!

وقد تكون بقية التعليق من حكاية أقوال أبعاضهم لهم. وقد تكون تعقيبا على الموقف العجيب :

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) ..

فما كان يخطر ببالكم أنها ستخرج عليكم ، وما كنتم بمستطيعين أن تستتروا منها لو أردتم!

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) ..

وخدعكم هذا الظن الجاهل الأثيم وقادكم إلى الجحيم :

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..

ثم يجيء التعقيب الأخير :

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ..

يا للسخرية! فالصبر الآن صبر على النار ؛ وليس الصبر الذي يعقبه الفرج وحسن الجزاء. إنه الصبر الذي جزاؤه النار قرارا ومثوى يسوء فيه الثواء!

(وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ..

فما عاد هناك عتاب ، وما عاد هناك متاب. وقد جرت العادة أن الذي يطلب العتاب يطلب من ورائه الصفح والرضى بعد إزالة أسباب الجفاء. فاليوم يغلق الباب في وجه العتاب. لا الصفح والرضى الذي يعقب العتاب!

* * *

ثم يكشف لهم كذلك عن سلطان الله في قلوبهم ، وهم بعد في الأرض ، يستكبرون عن الإيمان بالله. فالله قد قيض لهم ـ بما اطلع على فساد قلوبهم ـ قرناء سوء من الجن ومن الأنس ، يزينون لهم السوء ، وينتهون بهم إلى مواكب الذين كتب عليهم الخسران ، وحقت عليهم كلمة العذاب :

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ، وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) ..

فلينظروا كيف هم في قبضة الله الذي يستكبرون عن عبادته. وكيف أن قلوبهم التي بين جنوبهم تقودهم إلى العذاب والخسارة وقد قيض الله وأحضر قرناء يوسوسون لهم ، ويزينون لهم كل ما حولهم من السوء ، ويحسنون لهم أعمالهم فلا يشعرون بما فيها من قبح. وأشد ما يصيب الإنسان أن يفقد إحساسه بقبح فعله وانحرافه ، وأن يرى كل شيء من شخصه حسنا ومن فعله! فهذه هي المهلكة وهذا هو المنحدر الذي ينتهي دائما بالبوار.

وإذا هم في قطيع السوء. في الأمم التي حق عليها وعد الله من قبلهم من الجن والإنس. قطيع الخاسرين (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

وكان من تزيين القرناء لهم دفعهم إلى محاربة هذا القرآن ، حين أحسوا بما فيه من سلطان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ..

كلمة كان يوصي بها الكبراء من قريش أنفسهم ويغرون بها الجماهير ؛ وقد عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير.

(لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ). فهو كما كانوا يدعون يسحرهم ، ويغلب عقولهم ، ويفسد حياتهم. ويفرق بين الوالد وولده ، والزوج وزوجه. ولقد كان القرآن يفرق نعم ولكن بفرقان الله بين الإيمان والكفر ، والهدى والضلال. كان يستخلص القلوب له ، فلا تحفل بوشيجة غير وشيجته. فكان هو الفرقان.

(وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

وهي مهاترة لا تليق. ولكنه العجز عن المواجهة بالحجة والمقارعة بالبرهان ، ينتهي إلى المهاترة ، عند من يستكبر على الإيمان.

ولقد كانوا يلغون بقصص إسفنديار ورستم كما فعل مالك بن النضر ليصرف الناس عن القرآن. ويلغون بالصياح والهرج. ويلغون بالسجع والرجز. ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح وغلب القرآن ، لأنه يحمل سر الغلب ، إنه الحق. والحق غالب مهما جهد المبطلون!

وردا على قولتهم المنكرة يجيء التهديد المناسب :

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ ، لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

وسرعان ما نجدهم في النار. وسرعان ما نشهد حنق المخدوعين ، الذين زين لهم قرناؤهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وأغروهم بهذه المهلكة التي انتهى إليها مطافهم :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).

إنه الحنق العنيف ، والتحرق على الانتقام : (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا). (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ). وذلك بعد الموادة والمخادنة والوسوسة والتزيين!

* * *

هذه صلة. صلة الوسوسة والإغراء. وهناك صلة. صلة النصح والولاء. إنهم المؤمنون. الذين قالوا : ربنا الله ، ثم استقاموا على الطريق إليه بالإيمان والعمل الصالح. إن الله لا يقيض لهؤلاء قرناء سوء من الجن والإنس ؛ إنما يكلف بهم ملائكة يفيضون على قلوبهم الأمن والطمأنينة ، ويبشرونهم بالجنة ، ويتولونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ. ثُمَّ اسْتَقامُوا. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ : أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).

والاستقامة على قولة : (رَبُّنَا اللهُ). الاستقامة عليها يحقها وحقيقتها. الاستقامة عليها شعورا في الضمير ، وسلوكا في الحياة. الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها. أمر ولا شك كبير. وعسير. ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير. صحبة الملائكة ، وولاءهم ، ومودتهم. هذه التي تبدو فيما حكاه الله عنهم. وهم يقولون لأوليائهم المؤمنين : لا تخافوا. لا تحزنوا. أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ثم يصورون لهم الجنة التي يوعدون تصوير الصديق لصديقه ما يعلم أنه يسره علمه ورؤيته من حظه المرتقب : لكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون. ويزيدونها لهم جمالا وكرامة : نزلا من غفور رحيم. فهي من عند الله أنزلكم إياها بمغفرته ورحمته. فأي نعيم بعد هذا النعيم؟

* * *

ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه. ويوجه إليها رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكل داعية من أمته. وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير. ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ! وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء.

إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق. ولكنه شأن عظيم :

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ، وَعَمِلَ صالِحاً ، وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء. ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات. فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.

ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار. فهو إنما يتقدم بالحسنة. فهو في المقام الرفيع ، وغيره يتقدم بالسيئة. فهو في المكان الدون :

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).

وليس له أن يرد بالسيئة ، فإن الحسنة لا يستوي أثرها ـ كما لا تستوي قيمتها ـ مع السيئة والصبر والتسامح ، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر ، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة ، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ، ومن الجماح إلى اللين :

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات. وينقلب الهياج إلى وداعة. والغضب إلى سكينة. والتبجح إلى حياء ؛ على كلمة طيبة ، ونبرة هادئة ، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام!

ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجا وغضبا وتبجحا ومرودا. وخلع حياءه نهائيا ، وأفلت زمامه ، وأخذته العزة بالإثم.

غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد. وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها. حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفا. ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه ، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقا.

وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية. لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها. فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها. أو الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وهذه الدرجة ، درجة دفع السيئة بالحسنة ، والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب ، والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى .. درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان. فهي في حاجة إلى الصبر. وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون :

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ..

إنها درجة عالية إلى حد أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الذي لم يغضب لنفسه قط ؛ وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد. قيل له ـ وقيل لكل داعية في شخصه ـ :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

فالغضب قد ينزغ. وقد يلقي في الروع قلة الصبر على الإساءة. أو ضيق الصدر عن السماحة. فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية ، تدفع محاولاته ، لاستغلال الغضب ، والنفاذ من ثغرته.

إن خالق هذا القلب البشري ، الذي يعرف مداخله ومساربه ، ويعرف طاقته واستعداده ، ويعرف من أين يدخل الشيطان إليه ، يحوط قلب الداعية إلى الله من نزغات الغضب. أو نزغات الشيطان. مما يلقاه في طريقه مما يثير غضب الحليم.

إنه طريق شاق. طريق السير في مسارب النفس ودروبها وأشواكها وشعابها ، حتى يبلغ الداعية منها موضع التوجيه ؛ ونقطة القياد!!!

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا

ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

هذا شوط جديد مع القلب البشري في مجال الدعوة. يبدأ بجولة مع آيات الله الكونية : الليل والنهار والشمس والقمر ، وفي المشركين من كان يسجد للشمس وللقمر مع الله. وهما من خلق الله. ويعقب على عرض هذه الآيات بأنهم إن استكبروا عن عبادة الله فهناك من هم أقرب منهم إلى الله يعبدونه. ثم هناك الأرض كلها في مقام العبادة وهي تتلقى من ربها الحياة ، كما تلقوها فلم يتحركوا بها إلى الله. إنما هم يلحدون في آيات الله الكونية ، ويجادلون في آياته القرآنية ؛ وهو قرآن عربي غير مشوب بأعجمية. وينتقل بهم إلى مشهد من مشاهد القيامة. ثم يعرض عليهم أنفسهم عارية بكل ما فيها من ضعف وتقلب ونسيان ، وبكل ما فيها من حرص على الخير وجزع من الضر. ثم هم لا يقون أنفسهم من شر ما يصيبها عند الله. وتنتهي السورة بوعد الله سبحانه أن يكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، ويذهب ما في قلوبهم من ريب وشك ..

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ. وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ..

وهذه الآيات معروضة للأنظار ، يراها العالم والجاهل. ولها في القلب البشري روعة مباشرة. ولو لم يعلم الإنسان شيئا عن حقيقتها العلمية. فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية. بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة ، وفي الفطرة ، وفي التكوين. فهو منها وهي منه. تكوينه تكوينها ، ومادته مادتها ، وفطرته فطرتها ، وناموسه ناموسها ، وإلهه إلهها .. فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق! لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها ، وإيقاظه من غفلته عنها ، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة ، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة. فيجلوها القرآن عنه ، لينتفض جديدا حيا يقظا يعاطف هذا الكون الصديق ، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور.

وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا. فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعورا منحرفا ضالا فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف ؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة. ويقول لهم : إن كنتم تعبدون الله حقا فلا تسجدوا للشمس والقمر .. (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين. والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه. ويعيد الضمير عليهما مؤنثا مجموعا : (خَلَقَهُنَّ) باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم ؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل ، ويصورهن شخوصا ذات أعيان!

فإن استكبروا بعد عرض هذه الآيات ، وبعد هذا البيان ، فلن يقدم هذا أو يؤخر ؛ ولن يزيد هذا أو ينقص. فغيرهم يعبد غير مستكبر :

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) ..

وأقرب ما يرد على القلب عند ذكر (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) الملائكة. ولكن قد يكون هنالك غير الملائكة من عباد الله المقربين ؛ وهل نعلم نحن شيئا إلا اليسير الضئيل؟!

هؤلاء. الذين عند ربك. وهم أرفع وأعلى. وهم أكرم وأمثل. لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون

الضالون في الأرض. ولا يغترون بقرب مكانهم من الله. ولا يفترون عن تسبيحه ليلا ونهارا (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) .. فماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف في حقيقة العبودية لله من الجميع؟

وهنالك الأرض ـ أمهم التي تقوتهم ـ الأرض التي منها خرجوا وإليها يعودون. الأرض التي هم على سطحها نمال تدب ولا طعام لها ولا شراب إلا ما تستمده منها .. هذه الأرض تقف خاشعة لله ، وهي تتلقى من يديه الحياة :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع. فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها. فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة. ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح ، فجيء بالأرض في هذا المشهد ، شخصا من شخوص المشهد ، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة ..

ونستعير هنا صفحة من كتاب «التصوير الفني في القرآن» عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير (١) :

«عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر. وقبل تفتحها بالنبات ، مرة بأنها «هامدة» ، ومرة بأنها «خاشعة». وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير. فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان :

«لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو :

«وردت «هامدة» في هذا السياق : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ؛ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٢) ..

ووردت «خاشعة» في هذا السياق : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ، إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).

«وعند التأمل السريع في هذين السياقين ، يتبين وجه التناسق في (هامِدَةً) و (خاشِعَةً). إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج ؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض (هامِدَةً) ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج. وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود ، يتسق معه تصوير الأرض (خاشِعَةً) فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت.

«ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا ، الإنبات والإخراج ، كما زاد هناك ، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود. ولم تجئ (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك. إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها. وهذه الحركة هي المقصودة هنا ، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة ، فلم يكن من

__________________

(١) ص ٩٨ ـ ١٠٠ من الطبعة الرابعة

(٢) سورة الحج (٥).

المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة ، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم ، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكنا ، وكل الأجزاء تتحرك من حوله. وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير» إلخ. إلخ.

ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى ، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجا ودليلا :

(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجا للإحياء في الآخرة ، ودليلا كذلك على القدرة. ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب ، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول ، والحياة حين تنبض من بين الموات ، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفيا ينبض في أعماق الشعور. والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق.

* * *

وأمام مشهد هذه الآيات الكونية ذات الأثر الشعوري العميق يجيء التنديد والتهديد لمن يلحدون في هذه الآيات الظاهرة الباهرة ؛ فيكفرون بها ، أو يغالطون فيها :

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ؟ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ويبدأ التهديد ملفوفا ولكنه مخيف : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) .. فهم مكشوفون لعلم الله. وهم مأخوذون بما يلحدون ، مهما غالطوا والتووا ، وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يفلتون بالمغالطة من حساب الناس.

ثم يصرح بالتهديد : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) .. وهو تعريض بهم ، وبما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزع ، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين.

وتنتهي الآية بتهديد آخر ملفوف : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .. ويا خوف من يترك ليعمل فيلحد في آيات الله. والله بما يعمل بصير.

* * *

ويستطرد إلى الذين يكفرون بآيات الله القرآنية ، والقرآن كتاب عزيز قوي منيع الجانب ، لا يدخل عليه الباطل من قريب ولا من بعيد :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ! ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ. وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

والنص يتحدث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ؛ ولا يذكر ماذا هم ولا ماذا سيقع لهم. فلا يذكر الخبر : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ..) كأنما ليقال : إن فعلتهم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها!

لذلك يترك النص خبر (إِنَّ) لا يأتي به ويمضي في وصف الذكر الذي كفروا به لتفظيع الفعلة وتبشيعها :

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ..

وأني للباطل أن يدخل على هذا الكتاب. وهو صادر من الله الحق. يصدع بالحق. ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟

وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز. محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به ، والذي نزل ليقره. يجده في روحه ويجده في نصه. يجده في بساطة ويسر. حقا مطمئنا فطريا ، يخاطب أعماق الفطرة ، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب.

وهو (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .. والحكمة ظاهرة في بنائه ، وفي توجيهه ، وفي طريقة نزوله ، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق. والله الذي نزله خليق بالحمد. وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير.

ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله ؛ وبين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسائر الرسل قبله. ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثا واحدا ، ترتبط به أرواحها وقلوبها ، وتتصل به طريقها ودعوتها ؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجرة وارفة عميقة الجذور ، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ :

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) ..

إنه وحي واحد ، ورسالة واحدة ، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية ، وتكذيب واحد ، واعتراضات واحدة .. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة ، وشجرة واحدة ، وأسرة واحدة ، وآلام واحدة ، وتجارب واحدة ، وهدف في نهاية الأمر واحد ، وطريق واصل ممدود.

أي شعور بالأنس ، والقوة ، والصبر ، والتصميم. توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة ، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعا ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟

وأي شعور بالكرامة والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها ، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟

إنها حقيقة : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) .. ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟

وهذا ما يصنعه هذا القرآن ، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب.

ومما قيل للرسل وقيل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاتم الرسل :

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) ..

ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن. فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبدا. ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبدا.

إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل.

ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربيا بلسانهم ؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ! ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) ..

فهم لا يصغون إليه عربيا ، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم. فيقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. ولو جعله الله قرآنا أعجميا لاعترضوا عليه أيضا ، وقالوا لولا جاء عربيا فصيحا مفصلا دقيقا! ولو جعل بعضه أعجميا وبعضه عربيا لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي؟! فهو المراء والجدل والإلحاد.

والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل ، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء ، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته ، فتهتدي به وتشتفي. فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب ، فهو وقر في آذانهم ، وعمى في قلوبهم. وهم لا يتبينون شيئا. لأنهم بعيدون جدا عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه :

(قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ..

ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة. فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء ، ويحييها إحياء ؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها. وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم ، ولا يزيدهم إلا صمما وعمى. وما تغير القرآن. ولكن تغيرت القلوب. وصدق الله العظيم.

* * *

ويشير إلى موسى وكتابه واختلاف قومه في هذا الكتاب. يشير إليه نموذجا للرسل الذين ورد ذكرهم من قبل إجمالا. وقد أجل الله حكمه في اختلافهم ، وسبقت كلمته أن يكون الفصل في هذا كله في يوم الفصل العظيم :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ..

وكذلك سبقت كلمة ربك أن يدع الفصل في قضية الرسالة الأخيرة إلى ذلك اليوم الموعود. وأن يدع الناس يعملون ، ثم يجازون على ما يعملون :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ..

لقد جاءت هذه الرسالة تعلن رشد البشرية ، وتضع على كاهلها عبء الاختيار ؛ وتعلن مبدأ التبعة الفردية. ولمن شاء أن يختار (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) ..

* * *

وبمناسبة الإشارة إلى الأجل المسمى ، وتقرير عدل الله فيه ، يقرر أن أمر الساعة وعلمها إلى الله وحده ، ويصور علم الله في بعض مجالاته صورة موحية تمس أعماق القلوب. وذلك في الطريق إلى عرض مشهد من مشاهد القيامة يسأل فيه المشركون ويجيبون :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها ، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. وَيَوْمَ

__________________

(١) إلى هنا ينتهي الجزء الرابع والعشرون. ولكننا آثرنا أن نتابع السورة إلى ختامها القريب.

يُنادِيهِمْ : أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا : آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..

والساعة غيب غائر في ضمير المجهول. والثمرات في أكمامها سر غير منظور ، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور. وكلها في علم الله ، وعلم الله بها محيط. ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها ، والأجنة في أرحامها. يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى ؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال! وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود.

ويتصور القطيع الضال من البشر ، واقفا أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ : أَيْنَ شُرَكائِي؟) ..

هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال ، ولا تحريف للكلم ولا محال. فماذا هم قائلون؟

(قالُوا : آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ؟) ..

أعلمناك ، أن ليس منا اليوم من يشهد أنك لك شريك!

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..

فما عادوا يعرفون شيئا عن دعواهم السابقة. ووقع في نفوسهم أن ليس لهم مخرج مما هم فيه وتلك أمارة الكرب المذهل ، الذي ينسي الإنسان ماضيه كله ؛ فلا يذكر إلا ما هو فيه.

* * *

ذلك هو اليوم الذي لا يحتاطون له ، ولا يحترسون منه ، مع شدة حرص الإنسان على الخير ، وجزعه من الضر .. وهنا يصور لهم نفوسهم عارية من كل رداء ، مكشوفة من كل ستار ، عاطلة من كل تمويه :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ : هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ..

إنه رسم دقيق صادق للنفس البشرية ، التي لا تهتدي بهدى الله ، فتستقيم على طريق .. رسم يصور تقلبها ، وضعفها ، ومراءها ، وحبها للخير ، وجحودها للنعمة ، واغترارها بالسراء ، وجزعها من الضراء .. رسم دقيق عجيب ..

هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير. فهو ملح فيه ، مكرر له ، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه. وإن مسه الشر. مجرد مس. فقد الأمل والرجاء ؛ وظن أن لا مخرج له ولا فرج ، وتقطعت به الأسباب ؛ وضاق صدره وكبر همه ؛ ويئس من رحمة الله وقنط من رعايته. ذلك أن ثقته بربه قليلة ، ورباطه به ضعيف!

وهذا الإنسان إذا أذاقه الله منه رحمة بعد ذلك الضر ، استخفته النعمة فنسي الشكر ؛ واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره. وقال : هذا لي. نلته باستحقاقي وهو دائم علي! ونسي الآخرة واستبعد أن تكون ؛ (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) .. وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى على الله ، ويحسب لنفسه مقاما عنده ليس له ، وهو ينكر الآخرة فيكفر بالله. ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده! (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي

عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)! وهو غرور .. عندئذ يجيء التهديد في موضعه لهذا الغرور :

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) ..

وهذا الإنسان إذا أنعم الله عليه : استعظم وطغى. وأعرض ونأى بجانبه. فأما إذا مسه الشر فيتخاذل ويتهاوى ، ويصغر ويتضاءل ، ويتضرع ولا يمل الضراعة. فهو ذو دعاء عريض!

أية دقة ، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة! إنه خالقه الذي يصفه. خالقه الذي يعرف دروب نفسه. ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية ، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم .. فتستقيم ..

وأمام هذه النفس العارية من كل رداء ، المكشوفة من كل ستار ، يسألهم : فماذا أنتم إذن صانعون إن كان هذا الذي تكذبون به ، من عند الله ، وكان هذا الوعيد حقا ؛ وكنتم تعرضون أنفسكم لعاقبة التكذيب والشقاق :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ؟ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟) ..

إنه احتمال يستحق الاحتياط. فماذا أخذوا لأنفسهم من وسائل الاحتياط؟!

* * *

ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون. ويتجه إلى الكون العريض. يكشف عن بعض ما قدر فيه ـ وفي ذوات أنفسهم ـ من مقادير :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ..

إنه الإيقاع الأخير. وإنه لإيقاع كبير ..

إنه وعد الله لعباده ـ بني الإنسان ـ أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ، ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج. وهذا القول الذي يقوله لهم. ومن أصدق من الله حديثا؟

ولقد صدقهم الله وعده ؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد ؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم. وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد.

وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين. فقد تفتحت لهم الآفاق. وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله.

لقد عرفوا أشياء كثيرة. لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير.

عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون .. إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس. وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين. وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم ـ وربما طبيعة كونهم ، إن صح ما عرفوه!

وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه. إن صح أن هناك مادة. عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة. وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع. وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع .. في صور شتى : هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام!

وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير. عرفوا أنه كرة أو كالكرة. وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس. وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره. وكشفوا عن شيء من باطنه. وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف

هذا الكوكب من الأقوات. والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضا!

وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير ، وتصرف هذا الكون الكبير. ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس. ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه. ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم ، قد أخذت عن طريق العلم تثوب ، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق.

ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون. فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير. عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه ، وغذائه وتمثيله ، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته ، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله.

وعرفوا عن النفس البشرية شيئا .. إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم. لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه. ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيء ..

وما يزال الإنسان في الطريق!

ووعد الله ما يزال قائما : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ..

والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ. فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى. وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد. ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي. ولكن هذه الموجة تنحسر الآن. تنحسر ـ على الرغم من جميع الظواهر المخالفة ـ وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه ، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله. وحتى يحق وعد الله الذي لا بد أن يكون :

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) ..

وهو الذي أعطى وعده عن علم وعن شهود.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) ..

ومن ثم يقع ما يقع منهم ، بسبب هذا الشك في اللقاء. وهو أكيد.

(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ..

فأين يذهبون عن لقائه وهو بكل شيء محيط؟

انتهى الجزء الرابع والعشرون

ويليه الجزء الخامس والعشرون

مبدوءا بسورة الشورى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سور

الشورى والزّخرف

والدّخان والجاثية

الجزء الخامس والعشرون

(٤٢) سورة الشورى مكيّة

وآياتها ثلاث وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ

مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤)

هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ؛ ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، حتى ليصح أن يقال : إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها ؛ وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعا لتلك الحقيقة الرئيسية فيها.

هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة ؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها. وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها. كما تلم بقضية الرزق : بسطه وقبضه ؛ وصفة الإنسان في السراء والضراء.

ولكن حقيقة الوحي والرسالة ، وما يتصل بها ، تظل ـ مع ذلك ـ هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظللها. وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها.

ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة. فهي تعرض من جوانب متعددة. يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق. أو وحدانية الرازق. أو وحدانية المتصرف في القلوب. أو وحدانية المتصرف في المصير .. ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي ـ سبحانه ـ ووحدة الوحي. ووحدة العقيدة. ووحدة المنهج والطريق. وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة.

ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا ، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته ، من وراء موضوعات السورة جميعا .. ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالا ، قبل أن نأخذ في التفصيل :

تبدأ بالأحرف المقطعة : «حا. ميم. عين. سين. قاف» .. يليها : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. مقررا وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين : (إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ..

ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .. مقررا وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد.

ثم يستطرد استطرادا آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد ، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ، وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) .. فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض ، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعا من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين! وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ..

ثم يستطرد مع (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) .. فيقرر أن لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة. ولكن مشيئته اقتضت ـ بما له من علم وحكمة ـ أن يدخل من يشاء في رحمته (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) .. ويقرر أن الله وحده هو الولي (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، حقيقة الوحي والرسالة ، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ. ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ..

ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق ، وتفرد ذاته. ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض ، وفي بسط الرزق وقبضه. وفي علمه بكل شيء : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ،

وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً ، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) ... إلخ» ..

وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة ؛ محوطة بمثل هذا الجو ، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى ، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي.

وهذا النسق واضح وضوحا كاملا في هذا الدرس الأول من السورة. فالقارئ يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها.

فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة ، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه ؛ وفي تنزيل الغيث برحمته ؛ وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة ؛ وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام. ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم. فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب : (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) .. واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين :

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) .. وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ ، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) ..

ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة. حقيقة الوحي والرسالة. في جانب من جوانبها : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ...).

ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة ، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة ، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ؛ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ..

* * *

وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع.

هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة ، ورسولها ، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم.

وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. لتقرر

أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل ، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم.

وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) .. لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد.

وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ..

وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع ، مخالفا لهذه التوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم. وقع بغيا وظلما وحسدا : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ..

ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ..

وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم .. فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها. والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة.

ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهذه القيادة : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ. وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ. اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ..) إلخ» .. ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة ـ في الدرس الثاني ـ بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم.

وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه. وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا ..

* * *

(حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ، وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ..

سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية. وهي تذكر هنا في مطلع السورة ، ويليها قوله تعالى :

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

أي مثل ذلك ، وعلى هذا النسق ، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك. فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها ؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها.

ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي. وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم. والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان. والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان : (إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ..

إنها قصة بعيدة البداية ، ضاربة في أطواء الزمان. وسلسلة كثيرة الحلقات ، متشابكة الحلقات. ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع.

وهذه الحقيقة ـ على هذا النحو ـ حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته ، ووحدة مصدره وطريقه. وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي : (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان ، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن ؛ وتتصل كلها بالله في النهاية ، فيلتقون فيه جميعا. وهو (الْعَزِيزُ) القوي القادر (الْحَكِيمُ) الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير. فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله ؛ ولا يعرف لها مصدر ، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟

ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا ؛ فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض ، وأنه وحده العلي العظيم :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ..

وكثيرا ما يخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئا ، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم ، مسخرة لهم ، ينتفعون بها ، ويستخدمونها فيما يشاءون. ولكن هذا ليس ملكا حقيقيا. إنما الملك الحقيقي لله ؛ الذي يوجد ويعدم ، ويحيي ويميت ؛ ويملك أن يعطي البشر ما يشاء ، ويحرمهم ما يشاء ؛ وأن يذهب بما في أيديهم من شيء ، وأن يضع في أيديهم بدلا مما أذهب .. الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء ، ويصرفها وفق الناموس المختار ، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس. وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء «لله» بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه .. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .. فليس هو الملك فحسب ، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك. العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول ؛ والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة!

ومتى استقرت هذه الحقيقة استقرارا صادقا في الضمائر ، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب. فكل ما في السماوات وما في الأرض لله. والمالك هو الذي بيده العطاء. ثم إنه هو (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال ؛ كما لو مدها للمخاليق ، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء.

ثم يعرض مظهرا لخلوص الملكية لله في الكون ، وللعلو والعظمة كذلك. يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها ، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها. كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم :

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ، وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..

والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض ، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير. وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس. في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه ، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا ـ نحن البشر ـ أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة ، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة ، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين

من السنوات الضوئية. أي المحسوبة بسرعة الضوء ، التي تبلغ ١٦٨٠٠٠ ميل في الثانية!

هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن .. من خشية الله وعظمته وعلوه ، وإشفاقا من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون ، فيرتعش ، وينتفض ، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه!

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ..

والملائكة أهل طاعة مطلقة ، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة. ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم ، لما يحسون من علوه وعظمته ، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته. ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون ؛ فيشفق الملائكة من غضب الله ؛ ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير. ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا ، كالذي جاء في سورة غافر : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) .. وفي هذه الحالة يبدو : كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض ، حتى من الذين آمنوا ، وكم يرتاعون لها ، فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعارا لعلوه وعظمته ؛ واستهوالا لأية معصية تقع في ملكه ؛ واستدرارا لمغفرته ورحمته ؛ وطمعا فيهما :

(أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..

فيجمع إلى العزة والحكمة ، العلو والعظمة ، ثم المغفرة والرحمة .. ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته.

وفي نهاية الفقرة ـ بعد تقرير تلك الصفات وأثرها في الكون كله ـ يعرض للذين يتخذون من دون الله أولياء. وقد بدا أن ليس في الكون غيره من ولي. ليعفى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أمرهم ، فما هو عليهم بوكيل ، والله هو الحفيظ عليهم ، وهو بهم كفيل :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ..

وتبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء ؛ وهم يتخذون من دون الله أولياء ؛ وأيديهم مما أمسكت خاوية ، وليس هنالك إلا الهباء! تبدو للضمير صورتهم ـ في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله. والله حفيظ عليهم. وهم في قبضته ضعاف صغار. فأما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنون معه ، فهم معفون من التفكير في شأنهم ، والاحتفال بأمرهم ، فقد كفاهم الله هذا الاهتمام.

ولا بد أن تستقر هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال. سواء كان أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء أصحاب سلطان ظاهر في الأرض ، أم كانوا من غير ذوي السلطان. تطمئن في الحالة الأولى لهوان شأن أصحاب السلطان الظاهر ـ مهما تجبروا ـ ما داموا لا يستمدون سلطانهم هذا من الله ؛ والله حفيظ عليهم ؛ وهو من ورائهم محيط ؛ والكون كله مؤمن بربه من حولهم ، وهم وحدهم المنحرفون كالنغمة النشاز في اللحن المتناسق! وتطمئن في الحالة الثانية من ناحية أن ليس على المؤمنين من وزر في تولي هؤلاء غير الله ؛ فهم ليسوا بوكلاء على من ينحرفون من الخلق ؛ وليس عليهم إلا النصح والبلاغ. والله هو الحفيظ على قلوب العباد.

ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم. مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله. وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق. كائنا ما يكون هذا الانحراف ..

* * *

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ؟ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ. وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ...) ..

يعطف هذا الطرف من حقيقة الوحي على ذاك الطرف الذي بدأ به السورة. والمناسبة هنا بين تلك الأحرف المقطعة ، وعربية القرآن ، مناسبة ظاهرة. فهذه أحرفهم العربية ، وهذا قرآنهم العربي. نزل الله به وحيه في هذه الصورة العربية ، ليؤدي به الغاية المرسومة :

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) ..

وأم القرى مكة المكرمة. المكرمة ببيت الله العتيق فيها. وقد اختار الله أن تكون هي ـ وما حولها من القرى ـ موضع هذه الرسالة الأخيرة ؛ وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده. و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها ، ومن وراء الظروف ومقتضياتها ، وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه ، وأنتجت فيه نتاجها .. حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفا من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض ، في ذلك الوقت من الزمان ، لتكون مقر الرسالة الأخيرة ، التي جاءت للبشرية جميعا. والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى.

كانت الأرض المعمورة ـ عند مولد هذه الرسالة الأخيرة ـ تكاد تتقسمها امبراطوريات أربع : الامبراطورية الرومانية في أوربا وطرف من آسيا وإفريقية. والامبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية. والامبراطورية الهندية. ثم الامبراطورية الصينية. وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرها وهذه العزلة كانت تجعل الامبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها.

وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام ـ اليهودية والنصرانية ـ قد انتهتا إلى أن تقعا ـ في صورة من الصور ـ تحت نفوذ هاتين الامبراطوريتين ، حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة ، ولا تسيطران على الدولة! فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد.

ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة ، ولاضطهاد الفرس تارة ، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال ؛ وانتهت ـ بسبب عوامل شتى ـ إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل ، لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى.

وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية. التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا ؛ وهي تتخفى من مطاردة الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهادا فظيعا ، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة. فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني ، ودخل الامبراطور الروماني في المسيحية ، دخلت معه أساطير الرومان الوثنية ، ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك ؛ وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها ؛ فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى. كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيرا بالديانة ؛ وظلت هي المهيمنة ، ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا. وذلك كله فضلا على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل ـ فيما بينها ـ مزق الكنيسة ،

وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقا. وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة. وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء!

وفي هذا الوقت جاء الإسلام. جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور. وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور. ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر. فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لامبراطورية من تلك الامبراطوريات ؛ وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته ؛ بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله. وكانت الجزيرة العربية ، وأم القرى وما حولها بالذات ، هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى.

لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة. تقف للعقيدة الجديدة. بسلطانها المنظم ، وتخضع لها الجماهير خضوعا دقيقا ، كما هو الحال في الامبراطوريات الأربع.

ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة ؛ فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة ، ومعتقداتها وعباداتها شتى. وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام. ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة ، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد. ولو لا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام. فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب.

وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، متحررا من كل سلطان عليه في نشأته ، خارج عن طبيعته.

وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة. كان النظام القبلي هو السائد. وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام. فلما قام محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له ؛ ووجد من التوازن القبلي فرصة ، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم على غير دينه. بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة ، وتدع تأديبه ـ أو تعذيبه ـ لأهله أنفسهم. والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم. ومن ثم كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم ، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء ، وتمتنع فتنتهم عن دينهم .. ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد.

ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة. وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها.

وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة ؛ وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب ؛ وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف امبراطوريتي كسرى وقيصر. وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال. المذكورتان في القرآن في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ،

الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) .. وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة. فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله ، ووجه هذه الطاقة المختزنة ، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح ؛ ففتحها الله بمفتاح الإسلام. وجعلها رصيدا له وذخرا. ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أمثال : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وحمزة والعباس وأبي عبيدة. وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام ؛ فتفتحت له ، وحملته ، وكبرت به من غير شك وصلحت ؛ ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام.

وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة ، وصيانة نشأتها ، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها ، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة ، التي جاءت للبشرية جميعها. وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذلك أمر يطول. ومكانه رسالة خاصة مستقلة. وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة ، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة.

وهكذا جاء هذا القرآن عربيا لينذر أم القرى ومن حولها. فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، وخلصت كلها للإسلام ، حملت الراية وشرقت بها وغربت ؛ وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها ، للبشرية جميعها ـ كما هي طبيعة هذه الرسالة ـ وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها ؛ وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها.

وليس من المصادفات أن يعيش الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام ؛ ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم. كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا. فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها ، وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض. ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولا ، وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانيا .. وقد كانت اللغة ، كأصحابها ، كبيئتها ، أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم.

وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة ، حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ..

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ..

وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكرارا في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع. يوم الحشر. يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة ، ليفرقهم من جديد : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). بحسب عملهم في دار العمل ، في هذه الأرض ، في فترة الحياة الدنيا.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً. وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ..

فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم ، فتوحد مصيرهم ، إما إلى جنة وإما إلى نار. ولكنه ـ سبحانه ـ خلق هذا الإنسان لوظيفة. خلقه للخلافة في هذه الأرض. وجعل من مقتضيات هذه الخلافة ، على النحو الذي أرادها ، أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه ، تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين ، وعن

غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه. استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح ؛ ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السيّء كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري ؛ وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) .. وهكذا : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) .. وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك ، واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال.

ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء. فهو يقرر هنا أن الظالمين : (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) .. فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود.

ثم يعود فيسأل في استنكار :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ؟) ..

ليقرر بعد هذا الاستنكار أن الله وحده هو الولي ، وأنه هو القادر تتجلى قدرته في إحياء الموتى. العمل الذي تظهر فيه القدرة المفردة بأجلى مظاهرها :

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) ..

ثم يعمم مجال القدرة ويبرز حقيقتها الشاملة لكل شيء والتي لا تنحصر في حدود :

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..

* * *

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف. وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ. ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً ، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..

وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة ، تستحق التدبر. فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق.

إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) .. والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن ؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة ؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم. وبيّن لهم هذا كله بيانا شافيا. وجعل هذا القرآن دستورا شاملا لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل. فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتقوم الحياة على أساسه.

وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مسلما أمره كله لله ، منيبا إلى ربه بكليته :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ..

فتجيء هذه الإنابة ، وذاك التوكل ، وذلك الإقرار بلسان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في موضعها

النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة .. فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه ، وأنه يتوكل عليه وحده ، وأنه ينيب إليه دون سواه. فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر ، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه ، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل ، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك؟ وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى ، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده ، وينيب إليه وحده ، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار؟

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه ، فلا يتلفت هنا أو هناك. ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه ، والثقة بمواقع خطواته ، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يختار. ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه. والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله.

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه ، فلا يجد أن هناك منهجا آخر أو طريقا يصح أن يتلفت إليه ؛ ولا يجد أن هنالك حكما غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه. والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم.

ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقرارا وتمكينا :

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً. يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ..

فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء .. هو (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. وهو مدبر السماوات والأرض. والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر. وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض ؛ فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض ، ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم ، والذي يحكم الله في أمره بلا شريك.

والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم ، وركبها : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) .. فنظم لكم حياتكم من أساسها ، وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم. وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا : (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) .. فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود .. إنه هو الذي جعلكم ـ أنتم والأنعام ـ تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب. ثم تفرد هو دون خلقه جميعا ، فليس هنالك من شيء يماثله ـ سبحانه وتعالى ـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .. والفطرة تؤمن بهذا بداهة. فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه .. ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عند ما تختلف فيما بينها على أمر ، ولا ترجع معه إلى أحد غيره ؛ لأنه ليس هناك أحد مثله ، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف.

ومع أنه ـ سبحانه ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .. فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل. فهو يسمع ويبصر : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .. ثم يحكم حكم السميع البصير.

ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل. يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة ، وشرع لها ناموسها الذي يدبرها : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. وهم بعض ما في السماوات والأرض ، فمقاليدهم إليه.

ثم إنه هو الذي يتولى أمر رزقهم قبضا وبسطا ـ فيما يتولى من مقاليد السماوات والأرض ـ : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ

لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) .. فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم. فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه؟ وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق. الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .. والذي يعلم كل شيء هو الذي يحكم وحكمه العدل ، وحكمه الفصل ..

وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة ؛ لتوقع على القلب البشري دقة بعد دقة ، حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق.

* * *

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ـ بَغْياً بَيْنَهُمْ ـ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ؛ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ، اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ، اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) ..

لقد جاء في مطلع السورة : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر ، ووحدة المنهج ، ووحدة الاتجاه. فالآن يفصل هذه الإشارة ؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو ـ في عمومه ـ ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى. وهو أن يقيموا دين الله الواحد ، ولا يتفرقوا فيه. ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم ، دون التفات إلى أهواء المختلفين. ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم ، ودحض حجة الذين يحاجون في الله ، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد.

ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ..

وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة. حقيقة الأصل الواحد ، والنشأة الضاربة في أصول الزمان. ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن. وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد. فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام .. نوح. إبراهيم. موسى. عيسى ، محمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير. إنه سيستروح السير في الطريق ، مهما يجد فيه من شوك ونصب ، وحرمان من أعراض كثيرة. وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله. الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ.

ثم إنه السّلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد ، السائرين على شرعه الثابت ؛ وانتفاء الخلاف والشقاق ؛ والشعور بالقربى الوثيقة ، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم ، ووصل الحاضر بالماضي ، والماضي بالحاضر ، والسير جملة في الطريق.

وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى. ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى ؛ وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد؟ وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟ ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟ والوصية الواحدة الصادرة للجميع : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)؟ فيقيموا الدين ، ويقوموا بتكاليفه ، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به ؛ ويقفوا تحت رايته صفا ، وهي راية واحدة ، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ـ صلوات الله عليهم ـ حتى انتهت إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في العهد الأخير.

ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها ـ وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ـ كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفا آخر :

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) ..

كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم ؛ وكانوا يريدون أن يتنزل (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي صاحب سلطان من كبرائهم. ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين ، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش. ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان!

وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان ؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية. فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم.

وكبر عليهم أن يقال : إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية ؛ فتشبثوا بالحماقة ، وأخذتهم العزة بالإثم ، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم ، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين.

والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء ؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه ، ويتوب إلى ظله من الشاردين :

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ..

وقد اجتبى محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للرسالة. وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب.

ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل ، الذين جاءوا قومهم بدين واحد ، فتفرق أتباعهم شيعا وأحزابا :

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ـ بَغْياً بَيْنَهُمْ ـ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ..

فهم لم يتفرقوا عن جهل ؛ ولم يتفرقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم ، ويربط رسلهم ومعتقداتهم. إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم. تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء. تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة ، والشهوات الباغية. تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم. ولو أخلصوا لعقيدتهم ، واتبعوا منهجهم ما تفرقوا.

ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذا عاجلا ، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق. ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها ، بإمهالهم إلى أجل مسمى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) .. فحق الحق وبطل الباطل ؛ وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا. ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم.

فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي ، فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم ؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء ، وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات :

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ..

وما هكذا تكون العقيدة. فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن ، فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد. والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع ، فلا يضل ولا يحيد. فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة ، فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها ، ولا قرار له على وجهة ، ولا اطمئنان إلى طريق.

ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله ؛ ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال. فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد ، وهم أنفسهم حائرون.

وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد.

يقول الأستاذ الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه : «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» :

«أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرفين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام ، وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها ، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة ، وأ فلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي ، ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري» (١)

ويقول الكاتب الأوربي «ج. ه. دنيسون» في كتابه «العواطف كأساس للحضارة» (٢) :

«ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى ، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ؛ ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها. وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى ، التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال ؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام. أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار ، بدلا من الاتحاد والنظام. وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله. واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب .. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي واحد العالم جميعه» .. يعني محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..

ولأن أتباع الرسل تفرقوا ـ من بعد ما جاءهم العلم ـ ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب .. لهذا وذلك ، ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله .. أرسل الله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته ، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة ؛ وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين :

__________________

(١) صفحة ٢٢ الطبعة الثانية.

(٢) ترجمة «Emotionasthe.Basisof.Civilisation»

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ. اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ. لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ. اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ..

إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء. القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت. تدعو إلى الله على بصيرة. وتستقيم على أمر الله دون انحراف. وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك. القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق. والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد ، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد : (وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) .. ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) .. فهي قيادة ذات سلطان ، تعلن العدل في الأرض بين الجميع. (هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها. ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة). وتعلن الربوبية الواحدة : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) .. وتعلن فردية التبعة : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) .. وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) .. وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ..

وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة ، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق. فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر. وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض. وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات ..

وبعد وضوح القضية على هذا النحو ، واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة ، يبدو جدل المجادلين في الله مستنكرا لا يستحق الالتفات ، وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب. فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم ، وتركهم لوعيد الله الشديد :

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ. مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) ..

ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان. ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض ، الغضب والعذاب الشديد في الآخرة. وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة ؛ والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح.

* * *

ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ..

فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل ؛ وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة ، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم ؛ وأقام شرائعه على العدل في الحكم. العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم ، وتوزن به الحقوق ، وتوزن به الأعمال والتصرفات.

وينتقل من هذه الحقيقة. حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل. إلى ذكر الساعة. والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة ، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل. والساعة غيب. فمن ذا يدري إن كانت على وشك :

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ؟) ..

والناس عنها غافلون ، وهي منهم قريب ، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل ، الذي لا يهمل فيه شيء ولا يضيع ..

ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين :

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) ..

والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها ، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها ؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين. لأنهم محجوبون لا يدركون. وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها ، ومن ثم هم يشفقون ويخافون ، وينتظرونها بوجل وخشية ، وهم يعرفون ما هي حين تكون.

وإنها لحق. وإنهم ليعلمون أنها الحق. وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون.

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ..

فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا ، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد ..

وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها ، إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده :

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ..

وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك. ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ..

فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء. يرزق الصالح والطالح ، والمؤمن والكافر. فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئا ؛ وقد وهبهم الله الحياة ، وكفل لهم أسبابها الأولية ؛ ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعا وعريا وعطشا ، وعجزا عن أسباب الحياة الأولى ، ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم. ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح ، والإيمان والكفر ، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة. وجعله فتنة وابتلاء. يجزي عليهما الناس يوم الجزاء.

ثم جعل الآخرة حرثا والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء. فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه ، وزاد له الله في حرثه ، وأعانه عليه بنيته ، وبارك له فيه بعمله. وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئا. بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه ، حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه .. ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئا. ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب.

فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئا ينتظر عليه ذلك النصيب! ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة ، تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا! فرزق الدنيا

يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء. فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله. ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه.

ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء ؛ بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة. وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء. ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق. إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك! فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة. وتركه لا يغير من أمره شيئا في هذه الحياة؟!

والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله. فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء. وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء. وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء ...

* * *

ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى :

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ؟ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ؛ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..

في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، وهو ما أوحى به إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه ، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه؟ وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات؟

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ؟) ..

وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان ؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده. بما أنه ـ سبحانه ـ هو مبدع هذا الكون كله ، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له. والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير ، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس. وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال. فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور.

ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة ؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها ، أو لا يقتنعون بها ، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم. كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله! وليس أخيب من ذلك ولا أجرا على الله!

لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه ، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته. ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها ، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى. شرع في هذا كله أصولا ، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة. فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله ؛ ورجعوا به إلى تلك

الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزانا يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق.

بذلك يتوحد مصدر التشريع ، ويكون الحكم لله وحده. وهو خير الحاكمين. وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله ، وعلى دين الله ، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسّلام.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ..

فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل. ولولاها لقضى الله بينهم ، فأخذ المخالفين لما شرعه الله ، المتبعين لشرع من عداه. لأخذهم بالجزاء العاجل. ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم. وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟

ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة. يعرضهم مشفقين خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون ، بل يستعجلون ويستهترون :

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) ..

والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم (مِمَّا كَسَبُوا) فكأنما هو غول مفزع ؛ وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) .. وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه ، وهو واقع بهم!

وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون. نجدهم في أمن وعافية ورخاء :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ..

والتعبير كله رخاء يرسم ظلال الرخاء : (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) .. (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بلا حدود ولا قيود. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ). (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) فهو بشرى حاضرة ، مصداقا للبشرى السالفة. وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال.

وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يقول لهم : إنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم ، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم. إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه ، وحسبه ذلك أجرا :

(قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..

والمعنى الذي أشرت إليه ، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا ، إنما تدفعه المودة للقربى ـ وقد كانت لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرابة بكل بطن من بطون قريش ـ ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى ، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم ، وهذا أجره وكفى!

هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها. وهناك تفسير مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري :

قال البخاري حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، قال :

سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه سأل عن قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد بن جبير : «قربى آل محمد. فقال ابن عباس : عجلت. إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».

ويكون المعنى على هذا : إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة. وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه. فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه.

وتأويل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أقرب من تأويل سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى .. والله أعلم بمراده منا.

وعلى أية حال فهو يذكرهم ـ أمام مشهد الروضات والبشريات ـ أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجرا. ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخما! ولكنه فضل الله الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة ، ولا حساب العدل ، ولكن حساب السماحة وحساب الفضل :

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) ..

فليس هو مجرد عدم تناول الأجر. بل إنها الزيادة والفضل .. ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر :

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..

الله يغفر. ثم .. الله يشكر .. ويشكر من؟ يشكر لعباده. وهو وهبهم التوفيق على الإحسان. ثم هو يزيد لهم في الحسنات ، ويغفر لهم السيئات. ويشكر لهم بعد هذا وذاك .. فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته. فضلا على شكره وتوفيته!

* * *

ثم يعود إلى الحديث عن تلك الحقيقة الأولى :

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟ فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ، وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

هنا يأتي على الشبهة الأخيرة ، التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي ، الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية :

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟) ..

فهم من ثم لا يصدقونه ، لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه ، ولم يأته شيء من الله؟

ولكن هذا قول مردود. فما كان الله ليدع أحدا يدعي أن الله أوحى إليه ، وهو لم يوح إليه شيئا ، وهو قادر على أن يختم على قلبه ، فلا ينطق بقرآن كهذا. وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه. وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته :

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ، وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ)

وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى قبل أن يقوله :

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ..

فهي شبهة لا قوام لها. وزعم لا يقوم على أساس. ودعوى تخالف المعهود عن علم الله بالسرائر ، وعن قدرته

على ما يريد ، وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل .. وإذن فهذا الوحي حق ، وقول محمد صدق ؛ وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال .. وبذلك ينتهي القول ـ مؤقتا ـ في الوحي. ويأخذ بهم في جولة أخرى وراء هذا القرار.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس ، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم ، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم .. وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة .. ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته. وبين القسمين اتصال ظاهر ، فهما طريقان إلى القلب البشري ، يصلانه بالوحي والإيمان.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ).

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) ..

تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات. ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغهم به عن الله. وتقرير علم الله بذوات الصدور.

تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة ، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير. ويفتح لهم الباب على مصراعيه : فالله يقبل عنهم التوبة ، ويعفو عن السيئات ؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية ، والخوف مما أسلفوا من ذنوب. والله يعلم ما يفعلون. فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها. كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها.

وفي ثنايا هذه اللمسة يعود إلى جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لدعوة ربهم ، وهو يزيدهم من فضله. (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) .. وباب التوبة مفتوح للنجاة من العذاب الشديد ، وتلقي فضل الله لمن يستجيب.

وفضل الله في الآخرة بلا حساب ، وبلا حدود ولا قيود. فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود ؛ لما يعلمه ـ سبحانه ـ من أن هؤلاء البشر لا يطيقون ـ في الأرض ـ أن يتفتح عليهم فيض الله غير المحدود :

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ. إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) ..

وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق ـ مهما كثرت ـ بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير. فالله يعلم أن عباده ، هؤلاء البشر ، لا يطيقون الغنى إلا بقدر ، وأنه لو بسط لهم في الرزق ـ من نوع ما يبسط في الآخرة ـ لبغوا وطغوا. إنهم صغار لا يملكون التوازن. ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد. والله بعباده خبير بصير. ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدرا محدودا ، بقدر ما يطيقون. واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض ، ويجتازون امتحانها ، ويصلون إلى الدار الباقية بسلام. ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) ..

وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض. وقد غاب عنهم الغيث ، وانقطع عنهم المطر ، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول .. الماء .. وأدركهم اليأس والقنوط. ثم ينزل الله الغيث ، ويسعفهم بالمطر ، وينشر رحمته ، فتحيا الأرض ، ويخضر اليابس ، وينبت البذر ، ويترعرع النبات ، ويلطف الجو ، وتنطلق الحياة ، ويدب النشاط ، وتنفرج الأسارير ، وتتفتح القلوب ، وينبض الأمل ، ويفيض الرجاء .. وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات. تتفتح فيها أبواب الرحمة ، فتتفتح أبواب السماء بالماء .. (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) .. وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات ..

واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة .. (الْغَيْثَ) .. يلقي ظل الغوث والنجدة ، وتلبية المضطر في الضيق والكربة. كما أن تعبيره عن آثار الغيث .. (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) .. يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح ، التي تنشأ فعلا عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار. وما من مشهد يريح الحس والأعصاب ،

ويندّي القلب والمشاعر ، كمشهد الغيث بعد الجفاف. وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث ، وتنتشي بالخضرة بعد الموات.

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ..

وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار ، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به ، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله. وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة. فهي قاطعة في دلالتها ، تخاطب الفطرة بلغتها ، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد. إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان ، ولا غيره من خلق الله. ولا مفر من الاعتراف بمنشئ مدبر. فإن ضخامتها الهائلة ، وتناسقها الدقيق ، ونظامها الدائب ، ووحدة نواميسها الثابتة .. كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلا إلا على أساس أن هناك إلها أنشأها ويدبرها. أما الفطرة فهي تتلقى منطق هذا الكون تلقيا مباشرا ، وتدركه وتطمئن إليه ، قبل أن تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها!

وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) .. والحياة في هذه الأرض وحدها ـ ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها ـ آية أخرى. وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد ، فضلا على التطلع إلى إنشائه. سر غامض لا يدري أحد من أين جاء ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يتلبس بالأحياء! وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب ؛ وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء ـ بعد وجود الحياة ـ وتنوعها ووظائفها ؛ وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات. فأما ما وراء الستر فبقي سرا خافيا لا تمتد إليه عين ، ولا يصل إليه إدراك .. إنه من أمر الله. الذي لا يدركه سواه.

هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان. فوق سطح الأرض وفي ثناياها. وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء ـ ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء ـ هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير ، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور. هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء ، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب!

وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم ، أو سربا من النحل يطير من خلية لهم!

وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله. وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله. وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله. وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله. وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان ، وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان .. ومعها خلائق أربى عددا وأخفى مكانا في السماوات من خلق الله .. كلها .. كلها .. يجمعها الله حين يشاء ..

وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر. والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع

في لمحة على طريقة القرآن ؛ فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن!

وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم. لا كله. فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون. ولكن يعفو منه عن كثير. ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف. فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة.

وفي الآية الثانية يتجلى ضعف هذا الإنسان ، فما هو بمعجز في الأرض ، وما له من دون الله من ولي ولا نصير. فأين يذهب إلا أن يلتجئ إلى الولي والنصير؟

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ. وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..

والسفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله. آية حاضرة مشهودة. آية تقوم على آيات كلها من صنع الله دون جدال. هذا البحر من أنشأه؟ من من البشر أو غيرهم يدعي هذا الادعاء؟ ومن أودعه خصائصه من كثافة وعمق وسعة حتى يحمل السفن الضخام؟ وهذه السفن من أنشأ مادتها وأودعها خصائصها فجعلها تطفو على وجه الماء؟ وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن التي كانت معلومة وقتها للمخاطبين (وغير الريح من القوى التي سخرت للإنسان في هذا الزمان من بخار أو ذرة أو ما يشاء الله بعد الآن) من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام؟ ..

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) ..

وإنها لتركد أحيانا فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ..

في إجرائهن وفي ركودهن على السواء آيات لكل صبار شكور. والصبر والشكر كثيرا ما يقترنان في القرآن. الصبر على الابتلاء والشكر على النعماء ؛ وهما قوام النفس المؤمنة في الضراء والسراء.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) ..

فيحطمهن أو يغرقهن بما كسب الناس من ذنب ومعصية ومخالفة عن الإيمان الذي تدين به الخلائق كلها ، فيما عدا بعض بني الإنسان!

(وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) ..

فلا يؤاخذ الناس بكل ما يصدر منهم من آثام ، بل يسمح ويعفو ويتجاوز منها عن كثير.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..

لو شاء الله أن يقفهم أمام بأسه ، ويوبق سفائنهم ، وهم لا يملكون منها نجاة!

وهكذا يشعرهم بأن ما يملكون من أعراض هذه الحياة الدنيا ، عرضة كله للذهاب. فلا ثبات ولا استقرار لشيء إلا الصلة الوثيقة بالله.

* * *

ثم يخطو بهم خطوة أخرى ، وهو يلفتهم إلى أن كل ما أوتوه في هذه الأرض متاع موقوت في هذه الحياة الدنيا. وأن القيمة الباقية هي التي يدخرها الله في الآخرة للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. ويستطرد فيحدد صفة المؤمنين هؤلاء ، بما يميزهم ، ويفردهم أمة وحدهم ذات خصائص وسمات!

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ..

لقد سبق في السورة أن صور القرآن حالة البشرية ؛ وهو يشير إلى أن الذين أوتوا الكتاب تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ؛ وكان تفرقهم بغيا بينهم لا جهلا بما نزل الله لهم من الكتاب ، وبما سن لهم من نهج ثابت مطرد من عهد نوح إلى عهد إبراهيم إلى عهد موسى إلى عهد عيسى ـ عليهم صلوات الله ـ وهو يشير كذلك إلى أن الذين أورثوا الكتاب بعد أولئك المختلفين ، ليسوا على ثقة منه ، بل هم في شك منه مريب.

وإذا كان هذا حال أهل الأديان المنزلة ، وأتباع الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ فحال أولئك الذين لا يتبعون رسولا ولا يؤمنون بكتاب أضل وأعمى.

ومن ثم كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة ، تنقذها من تلك الجاهلية العمياء التي كانت تخوض فيها. وتأخذ بيدها إلى العروة الوثقى ؛ وتقود خطاها في الطريق الواصل إلى الله ربها ورب هذا الوجود جميعا.

ونزل الله الكتاب على عبده محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرآنا عربيا ، لينذر أم القرى ومن حولها ؛ وشرع فيه ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، ليصل بين حلقات الدعوة منذ فجر التاريخ ، ويوحد نهجها وطريقها وغايتها ؛ ويقيم بها الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود ؛ وتحقق في الأرض وجود هذه الدعوة كما أرادها الله ، وفي الصورة التي يرتضيها.

وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها. ومع أن هذه الآيات مكية ، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة ، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) .. مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة ، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم عليه أمرها كجماعة ، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة ، بوصفها إفرازا طبيعيا للجماعة. كذلك نجد من صفة هذه الجماعة : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) .. مع أن الأمر الذي كان صادرا للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان ؛ إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال. وقيل لهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وذكر هذه الصفة

هنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأن صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة ؛ وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمرا استثنائيا لظروف معينة. وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة ، ولو أن الآيات مكية ، ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان.

وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة ، المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام. ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا ، جدير بالتأمل. فهي الصفات التي يجب أن تقوم أولا ، وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية. ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا .. ما هي؟ ما حقيقتها؟ وما قيمتها في حياة البشرية جميعا؟

إنها الإيمان. والتوكل. واجتناب كبائر الإثم والفواحش. والمغفرة عند الغضب. والاستجابة لله وإقامة الصلاة. والشورى الشاملة. والإنفاق مما رزق الله. والانتصار من البغي. والعفو. والإصلاح. والصبر.

فما حقيقة هذه الصفات وما قيمتها؟ يحسن أن نبين هذا ونحن نستعرض الصفات في نسقها القرآني.

إنه يقف الناس أمام الميزان الإلهي الثابت لحقيقة القيم. القيم الزائلة والقيم الباقية ؛ كي لا يختلط الأمر في نفوسهم ، فيختل كل شيء في تقديرهم. ويجعل هذا الميزان مقدمة لبيان صفة الجماعة المسلمة :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) ..

إن في هذه الأرض متاعا جذابا براقا ، وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان ؛ وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة ، لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا. وإن كان يبارك للطائع ـ ولو في القليل ـ ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير.

ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية. إنما هو متاع. متاع محدود الأجل. لا يرفع ولا يخفض ، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة ؛ ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب. إنما هو متاع. (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) .. خير في ذاته. وأبقى في مدته. فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله ، ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب. ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام. أقصى أمده للفرد عمر الفرد ، وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية ؛ وهو بالقياس إلى أيام الله ومضة عين أو تكاد.

وبعد تقرير هذه الحقيقة يأخذ في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى ..

ويبدأ بصفة الإيمان. (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) .. وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء في هذا الوجود إلا عن طريقها. فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود ، وأنه من صنع الله ؛ وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه. ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير ، ولا ينحرف عن النواميس الكلية ، فيسعد بهذا التناسق ، ويمضي مع الوجود كله إلى بارئ الوجود في طاعة واستسلام وسلام. وهذه الصفة لازمة لكل إنسان ، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارئ الوجود.

وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية ، والثقة بالطريق ، وعدم الحيرة أو التردد ، أو الخوف أو اليأس. وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب ؛ ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق ،

ويقود البشرية في هذا الطريق.

وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم. إذ يصبح القلب متعلقا بهدف أبعد من ذاته ؛ ويحس أن ليس له من الأمر شيء ، إنما هي دعوة الله ، وهو فيها أجير عند الله! وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذ أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة ؛ ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير ، أو دانت له الرقاب. فإنما هو أجير.

ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيمانا كاملا أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيرا عجيبا. وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم ، فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه لاعصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها.

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين». عن هذا الإيمان :

«انحلت العقدة الكبرى ـ عقدة الشرك والكفر ـ فانحلت العقد كلها ؛ وجاهدهم الرسول جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي ؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة ؛ وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى ...» (١) «حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ـ بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم ـ وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم ، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة ، وفي اليوم رجال الغد ، لا تجزعهم مصيبة ، ولا تبطرهم نعمة ، ولا يشلغهم فقر ، ولا يطغيهم غنى ، ولا تلهيهم تجارة ، ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم ، قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين .. وطأ لهم أكناف الأرض ، وأصبحوا عصمة للبشرية ، ووقاية للعالم. وداعية إلى دين الله ..» (٢) ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول :

«كان الناس عربا وعجما يعيشون حياة جاهلية ، يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ، ولا يعذب العاصي بعقوبة ، ولا يأمر ولا ينهى ؛ فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم. كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية ؛ فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر ، وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها ، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة. فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله ، وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ ، يقال له : من بنى هذا القصر العتيق؟ فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ؛ فكان دينهم عاريا عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة ..

«.. انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات

__________________

(١) ص ٧٣ الطبعة الثانية.

(٢) ص ٧٤ الطبعة الثانية.

سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها. آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى. آمنوا برب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الملك ، القدوس ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، العزيز ، الحكيم ، الغفور ، الودود ، الرؤوف ، الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء ، يجير ولا يجار عليه .. إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه. يثيب بالجنة ويعذب بالنار ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه. فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلابا عجيبا. فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهرا لبطن. تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ، وجرى منه مجرى الروح والدم ، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها ، وغمر العقل والقلب بفيضانه ، وجعل منه رجلا غير الرجل ، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق» (١).

«وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ، ومحاسبتها والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ؛ حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ، ولا تتناوله يد القانون ، تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ، ووخزا لاذعا للضمير ، وخيالا مروعا ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئنا مرتاحا ، تفاديا من سخط الله وعقوبة الآخرة (٢)» ..

«.. وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه النزع أمام المطامع والشهوات الجارفة ؛ وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا. وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، والإخلاص لله ، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ، ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان» (٣).

«وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان ، ولا يقرون بنظام ، ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ، ويركبون العمياء ، ويخبطون خبط عشواء. فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان ، والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة ، واستسلموا للحكم الإلهي استسلاما كاملا ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهواءهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيدا لا يملكون مالا ولا نفسا ولا تصرفا في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به ، لا يحاربون ولا يصالحون

__________________

(١) ص ٧٥ ـ ٧٦ الطبعة الثانية.

(٢) ص ٧٦.

(٣) ص ٧٧.

إلا بإذن الله ، ولا يرضون ولا يسخطون ، ولا يعطون ولا يمنعون ، ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره» (١).

وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة. ومن مقضيات هذا الإيمان التوكل على الله. ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها :

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ..

وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه. والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه. فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره. إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته ، ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئا إلا بمشيئته ، وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه. ومن ثم يقصر توكله عليه ، ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه.

وهذا الشعور ضروري لكل أحد ، كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله. مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله. ثابت الجأش في الضراء ؛ قرير النفس في السراء ، لا تستطيره نعماء ولا بأساء .. ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد ، الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ..

وطهارة القلب ، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش ، أثر من آثار الإيمان الصحيح. وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة. وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها. وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره.

ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة ، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة (ص ٧٧) وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة. ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات!

والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري ، فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة ، والذي ينال معه ما عند الله ، هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش. لا صغائر الإثم والذنب. وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر ، لأنه أعلم بطاقته. وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان ؛ توجب الحياء من الله ، فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء.

(وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ..

وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه ، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد. وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون.

وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية ؛ فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته. والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته. وهو ليس شرا كله. فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير. ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة. بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة ، فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه. ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه ، وأن يغفر

__________________

(١) ص ٨١.

ويعفو ، ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة. هذا مع أنه عرف عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه لم يغضب لنفسه قط ، إنما كان يغضب لله ، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء. ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة ؛ لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها. وإن كان يحببهم فيها. إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب ، والعفو عند القدرة ، والاستعلاء على شعور الانتقام ، ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) ..

فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم. أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول. وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها. عوائق من شهواتها ونزواتها. عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها. فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحا وموصولا. وحينئذ تستجيب بلا عائق. تستجيب بكلياتها. ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها .. وهذه هي الاستجابة في عمومها .. ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة :

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ..

وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى ، فهي التالية للقاعدة الأولى فيه. قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهي صورة الاستجابة الأولى لله. وهي الصلة بين العبد وربه. وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعا سجدا ، لا يرتفع رأس على رأس ، ولا تتقدم رجل على رجل!

ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى ـ قبل أن يذكر الزكاة :

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)

والتعبير يجعل أمرهم كله شورى ، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة. وهو كما قلنا نص مكي. كان قبل قيام الدولة الإسلامية. فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين. إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد.

والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية. والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية.

ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكرا ، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها. إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية ، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية. وهي من ألزم صفات القيادة.

أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوبا في قالب حديدي ؛ فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان ، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية. والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالا جامدة ، وليست نصوصا حرفية ، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة. والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء .. وليس هذا كلاما عائما غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية. فهذه العقيدة ـ في أصولها الاعتقادية البحتة ، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها ـ تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري ، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ؛ ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع ، لمجرد تنظيمها لا لخلقها

وإنشائها. ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية ، لا بد قبلها من وجود مسلمين ، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر. وإلا فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة ، ولا تحقق نظاما يصح وصفه بأنه إسلامي ..

ومتى وجد المسلمون حقا ، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته ، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية ، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها ؛ وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ..

وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة. ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيها مبكرا في حياة الجماعة الإسلامية. بل إنه ولد مع مولدها.

ولا بد للدعوة من الإنفاق. لا بد منه تطهيرا للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الملك ، وثقة بما عند الله. وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان. ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة. فالدعوة كفاح. ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره. وأحيانا يكون هذا التكافل كاملا بحيث لا يبقى لأحد مال متميز. كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة ، ونزولهم على إخوانهم في المدينة. حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة.

وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات ..

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).

وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف. فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة. صفة الانتصار من البغي ، وعدم الخضوع للظلم. وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة. لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل ؛ وهي عزيزة بالله. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) .. فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان. وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة ، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة ، أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة.

ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي :

منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة. فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعا قبليا مخلخلا. ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب ، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه ـ ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة ـ كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالبا. ولم يكن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد. والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة.

ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى. واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم ، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين. وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه. فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار ، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة ، ونقضت هذا العهد الجائر.

ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف ، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام. والتوازن

في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم ، وإخضاعها لهدف ، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب. مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم. ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية ، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق.

فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة. مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ..

ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة :

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ..

فهذا هو الأصل في الجزاء. مقابلة السيئة بالسيئة ، كي لا يتبجح الشر ويطغى ، حين لا يجد رادعا يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن!

ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد. وهو استثناء من تلك القاعدة. والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة. فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء. فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجئ ضعفا يخجل ويستحيي ، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى. والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو. فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا. ولا كذلك عند الضعف والعجز. وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز. فليس له ثمة وجود. وهو شر يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه ، وينشر في الأرض الفساد!

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ..

وهذا توكيد للقاعدة الأولى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) من ناحية. وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها. وعدم تجاوز الحد في الاعتداء ، من ناحية أخرى.

وتوكيد آخر أكثر تفصيلا :

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

فالذي ينتصر بعد ظلمه ، ويجزي السيئة بالسيئة ، ولا يعتدي ، ليس عليه من جناح. وهو يزاول حقه المشروع. فما لأحد عليه من سلطان. ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد. إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق. فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه ؛ وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه. والله يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم. ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له ويأخذوا عليه الطريق.

ثم يعود إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية ، وعند المقدرة على الدفع كما هو مفهوم ؛ وحين يكون الصبر والسماحة استعلاء لا استخذاء ؛ وتجملا لا ذلا :

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ..

ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين ؛ وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ ، ومن الضعف والذل ، ومن الجور والبغي. وتعلقها بالله ورضاه في كل حال. وتجعل الصبر

زاد الرحلة الأصيل.

ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعا مميزا للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ..

* * *

وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى ، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين ، وما ينتظرهم من ذل وخسران :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ؛ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ : هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ، وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) ..

إن قضاء الله لا يرد ، ومشيئته لا معقب عليها (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) .. فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال ، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال ، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله ، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله .. والذي يعرض منه مشهدا في بقية الآية : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ : هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ..

والظالمون كانوا طغاة بغاة ، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء. إنهم يرون العذاب ، فتتهاوى كبرياؤهم. ويتساءلون في انكسار : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟) في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة ، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص. وهم يعرضون على النار (خاشِعِينَ) لا من التقوى ولا من الحياء ، ولكن من الذل والهوان! وهم يعرضون منكسي الأبصار ، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) .. وهي صورة شاخصة ذليلة.

وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف ؛ فهم ينطقون ويقررون : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .. وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء ، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون : هل إلى مرد من سبيل؟

ويجيء التعليق العام على المشهد بيانا لمآل هؤلاء المعروضين على النار :

(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) ..

فقد عدم النصير ، وقد أغلق السبيل.

