

بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَة هُود
وقسْم مِن
سُورَة يُوسُف
الجزء الثاني عشر
(١١) سورة هود مكية
وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذه السورة
مكية بجملتها. خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (١٢ ، ١٧ ، ١١٤) فيها
مدنية. ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من
السياق ، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء. فضلا على أن موضوعاتها
التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة ، وموقف مشركي قريش
منها ، وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المسلمة معه ، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار ..
فالآية ١٢ مثلا
هذا نصها : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا : لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ! إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ،
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد
الذي يضيق به صدر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بحيث يحتاج إلى التسرية عنه ، والتثبيت على ما يوحى إليه ؛ إنما كان في
مكة ؛ وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة ، وحادث الإسراء ، وجرأة
المشركين على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتوقف حركة الدعوة تقريبا ؛ وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في
مكة ..
والآية ١٧ هذا
نصها : (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ
مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) .. وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في
مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأنه إنما يوحى إليه من ربه ؛ وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب موسى ؛
وبتصديق بعض أهل الكتاب به ـ وهذا ما كان في مكة من أفراد من أهل الكتاب ـ واتخاذ
هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين. وتهديد الأحزاب منهم بالنار. مع تثبيت رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على الحق الذي هو معه ، في وجه توقف الدعوة ، وعناد الأكثرية الغالبة في
مكة وما حولها من القبائل .. وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية. فهي ليست
خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم ـ كما هو العهد في القرآن المدني ـ ولكنها
استشهاد بموقف تصديق من بعضهم ؛ وبتصديق كتاب موسى ـ عليهالسلام ـ لما جاء به محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة ، ومقتضياتها الواضحة.
والآية ١١٤
واردة في سياق تسرية عن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بما كان من الاختلاف على موسى من قبل. وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن
تاب معه ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا (أي أشركوا) والاستعانة بالصلاة وبالصبر
على مواجهة تلك الفترة العصيبة .. وتتوارد الآيات هكذا : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
وَلا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ
اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
(١١٥)
.. وواضح أن
الآية قطعة من السياق المكي ، موضوعا وجوا وعبارة ..
* * *
لقد نزلت
السورة بجملتها بعد يونس. ونزلت يونس بعد الإسراء. وهذا يحدد معالم الفترة التي
نزلت فيها ؛ وهي من أخرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها
موت أبي طالب وخديجة ؛ وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي
طالب ـ وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته ، واستهزاء المشركين به ، وارتداد بعض من
كانوا أسلموا قبله ـ مع وحشة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من خديجة ـ رضي الله عنها ـ في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى
دعوته ؛ وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها ؛ وتجمدت حركة
الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها .. وذلك قبيل أن يفتح
الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية ..
قال ابن إسحاق
: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ المصائب بهلك خديجة ـ وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها ـ وبهلك
عمه أبي طالب ـ وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه ـ وذلك قبل
مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء
قريش ، فنثر على رأسه ترابا.
قال ابن إسحاق
: فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال : لما نثر ذلك السفيه على
رأس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ذلك التراب ، دخل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب
وهي تبكي. ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول لها : «لا تبكي يا بنية ، فإن الله مانع أباك» قال : ويقول بين ذلك
: «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب».
وقال المقريزي
في إمتاع الأسماع : فعظمت المصيبة على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بموتهما وسماه «عام الحزن» وقال : «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات
أبو طالب» لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره.
ففي هذه الفترة
نزلت سورة هود ويونس قبلها ، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحمل
طابع هذه الفترة ؛ وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها .
وآثار هذه
الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها! وبخاصة ما يتعلق
بتثبيت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والذين معه على الحق ؛ والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق
والغربة في المجتمع الجاهلي.
وقد برز طابع
هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها :
* فمن ذلك
استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية. في التاريخ البشري كله ، من لدن نوح ـ عليهالسلام ـ إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام ـ وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية
واحدة : هي الدينونة لله وحده بلا شريك ، والعبودية له وحده بلا منازع ؛ والتلقي
في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ. مع الاعتقاد بأن
الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء ؛ وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة ؛
وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا
الابتلاء.
ولقد جاء محمد
عليه الصلاة والسلام ومعه (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) .. أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ،
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ
كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ...
ولكن هذه لم
تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق .. لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب
وموسى وغيرهم : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللهَ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) .. (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ .. وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ) .. (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ، قالَ
: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ
بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ..
فكلهم إذن قال
هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة ..
* ومن ذلك عرض
مواقف الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وهم يتلقون الإعراض والتكذيب ، والسخرية
والاستهزاء ، والتهديد والإيذاء ، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق ، وفي
نصر الله الذي لا شك آت ؛ ثم تصديق العواقب في الدنيا ـ وفي الآخرة كذلك ـ لظن
الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم ، بالتدمير على المكذبين ، وبالنجاة للمؤمنين :
ففي قصة نوح
نجد هذا المشهد : «فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما
نراك
__________________
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل
نظنكم كاذبين .. قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده
فعمّيت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ، إن
أجري إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم. ولكني أراكم
قوما تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟ أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم
عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إني ملك ، ولا أقول للذين تزدري
أعينكم : لن يؤتيهم الله خيرا ، الله أعلم بما في أنفسهم ، إني إذن لمن الظالمين.
قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال : إنما يأتيكم به الله ـ إن شاء ـ وما أنتم بمعجزين» .. ثم يجيء مشهد الطوفان
وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
وفي قصة هود
نجد هذا المشهد : «قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك
، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء .. قال : إني أشهد
الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني
توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط
مستقيم ، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا
تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شىء حفيظ» .. ثم تجيء العاقبة : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ
غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ،
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا
بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ!).
وفي قصة صالح
نجد هذا المشهد : «قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ، أتنهانا أن نعبد
ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال : يا قوم أرأيتم إن كنت
على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير
تخسير» .. ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ،
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها
، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!) ..
وفي قصة شعيب
نجد هذا المشهد : «قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن
نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد! قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على
بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن
أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب. ويا
قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ،
وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، إن ربي رحيم ودود. قالوا
: يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفا ، ولولا رهطك لرجمناك ،
وما أنت علينا بعزيز. قال : يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم
ظهريا؟ إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون
من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ، وارتقبوا إني معكم رقيب» .. ثم تجيء الخاتمة : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيها ، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ!) ..
* ومن ذلك
التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى دلالته : والتسرية
عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله ؛ وبما أولاهم الله من رعايته ونصره ؛
وتوجيهه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق
الذي أرسلوا به .. وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي
والرسالة.
فبعد نهاية قصة
نوح نجد هذا التعقيب : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
وفي نهاية
القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ
عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ.
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .. (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ؛ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ، وَلا تَطْغَوْا ،
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، ثُمَّ
لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ
، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ... (وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي
هذِهِ الْحَقُّ ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..
وهكذا يتجلى
لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة
والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافئ للموقف ؛ وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه
مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة ، شأنه
شأن بقية السورة التي يجيء فيها ؛ ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة
وجوها وموضوعها ، متوافيا مع أهدافها ، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات
وأحكام وإيحاءات تقريرية.
* * *
ولقد جاء في
التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر :
«ولقد كان آخر
عهدنا ـ في هذه الضلال ـ بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في
ترتيب المصحف ـ وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول ـ ثم جاءت الأنفال والتوبة
بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة ـ فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي
نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا .. والعجيب
أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين ، في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع
كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها ؛ وتفند هذه
الجاهلية ، عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه
العقيدة في الأرض ، وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع
سورتي يونس وهود .. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا .. إلا أن سورة
الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ،
ولألاء شديد في التصوير والحركة .. بينما تمضي سورة يونس
في إيقاع رخي. ونبض هادئ. وسلاسة وديعة! .. فأما هود فهي شديدة الشبه
بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا .. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ،
وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف» ..
فالآن نفصل هذه
الإشارة المجملة :
إن سورة يونس
تحتوي على جانب من القصص مجمل .. إشارة إلى قصة نوح ، وإشارة إلى الرسل من بعده ،
وشيء من التفصيل في قصة موسى ، وإشارة مجملة إلى قصة يونس .. ولكن القصص إنما يجيء
في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها السورة.
أما سورة هود
فالقصص فيها هو جسم السورة. وهو وإن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية
التي تستهدفها ؛ إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ
البشري هو الهدف الواضح البارز.
لذلك نجد تركيب
السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة :
القطاع الأول
يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا.
والقطاع الثاني
يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة.
والقطاع الثالث
يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود ..
وواضح أن
قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي
يستهدفها سياق السورة كله ؛ وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة
تناوله لهذه الحقائق. وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه.
وهذه الحقائق
الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي :
* أن ما جاء به
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من الله ـ سبحانه ـ وهي
تقوم على الدينونة لله وحده بلا شريك. والتلقي في هذه الدينونة عن رسل الله وحدهم
كذلك. والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة :
ففي مقدمة
السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم :
(الر. كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) ..
«أم يقولون :
افتراه؟ قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأن لا إله إلا هو ،
فهل أنتم مسلمون؟».
وفي قصص الرسل
يرد عن حقيقة دعوتهم ؛ وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللهَ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ).
«قال : يا قوم
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها
وأنتم لها كارهون؟» ..
«ونادى نوح ربه
فقال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال : يا نوح
إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني
أعظك أن تكون من الجاهلين».
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) ..
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً ، قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ..
(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) ..
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ ....)
(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ...).
وفي التعقيب
ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها :
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ..
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وهكذا تلتقي
قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة.
* ولكي يدين
الناس لله وحده بالربوبية ، فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه ، وتقرر كذلك أنهم
في قبضته في هذه الدنيا ؛ وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير ..
وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك.
في المقدمة
يجيء :
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ،
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَلَئِنْ قُلْتَ :
إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا :
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى
أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ
لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
وفي قصص الرسل
تجيء أمثال هذه التعريفات :
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً
غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ..
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ،
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ..
وفي التعقيب
يجيء :
(وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ..
(وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ).
(وَما كانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ..
وهكذا تتوافى
قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها.
وهي لا تستهدف
إثبات وجود الله ـ سبحانه ـ إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده في حياة البشر ،
كما أنها مقررة في نظام الكون .. فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف ؛ إنما قضية
الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات ؛ وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة.
إنها قضية الدينونة لله وحده بلا شريك ؛ والخضوع لله وحده بلا منازع. ورد أمر
الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره. كما هو واضح من هذه المقتطفات من
قطاعات السورة جميعا.
* * *
وفي سبيل إنشاء
تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر ، وتثبيتها في النفوس ، وتعميقها في الكيان
البشري ، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية ، مكيفة
للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات .. في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو
وفي هذا المستوي يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس
أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة ، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها ..
* يحتوي الكثير
من الترغيب والترهيب .. الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة
لله وحده بلا شريك ، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء .. والترهيب بالحرمان
من خير الدنيا أو الآخرة ؛ وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي
، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم ، التي يقودون لها
أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا ؛ ورضوا
بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى. وهذه نماذج من الترهيب والترغيب :
(... أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ. وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ ،
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها ، وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ
مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ،
أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ
وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا
إِلى
رَبِّهِمْ
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟
أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟).
(وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ... (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي
قَوْماً غَيْرَكُمْ ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ) ..
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، فَاتَّبَعُوا
أَمْرَ فِرْعَوْنَ ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ
الْمَرْفُودُ!) ...
... إلخ ...
إلخ ..
* ويحتوي
السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار
التاريخ ؛ من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين ـ على النحو الذي سبق في بعض
المقتطفات ـ ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة ؛ ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في
ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد :
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ، فَلا تَبْتَئِسْ
بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، وَلا
تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قالَ : إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ
مُقِيمٌ. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا : احْمِلْ فِيها
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ـ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ ـ وَمَنْ آمَنَ ، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ : ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ
تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ـ وَكانَ فِي
مَعْزِلٍ ـ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ :
سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ! قالَ : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ
الْمُغْرَقِينَ. وَقِيلَ : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ :
بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ... إلخ
ويحتوي بعض صور
النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء ؛ فيرفع للمكذبين
المستعجلين بالعذاب ، المتحدين للنذر في استهتار .. يرفع لهم صور أنفسهم وهم في
مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم ؛ وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب
الأحداث بهم ؛ وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم ؛ وفي البطر والغرور والانخداع بكشف
الضر وفيض النعمة من جديد :
(وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا
يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ. وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ، ثُمَّ
نَزَعْناها مِنْهُ ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ
بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ : ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ
لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ...) ...
* ويحتوي شيئا
من مشاهد القيامة ؛ وصور المكذبين فيها ؛ ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا
عن رسله ؛ وما يجدونه يومئذ من خزي ؛ لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء :
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ،
وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ! أَلا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ! الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ).
(أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ
وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ).
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ،
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ـ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ... (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ).
* ومن المؤثرات
التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي
البشر من ذوات الصدور ؛ بينما هم غارّون لا يستشعرون حضوره سبحانه ، ولا علمه
المحيط ؛ ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا ، وهم ـ الذين يكذبون ـ في
قبضته كسائر الخلائق ؛ من حيث لا يشعرون :
(إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ! أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَما مِنْ
دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
* ومن المؤثرات
الموحية في سياق السورة كذلك ، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام ، على
مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة
، في صراحة وفي صرامة ، وفي ثقة وطمأنينة ويقين .. وقد مر جانب من هذا الاستعراض
في المقتطفات السابقة ، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة. ومما لا شك فيه
أن وحدة موقف الرسل الكرام ، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار
الزمان ؛ ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة .. يحمل في طياته ما
يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء ..
وحسبنا في
تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة ...
... والله
المستعان ...
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)
وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
أَلا
إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ
مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا
يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا
مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
مَنْ
كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها
وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥)
أُولئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا
فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى
إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)
الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما
كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
هذا الدرس
الأول من السورة يمثل المقدمة ـ التي يتوسط القصص بينها وبين التعقيب ـ وهي تتضمن
عرض الحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية : توحيد الدينونة لله الواحد بلا منازع
، وعبادة الله وحده بلا شريك ؛ والاعتقاد في البعث والقيامة للحساب والجزاء على ما
كان من الناس من عمل وكسب في دار العمل والابتلاء .. مع تعريف الناس بربهم الحق ؛
وصفاته المؤثرة في وجودهم وفي وجود الكون من حولهم ؛ وبيان حقيقة الألوهية وحقيقة
العبودية ، ومقتضاهما في حياة البشرية. وتوكيد الدينونة لله في الآخرة كالدينونة
له سبحانه في الحياة الدنيا.
كذلك تتضمن هذه
المقدمة بيانا لطبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ؛ كما تتضمن تسلية وترويحا للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في وجه العناد والتكذيب ، والتحدي والمكابرة ، التي كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يواجهها في تلك الفترة العصيبة في حياة الدعوة بمكة ، كما أسلفنا في
التعريف بالسورة. مع تحدي
المشركين بهذا القرآن الذي يكذبون به ، أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ـ كما
يزعمون أن هذا القرآن مفترى ـ وتثبيت الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المؤمنة معه بهذا التحدي من الله وبذلك العجز من المشركين!
ومع هذا التحدي
تهديد قاصم للمكذبين بما ينتظرهم في الآخرة من العذاب الذي يستعجلون به ويكذبون. وهم
الذين لا يطيقون أن تنزع منهم رحمة الله في الدنيا ، ولا يصبرون على ابتلائه فيها
وهو أيسر من عذاب الآخرة!
ثم يجسم هذا
التهديد في مشهد من مشاهد القيامة ؛ يتمثل فيه موقف المكذبين بهذا القرآن من أحزاب
المشركين ؛ ويتبين فيه عجزهم وعجز أوليائهم عن إنقاذهم من العذاب الأليم ، المصحوب
بالخزي والتشهير والتنديد والتأنيب. وفي الصفحة المقابلة من المشهد .. الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وما ينتظرهم من الثواب والنعيم والتكريم .. ومشهد مصور للفريقين ـ
على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير ـ : (مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..
* * *
(الر كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ.
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
إنها جملة
الحقائق الاعتقادية الأساسية :
* إثبات الوحي
والرسالة.
* العبودية لله
وحده بلا شريك.
* جزاء الله في
الدنيا والآخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة.
* جزاء الله في
الآخرة للمكذبين ، وعودة الجميع إلى الله عصاة وطائعين.
* قدرته
المطلقة وسلطانه غير المحدود.
«ألف. لام. راء»
مبتدأ ، خبره : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) .. وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الأحرف هو الذي
يكذبون به. وهم عن شيء من مثله عاجزون!
(كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ..
أحكمت آياته ،
فجاءت قوية البناء ، دقيقة الدلالة ، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة ، وكل معنى
فيها وكل توجيه مطلوب ، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم. متناسقة لا اختلاف
بينها ولا تضارب ، ومنسقة ذات نظام واحد. ثم فصلت. فهي مقسمة وفق أغراضها ، مبوبة
وفق موضوعاتها ، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه.
أما من أحكمها
، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق؟ فهو الله سبحانه ، وليس هو الرسول :
(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
خَبِيرٍ) ..
يحكم الكتاب عن
حكمة ، ويفصله عن خبرة .. هكذا جاءت من لدنه ، على النحو الذي أنزل على الرسول ،
لا تغيير فيها ولا تبديل.
وماذا تضمنت؟
إنه يذكر أمهات
العقيدة وأصولها :
(أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) .. فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة.
(إِنَّنِي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) .. فهي الرسالة ، وما تضمنته من نذارة وبشارة.
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) .. فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية ، إلى
التوحيد والدينونة.
(يُمَتِّعْكُمْ
مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) .. فهو الجزاء للتائبين المستغفرين.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) .. فهو الوعيد للمتولين.
(إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) .. فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) .. فهي القدرة المطلقة والسلطان الشامل.
هذا هو الكتاب.
أو هو آيات الكتاب. فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه
كله بعد تقريرها.
وما كان لدين
أن يقوم في الأرض ، وأن يقيم نظاما للبشر ، قبل أن يقرر هذه القواعد.
فتوحيد
الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة ؛ وبين
تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ، أو استعبادها للأرباب
المتفرقة ونزواتهم ، وللوسطاء عند الله من خلقه! وللملوك والرؤساء والحكام الذين
يغتصبون أخص خصائص الألوهية ـ وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ـ فيعبّدون
الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة.
وما من نظام
اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي ، يمكن أن يقوم على أسس واضحة
فاصلة ثابتة ، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة ، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد
هكذا بسيطة دقيقة.
وما يمكن أن
يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ؛ ويستمتعوا بالكرامة الحقيقية التي أكرمهم بها
الله ، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ، ويتجرد
منها العبيد في كل صورة من الصور.
وما كان الخلاف
على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام ؛ ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت ،
على ألوهية الله ـ سبحانه ـ للكون ؛ وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس
الكونية : إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ، الذي يحكمهم
بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته؟
لقد كان
الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ، ويذلونهم
بهذا الاغتصاب لسلطان الله ، ويجعلونهم عبيدا لهم من دون الله. وكانت الرسالات
والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائما لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي
الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي .. الله سبحانه ..
والله ـ سبحانه
ـ غني عن العالمين. لا ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة وطغيان الطغاة. ولا يزيد في
ملكه شيئا طاعة الطائعين وعبادة العابدين .. ولكن البشر ـ هم أنفسهم ـ الذين يذلون
ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده ؛ وهم الذين يعزون ويكرمون
ويستعلون حين يدينون لله وحده ، ويتحررون
من العبودية للعبيد .. ولما كان الله ـ سبحانه ـ يريد لعباده العزة
والكرامة والاستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده. وليخرجوهم
من عبادة العبيد .. لخيرهم هم أنفسهم .. والله غني عن العالمين.
إن الحياة
البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن
يدينوا لله وحده ، وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله. ذلك النير المذل
لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان!
والدينونة لله
وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده. والربوبية تعني القوامة على البشر ، وتصريف
حياتهم بشرع وأمر من عند الله ، لا من عند أحد سواه.
وهذا ما يقرر
مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه :
(كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللهَ) ..
وهذا هو معنى
العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم.
والإقرار
بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها. وكل شك في أن هذا
من عند الله ، كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير. والذين يظنون أنها من
عند محمد ـ مهما أقروا بعظمة محمد ـ لا يمكن أن تنال من نفوسهم الاحترام الملزم ،
الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير .. إن الشعور بأن هذه
العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله ،
وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ، فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد.
كما أن الإقرار
بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده الله من البشر. كي يتلقى البشر في كل
ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد ، هو هذا المصدر. وكي لا يقوم كل يوم طاغوت
مفتر يقول للناس قولا ، ويشرع للناس شرعا ، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره! بينما هو
يفتريه من عند نفسه!
وفي كل جاهلية
كان يقوم من يشرع الشرائع ، ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات .. ثم يقول : هذا
من عند الله!!!
وما يحسم هذه
الفوضى وهذا الاحتيال على الناس باسم الله ، إلا أن يكون هناك مصدر واحد ـ هو
الرسول ـ لقول الله.
والاستغفار من
الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة. والتوبة
بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب ، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة. ولا توبة
بغير هذين الدليلين ، فهما الترجمة العملية للتوبة ، وبهما يتحقق وجودها الفعلي ،
الذي ترجى معه المغفرة والقبول .. فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام
، بينما هو لا يدين لله وحده ، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه ؛ فلا قيمة لهذا
الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله ..
والبشرى
للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ، وقوام التبليغ. وهما عنصرا الترغيب
والترهيب ، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق!
والاعتقاد
باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ، وأن الخير الذي تدعو
إليه الرسالات هو غاية الحياة ؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه ؛ فإن لم يلقه في هذه
الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر ، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى
الكمال المقدر لها. أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون
وينتكسون إلى درك العذاب .. وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف. فإن
غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ، ولم تلج في العصيان. ومن ثم
تصلح هذه الأرض لحياة البشر. وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير. فالاعتقاد
باليوم الآخر ليس طريقا للثواب في الآخرة فحسب ـ كما يعتقد بعض الناس ـ إنما هو
الحافز على الخير في الحياة الدنيا. والحافز على إصلاحها وإنمائها. على أن يراعى
في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان
الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه على كثير من خلقه ، ورفعه عن درك الحيوان ؛
لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان ؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع
الحيوان وغاياته.
ومن ثم كان
مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ، بعد توحيد الدينونة لله ،
وإثبات الرسالة من عنده .. الدعوة إلى الاستغفار من الشرك والتوبة .. وهما بدء
الطريق للعمل الصالح. والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام.
إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح ، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج.
والجزاء المشروط :
(يُمَتِّعْكُمْ
مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ..
والمتاع الحسن
قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا. أما في الآخرة فهو بالنوع
والكم وبما لم يخطر على قلب بشر. فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة.
إننا نشاهد
كثيرا من الطيبين الصالحين ، المستغفرين التائبين ، العاملين في الحياة .. مضيقا
عليهم في الرزق. فأين إذن هو المتاع الحسن؟
وهو سؤال نعتقد
أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين!
ولا بد لإدراك
المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ، وننظر
إليها في محيطها الشامل العام ، ولا نقتصر منها على مظهر عابر.
إنه ما من
جماعة يسود فيها نظام صالح ، قائم على الإيمان بالله ، والدينونة له وحده ،
وإفراده بالربوبية والقوامة ، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة .. إلا كان
لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة ؛ وإلا ساد فيها العدل بين
الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة. فإذا شاهدنا في
جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ، فذلك
شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله ، القائم على
العدل بين الجهد والجزاء.
على أن الأفراد
الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا ، حتى لو ضيق عليهم
في الرزق ، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ، كما كان المشركون يؤذون القلة
المؤمنة ، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله. وليس هذا خيالا وليس
ادعاء. فطمأنينة القلب إلى العاقبة ، والاتصال بالله ، والرجاء في نصره وفي إحسانه
وفضله .. عوض عن كثير ؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ.
ولا نقول هذا
لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلا على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية
للعدالة. فالإسلام لا يرضى بهذا ، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع. والجماعة
المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد ، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين
المنتجين. إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله ، المضيق عليهم في
الرزق ، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد
الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله.
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي
فَضْلٍ فَضْلَهُ) ..
خصصها بعض
المفسرين بجزاء الآخرة. وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة ، على النحو الذي فسرنا
به المتاع الحسن في الدنيا ؛ وهو متحقق في جميع الأحوال. وذو الفضل يلقى جزاءه في
اللحظة التي يبذل فيها الفضل. يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا ، واتصالا بالله وهو
يبذل الفضل عملا أو مالا متجها به إلى الله. أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من
الله وسماحة فوق الجزاء.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ..
هو عذاب يوم
القيامة. لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين. فاليوم الكبير حين يطلق هكذا
ينصرف إلى اليوم الموعود. ويقوي هذا ما بعده :
(إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ).
وإن كان المرجع
إلى الله في الدنيا والآخرة وفي كل لحظة وفي كل حالة. ولكن جرى التعبير القرآني
على أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا ..
(وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وهذه كذلك
تقوّي هذا المعنى ، لأن التلويح بالقدرة على كل شيء ، مناسب للبعث الذي كانوا
يستبعدونه ويستصعبونه!
* * *
وبعد إعلان
خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .. يمضي السياق يعرض كيف
يتلقى فريق منهم تلك الآيات ، عند ما يقدمها لهم النذير البشير ، ويصور الوضع
الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم
للتخفي. ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم ؛ وكل
دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق :
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ. أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ،
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..
والآيتان
الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره!
ويا لها من
رهبة غامرة ، وروعة باهرة ، حين يتصور القلب البشري حضور الله ـ سبحانه ـ وإحاطة
علمه وقهره ؛ بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الاستخفاء منه وهم يواجهون آياته
يتلوها رسوله :
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ. أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ) ..
ولعل نص الآية
إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يسمعهم كلام الله ؛ فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من الله الذي
كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام .. وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان!
ولا يكمل
السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة ، والله ، الذي أنزل هذه الآيات ، معهم حين
يستخفون وحين يبرزون. ويصور هذا المعنى ـ على الطريقة القرآنية ـ في صورة مرهوبة ،
وهم في وضع خفي دقيق من أوضاعهم. حين يأوون إلى فراشهم ، ويخلون إلى أنفسهم ،
والليل لهم ساتر ، وأغطيتهم لهم ساتر. ومع
ذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر. يعلم في هذه الخلوة ما
يسرون وما يعلنون :
(أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ..
والله يعلم ما
هو أخفى. وليست أغطيتهم بساتر دون علمه. ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة
أنه وحيد لا يراه أحد. فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه ، ويهزه هزة عميقة إلى
هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها ، فيخيل إليه أن ليس هناك من عين تراه!
(إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) ..
عليم بالأسرار
المصاحبة للصدور ، التي لا تفارقها ، والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه ، أو
المالك ملكه .. فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور. ومع ذلك فالله بها عليم .. وإذن
فما من شيء يخفى عليه ، وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع.
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها ؛ كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..
وهذه صورة أخرى
من صور العلم الشامل المرهوب .. هذه الدواب ـ وكل ما تحرك على الأرض فهو دابة من
إنسان وحيوان وزاحفة وهامة. ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة ،
وتكمن في باطنها ، وتخفى في دروبها ومساربها. ما من دابة من هذه الدواب التي لا
يحيط بها حصر ولا يكاد يلم بها إحصاء .. إلا وعند الله علمها. وعليه رزقها ، وهو
يعلم أين تستقر وأين تكمن. من أين تجيء وأين تذهب .. وكل منها. كل من أفرادها مقيد
في هذا العلم الدقيق.
إنها صورة
مفصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول
تصورها بخياله الإنساني فلا يطيق.
ويزيد على مجرد
العلم ، تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال. وهذه
درجة أخرى ، الخيال البشري عنها أعجز إلا بإلهام من الله ..
وقد أوجب الله ـ
سبحانه ـ على نفسه مختارا أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الأرض. فأودع
هذه الأرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعا ، وأودع هذه المخلوقات
القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض في صورة من صوره. ساذجا خامة
، أو منتجا بالزرع ، أو مصنوعا ، أو مركبا .. إلى آخر الصور المتجددة لإنتاج الرزق
وإعداده. حتى إن بعضها ليتناول رزقه دما حيا مهضوما ممثلا كالبعوضة والبرغوث!!
وهذه هي الصورة
اللائقة بحكمة الله ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها ؛ وخلق هذه
المخلوقات بالاستعدادات والمقدرات التي أوتيتها. وبخاصة الإنسان. الذي استخلف في
الأرض ، وأوتي القدرة على التحليل والتركيب ، وعلى الإنتاج والإنماء ، وعلى تعديل
وجه الأرض ، وعلى تطوير أوضاع الحياة ؛ بينما هو يسعى لتحصيل الرزق ، الذي لا
يخلقه هو خلقا ، وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون من قوى وطاقات أودعها الله
؛ بمساعدة النواميس الكونية الإلهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته
لكافة الأحياء!
وليس المقصود
أن هناك رزقا فرديا مقدرا لا يأتي بالسعي ، ولا يتأخر بالقعود ، ولا يضيع بالسلبية
والكسل ، كما يعتقد بعض الناس! وإلا فأين الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها ،
وجعلها جزاءا من نواميسه؟ وأين حكمة
الله في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات؟ وكيف تترقى الحياة في
مدارج الكمال المقدر لها في علم الله ، وقد استخلف عليها الإنسان ليؤدي دوره في
هذا المجال؟
إن لكل مخلوق
رزقا. هذا حق. وهذا الرزق مذخور في هذا الكون. مقدر من الله في سننه التي ترتب
النتاج على الجهد. فلا يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا
فضة. ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات. حين تطلبها هذه
المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحدا ، ولا تتخلف أو تحيد.
إنما هو كسب
طيب وكسب خبيث ، وكلاهما يحصل من عمل وجهد. إلا أنه يختلف في النوع والوصف. وتختلف
عاقبة المتاع بهذا وذاك.
ولا ننسى
المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا ؛ وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ
الأول. والسياق القرآني المحكم المتناسق لا تفوته هذه اللفتات الأسلوبية
والموضوعية ، التي تشارك في رسم الجو في السياق.
وهاتان الآيتان
الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده. أي أن
يعبدوه وحده. فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه ، وهو الرازق الذي لا يترك أحدا من
رزقه. وهذه المعرفة ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ؛ ولتعبيد البشر للخالق
الرازق العليم المحيط.
* * *
ثم يمضي السياق
في تعريف البشر بربهم ، واطلاعهم على آثار قدرته وحكمته. في خلق السماوات والأرض
بنظام خاص في أطوار أو آماد محكمة ؛ لحكمة كذلك خاصة. يبرز منها السياق هنا ما
يناسب البعث والحساب والعمل والجزاء :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ،
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَلَئِنْ قُلْتَ : إِنَّكُمْ
مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ..
وخلق السماوات
والأرض في ستة أيام تحدثنا عنه في سورة يونس .. وهو يساق هنا للربط بين النظام الذي يقوم عليه الكون
والنظام الذي تقوم عليه حياة الناس.
(لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
والجديد هنا في
خلق السماوات والأرض هو الجملة المعترضة : (وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ) وما تفيده من أنه عند خلق السماوات والأرض أي إبرازهما
إلى الوجود في شكلهما الذي انتهيا إليه كان هناك الماء ؛ وكان عرش الله سبحانه على
الماء ..
أما كيف كان
هذا الماء ، وأين كان ، وفي أية حالة من حالاته كان. وأما كيف كان عرش الله على
هذا الماء .. فزيادات لم يتعرض لها النص ، وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئا على
مدلول النص ، في هذا الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إلا هذا النص وفي حدوده.
وليس لنا أن
نتلمس للنصوص القرآنية مصداقا من النظريات التي تسمى «العلمية» ـ حتى ولو كان ظاهر
النص يتفق مع النظرية وينطبق ـ فالنظريات «العلمية» قابلة دائما للانقلاب رأسا على
عقب ، كلما اهتدى
__________________
العلماء إلى فرض جديد ، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من
الفرض القديم الذي قامت عليه النظرية الأولى. والنص القرآني صادق بذاته ، اهتدى
العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد. وفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية
العلمية. فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة ـ وإن كانت دائما احتمالية وليست قطعية ـ
أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر ، وهي قابلة
للتغيير والتبديل والانقلاب .. ومن ثم لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على
القرآن ، فلها طريق غير طريق القرآن. ومجال غير مجال القرآن وتلمّس موافقات من
النظريات «العلمية» للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين
بصحة ما فيه ، وأنه من لدن حكيم خبير. هزيمة ناشئة من الفتنة «بالعلم» وإعطائه
أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته. فلينتبه إلى دبيب
الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على «العلم» يخدم القرآن ويخدم العقيدة
، ويثبت الإيمان! إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة ليثبت لهو
إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه! إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو
تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها
القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته ، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها
بتجاربه ، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والاستقامة والسلامة ، وتحريره من
الوهم والأسطورة والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن
يستقيم ، وأن يتحرر ، وأن يعيش في سلام ونشاط .. ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته
الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من
الحقائق العلمية إلا نادرا. مثل أن الماء أصل الحياة والعنصر المشترك في جميع
الأحياء. ومثل أن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه فهو يحتوي على
خلايا التذكير والتأنيث ... وأمثال هذه الحقائق. التي صرحت بها النصوص القرآنية .
ونعود من هذا
الاستطراد إلى النص القرآني نتملاه في مجاله الأصيل. مجال بناء العقيدة وتصريف
الحياة :
(وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ـ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْماءِ ـ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ..
خلق السماوات
والأرض في ستة أيام .. وهنا فقرات كثيرة محذوفة يشير إليها ما بعدها فيغني عنها ..
خلقها في هذا الأمد ، لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري ، وخلقكم وسخر
لكم الأرض وما يفيدكم من السماوات .. وهو سبحانه مسيطر على الكون كله .. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) .. والسياق يظهر كأن خلق السماوات والأرض في ستة أيام ـ
مع سيطرة الله سبحانه على مقاليده ـ كان من أجل ابتلاء الإنسان. ليعظم هذا الابتلاء
ويشعر الناس بأهميتهم وبجدية ابتلائهم.
وكما جهز
الخالق هذه الأرض وهذه السماوات بما يصلح لحياة هذا الجنس ، جهز هذا الجنس كذلك
باستعدادات وطاقات ؛ وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون ؛ وترك له جانبا
اختياريا في حياته ، يملك معه أن يتجه إلى الهدى فيعينه الله عليه ويهديه ، أو أن
يتجه إلى الضلال فيمد الله له فيه ، وترك الناس يعملون ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.
يبلوهم لا للعلم فهو يعلم. ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم ، فيتلقوا جزاءهم
عليها كما اقتضت إرادة الله وعدله.
__________________
ومن ثم يبدو
التكذيب بالبعث والحساب والجزاء عجيبا غريبا في هذا الجو. بعد ما يذكر أن الابتلاء
مرتبط بتكوين السماوات والأرض. أصيل في نظام الكون وسنن الوجود.
ويبدو المكذبون
به غير معقولين وغير مدركين للحقائق الكبيرة في تكوين هذا الوجود ، وهم يعجبون
لهذه الحقائق وبها يفاجأون :
(وَلَئِنْ قُلْتَ :
إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا :
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ..
فما أعجبها
قولة ، وما أغربها ، وما أكذبها في ظل هذا البيان الذي تقدمها!
* * *
شأنهم في
التكذيب بالبعث ، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ، هو شأنهم في مسألة العذاب
الدنيوي ، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية
أن يتأخر عنهم فترة من الوقت :
(وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا
يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ).
لقد كانت
القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها ، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق
التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب. ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس
، ولجيل واحد من هذه الأمة. والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل ، ولا تبقى
لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة.
فأما الرسالة
المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات ، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال ، وكانت المعجزة
التي صاحبتها معجزة غير مادية ، فهي قابلة للبقاء ، قابلة لأن تتدبرها أجيال
وأجيال ، وتؤمن بها أجيال وأجيال ، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب
الاستئصال. وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم .. وكذلك كان الحال في
الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ، فلم يعم فيهم عذاب الاستئصال.
ولكن المشركين
في جهلهم بنواميس الله الخاصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الاختيار
والاتجاه ؛ وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون
البعث. وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر
عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام ـ أي مجموعة منها ـ ما يحبسه؟ وما يؤخره؟ فلا
يدركون حكمة الله ولا رحمته. وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ، بل يحيط بهم ، جزاء
لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم :
(أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ).
إن عذاب الله
لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة. وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة. ليؤمن من يتهيأ
للإيمان.
وفي فترة
التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش ، كم آمن منهم من رجال حسن
إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء. وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام ..
وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن. ولكن البشر القاصرين العجولين لا
يعلمون ..
* * *
وبمناسبة
استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق الإنساني العجيب ، الذي لا
يثبت ولا يستقيم إلا بالإيمان :
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ،
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ : ذَهَبَ
السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ..
إنها صورة
صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر ، الذي يعيش في لحظته الحاضرة ، ويطغى عليه ما
يلابسه ؛ فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي. فهو يؤوس من الخير ، كفور بالنعمة
بمجرد أن تنزع منه. مع أنها كانت هبة من الله له. وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز
الشدة إلى الرخاء. لا يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل في رحمة الله ويرجو فرجه ؛ ولا
يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حسابا ..
(إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا) ..
صبروا على
النعمة كما صبروا على الشدة ، فإن كثيرا من الناس يصبرون على الشدة تجلدا وإباء أن
يظهر عليهم الضعف والخور ، ولكن القلة هي التي تصبر على النعمة فلا تغتر ولا تبطر
..
(وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) ..
في الحالين. في
الشدة بالاحتمال والصبر ، وفي النعمة بالشكر والبر.
(أُولئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ..
بما صبروا على
الضراء وبما شكروا في السراء.
إن الإيمان
الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في
الشدة ؛ كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء. وهو الذي يقيم القلب البشري على
سواء في البأساء والنعماء ؛ ويربطه بالله في حاليه ، فلا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق
البأساء. ولا يتنفج ويتعالى عند ما تغمره النعماء .. وكلا حالي المؤمن خير. وليس
ذلك إلا للمؤمن كما يقول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم.
* * *
أولئك الجاهلون
بحكمة الخلق وبسنن الكون ـ وهم أفراد من هذا الإنسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور
الفرح الفخور ـ الذين لا يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون الرسول
ملكا أو أن يصاحبه ملك ؛ ولا يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز! ..
أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في التكذيب والعناد .. ما تراك صانعا معهم
أيها الرسول؟
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا : لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ..
ولعل هنا تحمل
معنى الاستفهام. وهو ليس استفهاما خالصا ، إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس
البشرية أن تضيق صدرا بهذا الجهل ، وبهذا التعنت ، وبهذه الاقتراحات السخيفة التي
تكشف عن بعد كامل عن إدراك طبيعة الرسالة ووظيفتها. فهل سيضيق صدرك ـ يا محمد ـ وهل
سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض ما أنزل إليك فلا تبلغه لهم ، كي لا يقابلوه بما
اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل؟
كلا. لن تترك
بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا :
(إِنَّما أَنْتَ
نَذِيرٌ) ..
فواجبك كله أن
تنذرهم ـ وأبرز صفة النذير هنا لأن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلاء ـ فأد واجبك :
(وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ) ..
فهو الموكل بهم
، يصرفهم كيف يشاء وفق سنته ، ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون. ولست أنت موكلا
بكفرهم أو إيمانهم. إنما أنت نذير.
وهذه الآية تشي
بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة ؛ وما كان يعتور صدر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الضيق. كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة ، في الوقت
الذي هلك فيه العشير والنصير ؛ وغمرت الوحشة قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلائل في هذه الجاهلية المحيطة ..
ومن بين كلمات
الآية نحس جوا مكروبا تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة ، وتسكب فيه
الطمأنينة ، وتريح الأعصاب والقلوب!
* * *
وقولة أخرى
يقولونها. وقد قالوها مرارا : إن هذا القرآن مفترى. فتحدّهم إذن أن يفتروا عشر سور
كسوره ، وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الافتراء :
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ؟ قُلْ : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ. وَادْعُوا
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
ولقد سبق أن
تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس ، فما التحدي بعد ذلك بعشر سور؟
قال المفسرون
القدامى : إن التحدي كان على الترتيب : بالقرآن كله ، ثم بعشر سور ، ثم بسورة
واحدة. ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل. بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي
فيها بسورة واحدة ، وسورة هود لا حقة والتحدي فيها بعشر سور. وحقيقة إن ترتيب
الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور. فقد كانت تنزل الآية فتلحق
بسورة سابقة أو لا حقة في النزول. إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبته. وليس في أسباب
النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا
يجوز.
ولقد حاول
السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد «عشر سور» علة ، فأجهد نفسه
طويلا ـ رحمة الله عليه ـ ليقول : إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ، وأنه
بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود
كانت عشرا. فتحداهم بعشر .. لأن تحديهم بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم
بعشر نظرا لتفرق القصص وتعدد أساليبه ، واحتياج المتحدي إلى عشر سور كالتي ورد
فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكى .. إلخ
ونحسب ـ والله
أعلم ـ أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد. وأن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين
وظروف القول ، لأن القرآن كان يواجه حالات واقعة محددة مواجهة واقعة محددة. فيقول
مرة : ائتوا بمثل هذا القرآن. أو ائتوا بسورة ، أو بعشر سور. دون ترتيب زمني. لأن
الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن. كله أو بعضه أو سورة
منه على السواء. فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره. والعجز كان عن النوع لا
عن المقدار. وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب ، إنما هو
__________________
مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون ، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في
هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن.
ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن.
(وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
ادعوا شركاءكم
وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم. وأتوا بعشر سور فقط مفتريات ، إن كنتم
صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله!
(فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ..
ولم يقدروا على
افتراء عشر سور ، لأنهم عاجزون عن أن يقدموا لكم عونا في هذه المهمة المتعذرة!
وعجزتم أنتم بطبيعة الحال ، لأنكم لم تدعوهم لتستعينوا بهم إلا بعد عجزكم!
(فَاعْلَمُوا أَنَّما
أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) ..
فهو وحده
القادر على أن ينزله ، وعلم الله وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل
به ، متضمنا ما تضمنه من دلائل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر ، وماضيهم
وحاضرهم ومستقبلهم ، وما يصلح لهم في نفوسهم وفي معاشهم ...
(وَأَنْ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) ..
فهذا مستفاد
كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها الله. فلا بد أن
يكون هناك إله واحد هو القادر وحده على تنزيل هذا القرآن.
ويعقب على هذا
التقرير الذي لا مفر من الإقرار به بسؤال لا يحتمل إلا جوابا واحدا عند غير
المكابرين المتعنتين. سؤال :
(فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ؟) ..
بعد هذا التحدي
والعجز ودلالته التي لا سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم؟.
ولكنهم ظلوا
بعدها يكابرون!!!
لقد كان الحق
واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع
وسلطان ، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة ..
داعي لا إله إلا الله .. لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم
فيقول :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
إن للجهد في
هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته
المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها ، فإنه يلقى نتيجة
عمله في هذه الدنيا ؛ ويتمتع بها كما يريد ـ في أجل محدود ـ ولكن ليس له في الآخرة
إلا النار ، لأنه لم يقدم للآخرة شيئا ، ولم يحسب لها حسابا ، فكل عمل الدنيا
يلقاه في الدنيا. ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط (من حبطت الناقة
إذا انتفخ بطنها من المرض) وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو
مؤد إلى الهلاك!
ونحن نشهد في
هذه الأرض أفرادا اليوم وشعوبا وأمما تعمل لهذه الدنيا ، وتنال جزاءها فيها.
ولدنياها
زينة ، ولدنياها انتفاخ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل : لما ذا؟ لأن هذه
هي سنة الله في هذه الأرض : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ).
ولكن التسليم
بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه ـ
ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع ـ فينالوا زينة الحياة الدنيا
لا يبخسون منها شيئا ، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى.
إن العمل
للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى
الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره ؛ بل تزيد
وتبارك الجهد والثمر ، وتجعل الكسب طيبا والمتاع به طيبا. ثم تضيف إلى متاع الدنيا
متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا
في الأخرى فحسب ، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي
حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون.
بعد ذلك يلتفت
السياق إلى موقف المشركين من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما جاءه من الحق ؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ،
وأنه مرسل من عنده ؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله. يلتفت السياق إلى هذا الحشد
من الأدلة المحيطة بالنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبدعوته ورسالته. ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المؤمنة معه. ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار
؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو
والاستكبار ؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن
يفلتوا من عذاب الله ؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء .. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ
هُمُ الْأَخْسَرُونَ) .. وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية
مشهودة ؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في
الدنيا وفي الآخرة سواء :
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ
مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ؛ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ ؛ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ،
أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ،
وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا
إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..
إن طول هذه
الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا .. إن
هذا كله يشيء بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ
الدعوة ؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية ؛ كما يصور
لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا.
إن هذا القرآن
لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها
ليواجهها ويوجهها. والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون. يدرسونه
دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة
الساكنة ؛ بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة .. إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف
للقاعدين أبدا ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير
الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله!
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ
مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ..
وردت روايات
شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) .. وفي قوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ
مِنْهُ). وفي عائد هذه الضمائر في : «ربه» وفي «يتلوه» وفي «منه»
.. وأرجحها ـ كما يبدو لي ـ هو أن المقصود بقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ) هو رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به ـ وأن المقصود بقوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته. وهو هذا
القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر. (وَمِنْ قَبْلِهِ) ـ أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن ؛ «كتاب موسى» يشهد كذلك بصدق النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سواء بما تضمنه من البشارة به ؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من
بعده.
والذي يرجح هذا
عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة ـ في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ،
من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون
بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة. فنوح ـ عليهالسلام ـ يقول لقومه : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ، أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟) .. وصالح عليهالسلام يقول الكلمة ذاتها : «قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على
بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير»
.. وشعيب عليهالسلام يقولها كذلك : «قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من
ربي ، ورزقني منه رزقا ..» فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ،
تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستقينة لحقيقة الألوهية في نفوسهم
؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا .. وهذا التوحيد في التعبير عن الحال
الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة ـ كما أسلفنا في التعريف بها ـ لإثبات أن شأن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله ؛ مما يبطل
دعاوى المشركين المفتراة عليه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم ؛ فهو الحق
الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا.
ويكون المعنى
الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه
ويقينه .. حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه. وحيث يتبعه ـ أو يتبع يقينه
هذا ـ شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني. وحيث يقوم على
تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من
الله تنزلت عليهم. وهو يصدق رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول
الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله ..
يقول : أفمن
كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من
شتى فئات المشركين؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى
الجهات ..
ثم يعرض مواقف
الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء
في الآخرة. ويعرج على تثبيت الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والذين يؤمنون بما معه من الحق ؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم
كثرة الناس في ذلك الحين :
(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ
فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ..
وقد وجد بعض
المفسرين إشكالا في قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) إذا كان المقصود بقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) هو شخص رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كما أسلفنا .. فإن «أولئك» تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة ..
ولا إشكال هناك. فالضمير في قوله تعالى (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) يعود على «شاهد» وهو القرآن. وكذلك الضمير في قوله
تعالى (وَمِنْ قَبْلِهِ) فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا .. فلا إشكال في أن
يقول : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) ـ أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن ـ والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ...) كما جاء في آية البقرة .. والآية هنا تشير إلى رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه .. وهو أمر
مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) ..
وهو موعد لا
يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره!
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ) ..
وما شك رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أوحي إليه ، ولا امترى ـ وهو على بينة من ربه ـ ولكن هذا التوجيه
الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى
التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت. وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق
وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم.
وما أحوج طلائع
البعث الإسلامي ؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ؛ ويتآزر عليها الصد
والإعراض ، والسخرية والاستهزاء ، والتعذيب والإيذاء ؛ والمطاردة بكل صورها
المادية والمعنوية ؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية ؛
وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن
يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة ...
ما أحوج هذه
الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل
إيماءة! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ) ..
وما أحوجها إلى
أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من
بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ؛ ومن التزام بالمضي في
الطريق مهما تكن عقبات الطريق :
(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ..)
إن هذه الطلائع
تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم
جميعا ـ وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون .. لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى البشرية كلها بهذا الدين ؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد
الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف
وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين!
إنها الجاهلية
التي تعترف بوجود الله ـ سبحانه ـ أو لا تعترف. ولكنها تقيم للناس أربابا في الأرض
يحكمونهم بغير ما أنزل الله ؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل
دينونتهم لهذه الأرباب لا لله .. ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه
الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى
الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ؛ ويدينون له وحده. فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه
، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه .. ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك
والتوحيد. وبين الجاهلية والإسلام. وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في
أرجاء الأرض والأصنام!
ومن ثم لا بد
لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان ..
وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : «إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه
المعركة. ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين
يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون
أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيدا عن المعركة ،
وبعيدا عن الحركة ...».
* * *
ثم يمضي السياق
يواجه الذين يكفرون به ؛ ويزعمون أنه مفترى من دون الله ، ويكذبون على الله سبحانه
وعلى رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على الله الكذب.
سواء بقولهم : إن الله لم ينزل هذا الكتاب ، أو بادعائهم شركاء لله. أو بدعواهم في
الربوبية الأرضية وهي من خصائص الألوهية .. يجمل النص هنا الإشارة لتشمل كل ما
يوصف بأنه كذب على الله.
هؤلاء يعرضون
في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. وفي الجانب الآخر
المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم. ويضرب للفريقين مثلا : الأعمى
والأصم والبصير والسميع :
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ،
وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ. أَلا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ، ما كانُوا
يَسْتَطِيعُونَ
السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ
هُمُ الْأَخْسَرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ
وَالسَّمِيعِ. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟).
إن افتراء
الكذب في ذاته جريمة نكراء ، وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب. فما بال حين
يكون هذا الافتراء على الله؟
(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ
عَلى رَبِّهِمْ ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى
رَبِّهِمْ).
إنه التشهير
والتشنيع. بالإشارة : «هؤلاء» .. (هؤُلاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا) .. وعلى من؟ (عَلى رَبِّهِمْ) لا على أحد آخر! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا
المشهد ، تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة :
(أَلا لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) ..
يقولها الأشهاد
كذلك. والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون ، أو هم الناس أجمعون. فهو الخزي
والتشهير ـ إذن ـ في ساحة العرض الحاشدة! أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى
جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد :
(أَلا لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) ..
والظالمون هم
المشركون. وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله.
(وَيَبْغُونَها
عِوَجاً) ..
فلا يريدون الاستقامة
ولا الخطة المستقيمة ، إنما يريدونها عوجا والتواء وانحرافا. يريدون الطريق أو
يريدون الحياة أو يريدون الأمور .. كلها بمعنى .. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كافِرُونَ) ويكرر «هم» مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في
مقام التشهير.
والذين يشركون
بالله ـ سبحانه ـ وهم الظالمون ـ إنما يريدون الحياة كلها عوجا حين يعدلون عن
استقامة الإسلام. وما تنتج الدينونة لغير الله ـ سبحانه ـ إلا العوج في كل جانب من
جوانب النفس ، وفي كل جانب من جوانب الحياة.
إن عبودية
الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على
الكرامة. وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل.
وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر ، والنفخ
فيها دائما لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي. ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة
هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي ، فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب
، وهمّ مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار ، ويسلطون عليها الأضواء والأنظار ،
ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح ، حتى يستحيل الجهد البشري
كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد
المقيم .. فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء؟!
«أولئك» ..
البعداء
المبعدون الملعونون.
(لَمْ يَكُونُوا
مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ..
فلم يكن أمرهم
معجزا لله ، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا ..
(وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) ..
ينصرونهم أو
يمنعونهم من الله. إنما تركهم لعذاب الآخرة ، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة :
(يُضاعَفُ لَهُمُ
الْعَذابُ) ..
فقد عاشوا
معطلي المدارك مغلقي البصائر ؛ كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر :
(ما كانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) ..
(أُولئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ..
وهي أفدح
الخسارة ، فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئا مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم
فأضاعوها في الدنيا ، لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الارتفاع عن
الدينونة لغير الله من العبيد. كما تتمثل في الارتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع ـ مع
المتاع بها ـ إلى ما هو أرقى وأسمى. وذلك حين كفروا بالآخرة ، وحين كذبوا على ربهم
غير متوقعين لقاءه. وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم ، وبهذا
العذاب الذي ينتظرهم ..
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) ..
غاب عنهم فلم
يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على الله. فقد تبدد وذهب
وضاع.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ..
الذين لا تعدل
خسارتهم خسارة. وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى.
وفي الجانب
الآخر أهل الإيمان والعمل الصالح ، المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه
لا يشكون ولا يقلقون :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ، أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
والإخبات
الطمأنينة والاستقرار والثقة والتسليم .. وهي تصور حال المؤمن مع ربه ، وركونه
إليه واطمئنانه لكل ما يأتي به ، وهدوء نفسه وسكون قلبه ، وأمنه واستقراره ورضاه :
(مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟) ..
صورة حسية
تتجسم فيها حالة الفريقين. والفريق الأول كالأعمى لا يرى وكالأصم لا يسمع ـ والذي
يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها ، وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل
، ليدرك ويتدبر فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس ـ والفريق الثاني كالبصير
يرى وكالسميع يسمع ، فيهديه بصره وسمعه.
(هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثَلاً؟) ...
سؤال بعد
الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة لأنها إجابة مقررة.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ..
فالقضية في
وضعها هذا لا تحتاج إلى أكثر من التذكر. فهي بديهية لا تقتضي التفكير ..
وتلك وظيفة
التصوير الذي يغلب في الأسلوب القرآني في التعبير .. أن ينقل القضايا التي تحتاج
لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير ..
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(٢٥) أَنْ
لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
(٢٦) فَقالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ
الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ
(٢٧) قالَ
يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها
كارِهُونَ (٢٨) وَيا
قَوْمِ
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا
بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي
مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(٣٠) وَلا
أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ
إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ
لَنْ
يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً
لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ
(٣٢) قالَ
إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
(٣٣) وَلا
يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ
أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ
مَنْ
قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ
(٣٦) وَاصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا
إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ
كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ
(٣٩) حَتَّى
إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
(٤٠) وَقالَ
ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(٤١) وَهِيَ
تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبالِ
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ
مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)
قالَ
سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ
الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(٤٤)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ
أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
(٤٩)
القصص في هذه
السورة هو قوامها ؛ ولكنه لم يجىء فيها مستقلا ، إنما جاء مصداقا للحقائق الكبرى
التي جاءت السورة لتقريرها. والتي أجملها السياق في مطلع السورة : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي
لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ
ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ كَبِيرٍ ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وقد تضمن مطلع
السورة جولات متعددة حول هذه الحقائق. جولات في ملكوت السماوات والأرض ، وفي جنبات
النفس ، وفي ساحة الحشر .. ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الأرض وأطواء
التاريخ مع قصص الماضين .. يستعرض حركة العقيدة الإسلامية في مواجهة الجاهلية على
مدار القرون.
والقصص هنا
مفصل بعض الشيء ـ وبخاصة قصة نوح والطوفان ـ وهو يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة
التي وردت في مطلع السورة ، والتي يجيء كل رسول لتقريرها ، وكأنما المكذبون هم
المكذبون ، وكأنما طبيعتهم واحدة ، وعقليتهم واحدة على مدار التاريخ.
ويتبع القصص في
هذه السورة خط سير التاريخ ، فيبدأ بنوح ، ثم هود ، ثم صالح ، ويلم بإبراهيم في
الطريق إلى لوط ، ثم شعيب ، ثم إشارة إلى موسى .. ويشير إلى الخط التاريخي ، لأنه
يذكر التالين بمصير السالفين على التوالي بهذا الترتيب :
ونبدأ بقصة نوح
مع قومه. أول هذا القصص في السياق. وأوله في التاريخ :
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ. إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللهَ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ..
إنها تكاد تكون
الألفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وهذه
المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير وحدة
الرسالة ووحدة العقيدة ، حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها. وذلك مع تقدير أن
المحكي هنا هو معنى ما قاله نوح ـ عليهالسلام ـ لا ألفاظه. وهو الأرجح. فنحن لا ندري بأية لغة كان نوح يعبر.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ : إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
ولم يقل قال :
إني .. لأن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية.
وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه يلخص
وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة :
(إِنِّي لَكُمْ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
وهو أقوى في
تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين.
ومرة أخرى
يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة :
(أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) ..
فهذا هو قوام الرسالة
، وقوام الإنذار. ولما ذا؟
(إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ..
فيتم الإبلاغ
ويتم الإنذار ، في هذه الكلمات القصار ..
واليوم ليس
أليما. إنما هو مؤلم. والأليم ـ اسم مفعول أصله : مألوم! ـ إنما هم المألومون في
ذلك اليوم. ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا ، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل
بالألم ، شاعر به ، فما بال من فيه؟
(فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ، وَما
نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ، وَما نَرى
لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) ..
ذلك رد العلية
المتكبرين .. الملأ .. كبار القوم المتصدرين .. وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش :
ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ـ بادي الرأي ـ وما
نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين.
الشبهات ذاتها
، والاتهامات ذاتها ، والكبرياء ذاتها ، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي!
إنها الشبهة
التي وقرت في نفوس جهال البشر : أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله ؛ فإن تكن
رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر. وهي شبهة جاهلة ، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق
الذي استخلفه الله في أرضه ، وهي وظيفة خطيرة ضخمة ، لا بد أن يكون الخالق قد أودع
في هذا الإنسان ما يكافئها من الاستعداد والطاقة ، وأودع في جنسه القدرة على أن
يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة ، باختيار الله لهم ، وهو أعلم بما أودع
في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه.
وشبهة أخرى
جاهلة كذلك. هي أنه إذا كان الله يختار رسولا ، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ
الكبراء في قومهم ، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق
الإنساني ، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه ، واستحق حمل رسالة الله
بخصوصيته في المختارين من صفوفه. وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة
في الأرض ، إنما هي في صميم النفس ، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى ، بما فيها
من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي ، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على
إبلاغها .. إلى آخر صفات النبوة الكريمة .. وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو
استعلاء!
ولكن الملأ من
قوم نوح ، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص
العلوية ، فلا يدركون مبررا لاختصاص الرسل بالرسالة. وهي في زعمهم لا تكون لبشر.
فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض!
(ما نَراكَ إِلَّا
بَشَراً مِثْلَنا) ..
هذه واحدة ..
أما الأخرى فأدهى :
(وَما نَراكَ
اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ، بادِيَ الرَّأْيِ)!!
وهم يسمون
الفقراء من الناس «أراذل» .. كما ينظر الكبراء دائما إلى الآخرين الذين لم يؤتوا
المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا ؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلى
الاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء ، وتصل القلوب بإله واحد
قاهر عال على الأعلياء. ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف ، ولم تعوقها المصالح
والمظاهر عن الاستجابة ؛ ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة
مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها. وأول صور
الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلا من الاتجاه
بهذا كله لله وحده دون شريك. فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في
كل طور وفي كل أرض. ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما ، ويصدون عنها الجماهير ؛
ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير.
(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) ..
أي دون ترو ولا
تفكير .. وهذه تهمة كذلك توجه دائما من الملأ العالين لجموع المؤمنين .. أنها لا
تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات. ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ، ولا
يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ، ولا أن يسلكوا طريقها. فإذا كان الأراذل يؤمنون ،
فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل ؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون!
(وَما نَرى لَكُمْ
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ..
يدمجون الداعي
بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ، أو أعرف
بالصواب. فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لاهتدينا إليه ، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم
يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه. قياس الفضل بالمال ، والفهم
بالجاه ، والمعرفة بالسلطان .. فذو المال أفضل. وذو الجاه أفهم. وذو السلطان أعرف!!!
هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع ، أو
تضعف آثارها ، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ، وإلى تقاليد الوثنية في صورة
من صورها الكثيرة. وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب . وهي انتكاسة للبشرية من غير شك ، لأنها تصغر من القيم
التي بها صار الإنسان إنسانا ، واستحق الخلافة في الأرض ، وتلقى الرسالة من السماء
؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية!
(بَلْ نَظُنُّكُمْ
كاذِبِينَ) ...
وهي التهمة
الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه. ولكنهم على طريقة طبقتهم .. «الأرستقراطية»
.. يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق «بالأرستقراط!» «بل نظنكم!» لأن اليقين الجازم
في القول والاتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة ـ بادي الرأي ـ التي يترفع عنها
السادة المفكرون المتحفظون!
إنه النموذج
المتكرر من عهد نوح ، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ، المتعاظمة
المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!!
ويتلقى نوح ـ عليهالسلام ـ الاتهام والإعراض والاستكبار ، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته
بالحق الذي جاء به ، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله ؛ وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة
منهجه في شعوره. فلا يشتم كما شتموا ، ولا يتهم كما اتهموا ، ولا يدعي كما ادعوا ،
ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهرا غير حقيقته ولا على رسالته شيئا غير طبيعتها ..
(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟ وَيا
قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَما
أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، وَلكِنِّي
أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ
طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ وَلا أَقُولُ لَكُمْ : عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ
، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ : إِنِّي مَلَكٌ ، وَلا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ : لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً. اللهُ
أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ..
«يا قوم» .. في
سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه ، ونسبة نفسه إليهم. إنكم تعترضون فتقولون : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) .. فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي ، بيّن في
نفسي مستيقن في شعوري. وهي خاصية لم توهبوها. وإن كان الله آتاني رحمة من عنده
باختياري للرسالة ، أو آتاني من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة ـ وهذه رحمة ولا
شك عظيمة ـ ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية ، لأنكم غير متهيئين
لإدراكها ، وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها. «أنلزمكموها؟ » إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها
والإيمان بها (وَأَنْتُمْ لَها
كارِهُونَ)!
وهكذا يتلطف
نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم ،
والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والاختيار لها : ويبصرهم بأن الأمر ليس
موكولا إلى الظواهر
__________________
السطحية التي يقيسون بها. وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم.
مبدأ الاختيار في العقيدة ، والاقتناع بالنظر والتدبر ، لا بالقهر والسلطان
والاستعلاء!
(وَيا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً ، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَما أَنَا
بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ).
يا قوم إن
الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا ، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا. إنني لا
أطلب مالا على الدعوة ، حتى أكون حفيا بالأثرياء غير حفي بالفقراء ؛ فالناس كلهم
عندي سواء .. ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء ..
(إِنْ أَجرِيَ إِلَّا
عَلَى اللهِ) ..
عليه وحده دون
سواه.
(وَما أَنَا بِطارِدِ
الَّذِينَ آمَنُوا) ..
ونفهم من هذا
الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله ، حتى يفكروا هم في الإيمان به ،
لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل ، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد! ـ لست
بطاردهم ، فهذا لا يكون مني. لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي :
(إِنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ) .. (وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ) ..
تجهلون القيم الحقيقية
التي يقدر بها الناس في ميزان الله. وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله.
(وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..
فهناك الله. رب
الفقراء والأغنياء. رب الضعفاء والأقوياء. هناك الله يقوّم الناس بقيم أخرى.
ويزنهم بميزان واحد. هو الإيمان. فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته.
(وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟) ..
من يعصمني من
الله إن أنا أخللت بموازينه ، وبغيت على المؤمنين من عباده ـ وهم أكرم عليه ـ وأقررت
القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدّ لها لا لأتبعها؟
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) ..
وقد أنساكم ما
أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟
ثم يقدم لهم
شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة. يقدمها
لهم في معرض التذكير ، ليقرر لهم القيم الحقيقية ، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية ،
بتخلية عنها ، وتجرده منها. فمن شاء الرسالة كما هي ، بقيمها ، بدون زخرف ، بدون
ادعاء ، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله :
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ
عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ..) فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء ...
(وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ) ..
فأدعي قدرة
ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة ..
(وَلا أَقُولُ :
إِنِّي مَلَكٌ) ..
فأدعي صفة أعلى
من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم ، وأفضل نفسي بذاتي عليكم ..
(وَلا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) ..
إرضاء
لكبريائكم ، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية.
(اللهُ أَعْلَمُ بِما
فِي أَنْفُسِهِمْ) ..
فليس لي إلا
ظاهرهم ، وظاهرهم يدعو إلى التكريم ، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيرا ..
(إِنِّي إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ) ..
إن ادعيت أية
دعوى من هذه الدعاوي. الظالمين للحق وقد جئت أبلغه ؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب
الله ؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله.
وهكذا ينفي نوح
ـ عليهالسلام ـ عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه
في الرسول والرسالة. ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج
إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية. ويردهم في نصاعة الحق وقوته ، مع سماحة القول
ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها ، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها. بلا ملق ولا
زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة. فيعطي أصحاب الدعوة في
أجيالها جميعا ، نموذجا للداعية ، ودرسا في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد ،
دون استرضاء لتصوراتهم ، ودون ممالأة لهم ، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس!
وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة ؛ فإذا هم ـ على
عادة طبقتهم ـ قد أخذتهم العزة بالإثم ، واستكبروا أن تغلبهم الحجة ، وأن يذعنوا
للبرهان العقلي والفطري. وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي :
(قالُوا : يا نُوحُ
قَدْ جادَلْتَنا ، فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ) ..
إنه العجز يلبس
ثوب القدرة ، والضعف يرتدي رداء القوة ؛ والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الاستهانة
والتحدي :
(فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ..
وأنزل بنا
العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك ، ولسنا نبالي وعيدك.
أما نوح فلا
يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم ، ولا يقعده عن بيان الحق لهم ،
وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم
، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول ، وليس عليه إلا البلاغ ، أما
العذاب فمن أمر الله ، وهو الذي يدبر الأمر كله ، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب
أو تأجيله ، وسنته هي التي تنفذ .. وما يملك هو أن يردها أو يحولها .. إنه رسول. وعليه
أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة ، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم
يكذبونه ويتحدونه : (قالَ : إِنَّما
يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلا
يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ـ إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ـ إِنْ كانَ اللهُ
يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..
فإذا كانت سنة
الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ، فإن هذه السنة ستمضي فيكم ، مهما بذلت لكم من
النصح. لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح ، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل
سنة الله تقتضي أن تضلوا ،
وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم ، فأنتم دائما في قبضته ، وهو
المدبر والمقدر لأمركم كله ، ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه :
(هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..
* * *
وعند هذا
المقطع من قصة نوح ، يلتفت السياق لفتة عجيبة ، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه
القصة ، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ودعواهم أن محمدا يفتري هذا القصص. فيرد هذا القول قبل أن يمضي في
استكمال قصة نوح :
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ؟ قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي ، وَأَنَا بَرِيءٌ
مِمَّا تُجْرِمُونَ) ..
فالافتراء
إجرام ، قل لهم : إن كنت فعلته فعليّ تبعته. وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن
أرتكبه ، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك
والتكذيب.
وهذا الاعتراض
لا يخالف سياق القصة في القرآن ، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق.
* * *
ثم يمضي السياق
في قصة نوح ؛ يعرض مشهدا ثانيا. مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره :
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. فَلا تَبْتَئِسْ
بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، وَلا
تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ..
فقد انتهى
الإنذار ، وانتهت الدعوة ، وانتهى الجدل!
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ..
فالقلوب
المستعدة للإيمان قد آمنت ، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه. هكذا أوحى
الله إلى نوح ، وهو أعلم بعباده ، وأعلم بالممكن والممتنع ، فلم يبق مجال للمضي في
دعوة لا تفيد. ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء :
(فَلا تَبْتَئِسْ بِما
كانُوا يَفْعَلُونَ) ..
أي لا تحس
بالبؤس والقلق ، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم ، لا على نفسك فما هم
بضاريك بشيء ، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم.
دع أمرهم فقد
انتهى ..
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) ..
برعايتنا
وتعليمنا.
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا ، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ..
فقد تقرر
مصيرهم وانتهى الأمر فيهم. فلا تخاطبني فيهم .. لا دعاء بهدايتهم ، ولا دعاء عليهم
ـ وقد ورد في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم ، والمفهوم أن اليأس كان بعد
هذا الوحي ـ فمتى انتهى القضاء امتنع الدعاء ..
* * *
والمشهد الثالث
من مشاهد القصة : مشهد نوح يصنع الفلك ، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم :
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ : قالَ : إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ..
والتعبير
بالمضارع. فعل الحاضر .. هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته. فنحن نراه ماثلا
لخيالنا من وراء هذا التعبير. يصنع الفلك. ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون
به فيسخرون. يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم : إنه رسول ويدعوهم ، ويجادلهم
فيطيل جدالهم ؛ ثم إذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا .. إنهم يسخرون لأنهم لا يرون
إلا ظاهر الأمر ، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر. شأنهم دائما في إدراك الظواهر
والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير. فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في
اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية :
(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا
مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) ..
نسخر منكم
لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير :
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ..
أنحن أم أنتم.
يوم ينكشف المستور ، عن المحذور!
* * *
ثم مشهد
التعبئة عند ما حلت اللحظة المرتقبة :
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ، قُلْنَا : احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ ، وَأَهْلَكَ ـ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ـ وَمَنْ آمَنَ ،
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ : ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها ، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
وتتفرق الأقوال
حول فوران التنور ، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا ، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها
وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل ، في هذا الغيب
الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص ، وفي حدود مدلوله بلا زيادة.
وأقصى ما نملك
أن نقوله : إن فوران التنور ـ والتنور الموقد ـ قد يكون بعين فارت فيه ، أو بفوارة
بركانية. وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح ، أو كان مصاحبا مجرد
مصاحبة لمجيء الأمر ، وبدءا لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء. وسح الوابل من
السماء.
لما حدث هذا (قُلْنَا : احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ...) كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة
واحدة في حينها. فقد أمر أولا بصنع الفلك فصنعه ، ولم يذكر لنا السياق الغرض من
صنعه ، ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك. (حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) .. أمر بالمرحلة التالية ..
(قُلْنَا : احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) ..
ومرة أخرى
تتفرق الأقوال حول (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية. أما نحن فلا
ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص : (احْمِلْ فِيها مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) .. مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء. وما
وراء ذلك خبط عشواء ..
(وَأَهْلَكَ ـ إِلَّا
مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ـ) ..
أي من استحق
عذاب الله حسب سنته.
(وَمَنْ آمَنَ) ..
من غير أهلك.
(وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) ..
(وَقالَ : ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ..
فنفذ الأمر
وحشر من حشر وما حشر.
(وَقالَ : ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) .. وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها ،
فهي في رعاية الله وحماه .. وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله
الطوفان؟!
* * *
ثم يأتي المشهد
الهائل المرهوب : مشهد الطوفان :
(وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ـ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ ـ يا
بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ، قالَ. سَآوِي إِلى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ. قالَ : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا
مَنْ رَحِمَ. وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) ..
إن الهول هنا
هولان. هول في الطبيعة الصامتة ، وهول في النفس البشرية يلتقيان :
(وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) ..
وفي هذه اللحظة
الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ، وتستيقظ في
كيانه الأبوة الملهوفة ، ويروح يهتف بالولد الشارد :
(يا بُنَيَّ ارْكَبْ
مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) ..
ولكن البنوة
العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة ، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل :
«قال : سآوي
إلى جبل يعصمني من الماء» ..
ثم ها هي ذي
الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير :
(قالَ : لا عاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ).
لا جبال ولا
مخابئ ولا حام ولا واق. إلا من رحم الله.
وفي لحظة تتغير
صفحة المشهد. فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء :
(وَحالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) ..
وإننا بعد آلاف
السنين ، لنمسك أنفاسنا ـ ونحن نتابع السياق ـ والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد.
وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء.
وابنه الفتى المغرور يأبي إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة
خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب! وإن الهول هنا ليقاس
بمداه في النفس الحية ـ بين الوالد والمولود ـ كما يقاس بمداه في الطبيعة ، والموج
يطغى على الذرى بعد الوديان. وإنهما لمتكافئان ، في الطبيعة الصامتة وفي نفس
الإنسان. وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن.
* * *
وتهدأ العاصفة
، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في
النفس والأذن :
(وَقِيلَ : يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ
، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
ويوجه الخطاب
إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ،
وتكف السماء :
(وَقِيلَ : يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ..
(وَغِيضَ الْماءُ) ..
ابتلعته الأرض
في جوفها وغار من سطحها.
(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ..
ونفذ القضاء (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) ..
ورست رسو
استقرار على جبل الجودي ..
(وَقِيلَ بُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
وهي جملة
مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير .. «قيل» على صيغة المجهول فلا يذكر من قال
، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
(وَقِيلَ بُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
بعدا لهم من
الحياة فقد ذهبوا ، وبعدا لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعدا لهم من الذاكرة فقد
انتهوا .. وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكرى!
* * *
والآن وقد هدأت
العاصفة ، وسكن الهول ، واستوت على الجودي. الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد
المفجوع :
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
، فَقالَ : رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ،
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ).
رب إن ابني من
أهلي ، وقد وعدتني بنجاة أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين. فلا تقضي إلا
عن حكمة وتدبير ..
قالها يستنجز
ربه وعده في نجاة أهله ، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء ..
وجاءه الرد
بالحقيقة التي غفل عنها. فالأهل ـ عند الله وفي دينه وميزانه ـ ليسوا قرابة الدم ،
إنما هم قرابة العقيدة. وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي
المؤمن .. جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد ؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب
والتهديد :
(قالَ : يا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، فَلا تَسْئَلْنِ
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ..
إنها الحقيقة
الكبيرة في هذا الدين. حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا. عروة العقيدة
التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة :
(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ..
فهو منبتّ منك
وأنت منبت منه ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد
ذلك ولا وشيجة.
ولأن نوحا دعا
دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق .. كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب
والتهديد :
(فَلا تَسْئَلْنِ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ..
إني أعظك خشية
أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد
الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق.
ويرتجف نوح
ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه ، فيلجأ إليه ، يعوذ به ،
ويطلب غفرانه ورحمته :
(قالَ : رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..
وأدركت رحمة
الله نوحا ، تطمئن قلبه ، وتباركه هو والصالح من نسله ، فأما الآخرون فيمسهم عذاب
أليم :
(قِيلَ ؛ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا ، وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ.
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) ..
وكانت خاتمة
المطاف : النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته ؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون
منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم .. ذات البشرى وذات الوعيد ،
اللذان مرا في مقدمة السورة. فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود ..
* * *
ومن ثم يجيء
التعقيب :
(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) ..
فيحقق هذا
التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة :
* حقيقة الوحي
التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب ، ما كان يعلمه النبي ، وما كان
معلوما لقومه ، ولا متداولا في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير.
* وحقيقة وحدة
العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو
التعبير.
* وحقيقة تكرار
الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا
تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل.
* وحقيقة تحقق
البشرى والوعيد ، كما يبشر النبي وينذر ، وهذا شاهد من التاريخ.
* وحقيقة السنن
الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد : «والعاقبة للمتقين» .. فهم الناجون
وهم المستخلفون.
* وحقيقة
الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل .. إنها العقيدة الواحدة التي تربط
المؤمنين كلهم في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك :
* * *
وبعد .. أكان
الطوفان عاما في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت
هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ أسئلة لا جواب عليها
إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل
صحيح .. وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل.
ولكن هذا لا
يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية
في ذلك الزمان. وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين. وأن
الطوفان قد عم هذه الرقعة ، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها ـ فيما عدا ركب
السفينة الناجين.
وهذا حسبنا في
إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك
العهد السحيق ، الذي لا يعرف «التاريخ» عنه شيئا. وإلا فيومها أين كان «التاريخ»؟!
إن التاريخ مولود حدث لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل! وكل ما سجله قابل
للخطأ والصواب ، والصدق والكذب ، والتجريح والتعديل! وما ينبغي قط أن يستفتى ذات
يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق. ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع ،
وانتكاسة لا تصيب عقلا قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين!
ولقد حفلت
أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول ،
بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير .. وأساطير بني إسرائيل المدونة
فيما يسمونه «العهد القديم» تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح .. ولكن هذا كله شيء لا
ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان ؛ ولا ينبغي أن يخلط الخبر
الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر
والأسانيد. وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في
أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام ؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري
الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد ..
وينبغي أن نذكر
أن ما يسمى «بالكتاب المقدس» ـ سواء في ذلك «العهد القديم» المحتوي على كتب اليهود
أو «العهد الجديد» المحتوي على أناجيل النصارى ـ ليس هو الذي نزل من عند الله.
فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند
سبي اليهود. ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة ـ قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة
قرون ـ وقد كتبها عزرا ـ وقد يكون هو عزير ـ وجمع فيها بقايا من التوراة. أما
سائرها فهو مجرد تأليف! وكذلك الأناجيل فهي جميعا لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة
تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح ـ عليهالسلام ـ ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير! .. ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك
الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور!
ونخلص من هذه
القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم .. وهي ـ في الحقيقة ـ عبر شتى
، لا عبرة واحدة. وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية ، قبل أن ننتقل من
قصة نوح إلى قصة هود :
* * *
إن قوم نوح ـ عليهالسلام ـ هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ، ومدى إصرارهم على باطلهم ، ومدى
استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح ـ عليهالسلام ـ إليهم ، وخلاصتها : التوحيد الخالص الذي يفرد الله ـ سبحانه ـ بالدينونة
والعبودية ؛ ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية ..
إن قوم نوح
هؤلاء .. هم ذرية آدم .. وآدم ـ كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل ـ وفي
سورة البقرة كذلك ـ قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها ـ وهي المهمة التي
خلقه الله لها وروده بالكفايات والاستعدادات اللازمة لها ـ بعد أن علمه ربه كيف
يتوب من الزلة التي زلها ، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه
ربه العهد والميثاق ـ هو وزوجه وبنوه ـ أن «يتبع» ما يأتيه من هدى الله ، ولا يتبع
الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين.
وإذن فقد هبط
آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه .. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد
جيل ؛ وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض ؛ حيث لم تكن معها
عقيدة أخرى! فإذا نحن رأينا قوم نوح ـ وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها
إلا الله ـ قد صاروا إلى هذه الجاهلية ـ التي وصفتها القصة في هذه السورة ـ فلنا
أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها
وتصوراتها وتقاليدها جميعا. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط
على بني آدم ؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ
منها عدو الله وعدو الناس ، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله ، واتباعه وحده ،
وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة .. ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من
الاختيار ـ هو مناط الابتلاء ـ وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا
يكون لعدوه من سلطان عليه ، كما يملك أن ينحرف ـ ولو قيد شعرة ـ عن هدى الله إلى
تعاليم غيره ؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به ـ بعد أشواط ـ إلى مثل تلك الجاهلية
الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم ـ النبي المسلم ـ بعد تلك الأجيال التي لا
يعلمها إلا الله.
وهذه الحقيقة
.. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة
والربوبية والقوامة لله وحده .. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم «علماء
الأديان المقارنة» وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا
متأخرا من أطوار العقيدة. سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة. ومن تأليه
القوى الطبيعية وتأليه الأرواح ، وتأليه الشموس والكواكب .. إلى آخر ما تخبط فيه
هذه «البحوث» التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة
؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله
وإثبات أن الأديان من صنع البشر ؛ وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار
الزمان!
وينزلق بعض من
يكتبون عن الإسلام مدافعين ؛ فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ
الأديان ـ وفق ذلك المنهج الموجه! ـ من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن
الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح
حاسم. حين يقرر أن آدم ـ عليهالسلام ـ هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحا ـ عليهالسلام ـ واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية
بذلك الإسلام نفسه .. القائم على التوحيد المطلق .. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج
الناس من الإسلام إلى الجاهلية ؛ وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام ..
القائم على التوحيد المطلق .. وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل
الاعتقاد ـ إنما كان الترقي والتركيب والتوسع
في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة ـ وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد
الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة.
إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية
ـ حتى بعد انحراف الأجيال عنها ـ ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها ؛ حتى تصير أقرب إلى
أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من
العقائد الوثنية جميعا! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت ، لأنها ليست نابعة من أفكار
البشر ومعلوماتهم المترقية ؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ
اللحظة الأولى ، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى ..
هذا ما يقرره
القرآن الكريم ؛ ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال ـ إذن ـ لباحث مسلم ـ وبخاصة
إذا كان يدافع عن الإسلام! ـ أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح
حاسم ، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة
من منهج موجه كما أسلفنا!
ومع أننا هنا ـ
في ظلال القرآن ـ لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام ـ إذ
أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل ـ .. ولكننا نلم بنموذج واحد ، نعرضه في
مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية ..
كتب الأستاذ
العقاد في كتابه : «الله» في فصل أصل العقيدة :
.. «ترقى
الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات.
«فكانت عقائده
الأولى مساوية لحياته الأولى ، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم
والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات ، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها
بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
«وينبغي أن
تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم
والصناعات. «لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء
المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
«وقد جهل الناس
شأن الشمس الساطعة ، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان ، ولبثوا إلى زمن قريب
يقولون بدورانها حول الأرض ، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام.
ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام.
ولعلها لا تزال.
«فالرجوع إلى
أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين ، ولا على أنها
تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة
شاملة في عصر واحد ؛ وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر ، وطورا بعد طور.
وأسلوبا بعد أسلوب ، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى ، بل على نحو أصعب وأعجب
من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
«وقد أسفر علم
المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول ،
ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية ، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم
يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك ، ولا أن تكون الديانات الأولى
على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة. فهذه هي وحدها
النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة
جديد يستغفر به العلماء ، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين. فإن
العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا
الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء ، إنما يبحث عن محال ...».
كذلك كتب في
فصل : «أطوار العقيدة الإلهية» في الكتاب نفسه :
«يعرف علماء
المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها
بالآلهة والأرباب :
وهي دور التعدد
Polytheism
ودور التمييز
والترجيح Henotheism
ودور الوحدانية
Monotheism
«ففي دور
التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات ، وقد تتجاوز العشرات
إلى المئات. ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده ، أو تعويذة تنوب
عن الرب في الحضور ، وتقبل الصلوات والقرابين.
«وفي الدور
الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقي الأرباب على كثرتها ، ويأخذ رب منها في
البروز والرجحان على سائرها. إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل
الأخرى بالزعامة ، وتعتمد عليها في شؤون الدفاع والمعاش ، وإما لأنه يحقق لعباده
جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة ، كأن يكون
رب المطر والإقليم في حاجة إليه ، أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية
يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر
الطبيعية.
«وفي الدور
الثالث تتوحد الأمة ، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل
إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها
كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها ، ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة
المغلوبة بالخضوع لإلها ، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع ، والحاشية
للملك المطاع.
«ولا تصل الأمة
إلى هذه الوحدانية الناقصة إلّا بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة ، ويتعذّر
فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية ،
فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها
السابقة ، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته
العالية ، وكثيرا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة ، وتنزل
الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية ...»
إلخ.
وواضح سواء من
رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين
ينشئون عقائدهم بأنفسهم ؛ ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية
والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على
الإجمال ..
وهذا واضح من
الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه : «موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية ،
منذ أن اتخذ الإنسان ربا ، إلى أن عرف الله الأحد ، واهتدى إلى نزاهة التوحيد» ..
والذي لا شك
فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم ، تقريرا واضحا جازما ، شيئا آخر غير ما
يقرره صاحب كتاب : «الله» متأثرا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة .. وأن الذي
يقرره الله ـ سبحانه ـ أن آدم
وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة ، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة
بشائبة من التعدد والتثنية ، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده.
وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة ، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف
إلا الإسلام دينا ، وإلا التوحيد عقيدة .. وأنه لما طال الأمد على الأجيال
المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد .. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد ..
ودانت لشتى الأرباب الزائفة ... حتى جاءها نوح عليهالسلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم
الطوفان جميعا ؛ ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون «نزاهة التوحيد»
وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية! ولنا أن نجزم أن
أجيالا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق. قبل
أن يطول عليهم الأمد ، ويعودوا إلى الانحراف عن التوحيد من جديد .. وأنه هكذا كان
شأن كل رسول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) ..
والذي لا شك
فيه أن هذا شيء ، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب : «الله»
شيء آخر. وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها .. وآراء
الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضا ، فهي ليست الكلمة
النهاية حتى في مباحث البشر الفانين!
وما من شك أنه
حين يقرر الله ـ سبحانه ـ أمرا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع ، ويقرر
غيره أمرا آخر مغايرا له تمام المغايرة ، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع. وبخاصة
ممن يدافعون عن الإسلام ؛ ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين
جملة .. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء وحيا من
عند الله ، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم ؛ وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور
ولم يجئ بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ ، ولا في أية رسالة. كما أنه
لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن
هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله ؛ وهي أنه
وحي من الله ، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور! وليس وقفا على ترقي
العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية!
ولعل هذه
اللمحة المختصرة ـ التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال ـ تكشف لنا عن مدى
الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية ـ في أي جانب من جوانبها ـ عن مصدر غير
إسلامي. كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين
يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها. حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن
الإسلام من أعدائه .. (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ..
* * *
ونقف وقفة أخرى
مع قصة نوح .. نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله!
إنها وقفة على
معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا .. وقفة على مفرق
الطريق تكشف معالم الطريق ..
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ، فَلا تَبْتَئِسْ
بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، وَلا
تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ...)
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا : احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ـ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ـ وَمَنْ آمَنَ ،
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ... وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ ـ : يا بُنَيَّ ارْكَبْ
مَعَنا ، وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ : سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي
مِنَ الْماءِ ، قالَ : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ
، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ .. وَنادى نُوحٌ
رَبَّهُ ، فَقالَ : رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ : يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ،
إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ : رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..
إن الوشيجة التي
يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين ، وتتعلق
بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة
ليست وشيجة الدم والنسب ؛ وليست وشيجة الأرض والوطن ، وليست وشيجة القوم والعشيرة
، وليست وشيجة اللون واللغة ، وليست وشيجة الجنس والعنصر ، وليست وشيجة الحرفة
والطبقة .. إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد ؛
كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح ـ عليهالسلام ـ وهو يقول : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي
مِنْ أَهْلِي) .. (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ
مِنْ أَهْلِكَ) ثم بين له لما ذا يكون ابنه .. ليس من أهله .. «إنه عمل
غير صالح» .. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) فأنت تحسب أنه من أهلك ، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما
المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو المعلم
الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط ، وبين
نظرات الجاهلية المتفرقة .. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب ؛ وآنا
هي الأرض والوطن ، وآنا هي القوم والعشيرة ، وآنا هي اللون واللغة ، وآنا هي الجنس
والعنصر ، وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة ، أو التاريخ
المشترك. أو المصير المشترك .. وكلها تصورات جاهلية ـ على تفرقها أو تجمعها ـ تخالف
مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي!
والمنهج الرباني
القويم ـ ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه ـ قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية
على ذلك الأصل الكبير .. والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق ..
وهذا المثل
الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد ، ضرب أمثاله
لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى ، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة
الوحيدة التي يعتبرها ..
* ضرب لها
المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وأبيه وقومه كذلك :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ ، إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ :
يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ،
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ،
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ
يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ
وَلِيًّا
.. قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ! وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ : سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ رَبِّي ، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ؛ وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ،
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ... (مريم : ٤١ ـ ٥٠).
* وضرب لها
المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه ، وهو يعطيه عهده
وميثاقه. ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه :
(وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ، فَأَتَمَّهُنَّ ، قالَ : إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ .. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ : رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ ـ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ. قالَ : وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى
عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .. (البقرة : ١٢٤ ـ ١٢٦) * وضرب لها المثل فيما يكون
بين الزوج وزوجه ، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته ، ولوط وامرأته. وفي الجانب
الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كانَتا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ ، فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما
مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَقِيلَ : ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) ...
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ، إِذْ قالَتْ : رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ،
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ... (التحريم : ١٠ ـ ١١)
* وضرب لها
المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم ،
ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما
كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، كَفَرْنا
بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) .. (الممتحنة : ٤).
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا : رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ
سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما
لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّهُمْ
فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
إِذْ قامُوا فَقالُوا : رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا
مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ! فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما
يَعْبُدُونَ ـ إِلَّا اللهَ ـ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ
مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ... (الكهف : ٩ ـ ١٦).
وبهذه الأمثلة
التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين
سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان ، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة ؛
وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع
المسلم ، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح
يتمثلان في مواقف كثيرة ، وفي توجيهات من القرآن كثيرة .. هذه نماذج منها ..
* (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ـ وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ـ أُولئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) ... (المجادلة : ٢٢)
* (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ، يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ ، إِنْ كُنْتُمْ
خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي ، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ ، وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ... (الممتحنة : ١)
* (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ) ... إلخ» .. (الممتحنة : ٣ ـ ٤)
* (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى
الْإِيمانِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ... (التوبة : ٢٣).
* (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ،
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ... (المائدة : ٥١).
وهكذا تقررت
تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي ؛ وفي طبيعة بنائه
وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر
الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة
أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام ،
ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام
محلها قاعدة العقيدة ، إما أنهم لا يعرفون الإسلام ؛ وإما أنهم يرفضونه. والإسلام
في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها ،
بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا!
وندع هذه
القاعدة ـ وقد صارت واضحة تماما ـ لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع
الإسلامي على هذه القاعدة ..
* إن العقيدة
تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة ؛ لأنها تتعلق بالعنصر
الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها ـ وهو العنصر الروحي الذي
به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة ـ وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر
الماديين مادية ، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه
فرقا أساسيا عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي
أن تكون العقيدة ـ في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية ـ هي
آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم.
ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل
الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة ، وسياج الحظيرة! ولا تكون
كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر
__________________
واللون واللغة .. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا
شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
* كذلك تتعلق
العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم .. هو عنصر الاختيار والإرادة ،
فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد ؛ وبذلك يقرر نوع
المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ؛ ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي
والاقتصادي والخلقي الذي يريد ـ بكامل حريته ـ أن يتمذهب به ويعيش ..
ولكن هذا الفرد
لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب
أن يولد فيها ، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها .. إلى آخر تلك المقومات التي
تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه
الأرض ، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي ؛ إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره!
فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا ـ أو حتى في الدنيا وحدها ـ بمثل هذه
المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا ؛ وبذلك تسلب إنسانيته
مقوما من أخص مقوماتها ؛ وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان ؛ بل من قواعد
تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق!
ومن أجل
المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية ، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له
متمشية مع تلك الخصائص ؛ يجعل الإسلام العقيدة ـ التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه
منذ أن يبلغ سن الرشد ـ هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع
الإسلامي ؛ والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون
تلك العوامل الاضطرارية ، التي لا يدله فيها ، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره ،
هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
* ومن شأن قيام
المجتمع على آصرة العقيدة ـ وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى ـ أن ينشىء
مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا ؛ يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان
واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم
الذاتي ؛ لا يصدهم عنه صاد ، ولا يقوم في وجوههم حاجز ، ولا تقف دونه حدود مصطنعة
، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص
البشرية ، وتجتمع في صعيد واحد ، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس
البشرية ؛ ولا تغلق دون كفاية واحدة ، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض ..
«ولقد كان من
النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ؛ ولإقامة التجمع
الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح
الأرضية القريبة ، والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا
التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من
النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع
الأجناس والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت
في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ، وانصهرت في هذه
البوتقة وتمازجت ، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة. وصنعت هذه
الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة ، تحوي خلاصة الطاقة البشرية
في زمانها مجتمعة ، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
«لقد اجتمع في
المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي
والصيني
والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام
والأجناس .. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع
الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما
كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقيدية».
«ولقد اجتمعوا
كلهم على قدم المساواة ، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا
أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية
والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم
المساواة ، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها
بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ!
«لقد كان أشهر
تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت
بالفعل أجناسا متعددة ، ولغات متعددة ، وألوانا متعددة ، وأمزجة متعددة. ولكن هذا
كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك
تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ؛
وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني ـ بصفة عامة ـ وعبودية سائر الأجناس
الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها
التجمع الإسلامي.
«كذلك قامت في
التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان
كالتجمع الروماني ، الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا ، يقوم على أساس سيادة
القومية الانجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله
الإمبراطوريات الأوربية كلها .. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما ،
والإمبراطورية الفرنسية .. كلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت
الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة
واللون. ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة ، إنما أقامته على القاعدة «الطبقية».
فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة
طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) ؛ والعاطفة
التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا
التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم
على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن «المطالب
الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» ـ وهي مطالب الحيوان الأولية ـ وباعتبار
أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!
«لقد تفرد
الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء
المجتمع الإنساني .. وما يزال متفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ، يقوم
على أية قاعدة أخرى ، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن
السخيف ، هم أعداء «الإنسان» حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في
هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى
كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق » ..
__________________
الجزء الثاني
عشر* ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين ، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته
وحركته ؛ وهم الذين يقول الله تعالى فيهم : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر
من أسرار قوة هذا الدين ، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس .. ولما
كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه ؛
وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ؛ ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم
وديارهم وأموالهم .. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن
يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها ؛ وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد ،
أصناما تعبد من دون الله ، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس».
وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية
الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى ، تحملها جبهات شتى ،
تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة ،
المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية ،
وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة ؛ وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر
المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!!
وأخبث
المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها
التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ .. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث ، الذي جرب
سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي ، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس
قومية .. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ؛ ثم ثنوا بتحطيم الحصار
الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود!
وكذلك فعل
الصليبيون مع المجتمع الإسلامي ـ بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية
والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي .. ومن ثم استطاعوا
أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم
ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون .. حتى يأذن الله بتحطيم تلك
الأصنام الخبيثة الملعونة ؛ ليقوم التجمع الإسلامي من جديد ، على أساسه المتين
الفريد ..
* وأخيرا فإن
الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي
قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في
تصورهم وفي تجمعهم.
يجب أن تكون
هناك قداسة واحدة لمقدس واحد ، وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب أن يكون هناك شعار
واحد ، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس
بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات ..
إن الوثنية
ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن
تتمثل في صور شتى ؛ كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة ؛ وآلهة الأساطير يمكن
أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيا كانت أسماؤها. وأيا
كانت مراسمها.
وما كان
الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية ، ثم يرضى لهم بعد ذلك
أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان .. وما إليها .. يتقاتل الناس تحت راياتها
وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى الله وحده ، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!
لذلك قسم
الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري .. أمة المسلمين من أتباع
الرسل ـ
كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة ـ وأمة غير المسلمين من
عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون ..
وعند ما أراد
الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون ، عرفها لهم في صورة
أتباع الرسل ـ كل في زمانه ـ وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) .. ولم يقل للعرب : إن أمتكم هي الأمة العربية في
جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود : إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون
في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي : إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب
الرومي : إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي : إن أمتك هي الحبشة! إنما قال
للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش : إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا
على أيام موسى وهارون ، وإبراهيم ، ولوط ، ونوح ، وداود وسليمان ، وأيوب ،
وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ، وزكريا ويحيى ، ومريم .. كما جاء في سورة
الأنبياء : (آيات : ٤٨ ـ ٩١).
هذه هي أمة «المسلمين»
في تعريف الله سبحانه .. فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه. ولكن ليقل : إنه
ليس من المسلمين! أما نحن الذين أسلمنا لله ، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها
لنا الله. والله يقص الحق وهو خير الفاصلين ..
وحسبنا هذا
القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين.
* * *
ثم نقف الوقفة
الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه :
إن حفنة من
المسلمين من أتباع نوح عليهالسلام ، تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة
دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في
هذا الشأن ..
إن هذه الحفنة ـ
وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل ـ قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من
ظواهر هذا الكون ؛ وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور
وقتها من الأرض! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة
العمران فيها والاستخلاف من جديد ..
.. وهذا أمر
خطير ..
إن طلائع البعث
الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها ؛ والتي تعاني الغربة في هذه
الجاهلية والوحشة ؛ كما تعاني الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل .. إن هذه
الطلائع ينبغي أن تقف طويلا أمام هذا الأمر الخطير ، وأمام دلالته التي تستحق
التدبر والتفكير!
إن وجود البذرة
المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى .. شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر
الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعا ؛ كما يستحق منه سبحانه
أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد!
لقد كان نوح عليهالسلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه ، كما قال تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا
وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ..
وعند ما لجأ
نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال الله تعالى في سورة
القمر : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ. فَدَعا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) ..
عند ما لجأ نوح
إلى ربه يعلن أنه «مغلوب» ويدعو ربه أن «ينتصر» هو وقد غلب رسوله .. عندئذ أطلق
الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب :
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ..
وبينما كانت
تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوي الكوني الرائع المرهوب .. كان الله
سبحانه ـ بذاته العلية ـ مع عبده المغلوب :
(وَحَمَلْناهُ عَلى
ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا .. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ..).
هذه هي الصورة
الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين
تطاردها الجاهلية ؛ وحين «تغلبها» الجاهلية!
إنها تستحق أن
يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة .. وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان. فما
الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى! (وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ..
وإنه ليس عليها
إلا أن تثبت وتستمر في طريقها ؛ وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ؛ وإلا أن
تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض
ولا في السماء. وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلا فترة الإعداد والابتلاء ؛
وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء.
.. وهذه هي
عبرة الحادث الكوني العظيم ..
إنه لا ينبغي
لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد
الله سبحانه بالربوبية. كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى
الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه
: (أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ) ..
إن القوى في
حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة .. إن الجاهلية تملك قواها .. ولكن الداعي إلى
الله يستند إلى قوة الله. والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية ـ حينما يشاء
وكيفما يشاء ـ وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب!
وقد تطول فترة
الابتلاء لأمر يريده الله .. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ؛ قبل
أن يأتي الأجل الذي قدره الله. ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر
مسلما .. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى
الهائلة ، والتدمير على البشرية الضالة جميعا ، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة
تعمرها من جديد وتستخلف فيها ..
إن عصر الخوارق
لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة ـ وفق مشيئة الله الطليقة ـ ولكن الله يستبدل
بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها. وقد تدق بعض
الخوارق على بعض العقول فلا تدركها ؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائما ،
ويلابسون آثارها المبدعة.
والذين يسلكون
السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا ، بكل ما في طاقتهم من جهد ؛
ثم يدعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعند ما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر
المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح : (فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ ، فَانْتَصِرْ) .. ثم ينتظروا فرج الله القريب. وانتظار الفرج من الله
عبادة ؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون.
ومرة أخرى نجد
أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا
كبيرا .. إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ؛ ومن
ثم يتذوقونه ويدركونه ؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ، كما خوطبت
به الجماعة المسلمة الأولى ، فتذوقته وأدركته وتحركت به ..
.. والحمد لله
في الأولى والآخرة ..
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠)
يا
قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ
(٥٢) قالُوا
يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ
وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)
إِنْ
نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ
فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي
قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ
غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا
فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا
رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
وَإِلى
ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ
قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا
وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
وَيا
قَوْمِ هذِهِ
ناقَةُ
اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
(٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)
وَأَخَذَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧)
كَأَنْ
لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً
لِثَمُودَ)
(٦٨)
مضى قوم نوح في
التاريخ ، الأكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ ؛ واستبعدوا من الحياة
ومن رحمة الله سواء ، والناجون استخلفوا في الأرض تحقيقا لسنة الله ووعده : (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
ولقد كان وعد
الله لنوح : (يا نُوحُ اهْبِطْ
بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) .. فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد
الله. وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرقوا في البلاد ـ ومن بعدهم ثمود ـ ممن حقت
عليهم كلمة الله : (وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).
* * *
لقد عادت
الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال لا يعلمها إلا الله من المسلمين من
ذرية آدم .. فلا بد أن أجيالا من ذرية آدم بعد استخلافه في الأرض قد ولدت مسلمة
وعاشت بالإسلام الذي كان عليه أبواهم. حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم ، وانحرفت
بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح ـ عليهالسلام ـ ثم جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين ، وأهلك الباقون ولم يعد على
الأرض من الكافرين ديار ـ كما دعا نوح ربه. ولا بد أن أجيالا كثيرة من ذرية نوح
عاشت بالإسلام بعده .. حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى فانحرفوا كذلك إلى
الجاهلية. وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية ..
فأما عاد
فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف (والحقف كثيب الرمل المائل) في جنوب الجزيرة العربية ،
وأما ثمود فكانت قبيلة تسكن مدائن الحجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت
كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع .. ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا
ممن حقت عليهم كلمة الله ، بما عتوا عن أمر الله ، واختاروا الوثنية على التوحيد ،
والدينونة للعبيد على الدينونة لله ، وكذبوا الرسل شر تكذيب. وفي قصصهم هنا مصداق
ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح.
* * *
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ) ..
وكان هود من
عاد. فهو أخوهم. واحد منهم ، تجمعه ـ كانت ـ آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة
الواحدة. وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق ، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف
والتناصح بين الأخ وإخوته ، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا! ثم
لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس افتراق العقيدة. ويبرز بذلك
معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة. لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في
علاقات المجتمع الإسلامي ، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي .. فالدعوة
به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب
والعشيرة والأرض ... ثم تنتهي بالافتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد ..
أمة مسلمة وأمة مشركة .. وبينهما فرقة ومفاصلة .. وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد
الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين. ولا يجيء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن
تتم المفاصلة ، وتتم المفارقة ، وتتميز الصفوف ، وينخلع النبي والمؤمنون معه من
قومهم ، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم ، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم
السابقة ، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى
الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد .. وعندئذ فقط ـ لا قبله ـ يتنزل عليهم نصر
الله ..
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً) ..
أرسلناه إليهم
كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة.
«قال : يا قوم»
..
بهذا التودد ،
والتذكير بالأواصر التي تجمعهم ، لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه
فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله ، والناصح لا يغش قومه.
(قالَ : يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ..
القولة الواحدة
التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا ـ كما أسلفنا ـ عن عبادة الله الواحد التي
هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم
ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح! ثم تطور هذا التعظيم
جيلا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة ؛ ثم تتطور هذه
الأشياء فإذا هي معبودات ، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم
هذه المعبودات المدعاة ـ في صورة من صور الجاهلية الكثيرة. ذلك أن الانحراف خطوة
واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين
بالعبودية إلا الله وحده .. الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات
وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله.
على أية حال
لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية ، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة
التي جاء بها كل رسول :
(يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) .. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُفْتَرُونَ) ..
مفترون فيما
تعبدونه من دون الله ، وفيما تدعونه من شركاء لله.
ويبادر هود
ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة ، فليس له من ورائها هدف. وما يطلب على
النصح والهداية أجرا. إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل :
(يا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا
تَعْقِلُونَ؟).
مما يشعر أن
قوله : (لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب
مال من وراء الدعوة التي يدعوها. وكان التعقيب : (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولا من عند الله
يطلب رزقا من البشر ، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوّت هؤلاء الفقراء!
ثم يوجههم إلى
الاستغفار والتوبة. ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان
خاتم الأنبياء ، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلاف السنين :
(وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ. وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ) ..
استغفروا ربكم
مما أنتم فيه ، وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق
النية ..
(يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً) ..
وكانوا في حاجة
إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء ، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من
هطول الأمطار في تلك البقاع.
(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً
إِلى قُوَّتِكُمْ) ..
هذه القوة التي
عرفتم بها ..
(وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ) ..
مرتكبين لجريمة
التولي والتكذيب.
وننظر في هذا
الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق
قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة
الاستغفار بها وما علاقة التوبة؟ فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور ، بل
واقع مشهود ، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين
قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة
الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن ؛ ويزيدانهم صحة
في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون
لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه .. كما تطلقان
طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض ؛ غير مشغولين ولا
مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول ، والنفخ
فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر!
والملحوظ دائما
أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات
الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة .. أحيانا .. كل ذلك ليدين لها
الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد! وهذا كله يحتاج إلى كد
ناصب من السدنة والعبّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض
والنهوض بتكاليف الخلافة فيها ، بدلا من أن ينفقه عبّاد الأرباب الأرضية في الطبل
والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة!
ولقد تتوافر
القوة لمن لا يحكّمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم ، ولكنها قوة إلى حين.
حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله ، وتتحطم هذه القوة التي لم
تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى
جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا
تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين.
فأما إرسال
المطر. مدرارا. فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني.
ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان ، ومدمرا في
مكان وزمان ؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم ، وأن يكون
الدمار معه لقوم ، وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه
العوامل الطبيعية ؛ فهو خالق هذه العوامل ، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال.
ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد
الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء. حيث شاء. بالحق الذي
يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب.
تلك كانت دعوة
هود ـ ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة. ربما لأن الطوفان كان قريبا منهم ،
وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم ، وقد ذكرهم به في سورة أخرى ـ فأما قومه فظنوا
به الظنون ..
(قالُوا. يا هُودُ ما
جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما
نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ
...).
إلى هذا الحد
بلغ الانحراف في نفوسهم ، إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي ، لأن أحد آلهتهم المفتراة
قد مسه بسوء ، فأصيب بالهذيان! «يا هود ما جئتنا ببينة» ...
والتوحيد لا
يحتاج إلى بينة ، إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير ، وإلى استجاشة منطق الفطرة ،
واستنباء الضمير.
(وَما نَحْنُ
بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) ..
أي لمجرد أنك
تقول بلا بينة ولا دليل!
(وَما نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ) ..
أي مستجيبين لك
ومصدقين .. وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء!
وهنا لم يبق
لهود إلا التحدي. وإلا التوجه إلى الله وحده والاعتماد عليه. وإلا الوعيد والإنذار
الأخير للمكذبين. وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على
التكذيب :
(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ
اللهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ ، فَكِيدُونِي
جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ
بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ، وَلا تَضُرُّونَهُ
شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ..