* * *

وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين ، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم ، ولا نصيرا ينكر مصيرهم الأليم ، ويوجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير ؛ فما عليه إلا البلاغ ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ. فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ..

ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند ، ويعرض نفسه للأذى والعذاب ، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى ؛ وهو رقيق الاحتمال ، يستطار بالنعمة ، ويجزع من الشدة ، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق :

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) ..

ويعقب على هذا بأن نصيب هذا الإنسان من السراء والضراء ومن العطاء والحرمان كله بيد الله. فما لهذا الإنسان المحب للخير الجزوع من الشر ، يبعد عن الله المالك لأمره في جميع الأحوال :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ..

والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان ؛ وهي قريبة من نفس الإنسان ؛ والنفس شديدة الحساسية بها. فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق. وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه. فهذه تكملة في الرزق بالذرية. وهي رزق من عند الله كالمال.

والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام. وكذلك ذكر : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) .. فهي توكيد للإحياء النفسي المطلوب في هذا الموضع. ورد الإنسان ، المحب للخير ، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسرّ وما يسوء ومن عطاء أو حرمان.

ثم يفصل حالات العطاء والحرمان : فهو يهب لمن يشاء إناثا (وهم كانوا يكرهون الإناث) ويهب لمن يشاء الذكور. ويهب لمن يشاء أزواجا من هؤلاء وهؤلاء. ويحرم من يشاء فيجعله عقيما (والعقم يكرهه كل الناس) .. وكل هذه الأحوال خاضعة لمشيئة الله. لا يتدخل فيها أحد سواه. وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته : (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ..

* * *

وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى التي تدور عليها السورة. حقيقة الوحي والرسالة. يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده ، وفي أية صورة يكون. ويؤكد أنه قد وقع فعلا إلى الرسول الأخير ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لغاية يريدها الله سبحانه. ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ..

ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها : «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» (١) إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : «وحيا» يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) .. كما كلم الله موسى ـ عليه‌السلام ـ وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ

__________________

(١) متفق عليه.

تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) .. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) وهو الملك (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) بالطرق التي وردت عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .. والثانية : أنه كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتمثل له الملك رجلا ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول. والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها. والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم (١).

هذه صور الوحي وطرق الاتصال .. (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) .. يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار .. وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي .. كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء. كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟

وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟

وكيف؟ وكيف؟ ..

ولكني أعود فأقول : وما لك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة. وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود.

ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقا. وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقا. تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية .. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟! هذا الوحي الصادر من هناك. أأقول : هناك؟! كلا. إنه ليس هناك «هناك»! الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف. الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان .. إنسان مهما يكن نبيا رسولا ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود .. هذا الوحي. هذا الاتصال العجيب. المعجز. الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق .. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات. هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات. وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله ـ صلّى الله

__________________

(١) عن «زاد المعاد» للإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن قيم الجوزية.

عليه وسلّم. وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا عائشة. هذا جبريل يقرئك السّلام» قلت : وعليه‌السلام ورحمة الله. قالت : وهو يرى ما لا نرى (١)». وهذا زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه. وهؤلاء هم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه ..

ثم .. أية طبيعة. طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟

إنها هي الأخرى مسألة! إنها حقيقة. ولكنها تتراءى هنالك بعيدا على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه.

روح هذا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ روح هذا الإنسان. كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود ؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟

ثم .. أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟ .. والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان. فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها .. وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟.

إنها حقيقة. ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعا إلى الأفق السامق الوضيء :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ. وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

(وَكَذلِكَ). بمثل هذه الطريقة ، وبمثل هذا الاتصال. (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) .. فالوحي تم بالطريقة المعهودة. ولم يكن أمرك بدعا. أوحينا إليك (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) .. فيه حياة ، يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود. (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) .. هكذا يصور نفس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو أعلم بها ، قبل أن تتلقى هذا الوحي. وقد سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الكتاب وسمع عن الإيمان ، وكان معروفا في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم ، وأن لهم عقيدة. فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير. وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد ـ عليه صلوات الله.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) .. وهذه طبيعته الخالصة. طبيعة هذا الوحي. هذا الروح. هذا الكتاب. إنه نور. نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به ، بما يعلمه من حقيقتها ، ومن مخالطة هذا النور لها.

__________________

(١) أخرجه البخاري.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة ، مسألة الهدى ، بمشيئة الله سبحانه ، وتجريدها من كل ملابسة ، وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص ، الذي لا يعرفه سواه ؛ والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واسطة لتحقيق مشيئة الله ، فهو لا ينشئ الهدى في القلوب ؛ ولكن يبلغ الرسالة ، فتقع مشيئة الله.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) .. فهي الهداية إلى طريق الله ، الذي تلتقي عنده المسالك. لأنه الطريق إلى المالك ، الذي له ما في السماوات وما في الأرض ؛ فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض ، وقوى السماوات والأرض ، ورزق السماوات والأرض ، واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم. الذي إليه تتجه ، والذي إليه تصير :

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ..

فكلها تنتهي إليه ، وتلتقي عنده ، وهو يقضي فيها بأمره.

وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه ، ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين.

* * *

وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي. وكان الوحي محورها الرئيسي. وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى. لتقرر وحدة الدين ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق. ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة. ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز ، الذي تصلح به للقيادة ، وتحمل به هذه الأمانة. الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم ..

* * *

(٤٣) سورة الزخرف مكية

وآياتها تسع وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)

وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥)

تعرض هذه السورة جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ؛ ومن جدال واعتراضات. وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كل زمان ومكان.

كانت الوثنية الجاهلية تقول : إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد ، نصيبا لله ، ونصيبا لآلهتهم المدعاة. «وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا. فقالوا : هذا لله ـ بزعمهم ـ وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم» .. وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة. فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب ـ وأنواع محرمة لحومها على الأكل : «وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء ـ بزعمهم ـ وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه» ..

وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى. فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا. وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ؛ لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها ، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة ، ويتبعون خرافات وأساطير : «ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : خلقهن العزيز العليم ، الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ، كذلك تحزجون ، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون» ..

وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله ؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات! ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة.

وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم ؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة

التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ .. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ، وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ! ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ؟ بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ!) ..

ولما قيل لهم : إنكم تعبدون أصناما وأشجارا وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وقيل لهم : إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار. حرفوا الكلام الواضح البين ، واتخذوا منه مادة للجدل. وقالوا : فما بال عيسى وقد عبده قومه؟ أهو في النار؟! ثم قالوا : إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله. فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس!

وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل ؛ ويبرىء عيسى ـ عليه‌السلام ـ مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه بريء : «ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون. وقالوا : أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلا. بل هم قوم خصمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ..» ..

وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة. وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون.

فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم ، وأنها ملة التوحيد الخالص ، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه ، وأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد جاءهم بها ، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا : هذا سِحْرٌ ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ ..) ..

ولم يدركوا حكمة اختيار الله ـ سبحانه ـ لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال.

وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد ؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية ، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها : «وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم : أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، ورحمة ربك خير مما يجمعون. ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ، وزخرفا. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ، والآخرة عند ربك للمتقين» ..

ثم جاء بحلقة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون ، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة ، وهوانها على الله ، وهوان فرعون الذي اعتز بها ، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، فَقالَ : إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَقالُوا : يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ : يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ

وَلا يَكادُ يُبِينُ ؛ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ..

* * *

حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية ، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة ، تدور السورة ، وتعالجها على النحو الذي تقدم. في أشواط ثلاثة تقدم أولها ـ قبل هذا ـ وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة. فلنأخذ في التفصيل :

(حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) ..

تبدأ السورة بالحرفين : «حا. ميم» ثم يعطف عليهما قوله : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) .. ويقسم الله ـ سبحانه ـ بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين. وحاميم من جنس الكتاب المبين ، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم. فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين. وهذان الحرفان ـ كبقية الأحرف في لسان البشر ـ آية من آيات الخالق ، الذي صنع البشر هذا الصنع ، وجعل لهم هذه الأصوات. فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن.

يقسم الله ـ سبحانه ـ بحا ميم والكتاب المبين ، على الغاية من جعل هذا القرآن في صورته هذه التي جاء بها للعرب :

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ..

فالغاية هي أن يعقلوه حين يجدونه بلغتهم وبلسانهم الذي يعرفون. والقرآن وحي الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعله في صورته هذه اللفظية عربيا ، حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة ، للحكمة التي أشرنا إلى طرف منها في سورة الشورى ؛ ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها. والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ثم يبين منزلة هذا القرآن عنده وقيمته في تقديره الأزلي الباقي :

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ..

ولا ندخل في البحث عن المدلول الحرفي لأم الكتاب ما هي : أهي اللوح المحفوظ ، أم هي علم الله الأزلي. فهذا كهذا ليس له مدلول حرفي محدد في إدراكنا. ولكننا ندرك منه مفهوما يساعد على تصورنا لحقيقة كلية. وحين نقرأ هذه الآية : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) .. فإننا نستشعر القيمة الأصيلة الثابتة لهذا القرآن في علم الله وتقديره. وهذا حسبنا. فهذا القرآن «عليّ» .. «حكيم» .. وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة. وإنه لكذلك! وكأنما فيه روح. روح ذات سمات وخصائص ، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها. وهو في علوه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه. وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان : علي. حكيم.

وتقرير هذه الحقيقة كفيل بأن يشعر القوم الذين جعل القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم ، وقيمة النعمة التي أنعم الله عليهم ؛ ويكشف لهم عن مدى الإسراف القبيح في إعراضهم عنها واستخفافهم بها ؛

ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض ؛ ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم ، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف :

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟) ..

ولقد كان عجيبا ـ وما يزال ـ أن يعنى الله سبحانه ـ في عظمته وفي علوه وفي غناه ـ بهذا الفريق من البشر ، فينزل لهم كتابا بلسانهم ، يحدثهم بما في نفوسهم ، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم ، ويبين لهم طريق الهدى ، ويقص عليهم قصص الأولين ، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين .. ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون!

وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته ، جزاء إسرافهم القبيح!

وإلى جانب هذا التهديد يذكرهم بسنة الله في المكذبين ، بعد إرسال النبيين :

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) ..

فما ذا ينتظرون هم وقد أهلك الله من هم أشد منهم بطشا ، حينما وقفوا يستهزئون بالرسل كما يستهزئون؟

* * *

والعجيب ـ كان ـ في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله ، وخلقه للسماوات والأرض. ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله ، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء ، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام ؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته ، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام!

والقرآن يعرض اعترافهم ، ويرتب عليه نتائجه ، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه ، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام. ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ : خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، وَتَقُولُوا : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ؛ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ..

لقد كانت للعرب عقيدة ـ نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه‌السلام ، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير ـ وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون ، وأنه هو الله ، فما يمكن ـ في منطق الفطرة وبداهتها ـ أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق ؛ وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله. ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر ، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ : خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ...) ..

وواضح أن هاتين الصفتين : (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ليستا من قولهم. فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو «الله» .. ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام. هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثرا فعالا في حياتهم وحياة هذا الكون. كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون ، وخالقا لهم كذلك. ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء. لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك ، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة.

والقرآن هنا يعلمهم أن الله ، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض ، هو (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) .. فهو القوي القادر ، وهو العليم العارف. فيبدأ بهم من اعترافهم ، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف.

ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته ؛ وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ..

وحقيقة جعل هذه الأرض مهدا للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير ، وأمامهم ممهدة للزرع ، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق ، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب ـ لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا ـ والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن ؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق ، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم ، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان.

ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهدا لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار ، حتى صار مهدا لبني الإنسان. وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع ؛ وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين ؛ واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة ؛ وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه ، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء؟

ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية ، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة ؛ ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه ، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها ، فأفلت هواؤها كالقمر مثلا! وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض ؛ فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر ؛ وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض ؛ ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية ، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقا ، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحيانا بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا! ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجارا!

ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهدا وتذليل السبل فيها للحياة ، أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له ؛ ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت. فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا ، ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها ، والاحتفاظ بجوها دائما في حالة تسمح للأحياء بالحياة. ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسيجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به ، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها ؛ ولو لا هذه الموازنة لا ختنق الأحياء بعد فترة من الزمان.

وهكذا. وهكذا. من المدلولات الكثيرة لحقيقة : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تتكشف لنا في كل يوم ؛ وتضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة. وكلها تشهد بالقدرة كما

تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم. وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة ، في حيثما امتد بصره ، وتلفت خاطره ؛ وأنه غير مخلوق سدى ، وغير متروك لقى ؛ وأن هذه اليد تمسك به ، وتنقل خطاه ، وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة ، وقبل الحياة ، وبعد الحياة!

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) .. فإن تدبر هذا الكون ، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون ، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب ..

ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء ، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة :

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ..

والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان ؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز ، لطول الألفة والتكرار. فأما محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار ؛ لأنها قادمة إليه من عند الله. ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات ، ويرى يده الصناع! وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود. فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة. ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة ، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض ، المتكاثف في أجواز الفضاء. فمن أنشأ هذه الأرض؟ ومن جعل فيها الماء؟ ومن سلط عليها الحرارة؟ ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة؟ ومن أودع البخار خاصية الارتفاع ؛ وخاصية التكثف في أجواز الفضاء؟ ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحونا بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء؟ وما الكهرباء؟ وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء؟ إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالا تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب ، بدلا من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب! (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) ..

فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق ؛ ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة ؛ ونحن نرى هذه القول الموافقة العجيبة ، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله.

(فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ..

والإنشاء الإحياء. والحياة تتبع الماء. ومن الماء كل شيء حي.

(كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ..

فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها ؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة ، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة. فالإعادة من البدء ؛ وليس فيها عزيز على الله.

ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءا لله وجزءا لغير الله ، وما لهذا خلقها الله ؛ إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس ، يركبونها كما يركبون الفلك ، ويشكرون الله على تسخير هما ، ويقابلون نعمته بما تستحقها :

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، وَتَقُولُوا : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ..

والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية. فكل الأحياء أزواج ، وحتى الخلية الواحدة الأولى

تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها. بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة أن قاعدة الكون هي الذكرة المؤلفة من الكترون سالب وبروتون موجب ، كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن.

وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة ؛ والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان :

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) ..

يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض ، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات. ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء ؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة ، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة :

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) .. فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها ، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام.

ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه. وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات :

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ..

هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم ، يوجهنا الله إليه ، لنذكره كلما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا ، والتي نتقلب بين أعطافها .. ثم ننساه ..!

والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير. فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام ، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان! إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله ، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده ؛ وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس ، وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم ، وهو محض الفضل والإنعام ، بلا مقابل منهم ، فما هم بقادرين على شيء يقابلون به فضل الله. ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب .. وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله. ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان.

* * *

بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله ، وهم عباد الله :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ؟ بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ، وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ..

إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب ، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم ، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم ، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا

مثل وقفتهم ، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين.

ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها ، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ..

فالملائكة عباد الله ، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية ، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله ؛ وهم عباد كسائر العباد ، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم. وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية. وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ).

ثم يحاجهم بمنطقهم وعرفهم ، ويسخر من سخف دعواهم أن الملائكة إناث ثم نسبتهم إلى الله :

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟) ..

فإذا كان الله ـ سبحانه ـ متخذا أبناء ، فماله يتخذ البنات ويصفيهم هم بالبنين ؛ وهل يليق أن يزعموا هذا الزعم بينما هم يستنكفون من ولادة البنات لهم ويستاءون :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ..

أفما كان من اللياقة والأدب ألا ينسبوا إلى الله من يستاءون هم إذا بشروا به ، حتى ليسود وجه أحدهم من السوء الذي يبلغ حدا يجل عن التصريح به ، فيكظمه ويكتمه وهو يكاد يتميز من السوء؟! أفما كان من اللياقة والأدب ألا يخصوا الله بمن ينشأ في الحلية والدعة والنعومة ، فلا يقدر على جدال ولا قتال ؛ بينما هم ـ في بيئتهم ـ يحتفلون بالفرسان والمقاويل من الرجال؟!

إنه يأخذهم في هذا بمنطقهم ، ويخجلهم من انتقاء ما يكرهون ونسبته إلى الله. فهلا اختاروا ما يستحسنونه وما يسرون له فنسبوه إلى ربهم ، إن كانوا لا بد فاعلين؟!

ثم يحاصرهم هم وأسطورتهم من ناحية أخرى. فهم يدعون أن الملائكة إناث. فعلام يقيمون هذا الادعاء؟

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) ..

أشهدوا خلقهم؟ فعلموا أنهم إناث؟ فالرؤية حجة ودليل يليق بصاحب الدعوى أن يرتكن إليه. وما يملكون أن يزعموا أنهم شهدوا خلقهم. ولكنهم يشهدون بهذا ويدعونه ، فليحتملوا تبعة هذه الشهادة بغير ما كانوا حاضريه : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) ..

ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار :

(وَقالُوا : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ. ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ. إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ..

إنهم يحاولون التهرب حين تحاصرهم الحجج ، وتتهافت بين أيديهم الأسطورة. فيحيلون على مشيئة الله ، يزعمون أن الله راض عن عبادتهم للملائكة ؛ ولو لم يكن راضيا ما مكنهم من عبادتهم ، ولمنعهم من ذلك منعا!

وهذا القول احتيال على الحقيقة. فإن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله. هذا حق. ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال. وكلفه اختيار الهدى ورضيه له ، ولم يرض له الكفر والضلال. وإن كانت مشيئة أن يخلقه قابلا للهدى أو الضلال.

وهم حين يحيلون على مشيئة الله إنما يخبطون خبطا ؛ فهم لا يوقنون أن الله أراد لهم أن يعبدوا الملائكة ـ ومن أين يأتيهم اليقين؟ ـ (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) .. ويتبعون الأوهام والظنون.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ؟) ..

يستندون إليه في دعواهم ، ويستندون إليه في عبادتهم ، ويستمسكون بما فيه من حقائق ، ويرتكنون إلى ما عندهم فيه من دليل!!

وهكذا يأخذ عليهم الطريق من هذه الناحية ؛ ويوحي إليهم كذلك أن العقائد لا يخبط فيها خبط عشواء ، ولا يرتكن فيها إلى ظن أووهم. إنما تستسقى من كتاب من عند الله يستمسك به من يؤتاه.

وعند هذا الحد يكشف عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة المتهافتة التي لا تقوم على رؤية ، ومزاولة هذه العبادة الباطلة التي لا تستند إلى كتاب :

(بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) ..

وهي قولة تدعو إلى السخرية ، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة. إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد ، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل. وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع بمضي حيث هو منساق ؛ ولا يسأل : إلى أين نمضي؟ ولا يعرف معالم الطريق!

والإسلام رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري لا تقر هذا التقليد المزري ، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازا بالإثم والهوى. فلا بد من سند ، ولا بد من حجة ، ولا بد من تدبر وتفكير ، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين.

وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم مصائر الذين قالوا قولتهم تلك واتبعوا طريقهم في المحاكاة والتقليد ، وفي الإعراض والتكذيب ، بعد الإصرار على ما هم فيه على الرغم من الإعذار والبيان!

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ : فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ..

وهكذا يتجلى أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة ، وحجتهم كذلك مكرورة : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أو (مُقْتَدُونَ) .. ثم تغلق قلوبهم على هذه المحاكاة ، وتطمس عقولهم دون التدبر لأي جديد. ولو كان أهدى. ولو كان أجدى. ولو كان يصدع بالدليل. وثم لا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينيها لترى ، أو تفتح قلبها لتحس ، أو تفتح عقلها لتستبين ..

وهذا هو مصير ذلك الصنف من الناس يعرضه عليهم لعلهم يتبينون عاقبة الطريق الذي يسلكون.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا

بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦)

لقد كانت قريش تقول : إنها من ذرية إبراهيم ـ وهذا حق ـ وإنها على ملة إبراهيم ـ وهذا ما ليس بحق ـ فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ؛ ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد ما تعرض للقتل والتحريق ؛ وعليها قامت شريعته ، وبها أوصى ذريته. فلم يكن للشرك فيها ظل ولا خيط رفيع!

وفي هذا الشوط من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية ، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعوهم .. ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) .. ويناقش قولتهم هذه ، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة ، والقيم الزائفة التي تخايل لهم وتصدهم عن الحق والهدى .. وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى وهو من وسوسة الشيطان .. ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسليه ويؤسيه عن إعراضهم وعماهم ، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم ؛ وسيلقون جزاءهم سواء شهد انتقام الله منهم ، أو أخره الله عنهم. ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق ، الذي جاء به الرسل أجمعون. فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا : أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟) ..

ثم يعرض من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم. وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضونها ، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون ..

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ..

إن دعوة التوحيد التي يتنكرون لها هي دعوة أبيهم إبراهيم. الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفا بها عقيدتهم الباطلة ، غير منساق وراء عبادتهم الموروثة ، ولا مستمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها ؛ بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منها في لفظ واضح صريح ، يحكيه القرآن الكريم بقوله :

(إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ..

ويبدو من حديث إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلا ؛ إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه ، فتبرأ من كل ما يعبدون ، واستثنى الله ؛ ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء ، وهو أنه فطره وأنشأه ، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد. وقرر يقينه بهداية ربه له ، بحكم أنه هو الذي فطره ؛ فقد فطره ليهديه ؛ وهو أعلم كيف يهديه.

قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة. كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود. قالها :

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ..

ولقد كان لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض ، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده ، عن طريق ذريته وعقبه. ولقد قام بها من بنيه رسل ، كان منهم ثلاثة من أولي العزم : موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون ، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم ، الذي جعل هذه الكلمة باقية في

عقبه ، يضل منهم عنها من يضل ، ولكنها هي باقية لا تضيع ، ثابتة لا تتزعزع ، واضحة لا يتلبس بها الباطل (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .. يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه. ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه.

ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم. ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم. عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس ، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ، ويعيش بها ، ولها. فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه ؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون ، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل ، وأشبه أبنائه به (١) : محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاتم الرسل ، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة ، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة ، وتجعل لها أثرا في كل نشاط للإنسان وكل تصور.

فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه ؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه. هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم ، وملة إبراهيم؟

لقد بعد بهم العهد ؛ ومتعهم الله جيلا بعد جيل ، حتى طال عليهم العمر ، ونسوا ملة إبراهيم ، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة ، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية ، فاختل في أيديهم كل ميزان :

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا : هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ! أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً ، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ؛ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ..

يضرب السياق عن حديث إبراهيم ، ويلتفت إلى القوم الحاضرين :

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ..

وكأنه بهذا الإضراب يقول : لندع حديث إبراهيم ، فما لهم به صلة ولا مناسبة ؛ ولننظر في شأن هؤلاء وهو لا يتصل بشأن إبراهيم .. إن هؤلاء وآباءهم من قبلهم ، قد هيأت لهم المتاع ومددت لهم في الأجل ، حتى جاءهم الحق في هذا القرآن ، وجاءهم رسول مبين ، يعرض عليهم هذا الحق في وضوح وتبين :

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا : هذا سِحْرٌ ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) ..