إنها انتفاضة
التبرؤ من القوم ـ وقد كان منهم وكان أخاهم ـ وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد
اتخذوا غير طريق الله طريقا. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة
وقد أنبتت بينهما وشيجة العقيدة.
__________________
وهو يشهد الله
ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم. ويشهدهم هم أنفسهم
على هذه البراءة منهم في وجوههم ؛ كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن
يكون منهم!
وذلك كله مع
عزة الإيمان واستعلائه. ومع ثقة الإيمان واطمئنانه!
وإن الإنسان
ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى. يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه
المعبودات الزائفة تمس رجلا فيهذي ؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانا من
أثر المس! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة ،
فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ؛ ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي. لا يطلب مهلة
ليستعد استعدادهم ، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم.
إن الإنسان
ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد. ولكن الدهشة تزول عند ما
يتدبر العوامل والأسباب ..
إنه الإيمان.
والثقة. والاطمئنان .. الإيمان بالله ، والثقة بوعده ، والاطمئنان إلى نصره ..
الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك
فيها لحظة. لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين جنبيه ، وليست وعدا للمستقبل في
ضمير الغيب ، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب.
«قال : إني
أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه».
اني أشهد الله
على براءتي مما تشركون من دونه. واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم : أنني
عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله. ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون
أن أحدها مسني بسوء. تجمعوا أنتم وهي ـ جميعا ـ ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل ، فما
أباليكم جميعا ، ولا أخشاكم شيئا :
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) ..
ومهما أنكرتم
وكذبتم. فهذه الحقيقة قائمة. حقيقة ربوبية الله لي ولكم. فالله الواحد هو ربي
وربكم ، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة ..
(ما مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ..
وهي صورة
محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض ، بما فيها
الدواب من الناس. والناصية أعلى الجبهة. فهو القهر والغلبة والهيمنة ، في صورة
حسية تناسب الموقف ، وتناسب غلظة القوم وشدتهم ، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم ،
وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم .. وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها
الذي لا يحيد :
(إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..
فهي القوة
والاستقامة والتصميم.
وفي هذه
الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي .. إنها ترسم صورة
الحقيقة التي يجدها نبي الله هود ـ عليهالسلام ـ في نفسه من ربه .. إنه يجد هذه الحقيقة واضحة .. إن ربه ورب الخلائق قوي
قاهر : (ما مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) .. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من
تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا. فما خوفه من هذه الدواب
وما احتفاله بها ؛ وهي لا تسلط عليه ـ إن سلطت ـ إلا بإذن ربه؟ وما بقاء فيها وقد
اختلف طريقها عن طريقه؟
إن هذه الحقيقة
التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه ، لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره ؛ ولا
مجالا للتردد عن المضي في طريقه.
إنها حقيقة
الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا.
وعند هذا الحد
من التحدي بقوة الله ، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة ، يأخذ هود في
الإنذار والوعيد :
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) ..
فأديت واجبي
لله ، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه :
(وَيَسْتَخْلِفُ
رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) ..
يليقون بتلقي
دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم.
(وَلا تَضُرُّونَهُ
شَيْئاً) ..
فما لكم به من
قوة ، وذهابكم لا يترك في كونه فراغا ولا نقصا ..
(إِنَّ رَبِّي عَلى
كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ..
يحفظ دينه
وأولياءه وسننه من الأذى والضياع ، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربا!
وكانت هي
الكلمة الفاصلة. وانتهى الجدل والكلام. ليحق الوعيد والإنذار :
(وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا.
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).
لما جاء أمرنا
بتحقيق الوعيد ، وإهلاك قوم هود ، نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا ،
خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم ، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء. وكانت
نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين. ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم ،
يتناسق مع الجو ، ومع القوم الغلاظ العتاة. والآن وقد هلكت عاد. يشار إلى مصرعها
إشارة البعد ، ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب ، وتشيع باللعنة والطرد ، في تقرير
وتكرار وتوكيد :
(وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ. أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ
هُودٍ) ..
(وَتِلْكَ عادٌ) .. بهذا البعد. وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق ،
وكان مصرعهم معروضا على الأنظار .. ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار ..
(وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ..
وهم عصوا رسولا
واحدا. ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد
عصى الرسل جميعا. ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية
أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها. فهم جحدوا آيات ، وهم عصوا رسلا. فما
أضخم الذنب وما أشنع الجريمة! (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ
كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ..
أمر كل متسلط
عليهم ، معاند لا يسلم بحق ، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين ، ويفكروا
بأنفسهم لأنفسهم. ولا يكونوا ذيولا فيهدروا آدميتهم.
وهكذا يتبين أن
القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون
العباد .. كانت هي قضية الحاكمية والاتباع .. كانت هي قضية : من الرب الذي يدينون
له ويتبعون أمره؟ يتجلى هذا في قول الله تعالى :
(وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ..
فهي المعصية
لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين! والإسلام هو طاعة امر الرسل ـ لأنه أمر الله ـ
ومعصية أمر الجبارين. وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر
والإيمان .. في كل رسالة وعلى يد كل رسول.
وهكذا يتبين أن
دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله ؛ والتمرد على
سلطان الأرباب الطغاة ؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية ، واتباع الجبارين
المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في
الآخرة .. لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه ،
ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم. فهذا مناط تكريمهم. فإن لم
يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة. وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي
الكرامة ، وتدعي الإنسانية ، وهي تدين لغير الله من عباده. والذين يقبلون الدينونة
لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين. فهم كثرة
والمتجبرون قلة. ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب
المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال.
لقد هلكت عاد
لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد .. هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة :
(وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) ..
ثم لا يتركهم
قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال :
(أَلا إِنَّ عاداً
كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ..
ثم يدعو عليهم
بالطرد والبعد البعيد :
(أَلا بُعْداً لِعادٍ
قَوْمِ هُودٍ) ..
بهذا التحديد
والإيضاح والتوكيد. كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا :
.. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)!!!
* * *
ونقف وقفات
قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة ، قبل أن ننتقل منها إلى
قصة صالح. ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في
القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون ..
ليس فقط في ماضيها التاريخي ، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان. وليس فقط للجماعة
المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة. وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك ؛
ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان .. وهذا ما يجعل هذا
القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد ؛ ودليلها في الحركة في كل حين.
ولقد أشرنا
إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا. ولكنها
مرت في
مجال تفسير النصوص القرآنية مرورا عابرا لمتابعة السياق. وهي تحتاج إلى
وقفات أمامها أطول في حدود الإجمال :
* نقف أمام
الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة .. دعوة توحيد العبادة
والعبودية لله ، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول : (قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) .. ولقد كنا دائما نفسر «العبادة» لله وحده بأنها «الدينونة
الشاملة» لله وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي
تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي .. فإن «عبد» معناها : دان وخضع وذلل. وطريق معبد
طريق مذلل ممهد. وعبّده جعله عبدا أي خاضعا مذللا .. ولم يكن العربي الذي خوطب
بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر
التعبدية. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية!
إنما كان يفهم منه عند ما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره
كله ؛ وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره .. ولقد فسر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «العبادة» نصا بأنها هي «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية. وهو يقول
لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا : «بلى. إنهم
أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» .. إنما
أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورة من صور الدينونة لله
في شأن من الشؤون .. صورة لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنها تجيء بالتبعية لا
بالأصالة! فلما بهت مدلول «الدين» ومدلول «العبادة» في نفوس الناس صاروا يفهمون أن
عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر
التعبدية لغير الله ، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلا! وأنه متى تجنب الإنسان هذه
الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح «مسلما» لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما
يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله ... إلى آخر حقوق
المسلم على المسلم!
وهذا وهم باطل
، وانحسار وانكماش ، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ «العبادة» التي يدخل بها المسلم
في الإسلام أو يخرج منه ـ وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض
الدينونة لغير الله في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة ؛
والذي نص عليه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نصا وهو يفسر قول الله تعالى : (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) .. وليس بعد تفسير رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .
هذه الحقيقة هي
التي قررناها كثيرا في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا
الدين وطبيعته ومنهجه الحركي .. فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة
تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه ؛ وبين الإسلام الذي جاء
به والجاهلية التي كانوا عليها ؛ وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ..
إنه لم يكن
يعني : يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله! كما يتصور الذين انحسر
مدلول «العبادة»
__________________
في مفهوماتهم ، وانزوى داخل اطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة
لله وحده في منهج الحياة كلها ؛ ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون
الحياة كلها .. والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا
والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله .. فهذه صورة واحدة من
صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده ـ أي الدينونة
له وحده ـ إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي : جحودهم
بآيات ربهم ، وعصيان رسله. واتباع أمر الجبارين من عبيده : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين ..
وجحودهم بآيات
ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل ، واتباع الجبارين .. فهو أمر واحد لا أمور متعددة
.. ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا
لغير الله. ودانوا للطواغيت بدلا من الدينونة لله ؛ فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا
رسله ؛ وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك ـ وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو
الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض ؛ فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف
في هذه الأرض ؛ وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض. إنما كان
الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية ، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية
إلى الإسلام .. وهكذا إلى يومنا هذا ..
والواقع أنه لو
كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من
الرسل والرسالات ؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل ـ صلوات
الله وسلامه عليهم ـ وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة
والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر
جملة من الدينونة للعباد. وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ؛ وفي
منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.
إن توحيد
الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد القوامة ، وتوحيد الحاكمية ، وتوحيد مصدر
الشريعة ، وتوحيد منهج الحياة ، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة
الشاملة ... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل ، وأن
تبذل في سبيله كل هذه الجهود ؛ وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على
مدار الزمان .. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه ، فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن
لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا
بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها. (وهذا
ما نرجو أن نزيده بيانا ـ إن شاء الله ـ في نهاية قصص الرسل في ختام السورة) ..
* ونقف أمام
الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم : (وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) .. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد
دعوة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في
قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ..
إنها حقيقة
العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ، وحقيقة اتصال
طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين .. وهي حقيقة في حاجة
إلى جلاء وتثبيت ؛ وبخاصة في نفوس الذين
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ؛ والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه
العلاقة أو على الأقل تستشعرها ..
إن الحق الذي
نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله ـ سبحانه ـ والحق الذي
خلقت به السماوات والأرض ، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية ..
والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله ـ سبحانه ـ والحق
الذي قامت به السماوات والأرض ؛ والحق المتمثل في الدينونة لله وحده .. والحق
المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة ، والحق في الجزاء على الخير
والشر في الدنيا والآخرة .. وذلك في مثل هذه النصوص :
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا .. إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ .. بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ
مِمَّا تَصِفُونَ ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ
يُنْشِرُونَ؟ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ
اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ.
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ... (الأنبياء ١٦ ـ ٢٥).
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ،
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ ـ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ ـ شَيْئاً ، وَتَرَى
الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ،
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ،
وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ... (الحج : ٥ ـ ٧).
(وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ، لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً
حَسَناً ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ، وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ. ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ ، إِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ
عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ
الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ، فَلا
يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً
مُسْتَقِيمٍ ...) .. (الحج : ٥٤ ـ ٦٧).
وهكذا نجد في
هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو
الحق ، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ، وبين الظواهر
الكونية التي تتم بالحق. وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق ، وبين الحكم بين الناس في
الدنيا والآخرة بالحق .. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء ،
وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء ؛ وفق ما يكون من الناس من الخير
والشر في دار الابتلاء. ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة ، وبين
المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا ... فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق
المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره ، وفي تدبيره وتصريفه ، وفي حسابه
وجزائه ، في الخير وفي الشر سواء ..
ومن هذا
الارتباط مجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس.
فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة. سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب
من وراء علم البشر وسعيهم. أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر
رؤيتها وضبطها كذلك. وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان ،
من النتائج المحسوسة المدركة.
وقد أسلفنا
الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة : إن سيادة المنهج
الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ، وأن يجد كل
فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي ـ فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار
القلبي بالإيمان ـ ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن
يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة .. وحين قلنا مرة : إن الدينونة لله وحده في مجتمع من
شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل
والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة ، لتخلع عليها شيئا
من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات
للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس. فضلا
على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون
العباد .. وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق
حقيقته في حياة الناس .. (وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل
في ختام السورة إن شاء الله).
* ونقف أمام
تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه ؛ وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم
في حسم كامل ، وفي تحد سافر ، وفي استعلاء بالحق الذي معه ، وثقة في ربه الذي يجد
حقيقته في نفسه بينة :
(قالَ : إِنِّي
أُشْهِدُ اللهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ ،
فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ
رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ
رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما
أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ..
إن أصحاب
الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا
المشهد الباهر .. رجل واحد ، لم يؤمن معه إلا قليل ، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى
أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم ، كما جاء عنهم في قول الله
تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى :
__________________
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ : أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ
وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ. قالُوا : سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الْواعِظِينَ. إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)! .. (الشعراء : ١٢٣ ـ ١٣٨)
فهؤلاء العتاة
الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة ؛ والذين أبطرتهم النعمة ؛ والذين يقيمون المصانع
يرجون من ورائها الامتداد والخلود! .. هؤلاء هم الذين واجههم هود ـ عليهالسلام ـ هذه المواجهة. في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه ؛ وفاصلهم هذه
المفاصلة الحاسمة الكاملة ـ وهم قومه ـ وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال. وأن يفعلوا
ما في وسعهم فلا يباليهم بحال!
لقد وقف هود ـ عليهالسلام ـ هذه الوقفة الباهرة ، بعد ما بذل لقومه من النصح ما يملك ؛ وبعد أن تودد
إليهم وهو يدعوهم غاية التودد .. ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى
الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله ..
لقد وقف هود ـ عليهالسلام ـ هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه ، فيوقن أن أولئك
الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من
دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ؛ ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي
استخلفهم في الأرض ، وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع
والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء. وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا
شاء ، ولا يضرونه شيئا ، ولا يردون له قضاء .. ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه ،
وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء؟ ..
إن أصحاب
الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن
يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم .. أمام القوة
المادية. وقوة الصناعة. وقوة المال. وقوة العلم البشري. وقوة الأنظمة والأجهزة
والتجارب والخبرات .. وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة ؛ وأن الناس ـ كل
الناس ـ إن هم إلا دواب من الدواب!
وذات يوم لا بد
أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة ؛ فإذا القوم الواحد أمتان
مختلفتان .. أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه. وأمة تتخذ من دون الله
أربابا ، وتحاد الله!
ويوم تتم هذه
المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه ، والتدمير على أعدائه ـ في صورة من
الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال ـ ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار
التاريخ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على
أساس العقيدة فاختاروا الله وحده .. وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره
والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه.
* * *
وحسبنا هذه
الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد. لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود.
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها.
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ..
إنها الكلمة
التي لا تتغير :
(يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ..
وإنه كذلك
المنهج الذي لا يتبدل :
(فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ..
ثم هو التعريف
بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول :
(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ
مُجِيبٌ) ..
وذكرهم صالح
بنشأتهم من الأرض. نشأة جنسهم ، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي
تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي. ومع أنهم من هذه الأرض. من عناصرها. فقد
استخلفهم الله فيها ليعمروها. استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من
قبلهم.
ثم هم بعد ذلك
يشركون معه آلهة أخرى ..
(فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ..
واطمئنوا إلى
استجابته وقبوله :
(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ
مُجِيبٌ) ..
والإضافة في «ربي»
ولفظ «قريب» ولفظ «مجيب» واجتماعها وتجاورها .. ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما
تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة ، وتخلع على الجو أنسا واتصالا ومودة ،
تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب!
ولكن قلوب
القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك
الصورة ولا جلالها ، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق ، ولا وضاءة هذا الجو الطليق
.. وإذا بهم يفاجأون ، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون!
(قالُوا : يا صالِحُ
قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا! أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ
آباؤُنا؟ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ..
لقد كان لنا
رجاء فيك. كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ، أو لهذا
جميعه. ولكن هذا الرجاء قد خاب ..
(أَتَنْهانا أَنْ
نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) ..
إنها للقاصمة!
فكل شيء يا صالح إلا هذا! وما كنا لنتوقع أن تقولها! فيا لخيبة الرجاء فيك! ثم
إننا لفي شك مما تدعونا إليه. شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول :
(وَإِنَّنا لَفِي
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ..
وهكذا يعجب
القوم مما لا عجب فيه ؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق ، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم
صالح إلى عبادة الله وحده. لما ذا؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير. ولكن لأن
آباءهم يعبدون هذه الآلهة! وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين. وأن
يعللوا العقائد بفعل الآباء!
وهكذا يتبين
مرة وثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل
الصحيح. ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد ، ومن أوهاق الوهم والخرافة
التي لا تستند إلى دليل.
وتذكرنا قولة
ثمود لصالح :
(قَدْ كُنْتَ فِينا
مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) ..
تذكرنا بما كان
لقريش من ثقة بصدق محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمانته. فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم
صالح ، وقالوا : ساحر. وقالوا : مفتر. ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه! إنها طبيعة
واحدة ، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور ..
ويقول صالح كما
قال جده نوح :
«قال : يا قوم
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟
فما تزيدونني غير تخسير» ..
يا قوم : ماذا
ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة ، تجعلني على يقين من أن هذا هو
الطريق؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها. فمن
ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته ، احتفاظا برجائكم فيّ؟ أفنافعي
هذا الرجاء وناصري من الله؟ كلا :
(فَمَنْ يَنْصُرُنِي
مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) ..
ما تزيدونني
إلا خسارة على خسارة .. غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وهي
خسارة بعد خسارة. ولا شيء إلا التخسير! والتثقيل والتشديد!
(وَيا قَوْمِ هذِهِ
ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ ، وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ)
ولا يذكر
السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في
إضافتها لله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) وفي تخصيصها لهم : «لكم آية» ما يشير إلى أنها كانت ذات
صفة خاصة مميزة ، يعلمون بها أنها آية لهم من الله. ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك
الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح
فيما مضى وفيما سيجيء!
(هذِهِ ناقَةُ اللهِ
لَكُمْ آيَةً. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) ..
وإلا فسيعاجلكم
العذاب. يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب :
(فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ قَرِيبٌ) ..
يأخذكم أخذا.
وهي حركة أشد من المس أو الوقوع.
(فَعَقَرُوها ..
فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ
مَكْذُوبٍ) ..
ودل عقرهم
للناقة ، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد
قلوبهم واستهتارهم. والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها ، لأنها
لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرا يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو
يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات :
(فَعَقَرُوها. فَقالَ
: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) ..
فهي آخر ما بقي
لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة :
(ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ
مَكْذُوبٍ) ..
فهو وعد صادق
لن يحيد ..
وبالفاء
التعقيبية يعبر كذلك. فالعذاب لم يتأخر :
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ
خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ..
فلما جاء موعد
تحقيق الأمر ـ وهو الإنذار أو الإهلاك ـ نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا
.. خاصة ومباشرة .. نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم ، فقد كانت ميتة ثمود ميتة
مخزية ، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على
هيئتهم مشهدا مخزيا.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ..
يأخذ العتاة
أخذا ولا يعز عليه أمر ، ولا يهون من يتولاه ويرعاه.
ثم يعرض السياق
مشهدهم ، معجّبا منهم ، ومن سرعة زوالهم :
(كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيها) ..
كأن لم يقيموا
ويتمتعوا .. وإنه لمشهد مؤثر ، وإنها للمسة مثيرة ، والمشهد معروض ، وما بين الحياة
والموت ـ بعد أن يكون ـ إلا لمحة كومضة العين ، وإذا الحياة كلها شريط سريع. كأن
لم يغنوا فيها ...
ثم الخاتمة
المعهودة في هذه السورة : تسجيل الذنب ، وتشييع اللعنة ، وانطواء الصفحة من الواقع
ومن الذكرى :
(أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!) ..
* * *
ومرة أخرى
نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ .. الدعوة فيها هي الدعوة.
وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته .. عبادة الله وحده بلا شريك ، والدينونة لله وحده
بلا منازع .. ومرة أخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام ، ونجد الشرك الذي يعقب
التوحيد ـ فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح ـ ولكنهم
انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية ، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد ..
ثم نجد أن
القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها ، لا بالإيمان والتصديق ، ولكن بالجحود
وعقر الناقة! ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا. فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم
الخارقة التي طلبوا. فما أغنت معهم شيئا! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق. إنه
دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب
والعقول :!!!
ومرة أخرى نجد
حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام. نجدها
في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم : (قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) .. وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ..
وما تتجلى
حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك
الصفوة المختارة من عباده. فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه
هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب !
__________________
ثم نقف من
القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالا ؛ وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها!
فصالح الذي كان مرجوا في قومه ، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه ، يقف منه قومه موقف
اليائس منه ، المفجوع فيه! لما ذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده. على غير ما
ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره!
إن القلب
البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة ، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده.
حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها
؛ بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق!
إن صالحا
يناديهم : «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .. هو أنشأكم من الأرض
واستعمركم فيها ..» .. فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري
منطقي لا يملكون له ردا .. وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشئوا أنفسهم ، ولا أنهم
هم كفلوا لأنفسهم البقاء ، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في
الأرض ..
وظاهر أنهم لم
يكونوا يجحدون أن الله ـ سبحانه ـ هو الذي أنشأهم من الأرض ، وهو الذي أقدرهم على
عمارتها. ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله ـ سبحانه ـ وإنشائه
لهم واستخلافهم في الأرض ، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك ،
واتباع أمره وحده بلا منازع .. وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله : «يا قوم اعبدوا
الله ما لكم من إله غيره» ..
لقد كانت
القضية هي ذاتها .. قضية الربوبية لا قضية الألوهية. قضية الدينونة والحاكمية قضية
الاتباع والطاعة .. إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع
الجاهلية!
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)
وَامْرَأَتُهُ
قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)
قالَتْ
يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ
رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
(٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ
الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ
غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا
قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ
فِي
ضَيْفِي
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
قالُوا
لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ
(٧٩) قالَ
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ
إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها
ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
(٨١) فَلَمَّا
جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)
(٨٣)
يلم السياق في
مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح ، وبالأمم التي بوركت والأمم التي كتب
عليها العذاب .. يلم بطرف من قصة إبراهيم ، تتحقق فيه البركات ، في الطريق إلى قصة
قوم لوط الذين مسهم العذاب الأليم. وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد الله
بطرفيه لنوح : (قِيلَ : يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ.
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) .. وقد كانت البركات في إبراهيم وعقبه من ولديه : إسحاق
وأبنائه أنبياء بني إسرائيل. وإسماعيل ومن نسله خاتم الأنبياء المرسلين.
* * *
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) ..
ولا يفصح
السياق عن هذه البشرى إلا في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم! والرسل :
الملائكة. وهم هنا مجهولون ، فلا ندخل ـ مع المفسرين ـ في تعريفهم وتحديد من هم
بلا دليل.
«قالوا :
سلاما. قال : سلام» ..
وكان إبراهيم
قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق ، وعبر الأردن ، وسكن في أرض كنعان
في البادية ـ وعلى عادة البدو في إكرام الأضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد
ظنهم ضيوفا ـ :
«فما لبث أن
جاء بعجل حنيذ» ..
أي سمين مشوي
على حجارة الرضف المحماة.
ولكن الملائكة
لا يأكلون طعام أهل الأرض :
(فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) ..
أي لا تمتد
إليه.
(نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) ..
فالذي لا يأكل
الطعام يريب ، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدرا بحسب تقاليد أهل البدو .. وأهل الريف
عندنا يتحرجون من خيانة الطعام ، أي من خيانة من أكلوا معه طعاما! فإذا
امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شرا ، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم
.. وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم :
(قالُوا : لا تَخَفْ ،
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) ..
وإبراهيم يدرك
ما وراء إرسال الملائكة إلى قوم لوط! ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث :
(وَامْرَأَتُهُ
قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) ..
وربما كان
ضحكها ابتهاجا بهلاك القوم الملوثين :
(فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ..
وكانت عقيما لم
تلد وقد أصبحت عجوزا. ففاجأتها البشرى بإسحاق. وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق
عقب من بعده هو يعقوب. والمرأة ـ وبخاصة العقيم ـ يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى
، والمفاجأة بها تهزها وتربكها :
(قالَتْ : يا وَيْلَتى!
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) ..
وهو عجيب حقا.
فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فلا تحمل. ولكن لا شيء بالقياس إلى قدرة
الله عجيب :
(قالُوا : أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ؟ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ..
ولا عجب من أمر
الله. فالعادة حين تجري بأمر لا يكون معنى هذا أنها سنة لا تتبدل. وعند ما يشاء
الله لحكمة يريدها ـ وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه ـ
يقع ما يخالف العادة ، مع وقوعه وفق السنة الإلهية التي لا نعلم حدودها ، ولا نحكم
عليها بما تجري به العادة في أمد هو على كل حال محدود ، ونحن لا نستقرئ جميع
الحوادث في الوجود.
والذين يقيدون
مشيئة الله بما يعرفونه هم من نواميسه لا يعرفون حقيقة الألوهية كما يقررها الله
سبحانه في كتابه ـ وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول ـ وحتى الذين
يقيدون مشيئة الله بما يقرر الله ـ سبحانه ـ أنه ناموسه ، لا يدركون حقيقة
الألوهية كذلك! فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما قرره الله سبحانه من نواميس. ولا
تتقيد هذه المشيئة بالنواميس.
نعم إن الله
سبحانه يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له .. ولكن هذا شيء والقول بتقيد
إرادته بهذه النواميس بعد وجودها شيء آخر! إن الناموس يجري وينفذ بقدر من الله في
كل مرة ينفذ فيها. فهو لا يجري ولا ينفذ آليا. فإذا قدر الله في مرة أن يجري
الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات سابقة كان ما قدره الله ولم يقف
الناموس في وجه هذا القدر الجديد .. ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل النواميس
هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق ، وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر
خاص طليق ..
وإلى هنا كان
إبراهيم ـ عليهالسلام ـ قد اطمأن إلى رسل ربه ، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه. ولكن هذا لم
ينسه لوطا وقومه ـ وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريبا منه ـ وما
ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود
لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعا :
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ).
والحليم الذي
يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ولا يثور. والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من
التقوى. والمنيب الذي يعود سريعا إلى ربه .. وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن
يجادل الملائكة في مصير قوم لوط وإن كنا لا نعلم كيف كان هذا الجدال لأن النص
القرآني لم يفصله ، فجاءه الرد بأن أمر الله فيهم قد قضي وأنه لم يعد للجدال مجال
:
(يا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هذا ، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ
عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ..
* * *
ويسكت السياق.
وقد سكت ـ ولا شك ـ إبراهيم .. ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك
على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط. وقوم لوط في مدن الأردن : عمورية وسدوم.
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ، وَقالَ : هذا يَوْمٌ
عَصِيبٌ! ..)
لقد كان يعرف
قومه. ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين. إذ يتركون النساء إلى الرجال
، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعا أزواجا ، كي تمتد الحياة
بالنسل ما شاء لها الله. والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الأزلية ،
لا عن تفكير وتدبير ، ولكن عن اهتداء واستقامة. والبشرية تعرف حالات مرضية فردية
شاذة ، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة. وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض
الجسدي. وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من
البيئات ، وانتشار المثل السيئ ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة. على الرغم من
مصادمته للفطرة ، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة. الناموس الذي يقتضي أن
تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها. والشذوذ الجنسي يصادم
الحياة ويعدمها ، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها
وإحيائها. بدلا من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها. ومن أجل هذا
تنفر الفطرة السليمة نفورا فطريا ـ لا أخلاقيا فحسب ـ من عمل قوم لوط. لأن هذه
الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة. الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما
يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها.
ولقد نجد
أحيانا لذة في الموت ـ في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا ـ ولكنها ليست لذة حسية
إنما هي معنوية اعتبارية. على أن هذه ليست مصادفة للحياة ، إنما هي إنماء لها
وارتفاع بها من طريق آخر. وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة
وخلاياها ..
سيئ لوط بأضيافه.
وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه ، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه :
(وَقالَ : هذا يَوْمٌ
عَصِيبٌ)!
وبدأ اليوم
العصيب!
(وَجاءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) ..
أي يسرعون في
حالة تشبه الحمى.
(وَمِنْ قَبْلُ كانُوا
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ..
وكان هذا ما
ساء الرجل بضيوفه ، وما ضيق بهم ذرعه ، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب!
ورأى لوط ما
يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره ، يهددونه في ضيفه وكرامته. فحاول أن
يوقظ فيهم الفطرة السليمة ، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال
، وعنده منه في داره بناته ، فهن حاضرات ، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون
تم الزواج على الفور ، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة!
«قال : يا قوم
هؤلاء بناتي هن أطهر لكم. فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي. أليس منكم رجل رشيد؟».
«هؤلاء بناتي
هن أطهر لكم» ..
أطهر بكل معاني
الطهر. النفسي والحسي. فهن يلبين الفطرة النظيفة ، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة. نظافة
فطرية ونظافة أخلاقية ودينية. ثم هن أطهر حسيا. حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة
الناشئة مكمنا كذلك طاهرا نظيفا.
(فَاتَّقُوا اللهَ) ..
قالها يلمس
نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة.
(وَلا تُخْزُونِ فِي
ضَيْفِي) ..
قالها كذلك
يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقا.
«أليس منكم رجل
رشيد؟» ..
فالقضية قضية
رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة .. ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة
المريضة ، ولا القلوب الميتة الآسنة ، ولا العقول المريضة المأفونة. وظلت الفورة
المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم :
«قالوا : لقد
علمت ما لنا في بناتك من حق. وإنك لتعلم ما نريد!» ..
لقد علمت لو
أردنا بناتك لتزوجناهن. فهذا حقنا .. «وإنك لتعلم ما نريد» .. وهي إشارة خبيثة إلى
العمل الخبيث.
وأسقط في يد
لوط ، وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم ، نازح إليهم من بعيد ، لا عشيرة له تحميه ،
وليس له من قوة في هذا اليوم العصيب ؛ وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة :
«قال : لو أن
لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد!» ..
قالها وهو يوجه
كلامه إلى هؤلاء الفتية ـ الذين جاء الملائكة في صورتهم ـ وهم صغار صباح الوجوه ؛
ولكنهم ـ في نظره ـ ليسوا بأهل بأس ولا قوة. فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل
قوة فيجد بهم قوة. أو لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد!
وغاب عن لوط في
كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد. ركن الله الذي لا يتخلى عن أوليائه. كما قال
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يتلو هذه الآية : «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد»!
وعند ما ضاقت واستحكمت حلقاتها ، وبلغ الكرب أشده .. كشف الرسل للوط عن الركن الشديد
الذي يأوي إليه :
«قالوا : يا
لوط ، إنا رسل ربك ، لن يصلوا إليك» ..
وأنبئوه نبأهم
، لينجو مع أهل بيته الطاهرين ، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين :
«فأسر بأهلك
بقطع من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك. إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم
الصبح. أليس الصبح بقريب؟» ..
والسرى : سير
الليل ، والقطع من الليل : بعضه ، ولا يلتفت منكم أحد. أي لا يتخلف ولا يعوق. لأن
الصبح موعدهم مع الهلاك. فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين.
«أليس الصبح
بقريب؟» ..
سؤال لإنعاش
نفس لوط بعد ما ذاق. لتقريب الموعد وتأكيده. فهو قريب. مع مطلع الصباح. ثم يفعل
الله بالقوم ـ بقوته ـ ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعلة!
والمشهد
الأخير. مشهد الدمار المروع ، اللائق بقوم لوط :
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ
مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ..
فلما جاء موعد
تنفيذ الأمر «جعلنا عاليها سافلها» .. وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء
ويغير المعالم ويمحوها. وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة
المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة الإنسان إلى درك الحيوان. بل أحط من الحيوان ،
فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان ..
(وَأَمْطَرْنا
عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ..
حجارة ملوثة
بالطين .. وهي كذلك مناسبة وعلى قدر المقام :
«منضود» ..
متراكم بعضه يلاحق بعضا.
هذه الحجارة ..
«مسوّمة عند ربك» .. كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة. فكأنما هذه الحجارة
مرباة! ومطلقة لتنمو وتتكاثر! لوقت الحاجة .. وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس ،
ولا يفصح عنه التفسير ، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه ..
«وما هي من
الظالمين ببعيد» ..
فهي قريبة وتحت
الطلب ، وعند الحاجة تطلق فتصيب !
والصورة التي
يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر
البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل ..
وعند ربك للظالمين كثير!!! ولا نقول هذا الكلام لنقول : إنه كان بركان من تلك
البراكين ، ثار في ذلك الوقت ، فوقع ما وقع. إننا لا ننفي هذا. فقد يكون هو الذي
وقع فعلا. ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة ..
وقوام القول في
هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده
في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم. وهذا التوقيت
والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه
متناسقا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه.
وجائز كذلك أن تكون
هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط
__________________
على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين. وفهم علاقة مشيئة الله بالكون
على النحو الذي بيناه قريبا في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم ، لا يبقي مجالا
لمشكلة تقوم في التصور الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور ..
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)
وَيا
قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
قالُوا
يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ
نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما
أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا
يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ
قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا
رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي
أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ
رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
__________________
وَلَمَّا
جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ
(٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا
بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)
(٩٥)
وهذا دور من
أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة ، ينهض به شعيب في قومه أهل مدين .. ومع
الدعوة إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى ، هي قضية الأمانة والعدالة في التعامل بين
الناس ، وهي وثيقة الصلة بالعقيدة في الله ، والدينونة له وحده ، واتباع شرعه
وأمره. وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة ، ولم يدركوا العلاقة بين
المعاملات المالية والصلاة المعبرة عن الدينونة لله!
وتجري القصة
على نسق قصة هود مع عاد ، وقصة صالح مع ثمود ، وإن كانت أقرب في نهايتها وأسلوب
عرضها. والتعبير عن خاتمتها إلى قصة صالح ، حتى لتشترك معها في نوع العذاب وفي
العبارة عن هذا العذاب.
* * *
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً. قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ ...).
إنها الدينونة
لله وحده قاعدة العقيدة الأولى. وقاعدة الحياة الأولى. وقاعدة الشريعة الأولى.
وقاعدة المعاملات الأولى .. القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا
معاملة ..
(وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ، وَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ، وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ..
والقضية هنا هي
قضية الأمانة والعدالة ـ بعد قضية العقيدة والدينونة ـ أو هي قضية الشريعة
والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة .. فقد كان أهل مدين ـ وبلادهم
تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام ـ ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس
أشياءهم ، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات. وهي رذيلة تمس نظافة القلب
واليد ، كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا
الطريق على القوافل الذاهبة الآئبة بين شمال الجزيرة وجنوبها. ويتحكموا في طرق
القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائرة التي وصفها الله في هذه السورة.
ومن ثم تبدو
علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف
الأخذ والعطاء ، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول.
فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس.
وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه ، فتستند إلى أصل
ثابت ، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء ..
إن المعاملات
والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة .. هذه هي نظرة
الإسلام. وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن
إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم!
وهي حين تستند
إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ؛ كما ينعدم تأثرها
بالبيئة والعوامل السائدة فيها.
فلا يكون
المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على
الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة .. إن هذه العوامل المتغيرة
تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية ، حين يصبح مصدر
التشريع للحياة كلها هو شريعة الله ؛ وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله
وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضعية من تبعية
الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغوا في ظل النظرة
الأخلاقية الإسلامية !
(وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) ..
فقد رزقكم الله
رزقا حسنا ، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ، ولن يفقركم أو يضركم أن
لا تنقصوا المكيال والميزان .. بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في
المعاملة ، أو غصب في الأخذ والعطاء.
(وَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) ..
إما في الآخرة
عند الله. وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة
المجتمع وفي حركة التجارة. وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ، في كل حركة من الحركات
اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك.
ومرة أخرى يكرر
شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية :
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) ..
وإيفاء الكيل
والميزان أقوى من عدم نقصهما ، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة.
وللعبارات ظل
في الحس. وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص ، فهو أكثر سماحة ووفاء.
(وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ..
وهذه أعم من
المكيلات والموزونات. فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع. تقويمها كيلا أو
وزنا أو سعرا أو تقديرا. وتقويمها ماديا أو معنويا. وقد تدخل في ذلك الأعمال
والصفات. لأن كلمة «شيء» تطلق أحيانا ويراد بها غير المحسوسات.
وبخس الناس
أشياءهم ـ فوق أنه ظلم ـ يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد ، أو
اليأس من العدل والخير وحسن التقدير .. وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل
والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر ، ولا تبقي على شيء صالح في الحياة.
(وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ..
والعثو هو
الإفساد ، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد ، قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى
خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس
أشياءهم في التقدير :
(بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ..
فما عند الله
أبقى وأفضل .. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده ـ أي الدينونة له بلا
شريك ـ
__________________
فهو يذكرهم بها هنا ، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم
، واتبعوا نصيحته في المعاملات. وهي فرع عن ذلك الإيمان.
(بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ .. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ..
ثم يخلي بينهم
وبين الله الذي دعاهم إليه ، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئا ، كما أنه ليس
موكلا بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلا كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولا عنهم
إن هم ضلوا ، إنما عليه البلاغ وقد أداه :
(وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ..
ومثل هذا
الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر ، وبثقل التبعة ، ويقفهم وجها لوجه أمام
العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ.
* * *
ولكن القوم
كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد ، وسوء الاستغلال :
«قالوا : يا
شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك
لأنت الحليم الرشيد!» ..
وهو رد واضح
التهكم ، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعه. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ،
والمعاند بلا معرفة ولا فقه.
(أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا
ما نَشؤُا؟ ..)
فهم لا يدركون ـ
أولا يريدون أن يدركوا ـ أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية
والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم
وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال
وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن
الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة.
وقبل أن نمضي
طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معا
بالمعاملات .. قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين
، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه
الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا
أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته
الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها ـ بما فيها أولئك الذين يقولون : إنهم
يهود أو نصارى أو مسلمون ـ فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل.
فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره ، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله ، ووفق
أمر غيره .. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله ..
وإن كان لا
يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق
ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم ـ وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما
في هذه الشريعة من تحريف ـ فلقد قامت أزمة في «الكنيست» مجلس تشريعهم في إسرائيل
بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها ـ من غير اليهود ـ أطعمة غير شرعية. وأرغمت
الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده ـ مهما تعرضت للخسارة ـ فأين من
يدعون أنفسهم «مسلمين!» من هذا الاستمساك بالدين؟!!
إن بيننا اليوم
ـ ممن يقولون : إنهم مسلمون! ـ من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق ، وبخاصة
أخلاق المعاملات المادية.
وحاصلون على
الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار : وما
للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في
الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من
الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله «المتحضرون»؟! .. فأي فرق بين
هذا وبين سؤال أهل مدين : «أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟» ..
وهم يتساءلون
ثانيا. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد ، وأن تتصل المعاملات
بالاعتقاد ، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد .. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما
للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم
يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب
النظريات الاقتصادية الغربية ـ النظرية الأخلاقية مثلا ـ ويعدونها تخليطا من أيام
زمان!
فلا يذهبن بنا
الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد
جهالة ، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في
الله ، والسلوك الشخصي في الحياة ، والمعاملات المادية في السوق .. تتهمهم
بالرجعية والتعصب والجمود!!!
وما تستقيم
عقيدة توحيد الله في القلب ، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى
غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك
ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي
عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان!
ويسخر أهل مدين
من شعيب ـ كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق ـ فيقولون : «إنك
لأنت الحليم الرشيد!» ..
وهم يعنون عكس
معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير ، وأن يفصلوا بين
العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون
على المتعصبين الرجعيين!!!
* * *
ويتلطف شعيب
تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو
يشعر بقصورهم وجهلهم .. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره
وقلبه ؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا ، وأنه إذ يدعوهم
إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات ؛
فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم ؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو
له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه
خسارة عليهم كما يتوهمون :
«قال : يا قوم
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا حسنا؟ وما أريد أن أخالفكم إلى
ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه
توكلت وإليه أنيب» ..
«يا قوم ...»
..
في تودد وتقرب
، وتذكير بالأواصر القريبة.
«أرأيتم إن كنت
على بينة من ربي؟» ..
أجد حقيقته في
نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في
نفسي ، أصدر واثقا مستيقنا.
(وَرَزَقَنِي مِنْهُ
رِزْقاً حَسَناً) ..
ومنه الثروة التي
أتعامل مع الناس مثلكم فيها.
«وما أريد أن
أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» ..
فأنها كم ثم
أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعا به!
«إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت» ..
الإصلاح العام
للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه ؛ وإن خيل إلى
بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ، ويضيع بعض الفرص. فإنما
يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة ؛ ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلالا ،
ومجتمعا متضامنا متعاونا لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام!
(وَما تَوْفِيقِي
إِلَّا بِاللهِ) ..
فهو القادر على
إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي ، وبما يجزي على جهدي.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ..
عليه وحده لا
أعتمد على غيره.
(وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ..
إليه وحده أرجع
فيما يحزبني من الأمور ، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي.
ثم يأخذ بهم في
واد آخر من التذكير ، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط : فقد
يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج
إلى رشد وتفكير :
«ويا قوم لا
يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح. وما قوم
لوط منكم ببعيد» ..
لا يحملنكم
الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة ، خشية أن
يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في
الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام.
ثم يفتح لهم ـ وهم
في مواجهة العذاب والهلاك ـ باب المغفرة والتوبة ، ويطمعهم في رحمة الله والقرب
منه بأرق الألفاظ وأحناها :
(وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) ..
وهكذا يطوف بهم
في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع ، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين.
ولكن القوم
كانوا قد بلغوا من فساد القلوب ، ومن سوء تقدير القيم في الحياة ، وسوء التصور
لدوافع العمل والسلوك ، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب :
(قالُوا : يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً ، وَلَوْ
لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) ..
فهم ضيقو
الصدور بالحق الواضح ، لا يريدون أن يدركوه :
(قالُوا يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) ..
وهم يقيسون
القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة :
(وَإِنَّا لَنَراكَ
فِينا ضَعِيفاً) ..
فلا وزن عندهم
للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها.
(وَلَوْ لا رَهْطُكَ
لَرَجَمْناكَ) ..
ففي حسابهم
عصبية العشيرة ، لا عصبية الاعتقاد ، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن
غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.
(وَما أَنْتَ عَلَيْنا
بِعَزِيزٍ) ..
لا عزة التقدير
والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة!
وحين تفرغ
النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية ؛ فإنها تقبع على الأرض
ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا ؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة ، ولا لحقيقة
كبيرة ؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه ؛ وإلا أن تكون
معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك
النفوس الفارغة الخاوية.
* * *
وعندئذ تأخذ
شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره ؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ؛ ويجبههم
بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود ، وبسوء الأدب مع الله المحيط
بما يعملون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة ، ويخلي
بينهم وبين الله ، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ، ويدعهم لمصيرهم الذي
يختارون :
(قالَ : يا قَوْمِ : أَرَهْطِي
أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا؟ إِنَّ
رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي
عامِلٌ ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ
وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ..
(أَرَهْطِي أَعَزُّ
عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ؟) ..
أجماعة من
البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ، وهم ضعاف ، وهم عباد من عباد الله
.. أهؤلاء أعز عليكم من الله؟ .. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله؟
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ
وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ..
وهي صورة حسية
للترك والإعراض ، تزيد في شناعة فعلتهم ، وهم يتركون الله ويعرضون عنه ، وهم من
خلقه ، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة
الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير.
(إِنَّ رَبِّي بِما
تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ..
والإحاطة أقصى
الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه.
إنها غضبة
العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله ـ سبحانه ـ ووقاره. الغضبة التي لا يقوم إلى
جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه .. إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش
أن يجد القوم يرهبون رهطه ، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه! ولم يسترح
ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه ـ الذين افترق
طريقهم عن طريقه ـ وهذا هو الإيمان في حقيقته .. أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ؛ ولا
يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يخشى ربه! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ، إنما
هي لربه ودينه. وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور
الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته! ومن هذه الغضبة لله. والتنصل من الاعتزاز أو
الاحتماء بسواه ، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه ؛ وتقوم تلك المفاصلة
بينه وبينهم ـ بعد أن كان واحدا منهم ـ ويفترق الطريقان فلا يلتقيان :
(وَيا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) ..
وامضوا في
طريقكم وخطتكم ، فقد نفضت يديّ منكم.
(إِنِّي عامِلٌ) ..
على طريقتي
ومنهجي.
(سَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) ..
أنا أم أنتم؟
(وَارْتَقِبُوا إِنِّي
مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ..
للعاقبة التي
تنتظرني وتنتظركم .. وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير. كما يوحي بالمفاصلة
وافتراق الطريق ..
* * *
ويسدل الستار
هنا. على هذه الكلمة الأخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة ، ليرفع هناك
على مصرع القوم ، وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم ، أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم
صالح ، فكان مصيرهم كمصيرهم ، خلت منهم الدور ، كأن لم يكن لهم فيها دور ، وكأن لم
يعمروها حينا من الدهر. مضوا مثلهم مشيعين باللعنة ، طويت صفحتهم في الوجود
وصفحتهم في القلوب :
(وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ،
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ
، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ ، كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ
...).
وطويت صفحة
أخرى من الصفحات السود ، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ
(٩٦)
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)
(٩٩)
وخاتمة ذلك
القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون ، لتسجيل نهاية فرعون وملئه ، ونهاية
قومه الذين ائتمروا بأمره. وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع
القصة التي لم تذكر هنا ، كما تضم مشهدا من مشاهد القيامة الحية المتحركة. وهذا
وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام. مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها
اتباع الرؤساء والكبراء ..
* * *
ويبدأ المشهد
المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزودا بقوة من الله وسلطان ، إلى فرعون ذي
السلطان وكبراء قومه.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ..
ويجمل السياق
خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها ، فإذا هم يتبعون أمر فرعون ، ويعصون أمر الله.
على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط :
(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ
فِرْعَوْنَ. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ..
ولما كانوا
تبعا لفرعون في هذا الأمر ، يمشون خلفه ، ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر
، ودون أن يكون لهم رأي ، مستهينين بأنفسهم ، متخلين عن تكريم الله لهم بالإرادة
والعقل وحرية الاتجاه واختيار الطريق .. لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون
سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعا :
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) ..
وبينما نحن
نسمع حكاية عن الماضي ووعدا عن المستقبل ، إذا المشهد ينقلب ، وإذا المستقبل ماض
قد وقع ، وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى :
(فَأَوْرَدَهُمُ
النَّارَ)!!
أوردهم كما
يورد الراعي قطيع الغنم. ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير؟ ألم يتنازلوا عن أخص
خصائص الآدمية وهي حرية الإرادة والاختيار؟ فأوردهم النار. ويا بئساه من ورد لا
يروي غلة ، ولا يشفي صدى ، إنما يشوي البطون والقلوب :
(وَبِئْسَ الْوِرْدُ
الْمَوْرُودُ!).
وإذا ذلك كله.
قيادة فرعون لهم ، وإيرادهم موردهم .. إذا ذلك كله حكاية تروى ، ويعلق عليها :
(وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) ..
ويسخر منها
ويتهكم عليها : (بِئْسَ الرِّفْدُ
الْمَرْفُودُ) ..
فهذه النار هي
الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه!!! ألم يعد السحرة عطاء جزيلا ورفدا
مرفودا .. فها هو ذا رفده لمن اتبعه .. النار .. وبئس الورد المورود .. وبئس الرفد
المرفود!
وذلك من بدائع
التعبير والتصوير في هذا الكتاب العجيب ..
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما
زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)
وَما
نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ
(١٠٤) يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)
خالِدِينَ
فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
فَلا
تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ
آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
وَلا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
وَأَقِمِ
الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ
(١١٤) وَاصْبِرْ
فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
فَلَوْ
لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
وَما
كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
وَلَوْ
شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ
رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ
الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
وَقُلْ
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
(١٢٣)
هذه خاتمة
السورة. تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة ، مبنية على ما سبق في سياق السورة. من
المقدمة ومن القصص. وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة الاتصال بما سبق من سياق
السورة ، متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك.
والتعقيب الأول
في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ـ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ـ وَما زادُوهُمْ
غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ.
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ..
والتعقيب
الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحيا بالخوف من عذاب الآخرة الذي يعرض في
مشهد شاخص من مشاهد يوم القيامة : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ـ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ـ إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ـ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ـ عَطاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ..
يليه تعقيب آخر
مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ شأنهم شأن من قبلهم في الحالين. وإذا كان عذاب الاستئصال لا يقع عليهم في
الأرض ، فذلك لكلمة سبقت من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلافهم فيما
جاءهم من كتاب. ولكن هؤلاء وهؤلاء سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد. فاستقم أيها
الرسول على طريقتك أنت ومن تاب معك ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وأشركوا ، وأقم
الصلاة واصبر ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين : (فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ ، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ. وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ
كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما
يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ، وَلا
تَطْغَوْا ،
إِنَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ
الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ
فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ..
ثم عودة إلى
القرون الخالية التي لم يكن فيها إلا قليل من الذين ينهون عن الفساد في الأرض. أما
الكثرة فكانت ماضية فيما هي فيه ، فاستحقت الهلاك. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم
وأهلها مصلحون : «فلو لا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في
الأرض! إلا قليلا ممن أنجينا منهم ، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا
مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون» ..
وكشف عن سنة
الله في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة
واحدة. ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدرا من الاختيار : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ،
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
وفي النهاية
يسجل السياق غرضا من أغراض هذا القصص هو تثبيت فؤاد النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويؤمر الرسول أن يلقي للمشركين كلمته الأخيرة ،
ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب الله. وأن يعبد الله ويتوكل عليه ، ويدع له أخذ
الناس بما يعملون : (وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي
هذِهِ الْحَقُّ ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..
* * *
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ. مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ؛ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ..
ومصارع القوم
معروضة ، ومشاهدهم تزحم النفس والخيال ؛ منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر ،
ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفت به
وبداره الأرض ، ومنهم من يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار. وما حل بهم من قبل
في الدنيا يخايل للأنظار .. في هذا الموضع وقد بلغ السياق من القلوب والمشاعر
أعماقها بتلك المصارع والمشاهد .. هنا يأتي هذا التعقيب :
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) ..
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) .. فما كان لك به من علم ، إنما هو الوحي ينبئك بهذا
الغيب المطمور. وذلك بعض أغراض القصص في القرآن .
«منها قائم» ..
لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران ، كبقايا عاد في الأحقاف
وبقايا ثمود في الحجر. ومنها «حصيد» كالزرع المحصود. اجتث من فوق الأرض وتعرى
وجهها منه ، كما حل بقوم نوح أو قوم لوط.
__________________
وما الأقوام؟
وما العمران؟ .. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات. غرس منها يزكو وغرس منها
خبيث! غرس منها ينمو وغرس منها يموت!
(وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ..
فهم قد عطلوا
مداركهم ، وتولوا عن الهدى ، وكذبوا بالآيات ، واستهزأوا بالوعيد ، فصاروا إلى ما
صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين.
(فَما أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) ..
وهذا غرض آخر
من أغراض هذا القصص. فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه ؛
وتكرر الإنذار مع كل رسول ؛ وقيل لهم : إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصمهم من الله
.. فها هي ذي العاقبة تصدق النذر. فلا تغني عنهم آلهتهم شيئا ، ولا تدفع عنهم
العذاب لما جاء أمر ربك ، بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودمارا. (ولفظ تتبيب
أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد) ذلك أنهم اعتمدوا عليهم ، فزادوا استهتارا
وتكذيبا. فزادهم الله نكالا وتدميرا. فهذا معنى «ما زادوهم» فهم لا يملكون لهم ضرا
كما أنهم لا يملكون لهم نفعا. ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف
والنكال الشديد ..
(وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) ...
كذلك الذي
قصصناه عليك ، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة .. ظالمة
: مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية ، وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض
والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح. وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون.
(إِنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ..
بعد الإمهال
والمتاع والابتلاء ، وبعد الإعذار بالرسل والبينات ، وبعد أن يسود الظلم في الأمة
ويسيطر الظالمون. ويتبين أن دعاة الحق المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة
الجماعة الظالمة السادرة في الضلال .. ثم .. بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها
السادرين في الضلال ؛ وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها
المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها. وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله ،
وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها. وفق سنته التي لا تتخلف على مدار
الزمان.
* * *
ذلك الأخذ
الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة ، يراها من يخافون عذاب الآخرة ،
أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها
بذنوبها في الآخرة ، فيخافوا هذا العذاب .. وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من
مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في
السياق :
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ،
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ـ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ـ إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ـ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ـ عَطاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ..
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) ..
ففي ذلك الأخذ
الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة ، تذكر بهذا اليوم وتخيف ..
وإن كان لا
يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر
والقلوب ..
والذين لا
يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات ، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة ،
ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا ، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا
تثير فيها عظة ولا فهما.
ثم يأخذ في وصف
ذلك اليوم ..
(ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ..
وهنا يرتسم
مشهد التجميع يشمل الخلق جميعا ، على غير إرادة منهم ، إنما هو سوق الجميع سوقا
إلى ذلك المعرض المشهود ، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون ..
(يَوْمَ يَأْتِ لا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ..
فالصمت الهائل
يغشى الجميع ، والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه. والكلام بإذن لا يجرؤ أحد
على طلبه ، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته بإذنه .. ثم تبدأ عملية الفرز
والتوزيع :
(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ) ..
ومن خلال
التعبير نشهد : (الَّذِينَ شَقُوا) نشهدهم في النار مكروبي الأنفاس (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) من الحر والكتمة والضيق. ونشهد (الَّذِينَ سُعِدُوا) نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ولا
ممنوع ..
هؤلاء وأولئك
خالدون حيث هم (ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ). وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار.
وللتعبيرات ظلال. وظل هذا التعبير هنا هو المقصود.
وقد علق السياق
هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين. وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله
في النهاية. فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها.
إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله :
(إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ..
وزاد السياق في
حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع
، حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعد
ما يوهم التقييد.
* * *
بعد هذا
الاستطراد إلى المصير في الآخرة ، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا ، والمشابه
بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك ، أو هنا ثم
هناك .. يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المؤمنة معه في مكة ـ تسرية وتثبيتا ؛ وإلى المكذبين من قومه
بيانا وتحذيرا. فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون ـ شأنهم شأن
أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر ـ ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه. فإن كان قد
أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى ـ بعد اختلافهم في دينهم ـ لأمر قد
شاءه الله في إنظارهم. ولكن قوم موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون ،
بعد الأجل ، وفي الموعد المحدود. ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق. فهم على
الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد :
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وَإِنَّ
كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ .. إِنَّهُ بِما
يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ..
لا يتسرب إلى
نفسك شك في فساد عبادة هؤلاء. والخطاب للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والتحذير لقومه. وهذا الأسلوب أفعل في النفس أحيانا ، لأنه يوحي بأنها
قضية موضوعية يبينها الله لرسوله ، وليست جدالا مع أحد ، ولا خطابا للمتلبسين بها
، إهمالا لهم وقلة انشغال بهم! وعندئذ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في
اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطابا مباشرا ..
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ) ..
ومصيرهم إذن
كمصيرهم .. العذاب .. ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشيا مع الأسلوب :
(وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) ..
ومعروف نصيبهم
هذا من نصيب القوم قبلهم. وقد رأينا منه نماذج ومشاهد!
وقد لا يصيبهم
عذاب الاستئصال ـ في الدنيا ـ كما لم يصب قوم موسى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ..
وتفرقت كلمتهم
واعتقاداتهم وعباداتهم ، ولكن كلمة سبقت من الله أن يكون حسابهم الكامل يوم
القيامة :
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ..
ولحكمة ما سبقت
هذه الكلمة ، ولم يحل عذاب الاستئصال بهم ، لأن لهم كتابا ، والذين لهم كتاب من
أتباع الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة ، لأن الكتاب دليل هداية باق ، تستطيع
الأجيال أن تتدبره كالجيل الذي أنزل فيه. والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي
لا يشهدها إلا جيل ، فإما أن يؤمن بها وإما أن لا يؤمن فيأخذه العذاب .. والتوراة
والإنجيل كتابان متكاملان يظلان معروضين للأجيال حتى يجيء الكتاب الأخير ، مصدقا
لما بين يديه من التوراة والإنجيل فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعا يدعى إليه
الناس جميعا ، ويحاسب على أساسه الناس جميعا ، بما فيهم أهل التوراة وأهل الإنجيل.
(وَإِنَّهُمْ) .. أي قوم موسى .. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ) .. من كتاب موسى ، لأنه لم يكتب إلا بعد أجيال ، وتفرقت
فيه الروايات واضطربت ، فلا يقين فيه لمتبعيه.
وإذا كان
العذاب قد أجل .. فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها. سيوفيهم بها العليم الخبير
بها ولن تضيع :
(وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ. إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ) وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء
والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل. وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل
الذي لا شك في بطلانه ، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين ..
ولقد كان لهذه
التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم
العنيدة منها ومن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المؤمنة معه ، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله
الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين! ..
إنها فترة تهتز
فيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة ، وتحتاج إلى مثل هذه
التسرية وإلى مثل هذا التثبيت.
وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما
يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله ، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه!
كذلك لا يكون
تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين ، وإرجاء
الطغاة إلى يوم معلوم ، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون!
وهكذا نلمح
مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية ، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة
بالجماعة المسلمة ، وكيف يكشف لها معالم الطريق!
* * *
ذلك البيان مع
هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي
وعده وفي وعيده. وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم ـ كما
أمروا ـ لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه ، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن
قوتهم ، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق. ثم يتزودون بزاد الطريق ،
ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عند ما يريد.
(فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ ـ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ـ وَلا تَطْغَوْا. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ..
هذا الأمر
للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن تاب معه :
(فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) .. أحس ـ عليه الصلاة والسلام ـ برهبته وقوته حتى روي
عنه أنه قال مشيرا إليه : «شيبتني هود ...». فالاستقامة : الاعتدال والمضي على
النهج دون انحراف. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة ، والتدبر الدائم ، والتحري
الدائم لحدود الطريق ، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلا أو كثيرا
.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.
وإنه لما يستحق
الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة ، لم يكن نهيا عن القصور
والتقصير ، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة .. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما
يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين
من يسر إلى عسر. والله يريد دينه كما أنزله ، ويريد الاستقامة على ما أمر دون
إفراط ولا غلو ، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير.
وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة ، لإمساك النفوس على الصراط ، بلا انحراف إلى الغلو أو
الإهمال على السواء ..
(إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..
والبصر ـ من
البصيرة ـ مناسب في هذا الموضع ، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير ..
فاستقم ـ أيها
الرسول ـ كما أمرت. ومن تاب معك ...
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ..
لا تستندوا ولا
تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض ،
الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبّدونهم لغير الله من العبيد .. لا تركنوا إليهم
فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على
هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه. ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير.
(فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ) ..
جزاء هذا
الانحراف.
(وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ..
والاستقامة على
الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين ..
والله ـ سبحانه
ـ يرشد رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق :
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ..
ولقد علم الله
أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد ، والذي يقيم البنية الروحية ، ويمسك
القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود ،
القريب المجيب ، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة
الكنود!
والآية هنا
تذكر طرفي النهار ـ وهما أوله وآخره ، وزلفا من الليل أي قريبا من الليل. وهذه
تشمل أوقات الصلاة المفروضة دون تحديد عددها. والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك.
والنص يعقب على
الأمر بإقامة الصلاة ـ أي أدائها كاملة مستوفاة ـ بأن الحسنات يذهبن السيئات. وهو
نص عام يشمل كل حسنة ، والصلاة من أعظم الحسنات ، فهي داخلة فيه بالأولوية. لا أن
الصلاة هي الحسنة التي تذهب السيئة بهذا التحديد ـ كما ذهب بعض المفسرين ـ :
(ذلِكَ ذِكْرى
لِلذَّاكِرِينَ) ..
فالصلاة ذكر في
أساسها ومن ثم ناسبها هذا التعقيب ..
والاستقامة في
حاجة إلى الصبر. كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر
.. ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو :
(وَاصْبِرْ فَإِنَّ
اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ..
والاستقامة
إحسان. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان. والصبر على كيد التكذيب إحسان ... والله
لا يضيع أجر المحسنين ...
* * *
ثم يعود السياق
إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون. فيشير من طرف خفي إلى أنه لو
كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله ، فينهون عن الفساد
في الأرض ، ويصدون الظالمين عن الظلم ، ما أخذ تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل
بهم ، فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين ، أي إذا كان للمصلحين
من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد ، إنما كان في هذه القرى قلة من المؤمنين
لا نفوذ لهم ولا قوة ، فأنجاهم الله. وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين
لهم ، فأهلك القرى بأهلها الظالمين :
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي
الْأَرْضِ! إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ، وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ
الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ..
وهذه الإشارة
تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير
الله ، في صورة من صوره ، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية ، لا يأخذها الله بالعذاب
والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون ، ويفسد فيها المفسدون ، فلا ينهض
من يدفع الظلم والفساد ، أو يكون فيها من يستنكر ، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في
الواقع الفاسد ، فإن سنة الله تحق عليها ، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك
الانحلال .. والاختلال!
فأصحاب الدعوة
إلى ربوبية الله وحده ، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره ، هم
صمام الأمان للأمم والشعوب .. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله
وحده ، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره .. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم
فحسب ، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله ، واستحقاق النكال والضياع ..
* * *
والتعقيب
الأخير عن اختلاف البشر إلى الهدى وإلى الضلال ، وسنة الله المستقيمة في اتجاهات
خلقه إلى هذا أو ذاك :
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ـ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ ـ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ :
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ..
لو شاء الله
لخلق الناس كلهم على نسق واحد ، وباستعداد واحد .. نسخا مكرورة لا تفاوت بينها ولا
تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض. وليست طبيعة هذا
المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض.
ولقد شاء الله
أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن
يختار هو طريقه ، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال ..
هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته. فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في
أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه ، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار ،
وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار.
شاء الله ألا
يكون الناس أمة واحدة. فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين. وأن يبلغ هذا
الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة ـ إلا الذين أدركتهم رحمة الله ـ الذين اهتدوا
إلى الحق ـ والحق لا يتعدد ـ فاتفقوا عليه. وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل
الضلال.
ومن المقابل
الذي ذكره النص :
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ..
يفهم أن الذين
التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتلىء بهم كما تمتلئ
جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق ، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل
ومناهجه الكثيرة!
* * *
والخاتمة
الأخيرة. خطاب للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين. فأما الذين لا يؤمنون
فليلق إليهم كلمته الأخيرة ، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة ، وليخل بينهم وبين ما
ينتظرهم في غيب الله. ثم ليعبد الله ويتوكل عليه ، ويدع القوم لما يعملون ..
(وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي
هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..
ويا لله للرسول
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لقد كان يجد من قومه ، ومن انحرافات النفوس ، ومن أعباء الدعوة ، ما
يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه ـ وهو الصابر الثابت المطمئن إلى
ربه ـ :
(وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ..
(وَجاءَكَ فِي هذِهِ
الْحَقُّ) ..
أي في هذه
السورة .. الحق من أمر الدعوة ، ومن قصص الرسل ، ومن سنن الله ، ومن تصديق البشرى
والوعيد.
(وَمَوْعِظَةٌ
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
تعظهم بما سلف
في القرون وتذكرهم بسنن الله وأوامره ونواهيه.
فأما الذين لا
يؤمنون بعد ذلك فلا موعظة لهم ولا ذكرى. وإنما الكلمة الفاصلة ، والمفاصلة الحاسمة
:
«وقل للذين لا
يؤمنون : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون» ..
كما قال أخ لك
ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلاقونه .. وما ينتظرونه غيب
من غيب الله :
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ..
والأمر كله
إليه. أمرك وأمر المؤمنين ، وأمر الذين لا يؤمنون ، وأمر هذا الخلق كله ما كان في
غيبه وما سيكون.
(فَاعْبُدْهُ) ..
فهو الجدير
وحده بالعبادة والدينونة.
(وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ..
فهو الولي وحده
والنصير. وهو العليم بما تعملون من خير وشر ، ولن يضيع جزاء أحد :
(وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..
* * *
وهكذا تختم
السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة ، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في
النهاية. بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. والرجعة إليه في
نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون ..
وهكذا يلتقي
جمال التنسيق الفني في البدء والختام ، والتناسق بين القصص والسياق ، بكمال النظرة
والفكرة والاتجاه في هذا القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا ..
* * *
وبعد. فإن
المتتبع لسياق هذه السورة كلها ـ بل المتتبع للقرآن المكي كله ـ يجد أن هنالك خطا
أصيلا ثابتا عريضا عميقا ، هو الذي ترتكز عليه ؛ وهو المحور الذي تدور حوله ؛
وإليه ترجع سائر خطوطها ، وإليه
تشد جميع خيوطها كذلك .. إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله ..
وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلا
..
وسنحتاج ـ في
التعقيب الإجمالي على هذه السورة ـ أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى
هذا المحور ـ كما يتجلي في سياق السورة ـ وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده
شيئا ما. ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به ، ربطا لأجزاء هذا
التعقيب الأخير :
* * *
إن الحقيقة
الأولى البارزة في سياق السورة كله .. سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب
الذي أرسل به محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى التاريخ
البشري. أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون
الكتاب الذي جاءهم به في النهاية ..
إن الحقيقة
الأولى البارزة في سياق السورة كله .. هي التركيز على الأمر بعبادة الله وحده ،
والنهي عن عبادة غيره .. وتقرير أن هذا هو الدين كله .. وإقامة الوعد والوعيد ،
والحساب والجزاء ، والثواب والعقاب ، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة ..
كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها ..
فيبقى هنا أن
نجلي أولا طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة ، وقيمة هذه الطريقة :
إن حقيقة توحيد
العبادة لله ترد في صيغتين هكذا :
(يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...) ..
(أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ...) ..
وواضح اختلاف
الصيغتين بين الأمر والنهي .. فهل مدلولهما واحد؟. إن مدلول الصيغة الأولى : الأمر
بعبادة الله ، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه .. ومدلول الصيغة الثانية : النهي
عن عبادة غير الله ..
والمدلول الثاني
هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه .. ولكن الأول «منطوق» والآخر «مفهوم» .. ولقد
اقتضت حكمة الله ـ في بيان هذه الحقيقة الكبيرة ـ عدم الاكتفاء بالمفهوم ، في
النهي عن عبادة غير الله. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل. وإن كان مفهوما
ومتضمنا في الأمر الأول!
إن هذا يعطينا
إيحاء عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة ، ووزنها في ميزان الله سبحانه ، بحيث
تستحق ألّا توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد
سواه ؛ وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا
بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم!
كذلك تعطينا
طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها .. عبادة الله. وعدم عبادة
سواه .. أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء.
وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه ؛ وإضافة النهي
الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده .. ذلك
أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله ، ولا يتركون عبادته ، ولكنهم ـ مع هذا ـ
يعبدون معه غيره ؛ فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون!
ومن ثم جاء التعبير
القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معا ؛ بحيث يؤكد أحدهما الآخر ، التوكيد
الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة ..
وقد تكرر مثل
هذا في التعبير القرآني في مواضع شتى ؛ هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها :
* (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ،
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) .. (هود : ١ ـ ٢)
* (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى
قَوْمِهِ : إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ : أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ،
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ... (هود : ٢٥ ـ ٢٦)
* (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ، قالَ :
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُفْتَرُونَ) .. (هود : ٥٠)
* (وَقالَ اللهُ : لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ. فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ...(النحل : ٥١)
* (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا. وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .. (آل عمران : ٦٧)
*(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ... (الأنعام : ٧٩)
وهو منهج مطرد
في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد ، له دلالته من غير شك. سواء في تجلية قيمة
هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات
الضمنية والمقتضيات اللازمة ، وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها. أو في دلالة
هذه الطريقة على علم الله ـ سبحانه ـ بطبيعة الكائن الإنساني ، وحاجته في تقرير
هذه الحقيقة الكبيرة ، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش ، إلى التعبير
الدقيق عنها على ذلك النحو ، الذي يتجلى فيه القصد والعمد .. ولله الحكمة البالغة
.. وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير.
* * *
ثم نقف أمام
مدلول مصطلح «العبادة» الوارد في السورة ـ وفي القرآن كله ـ لندرك ما وراء ذلك
التركيز على الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية
في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق ، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية
المفهومة.
لقد جلينا من
قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه ـ في هذه السورة ـ ما هو مدلول مصطلح «العبادة»
الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية ؛ كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل
الكرام ، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على
ممر الأيام .. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات :
إن إطلاق مصطلح
«العبادات» على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل ، في مقابل إطلاق
__________________
مصطلح : «المعاملات» على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل .. إن هذا
جاء متأخرا عن عصر نزول القرآن الكريم ؛ ولم يكن هذا التقسيم معروفا في العهد
الأول.
ولقد كتبنا من
قبل في كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف
منه هذه الفقرات :
«إن تقسيم
النشاط الإنساني إلى «عبادات» و «معاملات» مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة «الفقه».
ومع أنه كان المقصود به ـ في أول الأمر ـ مجرد التقسيم «الفني» الذي هو طابع
التأليف العلمي ، إلا أنه ـ مع الأسف ـ أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور ،
تبعها ـ بعد فترة ـ آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها ؛ إذ جعل يترسب في تصورات
الناس أن صفة «العبادة» إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط ، الذي يتناوله «فقه
العبادات». بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط ، الذي
يتناوله «فقه المعاملات»! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه
انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.
«ليس في التصور
الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى «العبادة» أو لا يطلب فيه تحقيق هذا
الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة ، أولا وأخيرا.
«وليس هناك من
هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم ، ونظام الاقتصاد ، والتشريعات الجنائية ،
والتشريعات المدنية ، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج
..
«ليس هناك من
هدف إلا تحقيق معنى «العبادة» في حياة الإنسان .. والنشاط الإنساني لا يكون متصفا
بهذا الوصف ، محققا لهذه الغاية ـ التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني ـ
إلا حين يتم هذه النشاط وفق المنهج الرباني ؛ فيتم بذلك إفراد الله ـ سبحانه ـ بالألوهية
؛ والاعتراف له وحده بالعبودية .. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن
العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله!
«وأنواع النشاط
التي أطلق عليها الفقهاء اسم «العبادات» وخصوها بهذه الصفة ـ على غير مفهوم التصور
الإسلامي ـ حين تراجع في مواضعها في القرآن ، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها.
وهي أنها لم تجىء مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها
الفقهاء اسم «المعاملات» .. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ،
ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج «العبادة» التي هي
غاية الوجود الإنساني ، وتحقيقا لمعنى العبودية ، ومعنى إفراد الله ـ سبحانه ـ بالألوهية.
«إن ذلك
التقسيم ـ مع مرور الزمن ـ جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا «مسلمين»
إذا هم أدوا نشاط «العبادات» ـ وفق أحكام الإسلام ـ بينما هم يزاولون كل نشاط «المعاملات»
وفق منهج آخر .. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر ..! هو الذي يشرع لهم في شؤون
الحياة ما لم يأذن به الله!
«وهذا وهم
كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين ـ على هذا النحو ـ فإنما
يخرج من هذه الوحدة ، أو بتعبير آخر : يخرج من هذا الدين.
«وهذه هي
الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه ؛ ويريد
في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني» .
__________________
فالآن نضيف إلى
هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول
مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية .. بل
إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم
منه عند ما يخاطب به أن المطلوب منه هو «الدينونة» لله وحده في أمره كله ، وخلع
الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله. ولقد فسر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «العبادة» نصا بأنها «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية ، وهو يقول
لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى ، واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا : «بلى.
إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم» ..
إنما أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورة من صور الدينونة
لله في شأن من الشؤون. صورة لا تستغرق مدلول العبادة ، بل إنها تجيء بالتبعية لا
بالإصالة! ..
* * *
ولقد قلنا من
قبل في هذا الجزء : «إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر
التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات ؛ وما استحقت كل هذه
الجهود المضنية التي بذلها الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وما استحقت كل هذه
العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة المؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق
كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد ، وردهم إلى الدينونة
لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء.
«إن توحيد
الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد القوامة ، وتوحيد الحاكمية ، وتوحيد مصدر
الشريعة ، وتوحيد منهج الحياة ، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة
الشاملة .. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل ، وأن
تبذل في سبيله كل هذه الجهود ، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على
مدار الزمان .. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه. فالله سبحانه غني عن العالمين.
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان ، إلا
بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء» ..
وقد وعدنا هناك
أن نزيد هذا الأمر بيانا في هذا التعقيب الختامي الأخير.
فالآن نبين
إجمالا قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء :
* ننظر ابتداء
إلى أثر حقيقة التوحيد ـ على هذا النحو الشامل ـ في كيان الكائن الإنساني نفسه من
ناحية وجوده الذاتي ، وحاجته الفطرية ، وتركيبه الإنساني .. أثرها في تصوره ..
وأثر هذا التصور في كيانه :
«إن هذا التصور
إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل ـ بكل معاني الشمول ـ يخاطب الكينونة
البشرية بكل جوانبها ، وبكل أشواقها ، وبكل حاجاتها ، وبكل اتجاهاتها ، ويردها إلى
جهة واحدة تتعامل معها ، جهة تطلب عندها كل شيء ، وتتوجه إليها بكل شيء. جهة واحدة
ترجوها وتخشاها ، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء ، لأنها
خالقة كل شيء ، ومالكة كل شيء ، ومدبرة كل شيء.
«كذلك يرد
الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد ، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها ، وقيمها
وموازينها ، وشرائعها وقوانينها. وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه
الكون والحياة والإنسان ، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام.
«عندئذ تتجمع
هذه الكينونة .. تتجمع شعورا وسلوكا ، وتصورا واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج.
وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن
الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقا ؛ ولا تتجه إلى شتى السبل
والآفاق ؛ ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق!
«والكينونة
الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو ، تصبح في خير حالاتها. لأنها تكون حينئذ في
حالة «الوحدة» التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها .. فالوحدة هي حقيقة الخالق ـ سبحانه
ـ والوحدة هي حقيقة هذا الكون ـ على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال ـ والوحدة هي
حقيقة الحياة والأحياء ـ على تنوع الأنواع والأجناس ـ والوحدة هي حقيقة الإنسان ـ على
تنوع الأفراد والاستعدادات ـ والوحدة هي غاية الوجود الإنساني ـ وهي العبادة ـ على
تنوع مجالات العبادة وهيئاتها ـ وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود
..
«وحين تكون
الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق «الحقيقة» في كل مجالاتها ، تكون في أوج
قوتها الذاتية ؛ وفي أوج تناسقها ـ كذلك ـ مع «حقيقة» هذا الكون الذي تعيش فيه ،
وتتعامل معه ؛ ومع «حقيقة» كل شيء في هذا الوجود ، مما تتأثر به وتؤثر فيه .. وهذا
التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار ، وأن تؤدي أعظم الأدوار.
«وحينما بلغت
هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل ، صنع الله بها في
الأرض أدوارا عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني ، وفي كيان التاريخ الإنساني
..
«وحين توجد هذه
الحقيقة مرة أخرى ـ وهي لا بد كائنة بإذن الله ـ سيصنع الله بها الكثير ، مهما يكن
في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشىء قوة لا تقاوم ؛
لأنها من صميم قوة هذا الكون ؛ وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضا.
«... إن هذه
الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني. وإن كان هذا التصحيح في ذاته
غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله ـ بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة ،
وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع
حين تصبح كلها عبادة لله ؛ وحين يصبح كل نشاط فيها ـ صغر أم كبر ـ جزءا من هذه
العبادة ؛ أو كل العبادة ، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه. وهو إفراد
الله ـ سبحانه ـ بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية .. هذا المقام الذي لا
يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه ؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو
المقام الذي بلغه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها. مقام تلقي الوحي من الله. ومقام
الإسراء أيضا :
(تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ... (الفرقان : ١).
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ. لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ، إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ... (الإسراء : ١) .
* وننتقل إلى
قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة
الإنسانية : إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره ؛ وتخرج الناس من عبادة
العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية
، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر ـ غير النظام الإسلامي
ـ يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية ، في صورة من صورها الكثيرة ...
__________________
سواء عبودية الاعتقاد ، أو عبودية الشعائر ، أو عبودية الشرائع .. فكلها
عبودية ؛ وبعضها مثل بعض ؛ تخضع الرقاب لغير الله ؛ بإخضاعها للتلقي في أي شأن من
شؤون الحياة لغير الله.
والناس لا
يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده
يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله ؛ في كل جانب من جوانب الحياة!
إنهم يقعون
فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون
في عالم البهيمة :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ، وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ) ... (محمد : ١٢)
ولا يخسر
الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته ، ويندرج في عالم البهيمة ، وهذا هو الذي يقع حتما
بمجرد التملص من الدينونة لله وحده ، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
ثم هم يقعون
فرائس لألوان من العبودية للعبيد .. يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء
الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح
المشرعين أنفسهم ـ سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم ، أو في طبقة حاكمة ، أو
في جنس حاكم ـ فالنظرة على المستوي الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم
بشري لا يستمد من الله وحده ، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها ..
ولكن العبودية
للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين .. فهذه هي الصورة
الصارخة ، ولكنها ليست هي كل شيء! .. إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ؛
ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالا لهذا تلك العبودية
لصانعي المودات والأزياء مثلا! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدا من البشر؟ .. كل
الذين يسمونهم متحضرين ..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء ـ سواء في الملابس أو
العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات ... إلخ .. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل
لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها ؛ أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس ـ في
هذه الجاهلية «الحضارية!» لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادا متبتلين!
.. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وما ذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم
تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضا؟!
وإن الإنسان
ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة ، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها ، وهو في الوقت ذاته لا
يناسب شكلها ولا تكوينها ، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية!
ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي
لا تملك لها ردا ، ولا تقوى على رفض الدينونة لها ، لأن المجتمع كله من حولها يدين
لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم
تكن هي تلك؟!
وليس هذا إلا
مثلا واحدا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده ؛ وحين يدينون لغيره من
العبيد .. وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية
البشر للبشر ، ولعبودية البشر للبشر!
وهذا يقودنا
إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ، التي
تصبح كلها ولا عاصم لها عند ما يدين العباد للعباد ، في صورة من صور الدينونة ..
سواء في صورة حاكمية التشريع ، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد ، أو في صورة
حاكمية الاعتقاد والتصور ..
إن الدينونة
لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير
والخرافات التي لا تنتهي ؛ والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها ؛
وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها ؛ وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال ـ
وأحيانا من الأولاد! ـ تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ؛ ويعيش الناس
معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة ، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه
الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب
الأسرار! ومن .. ومن .. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي
تقرب وفي رجاء ، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم ، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا
الهراء!
وقد مثلنا
لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي
أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع ـ إلى جانب الأعراض والأخلاق ـ في سبيل هذه
الأرباب!
إن البيت ذا
الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ ؛ وعلى تصفيف الشعر وكيه ؛ وعلى
الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاما بعد عام ، وما يتبعها من الأحذية
المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء! ... إلى آخر ما تقضي به تلك
الأرباب النكدة .. إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة
أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال. ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس
الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة
وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة
من تضيحات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء!
وأخيرا تجيء
تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية .. وما من أضحية يقدمها عابد الله لله ،
إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس
والأعراض ..
وتقام أصنام من
«الوطن» ومن «القوم» ومن «الجنس» ومن «الطبقة» ومن «الإنتاج» ... ومن غيرها من شتى
الأصنام والأرباب ..
وتدق عليها
الطبول ؛ وتنصب لها الرايات ؛ ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها
بغير تردد. وإلا فالتردد هو الخيانة ، وهو العار .. وحتى حين يتعارض العرض. مع
متطلبات هذه الأصنام ، فإن العرض هو الذي يضحى ؛ ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على
جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ، ومن ورائها أولئك الأرباب
من الحكام!
إن كل التضحيات
التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ؛ ليعبد الله وحده في الأرض ؛ وليتحرر البشر من
عبادة الطواغيت والأصنام ، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده
الله للإنسان .. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها
وأكثر من يدينون لغير الله! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس
والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله ، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم
الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد ، وفوقها الأخلاق والأعراض .. إن
تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم
الدينونة لغير الله ؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!
* وأخيرا فإن
توحيد العبادة والدينونة لله وحده ، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه ؛ ذو قيمة
كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة. كي يوجه
بجملته إلى عمارة الأرض ، وترقيتها ، وترقية الحياة فيها.
وهناك ظاهرة
واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء .. وهي أنه كلما قام عبد من عبيد
الله ، ليقيم من نفسه طاغوتا يعبّد الناس لشخصه من دون الله .. احتاج هذا الطاغوت
كي يعبد (أي يطاع ويتبع) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات ؛ أولا لحماية شخصه.
وثانيا لتأليه ذاته. واحتاج إلى حواش وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده ، وترتل ذكره
، وتنفخ في صورته «العبدية» الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان «الألوهية» العظيمة! وألا
تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم
والتراتيل حولها. وحشد الجموع ـ بشتى الوسائل ـ للتسبيح باسمها ، وإقامة طقوس
العبادة لها ...!
وهو جهد ناصب
لا يفرغ أبدا. لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من
حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل. وما تني تحتاج كرة أخرى
إلى ذلك الجهد الناصب من جديد!
وفي هذا الجهد
الناصب تصرف طاقات وأموال ـ وأرواح أحيانا وأعراض! ـ لو أنفق بعضها في عمارة الأرض
، والإنتاج المثمر ، لترقية الحياة البشرية وإغنائها ، لعاد على البشرية بالخير
الوفير .. ولكن هذه الطاقات والأموال ـ والأرواح أحيانا والأعراض ـ لا تنفق في هذا
السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده ؛ وإنما يدينون للطواغيت من
دونه.
ومن هذه اللمحة
يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن
الدينونة لله وحده ؛ وعبادة غيره من دونه .. وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض
، والقيم والأخلاق. وفوق الذل والقهر والدنس والعار!
وليس هذا في
نظام أرضي دون نظام ، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
«ولقد حدث أن
الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده ، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته ،
قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية التي تأكل إنسانيتهم
وكرامتهم وحريتهم ، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم ، والتي ظنوا في بعضها
أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة.
«لقد هربت
أوربا من الله ـ في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف ـ وثارت على الله ـ سبحانه ـ في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت
كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم
وحريتهم وكرامتهم ـ ومصالحهم كذلك ـ في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا
كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ، والأوضاع
النيابية البرلمانية ، والحريات الصحفية ، والضمانات القضائية والتشريعية ، وحكم
الأغلبية المنتخبة ... إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة .. ثم ماذا
كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان «الرأسمالية» ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك
الضمانات ، وكل تلك التشكيلات ، إلى مجرد لافتات ، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت
الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ،
__________________
فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية!
وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، في
معزل عن الله سبحانه!!!
«ثم هرب فريق
من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها «رأس المال» و «الطبقة» إلى
الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة «الرأسماليين»
الدينونة لطبقة «الصعاليك»! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات
الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة
الرأسماليين!
«وفي كل حالة ،
وفي كل وضع ، وفي كل نظام ، دان البشر فيه للبشر ، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم
الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال.
«إنه لا بد من
عبودية! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله .. والعبودية لله وحده تطلق الناس
أحرارا كراما شرفاء أعلياء .. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم
وحرياتهم وفضائلهم. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية.
«من أجل ذلك
كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله ـ سبحانه ـ وفي
كتبه .. وهذه السورة نموذج من تلك العناية .. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام
والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله ، في كل زمان
وفي كل مكان ؛ وتتعلق بالجاهليات كلها .. جاهليات ما قبل التاريخ ، وجاهليات
التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد»
.
والخلاصة التي
ينتهي إليها القول في هذه القضية : أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها
ـ وهذه السورة نموذج منها ـ أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية ـ التي يعبر عنها
في هذه السورة بالعبادة ـ هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام ؛ وليست قضية فقه أو سياسة
أو نظام!
إنها قضية
عقيدة تقوم أو لا تقوم. وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا
يتحقق .. ثم هي بعد ـ بعد ذلك لا قبله ـ قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة
ونظام وأحكام ؛ وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها
الأحكام.
وكذلك فإن قضية
«العبادة» ليست قضية شعائر ؛ وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه
وأحكام وأوضاع في واقع الحياة .. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في
المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين .. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت
كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.
* * *
والآن نجيء إلى
تتابع هذا القصص في السورة ؛ ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ
البشرية :
لقد بينا من
قبل في التعقيب على قصة نوح أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي
آدم
__________________
عليهالسلام أبي البشر الأول ، ثم على يدي نوح ـ عليهالسلام ـ أبي البشر الثاني .. ثم بعد ذلك على يدي كل رسول .. وأن الإسلام يعني
توحيد الألوهية من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر ، وتوحيد
الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع : أي توحيد القوامة
والحاكمية والتوجيه والتشريع.
ثم بينا كذلك
أن الجاهلية ـ سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية
الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع ـ أو هما معا ـ كانت تطرؤ على البشرية بعد
معرفة الإسلام على أيدي الرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ وكانت تفسد عقائدهم
وتصوراتهم ، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم ؛ بالدينونة لغير الله ـ سبحانه ـ سواء كانت
هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب ، أو روح أو أرواح شتى ؛ أو كانت
هذه الدينونة لبشر من البشر : كاهن أم ساحر أم حاكم .. فكلها سواء في دلالتها على
الانحراف عن التوحيد إلى الشرك ، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية.
ومن هذا
التتابع التاريخي ـ الذي يقصه الله سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه ـ يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن ؛ وخطأ
النتائج التي يصلون إليها عن طريقه ..
خطأ المنهج
لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية ، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل
صلوات الله وسلامه عليهم ـ وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما
حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ ـ ذلك المولود الحدث الذي لا
يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ؛ ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن
والترجيح! ـ وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا
في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة
المصرية القديمة ؛ فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد ـ ولو على سبيل الاحتمال
ـ وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف ـ عليهالسلام ـ وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم ـ حكاية عن قوله لصاحبي السجن
في سورة يوسف ـ :
(إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا
أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى
النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) ... (يوسف : ٣٧ ـ ٤٠)
وهم إنما
يفعلون ذلك ، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج
الديني ، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من
فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من
أساسها ، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء
، لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة ، قبل البدء في البحث!
وحتى حين هدأت
حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن
المنهج استمر في طريقه. لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه ،
والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس ، حتى صارت من أصول المنهج!
أما خطأ
النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج
كلها بهذا الطابع ..
على أنه أيا
كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها ؛ فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية
للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم .. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج
تخالف مخالفة صريحة قول الله سبحانه في مسألة من المسائل ؛ فإنه لا يجوز لباحث
يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج. ذلك أن التقريرات القرآنية
في مسألة الإسلام والجاهلية ، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري ، وسبق
التوحيد للتعدد والتثنية .. قاطعة ، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه : إنه
معلوم من الدين بالضرورة. وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر
، أن يختار بين قول الله سبحانه وقول علماء الأديان. أو بتعبير آخر : أن يختار بين
الإسلام وغير الإسلام! لأن قول الله في هذه القضية منطوق وصريح ، وليس ضمنيا ولا
مفهوما!
وعلى أية حال
فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير .. إنما نستهدف هنا رؤية
الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري ؛ والإسلام والجاهلية يتعاوران
البشرية ؛ والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج
الطبيعة والاتجاه ، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه ، إلى الجاهلية ؛ فإذا
بلغت هذه الجاهلية مداها بعث الله للناس رسولا يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من
الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير الله سبحانه من الأرباب المتفرقة
.. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة لله وحده في أمرهم كله ، لا في الشعائر
التعبدية وحدها ، ولا في الاعتقاد القلبي وحده.
إن هذه الرؤية
تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم ، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك ..
إن البشرية
اليوم ـ بجملتها ـ تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول ـ محمد
صلىاللهعليهوسلم ـ وهي جاهلية تتمثل في صور شتى :
بعضها يتمثل في
إلحاد بالله سبحانه ، وإنكار لوجوده .. فهي جاهلية اعتقاد وتصور ، كجاهلية
الشيوعيين.
وبعضها يتمثل
في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه ، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة
والاتباع والطاعة ، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم .. وكجاهلية اليهود
والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل
في اعتراف صحيح بوجود الله سبحانه ، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في
تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ومع شرك كامل في
الدينونة والاتباع والطاعة. وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم
أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه ـ بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر
التعبدية ؛ مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ؛ ومع استسلامهم ودينونتهم لغير الله من
العبيد!
وكلها جاهلية.
وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين ..
إن رؤية واقع
البشرية على هذا النحو الواضح ؛ تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى
جاهلية شاملة ، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام
مرات متعددة ، كان آخرها الإسلام
__________________
الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم .. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث
الإسلامي ، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ؛ ونقطة البدء
الحاسمة في هذه المهمة.
إن على هذه
الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى ،
والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول
الإسلام الأساسي : وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده ، وتقديم الشعائر التعبدية لله
وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده .. وأنه
بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ؛ ولا تحتسب للناس صفة المسلمين
؛ ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن
تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا ، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية ،
ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا ..
إنها دورة
جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات
الإسلام الذي يواجه الجاهلية ، ليرد الناس إلى الله مرة أخرى ، ويخرجهم من عبادة
العباد إلى عبادة الله وحده ..
ولا بد أن يصل
الأمر إلى ذلك المستوي من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة
الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية .. فإنه بدون هذا الحسم
وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من
تاريخ البشرية ؛ وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي ـ وهي تحسبه مجتمعا مسلما ـ وتفقد
تحديد أهدافها الحقيقية ، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا ،
لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع .. بعيدة جدا ..
* * *
ونقف الوقفة
الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا
إليهم. واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية ؛ كما يعرضه قصص الرسل في هذه
السورة :
لقد أرسل كل
رسول إلى قومه. وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلاء. يدعوهم إلى
الإسلام دعوة الأخ لإخوته ؛ ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه
الله إليه ؛ والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه.
هذا كان موقف
كل رسول من قومه عند نقطة البدء .. ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام!
لقد استجابت
للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم .. عبدوا الله وحده كما طلب إليهم
، وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه .. وبذلك صاروا مسلمين .. صاروا «أمة
مسلمة» .. ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه. كفروا بما جاءهم به ؛ وظلوا في
دينونتهم لغير الله من خلقه ؛ وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام ..
ولذلك صاروا «أمة مشركة» ..
لقد انقسم
القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين : أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد
القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة. مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس
والأرومة. إلا أن آصرة الجنس والأرومة ، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة .. لم تعد
هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة .. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة
أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه .. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونة .. وقد
فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد ، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان ، ولا
تتعايشان!
ذلك أنه بعد
بروز هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين ؛ فاصل الرسول والأمة المسلمة التي معه
قومهم
على أساس العقيدة والمنهج والدينونة. فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل
الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم .. لقد افترق المنهجان ، فاختلفت الجنسيتان.
وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان!
وعند ما فاصل
المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل الله بينهما ؛ فأهلك الأمة
المشركة ، ونجى الأمة المسلمة .. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا
في السورة ..
والأمر الذي
ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه : أن الله سبحانه لم
يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم ، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم ؛
وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك ؛ وعالنوهم بأنهم يدينون لله وحده ، ولا
يدينون لأربابهم الزائفة ؛ ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة ؛ ولا يشاركون في الحياة
ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها الله. سواء تعلقت
بالاعتقاد ، أو بالشعائر ، أو بالشرائع.
إن يد الله
سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين ، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون .. وما دام ،
المسلمون لم يفاصلوا قومهم ، ولم يتبرأوا منهم ، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن
دينهم ، ومنهجهم عن منهجهم ، وطريقهم عن طريقهم ، لم تتدخل يد الله سبحانه للفصل
بينهم وبينهم ، ولتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين ..
وهذه القاعدة
المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها ؛ وأن ترتب حركتها على
أساسها :
إن الخطوة
الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام ؛ والدينونة لله وحده بلا شريك ؛ ونبذ
الدينونة لأحد من خلقه ـ في صورة من صور الدينونة ـ ثم ينقسم القوم الواحد قسمين ،
ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون لله وحده صفا ـ أو أمة ـ ويقف المشركون الذين
يدينون لأحد من خلق الله صفا آخر .. ثم يفاصل المؤمنون المشركين .. ثم يحق وعد
الله بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين .. كما وقع باطراد على مدار التاريخ
البشري.
ولقد تطول فترة
الدعوة قبل المفاصلة العملية. ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ
اللحظة الأولى.
ولقد يبطىء
الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد ؛ وتكثر التضحيات والعذابات والآلام
على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر .. ولكن وعد الله بالفصل يجب أن يكون في قلوب
العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال. فهو لا شك آت. ولن يخلف
الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري.
ورؤية هذه
السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة
الجاهلية البشرية الشاملة. فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان .. وما دامت
طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة ؛
وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ يواجهونها بها
كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية. فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها ،
مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام ، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك. مستيقنة أن
سنة الله جارية مجراها ، وأن العاقبة للتقوى.
* * *
وأخيرا ، فإنه
من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا
الدين ، كما يتمثل في القرآن الكريم .. إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا
القرآن مواجهة واقعية عملية ..
لقد كان هذا
القصص يتنزل على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في مكة. والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ، والدعوة الإسلامية مجمدة
فيها ، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم
عن نهاية الطريق ؛ ويريهم معالمه في مراحله جميعا ؛ ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في
هذا الطريق ؛ وقد بات لا حبا موصولا بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري
؛ وبات بهذا الركب الكريم مأنوسا مألوفا لا موحشا ولا مخوفا! .. إنهم زمرة من موكب
موصول في طريق معروف ؛ وليسوا مجموعة شاردة في تية مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة
البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ؛ ولا يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة
العابرة!
هكذا كان
القرآن يتحرك في الصف المسلم ؛ ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة ..
وهكذا يمكن
اليوم وغدا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي ، ويحركها كذلك في طريق
الدعوة المرسوم ..
إن هذه الطلائع
في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه. تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها
ومراحلها ؛ وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات ؛ وما ينتظرها
من عاقبة في نهاية الطريق.
والقرآن ـ بهذه
الصورة ـ لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة. ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على
الجماعة المسلمة المتحركة ، لتتحرك به ، وتتابع توجيهاته ، وتتوقع موعود الله فيه.
وهذا ما نعنيه
بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به ، لتحقيق
مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد
الدراسة الفنية أو العلمية ، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه!
إن هؤلاء جميعا
لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على
هذا النحو ؛ إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه.
إن الذين
يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف ؛ والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها
إلى الإسلام من جديد ؛ والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية
للعباد إلى العبودية لله وحده ..
إن هؤلاء وحدهم
هم الذين يفقهون هذا القرآن ؛ لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه : ويحاولون
المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ؛ ويتذوقون في أثناء الحركة
والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع .. وهذا
وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام. أأقول : جزاء؟! كلا. والله. إنه لفضل
من الله كبير .. (قُلْ : بِفَضْلِ
اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..
والحمد لله
العظيم رب الفضل العظيم ..
(١٢) سورة يوسف مكيّة
وآياتها إحدى عشرة ومائة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
هذه السورة
مكية ، نزلت بعد سورة هود ، في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقديم سورة
يونس وفي تقديم سورة هود .. بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فرجا ومخرجا بالهجرة إلى المدينة
.. وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في تاريخ
الدعوة وفي حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والعصبة المسلمة معه في مكة ..
والسورة مكية
بجملتها ، على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (١ ، ٢ ، ٣ ، ٧) منها
مدنية. ذلك أن الآيات الثلاث الأولى هذا نصها :
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ..
وهذه الآيات هي
مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليهالسلام .. ونص الآية التالية في السياق هو :
(إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ...).
ثم تمضي القصة
بعد ذلك في طريقها إلى النهاية.
فالتقديم لهذه
القصة بقول الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ
مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة ..
وكذلك هذه
الأحرف المقطعة (الر) وتقرير أنها آيات الكتاب المبين. ثم تقرير أن الله أنزل هذا
الكتاب قرآنا عربيا .. هو كذلك من جو القرآن المكي ، ومواجهة المشركين في مكة بعربية
القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميا يعلمه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم! وتقرير أنه وحي من الله كان النبي صلىاللهعليهوسلم من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته.
ثم إن هذا
التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها ، وهو قول الله تعالى :
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ..
فهناك حبكة بين
التقدمة للقصة والتعقيب عليها ؛ ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب.
أما الآية
السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا ؛ ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في مكة
وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في المدينة! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا
يعود على يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة ، بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة
دون أن تكون معها الآية السابقة. وهذا نصها :
(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ
إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
مما يقطع بأن
الآيتين نزلتا معا ، في سياق السورة الموصول.
والسورة كلها
لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي
إيحاءاتها. بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة .. ففي الوقت
الذي كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش ـ منذ عام الحزن ـ وتعاني
معه الجماعة المسلمة هذه الشدة ، كان الله ـ سبحانه ـ يقص على نبيه الكريم قصة أخ
له كريم ـ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين ـ وهو
يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات : محنة كيد الإخوة. ومحنة الجب والخوف والترويع
فيه. ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه ، ولا حماية
ولا رعاية من أبويه ولا من أهله. ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة ، وقبلها ابتلاء
الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز. ثم
محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه ، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم ، وفي
يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين
ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها .. هذه المحن
والابتلاءات التي صبر عليها يوسف ـ عليهالسلام ـ وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها ، وخرج منها كلها متجردا خالصا ؛ آخر
توجهاته ، وآخر اهتماماته ، في لحظة الانتصار على المحن جميعا ؛ وفي لحظة لقاء
أبويه ولم شمله ؛ وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها : «إذ قال يوسف لأبيه :
يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين» .. آخر توجهاته
وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه ، منخلعا
من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم :
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ، وَقالَ : ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً.
وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي
حَقًّا ، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ، وَجاءَ بِكُمْ
مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ،
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .. رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ،
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ،
تَوَفَّنِي مُسْلِماً ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
وهكذا كانت
طلبته الأخيرة .. بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل .. أن
يتوفاه ربه مسلما ، وأن يلحقه بالصالحين .. وذلك بعد الابتلاء والمحنة ، والصبر
الطويل والانتصار الكبير ..
فلا عجب أن
تكون هذه السورة. بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد
ذلك ، مما يتنزل على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والجماعة المسلمة معه في مكة ، في هذه الفترة بالذات ، تسلية وتسرية ،
وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين الموحشين!
لا بل إن
الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى
يكون
فيها النصر والتمكين ؛ مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد! كما
أخرج يوسف من حضن أبيه ، ليواجه هذه الابتلاءات كلها. ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر
والتمكين :
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَاللهُ
غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
ولقد كان ذلك
وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز .. حتى وهو ما يزال فتى يباع بيع الرقيق ..!
وما يذهب بي
الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا ـ أشير إليه ولا أملك التعبير عنه! ـ ذلك
التعقيب الذي أعقب القصة :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ
نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما
كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ،
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
إنه الإيحاء
بمجرى سنة الله عند ما يستيئس الرسل ـ كما استيأس يوسف في محنته الطويلة ـ والتلميح
بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب! .. الإيجاء والتلميح اللذان تدركهما
القلوب المؤمنة ، وهي في مثل هذه الفترة تعيش ، وفي جوها تتنفس ، فتتذوق وتستشرف
وتلمح الإيحاء والتلميح. من بعيد ..
والسورة ذات
طابع متفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة. فالقصص القرآني ـ غير قصة يوسف ـ يرد
حلقات ، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها. وحتى
القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا.
أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة. وهو طابع متفرد في السور
القرآنية جميعا.
هذا الطابع
الخاص يتناسب مع طبيعة القصة ؛ ويؤديها أداء كاملا .. ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف ،
وتنتهي بتأويلها. بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون
بقيتها في سورة أخرى.
وهذا الطابع
كفل لها الأداء الكامل من جميع الوجوه ؛ فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله
سيقت القصة ، والتعقيبات التي تلتها.
وسنحتاج أن
نقول كلمة مفصلة ـ بعض الشيء ـ عن هذا الأداء الكامل ، تكشف عن ذلك المنهج القرآني
الفريد.
.. وبالله
التوفيق ..
* * *
إن قصة يوسف ـ كما
جاءت في هذه السورة ـ تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ،
بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي
والحركي أيضا .. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه ، إلا أن قصة
يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء!
إن القصة تعرض
شخصية يوسف ـ عليهالسلام ـ وهي الشخصية الرئيسية في القصة ـ عرضا كاملا في
كل مجالات حياتها ، بكل جوانب هذه الحياة ، وبكل استجابات هذه الشخصية في
هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية
الرئيسية في القصة ؛ وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها .. ابتلاءات
الشدة وابتلاءات الرخاء. وابتلاءات الفتنة بالشهوة ، والفتنة بالسلطان. وابتلاءات
الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات .. ويخرج
العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة ،
متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.
وإلى جانب عرض
الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز. وفي
مساحات متناسبة من رقعة العرض ، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية ، وفي أوضاع
خاصة من الأضواء والظلال .. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة.
متمثلة في نماذج متنوعة : نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن
الموصول .. ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ،
ومواجهة آثار الجريمة ، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة ، متميزا فيهم أحدهم
بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها .. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها
ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية ، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في
بلاط الملوك ، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات
البيئة .. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها
على البيئة ، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها ، وفي
إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا. وما وراء أستار
القصور ودسائسها ومناوراتها ، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة .. ونموذج «العزيز»
وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! .. ونموذج «الملك»
في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في
مجال العرض المتناسق .. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا
الحشد من الشخصيات والبيئات ، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد ، وهذا الحشد من
الحركات والمشاعر ..
ومع استيفاء
القصة لكل ملامح «الواقعية» السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف
وفي كل خالجة .. فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ،
ذلك الأداء الصادق ، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة .. المنهج الذي لا يهمل
خلجة بشرية واقعية واحدة ، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعا من الوحل يسميه «الواقعية»
كالمستنقع الذي أنشأته «الواقعية» الغربية الجاهلية! وقد ألمت القصة بألوان من
الضعف البشري ؛ بما فيها لحظة الضعف الجنسي ، ودون أن تزوّر ـ أي تزوير ـ في تصوير
النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف ، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية
من لمحات النفس أو الموقف ، فإنها لم تسف قط لتنشىء ذلك المستنقع المقزز للفطرة
السليمة ، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين «الواقعية» أو يسمونه أخيرا «الطبيعية!».
وظلت القصة
صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف :
* إخوة يوسف ..
والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها
ونكارتها وضخامتها! ثم تزين لهم «المحلل الشرعي!» الذي يخرجون به من تلك الجريمة
.. ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية ـ وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق
بن إبراهيم ـ عليهم صلوات
الله وسلامه ـ وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم ،
وحاجتهم النفسية ـ من ثم ـ إلى مبرر للجريمة ، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها
وبشاعتها :
(لَقَدْ كانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ـ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ـ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ! اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ! قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ :
لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ ـ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ! ـ قالُوا : يا أَبانا ، ما لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ ؛ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً
يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ! قالَ : إِنِّي لَيَحْزُنُنِي
أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ
غافِلُونَ. قالُوا : لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً
لَخاسِرُونَ. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ
الْجُبِّ ، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ، قالُوا : يا أَبانا ، إِنَّا
ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ، وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ،
وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ
بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ ، وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ..
ونحن نجدهم ـ هم
هم ـ في كل مواقف القصة بعد ذلك ـ كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى
آخرها ـ فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعد ما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز
مصر الذي قدموا من بلادهم ـ كنعان ـ ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف ،
حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله .. ما إن
يروا هذا التدبير ـ وهم لا يعلمون ما وراءه ـ حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف :
«قالوا : إن
يسرق فقد سرق أخ له من قبل! فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال : أنتم شر
مكانا ، والله أعلم بما تصفون» ..
كذلك نجدهم ـ هم
هم ـ بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة ، فما إن يروا تجدد
حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم ، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة
:
«وتولى عنهم
وقال : يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا : تالله تفتأ
تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين!» ..
ومثلها عند ما
أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية ـ بعد ما كشف لهم عن شخصيته ـ فلما رأوا
أباهم يستنشق عبير يوسف ، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين
يوسف ، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه :
«ولما فصلت
العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لو لا أن تفندون! قالوا : تالله إنك لفي
ضلالك القديم!» ..
* وامرأة
العزيز .. في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح ، فلا
تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا ، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية
.. والتي تستخدم ـ مع ذلك ـ كل مكر الأنثى وكيدها ، سواء في تبرئة نفسها أو حماية
من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به ، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته! أو رد
الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها! أو
التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى ، ووقوف نسوتها
معها على أرض واحدة ، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها ،
الأنثى التي لا تحس في
إرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا
النموذج البشري الخاص بكل واقعيته ، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها ، فإن
الأداء القرآني ـ الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي ـ لم
يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة ـ حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل
بكل اندفاعها وحيوانيتها ـ لينشىء ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب «القصة
الواقعية» وكتاب «القصة الطبيعية» في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في
الأداء!