ولا يختلط الحق بالسحر. فهو واضح بين ، وإنا هي دعوى ، كانوا هم أول من يعرف بطلانها. فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق ؛ ولكنهم كانوا يخدعون الجماهير من خلفهم ، فيقولون : إنه سحر ،

__________________

(١) عن جابر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : / «عرض عليّ الأنبياء ، فإذا موسى عليه‌السلام رجل ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ، فرأيت عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة ابن مسعود. ورأيت إبراهيم عليه‌السلام فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم» ..

ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد ، يقولون : (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون ؛ فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد. شأن الملأ من كل قوم ، في التغرير بالجماهير ، خيفة أن يفلتوا من نفوذهم ، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير ، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير!

ثم يحكي القرآن تخليطهم في القيم والموازين ؛ وهم يعترضون على اختيار الله لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليحمل إليهم الحق والنور :

(وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)! ..

يقصدون بالقريتين مكة والطائف. ولقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ذؤابة قريش ، ثم من ذؤابة بني هاشم. وهم في العلية من العرب. كما كان شخصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معروفا بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته. ولكنه لم يكن زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، في بيئة تعتز بمثل هذه القيم القبلية. وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)!

والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولعله ـ سبحانه ـ لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سندا من خارج طبيعتها ، ولا قوة من خارج حقيقتها ؛ فاختار رجلا ميزته الكبرى .. الخلق .. وهو من طبيعة هذه الدعوة .. وسمته البارزة .. التجرد .. وهو من حقيقة هذه الدعوة .. ولم يختره زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، ولا صاحب جاه ، ولا صاحب ثراء. كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء. ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة. ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف.

ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع ، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء ، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض.

(لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)!

فرد عليهم القرآن مستنكرا هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء ؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء ؛ مبينا لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..

أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجبا! وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ، ولا يحققون لأنفسهم رزقا حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه ؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة.

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ..

ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها. ولكن السمة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبدا ـ حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع ـ أنه متفاوت بين الأفراد.

وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم. ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبدا. ولم يقع يوما ـ حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة ـ أن تساوى جميع

الأفراد في هذا الرزق أبدا : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ..

والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات هي :

(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ..

ليسخر بعضهم بعضا .. ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما. وليس التسخير هو الاستعلاء .. استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد .. كلا! إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية ؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء .. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة .. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء .. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق ..

وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية. وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا! وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود ؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع.

وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل ؛ والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخا مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة. ولبقيت أعمال كثيرة جدا لا تجد لها مقابلا من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها ـ والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها. وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق .. هذه هي القاعدة .. أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد. على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم. وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله. وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة.

ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا. ووراء ذلك رحمة الله :

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..

والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل. ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا. فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة. ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون

والطالحون. بينما يختص برحمته المختارين.

وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث ـ لو شاء الله ـ لأغدقها إغداقا على الكافرين به. ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله :

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ..

فهكذا ـ لولا أن يفتتن الناس. والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم ـ لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة ـ بيوتا سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب. بيوتا ذات أبواب كثيرة. قصورا. فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة .. رمزا لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع ؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن! (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ..

متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا.

(وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ..

وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم ؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى ؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!

وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية ؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه ؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار.

وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئا من عرض هذه الحياة الدنيا ؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال. يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى ، ولا تشي باختيار!

وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها ؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة ؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد ؛ واختياره. واطراح العظماء المتسلطين!

وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها ؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير ، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة ؛ ويحسبون أن التطور والتغير ، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور ؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته!

فأما نحن ـ أصحاب العقيدة الإسلامية ـ فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات .. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال (١).

* * *

ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله ؛ وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله ، ولا يشير إلى فلاح ؛ وأن الآخرة عند ربك للمتقين ، استطرد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض ، وهم عمي عن ذكر الله ، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ : يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. فَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) ..

والعشى كلال البصر عن الرؤية ، وغالبا ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه ؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله. وقد يكون ذلك لمرض خاص. والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ..

وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك. واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه ، فيلزمه ، ويصبح له قرين سوء يوسوس له ، ويزين له السوء. وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة ، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب ، كما قضاه الله في علمه.

ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله ، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون :

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ..

وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين. أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ؛ ثم لا يدعه يفيق ، أو يتبين الضلال فيثوب ، إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم! حتى يصطدم بالمصير الأليم.

والتعبير بالفعل المضارع : (لَيَصُدُّونَهُمْ) .. (وَيَحْسَبُونَ) .. يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار ؛ يراها الآخرون ، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون.

ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون :

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ : يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. فَبِئْسَ الْقَرِينُ)!

وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة. ويطوى شريط الحياة السادرة ، ويصل العمي (الذين يعشون عن ذكر الرحمن) إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار. هنا يفيقون كما يفيق المخمور ، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال ؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال ، وأوهمه أنه الهدى!

__________________

(١) فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان .. «بحث لم يتم للمؤلف» ..

وقاده في طريق الهلاك ، وهو يلوح له بالسلامة! ينظر إليه في حنق يقول : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ)! يا ليته لم يكن بيننا لقاء. على هذا البعد السحيق!

ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله : (فَبِئْسَ الْقَرِينُ)!

ونسمع كلمة التيئيس الساحقة لهذا وذاك عند إسدال الستار على الجميع :

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ)!

فالعذاب كامل لا تخففه الشركة ، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون!

* * *

عندئذ ينصرف عن هؤلاء ، في مشهدهم البائس الكئيب ؛ ويدعهم يتلاومون ويتشاتمون. ويتجه بالخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسليه عن هذا المصير البائس الذي انتهى إليه فريق من البشر ؛ ويعزيه عن إعراضهم عنه وكفرهم بما جاء به ؛ ويثبته على الحق الذي أوحى إليه ؛ وهو الحق الثابت المطرد من قديم ، في رسالة كل رسول :

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؟ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ. وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا : أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟) ..

وهذا المعنى يتكرر في القرآن تسلية لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبيانا لطبيعة الهدى والضلال ، ورجعهما إلى مشيئة الله وتقديره وحده ؛ وإخراجهما من نطاق وظيفة الرسل ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ ووضع حدود فاصلة بين مجال القدرة الإنسانية المحدودة في أعلى درجاتها عند مرتقى النبوة ، ومجال القدرة الإلهية الطليقة ؛ وتثبيت معنى التوحيد في صورة من أدق صوره ، وفي موضع من ألطف مواضعه :

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

وهم ليسوا صما ولا عميا ، ولكنهم كالصم والعمي في الضلال ، وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى ، والإشارة إلى دلائله. ووظيفة الرسول أن يسمع من يسمع ، وأن يهدي من يبصر. فإذا هم عطلوا جوارحهم ، وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم. فما للرسول إلى هداهم من سبيل ؛ ولا عليه من ضلالهم ، فقد قام بواجبه الذي يطيق.

والله يتولى الأمر بعد أداء الرسول لواجبه المحدود :

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) ..

والأمر لا يخرج عن هذين الحالين. فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه. وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به ، فالله قادر على تحقيق النذير ، وهم ليسوا له بمعجزين. ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالين ، وهو صاحب الدعوة. وما الرسول إلا رسول.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..

واثبت على ما أنت فيه ، وسر في طريقك لا تحفل ما كان منهم وما يكون. سر في طريقك مطمئن القلب. (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد.

وهذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى ، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود. فهي

مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل. وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود ، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق!

والله ـ سبحانه ـ يثبت رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بتوكيد هذه الحقيقة. وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده ، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق!

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ..

ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين :

أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة ، فلا حجة بعد التذكير.

أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك. وهذا ما حدث فعلا ..

فأما الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه ، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام. ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم ، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة. وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به. فلما أن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض ، واستصغرتهم الدنيا ؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك ، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!

وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه ، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة ، إذا هي تخلت عن الأمانة : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ..

وهذا المدلول الأخير أوسع وأشمل. وأنا إليه أميل.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا : أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟) ..

والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول. فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون؟

والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة .. صورة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟) وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول. وهي صورة طريفة حقا. وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب.

وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والرسل قبله. وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان .. ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة. حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد. وهي كفيلة أن تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة ؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين .. وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب ..

على أنه بالقياس إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب. فهناك دائما تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار. حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود. تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها

حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة. وهنا يسأل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب. كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج.

وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيرا بالمألوف في حياتنا. فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي. ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه. وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات. فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر أمرا أيسر من لمس الأجسام للأجسام!

* * *

وفي سياق تسلية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره ؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا. تجيء حلقة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) .. وانتفاخه على موسى ـ عبد الله ورسوله ـ وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ؟) .. واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) ..

وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد!

ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة ؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى ـ عليه‌السلام ـ وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء.

ثم كيف كانت العاقبة بعد ما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ..

وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون!

ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق. كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض ؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون!

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، فَقالَ : إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ..

هنا يعرض حلقة اللقاء الأول بين موسى وفرعون ، في إشارة مقتضبة تمهيدا لاستعراض النقطة الرئيسية المقصودة من القصة في هذا الموضع ـ وهي تشابه اعتراضات فرعون وقيمه مع اعتراضات مشركي العرب وقيمهم ـ ويلخص حقيقة رسالة موسى : (فَقالَ : إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. وهي ذات الحقيقة التي جاء بها كل رسول : أنه (رَسُولُ) وأن الذي أرسله هو (رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

ويشير كذلك إشارة سريعة إلى الآيات التي عرضها موسى ، وينهي هذه الإشارة بطريقة استقبال القوم لها : (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) .. شأن الجهال المتعالين!

يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى :

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ، وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَقالُوا : يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ..

وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى ـ عليه‌السلام ـ مدعاة إيمان ، وهي تأخذهم متتابعة. كل آية أكبر من أختها. مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة ، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلبا لم يتأهل للهدى ؛ وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي!

والعجب هنا فيما يحكيه القرآن عن فرعون وملئه قولهم : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) .. فهم أمام البلاء ، وهم يستغيثون بموسى ليرفع عنهم البلاء. ومع ذلك يقولون له : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) ويقولون كذلك : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) وهو يقول لهم : إنه رسول (رَبِّ الْعالَمِينَ) لا ربه هو وحده على جهة الاختصاص! ولكن لا الخوارق ولا كلام الرسول مس قلوبهم ، ولا خالطتها بشاشة الإيمان ، على الرغم من قولهم : (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) :

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ..

ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة ، وقد يجد الحق سبيلا إلى قلوبها المخدوعة. وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه ، وفي زخرفه وزينته ، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي ، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان ، المخدوعة بالأبهة والبريق :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ : قالَ : يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ، وَلا يَكادُ يُبِينُ؟ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ؟) إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون ، أمر قريب مشهود للجماهير ، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه. فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما ـ ومصر لا تساوي هباءة فيه ـ فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه ، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد!

والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها ؛ ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد!

ومن ثم عرف فرعون كيف يلعب بأوتار هذه القلوب ويستغفلها بالبريق القريب!

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ؟).

وهو يعني بالمهانة أن موسى ليس ملكا ولا أميرا ولا صاحب سطوة ومال مشهود. أم لعله يشير بهذا إلى أنه من ذلك الشعب المستعبد المهين. شعب إسرائيل. أما قوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) فهو استغلال لما كان معروفا عن موسى قبل خروجه من مصر من حبسة اللسان. وإلا فقد استجاب الله سؤاله حين دعاه : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) .. وحلت عقدة لسانه فعلا ، وعاد يبين.

وعند الجماهير الساذجة الغافلة لا بد أن يكون فرعون الذي له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته ، خيرا من موسى ـ عليه‌السلام ـ ومعه كلمة الحق ومقام النبوة ودعوة النجاة من العذاب الأليم!

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ؟) ..

هكذا. من ذلك العرض التافه الرخيص! أسورة من ذهب تصدق رسالة رسول! أسورة من ذهب تساوي

أكثر من الآيات المعجزة التي أيد الله بها رسوله الكريم! أم لعله كان يقصد من إلقاء أسورة الذهب تتويجه بالملك ، إذ كانت هذه عادتهم ، فيكون الرسول ذا ملك وذا سلطان؟

(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) ..

وهو اعتراض آخر له بريق خادع كذلك من جانب آخر ، تؤخذ به الجماهير ، وترى أنه اعتراض وجيه! وهو اعتراض مكرور ، ووجه به أكثر من رسول!

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ..

واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه ؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة ، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ، ولا يعودوا يبحثون عنها ؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ، ويلين قيادهم ، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!

ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق ، ولا يمسكون بحبل الله ، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول :

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ..

ثم انتهت مرحلة الابتلاء والإنذار والتبصير ؛ وعلم الله أن القوم لا يؤمنون ؛ وعمت الفتنة فأطاعت الجماهير فرعون الطاغية المتباهي في خيلاء ، وعشت عن الآيات البينات والنور ؛ فحقت كلمة الله وتحقق النذير :

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ..

يتحدث الله سبحانه عن نفسه في مقام الانتقام والتدمير ؛ إظهارا لغضبه ولجبروته في هذا المقام. فيقول : (فَلَمَّا آسَفُونا) .. أي أغضبونا أشد الغضب .. (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) .. يعني فرعون وملأه وجنده. وهم الذين غرقوا على إثر موسى وقومه وجعلهم الله سلفا يتبعه كل خلف ظالم ؛ (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) الذين يجيئون بعدهم ، ويعرفون قصتهم ، فيعتبرون.

* * *

وهكذا تلتقي هذه الحلقة من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ بالحلقة المشابهة لها من قصة العرب في مواجهة رسولهم الكريم. فتثبت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين معه ؛ وتحذر المشركين المعترضين ، وتنذرهم مصيرا كمصير الأولين ..

وتلتقي الحقيقة في عرض القصة ، بالتناسق بين الحلقة المعروضة والحال القائمة والغاية من إيرادها في هذه الحال القائمة. وتصبح القصة بهذا أداة للتربية في المنهج الإلهي الحكيم.

* * *

ثم ينتقل السياق من هذه الحلقة في قصة موسى ، إلى حلقة من قصة عيسى ، بمناسبة جدل القوم حول عبادتهم للملائكة وعبادة بعض أهل الكتاب للمسيح .. وذلك في الدرس الأخير.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ

إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩)

في هذا الدرس الأخير من السورة يستطرد السياق إلى حكاية أساطيرهم حول عبادة الملائكة ؛ ويحكي حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه ، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية ، لا بقصد الوصول إلى الحق ، ولكن مراء ومحالا!

فلما قيل لهم : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ثم عبدوها بذاتها. وقيل لهم : إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار. لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم ـ وقد عبده المنحرفون من قومه ـ أهو في النار؟ وكان هذا مجرد جدل ومجرد مراء. ثم قالوا : إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر فنحن أهدى إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله! وكان هذا باطلا يقوم على باطل.

وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفا من قصة عيسى ابن مريم ، يكشف عن حقيقته وحقيقة دعوته ، واختلاف قومه من قبله ومن بعده ..

ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة. وهنا يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة ، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين ، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين.

وينفي أساطيرهم عن الملائكة ، وينزه الله ـ سبحانه ـ عما يصفون ، ويعرفه لعباده ببعض صفاته ؛ وملكيته المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة وإليه يرجعون.

ويختم السورة بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصفح عنهم والإعراض ويدعهم ليعلموا ما سيعلمون! وهو تهديد ملفوف يليق بالمجادلين المرائين بعد هذا الإيضاح والتبيين.

* * *

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ..

ذكر ابن إسحاق في السيرة قال : جلس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى أفحمه. ثم تلا عليه وعليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) .. الآيات .. ثم قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأقبل عبد الله بن الزبعري التميمي حتى جلس. فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد! وقد زعم محمد أنا وا نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته. سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده. فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) .. أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عزوجل ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسّلام ، وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) .. أي يصدون عن أمرك بذلك ..

وذكر صاحب الكشاف في تفسيره : «لما قرأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على قريش : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا. فقال عبد الله بن الزبعري : يا محمد. أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه‌السلام : «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال : خصمتك ورب الكعبة! ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي ، وتثني عليه خيرا وعلى أمه؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما؟ وعزير يعبد؟ والملائكة يعبدون؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم! ففرحوا وضحكوا. وسكت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ونزلت هذه الآية. والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا ، وجادل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعبادة النصارى إياه (إِذا قَوْمُكَ) ـ قريش ـ من هذا المثل (يَصِدُّونَ) ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحا وجذلا وضحكا بما سمعوا من إسكات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعبوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأما من قرأ (يَصِدُّونَ) بالضم فمن الصدود. أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل : من الصديد وهو الجبة. وأنهما لغتان نحو يعكف ويعكف ونظائر لهما. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ؛ وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا!».

ولم يذكر صاحب الكشاف من أين استقى روايته هذه. وهي تتفق في عمومها مع رواية ابن إسحاق.

ومن كليهما يتضح الالتواء في الجدل ، والمراء في المناقشة. ويتضح ما يقرره القرآن عن طبيعة القوم وهو يقول : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .. ذوو لدد في الخصومة ومهارة. فهم يدركون من أول الأمر ما يقصد إليه القرآن الكريم وما يقصد إليه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيلوونه عن استقامته ، ويتلمسون شبهة في عموم اللفظ فيدخلون منها بهذه المماحكات الجدلية ، التي يغرم بمثلها كل من عدم الإخلاص ، وفقد الاستقامة ؛

يكابر في الحق ، ويعمد إلى شبهة في لفظ أو عبارة أو منفذ خلفي للحقيقة! ومن ثم كان نهي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتشديده عن المراء ، الذي لا يقصد به وجه الحق ، إنما يراد به الغلبة من أي طريق.

قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، عن عبادة بن عبادة ، عن جعفر ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال : إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن. فغضب غضبا شديدا ، حتى كأنما صب على وجهه الخل. ثم قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل». ثم تلا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ..

وهناك احتمال في تفسير قوله تعالى : (وَقالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) يرشح له سياق الآيات في صدد أسطورتهم عن الملائكة. وهو أنهم عنوا أن عبادتهم للملائكة خير من عبادة النصارى لعيسى ابن مريم. بما أن الملائكة أقرب في طبيعتهم وأقرب نسبا ـ حسب اسطورتهم ـ من الله سبحانه وتعالى عما يصفون. ويكون التعقيب بقوله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .. يعني الرد على ابن الزبعري كما سبق. كما يعني أن ضربهم المثل بعبادة النصارى للمسيح باطل. فعمل النصارى ليس حجة لأنه انحراف عن التوحيد. كانحرافهم هم. فلا مجال للمفاضلة بين انحراف وانحراف. فكله ضلال. وقد أشار إلى هذا الوجه بعض المفسرين أيضا. وهو قريب.

ومن ثم جاء التعقيب بعد هذا :

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ..

فليس إلها يعبد كما انحرف فريق من النصارى فعبدوه. إنما هو عبد أنعم الله عليه. ولا جريرة له في عبادتهم إياه. فإنما أنعم الله عليه ليكون مثلا لبني إسرائيل ينظرون إليه ويتأسون به. فنسوا المثل ، وضلوا السبيل!

واستطرد إلى أسطورتهم حول الملائكة ، يبين لهم أن الملائكة خلق من خلق الله مثلهم. ولو شاء الله لجعل الملائكة يخلفونهم في هذه الأرض ، أو لحول بعض الناس إلى ملائكة يخلفونهم في الأرض :

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) ..

فمرد الأمر إلى مشيئة الله في الخلق. وما يشاؤه من الخلق يكون. وليس أحد من خلقه يمت إليه بنسب ، ولا يتصل به ـ سبحانه ـ إلا صلة المخلوق بالخالق ، والعبد بالرب ، والعابد بالمعبود.

ثم يعود إلى تقرير شيء عن عيسى عليه‌السلام. يذكرهم بأمر الساعة التي يكذبون بها أو يشكون فيها :

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها. وَاتَّبِعُونِ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..

وقد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلى الأرض قبيل الساعة وهو ما تشير إليه الآية : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها ، والقراءة الثانية (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) بمعنى أمارة وعلامة. وكلاهما قريب من قريب.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» (١).

__________________

(١) أخرجه مالك والشيخان وأبو داود

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى ابن مريم ، فيقول أميرهم : تعال : صل لنا. فيقول : لا. إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة» (١).

وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم ، ولا قول فيه لبشر إلا ما جاء من هذين المصدرين الثابتين إلى يوم الدين.

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها. وَاتَّبِعُونِ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ..

وكانوا يشكون في الساعة ، فالقرآن يدعوهم إلى اليقين. وكانوا يشردون عن الهدى ، والقرآن يدعوهم على لسان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى اتباعه فإنه يسير بهم في الطريق المستقيم ، القاصد الواصل الذي لا يضل سالكوه.

ويبين لهم أن انحرافهم وشرودهم أثر من اتباع الشيطان. والرسول أولى أن يتبعوه :

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..

والقرآن لا يفتأ يذكر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم ، ومنذ المعركة الأولى في الجنة. وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدوا يقف له بالمرصاد ، عن عمد وقصد ، وسابق إنذار وإصرار ؛ ثم لا يأخذ حذره ؛ ثم يزيد فيصبح تابعا لهذا العدو الصريح!

وقد أقام الإسلام الإنسان في هذه المعركة الدائمة بينه وبين الشيطان طوال حياته على هذه الأرض ؛ ورصد له من الغنيمة إذا هو انتصر ما لا يخطر على قلب بشر ، ورصد له من الخسران إذا هو اندحر ما لا يخطر كذلك على قلب بشر. وبذلك حول طاقة القتال فيه إلى هذه المعركة الدائبة ؛ التي تجعل من الإنسان إنسانا ، وتجعل له طابعه الخاص بين أنواع الخلائق المتنوعة الطبائع والطباع! والتي تجعل أكبر هدف للإنسان على الأرض أن ينتصر على عدوه الشيطان ؛ فينتصر على الشر والخبث والرجس ؛ ويثبت في الأرض قوائم الخير والنصح والطهر.

وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى ـ عليه‌السلام ـ وحقيقة ما جاء به ؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده :

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ..

فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه ، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم. وقال لقومه : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ). ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير ؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور. وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه. وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ وانقسموا فرقا وشيعا. ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله. وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) .. ولم يقل : إنه إله ، ولم يقل : إنه ابن الله. ولم يشر من قريب أو بعيد

__________________

(١) أخرجه مسلم.

إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه والربوبية من جانب الله رب الجميع. وقال لهم : إن هذا صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج ، ولا زلل فيه ولا ضلال. ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزابا كما كان الذين من قبله مختلفين أحزابا. اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) .. لقد كانت رسالة عيسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل ؛ وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان ؛ وقد طال انتظارهم له ، فلما جاءهم نكروه وشاقوه ، وهموا أن يصلبوه!

ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعا ونحلا كثيرة ، أهمها أربع فرق أو طوائف.

طائفة الصدوقيين نسبة إلى «صدوق» وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان. وحسب الشريعة لا بد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى. فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل. وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها ، ينكرون «البدع» في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذ الحياة ؛ ولا يعترفون بأن هناك قيامة!

وطائفة الفريسيين ، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين. ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات ، وجحدهم للبعث والحساب. والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة. وكان المسيح ـ عليه‌السلام ـ ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان!

وطائفة السامريين ، وكانوا خليطا من اليهود والأشوريين ، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية ، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة ، مما يعتقد غيرهم بقداسته.

وطائفة الآسين أو الأسينيين. وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية ، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود ، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف ، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم.

وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية ، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل ، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين ، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع.

فلما أن جاء المسيح ـ عليه‌السلام ـ بالتوحيد الذي أعلنه : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ). وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس ، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس.

ومما يؤثر عنه ـ عليه‌السلام ـ في هذا قوله عن هؤلاء : «إنهم يحزمون الأوقار ، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم ، ولا يمدون إليها إصبعا يزحزحونها ، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم! يعرضون عصائبهم ، ويطيلون أهداب ثيابهم ، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم ، والمجالس الأولى في المجامع ، ويبتغون التحيات في الأسواق. وأن يقال لهم : سيدي. سيدي. حيث يذهبون!» ..

أو يخاطب هؤلاء فيقول : «أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل .. إنكم تنقون ظاهر الكأس والصحفة ، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة .. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. إنكم كالقبور المبيضة. خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة» (١) ..

وإن الإنسان ـ وهو يقرأ هذه الكلمات المأثورة عن المسيح ـ عليه‌السلام ـ وغيرها في بابها ـ ليكاد يتصور

__________________

(١) النصوص منقولة عن كتاب : عبقرية المسيح للأستاذ العقاد. والكلام عن طوائف اليهود مستعان به فيه.

رجال الدين المحترفين في زماننا هذا. فهو طابع واحد مكرر. لهؤلاء الرسميين المحترفين من رجال الدين ، الذين يراهم الناس في كل حين!

ثم ذهب المسيح عليه‌السلام إلى ربه ، فاختلف أتباعه من بعده. اختلفوا شيعا وأحزابا. بعضها يؤلهه. وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته. وبعضها يجعل الله ثالث ثلاثة أحدها المسيح ابن مريم. وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه‌السلام. وضاعت دعوته الناس ليلجأوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين (١).

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ..

ثم جاء مشركو العرب يحاجون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في عيسى ـ عليه‌السلام ـ بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده ، وما أحدثته حوله من أساطير!

* * *

وحين يصل السياق إلى الحديث عن الظالمين ـ يدمج المختلفين من الأحزاب بعد عيسى ـ عليه‌السلام ـ مع المحاجين لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بفعل هذه الأحزاب ؛ ويصور حالهم يوم القيامة في مشهد رائع طويل ، يحتوي كذلك صفحة المتقين المكرمين في جنات النعيم :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ، وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنادَوْا : يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ. قالَ : إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ..

يبدأ المشهد بوقوع الساعة فجأة وهم غافلون عنها ، لا يشعرون بمقدمها :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)!

هذه المفاجأة تحدث حدثا غريبا ، يقلب كل ما كانوا يألفونه في الحياة الدنيا :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ..

وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم .. لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر ، ويملي بعضهم لبعض في الضلال. فاليوم يتلاومون. واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر. واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون ، من حيث كانوا أخلاء يتناجون! (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) .. فهؤلاء مودتهم باقية فقد كان اجتماعهم على الهدى ، وتناصحهم على الخير ، وعاقبتهم إلى النجاة ..

وبينما الأخلاء يتلاحون ويختصمون ، يتجاوب الوجود كله بالنداء العلوي الكريم للمتقين :

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) ..

__________________

(١) يراجع هذا الخلاف بشيء من التفصيل في ص ٢٦٦٤ من الجزء العشرين من هذه الظلال في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..

أي تسرون سرورا يشيع في أعطافكم وقسماتكم فيبدو عليكم الحبور.

ثم نشهد ـ بعين الخيال ـ فإذا صحاف من ذهب وأكواب يطاف بها عليهم. وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس. وفوق شهوة النفوس التذاذ العيون ، كمالا وجمالا في التكريم :

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ. وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ..

ومع هذا النعيم. ما هو أكبر منه وأفضل. التكريم بالخطاب من العلي الكريم :

(وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) ..

فما بال المجرمين الذين تركناهم منذ هنيهة يتلاحون ويختصمون؟

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) ..

وهو عذاب دائم ، وفي درجة شديدة عصيبة. لا يفتر لحظة ، ولا يبرد هنيهة. ولا تلوح لهم فيه بارقة من أمل في الخلاص ، ولا كوة من رجاء بعيد. فهم فيه يائسون قانطون :

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) ..

كذلك فعلوا بأنفسهم ، وأوردوها هذا المورد الموبق ، ظالمين غير مظلومين :

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ..

ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد. صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق :

(وَنادَوْا : يا مالِكُ. لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ..

إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق. من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم. إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين. إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث. فهم مبلسون يائسون. إنما يصيحون في طلب الهلاك. الهلاك السريع الذي يريح .. وحسب المنايا أن يكن أمانيا! .. وإن هذا النداء ليلقي ظلا كثيفا للكرب والضيق. وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوسا أطار صوابها العذاب ، وأجساما تجاوز الألم بها حد الطاقة ، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة : (يا مالِكُ. لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)!

ولكن الجواب يجيء في تيئيس وتخذيل ، وبلا رعاية ولا اهتمام :

(قالَ : إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)!

فلا خلاص ولا رجاء ولا موت ولا قضاء .. إنكم ماكثون!

* * *

وفي ظل هذا المشهد الكامد المكروب يخاطب هؤلاء الكارهين للحق ، المعرضين عن الهدى ، الصائرين إلى هذا المصير ؛ ويعجب من أمرهم على رؤوس الأشهاد ، في أنسب جو للتحذير والتعجيب.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ. أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً؟ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ..

وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه ، لا عدم إدراك أنه الحق ، ولا الشك في صدق الرسول الكريم ؛ فما عهدوا عليه كذبا قط على الناس ، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟

والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق ، ولكنهم يكرهونه ، لأنه يصادم أهواءهم ، ويقف

في طريق شهواتهم ، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم ؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته! فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة!

لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت. العليم بما يسرون وما يمكرون :

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً؟ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ..

فإصرارهم على الباطل في وجه الحق يقابله أمر الله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته. وتدبيرهم ومكرهم في الظلام يقابله علم الله بالسر والنجوى. والعاقبة معروفة حين يقف الخلق الضعاف القاصرون ، أمام الخالق العزيز العليم.

* * *

ويتركهم بعد هذا التهديد المرهوب ، ويوجه رسوله الكريم ، إلى قول يقوله لهم. ثم يدعهم من بعده لمصيرهم الذي شهدوا صورته منذ قليل :

(قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ..

لقد كانوا يعبدون الملائكة بزعم أنهم بنات الله. ولو كان لله ولد لكان أحق أحد بعبادته ، وبمعرفة ذلك ، نبي الله ورسوله ، فهو منه قريب ، وهو أسرع إلى طاعة الله وعبادته ، وتوقير ولده إن كان له ولد كما يزعمون! ولكنه لا يعبد إلا الله. فهذا في ذاته دليل على أن ما يزعمونه من بنوة أحد لله لا أصل له ، ولا سند ولا دليل! تنزه الله وتعالى عن ذلك الزعم الغريب!

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبِّ الْعَرْشِ. عَمَّا يَصِفُونَ) ..

وحين يتأمل الإنسان هذه السماوات والأرض ، ونظامها ، وتناسقها ، ومدى ما يكمن وراء هذا النظام من عظمة وعلو. ومن سيطرة واستعلاء. يشير إلى هذا كله قوله : (رَبِّ الْعَرْشِ) .. يصغر في نفسه كل وهم وكل زعم من ذلك القبيل. ويدرك بفطرته أن صانع هذا كله لا يستقيم في الفطرة أن يكون له شبه ـ أي شبه ـ بالخلق. الذين يلدون وينسلون! ومن ثم يبدو مثل ذلك القول لهوا ولعبا ؛ وخوضا وتقحما ؛ لا يستحق شيء منه المناقشة والجدل ؛ إنما يستحق الإهمال أو التحذير :

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ..

والذي شهدوا صورة منه يوم يكون!

* * *

ثم يمضي ـ بعد الإعراض عنهم وإهمالهم ـ في تمجيد الخالق وتوحيده بما يليق بربوبيته للسماوات والأرض والعرش العظيم :

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ..

وهو تقرير الألوهية الواحدة في السماء وفي الأرض ، والتفرد بهذه الصفة لا يشاركه فيها مشارك. مع الحكمة فيما يفعل. والعلم المطلق بهذا الملك العريض.

ثم تمجيد لله وتعظيم في لفظ (تَبارَكَ) أي تعاظم الله وتسامى عما يزعمون ويتصورون. وهو (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما). وهو الذي يعلم وحده علم الساعة وإليه المرجع والمآب.

ويومذاك لا أحد ممن يدعونهم أولادا أو شركاء يملك أن يشفع لأحد منهم ـ كما كانوا يزعمون أنهم يتخذونهم شفعاء عند الله. فإنه لا شفاعة إلا لمن شهد بالحق ، وآمن به. ومن يشهد بالحق لا يشفع في من جحده وعاداه!

* * *

ثم يواجههم بمنطق فطرتهم ، وبما لا يجادلون فيه ولا يشكون ، وهو أن الله خالقهم. فكيف حينئذ يشركون معه أحدا في عبادته ، أو يتوقعون من أحد شفاعة عنده لمن أشرك به :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللهُ. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟

وكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم ويحيدون عن مقتضاه المنطقي المحتوم؟

* * *

وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لربه ، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم. فيبرزه ويقسم به :

(وَقِيلِهِ. يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ..

وهو تعبير خاص ذو دلالة وإيحاء بمدى عمق هذا القول ، ومدى الاستماع له ، والعناية به ، والرعاية من الله سبحانه والاحتفال.

ويجيب عليه ـ في رعاية ـ بتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصفح والإعراض ، وعدم الاحتفال والمبالاة. والشعور بالطمأنينة. ومواجهة الأمر بالسلام في القلب والسماحة والرضاء. وذلك مع التحذير الملفوف للمعرضين المعاندين ، مما ينتظرهم يوم ينكشف المستور :

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ، وَقُلْ سَلامٌ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..

* * *

(٤٤) سورة الدّخان مكيّة

وآياتها تسع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)

وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩)

يشبه إيقاع هذه السورة المكية ، بفواصلها القصيرة ، وقافيتها المتقاربة ، وصورها العنيفة ، وظلالها الموحية .. يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة.

ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة ، ذات محور واحد ، تشد إليه خيوطها جميعا. سواء في ذلك القصة ، ومشهد القيامة ، ومصارع الغابرين ، والمشهد الكوني ، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة. فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة ، كما يبثها هذا القرآن في القلوب.

وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم ، رحمة من الله بالعباد وإنذارا لهم وتحذيرا. ثم تعريف للناس بربهم : رب السماوات والأرض وما بينهما ، وإثبات لوحدانيته وهو المحيي المميت رب الأولين والآخرين.

ثم يضرب عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)! ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) .. ودعاءهم بكشف العذاب عنهم وهو يوم يأتي لا يكشف. وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد ، وهو الآن عنهم مكشوف ، فلينتهزوا الفرصة ، قبل أن يعودوا إلى ربهم ، فيكون ذلك العذاب المخوف : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ..

ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام ؛ ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم ، وناداهم : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) .. فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول. ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ..

وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة ، وقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ، فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ليذكرهم بمصرع قوم تبع ، وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم.

ويربط بين البعث ، وحكمة الله في خلق السماوات والأرض ، (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

ثم يحدثهم عن يوم الفصل : (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ). وهنا يعرض مشهدا عنيفا للعذاب بشجرة الزقوم ، وعتل الأثيم ، وأخذه إلى سواء الجحيم ، يصب من فوق رأسه الحميم. مع التبكيت والترذيل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) ..

وإلى جواره مشهد النعيم عميقا في المتعة عمق مشهد العذاب في الشدة. تمشيا مع ظلال السورة العميقة وإيقاعها الشديد ..

وتختم السورة بالإشارة إلى القرآن كما بدأت : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .. وبالتهديد الملفوف العنيف : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ).

* * *

إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها ، في إيقاع سريع متواصل. تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع. وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض ، والدنيا والآخرة ، والجحيم والجنة ، والماضي والحاضر ، والغيب والشهادة ، والموت والحياة ، وسنن الخلق ونواميس الوجود .. فهي ـ على قصرها نسيبا ـ رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود ..

* * *

(حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ..

تبدأ السورة بالحرفين حا. ميم. على سبيل القسم بهما وبالكتاب المبين المؤلف من جنسهما. وقد تكرر الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور ، فأما عن القسم بهذه الأحرف كالقسم بالكتاب ، فإن كل حرف معجزة

حقيقية أو آية من آيات الله في تركيب الإنسان ، وإقداره على النطق ، وترتيب مخارج حروفه ، والرمز بين اسم الحرف وصوته ، ومقدرة الإنسان على تحصيل المعرفة من ورائه .. وكلها حقائق عظيمة تكبر في القلب كلما تدبرها مجردا من وقع الألفة والعادة الذي يذهب بكل جديد!

فأما المقسم عليه فهو تنزيل هذا الكتاب في ليلة مباركة :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي ـ والله أعلم ـ الليلة التي بدأ فيها نزوله ؛ وهي إحدى ليالي رمضان ، الذي قيل فيه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) .. والقرآن لم ينزل كله في تلك الليلة ؛ كما أنه لم ينزل كله في رمضان ؛ ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض ؛ وكانت هذه الليلة موعد هذا الاتصال المبارك. وهذا يكفي في تفسير إنزاله في الليلة المباركة.

وإنها لمباركة حقا تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية ، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر ؛ والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة ، تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة ؛ وتقيم على أساسها عالما إنسانيا مستقرا على قواعد الفطرة واستجاباتها ، متناسقا مع الكون الذي يعيش فيه ، طاهرا نظيفا كريما بلا تعمل ولا تكلف ؛ يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولا بالسماء في كل حين.

ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء ، موصولين مباشرة بالله ؛ يطلعهم أولا بأول على ما في نفوسهم ؛ ويشعرهم أولا بأول بأن عينه عليهم ، ويحسبون هم حساب هذه الرقابة ، وحساب هذه الرعاية ، في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم ؛ ويلجأون إليه أول ما يلجأون ، واثقين أنه قريب مجيب.

ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتابا مفتوحا موصولا بالقلب البشري ، يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر ؛ ويحول مشاعره بصورة تحسب أحيانا في الأساطير!

وبقي هذا القرآن منهجا واضحا كاملا صالحا لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان. حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع ، بكل خصائصه دون تحريف. وهذه سمة المنهج الإلهي وحده. وهي سمة كل ما يخرج من يد القدرة الإلهية.

إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم ، وما يصلح لفترة من الزمان ، ولظرف خاص من الحياة. فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال ، والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين ؛ جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب.

أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة .. أولا للإنذار والتحذير : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه.

وهذه الليلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلا وفارقا بهذا التنزيل :

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ..

وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر ، وفصل فيها كل شأن ، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق ، ووضعت

الحدود ، وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين ؛ فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح ولا مرسوم في دنيا الناس ، كما هو واضح ومرسوم في الناموس الكلي القديم.

وكان ذلك كله بإرادة الله وأمره ، ومشيئته في إرسال الرسل للفصل والتبيين :

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

وكان ذلك كله رحمة من الله بالبشر إلى يوم الدين :

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن ، بهذا اليسر ، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب ، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق. وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم ، والمجتمع البشري إلى حلم جميل ، لولا أنه واقع تراه العيون!

إن هذه العقيدة ـ التي جاء بها القرآن ـ في تكاملها وتناسقها ـ جميلة في ذاتها جمالا يحبّ ويعشق ؛ وتتعلق به القلوب! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح. فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق. الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها ، ثم يجمعها ، وينسقها ، ويربطها كلها بالأصل الكبير.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة .. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). يسمع ويعلم ، وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون وما يعملون ، وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم.

وهو المشرف على هذا الكون الحافظ لمن فيه وما فيه :

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ..

فما ينزله للناس يربيهم به ، هو طرف من ربوبيته للكون كله ، وطرف من نواميسه التي تصرف الكون .. والتلويح لهم باليقين في هذا إشارة إلى عقيدتهم المضطربة المزعزعة المهوشة ، إذ كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض ، ثم يتخذون من دونه أربابا ، مما يشي بغموض هذه الحقيقة في نفوسهم وسطحيتها وبعدها عن الثبات واليقين.

وهو الإله الواحد الذي يملك الموت والحياة ؛ وهو رب الأولين والآخرين :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ..

والإحياء والإماتة أمران مشهودان للجميع ، وأمرهما خارج عن طاقة كل مخلوق. يبدو هذا بأيسر نظر وأقرب تأمل. ومشهد الموت كمشهد الحياة في كل صورة وفي كل شكل يلمس القلب البشري ويهزه ؛ ويستجيشه ويعده للتأثر والانفعال ويهيئه للتقبل والاستجابة. ومن ثم يكثر ذكره في القرآن وتوجيه المشاعر إليه ولمس القلوب به بين الحين والحين.

* * *

وعند ما يبلغ الموقف هذا الحد من الاستتارة والاستجاشة يضرب السياق عنه ، ويلتفت بالحديث إلى حكاية حالهم تجاهه ؛ وهو حال مناقض لما ينبغي أن يكونوا عليه تجاه حقيقة الموقف الجاد الذي لا مجال للعب فيه : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ ، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا

اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ..

يقول : إنهم يلعبون إزاء ذلك الجد ، ويشكون في تلك الآيات الثابتة. فدعهم إلى يوم هائل عصيب :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

وقد اختلف السلف في تفسير آية الدخان. فقال بعضهم. إنه دخان يوم القيامة ، وإن التهديد بارتقابه كالتهديد المتكرر في القرآن. وإنه آت يترقبونه ويترقبه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال بعضهم : بل هو قد وقع فعلا ، كما توعدهم به. ثم كشف عن المشركين بدعاء الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنذكر هنا ملخص القولين وأسانيدهما. ثم نعقب بما فتح الله به ، ونحسبه صوابا إن شاء الله.

قال سليمان بن مهران الأعمش ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق. قال : دخلنا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ عند أبواب كندة. فإذا رجل يقص على أصحابه : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) .. تدرون ماذا الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام. قال : فأتينا ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعا ففزع فقعد ، وقال : إن الله عزوجل قال لنبيكم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم. أحدثكم عن ذلك. إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دعا عليهم بسنين كسني يوسف. فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ؛ وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ـ وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ـ قال الله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) .. فأتي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقيل له : يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. فاستسقى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم فسقوا. فنزلت. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) .. قال ابن مسعود رضي الله عنه : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ .. فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) .. قال : يعني يوم بدر. قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فقد مضى خمسة : الدخان ، والروم ، والقمر ، والبطشة ، واللزام» .. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. ورواه الإمام أحمد في مسنده. وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما. وعند ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به. وقد وافق ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي. وهو اختيار ابن جرير.

وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما ورد في حديث أبي سريحة حذيفة ابن أسيد الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال : أشرف علينا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من عرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر ـ الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا» .. تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه.

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي ، حدثني

ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال. ورواه الطبراني عن هاشم بن زيد ، عن محمد بن إسماعيل بن عياش بهذا النص (وقال ابن كثير في التفسير : وهذا إسناد جيد).

وقال ابن جرير كذلك : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة. قال : غدوت على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت : لم؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت .. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما فذكره.

قال ابن كثير في التفسير : (وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حبر الأمة وترجمان القرآن. وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها ، مما فيه مقتنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن. قال الله تبارك وتعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) .. أي بيّن واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى : (يَغْشَى النَّاسَ) .. أي يتغشاهم ويعميهم. ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه : (يَغْشَى النَّاسَ) .. وقوله تعالى : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) .. أي يقال لهم ذلك ، تقريعا وتوبيخا. كقوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ). أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) .. أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم ، كقوله جلت عظمته : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .. وكذا قوله جل وعلا : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا : رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟) .. وهكذا قال جل وعلاها هنا : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) .. يقول : كيف لهم التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولوا عنه ، وما وافقوه بل كذبوه ، وقالوا : معلم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) .. الآية. وقوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا ، فَلا فَوْتَ ، وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ. وَقالُوا : آمَنَّا بِهِ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟) إلى آخر السورة .. وقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) .. يحتمل معنيين : أحدهما : أنه يقول تعالى : ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) .. وكقوله جلت عظمته : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) .. والثاني : أن يكون المراد : إنا مؤخر والعذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ، ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال. ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) .. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم ، بل كان قد انعقد سببه عليهم .. وقال قتادة : إنكم عائدون إلى عذاب الله .. وقوله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) .. فسر ذلك ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن

وافق ابن مسعود. رضي الله عنه ، وجماعة عنه على تفسير الدخان بما تقدم وروي أيضا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من رواية العوفي عنه وأبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ وهو محتمل : والظاهر أن ذلك يوم القيامة. وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا. قال ابن جرير : حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية. حدثنا خالد الحذاء. عن عكرمة قال : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول : هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه ، والله أعلم) .. انتهى كلام ابن كثير ..

ونحن نختار قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة ، وقول ابن كثير في تفسيره. فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم ، في مثل هذه المناسبة. ومعناه : إنهم يشكون ويلعبون. فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب. يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس. ووصف هذا بأنه عذاب أليم. وصور استغاثتهم : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) .. ورده عليهم باستحالة الاستجابة ، فقد مضى وقتها : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) .. يعلمه ذلك الغلام الأعجمي! وهو ـ كما زعموا ـ مجنون ..

وفي ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم : إن أمامكم فرصة بعد لم تضع ، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلا وأنتم الآن في الدنيا. وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون. وأنتم الآن في عافية لن تدوم. فإنكم عائدون إلينا (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) .. يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له. (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) من هذا اللعب الذي تلعبون ، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ تقولون عنه : (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) .. وهو الصادق الأمين ..

بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات ، كما يبدو لنا ، والله أعلم بما يريد.

* * *

بعد ذلك يأخذ بهم في جولة أخرى مع قصة موسى عليه‌السلام. فيعرضها في اختصار ينتهي ببطشة كبرى في هذه الأرض. بعد إذ أراهم بطشته الكبرى يوم تأتي السماء بدخان مبين :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ، وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ : أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ. فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ .. فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ. كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ..

هذه الجولة تبدأ بلمسة قوية لإيقاظ قلوبهم إلى أن إرسال الرسول لقومه قد يكون فتنة وابتلاء. والإملاء للمكذبين فترة من الزمان ، وهم يستكبرون على الله ، ويؤذون رسول الله والمؤمنين معه قد يكون كذلك فتنة وابتلاء. وأن إغضاب الرسول واستنفاد حلمه على أذاهم ورجائه في هدايتهم قد يكون وراءه الأخذ الأليم والبطش الشديد :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ..

وابتليناهم بالنعمة والسلطان ، والتمكين في الأرض ، والإملاء في الرخاء ، وأسباب الثراء والاستعلاء.

(وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) ..

وكان هذا طرفا من الابتلاء ، ينكشف به نوع استجابتهم للرسول الكريم ، الذي لا يطلب منهم شيئا لنفسه ؛ إنما يدعوهم إلى الله ، ويطلب إليهم أن يؤدوا كل شيء لله ، وألا يستبقوا شيئا لا يؤدونه من ذوات أنفسهم يضنون به على الله :

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) ..