«وقال الذي
اشتراه من مصر لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكذلك مكنا
ليوسف في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، والله غالب على أمره ولكن أكثر
الناس لا يعلمون. ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين. وراودته
التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلّقت الأبواب وقالت : هيت لك! قال : معاذ الله! إنه
ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همّت به وهم بها ، لو لا أن رأى
برهان ربه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين. واستبقا
الباب ، وقدّت قميصه من دبر ، وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت : ما جزاء من أراد
بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟! قال : هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من
أهلها : إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قدّ من دبر
فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال : إنه من كيدكن ، إن كيدكن
عظيم! يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين! .. وقال نسوة في
المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه! قد شغفها حبا! إنا لنراها في ضلال
مبين! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن ، وأعتدت لهن متكأ ، وآتت كل واحدة منهن سكينا
، وقالت : اخرج عليهن! فلما رأينه أكبرنه ، وقطّعن أيديهن ، وقلن : حاش لله! ما
هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم. قالت : فذلكن الذي لمتنني فيه! ولقد راودته عن
نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين. قال : رب ،
السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من
الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ، إنه هو السميع العليم» ..
وكذلك حين
نلتقي بها مرة أخرى بعد ما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة ؛ وبقي هناك حتى
رأى الملك رؤياه ، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف
تأويل الرؤيا ، فطلب الملك أن يأتوه به ، فأبى حتى يحقق قضيته ، ويبرىء ساحته ،
فاستدعاها الملك مع النسوة. وإذا بها ما تزال المرأة المحبة ، مع التغير الطبيعي
الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف ؛ ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه
من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا :
«وقال الملك :
ائتوني به. فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي
قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن :
حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته
عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي
كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي
غفور رحيم» ..
* ويوسف ..
العبد الصالح ـ الإنسان ـ لم يزوّر الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة
؛ وهو يواجه الفتنة بكل بشريته ـ مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه ـ وبشريته
مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها .. لقد ضعف حين همت به
حتى هم بها ؛ ولكن الخيط الآخر شده وأنقذه
من السقوط فعلا. ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة. ومنطق البيئة ، وجو
القصور ، ونسوة القصور أيضا! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى .. ليست هنالك لمحة واحدة
مزوّرة في واقعية الشخصية وطبيعيتها ؛ وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية
ووحلها الفني! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه .. * والعزيز .. وشخصيته
بطبيعتها الخاصة ، وبطبيعة سمت الإمارة ؛ ثم بضعف النخوة ، وغلبة الرياء الاجتماعي
وستر الظواهر وإنقاذها! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته :
(فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ، إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ،
إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ!) ..
* والنسوة ..
نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه .. اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن
نفسه ، بعد ما شغفها حبا! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز
أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة! ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف. ثم إقرارهن الأنثوي
العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها ؛ وإحساس هذه المرأة
بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل ، وهي آمنة في ظل استسلامهن
لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها. ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء
والإغواء ، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن :
(حاشَ لِلَّهِ! ما هذا
بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) .. نأخذ ذلك من قولة يوسف عليهالسلام :
«قال : رب السجن
أحب إليّ مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين» ..
فلم تعد امرأة
العزيز وحدها تراوده ؛ ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده!
* والبيئة ..
التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله. ثم من خلال ذلك التصرف في أمر يوسف ، على
الرغم مما بدا من براءته. ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها ؛
ولا يهم أن يذهب بريء كيوسف ضحيتها :
«ثم بدا لهم من
بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» ..
* فإذا تابعنا
شخصية يوسف ـ عليهالسلام ـ فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية ،
المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية ، المتمثلة في كونه «العبد الصالح ـ
الإنسان ـ بكل بشريته ، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه» ..
فهو في السجن
وظلماته ـ مع الظلم وظلماته! ـ لا يغفل عن الدعوة لدينه ، في كياسة وتلطف ـ مع
الحزم والفصل ـ وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها .. كما أنه لا يغفل عن
حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه :
«ودخل معه
السجن فتيان. قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق
رأسي خبزا تأكل الطير منه. نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين. قال : لا
يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ،
إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا
وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم
الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل
الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا الله ،
أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يا صاحبي السجن ، أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من
رأسه ، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» ..
وهو ـ مع هذا
كله ـ بشر ، فيه ضعف البشر. فهو يتطلب الخلاص من سجنه ، بمحاولة إيصال خبره إلى
الملك ، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم. وإن كان الله ـ
سبحانه ـ شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده :
«وقال للذي ظن
أنه ناج منهما : اذكرني عند ربك. فأنساه الشيطان ذكر ربه. فلبث في السجن بضع سنين
...».
ثم تطالعنا
ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين ، وقد رأى الملك رؤياه ، فحار في تأويلها
الكهنة والسدنة ؛ حتى تذكر صاحب السجن يوسف ـ بعد ما تمت التربية الربانية للعبد
الصالح ، فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره ـ حتى إذا ما طلب الملك ـ بعد
تأويله لرؤياه ـ أن يأتوه به ، أجاب في هدوء المطمئن الواثق ؛ وتمنع عن مغادرة
سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته :
«وقال الملك :
إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. يا أيها
الملأ أفتوني في رؤياي ، إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا : أضغاث أحلام ، وما نحن
بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة : أنا أنبئكم بتأويله
فأرسلون. يوسف أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات
خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال : تزرعون سبع سنين دأبا
، فما حصدتم فذروه في سنبله ، إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد
يأكلن ما قدمتم لهن. إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس
وفيه يعصرون .. وقال الملك : ائتوني به .. فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك
فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال : ما خطبكن
إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن : حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز
: الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم
أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي ، إن النفس لأمارة
بالسوء ، إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم .. وقال الملك : ائتوني به أستخلصه
لنفسي ، فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال : اجعلني على خزائن الأرض
، إني حفيظ عليم» ..
ومنذ هذه
اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية ، مطمئنة ساكنة واثقة ، نجد
هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث ، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة
والبيئة. ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله :
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا
مَنْ نَشاءُ. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..
ومنذ هذه
اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات ، تختلف في طبيعتها عن
الألوان الأولى ؛ وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي ، وبتلك الطمأنينة الساكنة
الواثقة.
* نجد يوسف وهو
يواجه ـ للمرة الأولى ـ إخوته بعد ما فعلوا به تلك الفعلة القديمة ؛ وهو في الموقف
الأعلى بالقياس إليهم والأقوى .. ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته
وتصرفاته :
«وجاء إخوة
يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم
من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل
لكم عندي ولا تقربون. قالوا : سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون. وقال لفتيانه :
اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» ..
* ونجده وهو
يدبر ـ بتدبير الله له ـ كيف يأخذ أخاه. فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة
المطمئنة ، الضابطة الصابرة :
(وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ : قالَ : إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ
فِي رَحْلِ أَخِيهِ ؛ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ. قالُوا ـ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ـ ما ذا تَفْقِدُونَ؟ قالُوا :
نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ، وَأَنَا بِهِ
زَعِيمٌ. قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ
، وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا
: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ، كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ، ثُمَّ
اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ .. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ما كانَ
لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، نَرْفَعُ
دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالُوا : إِنْ
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ! فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ
وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ، قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما
تَصِفُونَ. قالُوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ، إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً
فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ : مَعاذَ
اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ، إِنَّا إِذاً
لَظالِمُونَ) ..
* ثم نلتقي به
وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها ، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به
وببيته ، وحن يوسف إلى أبويه وأهله ، ورق لإخوته والضر باد بهم ، فكشف لهم عن نفسه
، في عتاب رقيق ، وفي عفو كريم ، يجيء في أوانه ، وكل الملابسات توحي به ، وتتوقعه
من هذه الشخصية بسماتها تلك :
«فلما دخلوا
عليه قالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة. فأوف لنا
الكيل وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين. قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه
إذ أنتم جاهلون؟ قالوا : أإنك لأنت يوسف؟ قال : أنا يوسف ، وهذا أخي ، قد من الله
علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. قالوا : تالله لقد آثرك
الله علينا ، وإن كنا لخاطئين. قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، وهو
أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم
أجمعين» ..
* وفي النهاية
يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع .. موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج
تأويل رؤياه وتحقق أحلامه .. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه ،
ويناجيه خالصا له ، وذلك كله مطروح وراءه :
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
إنها شخصية
موحدة متكاملة ، بكل واقعيتها الممثلة لمقوّماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها.
* ويعقوب ..
الوالد المحب الملهوف ، والنبي المطمئن الموصول ، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا
تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف ؛ وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق ، بينما هو
يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل
جوانبها :
(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ
: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. قالَ :
يا
بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ
الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ
وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
ثم نجد هذه
الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية ، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم
يفاجئونه بالفجيعة :
«قالوا : يا
أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا
له لحافظون. قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه
غافلون. قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون. فلما ذهبوا به وأجمعوا
أن يجعلوه في غيابة الجب ، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند
متاعنا فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب
، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ؛ فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون» ..
ثم نلتقي بهذه
الشخصية ـ بكل واقعيتها تلك ـ وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له ..
أخي يوسف .. وقد طلبه منهم عزيز مصر ـ يوسف ـ الذي لا يعرفونه! في مقابل أن يعطيهم
كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف!
«فلما رجعوا
إلى أبيهم قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنّا له
لحافظون : قال : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ فالله خير حافظا
وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، قالوا : يا أبانا
ما نبغي ، هذه بضاعتنا ردت إلينا ، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ، ونزداد كيل بعير ،
ذلك كيل يسير. قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله : لتأتنني به إلا أن
يحاط بكم. فلما آتوه موثقهم قال : الله على ما نقول وكيل .. وقال : يا بني لا
تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغني عنكم من الله من شيء ، إن
الحكم إلا لله ، عليه توكلت ، وعليه فليتوكل المتوكلون. ولما دخلوا من حيث أمرهم
أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء ، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ، وإنه لذو
علم لما علمناه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ..
ثم نلتقي به في
فجيعته الثانية .. والدا ملهوفا ونبيا موصولا .. ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف
يأخذ أخاه. فيتخلف أحد أبناء يعقوب ـ صاحب الشخصية الخاصة فيهم ، متوافيا مع سماته
التي صاحبت مواقفه كلها في القصة ، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه
إياه. إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله ـ :
(فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ، قالَ كَبِيرُهُمْ : أَلَمْ تَعْلَمُوا
أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ، وَمِنْ قَبْلُ ما
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ؟ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ،
أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ
فَقُولُوا : يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ! وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا
، وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ. قالَ : بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، عَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقالَ : يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ! وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ
فَهُوَ. كَظِيمٌ. قالُوا : تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ
حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ! قالَ : إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ
اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ، وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ
اللهِ. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ..
وفي آخر مواقف
المحنة الطويلة للشيخ المبتلى نجد ذات الملامح وذات الواقعية. وهو يشم ريح يوسف في
قميصه ، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه :
(وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ : إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ، لَوْ لا أَنْ
تُفَنِّدُونِ. قالُوا : تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ
جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً. قالَ : أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قالُوا : يا
أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ : سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح ، الواقعية
المشاعر والتصرفات ، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص
ولا تحريف!
* * *
والواقعية
الصادقة الأمينة النظيفة السليمة في الوقت نفسه ، لا تقف عند واقعية الشخصيات
الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع ، على هذا المستوي الرائع.
ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها
وزمانها ، وفي بيئتها وملابساتها .. فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها ؛
وتجيء في الصورة المتوقعة لها ؛ وتجيء في مكانها من مسرح العرض ؛ متراوحة بين
منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها .. الأمر
الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا ..
حتى لحظات
الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة ـ في حدود المنهج النظيف اللائق «بالإنسان»
في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها ـ ولكن
استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه
الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري ؛ وكما لو كانت هي محور
حياته كلها ، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن
هذا وحده هو الفن الصادق!
إن الجاهلية
إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت
هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها ؛ فتنشىء منها مستنقعا واسعا عميقا ، مزينا في
الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية! وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع ، ولا لأنها هي
مخلصة في تصوير هذا الواقع! إنما تفعله لأن «بروتوكولات صهيون» تريد هذا! تريد
تجريد «الإنسان» إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون
من كل القيم غير المادية! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر
فيه كل اهتماماتها ، وتستغرق فيه كل طاقاتها ؛ فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية
حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون! ثم تتخذ من الفن وسيلة
إلى هذا الشر كله ، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب «العلمية!» المؤدية إلى ذات
الهدف. تارة باسم «الداروينية» وتارة باسم «الفرويدية» وتارة باسم «الماركسية» أو «الاشتراكية
العلمية» .. وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة!
* * *
والقصة بعد ذلك
تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة
، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة ، وتسجل سماتها العامة ، فترسم مسرح الأحداث
بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية .. ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي
ترسم تلك الأبعاد :
* إن مصر في
هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية ؛ إنما كان يحكمها «الرعاة»
الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم ، فعرفوا شيئا عن دين الله
منهم. نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب «الملك» في حين يسمى الملك الذي جاء على
عهد موسى ـ عليهالسلام ـ من بعد بلقبه المعروف. «فرعون» .. ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف ـ عليهالسلام ـ في مصر فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة ؛
وهي أسر «الرعاة» الذين سماهم المصريون «الهكسوس»! كراهية لهم ؛ إذ يقال : إن معنى
الكلمة في اللغة المصرية القديمة : «الخنازير» أو «رعاة الخنازير»! وهي فترة
تستغرق نحو قرن ونصف قرن.
* إن رسالة
يوسف عليهالسلام كانت في هذه الفترة. وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام
.. ديانة التوحيد الخالص .. وهو في السجن ؛ وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق
ويعقوب ؛ وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة. فيما حكاه القرآن الكريم من
قوله :
«إني تركت ملة
قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق
ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ،
ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد
القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من
سلطان ، إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر
الناس لا يعلمون» ..
وهي صورة
للإسلام واضحة كاملة ودقيقة شاملة ـ كما جاء به رسل الله جميعا ـ من ناحية أصول
العقيدة. تحتوي ، الإيمان بالله ، والإيمان بالآخرة ، وتوحيد الله وعدم الشرك به
أصلا ، ومعرفة الله سبحانه بصفاته .. الواحد ، القهار .. والحكم بعدم وجود حقيقة
ولا سلطان لغيره أصلا ؛ ومن ثم نفي الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد ، وإعلان
السلطان والحكم لله وحده ، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره. ومزاولة
السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده. وتحديد معنى
«العبادة» بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية ، وتعريف الدين القيم
بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة ـ أي إفراده بالحكم ـ فهما مترادفان أو متلازمان
: (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .. وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها
..
وواضح أن يوسف ـ
عليهالسلام ـ عند ما سيطر على مقاليد الأمور في مصر ، استمر في دعوته للإسلام على هذا
النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل .. ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه ـ وهو
يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم ـ وانتشر كذلك في
البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره ـ وقد
رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل
ليمتاروا من مصر ويتزودوا ، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه
الفترة.
والقصة تشير
إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة ، كما
تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها.
والإشارة
الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف :
«فلما رأينه
أكبرنه ، وقطّعن أيديهن وقلن : حاش لله! ما هذا بشرا. إن هذا إلا ملك كريم» ..
ووردت في قول العزيز لامرأته :
«يوسف أعرض عن
هذا واستغفري لذنبك ؛ إنك كنت من الخاطئين» ..
أما الإشارة
الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف
وأسلمت في النهاية ، فيما حكاه عنها السياق القرآني :
«قالت امرأة
العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين ، ذلك ليعلم
أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي. إن النفس
لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم» ..
وإذا اتضح أن
ديانة التوحيد ـ على هذا المستوي ـ كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في
مصر ؛ فلا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه
الحكم ، ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة. فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في
الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت
في مصر ، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية! ...
وهذا يكشف لنا
سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل ـ أي يعقوب ـ إلى جانب السبب
السياسي ، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين.
فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا .. وإن كان
اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع. ذلك أن
انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين! فهي
العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت!
ولقد وردت
إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر
؛ في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليهالسلام ، في وجه فرعون وملئه عند ما همّ فرعون بقتل موسى ،
ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى :
«وقال فرعون :
ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد. وقال
موسى : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. وقال رجل مؤمن من آل
فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول : ربي الله؟ وقد جاءكم بالبينات من ربكم
، وإن يك كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي
من هو مسرف كذاب. يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. فمن ينصرنا من بأس الله
إن جاءنا؟ قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى. وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وقال
الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود
والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلما للعباد ، ويا قوم إني أخاف علكيم يوم التناد.
يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد .. ولقد
جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن
يبعث الله من بعده رسولا ، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب. الذين يجادلون في آيات
الله بغير سلطان أتاهم. كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا! كذلك يطبع الله على
كل قلب متكبر جبار ... إلخ» ..
فقد كان الصراع
الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد الله سبحانه بالربوبية ، فتفرده بالعبادة ـ أي
بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده ـ وبين الفرعونية التي تقوم على أساس
العقيدة الوثنية ، ولا تقوم إلا بها.
ولعل التوحيد
الناقص المشوه الذي عرف به «أخناتون» لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي
بقيت
من التوحيد الذي نشره يوسف عليهالسلام في مصر كما أسلفنا ؛ وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ
من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية!
وبعد هذا
الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها
أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها. فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية ، وتسجل طابع
العصر كله. فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر
على أرض واحدة ، ولا على قوم بأعيانهم .. ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف
وتعبيرها وتأويلها في النهاية. وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن. وفي رؤيا الملك في
النهاية .. وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع
العصر كله! وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية. غنية كذلك بالعنصر
الإنساني ، حافلة بالانفعال والحركة. وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا.
فضلا على خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة ، ذات الإيقاع الموسيقي المناسب
لكل جو من الأجواء التي يصورها السياق.
في القصة يتجلى
عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والظلال : في حب يعقوب ليوسف
وأخيه وحبه لبقية أبنائه. وفي استجاباته الشعورية للأحداث حول يوسف من أول القصة
إلى آخرها.
وعنصر الغيرة
والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات ، بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي.
وعنصر التفاوت
في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة ؛ فبعضهم يقودهم هذا الشعور
إلى إضمار جريمة القتل ، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض السيارة
نفورا من الجريمة ..
وعنصر المكر
والخداع في صور شتى. من مكر إخوة يوسف به ، إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها
وبالنسوة.
وعنصر الشهوة
ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام. وبالإعجاب والتمني ، والاعتصام
والتأبي.
وعنصر الندم في
بعض ألوانه ، والعفو في أوانه. والفرح بتجمع المتفارقين ..
وذلك إلى بعض صور
المجتمع الجاهلي في طبقة العلية من الملأ : في البيت والسجن والسوق والديوان ـ في
مصر يومذاك. والمجتمع العبراني ، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات.
وتبدأ القصة
بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه ، فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم ، وينصحه بألا
يقصها على إخوته كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له .. ثم تسير القصة
بعد ذلك ، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل
الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة ، ولم يسر فيها كما سار كتّاب «العهد القديم»
بعد هذا الختام الفني الدقيق ، الوافي بالغرض الديني كل الوفاء.
وما يسمى
بالعقدة الفنية في القصة واضح في قصة يوسف. فهي تبدأ بالرؤيا كما سبق ، ويظل
تأويلها مجهولا ، يتكشف قليلا قليلا ، حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا طبيعيا لا
تعمّل فيه ولا اصطناع!
والقصة مقسمة
إلى حلقات. كل حلقة تحتوي جملة مشاهد. والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد
يملؤها تخيل القارئ وتصوره ، ويكمل ما حذف من حركات وأقوال ، مع ما في هذا من
تشويق ومتاع ..
وحسبنا هذا
القدر من التحليل الفني لقصة يوسف ، وتمثيلها للمنهج القرآني الإسلامي في الأداء.
وفي هذا القدر ما يكشف عن مدى الإمكانيات التي يعرضها هذا المنهج للمحاولات
البشرية في الأدب الإسلامي ،
لتمكينه من الأداء الفني الكامل والواقعية الصادقة السليمة ، دون أن يسف أو
يحتاج إلى التخلي عن النظافة اللائقة بفن يقدم ل «الإنسان» !
* * *
وتبقى وراء ذلك
كله عبرة القصة وقيمتها في مجال الحركة الإسلامية ؛ وإيحاءاتها المتوافية مع حاجات
الحركة في بعض مراحلها. ومع حاجاتها الثابتة التي لا تتعلق بمرحلة خاصة منها. إلى
جانب الحقائق الكبرى التي تتقرر من خلال سياق القصة ، ثم من خلال سياق السورة كلها
بعد ذلك. وبخاصة تلك التعقيبات الأخيرة في السورة ..
ونكتفي في هذا
التقديم للسورة بلمحات سريعة من هذا كله :
* لقد أشرنا في
مطالع هذا التقديم إلى مناسبة قصة يوسف بجملتها للفترة الحرجة التي كانت تمر بها
الحركة الإسلامية في مكة عند نزول السورة ، وللشدة التي كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المؤمنة معه يتعرضون لها. وذلك بما تحمل القصة من عرض لابتلاءات
أخ كريم للنبي الكريم ؛ ثم بما تحمله بعد ذلك من استفزاز من الأرض ثم تمكين .
وهذا الذي سبق
أن قررناه يصور لونا من إيحاءات القصة المتوافية مع حاجات الحركة الإسلامية في تلك
الفترة ؛ ويقرب معنى «الطبيعة الحركية» لهذا القرآن وهو يزود الدعوة ، ويدفع
الحركة ، ويوجه الجماعة المسلمة توجيها واقعيا إيجابيا محدد الهدف مرسوم الطريق.
* كذلك أشرنا
في ثنايا تحليل القصة إلى الصورة الواضحة الكاملة الدقيقة الشاملة للإسلام ، كما
عرضها يوسف عليهالسلام. وهي صورة تستحق الوقوف أمامها طويلا ..
إنها تقرر
ابتداء وحدة العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسل جميعا ؛ واستيفاء مقوماتها
الأساسية في كل رسالة ؛ وقيامها على التوحيد الكامل لله سبحانه ، وعلى تقرير
ربوبيته للبشر وحده ، ودينونة البشر له وحده .. كما تقرر تضمن تلك العقيدة الواحدة
للإيمان بالدار الآخرة بصورة واضحة. وهذا التقرير يقطع الطريق على مزاعم ما يسمونه
«علم الأديان المقارن» من أن البشرية لم تعرف التوحيد ولا الآخرة إلا أخيرا جدا ،
بعد أن اجتازت عقائد التعدد والتثنية بأشكالها وصورها المختلفة ؛ وأنها ترقت في
معرفة العقيدة كما ترقت في معرفة العلوم والصناعات .. هذه المزاعم التي تتجه إلى
تقرير أن الأديان من صنع البشر شأنها شأن العلوم والصناعات .
كذلك هي تقرر
طبيعة ديانة التوحيد التي جاء بها الرسل جميعا .. إنه ليس توحيد الألوهية فحسب.
ولكنه كذلك توحيد الربوبية .. وتقرير أن الحكم لله وحده في أمر الناس كله ؛ وأن
هذا التقرير ناشىء من أمر الله سبحانه بألا يعبد إلا إياه. والتعبير القرآني
الدقيق في هذه القضية يحدد مدلول «العبادة» تحديدا دقيقا. فهي الحكم من جانب الله
والدينونة من جانب البشر .. وهذا وحده هو «الدين القيم» فلا دين إذن لله ما لم تكن
دينونة الناس لله وحده ، وما لم يكن الحكم لله وحده. ولا عبادة لله إذن إذا دان
الناس لغير الله في
__________________
شأن واحد من شؤون الحياة. فتوحيد الألوهية يقتضي توحيد الربوبية. والربوبية
تتمثل في أن يكون الحكم لله .. أو أن تكون العبادة لله .. فهما مترادفان أو
متلازمان. والعبادة التي يعتبر بها الناس مسلمين أو غير مسلمين هي الدينونة
والخضوع والاتباع لحكم الله دون سواه ..
وهذا التقرير
القرآني بصورته هذه الجازمة ينهي كل جدل في اعتبار الناس في أي زمان وفي أي مكان
مسلمين أو غير مسلمين ، في الدين القيم أم في غير هذا الدين .. فهذا الاعتبار يعد
من المعلوم من الدين بالضرورة .. من دان لغير الله وحكّم في أي أمر من أمور حياته
غير الله ، فليس من المسلمين وليس في هذا الدين ، ومن أفرد الله سبحانه بالحاكمية
ورفض الدينونة لغيره من خلائقه فهو من المسلمين وفي هذا الدين .. وكل ما وراء ذلك
تمحّل لا يحاوله إلا المهزومون أمام الواقع الثقيل في بيئة من البيئات وفي قرن من
القرون! ودين الله واضح. وهذا النص وحده كاف في جعل هذا الحكم من المعلوم من الدين
بالضرورة. من جادل فيه فقد جادل في هذا الدين!
* ومن
الإيحاءات الواردة في ثنايا القصة صورة الإيمان المتجرد الخالص الموصول كما تتجلى
في قلبي عبدين صالحين من عباد الله المختارين : يعقوب ويوسف :
فأما يوسف فقد
أشرنا من قبل إلى موقفه الأخير متجردا من كل شيء ، نافضا عنه كل شيء ، متجها إلى
ربه ، مبتهلا إليه في انكسار وفي خشوع يناجيه :
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ،
تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
ولكن هذا
الموقف الأخير لم يكن هو كل شيء في هذا الجانب ؛ فهو على مدار القصة يقف هذا
الموقف ، موصولا بربه ، يحسه ـ سبحانه ـ قريبا منه مستجيبا له :
في موقف
الإغراء والفتنة والغواية يهتف :
«معاذ الله!
إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون» ..
وفي الموقف
الآخر وهو يخشى على نفسه الضعف والميل يهتف كذلك :
«رب ، السجن
أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين» ..
وفي موقف تعريف
نفسه لإخوته ، يبين فضل الله عليه ويشكر نعمته ويذكرها :
«قالوا : أإنك
لأنت يوسف؟ قال : أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن
الله لا يضيع أجر المحسنين» ..
وكلها مواقف
تحمل إيحاءات يتجاوز مداها حاجة الحركة الإسلامية في مكة ، إلى حاجة الحركة
الإسلامية في كل فترة.
وأما يعقوب ففي
قلبه تتجلى حقيقة ربه باهرة عميقة لطيفة مأنوسة في كل موقف وفي كل مناسبة ؛ وكلما
اشتد البلاء شفت تلك الحقيقة في قلبه ورفت بمقدار ما تعمقت وبرزت ..
فمنذ البدء
ويوسف يقص عليه رؤياه يذكر ربه ويشكر نعمته :
(وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
وفي مواجهة
الصدمة الأولى في يوسف يتجه إلى ربه مستعينا به :
«قال : بل سولت
لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون» ..
وفي مواجهته
لعاطفته الأبوية الخائفة على أبنائه ، وهو يوصيهم ألا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا
مصر من أبواب متفرقة ، لا ينسى أن هذا التدبير لا يغني عنهم من الله شيئا ، وأن
الحكم النافذ هو حكم الله وحده ؛ وإنما هي حاجة في النفس لا تغني من الله وقدره :
(وَقالَ : يا بَنِيَّ
لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ،
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
وفي مواجهة
الصدمة الثانية في كبرته وهرمه وضعفه وحزنه ، لم يتسرب اليأس من رحمة ربه لحظة
واحدة إلى قلبه :
(قالَ : بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، عَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ؛ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
ثم يبلغ تجلي
الحقيقة في قلب يعقوب درجة البهاء والصفاء ، وبنوه يؤنبونه على حزنه على يوسف
وبكائه له حتى تبيض عيناه من الحزن ؛ فيواجههم بأنه يجد حقيقة ربه في قلبه كما لا
يجدونها ، ويعلم من شأن ربه ما لا يعلمون ؛ فمن هنا اتجاهه إليه وحده وشكواه له
وبثه ؛ ورجاؤه في رحمته وروحه :
«وتولى عنهم
وقال : يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا : تالله تفتأ
تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين! قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله
، وأعلم من الله ما لا تعلمون .. يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا
تيأسوا من روح الله ، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» ..
ولقد ذكرهم بما
يعلمه من شأن ربه وما يجده من حقيقته في قلبه ، وهم يجادلونه في ريح يوسف ، وقد
صدّق الله فيه ظنه :
«ولما فصلت
العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لو لا أن تفندون. قالوا : تالله إنك لفي
ضلالك القديم. فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا ، قال : ألم أقل لكم
: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟».
إنها الصورة
الباهرة لتجلي حقيقة الألوهية في قلب من قلوب الصفوة المختارة. وهي تحمل الإيحاء
المناسب لفترة الشدة في حياة الجماعة المسلمة في مكة ؛ كما أنها تحمل الإيحاء
الدائم بالحقيقة الإيمانية الكبيرة ، لكل قلب يعمل في حقل الدعوة والحركة بالإسلام
على مدار الزمان أيضا.
* * *
وأخيرا نجيء
إلى التعقيبات المتنوعة التي جاءت بعد القصة الطويلة إلى نهاية السورة.
* إن التعقيب
الأول والمباشر يواجه تكذيب قريش بالوحي إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بتقرير مأخوذ من هذا القصص الذي لم يكن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حاضرا وقائعه :
«ذلك من أنباء
الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون» ..
وهذا التعقيب
يترابط مع التقديم للقصة في الاتجاه ذاته :
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ..
والتقديم
والتعقيب على هذا النحو يؤلفان مؤثرا موحيا من المؤثرات الكثيرة في سياق السورة ،
لتقرير الحقيقة التي يعرضانها ، وتوكيدها في مواجهة الاعتراض والتكذيب.
* ومن ثم يعقب
ذلك التسرية عن قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتهوين أمر المكذبين على نفسه. وبيان مدى عنادهم وإصرارهم وعماهم عن
الآيات المبثوثة في كتاب الكون ، وهي حسب الفطرة السليمة في التنبه إلى دلائل
الإيمان ، والاستماع إلى الدعوة والبرهان. ثم تهديدهم بعذاب الله الذي قد يفاجئهم
وهم غافلون :
(وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ
غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ؟) ..
وهي إيقاعات
مؤثرة بقدر ما تحمل من حقائق عميقة عن طبيعة الناس حين لا يدينون بدين الله
الصحيح. وبخاصة في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ..
فهذا هو
التصوير العميق لكثير من النفوس التي يختلط فيها الإيمان بالشرك ، لأنها لم تحسم
في قضية التوحيد.
* وهنا يجيء
الإيقاع الكبير العميق المؤثر الموحي ، بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى تحديد طريقه وتميزها وإفرادها عن كل طريق ، والمفاصلة على أساسها
الواضح الفريد :
(قُلْ : هذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ،
وَسُبْحانَ اللهِ ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ..
* ثم تختم
السورة بإيقاع آخر يحمل عبرة القصص القرآني كله ، في هذه السورة وفي سواها. يحملها
للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقلة المؤمنة معه ، ومعها التثبيت والتسرية والبشرى ؛ ويحملها للمشركين
المعاندين ، ومعها التذكير والعظة والنذير. كما أن فيها للجميع تقريرا لصدق الوحي
وصدق الرسول ؛ وتقريرا لحقيقة الوحي وحقيقة الرسالة ، مع تخليص هذه الحقيقة من
الأوهام والأساطير :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ؟ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ
نَصْرُنا ، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما
كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ،
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
إنه الإيقاع
الأخير. والإيقاع الكبير ..
* * *
وبعد فلعل من
المناسب في تقديم السورة التي حوت قصة يوسف ، نموذجا كاملا للأداء الفني الصادق
الجميل ، أن نلم بشيء من لطائف التناسق في الأداء القرآني في السورة بكاملها وأن
نقف عند نماذج من هذه اللطائف تمثل سائرها :
* في هذه
السورة ـ كما في السور القرآنية الأخرى ـ تتكرر تعبيرات معينة ، تؤلف جزءا من جو
السورة وشخصيتها الخاصة. وهنا يرد ذكر العلم كثيرا ، وما يقابله من الجهل وقلة
العلم في مواضع شتى :
(وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ، كَما أَتَمَّها
عَلى
أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. وَاللهُ
غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ..
(فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ؛ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
(قالَ : لا
يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ
أَنْ يَأْتِيَكُما. ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ..
(إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
(قالُوا : أَضْغاثُ
أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) ..
(يُوسُفُ أَيُّهَا
الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ،
وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) ..
(وَقالَ الْمَلِكُ :
ائْتُونِي بِهِ ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ : ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ
فَسْئَلْهُ : ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ؟ إِنَّ
رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ..
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ..
(قالَ : اجْعَلْنِي
عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ؛ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ..
(... وَإِنَّهُ لَذُو
عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
(قالُوا : تَاللهِ
لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) ..
(قالَ : أَنْتُمْ
شَرٌّ مَكاناً ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) ..
(فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ : أَلَمْ تَعْلَمُوا
أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ..) ..
(وَما شَهِدْنا إِلَّا
بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) ..
(عَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ..
(قالَ : إِنَّما
أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ..
(قالَ : هَلْ
عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟) ..
(قالَ : أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) ..
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ...).
وهي ظاهرة
بارزة تلفت النظر إلى بعض أسرار التناسق ولطائفه في هذا الكتاب الكريم.
* وفي السورة
تعريف بخصائص الألوهية ، وفي مقدمتها «الحكم» وهو يرد مرة على لسان يوسف ـ عليهالسلام ـ بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم وطاعتهم الإرادية ، ويأتي
مرة على لسان يعقوب ـ عليهالسلام ـ بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم لله في صورتها القهرية
القدرية ، فيتكامل المعنيان في تقرير مدلول الحكم وحقيقة الألوهية على هذا النحو
الذي لا يجيء عفوا ولا مصادفة أبدا :
يقول يوسف في
معرض تفنيد ربوبية الحكام في مصر ومخالفتها لوحدانية الألوهية :
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها
أَنْتُمْ
وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ..
ويقول يعقوب في
معرض تقرير أن قدر الله نافذ وأن قضاءه ماض :
(يا بَنِيَّ ، لا
تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ،
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
وهذا التكامل
في مدلول الحكم يشير إلى أن الدين لا يستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في
الحكم ، كالدينونة القهرية له سبحانه في القدر. فكلاهما من العقيدة ؛ وليست
الدينونة في القدر القاهر وحدها هي الداخلة في نطاق الاعتقاد ، بل الدينونة
الإرادية في الشريعة هي كذلك في نطاق الاعتقاد.
* ومن لطائف
التناسق أن يذكر يوسف الحصيف الكيس اللطيف المدخل ، صفة الله المناسبة .. «اللطيف».
في الموقف الذي يتجلى فيه لطف الله في التصريف :
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً. وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ
رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ
أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ، وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ
نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي .. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما
يَشاءُ .. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ..
* ومن لطائف
التناسق ما سبق أن أشرنا إليه من التطابق في السورة بين تقديم القصص ، والتعقيب
المباشر عليه ، والتعقيب الختامي الطويل .. وكل هذه التعقيبات تتجه إلى تقرير
قضايا واحدة ، وتتلاقى عليها بين البدء والختام ..
وحسبنا في
التعريف بالسورة هذه اللمسات حتى نلتقي بها في السياق.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
قالَ
يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ
الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
لَقَدْ
كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
إِذْ
قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ
أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨)
اقْتُلُوا
يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
قالَ
قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما
لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
أَرْسِلْهُ
مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
قالَ
إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
فَلَمَّا
ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥)
وَجاؤُ
أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦)
قالُوا
يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا
فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً
فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
(٢٠)
هذا الدرس هو
المقدمة ، ثم الحلقة الأولى من القصة ، وتتألف من ستة مشاهد ، وتبدأ من رؤيا يوسف
إلى نهاية مؤامرة إخوته عليه ، ووصوله إلى مصر .. وسنواجه النصوص الواردة فيه
مباشرة ، بعد ذلك التقديم السابق للسورة ، وفيه غناء :
(الر. تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ..
ألف. لام. را
.. (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) ..
هذه الأحرف وما
من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم. هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة
المتسامية على الطاقة البشرية. آيات الكتاب المبين. ولقد نزله الله كتابا عربيا
مؤلفا من هذه الأحرف العربية المعروفة :
(لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) ..
وتدركون أن
الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون بشرا ، فلا بد
عقلا أن يكون القرآن وحيا. والعقل هنا مدعو لتدبر هذه الظاهرة ودلالتها القاهرة.
ولما كان جسم
هذه السورة قصة فقد أبرز ذكر القصص من مادة هذا الكتاب ، على وجه التخصيص :
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) ..
فبإيحائنا هذا
القرآن إليك قصصنا عليك هذا القصص ـ وهو أحسن القصص ـ وهو جزء من القرآن الموحى
به.
(وَإِنْ كُنْتَ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ..
فقد كنت أحد
الأميين في قومك ، الذين لا يتوجهون إلى هذا النحو من الموضوعات التي جاء بها
القرآن ، ومنها هذا القصص الكامل الدقيق.
* * *
هذه المقدمة
إشارة البدء إلى القصة ..
ثم يرفع الستار
عن المشهد الأول في الحلقة الأولى ، لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه :
(إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ ، إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. قالَ : يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ ، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ
عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ
رَبُّكَ ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ ، وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
كان يوسف صبيا
أو غلاما ؛ وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان ؛ وأقرب
ما يزاه غلام ـ حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به ـ أن يرى هذه الكواكب
والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها. ولكن يوسف رآها ساجدة له ، متمثلة في
صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيما. والسياق يروي عنه في صيغة
الإيضاح المؤكدة :
(إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) ..
ثم يعيد لفظ
رأى :
(رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ).
لهذا أدرك أبوه
يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنا عظيما لهذا الغلام. لم يفصح هو عنه ،
ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك. ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها. أما تمامه
فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب. ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه
على إخوته ، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير ـ غير الشقيق ـ فيجد
الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم ، فتمتلىء نفوسهم بالحقد ، فيدبروا له أمرا يسوؤه :
(قالَ : يا بُنَيَّ لا
تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ..
ثم علّل هذا
بقوله :
(إِنَّ الشَّيْطانَ
لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..
ومن ثم فهو
يوغر صدور الناس بعضهم على بعض ، ويزين لهم الخطيئة والشر.
ويعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم ، وقد أحسن من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن ، يتجه خاطره إلى
أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة ؛ بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه ،
وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون. فتوقع أن يكون
يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة
المباركة في بيت إبراهيم. فقال له :
(وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
واتجاه فكر
يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له ، وإتمام نعمته عليه وعلى آل
يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق (والجد يقال له أب) .. هذا
طبيعي. ولكن الذي يستوقف النظر قوله :
(وَيُعَلِّمُكَ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ..
والتأويل هو
معرفة المآل. فما الأحاديث؟. أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق
الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه ، منذ أوائلها.
وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة ، وجاء التعقيب :
(إِنَّ رَبَّكَ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
مناسبا لهذا في
جو الحكمة والتعليم؟ أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف
فيما بعد؟
كلاهما جائز ،
وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب.
وبهذه المناسبة
نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة.
إننا ملزمون
بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد. ملزمون بهذا
أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبيه في
السجن ، ورؤيا الملك في مصر. وثانيا من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق
رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده .. لأنه موجود بالفعل! ..
والسبب الأول
يكفي .. ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت ..
فما هي طبيعة
الرؤيا؟
تقول مدرسة
التحليل النفسي : إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي.
وهذا يمثل
جانبا من الأحلام. ولكنه لا يمثلها كلها. (وفرويد) ذاته ـ على كل تحكمه غير العلمي
وتمحله في نظريته ـ يقرر أن هناك أحلاما تنبؤية.
فما طبيعة هذه
الأحلام التنبؤية؟
وقبل كل شيء
نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفة لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها. إنما
نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب ، وبعض سنن الله في
هذا الوجود.
ونحن نتصور
طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو .. إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا
المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل ، أو الحاضر المحجوب. وأن
ما نسميه ماضيا أو مستقبلا إنما يحجبه عنا عامل الزمان ، كما يحجب الحاضر البعيد
عنا عامل المكان. وأن حاسة ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض
الأحيان ، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة ، ليست علما ولكنها
استشفاف ، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس ، وفي الرؤى لبعضهم ، فيتغلب على حاجز
المكان أو حاجز الزمان ، أو هما معا في بعض الأحيان . وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئا عن حقيقة الزمان. كما
أن حقيقة المكان ذاتها ـ وهي ما يسمى بالمادة ـ ليست معلومة لنا على وجه التحقيق :
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)!
على أية حال
لقد رأى يوسف رؤياه هذه ، وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا.
* * *
ويسدل السياق
الستار على مشهد يوسف ويعقوب هنا ليرفعه على مشهد آخر : مشهد إخوة يوسف يتآمرون ،
مع حركة تنبيه لأهمية ما سيكون :
__________________
«لقد كان في
يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة. إن
أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من
بعده قوما صالحين. قال قائل منهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه
بعض السيارة إن كنتم فاعلين» ..
لقد كان في قصة
يوسف وإخوته آيات وأمارات على حقائق كثيرة لمن ينقب عن الآيات ويسأل ويهتم. وهذا
الافتتاح كفيل بتحريك الانتباه والاهتمام. لذلك نشبهه بحركة رفع الستار عما يدور
وراءه من أحداث وحركات. فنحن نرى وراءه مباشرة مشهد إخوة يوسف يدبرون ليوسف ما
يدبرون.
ترى حدثهم يوسف
عن رؤياه كما يقول كتاب «العهد القديم»؟ إن السياق هنا يفيد أن لا. فهم يتحدثون عن
إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم. أخيه الشقيق. ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء
ذكرها على ألسنتهم ، ولكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه. فما خافه يعقوب
على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر ، وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم
له. ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة ، لتصل بيوسف
إلى النهاية المرسومة ، والتي تمهد لها ظروف حياته ، وواقع أسرته ، ومجيئه لأبيه
على كبرة. وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء ، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر.
كما كان الحال مع يوسف وأخيه ، وإخوته من أمهات.
(إِذْ قالُوا :
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ..
أي ونحن مجموعة
قوية تدفع وتنفع ..
(إِنَّ أَبانا لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
إذ يؤثر غلاما
وصبيا صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين! ثم يغلي الحقد ويدخل الشيطان ،
فيختل تقديرهم للوقائع ، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة ، وتهون أحداث ضخام. تهون
الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح. روح غلام بريء لا يملك دفعا عن نفسه ، وهو
لهم أخ. وهم أبناء نبي ـ وإن لم يكونوا هم أنبياء ـ يهون هذا. وتضخم في أعينهم
حكاية إيثار أبيهم له بالحب. حتى توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك
بالله :
(اقْتُلُوا يُوسُفَ.
أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) ..
وهما قريب من
قريب. فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغالب إلى الموت .. ولما ذا؟
(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ) ..
فلا يحجبه
يوسف. وهم يريدون قلبه. كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليا من حبه ، ويتوجه
بهذا الحب إلى الآخرين! والجريمة؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم
بارتكابها :
(وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)! ..
هكذا ينزغ
الشيطان ، وهكذا يسول للنفوس عند ما تغضب وتفقد زمامها ، وتفقد صحة تقديرها
للأشياء والأحداث. وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم : اقتلوا
.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة
التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا غير ذاكر ؛ حتى إذا تذكر ندم ، وجاشت نفسه
بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة
معالم الجريمة ، فليست بالتوبة ، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان!
ولكن ضميرا
واحدا فيهم ، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه. فيقترح حلا يريحهم من يوسف ، ويخلي
لهم وجه أبيهم ، ولكنه لا يقتل يوسف ، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك.
إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل ، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه
وتذهب به بعيدا :
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ، يَلْتَقِطْهُ
بَعْضُ السَّيَّارَةِ. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ..
ونحسن من قوله
:
(إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) ..
روح التشكيك
والتثبيط. كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إيقاع الأذى بيوسف. وهو أسلوب من أساليب
التثبيط عن الفعل ، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي
حقدهم ؛ ولم يكونوا على استعداد للتراجع فيما اعتزموه .. نفهم هذا من المشهد
التالي في السياق ..
* * *
فها هم أولاء
عند أبيهم ، يراودونه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة. وهاهم أولاء يخادعون أباهم
، ويمكرون به وبيوسف. فلنشهد ولنستمع لما يدور :
(قالُوا : يا أَبانا
ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ؟ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ؛ أَرْسِلْهُ
مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ : إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ. قالُوا : لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) ..
والتعبير يرسم
بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير
الحبيب ، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم ..
(يا أَبانا) ..
بهذا اللفظ
الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة.
«مالك لا تأمنا
على يوسف؟» ..
سؤال فيه عتب
وفيه استنكار خفي ، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم ، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم
يوسف. فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية
التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم
كبار ، لا لأنه لا يأمنهم عليه. فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم
، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر ؛ ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف. فهي
مبادرة ماكرة منهم خبيثة!
(ما لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ؟ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) ..
قلوبنا له
صافية لا يخالطها سوء ـ وكاد المريب أن يقول خذوني ـ فذكر النصح هنا وهو الصفاء
والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب ..
(أَرْسِلْهُ مَعَنا
غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ..
زيادة في
التوكيد ، وتصويرا لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة ، مما ينشط والده
لإرساله معهم كما يريدون.
وردا على
العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي ـ بطريق غير مباشر ـ أنه لا يأمنهم عليه ،
ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب :
(قالَ : إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) ..
(إِنِّي لَيَحْزُنُنِي
أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) ..
إنني لا أطيق
فراقه .. ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها. أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه
ولو لبعض يوم ، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة.
(وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) ..
ولا بد أنهم
وجدوا فيها عذرا كانوا يبحثون عنه ، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا
يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة ، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب!
واختاروا
أسلوبا من الأساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه :
(قالُوا : لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) ..
لئن غلبنا
الذئب عليه ونحن جماعة قوية هكذا فلا خير فينا لأنفسنا وإننا لخاسرون كل شيء ، فلا
نصلح لشيء أبدا!
وهكذا استسلم
الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الإحراج .. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما
تقتضي مشيئته!
* * *
والآن لقد
ذهبوا به ، وها هم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء. والله سبحانه يلقي في روع
الغلام أنها محنة وتنتهي ، وأنه سيعيش وسيذكّر إخوته بموقفهم هذا منه وهم لا
يشعرون أنه هو :
(فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..
فقد استقر
أمرهم جميعا على أن يجعلوه في غيابة الجب ، حيث يغيب فيه عنهم. وفي لحظة الضيق
والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع ، والموت منه قريب ، ولا منقذ له ولا مغيث.
وهو وحده صغير وهم عشرة أشداء. في هذه اللحظة اليائسة يلقي الله في روعه أنه ناج ،
وأنه سيعيش حتى يواجه إخوته بهذا الموقف الشنيع ، وهم لا يشعرون بأن الذي يواجههم
هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير.
* * *
وندع يوسف في
محنته في غيابة الجب ، يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه ويطمئنه ، حتى يأذن الله
بالفرج. ندعه لنشهد إخوته بعد الجريمة يواجهون الوالد المفجوع :
(وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ ، قالُوا : يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ، وَتَرَكْنا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا
وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. قالَ : بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، وَاللهُ
الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ..
لقد ألهاهم
الحقد الفائر عن سبك الكذبة ، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى
التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون ،
يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة
دليلا على التسرع ، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس ،
وهم ينفونها ، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في
الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على
قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان. فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب ..
فعلوا هذا.
(وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا : يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ..
ويحسون أنها
مكشوفة ، ويكاد المريب أن يقول خذوني ، فيقولون :
(وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ..
أي وما أنت
بمطمئن لما نقوله ، ولو كان هو الصدق ، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول.
وأدرك يعقوب من
دلائل الحال ، ومن نداء قلبه ، أن يوسف لم يأكله الذئب ، وأنهم دبروا له مكيدة ما.
وأنهم يلفقون له قصة لم تقع ، ويصفون له حالا لم تكن ، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت
لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه ؛ وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا
يفزع ولا يشكو ، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب :
(قالَ : بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. وَاللهُ الْمُسْتَعانُ
عَلى ما تَصِفُونَ).
* * *
ثم لنعد سريعا
إلى يوسف في الجب ، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة :
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ
، فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ، فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ : يا بُشْرى. هذا غُلامٌ.
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ، وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ..
لقد كان الجب
على طريق القوافل ، التي تبحث عن الماء في مظانه ، في الآبار وفي مثل هذا الجب
الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة ، ويكون في بعض الأحيان جافا كذلك :
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) ..
أي قافلة سميت
سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة ...
(فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ) ..
أي من يرد لهم
الماء ويكون خبيرا بمواقعه ..
(فَأَدْلى دَلْوَهُ) ..
لينظر الماء أو
ليملأ الدلو ـ ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية
للقارىء والسامع ـ :
(قالَ : يا بُشْرى!
هذا غُلامٌ!) ..
ومرة أخرى يحذف
السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل ، وحال يوسف ، وكيف ابتهج للنجاة ، ليتحدث عن
مصيره مع القافلة :
(وَأَسَرُّوهُ
بِضاعَةً) ..
أي اعتبروه
بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقا. ولما لم يكن رقيقا فقد أسروه ليخفوه عن
الأنظار. ثم باعوه بثمن قليل :
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) .. وكانوا يتعاملون في القليل من الدراهم بالعد ، وفي
الكثير منها بالوزن ..
(وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) ..
لأنهم يريدون
التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه ..
وكانت هذه
نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم.
(وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١)
وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ
لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا
الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ
قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦)
وَإِنْ
كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فَلَمَّا
رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها
حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠)
فَلَمَّا
سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً
وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ
لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١)
قالَتْ
فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُوناً
مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣)
فَاسْتَجابَ
لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
(٣٤)
الحلقة الثانية
من حلقات القصة ، وقد وصل يوسف إلى مصر ، وبيع بيع الرقيق ؛ ولكن الذي اشتراه توسم
فيه الخير ـ والخير يتوسم في الوجوه الصباح ، وبخاصة حين تصاحبها السجايا الملاح ـ
فإذا هو يوصي به امرأته خيرا ، وهنا يبدأ أول خيط في تحقيق الرؤيا.
ولكن محنة أخرى
من نوع آخر كانت تنتظر يوسف حين يبلغ أشده ، وقد أوتي حكما وعلما يستقبل بهما هذه
المحنة الجارفة التي لا يقف لها إلا من رحم الله. إنها محنة التعرض للغواية في جو
القصور ، وفي جو ما يسمونه «الطبقة الراقية» وما يغشاها من استهتار وفجور .. ويخرج
يوسف منها سليما معافى في خلقه وفي دينه ، ولكن بعد أن يخالط المحنة ويصلاها ..
* * *
(وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ : أَكْرِمِي مَثْواهُ ، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ،
وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ،
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
إن السياق لا
يكشف لنا حتى الآن عمن اشتراه ، وسنعلم بعد شوط في القصة أنه عزيز مصر (قيل : إنه
كبير وزرائها) ولكنا نعلم منذ اللحظة أن يوسف قد وصل إلى مكان آمن ، وأن المحنة قد
انتهت بسلام ، وأنه مقبل بعد هذا على خير :
(أَكْرِمِي مَثْواهُ) ..
والمثوى مكان
الثويّ والمبيت والإقامة ، والمقصود بإكرام مثواه إكرامه ، ولكن التعبير أعمق ،
لأنه يجعل الإكرام لا لشخصه فحسب ، ولكن لمكان إقامته .. وهي مبالغة في الإكرام.
في مقابل مثواه في الجب وما حوله من مخاوف وآلام!
ويكشف الرجل
لامرأته عما يتوسمه في الغلام من خير ، وما يتطلع إليه فيه من أمل :
(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ..
ولعلهما لم يكن
لهما أولاد كما تذكر بعض الروايات. ومن ثم تطلع الرجل أن يتخذاه ولدا إذا صدقت
فراسته ، وتحققت مخايل نجابته وطيبته مع وسامته.
وهنا يقف السياق
لينبه إلى أن هذا التدبير من الله ، وبه وبمثله قدر ليوسف التمكين في الأرض ـ وها
قد بدأت بشائره بتمكين يوسف في قلب الرجل وبيته ـ ويشير إلى أنه ماض في الطريق
ليعلمه الله من تأويل الأحاديث ـ على الوجهين اللذين ذكرناهما من قبل ـ ويعقب
السياق على هذا الابتداء في تمكين يوسف بما يدل عليه من أن قدرة الله غالبة ، لا
تقف في طريقها قوة ، وأنه مالك أمره ومسيطر عليه فلا يخيب ولا يتوقف ولا يضل :
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. وَاللهُ
غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) ..
وها هو ذا يوسف
أراد له إخوته أمرا ، وأراد له الله أمرا ، ولما كان الله غالبا على أمره ومسيطرا
فقد نفذ أمره ، أما إخوة يوسف فلا يملكون أمرهم فأفلت من أيديهم وخرج على ما
أرادوا :
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
لا يعلمون أن
سنة الله ماضية وأن أمره هو الذي يكون.
ويمضي السياق
ليقرر أن ما شاء الله ليوسف ، وقال عنه :
(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ..
قد تحقق حين
بلغ أشده :
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ..
فقد أوتي صحة
الحكم على الأمور ، وأوتي علما بمصائر الأحاديث أو بتأويل الرؤيا ، أو بما هو أعم
، من العلم بالحياة وأحوالها ، فاللفظ عام ويشمل الكثير. وكان ذلك جزاء إحسانه.
إحسانه في الاعتقاد وإحسانه في السلوك :
(وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) ..
* * *
وعندئذ تجيئه
المحنة الثانية في حياته ، وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى. تجيئه وقد أوتي صحة
الحكم وأوتي العلم ـ رحمة من الله ـ ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله
الله له في قرآنه.
والآن نشهد ذلك
المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير :
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ : هَيْتَ
لَكَ! قالَ : مَعاذَ اللهِ. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ـ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى
بُرْهانَ رَبِّهِ. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ. إِنَّهُ
مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ـ وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ
دُبُرٍ ، وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ. قالَتْ : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ
بِأَهْلِكَ سُوءاً؟ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ : هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ؛ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ
قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ. إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ، إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخاطِئِينَ) ..
إن السياق لم
يذكر كم كانت سنها وكم كانت سنه ؛ فلننظر في هذا الأمر من باب التقدير.
لقد كان يوسف
غلاما عند ما التقطته السيارة وباعته في مصر. أي إنه كان حوالي الرابعة عشرة تنقص
ولا تزيد. فهذه هي السن التي يطلق فيها لفظ الغلام ، وبعدها يسمى فتى فشابا فرجلا
... وهي السن التي يجوز فيها أن يقول يعقوب : (وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) .. وفي هذا الوقت كانت هي زوجة ، وكانت وزوجها لم يرزقا
أولادا كما يبدو من قوله : (أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً) .. فهذا الخاطر .. خاطر التبني .. لا يرد على النفس
عادة إلا حين لا يكون هناك ولد ؛ ويكون هناك يأس أو شبه يأس من الولد. فلا بد أن
تكون قد مضت على زواجهما فترة ، يعلمان فيها أن لا ولد لهما. وعلى كل حال فالمتوقع
عن رئيس وزراء مصر ألا تقل سنه عن أربعين سنة ، وأن تكون سن زوجه حينئذ حوالي
الثلاثين.
ونتوقع كذلك أن
تكون سنها أربعين سنة عند ما يكون يوسف في الخامسة والعشرين أو حواليها. وهي
السن التي نرجح أن الحادثة وقعت فيها .. نرجحه لأن تصرف المرأة في الحادثة
وما بعدها يشير إلى أنها كانت مكتملة جريئة ، مالكة لكيدها ، متهالكة كذلك على
فتاها. ونرجحه من كلمة النسوة فيما بعد .. «امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه» ..
وإن كانت كلمة فتى تقال بمعنى عبد ، ولكنها لا تقال إلا ولها حقيقة من مدلولها من
سن يوسف. وهو ما ترجحه شواهد الحال.
نبحث هذا البحث
، لنصل منه إلى نتيجة معينة. لنقول : إن التجربة التي مر بها يوسف ـ أو المحنة ـ لم
تكن فقط في مواجهة المراودة في هذا المشهد الذي يصوره السياق. إنما كانت في حياة
يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر ، مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن
الأربعين ، مع جو القصور ، وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد
فيها امرأته مع يوسف :
«يوسف أعرض عن
هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين».
وكفى ..!
والتي يتحدث
فيها النسوة عن امرأة العزيز ، فيكون جوابها عليهن ، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها ،
فيفتتن به ، ويصرحن ، فتصرح المرأة :
(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) ..
فهذه البيئة
التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة. هي بيئة الطبقة المترفة دائما. ويوسف كان فيها
مولى وتربى فيها في سن الفتنة .. فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف ، وصمد
لها ، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة. ولسنه وسن
المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة
المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة
بلا تمهيد من إغراء طويل ، لما كان عسيرا أن يصمد لها يوسف ، وبخاصة أنه هو مطلوب
فيها لا طالب. وتهالك المرأة قد يصد من نفس الرجل. وهي كانت متهالكة.
والآن نواجه
النصوص :
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ، وَقالَتْ : هَيْتَ
لَكَ!) ..
وإذن فقد كانت
المراودة في هذه المرة مكشوفة ، وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الأخير ..
وحركة تغليق الأبواب لا تكون إلا في اللحظة الأخيرة ، وقد وصلت المرأة إلى اللحظة
الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة ، ونداء الجسد الأخير :
(وَقالَتْ : هَيْتَ
لَكَ!).
هذه الدعوة
السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة. إنما تكون هي الدعوة
الأخيرة. وقد لا تكون أبدا إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا. والفتى يعيش معها
وقوته وفتوته تتكامل ، وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج ، فلا بد كانت هناك إغراءات
شتى خفيفة لطيفة ، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة.
(قالَ : مَعاذَ اللهِ.
إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ..
(مَعاذَ اللهِ) ..
أعيذ نفسي
بالله أن أفعل.
(إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوايَ) ..
وأكرمني بأن
نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ) .. الذين يتجاوزون حدود الله ، فيرتكبون ما تدعينني
اللحظة إليه.
والنص هنا صريح
وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر
نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك
استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهرة بعد تغليق الأبواب ، وبعد
الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :
(وَقالَتْ : هَيْتَ
لَكَ).
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)!
لقد حصر جميع
المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء
الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ،
والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع
عاضا على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن ـ أي نعم من
القرآن! ـ تنهى عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي! حتى أرسل الله جبريل يقول له :
أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره .. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار
وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع!
وأما جمهور
المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان
ربه فترك.
وأنكر المرحوم
الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي. وقال : إنها إنما همت
بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه
آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر .. وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب
مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل
أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص.
أما الذي خطر
لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع
هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعد ما
أوتيهما ..
الذي خطر لي أن
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ..
هو نهاية موقف
طويل من الإغراء ، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم .. وهو تصوير واقعي صادق
لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية
والنجاة .. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة
المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا
يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية
المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع
الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا.
هذا ما خطر لنا
ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة
النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل
النفسي في لحظة من
اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف
الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .
(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ..
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) ..
فهو قد آثر
التخلص بعد أن استفاق .. وهي عدت خلفه لتمسك به ، وهي ما تزال في هياجها الحيواني.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
مِنْ دُبُرٍ) ..
نتيجة جذبها له
لترده عن الباب ..
وتقع المفاجأة
:
(وَأَلْفَيا سَيِّدَها
لَدَى الْبابِ) ..
وهنا تتبدى
المرأة المكتملة ، فتجد الجواب حاضرا على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب. إنها
تتهم الفتى :
(قالَتْ : ما جَزاءُ
مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟) ..
ولكنها امرأة
تعشق ، فهي تخشى عليه ، فتشير بالعقاب المأمون.
(إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ
أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)!
ويجهر يوسف
بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل :
(قالَ : هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)!
وهنا يذكر
السياق أن أحد أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع :
(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
أَهْلِها : إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) ..
فأين ومتى أدلى
هذا الشاهد بشهادته هذه؟ هل كان مع زوجها (سيدها بتعبير أهل مصر) وشهد الواقعة؟ أم
أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر ، كما يقع في مثل هذه الأحوال أن يستدعي الرجل
كبيرا من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى ، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة
القيم!
هذا وذلك جائز.
وهو لا يغير من الأمر شيئا. وقد سمي قوله هذا شهادة ، لأنه لما سئل رأيه في الموقف
والنزاع المعروض من الجانبين ـ ولكل منها ومن يوسف قول ـ سميت فتواه هذه شهادة ،
لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه .. فإن كان قميصه قد من قبل
فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان
قميصه قد من دبر فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي
__________________
له حتى الباب ، وهي كاذبة وهو صادق .. وقدم الفرض الأول لأنه إن صح يقتضي صدقها
وكذبه ، فهي السيدة وهذا فتى ، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول! والأمر لا
يخرج عن أن يكون قرينة.
(فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) ..
تبين له حسب
الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت ، وهي التي دبرت الاتهام ..
وهنا تبدو لنا صورة من «الطبقة الراقية» في الجاهلية قبل آلاف السنين وكأنها هي هي
اليوم شاخصة. رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية ؛ وميل إلى كتمانها عن المجتمع ،
وهذا هو المهم كله :
(قالَ : إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ،
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)!
هكذا. إنه من
كيدكن إن كيدكن عظيم .. فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق. والتلطف
في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله ، فيما يشبه الثناء. فإنه لا يسوء
المرأة أن يقال لها : إن كيدكن عظيم! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة
مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم!
والتفاتة إلى
يوسف البريء :
(يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا) ..
فأهمله ولا
تعره اهتماما ولا تتحدث به .. وهذا هو المهم .. محافظة على الظواهر!
وعظة إلى
المرأة التي راودت فتاها عن نفسه ، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه :
(وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ..
إنها الطبقة
الأرستقراطية ، من رجال الحاشية ، في كل جاهلية. قريب من قريب!
ويسدل الستار
على المشهد وما فيه .. وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن
دون أن ينشىء منها معرضا للنزوة الحيوانية الجاهرة ، ولا مستنقعا للوحل الجنسي
المقبوح!
* * *
ولم يحل السيد
بين المرأة وفتاها. ومضت الأمور في طريقها. فهكذا تمضي الأمور في القصور!
ولكن للقصور
جدرانا ، وفيها خدم وحشم. وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا. وبخاصة في
الوسط الأرستقراطي ، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن. وإلا
تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات :
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ : امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ. قَدْ
شَغَفَها حُبًّا. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
وهو كلام أشبه
بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون. ولأول مرة نعرف أن المرأة
هي امرأة العزيز ، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر ـ أي كبير وزرائها ـ ليعلن
هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة :
(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ
تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) ..
ثم بيان لحالها
معه :
(قَدْ شَغَفَها حُبًّا) ..
فهي مفتونة به
، بلغ حبه شفاف قلبها ومزقه ، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق :
(إِنَّا لَنَراها فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
وهي السيدة
الكبيرة زوجة الكبير ، تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن
اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها ، وهو وحده المنتقد في عرف هذه
الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار؟!
* * *
وهنا كذلك يقع
ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة
الجريئة ، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن :
(فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ، وَآتَتْ
كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ، وَقالَتِ : اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا
رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ! ما
هذا بَشَراً. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ : فَذلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ. وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. وَلَئِنْ
لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) ..
لقد أقامت لهن
مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين
إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن
كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت
لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام ـ ويؤخذ من هذا أن
الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما.
فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف
والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن
بيوسف :
(وَقالَتِ : اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ) ..
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ) ..
بهتن لطلعته ،
ودهشن.
(وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ) ..
وجرحن أيديهن
بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
(وَقُلْنَ حاشَ
لِلَّهِ!) ..
وهي كلمة تنزيه
تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله ..
(ما هذا بَشَراً إِنْ
هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) .
وهذه التعبيرات
دليل ـ كما قلنا في تقديم السورة ـ على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.
__________________
ورأت المرأة
أنها انتصرت على نساء طبقتها ، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت
قولة المرأة المنتصرة ، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها ؛ والتي
تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها ؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا
القياد مرة أخرى :
(قالَتْ : فَذلِكُنَّ
الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ..
فانظرن ماذا
لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب!
(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ..
ولقد بهرني
مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام ـ تريد أن تقول : إنه عانى في الاعتصام والتحرز
من دعوتها وفتنتها! ـ ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط ،
لا ترى بأسا من الجهر بنزاوتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء :
(وَلَئِنْ لَمْ
يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)!
فهو الإصرار والتبجح
والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد.
ويسمع يوسف هذا
القول في مجتمع النساء المبهورات ، المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ونفهم
من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من
ربة الدار ؛ فإذا هو يناجي ربه :
(قالَ : رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ..
ولم يقل : ما
تدعوني إليه. فهن جميعا كن مشتركات في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات
.. وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن ، خيفة أن يضعف
في لحظة أمام الإغراء الدائم ، فيقع فيما يخشاه على نفسه ، ويدعو الله أن ينقذه
منه :
(وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) ..
وهي دعوة
الإنسان العارف ببشريته. الذي لا يغتر بعصمته ؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته
، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
(فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
وهذا الصرف قد
يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن ، بعد هذه التجربة ؛ أو بزيادة
انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثرا منه. أو بهما جميعا.
(إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع ويعلم ، يسمع الكيد ويسمع الدعاء ، ويعلم ما
وراء الكيد وما وراء الدعاء.
وهكذا اجتاز
يوسف محنته الثانية ، بلطف الله ورعايته. وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من
قصته المثيرة.
* * *
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ
(٣٥) وَدَخَلَ
مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً
وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(٣٦) قالَ
لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ
نَبَّأْتُكُما
بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي
تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي
إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ
مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ
(٣٩) ما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما
فَيَسْقِي
رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ
(٤١) وَقالَ
لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
(٤٢) وَقالَ
الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ
وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي
فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ
(٤٣) قالُوا
أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ
(٤٤) وَقالَ
الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
(٤٥) يُوسُفُ
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى
النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
(٤٦) قالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما
حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ
(٤٧) ثُمَّ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ
إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ
(٤٨) ثُمَّ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
(٤٩) وَقالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ
فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ
اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
(٥٠)
قالَ
ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما
عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
ذلِكَ
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ
الْخائِنِينَ)
(٥٢)
وهذه هي الحلقة
الثالثة والمحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف ؛ فكل ما بعدها رخاء
، وابتلاء لصبره على الرخاء ، بعد ابتلاء صبره على الشدة. والمحنة في هذه الحلقة
هي محنة السجن بعد ظهور البراءة. والسجن للبريء المظلوم أقسى ، وإن كان في طمأنينة
القلب بالبراءة تعزية وسلوى.
وفي فترة
المحنة هذه تتجلى نعمة الله على يوسف ، بما وهبه من علم لدني بتعبير الرؤيا وبعض
الغيب القريب الذي تبدو أوائله فيعرف تأويله. ثم تتجلى نعمة الله عليه أخيرا
بإعلان براءته الكاملة إعلانا رسميا بحضرة الملك ، وظهور مواهبه التي تؤهله لما هو
مكنون له في عالم الغيب من مكانة مرموقة وثقة مطلقة ، وسلطان عظيم.
* * *
«ثم بدا لهم من
بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» ..
وهكذا جو
القصور ، وجو الحكم المطلق ، وجو الأوساط الأرستقراطية ، وجو الجاهلية! فبعد أن
رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف. وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم
للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حبا ، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة
حقا ، ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه ، والمرأة تعلن في
مجتمع النساء ـ دون حياء ـ أنه إما أن يفعل ما يؤمر به ، وإما أن يلقى السجن
والصغار ، فيختار السجن على ما يؤمر به!.
بعد هذا كله ،
بدا لهم أن يسجنوه إلى حين!
ولعل المرأة
كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد ؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشارا في طبقات
الشعب الأخرى .. وهنا لا بد أن تحفظ سمعة «البيوتات»! وإذا عجز رجال البيوتات عن
صيانة بيوتهن ونسائهن ، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم
يستجب ، وأن امرأة من «الوسط الراقي!» قد فتنت به ، وشهرت بحبه ، ولاكت الألسن
حديثها في الأوساط الشعبية!
(وَدَخَلَ مَعَهُ
السِّجْنَ فَتَيانِ) ..
سنعرف من بعد
أنهما من خدم الملك الخواص ..
ويختصر السياق
ما كان من أمر يوسف في السجن ، وما ظهر من صلاحه وإحسانه ، فوجه إليه الأنظار ،
وجعله موضع ثقة المساجين ، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في
القصر أو الحاشية ،
__________________
فغضب عليهم في نزوة عارضة ، فألقي بهم في السجن .. يختصر السياق هذا كله
ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه ، فهما يقصان عليه رؤيا
رأياها. ويطلبان إليه تعبيرها ، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان
العبادة والذكر والسلوك :
«قال أحدهما :
إني أراني أعصر خمرا ؛ وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه.
نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين» ..
وينتهز يوسف
هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة ؛ فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح
العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة ، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام
الأرضيين ، وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية ، ويصبحون فراعين!
ويبدأ يوسف مع
صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما ، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم
الرؤى ، لأن ربه علمه علما لدنيا خاصا ، جزاء على تجرده لعبادته وحده ، وتخلصه من
عبادة الشركاء. هو وآباؤه من قبله .. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته
على تأويل رؤياهما ، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه :
(قالَ : لا
يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ
يَأْتِيَكُما ، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي. إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ
بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ. ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ ،
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ..
ويبدو في طريقة
تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس ، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف
.. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها ..
(قالَ : لا
يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ
أَنْ يَأْتِيَكُما ، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ..
بهذا التوكيد
الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني ، يرى به مقبل الرزق وينبئ بما يرى. وهذا ـ فوق
دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف ـ وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات
فيها والرؤى ـ وقوله : (ذلِكُما مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي) تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها
إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه ؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما
رؤياهما عن طريقه.
(إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ..
مشيرا بهذا إلى
القوم الذين ربي فيهم ، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي
يتبعهم. والفتيان على دين القوم ، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما ، إنما يواجه القوم
عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما ـ وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل.
وذكر الآخرة
هنا في قول يوسف يقرر ـ كما قلنا من قبل ـ أن الإيمان بالآخرة كان عنصرا من عناصر
العقيدة على لسان الرسل جميعا ؛ منذ فجر البشرية الأول ؛ ولم يكن الأمر كما يزعم
علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة ـ بجملتها ـ متأخرا .. لقد
جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرا فعلا ، ولكنه كان دائما عنصرا أصيلا في
الرسالات السماوية الصحيحة ..
ثم يمضي يوسف
بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه :
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ
آبائِي : إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ
بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) ..
فهي ملة
التوحيد الخالص الذي لا يشرك بالله شيئا قط .. والهداية إلى التوحيد فضل من الله
على المهتدين ، وهو فضل في متناول الناس جميعا لو اتجهوا إليه وأرادوه. ففي فطرتهم
أصوله وهواتفه ، وفي الوجود من حولهم موحياته ودلائله ، وفي رسالات الرسل بيانه
وتقريره. ولكن الناس هم الذين لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه :
(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ
اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ..
مدخل لطيف ..
وخطوة خطوة في حذر ولين .. ثم يتوغل في قلبيهما أكثر وأكثر ، ويفصح عن عقيدته
ودعوته إفصاحا كاملا ، ويكشف عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما ، وفساد ذلك الواقع
النكد الذي يعيشون فيه .. بعد ذلك التمهيد الطويل :
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ؟ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
لقد رسم يوسف ـ
عليهالسلام ـ بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة ، كل معالم هذا الدين ،
وكل مقومات هذه العقيدة. كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا
عنيفا ..
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟) ..
إنه يتخذ منهما
صاحبين ، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة ، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة
وجسم العقيدة. وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة ، إنما يعرضها قضية موضوعية :
(أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟) ..
وهو سؤال يهجم
على الفطرة في أعماقها ويهزها هزا شديدا .. إن الفطرة تعرف لها إلها واحدا ففيم
إذن تعدد الأرباب؟ .. إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو
الله الواحد القهار. ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعا
لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس. وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف
الناس أن الله واحد ، وأنه هو القاهر ، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره ، ويتخذوا
بذلك من دون الله ربا .. إن الرب لا بد أن يكون إلها يملك أمر هذا الكون ويسيره. ولا
ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله ربا للناس يقهرهم بحكمه ، وهو لا
يقهر هذا الكون كله بأمره!
والله الواحد
القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء
الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب ـ كالشأن في كل الأرباب
إلا الله ـ وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم ، وتوزع العباد بين
أهوائهم وتنازعهم .. فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته ؛ أو
يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة ، أو تحت تأثير
القهر أو الخداع أو الدعاية! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من
أهوائها ، ومن حرصها على ذواتها وبقائها ، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها
وتقويته ، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أو من بعيد
؛ وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا
تذبل ولا تنفثئ نفختها الخادعة!
والله الواحد
القهار في غنى عن العالمين ؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل
والعمارة ـ
وفق منهجه ـ فيعدّ لهم هذا كله عبادة. وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما
يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم ، لإصلاح حياتهم وواقعهم .. وإلا فما أغناه سبحانه
عن عباده أجمعين! (يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) .. ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة
للأرباب المتفرقة بعيد !
ثم يخطو يوسف ـ
عليهالسلام ـ خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية :
(ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ) ..
إن هذه الأرباب
ـ سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى
الكونية المسخرة بأمر الله ـ ليست من الربوبية في شيء ، وليس لها من حقيقة
الربوبية شيء. فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار ؛ الذي يخلق ويقهر كل
العباد .. ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم
أسماء ، ويخلعون عليها صفات ، ويعطونها خصائص ؛ وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان
.. والله لم يجعل لها سلطانا ولم ينزل بها من سلطان ..
وهنا يضرب يوسف
ـ عليهالسلام ـ ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين : لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن
يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة .. أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون «العبادة»!
(إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
إن الحكم لا
يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص
الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ؛ سواء ادعى
هذا الحق فرد ، أو طبقة ، أو حزب. أو هيئة ، أو أمة ، أو الناس جميعا في صورة
منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله
كفرا بواحا ، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة ، حتى بحكم هذا النص وحده!
وادعاء هذا
الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم ، وتجعله
منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته ـ سبحانه ـ فليس من الضروري أن يقول : ما علمت
لكم من إله غيري ؛ أو يقول : أنا ربكم الأعلى ، كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي
هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ؛ ويستمد القوانين
من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية ، أي التي تكون هي مصدر
السلطات ، جهة أخرى غير الله سبحانه .. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة
في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ؛
ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو
الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر
السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما
يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه ، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا
شرعية ، وما أنزل الله به من سلطان ..
ويوسف ـ عليهالسلام ـ يعلل القول بأن الحكم لله وحده. فيقول :
(أَمَرَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
ولا نفهم هذا
التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى «العبادة» التي يخص بها
الله وحده ..
__________________
إن معنى عبد في
اللغة : دان ، وخضع ، وذل .. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر
أداء الشعائر .. إنما كان هو معناه اللغوي نفسه .. فعند ما نزل هذا النص أول مرة
لم يكن شيء من الشعائر. قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه. إنما كان المقصود هو معناه
اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان المقصود به هو الدينونة لله وحده ،
والخضوع له وحده ، واتباع أمره وحده. سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية ، أو تعلق
بتوجيه أخلاقي ، أو تعلق بشريعة قانونية. فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول
العبادة التي خص الله ـ سبحانه ـ بها نفسه ؛ ولم يجعلها لأحد من خلقه ..
وحين نفهم معنى
العبادة على هذا النحو نفهم لما ذا جعل يوسف ـ عليهالسلام ـ اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم. فالعبادة ـ أي الدينونة ـ لا
تقوم إذا كان الحكم لغيره .. وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي
نظام الوجود ، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. فكله حكم تتحقق به
الدينونة.
ومرة أخرى نجد
أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله ـ حكما معلوما من الدين بالضرورة ـ
لأنها تخرجه من عبادة الله وحده .. وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله
قطعا. وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه ، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير
منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه .. فكلهم سواء في ميزان الله.
ويقرر يوسف ـ عليهالسلام ـ أن اختصاص الله ـ سبحانه ـ بالحكم ـ تحقيقا لاختصاصه بالعبادة ـ هو وحده
الدين القيم :
(ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) ..
وهو تعبير يفيد
القصر. فلا دين قيما سوى هذا الدين ، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم ، تحقيقا
لاختصاصه بالعبادة ..
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
وكونهم «لا
يعلمون» لا يجعلهم على دين الله القيم. فالذي لا يعلم شيئا لا يملك الاعتقاد فيه
ولا تحقيقه .. فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين ، لم يعد من الممكن عقلا وواقعا
وصفهم بأنهم على هذا الدين! ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام. ذلك
أن الجهل مانع للصفة ابتداء. فاعتقاد شيء فرع عن العلم به .. وهذا منطق العقل والواقع
.. بل منطق البداهة الواضح.
لقد رسم يوسف ـ
عليهالسلام ـ بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين ، وكل
مقومات هذه العقيدة ؛ كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا ..
إن الطاغوت لا
يقوم في الأرض إلا مدعيا أخص خصائص الألوهية ، وهو الربوبية. أي حق تعبيد الناس
لأمره وشرعه ، ودينونتهم لفكره وقانونه. وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه ـ ولو
لم يقله بلسانه ـ فالعمل دليل أقوى من القول.
وإن الطاغوت لا
يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس. فما يمكن أن يقوم
وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده ، لأن العبادة لا تكون إلا لله
وحده ، والخضوع للحكم عبادة. بل هي أصلا مدلول العبادة.
وإلى هنا يبلغ
يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه ، مرتبطا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال
صاحبيه في السجن. ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس ، ليزيدهما ثقة في
قوله كله وتعلقا به :
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ ، أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ، وَأَمَّا الْآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) ..
ولم يعين من هو
صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفا وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء. ولكنه
أكد لهما الأمر واثقا من العلم الذي وهبه الله له :
(قُضِيَ الْأَمْرُ
الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) ..
وانتهى فهو
كائن كما قضاه الله.
وأحب يوسف
السجين البريء ، الذي أمر الملك بسجنه دون تحر ودون بحث ، إلا ما نقله إليه بعض
حاشيته من وشاية لعلهم صوروا له فيها حادث امرأة العزيز وحادث النسوة تصويرا
مقلوبا ، كما يقع عادة في مثل هذه الأوساط .. أحب يوسف أن يبلغ أمره إلى الملك
ليفحص عن الأمر :
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ..
اذكر حالي
ووضعي وحقيقتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين بشرعه وتخضع لحكمه ، فهو بهذا ربك. فالرب
هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع .. وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح
الإسلامي. ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولا كالفراعنة ،
ولم يكونوا ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة. ولم يكن لهم من مظاهر الربوبية
إلا الحاكمية وهي نص في معنى الربوبية ..
وهنا يسقط
السياق أن التأويل قد تحقق ، وأن الأمر قد قضي على ما أوله يوسف. ويترك هنا فجوة ،
نعرف منها أن هذا كله قد كان. ولكن الذي ظن يوسف أنه ناج فنجا فعلا لم ينفذ الوصية
، ذلك أنه نسي الدرس الذي لقنه له يوسف ، ونسي ذكر ربه في زحمة حياة القصر
وملهياتها وقد عاد إليها ، فنسي يوسف وأمره كله ..
(فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) ..
(فَلَبِثَ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) ..
والضمير الأخير
في لبث عائد على يوسف. وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه
وحده ، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد. وكان هذا من اصطفائه
وإكرامه.
إن عباد الله
المخلصين ينبغي أن يخلصوا له سبحانه ، وأن يدعوا له وحده قيادهم ، ويدعوا له
سبحانه تنقيل خطاهم. وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك
، يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى
وحبا وشوقا .. فيتم عليهم فضله بهذا كله ..
* * *
والآن نحن في
مجلس الملك ، وقد رأى رؤيا أهمته ، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة
والمتصلين بالغيبيات :
(وَقالَ الْمَلِكُ :
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ،
وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ).
__________________
(يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ .
قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) ..
طلب الملك
تأويل رؤياه. فعجز الملأ من حاشيته ومن الكهنة عن تأويلها ، أو أحسوا أنها تشير
إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر
الحكام وإخفاء ما يزعجهم. وصرف الحديث عنه! فقالوا : إنها (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل.
(وَما نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) .. إذا كانت أضغاثا مختلطة لا تشير إلى شيء!
والآن لقد مرت
بنا رؤى ثلاث : رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك. وطلب تأويلها في كل
مرة ، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر ـ كما أسلفنا ـ
وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه ، على ما نعهد في
معجزات الأنبياء ، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف؟ ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال.
فنكمل حديث رؤيا الملك الآن!
هنا تذكر أحد
صاحبيه في السجن ، الذي نجا منهما وأنساه الشيطان ذكر ربه ، وذكر يوسف في دوامة
القصر والحاشية والعصر والخمر والشراب .. هنا تذكر الرجل الذي أوّل له رؤياه ورؤيا
صاحبه ، فتحقق التأويل :
(وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ :
أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)!
* * *
أنا أنبئكم
بتأويله فأرسلون .. ويسدل الستار هنا ، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا
يستفتيه :
(يُوسُفُ ـ أَيُّهَا
الصِّدِّيقُ ـ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ :
وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) ..
والساقي يلقب
يوسف بالصدّيق ، أي الصادق الكثير الصدق. وهذا ما جربه في شأنه من قبل ..
(أَفْتِنا فِي سَبْعِ
بَقَراتٍ سِمانٍ ...) ..
ونقل ألفاظ
الملك التي قالها كاملة ، لأنه يطلب تأويلها ، فكان دقيقا في نقلها ، وأثبتها
السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولا ، وليجيء تأويلها ملاصقا في السياق لذكرها.
ولكن كلام يوسف
هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد ، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبة. وهذا
أكمل :
(قالَ : تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) ..
أي .. متوالية
متتابعة. وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان.
(فَما حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) ..
أي فاتركوه في
سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية.
(إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّا تَأْكُلُونَ) ..
__________________
فجردوه من
سنابله ، واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) ..
لا زرع فيهن.
(يَأْكُلْنَ ما
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) ..
وكأن هذه
السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها!
(إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّا تُحْصِنُونَ) ..
أي إلا قليلا
مما تحفظونه وتصونونه من التهامها!
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ..
أي ثم تنقضي
هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة ، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات
الخصب. تنقضي ويعقبها عام رخاء ، يغاث الناس فيه بالزرع والماء ، وتنمو كرومهم
فيعصرونها خمرا ، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا ..
وهنا نلحظ أن
هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي
علمه الله يوسف. فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس ، بالخلاص من الجدب والجوع
بعام رخيّ رغيد.
* * *
وهنا كذلك
ينتقل السياق إلى المشهد التالي. تاركا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها
من حركة. ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من
تأويل الرؤيا ، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو
فيها .. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد ، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية
يوسف ، وأمره أن يأتوه به :
(وَقالَ الْمَلِكُ :
ائْتُونِي بِهِ) ..
ومرة ثالثة في
المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول
الملك الذي لا نعرف : إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أو رسولا تنفيذيا مكلفا
بمثل هذا الشأن. نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق
قضيته ، ويتبين الحق واضحا في موقفه ، وتعلن براءته ـ على الأشهاد ـ من الوشايات
والدسائس والغمز في الظلام .. لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا
الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلا ولا عجولا!
إن أثر التربية
الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين : الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى :
اذكرني عند ربك ، والموقف الذي يقول له فيه : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة
اللاتي قطعن أيديهن ، والفارق بين الموقفين بعيد ..
(قالَ : ارْجِعْ إِلى
رَبِّكَ فَسْئَلْهُ : ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ؟
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).
لقد رد يوسف
أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره ، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي
قطعن أيديهن .. بهذا القيد .. تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها
وكيدهن له بعدها .. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة ، دون أن
يتدخل هو في مناقشتها .. كل أولئك لأنه واثق من نفسه ، واثق من براءته ، مطمئن إلى
أن الحق لا يخفى طويلا ، ولا يخذل طويلا.
ولقد حكى
القرآن عن يوسف استعمال كلمة «رب» بمدلولها الكامل ، بالقياس إليه وبالقياس إلى
رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب
يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه ..
ورجع الرسول
فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن ـ والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه ـ : (قالَ : ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ
يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟) ..
والخطب : الأمر
الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن ، وهو المعتاد
في مثل هذه الأحوال ، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو
يواجههن مقررا الاتهام ، ومشيرا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير :
(ما خَطْبُكُنَّ إِذْ
راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟).
ومن هذا نعلم
شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ؛ ما قالته النسوة ليوسف وما لمّحن
به وأشرن إليه ، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه
الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائما هي
الجاهلية. إنه حيثما كان الترف ، وكانت القصور والحاشية ، كان التخلل والتميع
والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية!
وفي مثل هذه المواجهة
بالاتهام في حضرة الملك ، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار :
(قُلْنَ : حاشَ
لِلَّهِ! ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)!
وهي الحقيقة
التي يصعب إنكارها. ولو من مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة
والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال.
وهنا تتقدم
المرأة المحبة ليوسف ، التي يئست منه ، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به ..
تنقدم لتقول كل شيء في صراحة :
(قالَتِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ..
الآن حصحص الحق
وظهر ظهورا واضحا لا يحتمل الخفاء :
(أَنَا راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ..
وزادت ما يكشف
عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد ؛ وما يشي
كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن :
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ..
وهذا الاعتراف
وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية ، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر. كما
يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير :
(أَنَا راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ..
شهادة كاملة
بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها
.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ؟
يشي السياق
بحافز آخر ، هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية.
أن يحترمها تقديرا لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته :
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ..
ثم تمضي في هذه
المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها :
(وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ..
وتمضي خطوة
أخرى في هذه المشاعر الطيبة :
(وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ،
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
إنها امرأة
أحبت. امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها ، فهي لا تملك إلا أن
تظل معلقة بكلمة منه ، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه!
وهكذا يتجلى
العنصر الإنساني في القصة ، التي لم تسق لمجرد الفن ، إنما سيقت للعبرة والعظة.
وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة. ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر
وانتفاضات الوجدان رسما رشيقا رفيقا شفيفا. في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع
المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس ، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة
كذلك.
وإلى هنا تنتهي
محنة السجن ومحنة الاتهام ، وتسير الحياة بيوسف رخاء ، الاختبار فيه بالنعمة لا
بالشدة.
وإلى هنا نقف
في هذا الجزء من الظلال ، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله.
انتهى الجزء الثاني عشر
ويليه الجزء الثالث عشر
مبدوءاً بقوله تعالى :
(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ...)
بِسْمِ اللّهِ
الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
بقية
سورة يوسف
وسورتا
الرّعد وابراهيم
الجزء الثالث عشر
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
يتألف هذا
الجزء من بقية سورة يوسف المكية ، ومن سورتي الرعد وإبراهيم المكيتين أيضا. فهو
جزء كامل من القرآن المكي ؛ بكل خصائص القرآن المكي .
فأما سورتا
الرعد وإبراهيم فسنعرّف بهما ـ إن شاء الله ـ في موضعهما. وأما بقية سورة يوسف ،
فنرجو أن يراجع قبل قراءتها في هذا الجزء ما سبق من التعريف بالسورة في الجزء
الماضي.
إننا نستقبل في
هذا الجزء بقية قصة يوسف ، والتعقيبات المباشرة عليها ؛ ثم التعقيبات الأخيرة في
السورة .. وكذلك نستقبل فيه مرحلة جديدة من مراحل حياة الشخصية الأساسية في القصة ـ
شخصية يوسف عليهالسلام ـ ومع امتداد هذه الشخصية واستقامتها على المقوّمات الأساسية لها ـ تلك
التي مر ذكرها في التعريف بشخصيات القصة في التقديم للسورة ، فإننا نجد في هذه المرحلة الجديدة ملامح جديدة تبرز ـ
هي امتداد طبيعي واقعي لنشأة الشخصية وللمرحلة السابقة من حياتها ولكنها مع ذلك
ذات طابع مميز ..
نجد شخصية يوسف
ـ عليهالسلام ـ وقد استقامت مع نشأتها والأحداث التي مرت بها ، والابتلاءات التي
اجتازتها ، في ظل التربية الربانية للعبد الصالح ، الذي يعد ليمكن له في الأرض ،
وليقوم بالدعوة إلى دين الله وهو ممكن له في الأرض ، وهو قابض على مقاليد الأمور
في مركز التموين في الشرق الأوسط!
وأول ملامح هذه
المرحلة هذا الاعتزاز بالله ، والاطمئنان إليه ، والثقة به ، والتجرد له ، والتعري
من كل قيم الأرض ، والتحرر من كل أوهاقها ، واستصغار شأن القوى المتحكمة فيها ،
وهو ان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله ـ سبحانه وتعالى!
تبدو هذه
الظاهرة الواضحة في موقف يوسف ، ورسول الملك يجيء إليه في سجنه يبلغه رغبة الملك
في أن يراه .. فلا يخف يوسف ـ عليهالسلام ـ لطلب الملك ؛ ولا يتلهف على مغادرة سجنه الظالم المظلم إلى رحاب الملك
الذي يرغب في لقائه ؛ ولا تستخفه الفرحة بالخروج من هذا الضيق.
ولا تتجلى هذه
الظاهرة ـ وما وراءها من التغيرات العميقة في الموازين والقيم والمشاعر في نفس
يوسف
__________________
الصديق ، إلا حين نعود القهقرى بضع سنين ، لنجد يوسف يوصي ساقي الملك ـ وهو
يظن أنه ناج ـ أن يذكره عند ربه .. إن الإيمان هو الإيمان ، ولكن هذه هي
الطمأنينة. الطمأنينة التي تنكسب في القلب وهو يلابس قدر الله في جريانه .. وهو
يرى كيف يتحقق هذا القدر أمام عينيه فعلا .. الطمأنينة التي كان يطلبها جده
إبراهيم عليهالسلام ، وهو يقول لربه : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى) فيسأله ربه ـ وربه يعلم : ـ (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟) فيقول ـ وربه يعلم حقيقة ما يشعر وما يقول ـ «بلى! ولكن
ليطمئن قلبي» ..
إنها هي هي
الطمأنينة التي تسكبها التربية الربانية في قلوب الصفوة المختارة ، بالابتلاء
والمعاناة ، والرؤية والمشاهدة ، والمعرفة والتذوق .. ثم الثقة والسكينة ..
وهذه هي
الظاهرة الواضحة في كل مواقف يوسف من بعد ، حتى يكون الموقف الأخير في نجائه مع
ربه ، منخلعا من كل شيء تهفو له النفوس في هذه الأرض : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،
أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ).
أما التعقيبات
التي ترد في نهاية القصة ، والتعقيبات العامة في السورة ، فقد تحدثنا عنها إجمالا
عند تقديم السورة في الجزء الثاني عشر . وسوف نواجهها بالتفصيل في مواضعها من السياق إن شاء
الله .. إنما أردنا فقط أن نبرز تلك الظاهرة الجديدة في الشخصية الرئيسية في
القصة. ذلك أنها الظاهرة الأساسية التي تتكامل بها صورة الشخصية ؛ كما أنها هي
الظاهرة الأساسية التي يحتفل بها سياق القصة وسياق السورة من الناحية الحركية
التربوية للمنهج القرآني ..
والآن سنواجه
النصوص تفصيلا :
(وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ
رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
وَقالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ
إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي
عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
وَكَذلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ
بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ
(٥٧) وَجاءَ
إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا
تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ
تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠)
__________________
قالُوا
سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ
اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا
انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا
أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣)
قالَ
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا
ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ
أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
قالَ
لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي
بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما
نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ
لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما
عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
وَلَمَّا
دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا
تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
فَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ
(٧٠)
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ
صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
قالُوا
تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا
سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما
جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ
(٧٤) قالُوا
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
(٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ
وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ
ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ
دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
قالُوا
إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي
نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها
لَهُمْ
قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧)
قالُوا
يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا
مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
قالَ
مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً
لَظالِمُونَ)
(٧٩)
نمضي في هذا
الدرس مع قصة يوسف ، في حلقة جديدة من حلقاتها ـ الحلقة الرابعة ـ وقد وقفنا في
نهاية الجزء الثاني عشر عند نهاية الحلقة الثالثة. وقد أخرج من السجن ، واستدعاه
الملك ليكون له شأن معه ، هو الذي سنعرفه في هذه الحلقة الجديدة.
هذا الدرس يبدأ
بآخر فقرة في المشهد السابق. مشهد الملك يستجوب النسوة اللاتي قطعن أيديهن ـ كما
رغب إليه يوسف أن يفعل ـ تمحيصا لتلك المكايد التي أدخلته السجن ، وإعلانا لبراءته
على الملأ ، قبل أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته ؛ وهو يبدؤها واثقا مطمئنا ، في
نفسه سكينة وفي قلبه طمأنينة وقد أحس أنها ستكون مرحلة ظهور في حياة الدولة ، وفي
حياة الدعوة كذلك. فيحسن أن يبدأها وكل ما حوله واضح ، ولا شيء من غبار الماضي
يلاحقه وهو بريء.
ومع أنه قد
تجمل فلم يذكر عن امرأة العزيز شيئا ، ولم يشر إليها على وجه التخصيص ، إنما رغب
إلى الملك أن يفحص عن أمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فإن امرأة العزيز تقدمت
لتعلن الحقيقة كاملة :
(الْآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُّ. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي
كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ؛ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
وفي هذه الفقرة
الأخيرة تبدو المرأة مؤمنة متحرجة ، تبرئ نفسها من خيانة يوسف في غيبته ؛ ولكنها
تتحفظ فلا تدعي البراءة المطلقة ، لأن النفس أمارة بالسوء ـ إلا ما رحم ربي ـ ثم
تعلن ما يدل على إيمانها بالله ـ ولعل ذلك كان اتباعا ليوسف ـ (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
وبذلك يسدل
الستار على ماضي الآلام في حياة يوسف الصديق. وتبدأ مرحلة الرخاء والعز والتمكين
..
* * *
(وَقالَ الْمَلِكُ :
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ،
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ .. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ،
يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ، وَلا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..
لقد تبينت
للملك براءة يوسف ، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا ، وحكمته في طلب تمحيص أمر
النسوة ، كذلك تبينت له كرامته وإباؤه ، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن ، ولا
يتهافت على لقاء الملك. وأي ملك؟ ملك مصر! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في
سمعته ، المسجون ظلما ، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه
؛ ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك ..
كل أولئك أوقع
في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال :
(ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ..
فهو لا يأتي به
من السجن ليطلق سراحه ؛ ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى ؛ ولا ليسمعه كلمة «الرضاء
الملكي السامي!» فيطير بها فرحا .. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه ، ويجعله بمكان
المستشار والنجيّ والصديق ..
فيا ليت رجالا
يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام ـ وهم أبرياء مطلقو السراح ـ فيضعوا النير في
أعناقهم بأيديهم ؛ ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء ، وعلى حظوة الأتباع لا
مكانة الأصفياء .. يا ليت رجالا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن ، ويقرأون قصة يوسف ،
ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح ـ حتى المادي ـ أضعاف ما يدره
التمرغ والتزلف والانحناء!
(وَقالَ الْمَلِكُ :
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ..
ويحذف السياق
جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك ..
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قالَ : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) ..
فلما كلمه تحقق
له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو
الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن.
إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه. فماذا قال يوسف؟
إنه لم يسجد
شكرا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له : عشت يا مولاي وأنا
عبدك الخاضع أو خادمك الأمين ، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما
يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا
الملك ، خيرا مما ينهض بها أحد في البلاد ؛ وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحا من
الموت وبلادا من الخراب ، ومجتمعا من الفتنة ـ فتنة الجوع ـ فكان قويا في إدراكه
لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته ، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه :
(قالَ : اجْعَلْنِي
عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ..
والأزمة
القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة
الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها. وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف
والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على
السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها ،
وأن وراءها خيرا كبيرا لشعب مصر وللشعوب المجاورة :
(إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) ..
ولم يكن يوسف
يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض .. إنما كان
حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي
التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة ؛ وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك
تجاوره طوال سبع سنوات ، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه.
فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة. إنما هي
تبعة يهرب منها الرجال ، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم ، والجوع كافر ، وقد تمزق
الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.
وهنا تعرض شبهة
.. أليس في قول يوسف ـ عليهالسلام ـ : (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .. أمران محظوران في النظام الإسلامي :
أولهما : طلب
التولية ، وهو محظور بنص قول الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله (أو حرص عليه) ... (متفق عليه).
وثانيهما :
تزكية النفس ، وهي محظورة بقوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ)؟
ولا نريد أن
نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف ـ عليهالسلام ـ والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة ، الثابتة في
كل رسالة وعلى يد كل رسول ..
لا نريد أن
نجيب بهذا ، وإن كان له وجه ، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا ،
وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه ؛ وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد
من إدراكها ، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص ، ولإعطاء أصول الفقه
وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها ، والتي خمدت وجمدت في عقول
الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود!
إن الفقه
الإسلامي لم ينشأ في فراغ ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ! .. لقد نشأ الفقه
الإسلامي في مجتمع مسلم ، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة
الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم ؛
إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي
أنشأ الفقه الإسلامي ..
وهاتان
الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ؛ كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة
الفقه الإسلامي ؛ وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.
والذين يأخذون
اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة ، دون إدراك لهاتين الحقيقتين ؛ ودون مراجعة
للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام ، ودون
استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها ؛ وكانت
تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها .. الذين يفعلون ذلك ؛ ويحاولون تطبيق
هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ ؛ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ .. هؤلاء
ليسوا «فقهاء»! وليس لهم «فقه» بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلا!
إن «فقه الحركة»
يختلف اختلافا أساسيا عن «فقه الأوراق» مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي
يقوم عليها ويستمد منها «فقه الأوراق»!
إن فقه الحركة
يأخذ في اعتباره «الواقع» الذي نزلت فيه النصوص ، وصيغت فيه الأحكام. ويرى أن ذلك
الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا
المركب فقد طبيعته ، واختل تركيبه!
ومن ثم فليس
هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته ، يعيش في فراغ ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف
والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها .. إنه لم ينشأ في فراغ ومن
ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ!
ونأخذ مثالا
لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها
للمناصب ،
وهو المأخوذ من قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) ومن قول رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله» ..
لقد نشأ هذا
الحكم ـ كما نزلت تلك النصوص ـ في مجتمع مسلم ؛ ليطبق في هذا المجتمع ؛ وليعيش في
هذا الوسط ؛ وليلبي حاجة ذلك المجتمع. وفق نشأته التاريخية ، ووفق تركيبه العضوي ،
ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي .. وقد نشأ في
وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره
الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي .. إسلامي في نشأته ، وفي تركيبه العضوي ،
وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة .. وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقوّمات كلها
يعتبر «فراغا» بالقياس إلى ذلك الحكم ، لا يملك أن يعيش فيه ، ولا يصلح له ، ولا
يصلحه كذلك! .. ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي. وإن كنا في هذا المقام
لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني ..
ونريد أن نفهم
لما ذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم ، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف ، ولا
يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة ...
إن الناس في
المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم. كما أن المناصب
والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه ـ اللهم إلا
ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى ـ ومن ثم لا
يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم. وهؤلاء يجب أن
يمنعوها!
ولكن هذه
الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم ، وإدراك طبيعة
تكوينه العضوي أيضا ..
إن الحركة هي
العنصر المكوّن لذلك المجتمع. فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية ..
أولا : تجيء
العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله ـ على عهد النبوات ـ أو
متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله ـ على مدار الزمان بعد
ذلك ـ فيستجيب للدعوة ناس ؛ يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في
أرض الدعوة. فمنهم من يفتن ويرتد ، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه
شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق ..
هؤلاء يفتح
الله عليهم ، ويجعل منهم ستارا لقدره ، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من
ينصره ، والتمكين في الأرض له ، ليقيم مملكة الله في الأرض ـ أي لينفذ حكم الله في
الأرض ـ ليس له من هذا النصر والتمكين شيء ؛ إنما هو نصر لدين الله ، وتمكين
لربوبية الله في العباد.
وهؤلاء لا
يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ؛ ولا عند حدود جنس معين ؛ ولا عند حدود قوم
أو لون أو لغة أو مقوّم واحد من تلك المقوّمات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة!
إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا «الإنسان» .. كل الإنسان : في «الأرض»
.. كل الأرض .. من العبودية لغير الله ؛ وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت
هذه الطواغيت .
__________________
وفي أثناء
الحركة بهذا الدين ـ وقد لا حظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة
من الأرض ، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم ـ تتميز أقدار الناس ، وتتحدد
مقاماتهم في المجتمع ، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية ،
الجميع يتعارفون عليها ، من البلاء في الجهاد ، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق
والقدرة والكفاءة .. وكلها قيم يحكم عليها الواقع ، وتبرزها الحركة ، ويعرفها
المجتمع ويعرف المتسمين بها .. ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم ، ولا أن
يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية ..
وفي المجتمع
المسلم الذي نشأ هذه النشأة ، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة
بتلك القيم الإيمانية ـ كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين
ثم الأنصار. وأهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل ـ ثم ظل
يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام .. في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم
بعضا ، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين ـ مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا
فغلبتهم الأطماع ـ وعندئذ تنتفي الحاجة ـ من جانب آخر ـ إلى أن يزكي المتميزون
أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية ..
ولقد يخيل
للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية!
ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة .. لن يوجد اليوم أو
غدا ، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد ، وإخراجهم من الجاهلية
التي صاروا إليها .. وهذه نقطة البدء .. ثم تعقبها الفتنة والابتلاء ـ كما حدث أول
مرة ـ فأما ناس فيفتنون ويرتدون! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون
نحبهم ويموتون شهداء. وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام ، ويكرهون أن
يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار ؛ حتى يحكم الله بينهم وبين
قومهم بالحق ، ويمكّن لهم في الأرض ـ كما مكن للمسلمين أول مرة ـ فيقوم في أرض من
أرض الله نظام إسلامي .. ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام
الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية ، وفق الموازين والقيم
الإيمانية .. ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها ، لأن مجتمعهم الذي
جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم!
ولقد يقال بعد
هذا : ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى. فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟ وهذا سؤال من
لا يعرف طبيعة هذا الدين! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة .. يتحرك
لتحرير «الإنسان».
كل الإنسان ..
في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير الله ؛ وليرفعه عن العبودية للطواغيت
؛ بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية
الهزيلة السخيفة!
وإذن فستظل
الحركة ـ التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة ـ تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات
والمواهب ؛ ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن ـ إلا أن ينحرف عن الإسلام ـ وسيظل
الحكم الفقهي ـ الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية ـ قائما
وعاملا في محيطه الملائم .. ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه.
ثم يقال : ولكن
المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا ؛ ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى
الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية!
وهذا القول
كذلك وهم ناشئ من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة .. إن المجتمع المسلم
يكون
أهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين ـ كما هي طبيعة التربية
والتكوين والتوجيه ، والالتزام في المجتمع المسلم ـ ومن ثم يكون أهل كل محلة
عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم ؛ موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين
وقيم إيمانية ؛ فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية
.. سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية. أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام ـ
الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد ـ أو أهل الشورى ـ له .. يختار لها
من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة. والحركة دائبة كما قلنا في
المجتمع المسلم ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
إن الذين
يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته ـ أو يكتبون ـ يدخلون في متاهة! ذلك
أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ!
يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم ، بتركيبه العضوي الحاضر! وهذا
المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر ـ بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه
الفقهية ـ فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام ..
إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم. فالمجتمع المسلم ـ كما
قلنا ـ يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة
لإقرار هذا النظام في عالم الواقع ، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى
الإسلام. مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من فتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة ،
والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف.
أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد ، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام
، ولا بالقيم الإيمانية .. وهو ـ من ثم ـ يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه
الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام!
هؤلاء الكاتبون
الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم ـ أول ما
يحيرهم ـ طريقة اختيار أهل الحل والعقد ـ أو أهل الشورى ـ من غير ترشيح من أنفسهم
ولا تزكية! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف
بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة! كذلك تحيرهم طريقة
اختيار الإمام؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟
وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد ـ متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها
ـ فكيف يعودون هم فيختارون الإمام؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم؟ ثم إذا كانوا هم
الذين سيعودون فيرشحون الإمام؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا
يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له ، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟
...
وأسئلة أخرى
كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة!
أنا أعرف نقطة
البدء في هذه المتاهة .. إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه
مجتمع مسلم ؛ وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا
المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر ، وبقيمة وأخلاقه الحاضرة!
هذه نقطة البدء
في المتاهة .. ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ ، ويوغل في هذا الفراغ ،
حتى يبعد في التيه ، وحتى يأخذه الدوار!
إن هذا المجتمع
الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم ، ومن ثم لن يطبق فيه النظام
الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام .. لن تطبق لاستحالة
هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظام
الإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ ؛ لأنها بطبيعتها لم
تنشأ في فراغ ، ولم تتحرك في فراغ كذلك!
إن المجتمع
الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي .. ينشأ من
أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت ـ في وجه الجاهلية ـ لإنشائه ؛ وتحددت أقدارها وتميزت
مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.
إنه مجتمع جديد
.. ومجتمع وليد .. ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير «الإنسان» ، .. كل الإنسان
.. في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير الله ، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة
العبودية للطواغيت .. أيا كانت هذه الطواغيت ..
ومثل قضية
التزكية وطلب الإمارة ، واختيار الإمام ، واختيار أهل الشورى ... وما إليها ...
قضايا كثيرة تثار ، ويطرقها الباحثون في الإسلام .. في الفراغ .. في هذا المجتمع
الجاهلي الذي نعيش فيه .. بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع
المسلم .. وبقيمة وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن
قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته ..
أعمال البنوك
وأساسها الربوي .. شركات التأمين وقاعدتها الربوية .. تحديد النسل وما أدري ما ذا؟!
إلى آخر هذه «المشكلات» التي يشغل «الباحثون» بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن
استفتاءات توجه إليهم ..
إنهم جميعا ـ مع
الأسف ـ يبدأون من نقطة البدء في المتاهة! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام
الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها
العضوي الحاضر ؛ فتنتقل هذه المجتمعات إذن ـ متى طبقت عليها أحكام الإسلام ـ إلى
الإسلام!
وهي تصورات
مضحكة لو لا أنها محزنة!
إن الفقه
الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم. إنما المجتمع المسلم بحركته
ـ في مواجهة الجاهلية ابتداء ـ ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا ،
هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية .. والعكس لا يمكن أن
يكون أصلا!