إنها كلمات قصيرة تلك التي جاءهم بها رسولهم الكريم ـ موسى عليه‌السلام :

إنه يطلب إليهم الاستجابة الكلية. والأداء الكامل. والاستسلام المطلق (١). الاستسلام المطلق لله. الذي هم عباده. وما ينبغي للعباد أن يعلوا على الله. فهي دعوة الله يحملها إليهم الرسول ، ومعه البرهان على أنه رسول الله إليهم. البرهان القوي والسلطان المبين ، الذي تذعن له القلوب وهو يتحصن بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه وأن يرجموه. فإن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه. وذلك منتهى النصفة والعدل والمسالمة.

ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة ، فهو يخشى الحق أن يظل طليقا ، يحاول أن يصل إلى الناس في سلام وهدوء. ومن ثم يحارب الحق بالبطش. ولا يسالمه أبدا. فمعنى المسالمة أن يزحف الحق ويستولي في كل يوم على النفوس والقلوب. ومن ثم يبطش الباطل ويرجم ولا يعتزل الحق ولا يدعه يسلم أو يستريح!

ويختصر السياق هنا حلقات كثيرة من القصة ، ليصل إلى قرب النهاية. حين وصلت التجربة إلى نهايتها ؛ وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته ؛ ولن يسالموه أو يعتزلوه. وبدا له إجرامهم أصيلا عميقا لا أمل في تخليهم عنه. عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) ..

وماذا يملك الرسول إلا أن يعود إلى ربه بالحصيلة التي جنتها يداه؟ وإلا أن ينفض أمره بين يديه ، ويدع له التصرف بما يريد؟

وتلقى موسى الإجابة إقرارا من ربه لما دمغ به القوم .. حقا إنهم مجرمون ..

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) ..

والسرى لا يكون إلا ليلا ، فالنص عليه يعيد تصوير المشهد ، مشهد السرى بعباد الله ـ وهم بنو إسرائيل. ثم للإيحاء بجو الخفية ، لأن سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء علمه. والرهو : الساكن. وقد أمر الله موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يمر هو وقومه وأن يدع البحر وراءه ساكنا على هيئته التي مر هو وقومه فيها ، لإغراء فرعون وجنده باتباعهم ، ليتم قدر الله بهم كما أراده : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) .. فهكذا ينفذ قدر الله من خلال الأسباب الظاهرة. والأسباب ذاتها طرف من هذا القدر المحتوم.

__________________

(١) هناك تفسير آخر لقوله تعالى : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ). أي أعطوني بني إسرائيل عباد الله. وأدوهم إلي ولا تحجز وهم للسخرة والعذاب. وذلك كقوله : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولا تعذبهم».

ويختصر السياق حكاية مشهد الغرق أو عرضه ، اكتفاء بالكلمة النافذة التي لا بد أن تكون : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) .. ويمضي من هذا المشهد المضمر إلى التعقيب عليه ؛ تعقيبا يشي بهوان فرعون الطاغية المتعالي وملئه الممالئ له على الظلم والطغيان. هوانه وهوانهم على الله ، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه ، فيطأطئ له الملأ المفتونون به ؛ وهو أضأل وأزهد من أن يحس به الوجود ، وهو يسلب النعمة فلا يمنعها من الزوال ، ولا يرثي له أحد على سوء المآل :

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ..

ويبدأ المشهد بصور النعيم الذي كانوا فيه يرفلون .. جنات. وعيون. وزروع. ومكان مرموق ، ينالون فيه الاحترام والتكريم. ونعمة يلتذونها ويطعمونها ويعيشون فيها مسرورين محبورين.

ثم ينزع هذا كله منهم أو ينزعون منه. ويرثه قوم آخرون ـ وفي موضع آخر قال : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ـ وبنو إسرائيل لم يرثوا ملك فرعون بالذات. ولكنهم ورثوا ملكا مثله في الأرض الأخرى. فالمقصود إذن هو نوع الملك والنعمة. الذي زال عن فرعون وملئه ، وورثه بنو إسرائيل!

ثم ماذا؟ ثم ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض : ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد ، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض ؛ ولم ينظروا أو يؤجلوا عند ما حل الميعاد :

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ..

وهو تعبير يلقي ظلال الهوان ، كما يلقي ظلال الجفاء .. فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء. ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء. وذهبوا ذهاب النمال ، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه ، وهو مؤمن بربه ، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه!

ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله. ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه ، مقطوعين عنه ، لا تربطهم به آصرة ، وقد قطعت آصرة الإيمان.

وفي الصفحة المقابلة مشهد النجاة والتكريم والاختيار :

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ..

ويذكر هنا نجاة بني إسرائيل من العذاب (الْمُهِينِ) في مقابل الهوان الذي انتهى إليه المتجبرون المتعالون المسرفون في التجبر والتعالي : (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) ..

ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل ـ على علم ـ بحقيقتهم كلها ، خيرها وشرها. اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال ، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف ؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء. مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم ؛ ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي ؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ..

فتعرضوا للاختبار بهذه الآيات ، التي آتاهم الله إياها للابتلاء. حتى إذا تم امتحانهم ، وانقضت فترة استخلافهم ، أخذهم الله بانحرافهم والتوائهم ، وبنتيجة اختبارهم وابتلائهم ، فضربهم بمن يشردهم في الأرض ، وكتب عليهم الذلة والمسكنة ، وتوعدهم أن يعودوا إلى النكال والتشريد كلما بغوا في الأرض إلى يوم الدين ..

* * *

وبعد هذه الجولة في مصرع فرعون وملئه ، ونجاة موسى وقومه ، وابتلائهم بالآيات بعد فتنة فرعون وأخذه .. بعد هذه الجولة يعود إلى موقف المشركين من قضية البعث والنشور ، وشكهم فيها ، وإنكارهم لها. يعود ليربط بين قضية البعث وتصميم الوجود كله وبنائه على الحق والجد ، الذي يقتضي هذا البعث والنشور :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ : إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ. فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

إن هؤلاء المشركين من العرب ليقولون. ما هي إلا الموتة التي نموتها ، ثم لا حياة بعدها ولا نشور. ويسمونها (الْأُولى) بمعنى السابقة المتقدمة على الموعد الذي يوعدونه للبعث والنشور. ويستدلون على أنه ليس هناك إلا هذه الموتة وينتهي الأمر. يستدلون بأن آباءهم الذين ماتوا هذه الموتة ومضوا لم يعد منهم أحد ، ولم ينشر منهم أحد ؛ ويطلبون الإتيان بهم إن كان النشور حقا وصدقا.

وهم في هذا الطلب يغفلون عن حكمة البعث والنشور ؛ ولا يدركون أنها حلقة من حلقات النشأة البشرية ، ذات حكمة خاصة وهدف معين ، للجزاء على ما كان في الحلقة الأولى. والوصول بالطائعين إلى النهاية الكريمة التي تؤهلهم لها خطواتهم المستقيمة في رحلة الحياة الدنيا ؛ والوصول بالعصاة إلى النهاية الحقيرة التي تؤهلهم لها خطواتهم المنتكسة المرتكسة في الحمأة المستقذرة .. وتلك الحكمة تقتضي مجيء البعث والنشور بعد انقضاء مرحلة الأرض كلها ؛ وتمنع أن يكون البعث لعبة تتم حسب رغبة أو نزوة بشرية لفرد أو لجماعة محدودة من البشر كي يصدقوا بالبعث والنشور! وهم لا يكمل إيمانهم إلا أن يشهدوا بالغيب على هذه القضية ، التي يخبرهم بها الرسل ؛ ويقتضيها التدبر في طبيعة هذه الحياة ، وفي حكمة الله في خلقها على هذا الأساس. وهذا التدبر وحده يكفي للإيمان بالآخرة ، والتصديق بالنشور.

وقبل أن يوجههم هنا إلى هذا التدبر في تصميم الكون ذاته ، يلمس قلوبهم لمسة عنيفة بمصرع قوم تبع. والتبابعة من ملوك حمير في الجزيرة العربية. ولا بد أن القصة التي يشير إليها كانت معروفة للسامعين ، ومن ثم يشير إليها إشارة سريعة للمس قلوبهم بعنف ، وتحذيرها مصيرا كهذا المصير :

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) ..

وفي ظل هذه الذكرى ، وارتجاف القلوب من تصورها ، يقودهم إلى النظر في تصميم السماوات والأرض ؛ وتنسيق هذا الكون ؛ وما يبدو وراء هذا التنسيق من قصد وصدق وتدبير :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. إِنَ

يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

واللفتة لطيفة ، والمناسبة بين خلق السماوات والأرض وما بينهما وبين قضية البعث والنشور مناسبة دقيقة. ولكن الفطرة البشرية تدركها في يسر حين توجه إليها مثل هذا التوجيه.

والواقع أن تدبر ما في خلق السماوات والأرض من دقة وحكمة وقصد ظاهر وتنسيق ملحوظ ، وخلق كل شيء بمقدار لا يزيد ولا ينقص عن تحقيق الغاية من خلقه ، وتحقيق تناسقه مع كل شيء وحوله ، وظهور القصد في خلق كل شيء بالقدر والشكل الذي خلق به ، وانتفاء المصادفة والبعث في أي جانب صغر أو كبر في تصميم هذه الخلائق الهائلة وما فيها من خلائق دقيقة لطيفة.

الواقع أن تدبر هذا كله يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فلا عبث فيه ؛ وأنه قائم على الحق فلا باطل فيه. وأن له نهاية لم تأت بعد ، ولا تجيء بالموت ، بعد هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب. وأن أمر الآخرة ، وأمر الجزاء فيها حتم لا بد منه من الناحية المنطقية البحتة لهذا التصميم المقصود في بناء هذه الحياة وهذا الوجود. حتى تتحقق به النهاية الطبيعية للصلاح والفساد في هذه الحياة الدنيا. هذا الصلاح وهذا الفساد اللذان ركب الإنسان على أساس الاستعداد لهما ؛ وظهور جهده هو وإرادته في اختيار أحدهما ، وتلقي جزاء هذا الاختيار في نهاية المطاف.

وإن خلق الإنسان بهذا الاستعداد المزدوج ، ونفي البعث عن فعل الله سبحانه ، ليقتضيان أن يكون لهذا الإنسان مصير معين ، ينتهي إليه بعد انتهاء رحلته الأرضية. وهذا هو صميم قضية الآخرة. ومن ثم يجيء بعد توجيه النظر إلى الحكمة والقصد في خلق السماوات والأرض. يجيء قوله تعالى :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ..

يجيء هذا القول طبيعيا ومرتبطا بما قبله كل الارتباط. فالحكمة تقتضي أن يكون هناك يوم يفصل فيه بين الخلائق ، ويحكم فيه بين الهدى والضلال ، ويكرم فيه الخير ويهان فيه الشر ، ويتجرد الناس من كل سند لهم في الأرض ، ومن كل قربى وآصرة ، ويعودون إلى خالقهم فرادى كما خلقهم ، يتلقون جزاء ما عملت أيديهم ، لا ينصرهم أحد ، ولا يرحمهم أحد ، إلا من ينال رحمة ربه العزيز القادر الرحيم العطوف. الذي خرجوا من يده ـ سبحانه ـ ليعملوا ؛ وعادوا إلى يده ـ سبحانه ـ ليتسلموا منه الجزاء. وما بين خروجهم ورجوعهم إنما هو فرصة للعمل ومجال للابتلاء.

هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون ، وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ، وفي التقدير الواضح والقصد الناطق في كل شيء في هذا الوجود ..

* * *

وبعد تقرير هذا المبدأ يعرض عليهم مشهدا من مشاهد يوم الفصل ؛ وما ينتهي إليه العصاة والطائعون من عذاب ومن نعيم. مشهدا عنيفا يتناسق مع ظلال السورة وجوها العنيف :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ. كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..

ويبدأ المشهد بعرض لشجرة الزقوم ، بعد تقرير أنها طعام الأثيم. عرض مفزع مرعب مخيف. إن هذا الطعام مثل دردي الزيت المغلي ـ وهو المهل ـ يغلي في البطون كغلي الحميم. وهناك هذا الأثيم. هذا المتعالي على ربه وعلى الرسول الأمين. وهذا هو الأمر العالي يصدر إلى الزبانية ليأخذوه في عنف يليق بمقامه (الْكَرِيمُ!) :

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) ..

«خذوه أخذا واعتلوه عتلا ، وشدوه في إهانة وجفوة فلا كرامة ولا هوادة. وهناك صبوا فوق رأسه من ذلك الحميم المغلي الذي يشوي ويكوي. ومع الشد والجذب والدفع والعتل والكي والشيء .. التأنيب والترذيل :

(ذُقْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ..

وهذا جزاء العزيز الكريم في غير ما عزة ولا كرامة ، فقد كان ذلك على الله وعلى المرسلين!

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) ..

فقد كنتم تشكون في هذا اليوم كما كنتم تسخرون وتستهزئون!

وبينما الأخذ والعتل ، والصب والكي ، والتأنيب والخزي .. في جانب من جوانب الساحة .. يمتد البصر ـ بعين الخيال ـ إلى الجانب الآخر. فإذا «المتقون» الذين كانوا يخشون هذا اليوم ويخافون. إذا هم : (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) .. لا خوف فيه ولا فزع ، ولا شد فيه ولا جذب ، ولاعتل فيه ولاصب! بل هم منعمون رافلون (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) .. يلبسون من سندس ـ وهو الحرير الرقيق ـ ومن إستبرق ـ وهو الحرير السميك ـ ويجلسون متقابلين في مجالسهم يسمرون. كل ذلك ومثله تزويجهم بحور عين ، يتم بهن النعيم. وهم في الجنة أصحاب الدار ، يطلبون ما يشاءون و (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) .. لا يتوقعون نهاية لهذا النعيم ، فلا موت هنالك وقد ذاقوا الموتة الأولى ، وغيرها لا يذوقون .. (وذلك في مقابل ما كان المشركون يقولون : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) .. فنعم إنها الموتة الأولى ولكن وراءها الجحيم والنعيم). (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) .. تفضلا منه سبحانه. فالنجاة من العذاب لا تكون إلا بفضله ورحمته : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .. وأي فوز عظيم؟!

* * *

وفي ظل هذا المشهد العنيف العميق المؤثر بجانبيه تختم السورة بالتذكير بنعمة الرسالة والتخويف من عاقبة التكذيب :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ..

وهو ختام يلخص جو السورة وظلها. ويتناسق مع بدئها وخط سيرها. فقد بدأت بذكر الكتاب وتنزيله للإنذار والتذكير ، وورد في سياقها ما ينتظر المكذبين. (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) .. فجاء هذا الختام يذكرهم بنعمة الله في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي الذي يفهمونه ويدركون معانيه. ويخوفهم العاقبة والمصير ، في تعبير ملفوف. ولكنه مخيف : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ..

(٤٥) سورة الجاثية مكية

وآياتها سبع وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦)

وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣)

هذه السورة المكية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، واتباعهم للهوى اتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان. كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى ؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم عذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.

ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة ، نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة ، مكابرا في الحق ، شديد العناد ، سيىء الأدب في حق الله وحق كلامه ، ترسمه هذه الآيات ، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ..

ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير ؛ لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات. والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين ، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور ؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ..

ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه إلا هواه ، فهو إلهه الذي يتعبده ، ويطيع كل ما يراه. نرى هذا الفريق من الناس مصورا تصويرا فذا في هذه الآية ؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً؟ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..

ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة ، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب ، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض. والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية ، وهم عنها معرضون :

(وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ. وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ : اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

ويجوز أن يكون هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك. كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة. بما في ذلك بعض أهل الكتاب ، وقليل منهم كان في مكة. ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين.

وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث .. كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم حساب يوم القيامة ، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم.

واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) ..

وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..

كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ؟ وَإِذا قِيلَ : إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها. قُلْتُمْ : ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَقِيلَ : الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ : ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ..

كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة ؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله ، وعليه يقوم هذا الوجود. ذلك حين يقول :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ..

وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فيقول :

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ..

* * *

والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها ؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها.

وهي تبدأ بالأحرف المقطعة : «حا. ميم». والإشارة إلى القرآن الكريم : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) .. وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة ، وتمجيده وتعظيمه ، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادىء ، وبيان دقيق عميق. على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب.

والله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق. وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق. حسب تنوعها هي واختلافها. وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها. وهو اللطيف الخبير. وهو العزيز الحكيم ..

والآن نأخذ في التفصيل

* * *

(حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

يذكر الحرفين : «حا. ميم» ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. وفيهما دلالة على مصدر الكتاب ، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف ، وهم لا يقدرون على شيء منه ، فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله (الْعَزِيزِ) القادر الذي لا يعجزه شيء. (الْحَكِيمِ) الذي يخلق كل شيء بقدر ، ويمضي كل أمر بحكمة. وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس.

وقبل أن يعرض للقوم وموقفهم من هذا الكتاب ؛ يشير إلى آيات الله المبثوثة في الكون من حولهم. وقد كانت وحدها كفيلة بتوجيههم إلى الإيمان. ويوجه قلوبهم إليها لعلها توقظها وتفتح مغاليقها ، وتستجيش فيها الحساسية بالله منزل هذا الكتاب. ، وخالق هذا الكون العظيم :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ..

والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء ، ولا حال دون حال. فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب ..

وأي شيء ليس آية؟

هذه السماوات بأجرامها الضخمة ، وأفلاكها الهائلة ، وهي ـ على ضخامتها ـ مبعثرة كالنثار الصغير في الفضاء .. الفضاء الهائل الرهيب .. الجميل ..!

ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق .. تناسق جميل لا تشبع العين من النظر إليه ، ولا يشبع القلب من تمليه!

وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر ، وهي ذرة ، أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة. ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه .. تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه!

وما أودعه الله طبيعة هذه الأرض في موقعها الكوني الخاص من صلاحية لنشوء الحياة فوقها ، ومن خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة. لو اختلت خصيصة واحدة منها أو خلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم! (١)

وكل شيء في هذه الأرض وكل حي .. آية .. وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض .. آية .. والصغير الدقيق كالضخم الكبير .. آية .. هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة .. آية .. آية في شكلها وحجمها ، آية في لونها وملمسها. آية في وظيفتها وتركيبها. وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان .. آية .. آية في خصائصها ولونها وحجمها. وهذه الريشة في جناح الطائر .. آية .. آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها. وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت ، وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره.

ولكن ، من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها؟ لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها؟ لمن؟

«للمؤمنين» ..

فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداء ؛ والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء. والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف ؛ وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة ، تشير كلها إلى اليد الصانعة ، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء. وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق الله.

ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم ؛ وهي أقرب إليهم ، وهم بها أكثر حساسية :

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ..

وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب ، وبهذه الخصائص الفريدة ، وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة. خارقة. خارقة نسيناها لطول تكرارها ، ولقربها منا! ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجبا ودهشة واستهوالا لهذا التركيب العجيب!

إن الحياة في أبسط صورها معجزة. في الإميبا ذات الخلية الواحدة. وفيما هو أصغر من الإميبا! فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد؟ وهو في تركيبه النفسي أشد تركبا وتعقدا من تركيبه العضوي!

وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعا وأجناسا ، وأشكالا وأحجاما ، لا يحصيها إلا الله. وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه. معجز في تصريفه. معجز في تناسب حيواته على هذه الأرض ، بحيث

__________________

(١) يراجع تفسير قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ص ٢٥٤٨ ٢٥٥٠ جزء ١٩ من الظلال.

لا يزيد جنس عن حدود معينة ، تحفظ وجوده وامتداده ، وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء. واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير ؛ وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعا ..

النسور جارحة ضارية وعمرها مديد. ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير .. ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير؟ وكيف كانت تقضي على جميع الطيور!

والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية. فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء؟ إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء .. ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدودا بالقدر المطلوب! وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم.

والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف .. وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين. فكيف لو أفلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهرا أو سنين؟ لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون؟ ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير دقيق محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف.

وهكذا وهكذا. في الخلق ذاته. وفي خصائصه. وفي تدبيره وتقديره. في عالم الناس ، وعالم الدواب .. في هذا كله آيات. آيات ناطقة. ولكن لمن؟ من الذي يراها ويتدبرها ويدركها؟

(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ..

واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس ، وكي تتأثر ، وكي تنيب .. اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن ؛ وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة ، وفي راحة من القلق والحيرة والزعزعة. فتصوغ من أقل ما تحصل ، أكبر النتائج وأعظم الآثار في هذا الوجود.

ثم ينتقل بهم من ذوات أنفسهم وحركة الأحياء حولهم ، إلى الظواهر الكونية ، وما ينشأ عنها من أسباب الحياة لهم وللأحياء جميعا :

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

واختلاف الليل والنهار ظاهرتان قد يخلق جدتهما في نفوس البشر التكرار! ولكن أية عجيبة تطالع الحس البشري وهو يواجه الليل أول مرة أو يواجه النهار؟ إن القلب الشاعر المتفتح يرى هذه العجيبة دائما ، وينتفض لها دائما ؛ ويرى يد الله التي تدير الكون كله كلما رأى الليل والنهار.

وتنمو معارف البشر ، ويتسع علمهم عن بعض الظواهر الكونية ، ويعرفون أن الليل والنهار ظاهرتان تنشآن عن دورة الأرض حول محورها أمام الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة. ولكن العجيبة لا تنقص شيئا بهذه المعرفة. فإن دورة الأرض هذه عجيبة أخرى. دورة هذا الجرم حول نفسه بهذه السرعة المنتظمة ، وهو عائم في الهواء ، سابح في الفضاء ، غير مستند إلى شيء إلا إلى القدرة التي تمسك به وتديره كما شاءت بهذا النظام الذي لا يتخلف ، وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء!

ويتوسع البشر في علمهم فيدركون أهمية هاتين الظاهرتين على سطح الأرض بالقياس إلى الحياة والأحياء ؛

ويعرفون أن تقسيم الأوقات بين الليل والنهار بهذه النسبة على سطح هذا الكوكب عامل رئيسي لوجود الحياة وبقاء الأحياء ؛ وأنه لو لم توجد هاتان الظاهرتان بهذا القدر وعلى هذا النظام لتغير كل شيء على هذه الأرض ، وبخاصة تلك الحياة الإنسانية التي تخص المخاطبين. من الأحياء! ومن ثم تزداد هاتان الظاهرتان أهمية في الحس البشري ولا تنقصان!

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ..

والرزق قد يكون المقصود به هو الماء النازل من السماء. كما فهم منه القدماء. ولكن رزق السماء أوسع. فهذه الأشعة التي تنزل من السماء ليست أقل أثرا في إحياء الأرض من الماء. بل إنها لهي التي ينشأ عنها الماء بإذن الله. فحرارة الشمس هي التي تبخر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطارا ، وتجري عيونا وأنهارا ؛ وتحيا بها الأرض بعد موتها. تحيا بالماء وتحيا بالحرارة والضياء سواء!

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) ..

وهي تمضي شمالا وجنوبا ، وشرقا وغربا ، منحرفة ومستقيمة ، دافئة وباردة ، وفق النظام الدقيق المنسوق المقصود في تصميم هذا الكون العجيب ؛ وحساب كل شيء فيه حسابا دقيقا لا يترك شيئا للمصادفة العمياء .. ولتصريف الرياح علاقة معروفة بدورة الأرض ، وبظاهرتي الليل والنهار ، وبالرزق الذي ينزل من السماء. وكلها تتعاون في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون ، وتصريفه كما أراد. وفيها (آياتٌ) معروضة في الكون. ولكن لمن؟

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..

فللعقل هنا عمل ، وله في هذا الميدان مجال.

* * *

هذه بعض آيات الله الكونية ، يشير إليها هذه الإشارات الموحية للمؤمنين. الذين يوقنون والذين يعقلون. يشير إليها بآيات الله القرآنية ، فتلمس القلوب ، وتوقظ العقول ، وتخاطب الفطر بلغتها المباشرة ، بما بينها وبين هذا الكون من صلة عميقة باطنة ، لا يحتاج إيقاظها إلا إلى كلمات موحية كآيات هذا القرآن. فمن لم يؤمن بهذه الآيات فلا رجاء في أن يؤمن بسواها ؛ ومن لم توقظه هذه الإشارات الموحية فلن توقظه الصرخات من غير هذا الصوت المستجاب :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) ..

إن أي كلام لن يبلغ كلام الله في القرآن. وإن أي إبداع لن يبلغ إبداع الله في الكون. وإن أية حقيقة لن تبلغ حقيقة الله في الثبوت والوضوح واليقين. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) ..

وهنا لا يليق بمن لا يؤمن إلا التهديد والتنكيل :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ..

وتصور هذه الآيات ـ كما أسلفنا في تقديم السورة ـ جانبا من استقبال المشركين لهذه الدعوة في مكة ، وإصرارهم على باطلهم ، واستكبارهم عن سماع كلمة الحق البين ، ومكابرتهم في هذا الحق كأنه لم يطرق

أذهانهم ، وسوء أدبهم مع الله وكلامه .. ومقابلة القرآن لهذا كله بالترذيل والتقبيح والتهديد والوعيد ، والتلويح بالعذاب الأليم المهين العظيم.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ..

والويل الهلاك. والأفاك الكذاب المارد على الكذب. والأثيم الكثير المقارفة للإثم. والتهديد شامل لكل من هذه صفته. وهو تهديد صادر من الله القوي القاهر الجبار ، القادر على الهلاك والدمار. الصادق الوعد والوعيد والإنذار. فهو تهديد رعيب مفزع مرهوب.

هذا الأفاك الأثيم. آية إفكه وعلامة إثمه ، أنه يصر على الباطل ويستكبر على الحق ويتعالى عن الخضوع لآيات الله ، ولا يتأدب بالأدب اللائق مع الله :

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ..

وهذه الصورة البغيضة ولو أنها صورة فريق من المشركين في مكة ، إلا أنها تتكرر في كل جاهلية ، وتتكرر اليوم وغدا. فكم في الأرض ، وبين من يقال إنهم مسلمون ، من يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها ؛ لأنها لا توافق هواه ، ولا تسير مع مألوفه ، ولا تعاونه على باطله ، ولا تقره على شره ، ولا تتمشى له مع اتجاه!

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ..

والبشارة للخير. فهي هنا للسخرية. فإذا كان لا يسمع النذير ، فليأته الويل المنظور ، في صوت البشير! زيادة في السخرية والتحقير!

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) ..

بعد أن يعلمها ويعرف مصدرها. وهذه أشد وأنكى. وهي صورة كذلك مكرورة في الجاهليات الأولى والأخيرة. وكم من الناس. وبين من يقال إنهم مسلمون. من يستهزىء بآيات الله التي يعلمها ، ويتخذها مادة للسخرية منها وممن يؤمنون بها ؛ ومن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ..

فالمهانة هي الجزاء المناسب لمن يستهزىء بآيات الله وهو يعلمها.

وهو عذاب حاضر قريب ؛ وإن كان موعده آتيا بعد حين. ولكنه في حقيقته قائم موجود :

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) ..

ولفظ (مِنْ وَرائِهِمْ) مقصودة ظلاله فوق معناه. وظلاله .. أنهم لا يرونه لأنه من ورائهم ولا يتقونه لأنهم في غفلة عنه ؛ ولا يفوتهم فهم سيقعون فيه!

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) ..

فليس شيء مما عملوا أو ملكوا بنافعهم شيئا ، فعملهم ـ ولو صلح ـ هباء لا يقدرون على شيء منه ، وهو قائم على غير أساس من إيمان. وملكهم زائل لا يصاحبهم منه شيء فيه غناء. وأولياؤهم من دون الله ـ آلهة أو أعوانا وجندا أو خلانا ـ لا يملكون لهم نصرا ولا شفاعة.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ..

فوق أنه مهين. فجرمهم في الاستهزاء بآيات الله قبيح يقتضي المهانة ، جسيم يقتضي جسامة التعذيب ..

وينتهي هذا المقطع ، الذي ورد فيه ذكر الاستهزاء بآيات الله ، والصد عنها والاستكبار ، بكلمة عن حقيقة هذه الآيات ؛ وجزاء من يكفر بهذه الحقيقة في إجمال :

(هذا هُدىً. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ..

إن حقيقة هذا القرآن أنه هدى. هدى خالص مصفى. هدى ممحض لا يشوبه ضلال. فالذي يكفر بعد ذلك بالآيات ، وهذه حقيقتها ، يستحق ألم العذاب. الذي يمثله توكيد معنى الشدة والإيلام. فالرجز هو العذاب الشديد. والعذاب الذي يهددون به هو عذاب من رجز أليم .. تكرار بعد تكرار. وتوكيد بعد توكيد. يليق بمن يكفر بالهدى الخالص الممحض الصريح.

* * *

وبعد التهديد المخيف ، والوعيد الرعيب ، يعود فيلمس قلوبهم لمسا رفيقا ، بالتذكير بأنعم الله التي سخرها لهم في هذا الكون العريض :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..

إن هذا المخلوق الصغير .. الإنسان .. يحظى من رعاية الله ـ سبحانه ـ بالقسط الوافر ، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة ، وينتفع بها على شتى الوجوه. وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها ، والذي تسير وفقه ولا تعصاه! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة ؛ بل ما استطاع أن يعيش معها ؛ وهو هذا القزم الصغير ، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام.

والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان ، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها ؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل ، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها! (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) .. فهو ـ سبحانه ـ الذي خلق البحر بهذه الخصائص ، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص ، وجعل خصائص الضغط الجوي ، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض .. وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر. وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به ، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) كالصيد للطعام وللزينة ، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة ؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار.

سخر الله للإنسان البحر والفلك ، ليبتغي من فضل الله ؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام ، وعلى التسخير والاهتداء : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .. وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق ، وإلى الارتباط بذلك الأفق ، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه .. إلى الله.

ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول. فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض ، من قوى وطاقات ونعم وخيرات ـ مما يصلح له ويدخل في دائرة خلافته ـ :

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ..

فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه ؛ وهو منشئه ومدبره ؛ وهو مسخره أو مسلطه. وهذا المخلوق الصغير .. الإنسان .. مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية. يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات

تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس! وكل ذلك من فضل الله عليه. وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر ؛ ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..

والفكر لا يكون صحيحا وعميقا وشاملا ، إلا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها ، إلى مصدر هذه القوى والطاقات ؛ وإلى النواميس التي تحكمها ؛ وإلى الصلة بين هذه النواميس وفطرة الإنسان. هذه الصلة التي تيسر للإنسان الاتصال بها وإدراكها. ولولاها ما اتصل ولا أدرك. ولا عرف ولا تمكن ، ولا سخر ولا انتفع بشيء من هذه القوى والطاقات ..

* * *

وحين يبلغ سياق السورة إلى هذا المقطع القوي الذي يصل قلب المؤمن بقلب هذا الوجود. ويشعره بمصدر القوة الحقيقي وهو الاهتداء إلى أسرار هذا الوجود .. عند هذا يدعو المؤمنين إلى الترفع والاستعلاء وسعة الأفق ورحابة الصدر في مواجهة الضعاف العاجزين الذين لا تتصل قلوبهم بذلك المصدر الثري الغني. كما يدعوهم إلى شيء من العطف على هؤلاء المساكين المحجوبين عن الحقائق المنيرة القوية العظيمة ؛ من الذين لا يتطلعون إلى أيام الله ، التي يظهر فيها عظمته وأسراره ونواميسه :

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ، لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ..

فهو توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله. تسامح المغفرة والعفو. وتسامح القوة والاستعلاء. وتسامح الكبر والارتفاع. والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحيانا بحرمانهم من ذلك النبع الفياض ، الذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوة والثراء. نبع الإيمان بالله ، والطمأنينة إليه ، والاحتماء بركنه ، واللجوء إليه في ساعات الكربة والضيق. وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية المتصلة بصميم النواميس الكونية وما وراءها من القوى والثروات. والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره ، ويتمتعون برحمته وفيضه أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات.

هذا من جانب. ومن الجانب الآخر ، ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته. ويحسب لهم العفو والمغفرة عن المساءة في سجل الحسنات. ذلك فيما لا يظهر الفساد في الأرض ، ويعتدي على حدود الله وحرماته بطبيعة الحال :

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..

ويعقب على هذا بفردية التبعة ، وعدالة الجزاء ، وتوكيد الرجوع إلى الله وحده في نهاية المطاف :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ..

بذلك يتسع صدر المؤمن ، ويرتفع شعوره ؛ ويحتمل المساءات الفردية والنزوات الحمقاء من المحجوبين المطموسين ، في غير ضعف ، وفي غير ضيق. فهو أكبر وأفسح وأقوى. وهو حامل مشعل الهدى للمحرومين من النور ، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع ، وهو مجزي بعمله ، لا يصيبه من وزر المسيء شيء. والأمر لله في النهاية ، وإليه المرجع والمآب.

* * *

بعد ذلك يتحدث عن القيادة المؤمنة للبشرية ، وتركز هذه القيادة أخيرا في الرسالة الإسلامية ؛ فيشير إلى اختلاف بني إسرائيل في كتابهم ، بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة. وانتهاء راية القيادة والحكم إلى صاحب الدعوة الأخيرة. هذا وهو بعد في مكة. والدعوة بعد مطاردة محاصرة. ولكن طبيعتها هي هي منذ نشأتها ، ومهمتها هي مهمتها :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ، فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ. هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ..

كانت القيادة ـ قبل الإسلام ـ لبني إسرائيل. كانوا هم أصحاب عقيدة السماء التي اختارها الله لتلك الفترة من التاريخ. ولا بد للبشر من قيادة مستمدة من السماء. فالأرض قيادتها هوى أو جهل أو قصور. والله خالق البشر هو وحده الذي يشرع لهم شريعته مبرأة من الهوى فكلهم عباده ، مبرأة من الجهل والقصور فهو الذي خلقهم وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ..

فكان فيهم التوراة شريعة الله. وكان فيهم الحكم لإقامة الشريعة. وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب. وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة نسبيا في التاريخ.

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ..

فكانت مملكتهم ونبواتهم في الأرض المقدسة ، الطيبة ، الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ..

وكان تفضيلهم على أهل زمانهم بطبيعة الحال ؛ وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله ؛ وإيتاءهم الكتاب والحكم والنبوة :

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) ..

فكان ما أوتوه من الشريعة بينا حاسما فاصلا ، لا غموض فيه ولا لبس ولا عوج ولا انحراف ؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف في هذا الشرع البين كما وقع منهم ؛ وما كان هذا عن غموض في الأمر ، ولا كان عن جهل منهم بالصحيح من الحكم :

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ..

إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم ، ونزاع وظلم ، مع معرفة الحق والصواب :

(بَغْياً بَيْنَهُمْ) ..

وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض ، وبطل استخلافهم ، وأمرهم بعد ذلك إلى الله يوم القيامة :

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..

ثم كتب الله الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد ، يرد إلى شريعة الله استقامتها ، وإلى قيادة السماء نصاعتها ؛ ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في هذه القيادة :

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ، فَاتَّبِعْها ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ..

وهكذا يتمحض الأمر. فإما شريعة الله. وإما أهواء الذين لا يعلمون. وليس هنالك من فرض ثالث ، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة ؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون!

والله ـ سبحانه ـ يحذر رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون ، فهم لا يغنون عنه من الله شيئا. وهم يتولون بعضهم بعضا. وهم لا يملكون أن يضروه شيئا حين يتولى بعضهم بعضا ، لأن الله هو مولاه :

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ..

وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعين سبيل صاحب الدعوة وتحدده ، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل :

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ..

إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف ، وما عداها أهواء منبعها الجهل. وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ، ويدع الأهواء كلها. وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء. فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة. وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض. وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحا عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه. ولكنهم أضعف من أن يؤذوه. والله ولي المتقين. وأين ولاية من ولاية؟ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضا ؛ من صاحب شريعة يتولاه الله. ولي المتقين؟

وتعقيبا على هذا البيان الحاسم الجازم ، يتحدث عن اليقين ، وعما في هذا القول وأمثاله في القرآن من تبصرة وهدى ورحمة لأهل اليقين :

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ..

ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة. فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور. وهو بذاته هدى. وهو بذاته رحمة .. ولكن هذا كله يتوقف على اليقين. يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك ، ولا يخالطها قلق ، ولا تتسرب إليها ريبة. وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه ، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد. وعندئذ يبدو له الطريق واضحا ، والأفق منيرا ، والغاية محددة ، والنهج مستقيما. وعندئذ يصبح هذا القرآن له نورا وهدى ورحمة بهذا اليقين.

* * *

ويعقب على الحديث عن ولاية الظالمين بعضهم لبعض وولاية الله للمتقين ؛ وعن طبيعة هذا القرآن بالقياس إلى المتقين ، وأنه بصائر وهدى ورحمة لأهل اليقين. يعقب على هذا الحديث بالتفرقة الحاسمة بين حال الذين يجترحون السيئات وحال الذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون. ويستنكر أن يسوى بينهم في الحكم ، وهم مختلفون في ميزان الله. والله قد أقام السماوات والأرض على أساس الحق والعدل ؛ والحق أصيل في تصميم هذا الكون.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ. ساءَ ما يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ..

ويجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب ، الذين انحرفوا عن كتابهم ، واجترحوا السيئات ، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين ، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات ، أندادا لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات. أي عند الحساب والجزاء .. كما يجوز أن يكون حديثا عاما بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله. ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح ؛ واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات ، سواء في الحياة أو في الممات. ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله. قاعدة الحق. الذي يتمثل في بناء الكون ، كما يتمثل في شريعة الله. والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس. والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال ؛ وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال ؛ وفي تحقيق العدل للناس أجمعين : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ..

ومعنى أصالة الحق في بناء الكون ، وارتباطه بشريعة الله للبشر ، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء ، معنى يتكرر في القرآن الكريم ، لأنه أصل من أصول هذه العقيدة ، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة ، وترجع إليه في الأنفس والآفاق ، وفي ناموس الكون وشريعة البشر. وهو أساس «فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان» (١)

* * *

وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب. الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده. فيضل ضلالا لا اهتداء بعده ، والعياذ بالله :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً؟ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..

والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجا عجيبا للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت ، وتتبع الهوى المتقلب ؛ وحين تتعبد هواها ، وتخضع له ، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها. وتقيمه إلها قاهرا لها ، مستوليا عليها ، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول. يرسم هذه الصورة ويعجّب منها في استنكار شديد :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؟) ..

أفرأيته؟ إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب! وهو يستحق من الله أن يضله ، فلا يتداركه برحمة الهدى. فما أبقى في قلبه مكانا للهدى وهو يتعبد هواه المريض!

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) ..

على علم من الله باستحقاقه للضلالة. أو على علم منه بالحق ، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلها يطاع. وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه :

(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ..

فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى. وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم.

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟) ..

__________________

(١) بحث يرجو المؤلف أن يقدمه إن شاء الله.

والهدى هدى الله. وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة. فذلك من شأن الله ، الذي لا يشاركه فيه أحد ، حتى رسله المختارون.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..

ومن تذكر صحا وتنبه ، وتخلص من ربقة الهوى ، وعاد إلى النهج الثابت الواضح ، الذي لا يضل سالكوه ..

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

هذا المقطع الأخير من السورة يعرض مقولة المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب. ويرد عليها من واقع نشأتهم الذي لا مجال لإنكاره ، وهو واقع قريب منهم. ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة ، يرونه

واقعا بهم ـ وإن كان لم يحن بعد موعده ـ لأن التصوير القرآني يعرضه حيا شاخصا كأنهم يرونه رأي العين من خلال الكلمات.

ثم تختم السورة بالحمد لله ، الواحد الربوبية في السماوات وفي الأرض ولجميع العالمين في السماوات والأرض ، وتمجيد عظمته وكبريائه المتفردة في السماوات والأرض ، لا ترتفع أمامها هامة ، ولا يتطاول إليها متطاول .. وهو العزيز الحكيم ..

* * *

(وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ : اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

هكذا كانوا ينظرون تلك النظرة القصيرة. الحياة في نظرهم هي هذا الشوط الذي يرونه في الدنيا رأي العين. جيل يموت وجيل يحيا ؛ وفي ظاهر الأمر لا تمتد إليهم يد بالموت ، إنما هي الأيام تمضي ، والدهر ينطوي ، فإذا هم أموات ؛ فالدهر إذن هو الذي ينهي آجالهم ، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون!

وهي نظرة سطحية لا تتجاوز المظاهر ، ولا تبحث عما وراءها من أسرار. وإلا فمن أين جاءت إليهم الحياة ؛ وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم؟ والموت لا ينال الأجسام وفق نظام محدد وعدد من الأيام معين ، حتى يظنوا أن مرور الأيام هو الذي يسلبهم الحياة. فالأطفال يموتون كالشيوخ والأصحاء يموتون كالمرضى. والأقوياء يموتون كالضعاف. ولا يصلح الدهر إذن تفسيرا للموت عند من ينظر إلى الأمر نظرة فاحصة ، ويحاول أن يعرف ، وأن يدرك حقيقة الأسباب.

لهذا يقول الله عنهم بحق :

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ. إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) :

يظنون ظنا غامضا واهيا ، لا يقوم على تدبر ، ولا يستند إلى علم ، ولا يدل على إدراك لحقائق الأمور. ولا ينظرون إلى ما وراء ظاهرتي الحياة والموت من سر يشهد بإرادة أخرى غير إرادة الإنسان ، وبسبب آخر غير مرور الأيام.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ، ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

وهذه كتلك تدل على نظرة سطحية لا تدرك نواميس الخلق ، وحكمة الله فيها ، وسر الحياة والموت الكامن وراءهما ، المتعلق بتلك الحكمة الإلهية العميقة. فالناس يحيون في هذه الأرض ليعطوا فرصة للعمل وليبتليهم الله فيما مكنهم فيه. ثم يموتون حتى يحين موعد الحساب الذي أجله الله ، فيحاسبوا على ما عملوا ، وتتبين نتيجة الابتلاء في فترة الحياة. ومن ثم فهم لا يعودون إذا ماتوا. فليست هنالك حكمة تقتضي عودتهم قبل اليوم المعلوم. وهم لا يعودون لأن فريقا من البشر يقترحون هذا. فاقتراحات البشر لا تتغير من أجلها النواميس الكبرى التي قام على أساسها الوجود! ومن ثم فلا مجال لهذا الاقتراح الساذج الذي كانوا يواجهون به الآيات البينات : (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)!

ولما ذا يأتي الله بآبائهم قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا؟ ألكي يقتنعوا بقدرة الله على إحياء الموتى؟ يا عجبا! أليس الله ينشئ الحياة أمام أعينهم إنشاء في كل لحظة ، وفق سنة إنشاء الحياة؟

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ..

هذه هي المعجزة التي يريدون أن يشهدوها في آبائهم. ها هي ذي تقع أمام أعينهم. بعينها وبذاتها. والله هو الذي يحيي. ثم هو الذي يميت. فلا عجب إذن في أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة ، ولا سبب يدعو إلى الريب في هذا الأمر ، الذي يشهدون نظائره فيما بين أيديهم :

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

ويعقب على هذه الحقيقة الماثلة بالأصل الكلي الذي ترجع إليه :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ..

فهو المهيمن على كل ما في الملك. وهو صانع كل شيء فيه. وهو القادر على الإنشاء والإعادة لكل ما فيه وكل من فيه.

ثم يعرض عليهم مشهدا من هذا اليوم الذي يشكون فيه :

* * *

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

إنه يعجل لهم في الآية الأولى عاقبة المبطلين. فهم الخاسرون في هذا اليوم الذي يشكون فيه. ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة ، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير! وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة. في ارتقاب الحساب المرهوب .. وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد. ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب. ومرهوب بما وراءه من حساب. ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر ، والمنعم المتفضل ، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين!

ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق. يقال لها :

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. فيعلمون أن لا شيء سينسى أو يضيع! وكيف وكل شيء مكتوب. وعلم الله لا يند عنه شيء ولا يغيب؟!

ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة ، على مدى الأجيال واختلاف الأجناس فريقين اثنين. فريقين اثنين يجمعان كل هذه الحشود : الذين آمنوا. والذين كفروا. فهاتان هما الرايتان الوحيدتان عند الله وهذان هما الحزبان : حزب الله. وحزب الشيطان. وما عدا هذا من الملل والنحل والأجناس والأمم فإليهما يعود :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ..

وقد استراحوا من طول الارتقاب ، ومن القلق والاضطراب .. والنص ينهي أمرهم في سرعة وفي بساطة ، ليلقي هذا الظل المستطاب.

ثم نلقي بأبصارنا ـ من خلال الكلمات ـ إلى الفريق الآخر. فماذا نحن واجدون؟ إنه التأنيب الطويل ، والتشهير المخجل ، والتذكير بشر الأقوال والأعمال :

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ ، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ؟ وَإِذا قِيلَ : إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها. قُلْتُمْ : ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ! إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)!

فالآن كيف ترون الحال؟! وكيف تذوقون اليقين؟!

ويتركهم السياق لحظة ليعلن على الملأ شيئا مما يقع لهؤلاء المنكوبين :

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

ثم يعود إليهم بالترذيل والتأنيب وإعلان الإهمال والتحقير ؛ والمصير الأليم :

(وَقِيلَ : الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا. وَمَأْواكُمُ النَّارُ. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً ، وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ..

ثم يسدل الستار عليهم بإعلان مصيرهم الأخير. وهم متروكون في جهنم لا يخرجون ولا يطلب إليهم اعتذار ولا عتاب :

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ..

وكأننا نسمع مع إيقاع هذه الكلمات صرير الأبواب وهي توصد إيصادها الأخير! وقد انتهى المشهد ، فلم يعد فيه بعد ذلك تغيير ولا تحوير!

* * *

هنا ينطلق صوت التحميد لله والتمجيد الانطلاقة الأخيرة في السورة بعد هذا المشهد المؤثر العميق :

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. رَبِّ السَّماواتِ. وَرَبِّ الْأَرْضِ. رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

ينطلق صوت التحميد. يعلن وحدة الربوبية في هذا الوجود. سمائه وأرضه. وإنسه وجنه. وطيره ووحشه. وسائر ما فيه ومن فيه. فكلهم في رعاية رب واحد يدبرهم ويرعاهم وله الحمد على الرعاية والتدبير.

وينطلق صوت التمجيد. يعلن الكبرياء المطلقة لله في هذا الوجود. حيث يتصاغر كل كبير. وينحني كل جبار. ويستسلم كل متمرد. للكبرياء المطلقة في هذا الوجود.

ومع الكبرياء والربوبية العزة القادرة والحكمة المدبرة .. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. والحمد لله رب العالمين.

انتهى الجزء الخامس والعشرون

ويليه الجزء السادس والعشرون

مبدوءا بسورة الأحقاف

انتهى المجلد الخامس

ويليه المجلد السادس (الأخير)

متضمناً الأجزاء من السادس والعشرين

إلى الجزء الثلاثين

في ظلال القرآن - ٥

المؤلف: سيّد قطب
الصفحات: 699