إن الفقه
الإسلامي لا ينشأ في فراغ ، ولا يعيش في فراغ كذلك .. لا ينشأ في الأدمغة والأوراق
؛ إنما ينشأ في واقع الحياة. وليست أية حياة. إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه
التحديد .. ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي ؛
فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق .. وعندئذ تختلف الأمور جدا ..
وساعتها قد
يحتاج ذلك المجتمع الخاص ـ بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة ـ
إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل ... إلخ وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفا
أن نقدر أصل حاجته ، ولا حجمها ، ولا شكلها ، حتى نشرّع لها سلفا! كما أن ما لدينا
من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها .. ذلك أن هذا
الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها. ومن
ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك!
إن المحنة
الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل ، الذي يجب
على دين الله أن يطابق نفسه عليه! ولكن الأمر غير ذلك تماما .. إن دين الله هو
الأصل الذي يجب على البشرية
أن تطابق نفسها عليه ؛ وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه
المطابقة .. ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد .. هو
التحرك ـ في وجه الجاهلية ـ لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد ،
وتحرير الناس من العبودية للطاغوت ، بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم ..
وهذه الحركة لا
بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء. فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد ، ويصدق الله
من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد ، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه
وبين قومه بالحق ، وحتى يمكن الله له في الأرض ، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي
، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه ، وتميزوا بقيمة .. وعندئذ تكون لحياتهم
مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية
ومطالبها وطرق تلبيتها .. وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام ؛
وينشأ فقه إسلامي حي متحرك ـ لا في فراغ ـ ولكن في وسط واقعي محدد المطالب
والحاجات والمشكلات ..
ومن ذا الذي
يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها
، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة ، ثم بين كل أفراد الأمة ، وتقوم
حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر .. إلى آخر مقومات الحياة
الإسلامية .. من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا؟!
وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات؟! وإذا احتاج
إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي
، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته؟!
وكذلك من
يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا؟ ..
وهكذا .. وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه
الحاجات أو شكلها ، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي ، واختلاف
تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه .. فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير
الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب ، شأنها شأن وجود المجتمع
المسلم ذاته!
إن نقطة البدء
في المتاهة ـ كما قلنا ـ هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات
الإسلامية ؛ وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها ، وهي بهذا
التركيب العضوي ذاته ، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها.
كما أن أصل
المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي
يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه. وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق
حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها .. حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها
للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره!
ونحسب أنه قد
آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته ، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية ،
والمجتمعات الجاهلية ، والحاجات الجاهلية. وأن يقولوا للناس ـ وللذين يستفتونهم
بوجه خاص ـ تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام ، وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه .. أو
بعبارة أخرى .. تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين الله ، وأعلنوا عبوديتكم لله وحده
، واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به. وهو
إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته ـ أي
حاكميته وسلطانه ـ وحده في حياة الناس بجملتها. وتنحية ربوبية العباد للعباد ،
بتنحية حاكمية العباد للعباد ، وتشريع العباد للعباد.
وحين يستجيب
الناس ـ أو الجماعة منهم ـ لهذا القول ، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى
خطواته في الوجود. وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه
الفقه الإسلامي الحي وينمو ، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلا
..
فأما قبل قيام
هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس ،
باستنبات البذور في الهواء ، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ ، كما أنه لن تنبت
البذور في الهواء!
إن العمل في
الحقل «الفكري» للفقه الإسلامي عمل مريح! لأنه لا خطر فيه! ولكنه ليس عملا للإسلام
؛ ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن
يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه
عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب ـ والله أعلم ـ أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا!
إن دين الله
يأبي أن يكون مجرد مطية ذلول ، ومجرد خادم مطيع ، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي
الآبق منه ، المتنكر له ، الشارد عنه .. الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه
في مشكلاته وحاجاته ؛ وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه ..
إن فقه هذا
الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ ، ولا تعمل في فراغ .. وإن المجتمع المسلم الخاضع
لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع ..
ولن تنعكس الآية أبدا.
إن خطوات
النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة ؛ والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن
يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا. ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ ،
لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي. ولن يكون وجود هذه
الأحكام المفصلة على «الجاهز» والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من
الجاهلية إلى الإسلام. وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى
الإسلام هو الأحكام الفقهية «الجاهزة»! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور
أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة .. إلى آخر ما
يخادع به بعضهم ، وينخدع به بعضهم الآخر!
كلا! إن الذي
يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي
تأبى أن تكون الحاكمية لله ؛ فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في
الأرض لله وحده. وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا. يعد الحكم عليه من المعلوم من
الدين بالضرورة .. ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون
الله ـ أي تدين لها وتخضع وتتبع ـ فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة. وتخرج
هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك .. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في
نظر الإسلام ..
وبهذا وذلك
تقوم الجاهلية نظاما في الأرض ؛ وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد
على ركائز من القوة المادية :
وصياغة أحكام
الفقه لا تواجه هذه الجاهلية ـ إذن ـ بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى
الدخول في الإسلام مرة أخرى ؛ وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ؛ ثم يكون ما يكون
من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية. ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين
قومهم بالحق .. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه ، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا
الوسط الواقعي الحي ، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة
في هذا المجتمع الوليد ، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها ،
وهي أمور كلها في ضمير الغيب ـ كما أسلفنا ـ ولا يمكن التكهن بها سلفا ، ولا يمكن
الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين!
إن هذا لا يعني
ـ بحال ـ أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا
من الوجهة الشرعية. ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له ، والذي
لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه ـ بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به ـ ليس قائما
الآن فعلا. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع .. ويبقى الالتزام
بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية
لإقامة النظام الإسلامي ؛ ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه
الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في
الربوبية ..
إن إدراك طبيعة
النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير ، كلما قامت الجاهلية وقامت في
وجهها محاولة إسلامية .. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين
إلى الوجود الفعلي ، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة
الله في خلال القرنين الأخيرين ؛ وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام ؛ وإن
بقيت المآذن والمساجد ، والأدعية والشعائر ؛ تخدر مشاعر الباقين على الولاء
العاطفي الغامض لهذا الدين ؛ وتوهمهم أنه لا يزال بخير ؛ وهو يمحى من الوجود محوا!
إن المجتمع
المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر ، وقبل أن توجد المساجد .. وجد من يوم أن قيل
للناس : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فعبدوه. ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر
، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت. إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده ـ
من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزّلت شرائع! ـ وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا
الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع ؛ وحين واجهوا الحاجات
الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه ، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب
والسنة ..
وهذا هو الطريق
وحده ؛ وليس هنالك طريق آخر ..
وليت هنالك
طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة
باللسان ، وببيان أحكام الإسلام! ولكن هذه إنما هي «الأمانيّ»! فالجماهير لا تتحول
أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت ، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك
الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة .. والذي يبدؤه فرد ،
ثم تتبعه طليعة ، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم
الله بينها وبين قومها بالحق ويمكّن لها في الأرض .. ثم .. يدخل الناس في دين الله
أفواجا .. ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره : «ومن
يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» ..
ولعل هذا
البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف يوسف ـ عليهالسلام.
إنه لم يكن
يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على
أساس هذه التزكية. كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا
خادما في وضع جاهلي. وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في
مصر في أيام حكمه. وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما ..
* * *
ثم نعود بعد
هذا الاستطراد إلى صلب القصة وإلى صلب السياق. إن السياق لا يثبت أن الملك وافق. فكأنما
يقول : إن الطلب تضمن الموافقة! زيادة في تكريم يوسف ، وإظهار مكانته عند الملك.
فيكفي أن يقول ليجاب ، بل ليكون قوله هو الجواب .. ومن ثم يحذف رد الملك ، ويدع
القارئ يفهم أنه أصبح في المكان الذي طلبه.
ويؤيد هذا الذي
نقوله تعقيب السياق :
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا
مَنْ نَشاءُ. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..
فعلى هذا النحو
من إظهار براءة يوسف ، ومن إعجاب الملك به ، ومن الاستجابة له فيما طلب .. على هذا
النحو مكنا ليوسف في الأرض ، وثبتنا قدميه ، وجعلنا له فيها مكانا ملحوظا. والأرض
هي مصر. أو هي هذه الأرض كلها باعتبار أن مصر يومذاك أعظم ممالكها.
«يتبوأ منها
حيث يشاء» ..
يتخذ منها
المنزل الذي يريد ، والمكان الذي يريد ، والمكانة التي يريد. في مقابل الجب وما
فيه من مخاوف ، والسجن وما فيه من قيود.
«نصيب برحمتنا
من نشاء» ..
فنبدله من
العسر يسرا ، ومن الضيق فرجا ، ومن الخوف أمنا ، ومن القيد حرية ، ومن الهوان على
الناس عزا ومقاما عليا.
«ولا نضيع أجر
المحسنين» ..
الذين يحسنون
الإيمان بالله ، والتوكل عليه ، والاتجاه إليه ، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع
الناس .. هذا في الدنيا ..
(وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..
فلا ينقص منه
المتاع في الدنيا وإن كان خيرا من متاع الدنيا ، متى آمن الإنسان واتقى. فاطمأن
بإيمانه إلى ربه ، وراقبه بتقواه في سره وجهره.
وهكذا عوض الله
يوسف عن المحنة ، تلك المكانة في الأرض ، وهذه البشرى في الآخرة جزاء وفاقا على
الإيمان والصبر والإحسان.
* * *
ودارت عجلة
الزمن. وطوى السياق دوراتها بما كان فيها طوال سنوات الرخاء. فلم يذكر كيف كان
الخصب ، وكيف زرع الناس. وكيف أدار يوسف جهاز الدولة. وكيف نظم ودبر وادخر. كأن
هذه كلها أمور مقررة بقوله :
(إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) ..
وكذلك لم يذكر
مقدم سني الجدب ، وكيف تلقاها الناس ، وكيف ضاعت الأرزاق .. لأن هذا كله ملحوظ في
رؤيا الملك وتأويلها :
«ثم يأتي من
بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون» ..
كذلك لم يبرز
السياق الملك ولا أحدا من رجاله بعد ذلك في السورة كلها. كأن الأمر كله قد صار
ليوسف. الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة. وأبرز يوسف وحده على مسرح
الحوادث ، وسلط عليه كل الأضواء. وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداما فنيا
كاملا في الأداء.
أما فعل الجدب
فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف ، يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة
يبحثون عن الطعام في مصر. ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة ، كما ندرك كيف وقفت
مصر ـ بتدبير يوسف ـ منها ، وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة
كلها. وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة
فنية تحقق هدفا دينيا في السياق :
«وجاء إخوة
يوسف ، فدخلوا عليه ، فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ
لكم من أبيكم. ألا ترون أني أو في الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا
كيل لكم عندي ولا تقربون. قالوا : سنراود عنه أباه وإناه لفاعلون. وقال لفتيانه :
اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ، لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون»
..
لقد اجتاح
الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها. فاتجه إخوة يوسف ـ فيمن يتجهون ـ إلى مصر. وقد
تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان. وها نحن أولاء نشهدهم
يدخلون على يوسف ، وهم لا يعلمون. إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيرا. أما يوسف
فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب
منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته
وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه؟
ولم يكشف لهم
يوسف عن نفسه. فلا بد من دروس يتلقونها :
«فدخلوا عليه
فعرفهم وهم له منكرون» ..
ولكنا ندرك من
السياق أنه أنزلهم منزلا طيبا ، ثم أخذ في إعداد الدرس الأول :
«ولما جهزهم
بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم» ..
فنفهم من هذا
أنه تركهم يأنسون إليه ، واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل ، وأن لهم
أخا أصغر من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه. فلما جهزهم بحاجات
الرحلة قال لهم : إنه يريد أن يرى أخاهم هذا.
«قال : ائتوني
بأخ لكم من أبيكم» ..
وقد رأيتم أنني
أو في الكيل للمشترين. فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ؛ ورأيتم أنني أكرم النزلاء
فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود :
«ألا ترون أني
أو في الكيل وأنا خير المنزلين؟» ..
ولما كانوا
يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر ـ وبخاصة بعد ذهاب يوسف ـ فقد أظهروا أن الأمر
ليس ميسورا ، وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم ، وأنهم سيحاولون إقناعه ، مع
توكيد عزمهم ـ على الرغم من هذه العقبات ـ على إحضاره معهم حين يعودون :
__________________
«قالوا :
سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون» ..
ولفظ «نراود»
يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه ..
أما يوسف فقد
أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف. وقد
تكون خليطا من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي ، ومن الجلود
والشعر وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق .. أمر غلمانه بدسها في
رحالهم ـ والرحل متاع المسافر ـ لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا
بها :
«وقال لفتيانه
: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون»
..
* * *
وندع يوسف في
مصر. لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان. دون كلمة واحدة عن الطريق وما فيه :
«فلما رجعوا
إلى أبيهم قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل ، وإنّا له
لحافظون. قال : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ فالله خير حافظا
وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، قالوا : يا أبانا
ما نبغي. هذه بضاعتنا ردت إلينا ، ونمير أهلنا ، ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير. ذلك
كيل يسير. قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله : لتأتنني به ـ إلا أن
يحاط بكم ـ فلما آتوه موثقهم قال : الله على ما نقول وكيل» ..
ويبدو أنهم في
دخلتهم على أبيهم ، وقبل أن يفكوا متاعهم ، عاجلوه بأن الكيل قد تقرر منعه عنهم ما
لم يأتوا عزيز مصر بأخيهم الصغير معهم. فهم يطلبون إليه أن يرسل معهم أخاهم الصغير
ليكتالوا له ولهم. وهم يعدون بحفظه :
«فلما رجعوا
إلى أبيهم قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل ، وإنّا له
لحافظون» ..
ولا بد أن هذا
الوعد قد أثار كوامن يعقوب. فهو ذاته وعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهر بما أثاره
الوعد من شجونه :
«قال : هل
آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل!» ..
فخلوني من
وعودكم وخلوني من حفظكم ، فإذا أنا طلبت الحفظ لولدي والرحمة بي ..
(فَاللهُ خَيْرٌ
حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)!
وبعد الاستقرار
من المشوار ، والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم
يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها ، ولم يجدوا في رحالهم غلالا!
إن يوسف لم
يعطهم قمحا ، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم. فلما عادوا قالوا : يا أبانا منع
منا الكيل ، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم. وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم ،
وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه.
على أية حال
لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب
أخيهم ولا ظالمين :
«قالوا : يا
أبانا ما نبغي. هذه بضاعتنا ردت إلينا» ..
ثم أخذوا
يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام :
«ونمير أهلنا»
..
والميرة الزاد
، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم ..
«ونحفظ أخانا»
..
ويرغبونه
بزيادة الكيل لأخيهم :
«ونزداد كيل
بعير» ..
وهو ميسور لهم
حين يرافقهم :
«ذلك كيل يسير»
..
ويبدو من قولهم
: «ونزداد كيل بعير» أن يوسف ـ عليهالسلام ـ كان يعطي كل واحد وسق بعير ـ وهو قدر معروف ـ ولم يكن يبيع كل مشتر ما
يريد. وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب ، كي يظل هناك قوت للجميع :
واستسلم الرجل
على كره ؛ ولكنه جعل لتسليم ابنه الباقي شرطا :
«قال : لن
أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم» ..
أي لتقسمن لي
بالله قسما يربطكم ، أن تردوا عليّ ولدي ، إلا إذا غلبتم على أمركم غلبا لا حيلة
لكم فيه ، ولا تجدي مدافعتكم عنه :
«إلا ان يحاط
بكم» ..
وهو كناية عن
أخذ المسالك كلها عليهم. فأقسموا :
«فلما آتوه
موثقهم قال : الله على ما نقول وكيل» ..
زيادة في
التوكيد والتذكير.
وبعد هذا
الموثق جعل الرجل يوصيهم بما خطر له في رحلتهم القادمة ومعهم الصغير العزيز :
«وقال : يا بني
لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة. وما أغني عنكم من الله من شيء.
إن الحكم إلا
لله ، عليه توكلت ، وعليه فليتوكل المتوكلون» ..
ونقف هنا أمام
قول يعقوب ـ عليهالسلام ـ :
«إن الحكم إلا
لله» ..
وواضح من سياق
القول أنه يعني هنا حكم الله القدري القهري الذي لا مفر منه ولا فكاك. وقضاءه
الإلهي الذي يجري به قدره فلا يملك الناس فيه لأنفسهم شيئا.
وهذا هو
الإيمان بالقدر خيره وشره.
وحكم الله
القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار .. وإلى جانبه حكم الله الذي
ينفذه الناس عن رضي منهم واختيار. وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي
.. وهذا كذلك لا يكون إلا لله. شأنه شأن حكمه القدري ، باختلاف واحد : هو أن الناس
ينفذونه مختارين أو لا ينفذونه. فيترتب
على هذا أو ذاك نتائجه وعواقبه في حياتهم في الدنيا وفي جزائهم في الآخرة.
ولكن الناس لا يكونون مسلمين حتى يختاروا حكم الله هذا وينفذوه فعلا راضين ..
وسار الركب ،
ونفذوا وصية أبيهم :
(وَلَمَّا دَخَلُوا
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ ـ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ـ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ
لِما عَلَّمْناهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ..)
فيم كانت هذه
الوصية؟ لم قال لهم أبوهم : لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة؟
تضرب الروايات
والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد ، بلا ضرورة ، بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني
الحكيم. فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال. ولكنه قال فقط ـ إلا حاجة في
نفس يعقوب قضاها ـ فينبغي أن يقف المفسرون عند ما أراده السياق. احتفاظا بالجو
الذي أراده. والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم ، ويرى في دخولهم من أبواب
متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء. فالحكم كله
إليه ، والاعتماد كله عليه. إنما هو خاطر شعر به ، وحاجة في نفسه قضاها بالوصية ،
وهو على علم بأن إرادة الله نافذة. فقد علمه الله هذا فتعلم.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
ثم ليكن هذا
الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة ، أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم. أو
هو تتبع قطاع الطريق لهم. أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع. سوى أن
يجد الرواة والمفسرون بابا للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل ، مما يذهب
بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين!
فلنطو نحن
الوصية والرحلة كما طواها السياق ، لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول
:
* * *
«ولما دخلوا
على يوسف آوى إليه أخاه. قال : إني أنا أخوك ، فلا تبتئس بما كانوا يعملون» ..
ونجد السياق
هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى ، واطلاعه على أنه أخوه ؛ ودعوته لأن يترك من
خاطره ذكرى ما فعله إخوته به من قبل ، وهي ذكرى لا بد كان يبتئس لها الصغير كلما
علمها من البيت الذي كان يعيش فيه. فما كان يمكن أن تكون مكتومة عنه في وسطه في
أرض كنعان.
يعجل السياق
بهذا ، بينما الطبيعي والمفهوم أن هذا لم يحدث فور دخولهم على يوسف. ولكن بعد أن
اختلى يوسف بأخيه. ولكن هذا ولا شك كان أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه ، وعند
رؤيته لأخيه ، بعد الفراق الطويل.
ومن ثم جعله
السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر. وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب!
ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة ، وما دار فيها بين يوسف وإخوته ، ليعرض مشهد
الرحيل الأخير. فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه ، ريثما يتلقى إخوته درسا أو
دروسا ضرورية لهم ، وضرورية للناس في كل زمان ومكان :
«فلما جهزهم
بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ؛ ثم أذن مؤذن : أيتها العير إنكم لسارقون :
قالوا ـ وأقبلوا عليهم ـ ماذا تفقدون؟ قالوا : نفقد صواع الملك ، ولمن جاء به حمل
بعير ، وأنا به زعيم. قالوا : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ، وما كنا
سارقين. قالوا : فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا :
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل
وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ـ كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه في دين
الملك ، إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ـ قالوا : إن
يسرق فقد سرق أخ له من قبل. فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال : أنتم شر مكانا.
والله أعلم بما تصفون. قالوا : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ، فخذ أحدنا
مكانه ، إنا نراك من المحسنين. قال : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده.
إنا إذن لظالمون» ..
وهو مشهد مثير
، حافل بالحركات والانفعالات والمفاجئات ، كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة
وانفعالا ، غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي
الأخاذ.
فمن وراء
الستار يدس يوسف كأس الملك ـ وهي عادة من الذهب ـ وقيل : إنها كانت تستخدم للشراب
، ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح ، لندرته وعزته في
تلك المجاعة. يدسها في الرحل المخصص لأخيه ، تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له
وسنعلمه بعد قليل.
ثم ينادي مناد
بصوت مرتفع ، في صيغة إعلان عام ، وهم منصرفون :
«أيتها العير
إنكم لسارقون» ..
ويرتاع إخوة
يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة ـ وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ فيعودون
أدراجهم يتبينون الأمر المريب :
«قالوا ـ وأقبلوا
عليهم ـ ماذا تفقدون؟».
قال الغلمان
الذين يتولون تجهيز الرحال ، أو الحراس ومنهم هذا الذي أذاع بالإعلان :
«قالوا : نفقد
صواع الملك» ..
وأعلن المؤذن
أن هناك مكافأة لمن يحضره متطوعا. وهي مكافأة ثمينة في هذه الظروف :
«ولمن جاء به
حمل بعير» من القمح العزيز «وأنا به زعيم» .. أي كفيل.
ولكن القوم
مستيقنون من براءتهم ، فهم لم يسرقوا ، وما جاءوا ليسرقوا وليجترحوا هذا الفساد
الذي يخلخل الثقة والعلاقات في المجتمعات ، فهم يقسمون واثقين :
«قالوا : تالله
لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض» ..
فقد علمتم من
حالنا ومظهرنا ونسبنا أننا لا نجترح هذا ..
«وما كنا
سارقين» .. أصلا فما يقع منا مثل هذا الفعل الشنيع.
قال الغلمان أو
الحراس :
«فما جزاؤه إن
كنتم كاذبين؟» ..
وهنا ينكشف طرف
التدبير الذي ألهمه الله يوسف. فقد كان المتبع في دين يعقوب : أن يؤخذ السارق
رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق. ولما كان إخوة يوسف موقنين بالبراءة ،
فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق. ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه :
«قالوا : جزاؤه
من وجد في رحله فهو جزاؤه. كذلك نجزي الظالمين» ..
وهذه هي
شريعتنا نحكمها في السارق. والسارق من الظالمين.
كل هذا الحوار
كان على منظر ومسمع من يوسف. فأمر بالتفتيش. وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم
قبل رحل أخيه ، كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش :
«فبدأ بأوعيتهم
قبل وعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه»!
ويدعنا السياق
نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم ، الحالفين ،
المتحدين .. فلا يذكر شيئا عن هذا ، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل
رسم المشهد بانفعالاته .. بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة ، ريثما يفيق
النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه :
«كذلك كدنا
ليوسف» ..
أي كذلك دبرنا
له هذا التدبير الدقيق.
«ما كان ليأخذ
أخاه في دين الملك» ..
فلو حكّم شريعة
الملك ما تمكن من أخذ أخيه ، إنما كان يعاقب السارق على سرقته ، دون أن يستولي على
أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم. وهذا هو تدبير الله الذي ألهم يوسف
أسبابه. وهو كيد الله له. والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء.
وإن كان الشر قد غلب عليه. وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته
لإحراجهم أمام أبيه. وهو سوء ـ ولو مؤقتا ـ لأبيه. فلهذا اختار تسميته كيدا على
إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره. وهو من دقائق التعبير.
«ما كان ليأخذ
أخاه في دين الملك» .. «إلا أن يشاء الله» ..
فيدبر مثل هذا
التدبير الذي رأيناه.
ويتضمن التعقيب
الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة :
«نرفع درجات من
نشاء» ..
وإلى ما ناله
من علم ، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى :
«وفوق كل ذي
علم عليم» ..
وهو احتراس
لطيف دقيق.
ولا بد أن نقف
أمام التعبير القرآني الدقيق العميق :
«كذلك كدنا
ليوسف .. ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ...» ..
إن هذا النص
يحدد مدلول كلمة «الدين» ـ في هذا الموضع ـ تحديدا دقيقا .. إنه يعني : نظام الملك
وشرعه .. فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته.
إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه. وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم
وشريعتهم ؛ فطبقها يوسف عليهم عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيه .. وعبر القرآن
الكريم عن النظام والشريعة بأنها «الدين» ..
هذا المدلول
القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا. سواء منهم
من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهليين!
إنهم يقصرون
مدلول «الدين» على الاعتقاد والشعائر .. ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق
رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ ويؤدي الشعائر
المكتوبة ... داخلا في «دين الله» مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره
بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض .. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول «دين الملك» بأنه نظام الملك
وشريعته. وكذلك «دين الله» فهو نظامه وشريعته ..
إن مدلول «دين
الله» قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد
والشعائر .. ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم
صلوات الله وسلامه أجمعين.
لقد كان يعني
دائما : الدينونة لله وحده ؛ بالتزام ما شرعه ، ورفض ما يشرعه غيره. وإفراده ـ سبحانه
ـ بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته وحده للناس
: أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره. وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين «الله»
ومن هم في «دين الملك» أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده ، وأن الآخرين
يدينون لنظام الملك وشرعه. أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ، ويدينون
لغير الله في النظام والشرائع!
وهذا من
المعلوم من الدين بالضرورة ، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما.
وبعض المترفقين
بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة «دين الله» وهم من ثم لا
يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي «الدين». وأن جهلهم هذا
بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين!
وأنا لا أتصور
كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين!
إن الاعتقاد
بحقيقة فرع عن معرفتها. فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف
يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها؟
إن هذا الجهل
قد يعفيهم من حساب الآخرة ، أو يخفف عنهم العذاب فيها ؛ ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم
على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها .. ولكن هذه مسألة غيبية
متروك أمرها لله ، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير
طائل. وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض!
إن الذي يعنينا
هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم .. إنه ليس دين الله قطعا. فدين الله
هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة. فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في «دين
لله». ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في «دين الملك». ولا جدال في هذا.
والذين يجهلون
مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين. لأن الجهل هنا وارد على أصل
حقيقة الدين الأساسية. والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن
يكون معتقدا به. إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة .. وهذه بديهية ..
وخير لنا من أن
ندافع عن الناس ـ وهم في غير دين الله ـ ونتلمس لهم المعاذير ، ونحاول أن نكون
أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده! ..
خير لنا من هذا
كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول «دين الله» ليدخلوا فيه .. أو يرفضوه ..
هذا خير لنا
وللناس أيضا .. خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين ،
الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة .. وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة
ما هم عليه ـ وأنهم في دين الملك
لا في دين الله ـ قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن دين
الملك إلى دين الله!
كذلك فعل الرسل
ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة
الجاهلية في كل زمان ومكان ..
ثم نعود إلى
إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير. نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن
حقدهم على أخي يوسف ، وعلى يوسف من قبله ، فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة ،
وينفونها عنهم ، ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب :
«قالوا : إن
يسرق فقد سرق أخ له من قبل»!
إن يسرق فقد
سرق أخ له من قبل .. وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات
وحكايات وأساطير. كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف ؛ وكأنهم لا يمكن أن
يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم ، وتبرؤا من يوسف وأخيه السارق ،
وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه!
لقد قذفوا بها
يوسف وأخاه!
«فأسرها يوسف
في نفسه ولم يبدها لهم» ..
أسر هذه الفعلة
وحفظها في نفسه ، ولم يبد تأثره منها. وهو يعلم براءته وبراءة أخيه. إنما قال لهم
:
«أنتم شر مكانا»
..
يعني أنكم بهذا
القذف شر مكانا عند الله من المقذوف ـ وهي حقيقة لا شتمة.
(وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما تَصِفُونَ) .. وبحقيقة ما تقولون. وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام
الذي أطلقوه ، ولا دخل له بالموضوع! ..
وعندئذ عادوا
إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه. عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم : «لتأتنني
به إلا أن يحاط بكم» .. فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى ، الشيخ الكبير ،
ويعرضون أن يأخذ بدله واحدا منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ؛ ويستعينون في رجائه
بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين :
«قالوا : يا
أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ، فخذ أحدنا مكانه ، إنا نراك من المحسنين» :
ولكن يوسف كان
يريد أن يلقي عليهم درسا. وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم
ولوالده وللجميع! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس :
«قال : معاذ
الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. إنا إذن لظالمون» ..
ولم يقل معاذ
الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق. لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق. فعبر أدق تعيير
يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة :
__________________
«معاذ الله أن
نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده» وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق
الاتهام أو تنفيه ..
«إنا إذن
لظالمون» ..
وما نريد أن
نكون ظالمين ..
وكانت هي
الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء ، فانسحبوا يفكرون
في موقفهم المحرج ، أمام أبيهم حين يرجعون.
(فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ
أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ
يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا
لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي
بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ
يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما
أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ
لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
فَلَمَّا
دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا
إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ
عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)
قالُوا
تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ
لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(٩٢) اذْهَبُوا
بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ
(٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا
اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ
قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي
وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)
(١٠١)
يئس إخوة يوسف
من محاولة تخليص أخيهم الصغير ، فانصرفوا من عنده ، وعقدوا مجلسا يتشاورون فيه. وهم
هنا في هذا المشهد يتناجون. والسياق لا يذكر أقوالهم جميعا. إنما يثبت آخرها الذي
يكشف عما انتهوا إليه :
«فلما استيأسوا
منه خلصوا نجيا. قال كبيرهم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن
قبل ما فرطتم في يوسف؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ، أو يحكم الله لي ، وهو
خير الحاكمين. ارجعوا إلى أبيكم فقولوا : يا أبانا إن ابنك سرق ، وما شهدنا إلا
بما علمنا ، وما كنا للغيب حافظين. واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا
فيها ، وإنا لصادقون» ..
إن كبيرهم
ليذكرهم بالموثق المأخوذ عليهم ، كما يذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل. ويقرن هذه
إلى تلك ، ثم يرتب عليهما قراره الجازم : ألا يبرح مصر ، وألا يواجه أباه ، إلا أن
يأذن له أبوه ، أو يقضي الله له بحكم ، فيخضع له وينصاع.
أما هم فقد طلب
إليهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق ، فأخذ بما سرق. ذلك ما
علموه شهدوا به. أما إن كان بريئا ، وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه ،
فهم غير موكلين بالغيب. كما أنهم لم يكونوا يتوقعون أن يحدث ما حدث ، فذلك كان
غيبا بالنسبة إليهم ، وما هم بحافظين للغيب. وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل
القرية التي كانوا فيها ـ وهي عاصمة مصر ـ والقرية اسم للمدينة الكبيرة ـ وليسأل
القافلة التي كانوا فيها ، فهم لم يكونوا وحدهم ، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر
لتمتار الغلة في السنين العجاف ..
* * *
ويطوي السياق
الطريق بهم ، حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع ، وقد أفضوا إليه بالنبإ
الفظيع. فلا نسمع إلا رده قصيرا سريعا ، شجيا وجيعا. ولكن وراءه أملا لم ينقطع في
الله أن يرد عليه ولديه ، أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح
حتى يحكم الله له. وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع :
«قال : بل سولت
لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم»
..
«بل سولت لكم
أنفسكم أمرا فصبر جميل» .. كلمته ذاتها يوم فقد يوسف. ولكنه في هذه المرة يضيف
إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك .. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) .. الذي يعلم حاله ، ويعلم ما وراء هذه الأحداث
والامتحانات ، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب ، عند ما تتحقق حكمته في ترتيب
الأسباب والنتائج.
هذا الشعاع من
أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله ، والاتصال الوثيق به ،
والشعور بوجوده ورحمته. ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة ، فيصبح
عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.
«وتولى عنهم
وقال : يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ..
وهي صورة مؤثرة
للوالد المفجوع. يحس أنه منفرد بهمه ، وحيد بمصابه ، لا تشاركه هذه القلوب التي
حوله ولا تجاوبه ، فينفرد في معزل ، يندب فجيعته في ولده الحبيب. يوسف. الذي لم
ينسه ، ولم تهوّن من مصيبته السنون ، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر
فتغلبه على صبره الجميل :
«يا أسفا على
يوسف!» ..
ويكظم الرجل
حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزنا وكمدا :
«وابيضت عيناه
من الحزن فهو كظيم» ..
ويبلغ الحقد
بقلوب بنيه ألا يرحموا ما به ، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن
الكامد الكظيم ، فلا يسرون عنه ، ولا يعزونه ، ولا يعللونه بالرجاء ، بل يريدون
ليطمسوا في قلبه الشعاع الأخير :
«قالوا : تالله
تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين!» ..
وهي كلمة حانقة
مستنكرة. تالله تظل تذكر يوسف ، ويهدك الحزن عليه ، حتى تذوب حزنا أو تهلك أسى بلا
جدوى. فيوسف ميئوس منه قد ذهب ولن يعود!
ويرد عليهم
الرجل بأن يتركوه لربه ، فهو لا يشكو لأحد من خلقه ، وهو على صلة بربه غير صلتهم ،
ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون :
«قال : إنما
أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون».
وفي هذه
الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول ؛ كما تتجلى هذه
الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ، ولألائها الباهر.
إن هذا الواقع
الظاهر الميئس من يوسف ، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلا على
عودته إلى أبيه ، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا
الواقع الثقيل .. إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح بربه. فهو يعلم من
حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير
المنظور!
وهذه قيمة
الإيمان بالله ، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. معرفة التجلي والشهود
وملابسة قدرته وقدره ، وملامسة رحمته ورعايته ، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد
الصالحين.
إن هذه الكلمات
: (وَأَعْلَمُ مِنَ
اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض
مذاقا يعرفه من ذاق مثله ، فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب
..
والقلب الذي
ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه ـ مهما بلغت ـ إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة
والمذاق! ولا نملك أن نزيد. ولكننا نحمد الله على فضله في هذا ، وندع ما بيننا
وبينه له يعلمه سبحانه ويراه ..
ثم يوجههم
يعقوب إلى تلمس يوسف وأخيه ؛ وألا ييأسوا من رحمة الله ، في العثور عليهما ، فإن
رحمة الله واسعة وفرجه دائما منظور :
«يا بني اذهبوا
فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح الله. إنه لا ييأس من روح الله إلا
القوم الكافرون» ..
فيا للقلب
الموصول!!!
«يا بني اذهبوا
فتحسسوا من يوسف وأخيه» ..
تحسسوا بحواسكم
، في لطف وبصر وصبر على البحث. ودون يأس من الله وفرجه ورحمته. وكلمة «روح» أدق
دلالة وأكثر شفافية. ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من
روح الله الندي :
«إنه لا ييأس
من روح الله إلا القوم الكافرون» ..
فأما المؤمنون
الموصولة قلوبهم بالله ، الندية أرواحهم بروحه ، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية
، فإنهم لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب ، واشتد بهم الضيق. وإن المؤمن
لفي روح من ظلال إيمانه ، وفي أنس من صلته بربه ، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه ،
وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب ...
* * *
ويدخل إخوة
يوسف مصر للمرة الثالثة ، وقد أضرت بهم المجاعة ، ونفدت منهم النقود ، وجاءوا
__________________
ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد .. يدخلون وفي حديثهم
انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل ، وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام
:
«فلما دخلوا
عليه قالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا
الكيل وتصدّق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين» ..
وعند ما يبلغ
الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا تبقى في نفس يوسف قدرة
على المضي في تمثيل دور العزيز ، والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته. فقد انتهت الدروس ،
وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال ؛ فإذا هو يترفق في الإفضاء بالحقيقة
إليهم ، فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم ، ولم يطلع عليه أحد إلا
الله :
«قال : هل
علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟»!!
ورن في آذانهم
صوت لعلهم يذكرون شيئا من نبراته. ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم
يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته. والتمع في نفوسهم خاطر من بعيد :
«قالوا : أإنك
لأنت يوسف؟» ..
أإنك لأنت؟!
فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير ..
«قال : أنا
يوسف. وهذا أخي. قد من الله علينا. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر
المحسنين» ..
مفاجأة! مفاجأة
عجيبة. يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة
.. ولا يزيد .. سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه ، معللا هذه المنة بالتقوى
والصبر وعدل الله في الجزاء.
أما هم فتتمثل
لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف ، ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسنا
إليهم وقد أساءوا. حليما بهم وقد جهلوا. كريما معهم وقد وقفوا منه موقفا غير كريم
:
«قالوا : تالله
لقد آثرك الله علينا ، وإن كنا لخاطئين» ..
اعتراف
بالخطيئة ، وإقرار بالذنب ، وتقرير لما يرونه من إيثار الله له عليهم بالمكانة
والحلم والتقوى والإحسان. يقابله يوسف بالصفح والعفو وإنهاء الموقف المخجل. شيمة
الرجل الكريم. وينجح يوسف في الابتلاء بالنعمة كما نجح من قبل في الابتلاء بالشدة.
إنه كان من المحسنين.
«قال : لا
تثريب عليكم اليوم. يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين» ..
لا مؤاخذة لكم
ولا تأنيب اليوم. فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور. والله يتولاكم
بالمغفرة وهو أرحم الراحمين .. ثم يحول الحديث إلى شأن آخر. شأن أبيه الذي ابيضت
عيناه من الحزن. فهو معجل إلى تبشيره. معجل إلى لقائه. معجل إلى كشف ما علق بقلبه
من حزن ، وما ألم بجسمه من ضنى ، وما أصاب بصره من كلال :
«اذهبوا بقميصي
هذا ، فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين» ..
كيف عرف يوسف
أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل؟ ذلك مما علمه الله. والمفاجأة تصنع في كثير
من الحالات فعل الخارقة .. وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول؟
* * *
ومنذ اللحظة
نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة ، حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا
الصبي الصغير.
«ولما فصلت
العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف. لو لا أن تفندون!» ..
ريح يوسف! كل شيء
إلا هذا. فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل. وأن
له ريحا يشمها هذا الشيخ الكليل!
إني لأجد ريح
يوسف. لو لا أن تقولوا شيخ خرف : «لو لا أن تفندون» .. لصدقتم معي ما أجده من ريح
الغائب البعيد.
كيف وجد يعقوب
ريح يوسف منذ أن فصلت العير. ومن أين فصلت؟ يقول بعض المفسرين : إنها منذ فصلت من
مصر ، وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد. ولكن هذا لا دلالة عليه. فربما
كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان ، واتجهت إلى محلة يعقوب
على مدى محدود.
ونحن بهذا لا
ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف. كل ما
هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح. وفي
هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح. ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده
المفسرون!
ولكن المحيطين
بيعقوب لم يكن لهم ما له عند ربه ، فلم يجدوا ما وجد من رائحة يوسف :
«قالوا :
تالله. إنك لفي ضلالك القديم» ..
في ضلالك بيوسف
، وضلالك بانتظاره وقد ذهب مذهب الذي لا يعود.
ولكن المفاجأة
البعيدة تقع ، وتتبعها مفاجأة أخرى :
«فلما أن جاء
البشير ألقاه على وجهه ، فارتد بصيرا» ..
مفاجأة القميص.
وهو دليل على يوسف وقرب لقياه. ومفاجأة ارتداد البصر بعد ما ابيضت عيناه .. وهنا
يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه. تلك التي حدثهم بها من قبل فلم يفهموه :
«قال : ألم أقل
لكم : إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟» ..
(قالُوا : يا أَبانَا
اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ..
ونلمح هنا أن
في قلب يعقوب شيئا من بنيه ، وأنه لم يصف لهم بعد ، وإن كان يعدهم باستغفار الله
لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح :
«قال : سوف
أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم».
وحكاية عبارته
بكلمة «سوف» لا تخلو من إشارة إلى قلب إنساني مكلوم ..
* * *
ويمضي السياق
في مفاجآت القصة. فيطوي الزمان والمكان ، لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير
:
«فلما دخلوا
على يوسف آوى إليه أبويه. وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على
العرش ، وخروا له سجدا ، وقال : يا أبت ، هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا
، وقد أحسن بي إذ أخرجني
من السجن وجاء بكم من البدو ، من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. إن
ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم» ..
ويا له من مشهد!
بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام. وبعد اليأس والقنوط. وبعد الألم والضيق. وبعد
الامتحان والابتلاء. وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الظامئ الشديد.
يا له من مشهد
حافل بالانفعال والخفقان والفرح والدموع!
ويا له من مشهد
ختامي موصول بمطلع القصة : ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة. ويوسف بين هذا
كله يذكر الله ولا ينساه :
«فلما دخلوا
على يوسف آوى إليه أبويه ، وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» ..
ويذكر رؤياه
ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له ـ وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس
عليه ـ كما رأى الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين :
«ورفع أبويه
على العرش ، وخروا له سجدا ، وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي
حقا» ..
ثم يذكر نعمة
الله عليه :
«وقد أحسن بي
إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي» ..
ويذكر لطف الله
في تدبيره لتحقيق مشيئته :
«إن ربي لطيف
لما يشاء» ..
يحقق مشيئته
بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها :
(إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ..
ذات التعبير
الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة :
(إِنَّ رَبَّكَ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
ليتوافق البدء
والختام حتى في العبارات.
* * *
وقبل أن يسدل
الستار على المشهد الأخير المثير ، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة
والابتهاج والجاه والسلطان ، والرغد والأمان ... ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر
الذاكر! كل دعوته ـ وهو في أبهة السلطان ، وفي فرحة تحقيق الأحلام ـ أن يتوفاه ربه
مسلما وأن يلحقه بالصالحين :
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ..
آتيتني منه
سلطانه ومكانه وجاهه وماله. فذلك من نعمة الدنيا.
«وعلمتني من
تأويل الأحاديث» ..
بإدراك مآلاتها
وتعبير رؤاها. فذلك من نعمة العلم.
نعمتك يا ربي
أذكرها وأعددها ..
(فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ..
بكلمتك خلقتها
وبيدك أمرها ، ولك القدرة عليها وعلى أهلها ..
(أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ..
فأنت الناصر
والمعين ..
رب تلك نعمتك.
وهذه قدرتك.
رب إني لا
أسألك سلطانا ولا صحة ولا مالا. رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى :
«توفني مسلما
وألحقني بالصالحين» ..
وهكذا يتوارى
الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان. ويبدو المشهد
الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه
بالصالحين بين يديه.
إنه النجاح
المطلق في الامتحان الأخير ..
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَما
تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ
(١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ
إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا
فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
لَقَدْ
كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى
وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(١١١)
انتهت قصة يوسف
لتبدأ التعقيبات عليها. تلك التعقيبات التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث عن
السورة. وتبدأ معها اللفتات المتنوعة واللمسات المتعددة ، والجولات الموحية في
صفحة الكون وفي أغوار النفس وفي آثار الغابرين ، وفي الغيب المجهول وراء الحاضر المعلوم.
فنأخذ في استعراضها حسب ترتيبها في السياق. وهو ترتيب ذو هدف معلوم.
* * *
تلك القصة لم
تكن متداولة بين القوم الذين نشأ فيهم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم بعث إليهم. وفيها أسرار لم يعلمها إلا الذين لامسوها من أشخاص القصة ،
وقد غبرت بهم القرون. وقد سبق في مطلع السورة قول الله تعالى لنبيه :
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ..
فها هو ذا يعقب
على القصة بعد تمامها ، ويعطف ختامها على مطلعها :
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ..
ذلك القصص الذي
مضى في السياق من الغيب الذي لا تعلمه ؛ ولكننا نوحيه إليك وآية وحيه أنه كان غيبا
بالقياس إليك. وما كنت معهم إذ اجتمعوا واتفق رأيهم ، وهم يمكرون ذلك المكر الذي
تحدثت عنه القصة في مواضعه. وهم يمكرون بيوسف ، وهم يمكرون بأبيهم ، وهم يدبرون
أمرهم بعد أخذ أخيه وقد خلصوا نجيا وهو من المكر بمعنى التدبير. وكذلك ما كان هناك
من مكر بيوسف من ناحية النسوة ومن ناحية رجال الحاشية وهم يودعونه السجن .. كل
أولئك مكر ما كنت حاضره لتحكي عنه إنما هو الوحي الذي سبقت السورة لتثبته من بين
ما تثبت من قضايا هذه العقيدة وهذا الدين ، وهي متناثرة في مشاهد القصة الكثيرة.
* * *
ولقد كان من
مقتضى ثبوت الوحي ، وإيحاء القصص ، واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب ، أن يؤمن
الناس بهذا القرآن ، وهم يشهدون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويعرفون أحواله ، ثم يسمعون منه ما يسمعون. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
وهم يمرون كذلك على الآيات المبثوثة في صفحة الوجود فلا ينتبهون إليها ، ولا
يدركون مدلولها ، كالذي يلوي صفحة وجهه فلا يرى ما يواجهه. فما الذي ينتظرونه؟ وعذاب
الله قد يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون :
«وما أكثر
الناس ـ ولو حرصت ـ بمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر ، إن هو إلا ذكر للعالمين.
وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم
بالله إلا وهم مشركون. أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة
بغتة وهم لا يشعرون؟» ..
ولقد كان
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حريصا على إيمان قومه ، رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم ، ورحمة
لهم مما ينتظر المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة. ولكن الله العليم بقلوب البشر
، الخبير بطبائعهم وأحوالهم ، ينهي إليه أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة
المشركة إلى الإيمان ، لأنهم ـ كما قال في هذه الآيات ـ يمرون على الآيات الكثيرة
معرضين. فهذا الإعراض لا يؤهلهم للإيمان ، ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في
الآفاق.
وإنك لغني عن
إيمانهم فما تطلب منهم أجرا على الهداية ؛ وإن شأنهم في الإعراض عنها لعجيب ، وهي
تبذل لهم بلا أجر ولا مقابل :
(وَما تَسْئَلُهُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ..
تذكرهم بآيات
الله ، وتوجه إليها أبصارهم وبصائرهم ، وهي مبذولة للعالمين ، لا احتكار فيها لأمة
ولا جنس ولا قبيلة ، ولا ثمن لها يعجز عنه أحد ، فيمتاز الأغنياء على الفقراء ،
ولا شرط لها يعجز عنه أحد فيمتاز القادرون على العاجزين. إنما هي ذكرى للعالمين.
ومائدة عامة شاملة معروضة لمن يريد ..
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ..
والآيات الدالة
على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون ، معروضة للأبصار
والبصائر. في السماوات وفي الأرض. يمرون عليها صباح مساء ، آناء الليل وأطراف
النهار. وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر. موحية
تخايل للقلوب والعقول. ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها
العميق.
وإن لحظة تأمل
في مطلع الشمس ومغيبها. لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد. لحظة تأمل
في الخضم الزاخر ، والعين الفوارة ، والنبع الروي. لحظة تأمل في النبتة النامية ،
والبرعم الناعم ، والزهرة المتفتحة ، والحصيد الهشيم. لحظة تأمل في الطائر السابح
في الفضاء ، والسمك السابح في الماء ، والدود السارب والنمل الدائب ، وسائر الحشود
والأمم من الحيوان والحشرات والهوام .. لحظة تأمل في صبح أو مساء ، في هدأة الليل
أو في زحمة النهار .. لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود
العجيب .. إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب ،
والتأثر المستجيب. ولكنهم (يَمُرُّونَ عَلَيْها
وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) .. لذلك لا يؤمن الأكثرون!
وحتى الذين
يؤمنون ، كثير منهم يتدسس الشرك ـ في صورة من صوره ـ إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص
يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولا بأول كل خالجة شيطانية ، وكل اعتبار من
اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف ، لتكون كلها لله ، خالصة له دون سواه.
والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف
والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه ، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا
للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد :
(وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ..
مشركون قيمة من
قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص. مشركون سببا من الأسباب مع
قدرة الله في النفع أو الضر سواء. مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم
أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه. مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده
على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد
لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله. مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله
.. لذلك يقول رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» .
__________________
وفي الأحاديث
نماذج من هذا الشرك الخفي :
روى الترمذي ـ وحسنه
ـ من رواية ابن عمر : «من حلف بغير الله فقد أشرك».
وروى أحمد وأبو
داود وغيره عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن الرقى والتمائم شرك».
وفي مسند
الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من علق تميمة فقد أشرك».
وعن أبي هريرة ـ
بإسناده ـ قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يقول الله : أنا أغني الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي
غيري تركته وشريكه».
وروى الإمام
أحمد عن أبي سعيد ابن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من
كان أشرك في عمل عمله لله ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء
عن الشرك».
وروى الإمام
أحمد ـ بإسناده ـ عن محمود بن لبيد أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا : وما الشرك الأصغر يا
رسول الله؟ قال : «الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم :
اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء»؟
فهذا هو الشرك
الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان.
وهناك الشرك
الواضح الظاهر ، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة. الدينونة في شرع
يتحاكم إليه ـ وهو نص في الشرك لا يجادل عليه ـ والدينونة في تقليد من التقاليد
كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله. والدينونة في زيّ من الأزياء
يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر
..
والأمر في مثل
هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعا ودينونة
لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد ، وتركا للأمر الواضح الصادر من رب العبيد .. إنه
عندئذ لا يكون ذنبا ، ولكنه يكون شركا. لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما
يخالف أمر الله .. وهو من هذه الناحية أمر خطير ..
ومن ثم يقول
الله :
(وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ..
فتنطبق على من
كان يواجههم رسول الله في الجزيرة ، وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان.
وبعد فما الذي
ينتظره أولئك المعرضون عن آيات الله المعروضة في صفحات الوجود ، بعد إعراضهم عن
آيات القرآن التي لا يسألون عليها أجرا؟
ماذا ينتظرون؟
(أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ ، أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟) ..
وهي لمسة قوية
لمشاعرهم ، لإيقاظهم من غفلتهم ، وليحذروا عاقبة هذه الغفلة. فإن عذاب الله الذي
لا
يعلم موعده أحد ، قد يغشاهم اللحظة بغاشية تلفهم وتشملهم ، وربما تكون
الساعة على الأبواب فيطرقهم اليوم الرهيب المخيف بغتة وهم لا يشعرون .. إن الغيب
موصد الأبواب ، لا تمتد إليه عين ولا أذن ، ولا يدري أحد ما ذا سيكون اللحظة ،
فكيف يأمن الغافلون؟
وإذا كانت آيات
هذا القرآن الذي يحمل دليل الرسالة ، وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة
للأنظار .. إذا كانت هذه وتلك يمرون عليها وهم عنها معرضون ، ويشركون بالله شركا
ظاهرا أو خفيا وهم الأكثرون. فالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ماض في طريقه ومن اهتدى بهديه ، لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين :
(قُلْ : هذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ،
وَسُبْحانَ اللهِ! وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(قُلْ : هذِهِ
سَبِيلِي) ..
واحدة مستقيمة
، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة.
(أَدْعُوا إِلَى اللهِ
عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ..
فنحن على هدى
من الله ونور. نعرف طريقنا جيدا ، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة ، لا نخبط ولا
نتحسس ، ولا نحدس. فهو اليقين البصير المستنير. ننزه الله ـ سبحانه ـ عما لا يليق
بألوهيته ، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به :
(وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) ..
لا ظاهر الشرك
ولا خافيه.
هذه طريقي فمن
شاء فليتابع ، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم.
وأصحاب الدعوة
إلى الله لا بد لهم من هذا التميز ، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم ، يفترقون
عمن لا يعتقد عقيدتهم ، ولا يسلك مسلكهم ، ولا يدين لقيادتهم ، ويتميزون ولا
يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم ، وهم متميعون في المجتمع
الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن
يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية ؛ وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة
، وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي ؛ وأن
يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا!
إن اندغامهم
وتميعهم في المجتمع الجاهلي ، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية ، يذهب بكل السلطان
الذي تحمله عقيدتهم ، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم ، وبكل الجاذبية التي
يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.
وهذه الحقيقة
لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين .. إن مجالها هو مجال هذه
الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس .. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف
في مقوماتها الأصيلة ، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة
الإسلامية على مدار التاريخ!
والذين يظنون
أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية ،
والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام
.. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! .. إن أصحاب
المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن
عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم
الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟
* * *
ثم لفتة إلى
سنة الله في رسالاته ، وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين .. إن محمدا
ليس بدعا من الرسل ، ورسالته ليست بدعا من الرسالات. وهذه عواقب الذين كذبوا من
قبل ، آيات معروضة في الأرض.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ، أَفَلا
تَعْقِلُونَ؟).
إن النظر في
آثار الغابرين يهز القلوب. حتى قلوب المتجبرين. ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم
وسكناتهم وخلجاتهم ؛ وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون ، يخافون ويرجون
، يطمعون ويتطلعون .. ثم إذا هم ساكنون ، لا حس ولا حركة. آثارهم خاوية ، طواهم
الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم ، ودنياهم
الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر .. إن هذه التأملات لتهز القلب
البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا. ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على
مصارع الغابرين بين الحين والحين :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ..
لم يكونوا
ملائكة ولا خلقا آخر. إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة ، لا من أهل البادية ،
ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا .. وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية ،
فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم ..
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟) ..
فيدركوا أن
مصيرهم كمصيرهم ؛ وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم ؛ وأن
عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب :
(وَلَدارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا).
خير من هذه
الدار التي ليس فيها قرار.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ..
فتتدبروا سنن
الله في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟
ثم يصور ساعات
الحرج القاسية في حياة الرسل ، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله ،
وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد :
«حتى إذا
استيأس الرسل ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا
عن القوم المجرمين».
إنها صورة
رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى
والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام
والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
إنها ساعات
حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في
هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس .. تراهم كذبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء
النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول
هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية
والآية الأخرى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ اللهِ؟ ...) ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور
الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ،
والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه
اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة
التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة
المدخرة .. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا :
(جاءَهُمْ نَصْرُنا ،
فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ..
تلك سنة الله
في الدعوات. لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا
بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها
الناس. يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك
الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل
بأس الله بالمجرمين ، مدمرا ماحقا لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون
النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا. فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعيّ بدعوة
لا تكلفه شيئا. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا.
فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء.
والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدّعوها ، فإذا ادّعوها
عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها
إلا الواثقون الصادقون ؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا
يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى
الله ليست تجارة قصيرة الأجل ؛ إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض ، وإما
أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة
إلى الله في المجتمعات الجاهلية ـ والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله
بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان ـ يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة
مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه
طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض
أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة
شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! ..
ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه
المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا. وأنه من ثم لا تنضم إليها ـ في أول الأمر ـ
الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر
حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد
هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا.
ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ
فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا.
وفي قصة يوسف
ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستيئاس من نصرة
الناس .. ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا ـ كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب
ـ وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل ، وفيها تصديق ما جاءت به
الكتب المنزلة من قبل ، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب. فما كان يمكن أن يكون ما
جاء به حديثا مفترى. فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية ، ولا يستروح
فيها القلب المؤمن الروح والرحمة :
(لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
* * *
وهكذا يتوافق
المطلع والختام في السورة ، كما توافق المطلع والختام في القصة. وتجيء التعقيبات
في أول القصة وآخرها ، وبين ثناياها ، متناسقة مع موضوع القصة ، وطريقة أدائها ،
وعباراتها كذلك. فتحقق الهدف الديني كاملا ، وتحقق السمات الفنية كاملة ، مع صدق الرواية
، ومطابقة الواقع في الموضوع.
وقد بدأت القصة
وانتهت في سورة واحدة ، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء. فهي رؤيا تتحقق
رويدا رويدا ، ويوما بعد يوم ، ومرحلة بعد مرحلة. فلا تتم العبرة بها ـ كما لا يتم
التنسيق الفني فيها ـ إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها.
وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض
الحلقات في قصص الرسل الآخرين. كحلقة قصة سليمان مع بلقيس. أو حلقة قصة مولد مريم.
أو حلقة قصة مولد عيسى. أو حلقة قصة نوح والطوفان ... إلخ فهذه الحلقات تفي بالغرض
منها كاملا في مواضعها. أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها
ومشاهدها ، من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم :
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ. وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ..
(١٣) سورة الرّعد مكيّة
وآياتها ثلاث وأربعون
بسم الله الرّحمن الرّحيم
كثيرا ما أقف
أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر ؛ المتحرج أن
أشوبها بتعبيري البشري الفاني!
وهذه السورة
كلها ـ شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها ـ من بين هذه النصوص التي لا أكاد أجرؤ
على مسها بتفسير أو إيضاح.
ولكن ماذا أصنع
ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح لطبيعته ولمنهجه
ولموضوعه كذلك ووجهته ، بعد ما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرآن. وعن
الاهتمامات والأهداف التي تنزل لها ، وبعد ما انماعت وذبلت في حسهم وتصورهم
مدلولاته وأبعادها الحقيقية ، وبعد ما انحرفت في حسهم مصطلحاته عن معانيها .. وهم
يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها ، بينما هم لا يتحركون بهذا القرآن في
مواجهة الجاهلية كما كان الذين تنزل عليهم القرآن أول مرة يتحركون .. وبدون هذه
الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئا. فهذا القرآن لا يدرك أسراره
قاعد ، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق
مدلوله ووجهته.
ومع هذا كله
يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن!
إن إيقاع هذا
القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي. ومن ثم أحس دائما
بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذه «الظلال»!
وإنني لأدرك
الآن ـ بعمق ـ حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تلقى مباشرة هذا
القرآن. لقد كانوا يخاطبون بهذا القرآن مباشرة ؛ ويتلقون إيقاعه في حسهم ، وصوره
وظلاله ، وإيحاءاته وإيماءاته. وينفعلون بها انفعالا مباشرا ، ويستجيبون لها
استجابة مباشرة. وهم يتحركون به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ومن
ثم كانوا يحققون في حياة البشر القصيرة تلك الخوارق التي حققوها ، بالانقلاب
المطلق الذي تم في قلوبهم ومشاعرهم وحياتهم ، ثم بالانقلاب الآخر الذي حققوه في
الحياة من حولهم ، وفي أقدار العالم كله يومذاك ، وفي خط سير التاريخ إلى أن يرث
الله الأرض ومن عليها.
لقد كانوا
ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة. ويتأثرون بإيقاعه في حسهم فما لأذن.
وينضجون
بحرارته وإشعاعه وإيحائه ؛ ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.
أما نحن اليوم
فنتكيف وفق تصورات فلان وفلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من
البشر القاصرين أبناء الفناء!
ثم ننظر نحن
إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم ، فنحاول
تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمهم
وتصوراتهم ومؤثراتهم. فنخطئ ولا شك في تقدير البواعث وتعليل الدوافع وتفسير
النتائج .. لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن ..
وإنني لأهيب
بقراء هذه الظلال ، ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إنما يقرءونها ليدنوا من القرآن
ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته ، ويطرحوا عنهم هذه الظلال. وهم لن يتناولوه
في حقيقته إلا إذا وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض المعركة مع
الجاهلية باسمه وتحت رايته.
* * *
وبعد فهذا
استطراد اندفعت إليه وأمامي هذه السورة ـ سورة الرعد ـ وكأنما أقرؤها لأول مرة ،
وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار
ما تعطيه ؛ ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما
تفتح له نفسك ؛ ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة ، ولم تقرأه أو تسمعه
أو تعالجه من قبل!
وهذه السورة من
أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد ، وإيقاع واحد ، وجو واحد ، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها ؛ والتي
تفعم النفس ، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج ، والتي تأخذ النفس من
أقطارها جميعا ، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات ،
والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا ، وهو مستيقظ ، مبصر ، مدرك ،
شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست
ألفاظا وعبارات ، إنما هي مطارق وإيقاعات : صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها. لمساتها
الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك!
إن موضوعها
الرئيسي ككل موضوع السور المكية كلها على وجه التقريب ـ هو العقيدة وقضاياها .. هو
توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة
جميعا ؛ ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث .. وما إليها ...
ولكن هذا
الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة ، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك
السور
__________________
المكية وفي غيرها من السور المدنية. فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة ؛ وفي
ضوء جديد ؛ ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد!
إن هذه القضايا
لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال في كلمات وينتهي كأية قضية ذهنية باردة إنما تعرض
وحولها اطار ، هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا
وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد ؛ ولا تبلى
جدتها. لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك ، وما كشف منها من قبل يبدو
جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف! ومن ثم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب
الكونية التي لا تنفد ولا تبلى جدتها!
وهذه السورة
تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق ؛ وتعرض عليه الكون كله في شتى
مجالاته الأخاذة : في السماوات المرفوعة بغير عمد. وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل
مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس نابتة وأنهار
جارية ، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان ، ينبت في قطع من الأرض
متجاورات ويسقى بماء واحد. وفي البرق يخيف ويطمع ، والرعد يسبح ويحمد ، والملائكة
تخاف وتخشع ، والصواعق يصيب بها من يشاء ، والسحاب الثقال والمطر في الوديان ،
والزبد الذي يذهب جفاء ، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك
القلب أينما توجه : تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل ، يلم بالشارد والوارد
، والمستخفي والسارب ، ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج.
والغيب المكنون
الذي لا تدركه الظنون ، مكشوفا لعلم الله ، وما تحمل كل أنثى ، وما تغيض الأرحام
وما تزداد.
إنها تقرب
لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى المحيطة بالكون ظاهره وخافيه ، جليله
ودقيقه ، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف ، ترجف
له القلوب.
وذلك إلى
الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال. إلى مشاهد القيامة ،
وصور النعيم والعذاب ، وخلجات الأنفس في هذا وذاك. إلى وقفات على مصارع الغابرين ،
وتأملات في سير الراحلين ، وفي سنة الله التي مشت عليهم فإذا هم داثرون ..
* * *
هذا عن موضوعات
السورة وقضاياها ، وعن آفاقها الكونية وآمادها .. ووراءها خصائص الأداء الفنية
العجيبة. فالإطار العام الذي تعرض فيه قضاياها هو الكون كما أسلفنا ومشاهده
وعجائبه في النفس وفي الآفاق. وهذا الإطار ذو جو خاص :
إنه جو المشاهد
الطبيعية المتقابلة : من سماء وأرض. وشمس وقمر. وليل ونهار. وشخوص وظلال. وجبال
راسية وأنهار جارية. وزبد ذاهب وماء باق. وقطع من الأرض متجاورات مختلفات. ونخيل
صنوان وغير صنوان .. ومن ثم تطرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل
المصائر في السورة ، فيتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية ،
وتتسق في الجو العام .. ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش مع تسخير
الشمس والقمر. ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد. ويتقابل من أسرّ القول مع من
جهر به. ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار. ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه
البرق. ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا. وتتقابل دعوة الحق لله
مع دعوة الباطل
للشركاء. ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى. ويتقابل الذين يفرحون من أهل
الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه. ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب .. وبالإجمال
تتقابل المعاني ، وتتقابل الحركات ، وتتقابل الاتجاهات .. تنسيقا للجو العام في
الأداء!
وظاهرة أخرى من
ظواهر التناسق في جو الأداء .. فلأنه جو الطبيعة من سماء وأرض ، وشمس وقمر ، ورعد
وبرق ، وصواعق وأمطار .. وحياة وإنبات .. يجيء الحديث عما تكنه الأرحام من حيوان ؛
ويجيء معها : «وما تغيض الأرحام وما تزداد» .. ويتناسق غيض الأرحام وازديادها مع
سيل الماء في الأودية ومع الإنبات .. وذلك من بدائع التناسق في هذا القرآن .
ذلك طرف من
الأسباب التي من أجلها أقف أمام هذه السورة ـ كما وقفت من قبل كثيرا أمام غيرها ـ متهيبا
أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر ، متحرجا أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني ...
ولكنها ضرورة
الجيل .. الجيل الذي لا يعيش في جو هذا القرآن .. نستعين عليها بالله. والله
المستعان.
* * *
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(المر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١)
اللهُ
الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ
تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي
مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
وَفِي
الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ
صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى
بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
وَإِنْ
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ
لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ
اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ
وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
لَهُ
دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ
بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ
بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ
(١٦) أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ
زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ
أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧)
لِلَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ
أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ
أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)
(١٨)
تبدأ السورة
بقضية عامة من قضايا العقيدة : قضية الوحي بهذا الكتاب ، والحق الذي اشتمل عليه.
وتلك هي قاعدة بقية القضايا من توحيد لله ، ومن إيمان بالبعث ، ومن عمل صالح في
الحياة. فكلها متفرعة عن الإيمان بأن الآمر بهذا هو الله ، وأن هذا القرآن وحي من
عنده سبحانه إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم.
(المر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.
وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يُؤْمِنُونَ) ..
ألف. لام. ميم.
را .. (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) .. آيات هذا القرآن. أو تلك آيات على الكتاب تدل على
الوحي به من عند الله. إذ كانت صياغته من مادة هذه الأحرف دلالة على أنه من وحي
الله ، لا من عمل مخلوق كائنا من كان.
(وَالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) ..
الحق وحده.
الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد. وتلك الأحرف
آيات على أنه الحق. فهي آيات على أنه من عند الله. ولن يكون ما عند الله إلا حقا
لا ريب فيه.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ..
لا يؤمنون بأنه
موحى به ، ولا بالقضايا المترتبة على الإيمان بهذا الوحي من توحيد لله ودينونة له
وحده ومن بعث وعمل صالح في الحياة.
* * *
هذا هو
الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله ، ويشير إلى جملة قضاياها. ومن ثم يبدأ في
استعراض آيات القدرة ، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره ،
الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس ؛ وأن يكون هناك
بعث لحساب الناس. وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى
الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم. وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.
وتبدأ الريشة
المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة .. لمسة في السماوات ، ولمسة في الأرضين.
ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة ..
ثم التعجيب من
قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام ، ويستعجلون عذاب الله ، ويطلبون آية غير
هذه الآيات :
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ،
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
، يُفَصِّلُ الْآياتِ ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).
«وهو الذي مد
الأرض ، وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ، يغشي
الليل النهار. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
«وفي الأرض قطع
متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل
بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
«وإن تعجب فعجب
قولهم : أئذا كنا ترابا أإنّا لفي خلق جديد؟ أولئك الذين كفروا بربهم. وأولئك
الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ويستعجلونك بالسيئة قبل
الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وإن ربك
لشديد العقاب. ويقول الذين كفروا : لو لا أنزل عليه آية من ربه ، إنما أنت منذر
ولكل قوم هاد».
والسماوات ـ أيا
كان مدلولها وأيا كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور ـ معروضة على الأنظار
، هائلة ـ ولا شك ـ حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة. وهي هكذا لا تستند إلى شيء.
مرفوعة «بغير عمد» مكشوفة «ترونها» ..
هذه هي اللمسة
الأولى في مجالي الكون الهائلة وهي بذاتها اللمسة الأولى للوجدان الإنساني ، وهو
يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه ؛ ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفعها بلا عمد ـ
أو حتى بعمد ـ إلا الله ؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنيان
الصغيرة الهزيلة القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه. ثم يتحدث الناس عما في
تلك البنيان من عظمة ومن قدرة ومن إتقان ، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات
مرفوعة بغير عمد ؛ وعما وراءها من القدرة الحقة والعظمة الحقة ، والإتقان الذي لا
يتطاول إليه خيال إنسان!
ومن هذا
المنظور الهائل الذي يراه الناس ، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك
والأبصار : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) ..
فإن كان علو
فهذا أعلى. وإن كانت عظمة فهذا أعظم. وهو الاستعلاء المطلق ، يرسمه في صورة على
طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة.
وهي لمسة أخرى
هائلة من لمسات الريشة المعجزة. لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في
العلو المنظور ، تتجاوران وتتسقان في السياق ..
ومن الاستعلاء
المطلق إلى التسخير. تسخير الشمس والقمر. تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من
عظمة أخاذة ، أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى ، ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله
الكبير المتعال.
ونقف لحظة أمام
التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته. فإذا نحن أمام ارتفاع
في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول. وإذا نحن أمام استعلاء يقابله
التسخير. وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس : نجم وكوكب ، ويتقابلان
في الأوان ، بالليل والنهار ..
ثم نمضي مع
السياق .. فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير :
(كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ..
وإلى حدود
مرسومة ، ووفق ناموس مقدر. سواء في جريانهما في فلكيهما دورة سنوية ودورة يومية. أو
جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه. أو جريانهما إلى الأمد المقدر
لهما قبل أن يحول هذا الكون المنظور.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ..
الأمر كله ،
على هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى .. والذي يمسك
بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لا تتعداه ، لا شك عظيم
التدبير جليل التقدير.
ومن تدبيره
الأمر أنه «يفصل الآيات» وينظمها وينسقها ، ويعرض كلا منها في حينه ، ولعلته ،
ولغايته (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) حين ترون الآيات مفصلة منسقة ، ومن ورائها آيات الكون ،
تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة ، وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من
تدبير وتقدير وإحكام .. ذلك كله يوحي بأن لا بد من عودة إلى الخالق بعد الحياة
الدنيا ، لتقدير أعمال البشر ، ومجازاتهم عليها. فذلك من كمال التقدير الذي توحي
به حكمة الخلق الأول عن حكمة وتدبير.
وبعد ذلك يهبط
الخط التصويري الهائل من السماء إلى الأرض فيرسم لوحتها العريضة الأولى :
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ. إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..
والخطوط
العريضة في لوحة الأرض هي مد الأرض وبسطها أمام النظر وانفساحها على مداه. لا يهم
ما يكون شكلها الكلي في حقيقته. إنما هي مع هذا ممدودة مبسوطة فسيحة. هذه هي
اللمسة الأولى في اللوحة. ثم يرسم خط الرواسي الثوابت من الجبال ، وخط الأنهار الجارية
في الأرض. فتتم الخطوط العريضة الأولى في المشهد الأرضي ، متناسقة متقابلة.
ومما يناسب هذه
الخطوط الكلية ما تحتويه الأرض من الكليات ، وما يلابس الحياة فيها من كليات كذلك.
وتتمثل الأولى فيما تنبت الأرض : (وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وتتمثل الثانية في ظاهرتي الليل والنهار : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ).
والمشهد الأول
يتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريبا. هي أن كل الأحياء
وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى ، حتى النباتات التي كان مظنونا أن ليس لها من
جنسها ذكور ، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر ، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء
التأنيث مجتمعة في زهرة ، أو متفرقة في العود. وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في
إثارة الفكر إلى تدبر أسرار الخلق بعد تملي ظواهره.
والمشهد الثاني
مشهد الليل والنهار متعاقبين ، هذا يغشي ذاك ، في انتظام عجيب. هو ذاته مثار تأمل
في مشاهد الطبيعة ، فقدوم ليل وإدبار نهار أو إشراق فجر وانقشاع ليل ، حادث تهوّن
الألفة من وقعة في الحس ، ولكنه في ذاته عجب من العجب ، لمن ينفض عنه موات الألفة
وخمودها ، ويتلقاه بحس الشاعر المتجدد ، الذي لم يجمده التكرار .. والنظام الدقيق
الذي لا تتخلف معه دورة الفلك هو بذاته كذلك مثار تأمل في ناموس هذا الكون ،
وتفكير في القدرة المبدعة التي تدبره وترعاه : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..
ونقف كذلك هنا
وقفة قصيرة أمام التقابلات الفنية في المشهد قبل أن نجاوزه إلى ما وراءه ..
التقابلات بين الرواسي الثابتة والأنهار الجارية. وبين الزوج والزوج في كل
الثمرات. وبين الليل والنهار. ثم بين مشهد الأرض كله ومشهد السماء السابق. وهما
متكاملان في المشهد الكوني الكبير الذي يضمهما ويتألف منهما جميعا.
ثم تمضي الريشة
المبدعة في تخطيط وجه الأرض بخطوط جزئية أدق من الخطوط العريضة الأولى :
(وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..
وهذه المشاهد
الأرضية ، فينا الكثيرون يمرون عليها فلا تثير فيهم حتى رغبة التطلع إليها! إلا أن
ترجع النفس إلى حيوية الفطرة والاتصال بالكون الذي هي قطعة منه ، انفصلت عنه
لتتأمله ثم تندمج فيه ..
(وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ..
متعددة الشيات
، وإلا ما تبين أنها «قطع» فلو كانت متماثلة لكانت قطعة .. منها الطيب الخصب ،
ومنها السبخ النكد. ومنها المقفر الجدب ، ومنها الصخر الصلد. وكل واحد من هذه وتلك
أنواع وألوان ودرجات. ومنها العامر والغامر. ومنها المزروع الحي والمهمل الميت.
ومنها الريان والعطشان. ومنها ومنها ومنها .. وهي كلها في الأرض متجاورات.
هذه اللمسة
العريضة الأولى في التخطيط التفصيلي .. ثم تتبعها تفصيلات : (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ). «وزرع». «ونخيل» تمثل ثلاثة أنواع من النبات ، الكرام
المتسلق. والنخل السامق. والزرع من بقول وأزهار وما أشبه. مما يحقق تلوين المنظر ،
وملء فراغ اللوحة الطبيعية ، والتمثيل لمختلف أشكال النبات.
ذلك النخيل.
صنوان وغير صنوان. منه ما هو عود واحد. ومنه ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد .. وكله
«يسقى بماء واحد» والتربة واحدة ، ولكن الثمار مختلفات الطعوم :
«ونفضل بعضها
على بعض في الأكل».
فمن غير الخالق
المدبر المريد يفعل هذا وذاك؟!
من منا لم يذق
الطعوم مختلفات في نبت البقعة الواحدة. فكم منا التفت هذه اللفتة التي وجه القرآن
إليها العقول والقلوب؟ إنه بمثل هذا يبقى القرآن جديدا أبدا ، لأنه يجدد أحاسيس
البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس ؛ وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في
عمره المحدود ، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) ..
ومرة ثالثة نقف
أمام التقابلات الفنية في اللوحة بين القطع المتجاورات المختلفات. والنخل صنوان
وغير صنوان والطعوم مختلفات. والزرع والنخيل والأعناب ..
تلك الجولة
الهائلة في آفاق الكون الفسيحة ، يعود منها السياق ليعجّب من قوم ، هذه الآيات
كلها في الآفاق لا توقظ قلوبهم ، ولا تنبه عقولهم ، ولا يلوح لهم من ورائها تدبير
المدبر ، وقدرة الخالق ، كأن عقولهم مغلولة ، وكأن قلوبهم مقيدة ، فلا تنطلق
للتأمل في تلك الآيات :
(وَإِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ : أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
وإنه لعجيب
يستحق التعجيب ، أن يسأل قوم بعد هذا العرض الهائل :
(أَإِذا كُنَّا
تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) ..
والذي خلق هذا
الكون الضخم ودبره على هذا النحو ، قادر على إعادة الأناسي في بعث جديد. إنما هو
الكفر بربهم الذي خلقهم ودبر أمرهم. وإنما هي أغلال العقل والقلب. فالجزاء هو
الأغلال في الأعناق ، تنسيقا بين غل العقل وغل العنق ؛ والجزاء هو النار خالدين
فيها. فقد عطلوا كل مقومات الإنسان التي من أجلها يكرمه الله ، وانتكسوا في الدنيا
فهم في الآخرة يلاقون عاقبة الانتكاس حياة أدنى من حياتهم الدنيا ، التي عاشوها
معطلي الفكر والشعور والإحساس.
هؤلاء القوم
الذين يعجبون من أن يبعثهم الله خلقا جديدا. وعجبهم هذا هو العجب! هؤلاء يستعجلونك
أن تأتيهم بعذاب الله ، بدلا من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته :
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) ..
وكما أنهم لا
ينظرون في آفاق الكون ، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض ، فهم لا ينظرون إلى
مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم ؛ وتركهم مثلة يعتبر بها من
بعدهم :
(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) ..
فهم في غفلة
حتى عن مصائر أسلافهم من بني البشر ، وقد كان فيها مثل لمن يعتبر.
(وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) ..
فهو بعباده
رحيم حتى وإن ظلموا فترة ، يفتح لهم باب المغفرة ليدخلوه عن طريق التوبة. ولكن
يأخذ بعقابه الشديد من يصرون ويلجون ، ولا يلجون من الباب المفتوح.
(وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ) ..
والسياق يقدم
هنا مغفرة الله على عقابه ، في مقابل تعجل هؤلاء الغافلين للعذاب قبل الهداية.
ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله لهم ، والشر الذي يريدونه
لأنفسهم. ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة ، وعمى القلب ، والانتكاس الذي يستحق درك
النار.
ثم يمضي السياق
في التعجيب من أمر القوم ، الذين لا يدركون كل تلك الآيات الكونية ، فيطلبون آية
واحدة ينزلها الله على رسوله. آية واحدة والكون حولهم كله آيات :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ..
إنهم يطلبون
خارقة. والخوارق ليست من عمل الرسول ولا اختصاصه. إنما يبعث بها الله معه ، حين
يرى بحكمته أنها لازمة. (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ) محذر ومبصر. شأنك شأن كل رسول قبلك ، فقد بعث الله
الرسل للأقوام للهداية (وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هادٍ) فأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبر الكون والعباد.
* * *
وبذلك تنتهي
الجولة الأولى في الآفاق ، والتعقيبات عليها. ليبدأ السياق جولة جديدة في واد آخر
: في الأنفس والمشاعر والأحياء :
(اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ـ يَحْفَظُونَهُ ـ مِنْ أَمْرِ اللهِ. إِنَّ اللهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِذا أَرادَ
اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ..
ويقف الحس
مشدوها يرتعش تحت وقع هذه اللمسات العميقة في التصوير ، وتحت إيقاع هذه الموسيقى
العجيبة في التعبير. يقف مشدوها وهو يقفو مسارب علم الله ومواقعه ؛ وهو يتبع الحمل
المكنون في الأرحام ، والسر المكنون في الصدور ، والحركة الخفية في جنح الليل ؛
وكل مستخف وكل سارب وكل هامس وكل جاهر. وكل أولئك مكشوف تحت المجهر الكاشف ،
يتتبعه شعاع من علم الله ، وتتعقبه حفظة تحصي خواطره ونواياه .. ألا إنها الرهبة
الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله ، تطمئن في حماه .. وإن
المؤمن بالله ليعلم أن علم الله يشمل كل شيء. ولكن وقع هذه القضية الكلية في الحس
، لا يقاس إلى وقع مفرداتها كما يعرض السياق بعضها في هذا التصوير العجيب.
وأين أية قضية
تجريدية ، وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله :
(اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)؟
حين يذهب
الخيال يتتبع كل أنثى في هذا الكون .. المترامي الأطراف .. كل أنثى .. كل أنثى في
الوبر والمدر ، في البدو والحضر ، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات. ويتصور
علم الله مطلا على كل حمل في أرحام هذه الإناث ، وعلى كل قطرة من دم تغيض أو تزداد
في تلك الأرحام!
وأين أية قضية
تجريدية وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله :
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)؟
حين يذهب
الخيال يتتبع كل هامس وكل جاهر ، وكل مستخف وكل سارب في هذا الكون الهائل. ويتصور
علم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه ، ويقيد عليه كل شاردة وكل واردة آناء
الليل. وأطراف النهار!
إن اللمسات
الأولى في آفاق الكون الهائل ليست بأضخم ولا أعمق من هذه اللمسات الأخيرة في أغوار
النفس والغيب ومجاهيل السرائر. وإن هذه لكفء لتلك في مجال التقابل والتناظر
..
ونستعرض شيئا
من بدائع التعبير والتصوير في تلك الآيات :
(اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) .. فلما أن صور العلم بالغيض والزيادة في مكنونات
الأرحام ، عقب بأن كل شيء عنده بمقدار. والتناسق واضح بين كلمة مقدار وبين النقص
والزيادة. والقضية كلها ذات علاقة بإعادة الخلق فيما سبق من ناحية الموضوع. كما
أنها من ناحية الشكل والصورة ذات علاقة بما سيأتي بعدها من الماء الذي تسيل به
الأودية «بقدرها» في السيولة والتقدير .. كما أن في الغيض والزيادة تلك المقابلة
المعهودة في جو السورة على الإطلاق ..
(عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) ..
ولفظة «الكبير»
ولفظة «المتعال» كلتاهما تلقي ظلها في الحس. ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى.
إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره. وما يقال عن خلق من خلق الله كبير ، أو
أمر من الأمور كبير ، أو عمل من الأعمال كبير ، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله ..
وكذلك «المتعال» .. تراني قلت شيئا؟ لا. ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام «الكبير
المتعال»!
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) .. والتقابل واضح في العبارة. إنما تستوقفنا كلمة «سارب»
وهي تكاد بطلها تعطي عكس معناها ، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء. والسارب :
الذاهب. فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء. هذه النعومة في جرس اللفظ
وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو. جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل
المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار. فاختار
اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء!
(لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ـ يَحْفَظُونَهُ ـ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ..
والحفظة التي
تتعقب كل إنسان ، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة ، والتي هي من أمر
الله ، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف. أكثر من أنها .. (مِنْ أَمْرِ اللهِ) .. فلا نتعرض نحن لها : ما هي؟ وما صفاتها؟ وكيف تتعقب؟
وأين تكون؟ ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق. فذلك هو
المقصود هنا ؛ وقد جاء التعبير بقدره ؛ ولم يجىء هكذا جزافا ؛ وكل من له ذوق
بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل!
(إِنَّ اللهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ..
فهو يتعقبهم
بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله
تصرفه بهم. فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو
مهانة ... إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما
بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن
يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لا حقا له في الزمان
بالقياس إليهم.
وإنها لحقيقة
تلقي على البشر تبعة ثقيلة ؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة
الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر ؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه
السنة بسلوكهم. والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك ـ إلى جانب
التبعة ـ دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة
الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه.
وبعد تقرير
المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء ؛ لأنهم ـ حسب المفهوم من
الآية ـ غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء :
(وَإِذا أَرادَ اللهُ
بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ..
يبرز السياق
هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة.
وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم ، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى
وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم ـ إذا استحقوه بما في أنفسهم ـ ولا
يعصمهم منه وال يناصرهم ..
* * *
ثم يأخذ السياق
في جولة جديدة في واد آخر ، موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه. واد تجتمع فيه مناظر
الطبيعة ومشاعر النفس ، متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع. وتخيم عليه
الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق. وتظل النفس فيه في ترقب وحذر ، وفي تأثر وانفعال
:
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ. خَوْفاً وَطَمَعاً. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ. وَيُرْسِلُ
الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ
شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ
لِيَبْلُغَ فاهُ ، وَما هُوَ بِبالِغِهِ ، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ،
وَظِلالُهُمْ ، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ؟ قُلِ : اللهُ. قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ : اللهُ
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ..
والبرق والرعد
والسحاب مشاهد معروفة ، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان. وهي بذاتها
مشاهد ذات أثر في النفس ـ سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا
يعرفون عن الله شيئا! والسياق يحشدها هنا ؛ ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح
والسجود والخوف والطمع ، والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب. ويضم إليها هيئة
أخرى : هيئة ملهوف يتطلب الماء ، باسطا كفيه ليبلغه ، فاتحا فاه يتلقف منه قطرة ..
هذه كلها لا
تتجمع في النص اتفاقا أو جزافا. إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد ، وتلفه
في جو من الرهبة والترقب ، والخوف والطمع ، والضراعة والارتجاف ، في سياق تصوير
سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر ، نفيا للشركاء المدعاة ، وإرهابا من عقبى
الشرك بالله.
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ. خَوْفاً وَطَمَعاً.) ..
هو الله الذي
يريكم هذه الظاهرة الكونية ، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا
النحو الخاص ، وجعل لها خصائصها وظواهرها. ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه
، فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب ، ولأنه قد يتحول إلى صاعقة ، ولأنه قد يكون
نذيرا بسبيل مدمر كما علمتكم تجاربكم. وتطمعون في الخير من ورائه ، فقد يعقبه
المطر المدرار المحيي للموات ، المجري للأنهار.
(وَيُنْشِئُ السَّحابَ
الثِّقالَ) ..
وهو كذلك الذي
ينشئ السحاب ـ والسحاب اسم جنس واحدته سحابة ـ الثقال بالماء. فوفق ناموسه في خلقة
هذا الكون وتركيبه تتكون السحب ، وتهطل الأمطار. ولو لم يجعل خلقة الكون على هذا
النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار. ومعرفة كيف تتكون السحب ، وكيفية هطول الأمطار
لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئا من روعتها ، ولا شيئا من دلالتها. فهي تتكون وفق
تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله. ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك
في سنه أحد من عبيد الله! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه ، ولا هو الذي ركب في
ذاته ناموسه!
والرعد ..
الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد .. هذا الصوت المقرقع المدوي. إنه أثر من
آثار الناموس الكوني ، الذي صنعه الله ـ أيا كانت طبيعته وأسبابه ـ فهو رجع صنع
الله في هذا الكون ، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام. كما أن كل
مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته
من جمال وإتقان .. وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا ، ويكون
الرعد «يسبح» فعلا بحمد الله. فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه
البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا
القليل!
وقد اختار
التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا
السياق ، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد
بحركة من جنس حركة المشهد كله ـ كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن ـ والمشهد
هنا مشهد أحياء في جو طبيعي. وفيه الملائكة تسبح من خيفته ، وفيه دعاء لله ، ودعاء
للشركاء. وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه .. ففي وسط هذا المشهد
الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء ..
ثم يكمل جو
الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال .. بالصواعق يرسلها فيصيب بها من
يشاء. والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال ؛ والله يصيب
بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم ، لعلمه أن لا خير في
إمهالهم ، فاستحقوا الهلاك ..
والعجيب أنه في
هول البرق والرعد والصواعق ، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته
وزمجرة العواصف بغضبه .. في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل
هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال :
(وَهُمْ يُجادِلُونَ
فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)!
وهكذا تضيع
أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة
والصواعق ، الناطقة كلها بوجود الله ـ الذي يجادلون فيه ـ وبوحدانيته واتجاه
التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل ، ومن الملائكة الذين يسبحون
من خيفته (وللخوف إيقاعه في هذا المجال) فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر
وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال؟!
وهم يجادلون في
الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه. ودعوة الله هي وحدها الحق ؛ وما عداها باطل
ذاهب ، لا ينال صاحبه منه إلا العناء :
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِّ ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ
، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ
، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ..
والمشهد هنا
ناطق متحرك جاهد لاهف .. فدعوة واحدة هي الحق ، وهي التي تحق ، وهي التي تستجاب.
إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونه ورحمته وهداه. وما
عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء .. ألا ترون حال الداعين لغيره من
الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم. ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه. وفمه مفتوح
يلهث بالدعاء. يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه. وما هو ببالغه. بعد الجهد واللهفة
والعناء. وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء :
(وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).
وفي أي جو لا
يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء؟ في جو البرق والرعد والسحاب الثقال ،
التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار!
وفي الوقت الذي
يتخذ هؤلاء الخائبون آلهة من دون الله ، ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء ، إذا كل
من في الكون يعنو لله ، وكلهم محكومون بإرادته ، خاضعون لسنته ، مسيرون وفق
ناموسه. المؤمن منهم يخضع طاعة وإيمانا ، وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاما ، فما
يملك أحد أن يخرج على إرادة الله ، ولا أن يعيش خارج ناموسه الذي سنه للحياة :
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَظِلالُهُمْ ،
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ..
ولأن الجو جو
عبادة ودعاء ، فإن السياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو أقصى رمز
للعبودية ، ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض ، ظلالهم كذلك. ظلالهم بالغدو
في الصباح ، وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال. يضم هذه الظلال إلى
الشخوص في السجود والخضوع والامتثال. وهي في ذاتها حقيقة ، فالظلال تبع للشخوص. ثم
تلقي هذه الحقيقة ظلها على المشهد ، فإذا هو عجب. وإذا السجود مزدوج : شخوص وظلال!
وإذا الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان
سواء. كلها تسجد لله .. وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون الله!
وفي جو هذا
المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية. فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا
الجو إلا التهكم ، وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء :
(قُلْ : مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ : اللهُ. قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ : هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ؟ قُلِ : اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ..
سلهم ـ وكل من
في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته ـ رضي أم كره ـ : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) .. وهو سؤال لا ليجيبوا عنه ، فقد أجاب السياق من قبل.
إنما ليسمعوا الجواب ملفوظا وقد رأوه مشهودا : «قل : الله» .. ثم سلهم : (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟) .. سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك
الأولياء. سلهم والقضية واضحة ، والفرق بين الحق والباطل واضح : وضوح الفارق بين
الأعمى والبصير ، وبين الظلمات والنور. وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى
المؤمنين ؛ فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره
كل من في السماوات والأرض. وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين
، فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين.
أم ترى هؤلاء
الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله ، خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله. فتشابهت على
القوم هذه المخلوقات وتلك ، فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء؟ فهم
معذورون إذن إن
كان الأمر كذلك ، في اتخاذ الشركاء ، فلهم من صفات الله تلك القدرة على
الخلق ، التي بها يستحق المعبود العبادة ؛ وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه!
وهو التهكم
المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله ، ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا
، وما هي بخالقة شيئا ، إنما هي مخلوقة. وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير
شبهة. وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير ..
والتعقيب على
هذا التهكم اللاذع ، حيث لا معارضة ولا جدال ، بعد هذا السؤال :
(قُلِ : اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ..
فهي الوحدانية
في الخلق ، وهي الوحدانية في القهر ـ أقصى درجات السلطان ـ وهكذا تحاط قضية
الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله ؛ وفي
ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء .. وقد سبقته من قبل
بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع .. فأين القلب الذي يصمد لهذا
الهول ، إلا أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظلمات ، حتى يأخذه الهلاك؟!
وقبل أن نغادر
هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء. بين «خوفا وطمعا» وبين
البرق الخاطف والسحاب الثقال ـ و «الثقال» هنا ، بعد إشارتها إلى الماء ، تشارك في
صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف ـ وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من
خيفته. وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع. وبين السماوات والأرض ، وسجود من فيهن
طوعا وكرها. وبين الشخوص والظلال. وبين الغدو والآصال. وبين الأعمى والبصير. وبين
الظلمات والنور. وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئا ، ولا يملكون
لأنفسهم نفعا ولا ضرا ... وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر
وتنسيق عجيب.
* * *
ثم نمضي مع
السياق. يضرب مثلا للحق والباطل. للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح. للخير
الهادئ والشر المتنفج. والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار. ولتدبير
الخالق المدبر المقدر للأشياء. وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها
السياق.
(أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً ، فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً : وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ. فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ..
وإنزال الماء
من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في
المشهد السابق ؛ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام ، الذي تجري في جوه قضايا
السورة وموضوعاتها. وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار .. وأن تسيل هذه الأودية
بقدرها ، كل بحسبه ، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره
لكل شيء .. وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة .. وليس هذا أو ذلك بعد إلا
إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون
انتباه.
إن الماء لينزل
من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة
الزبد
حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان. هذا الزبد نافش راب منتفخ .. ولكنه
بعد غثاء. والماء من تحته سارب ساكن هادئ .. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير
والحياة .. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو
آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن
الأصيل. ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق
والباطل في هذا الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد
زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه. والحق يظل
هادئا ساكنا. وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي
في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) وكذلك يقرر مصائر الدعوات ، ومصائر الاعتقادات. ومصائر
الأعمال والأقوال. وهو الله الواحد القهار ، المدبر للكون والحياة ، العليم
بالظاهر والباطن ، والحق والباطل والباقي والزائل.
فمن استجاب لله
فله الحسنى. والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في
الأرض ومثله معه أن يفتدى به. وما هو بمفتد ، إنما هو الحساب الذي يسوء ، وإنما هي
جهنم لهم مهاد. ويا لسوء المهاد! :
(لِلَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ
أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ،
أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. وَبِئْسَ الْمِهادُ) ..
ويتقابل الذين
يستجيبون مع الذين لا يستجيبون. وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب ..
ومع جهنم وبئس
المهاد .. على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء ..
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
الَّذِينَ
يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠)
وَالَّذِينَ
يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ
سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
اللهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ
اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)
الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
كَذلِكَ
أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا
عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ
هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
وَلَوْ
أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ
كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً
مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ
قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ
سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ
مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ
السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها
تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ
بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ
لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)
يَمْحُوا
اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
وَإِنْ
ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما
عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ
الْحِسابِ
(٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)
(٤٣)
بعد المشاهد
الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب ، وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر
السورة الأول ، يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية ، وتصويرية دقيقة رفيقة
، حول قضية الوحي والرسالة ، وقضية التوحيد والشركاء ، ومسألة طلب الآيات واستعجال
تأويل الوعيد .. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.
وتبدأ هذه
الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ، فالأول علم والثاني عمى. وفي طبيعة
المؤمنين وطبيعة الكافرين والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء. يتلوها مشهد من مشاهد
القيامة ، وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين. فلمسة في بسط الرزق وتقديره
وردهما إلى الله. فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله. فوصف لهذا القرآن
الذي يكاد يسير الجبال وتقطع به الأرض ويكلم به الموتى. فلمسة بما يصيب الكفار من
قوارع تنزل بهم أو تحل قريبا من دارهم. فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة. فلمسة من
مصارع الغابرين ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين. يختم هذا كله بتهديد الذين
يكذبون برسالة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بتركهم للمصير المعلوم!
من ذلك نرى أن
الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول ، تحضّر المشاعر وتهيئها
لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني ، وهي على استعداد وتفتح لتلقيها ؛ وأن
شطري السورة متكاملان ؛ وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية
واحدة.
* * *
والقضية الأولى
هي قضية الوحي ، وقد أثيرت في صدر السورة. وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد ..
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ..)
إن المقابل لمن
يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا ، إنما المقابل هو الأعمى!
وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق. وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة
فيه ولا زيادة ولا تحريف. فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى
الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى. والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان :
مبصرون فهم يعلمون ، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة ، وانطماس المدارك ،
واستغلاق القلوب ، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح ، وانفصالها عن مصدر الإشعاع ..
(إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) ..
الذين لهم عقول
وقلوب مدركة تذكر بالحقّ فتتذكر ، وتنبه إلى دلائله فتتفكر.
وهذه صفات أولي
الألباب هؤلاء :
(الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللهِ ، وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ..
وعهد الله مطلق
يشمل كل عهد ، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق. والعهد الأكبر الذي تقوم عليه
العهود كلها هو عهد الإيمان ؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو
ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان.
وعهد الإيمان
قديم وجديد. قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ؛ المدركة إدراكا
مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود ، ووحدة الخالق صاحب الإرادة ، وأنه
وحده المعبود. وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها
من تفسير .. ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه
ويذكروا به ويفصلوه ، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من
الدينونة لسواه ، مع العمل الصالح والسلوك القويم ، والتوجه به إلى الله وحده صاحب
الميثاق القديم ..
ثم تترتب على
العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر. سواء مع الرسول أو
مع الناس. ذوي قرابة أو أجانب. أفرادا أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى
سائر العهود ، لأن رعايتها فريضة ؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما
هو مطلوب منه للناس ، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق.
فهي القاعدة
الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله. يقررها في كلمات.
(وَالَّذِينَ
يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ،
وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ..
هكذا في إجمال.
فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه. أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة ،
والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء. لهذا ترك الأمر مجملا ، ولم
يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل ، لأن هذا التفصيل يطول ، وهو غير مقصود ،
إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي ، والطاعة المطلقة التي لا
تتفلت ، والصلة المطلقة التي لا تنقطع .. ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في
نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة :
(وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ..
فهي خشية الله
ومخافة العقاب الذي يسوء في يوم لقائه الرهيب. وهم أولو الألباب الذين يتدبرون
الحساب قبل يوم الحساب.
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) ..
والصبر ألوان.
وللصبر مقتضيات. صبر على تكاليف الميثاق. من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد .. إلخ وصبر
على النعماء والبأساء. وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر. وصبر على حماقات
الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور .. وصبر وصبر وصبر .. كله ابتغاء وجه ربهم ، لا
تحرجا من أن يقول الناس : جذعوا. ولا تجملا ليقول الناس : صبروا. ولا رجاء في نفع
من وراء الصبر. ولا دفعا لضر يأتي به الجزع. ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله ،
والصبر على نعمته وبلواه. صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع
..
(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ..
وهي داخلة في
الوفاء بعهد الله وميثاقه ، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء ، ولأنها
مظهر التوجه الخالص الكامل لله ، ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب ، الخالصة
له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه.
(وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ..
وهي داخلة في
وصل ما أمر الله به أن يوصل ، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق. ولكنه يبرزها لأنها
الصلة بين عباد الله ، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة. والتي تزكي نفس
معطيها من البخل ، وتزكي نفس آخذها من الغل ؛ وتجعل الحياة في المجتمع المسلم
لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله. والإنفاق سرا وعلانية. السر
حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة ، وتتحرج النفس من الإعلان. والعلانية حيث تطلب
الأسوة ، وتنفذ الشريعة ، ويطاع القانون. ولكل موضعه في الحياة.
«ويدرأون
بالحسنة السيئة» ..
والمقصود أنهم
يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله. ولكن التعبير يتجاوز
المقدمة إلى النتيجة. فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس ، وتوجهها إلى الخير
؛ وتطفئ جذوة الشر ، وترد نزغ الشيطان ، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية.
فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا
لنتيجتها المرتقبة ..
ثم هي إشارة
خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها
واستعلاؤها! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان
لمقابلتها بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي.
ودرء السيئة
بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين. فأما في دين الله فلا ..
إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم. والمفسدون في الأرض لا يجدي
معهم إلا الأخذ الحاسم. والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة
الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب.
(أُولئِكَ لَهُمْ
عُقْبَى الدَّارِ : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ
وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ؛ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ
كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ..
«أولئك» في
مقامهم العالي لهم عقبى الدار : جنات عدن للإقامة والقرار.
في هذه الجنات
يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. وهؤلاء يدخلون الجنة
بصلاحهم واستحقاقهم. ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم ، وتلاقي أحبابهم ، وهي لذة أخرى
تضاعف لذة الشعور بالجنان.
وفي جو التجمع
والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم ، في حركة رائحة غادية :
(يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) ..
ويدعنا السياق
نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا :
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ..
فهو مهرجان
حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام.
وعلى الضفة
الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا. ولا بصيرة لهم فيبصروا. وهم على النقيض
في كل شيء مع أولي الألباب :
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ،
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ..
إنهم ينقضون
عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي ؛ وينقضون من بعده كل عهد ،
فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس. والذي لا يرعى الله لا
يبقى على عهد ولا ميثاق. ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق.
ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء
السيئة بالحسنة. فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله ، وترك شيء من هذا كله إنما هو
إفساد أو دافع إلى الإفساد.
«أولئك» ..
المبعدون المطرودون «لهم اللعنة» والطرد في مقابل التكريم هناك (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ولا حاجة إلى ذكرها ، فقد عرفت بمقابلها هناك!
أولئك فرحوا
بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم. مع أن الله
هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على
السواء. ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض ، وهو الذي أعطاهم إياه :
(اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) ..
* * *
ولقد سبقت
الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق ، ومن
هو أعمى. فالآن يحكي السياق شيئا عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون ،
والذين لا يكفيهم هذا القرآن ، فإذا هم يطلبون آية. وقد حكى السياق شيئا كهذا في
شطر السورة الأول ، وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذرا والآيات عند الله. وهو
الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال. ويضع إلى جواره صورة
القلوب المطمئنة بذكر الله ، لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين
أيديها. هذا القرآن العميق التأثير ، حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض ،
ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية. وينهي الحديث عن هؤلاء الذين
يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم ، وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم
، وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين :
«ويقول الذين
كفروا : لو لا أنزل عليه آية من ربه! قل : إن الله يضل من يشاء ، ويهدي إليه من
أناب : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين
آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
«كذلك أرسلناك
في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ، وهم يكفرون بالرحمن. قل
: هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت ، وإليه متاب.
«ولو أن قرآنا
سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى. بل لله الأمر جميعا. أفلم ييأس
الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما
صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف الميعاد.
ولقد استهزئ برسل من قبلك ، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم. فكيف كان عقاب؟» ..
إن الرد على
طلبهم آية خارقة ، أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان ، فللإيمان
دواعيه الأصيلة في النفوس ، وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس :
«قل : إن الله
يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب» ..
فالله يهدي من
ينيبون إليه. فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلا لهداه. والمفهوم إذن أن الذين
لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال ، فيضلهم الله. فهو استعداد القلب للهدى وسعيه
إليه وطلبه ، أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد ..
ثم يرسم صورة
شفيفة للقلوب المؤمنة. في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام :
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) ..
تطمئن بإحساسها
بالصلة بالله ، والأنس بجواره ، والأمن في جانبه وفي حماه. تطمئن من قلق الوحدة ،
وحيرة الطريق. بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير. وتطمئن بالشعور بالحماية
من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء ، مع الرضى بالابتلاء والصبر على
البلاء. وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة :
(أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ..
ذلك الاطمئنان
بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم
، فاتصلت بالله. يعرفونها ، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم
يعرفوها ، لأنها لا تنقل بالكلمات ، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى
بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام ، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا
بلا أنيس. فكل ما حوله صديق ، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على
وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله. ليس أشقى ممن ينطلق في هذه
الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون ، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه
بما حوله في الله خالق الكون. ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم
يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه
لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود.
ليس أشقى في
الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة ، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر
ولا هاد ولا معين.
وإن هناك
للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله ، مطمئنا إلى حماه
، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد .. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا
كله ، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله :
(أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ..
هؤلاء المنيبون
إلى الله ، المطمئنون بذكر الله ، يحسن الله مآبهم عنده ، كما أحسنوا الإنابة إليه
وكما أحسنوا العمل في الحياة :
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ..
طوبى (على وزن
كبرى من طاب يطيب) للتفخيم والتعظيم. وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في
الحياة ..
أما أولئك
الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق
والمعجزات. ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريبا ،
فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل. فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك
ولتتوكل على الله :
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ
فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ، لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ. قُلْ : هُوَ رَبِّي لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) ..
والعجيب أنهم
يكفرون بالرحمن ، العظيم الرحمة ، الذي تطمئن القلوب بذكره ، واستشعار رحمته
الكبرى. وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك ، فلهذا أرسلناك. فإن يكفروا
فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده ، وأنك تائب إليه وراجع ، لا تتجه إلى أحد
سواه.
وإنما أرسلناك
لتتلو عليهم هذا القرآن. هذا القرآن العجيب ، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به
الجبال أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص
والمؤثرات ، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات. ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء.
فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله
للمكذبين :
«ولو أن قرآنا
سيرت به الجبال ، أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى. بل لله الأمر جميعا. أفلم
ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم
بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف
الميعاد» ..
ولقد صنع هذا
القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء
الموتى. لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار
الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته. فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض
، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟!
وإن طبيعة هذا
القرآن ذاتها. طبيعته في دعوته وفي تعبيره. طبيعته في موضوعه وفي أدائه. طبيعته في
حقيقته وفي تأثيره .. إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل
من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به. والذين
تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال ؛ وقطعوا
ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من
الموتى. وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. والتحول الذي تم في نفوس
العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب
ومنهجه في النفوس والحياة ، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن
جمودها ، وتحول الموتى عن الموات!
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ
جَمِيعاً) ..
وهو الذي يختار
نوع الحركة وأداتها في كل حال.
فإذا كان قوم
بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا
من القوم ؛ وأن يدعوا الأمر لله ، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، فلهدى
الناس جميعا على نحو
خلقة الملائكة لو كان يريد. أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه .. ولكن لم
يرد هذا ولا ذاك. لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلقته
على هذا النحو الذي كان.
فليدعوهم إذن
لأمر الله. وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام
قبلهم ، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب ، وتهلك من
كتب عليه منهم الهلاك.
«أو تحل قريبا
من دارهم» ..
فتروعهم وتدعهم
في قلق وانتظار لمثلها ؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها.
«حتى يأتي وعد
الله» ..
الذي أعطاهم
إياه ، وأمهلهم إلى انتهاء أجله :
(إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ..
فهو آت لا ريب
فيه ، فملاقون فيه ما وعدوه.
والأمثلة حاضرة
، وفي مصارع الغابرين عبرة ، بعد الإنظار والإمهال :
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ،
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟).
وهو سؤال لا
يحتاج إلى جواب. فلقد كان عقابا تتحدث به الأجيال!!!
* * *
والقضية
الثانية هي قضية الشركاء. وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك. وهي تثار هنا
في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس ، المجازي لها بما
كسبت في الحياة. وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية
في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة. وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام!
«أفمن هو قائم
على كل نفس بما كسبت؟ وجعلوا لله شركاء. قل : سموهم. أم تنبئونه بما لا يعلم في
الأرض؟ أم بظاهر من القول؟ بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل
الله فما له من هاد. لهم عذاب في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشق ، وما لهم من
الله من واق ..
(مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها. تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) ..
والله سبحانه
رقيب على كل نفس ، مسيطر عليها في كل حال ، عالم بما كسبت في السر والجهر. ولكن
التعبير القرآني المصوّر يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية ـ على طريقة
القرآن ـ صورة ترتعد لها الفرائص :
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ..
فلتتصور كل نفس
أن عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا يحاسبها بما كسبت. ومن؟ إنه الله! فأية
نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق ، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري
الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات.
أفذلك كذلك؟ ثم يجعلون لله شركاء؟! هنا يبدو تصرفهم مستنكرا مستغربا في ظل
هذا المشهد الشاخص المرهوب.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ) ..
الله القائم على
كل نفس بما كسبت ، لا تفلت منه ولا تروغ.
«قل : سموهم»!
فإنهم نكرات مجهولة. وقد تكون لهم أسماء. ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات
التي لا تعرف أسماؤها.
«أم تنبئونه
بما لا يعلم في الأرض؟» .. يا للتهكم! أم إنكم أنتم البشر تعلمون ما لا يعلمه الله؟
فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض ، وغاب هذا عن علم الله؟! إنها دعوى لا يجرؤون على
تصورها. ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال ، حين يقول الله أن ليست هناك آلهة ،
فيدعون وجودها وقد نفاه الله!
«أم بظاهر من
القول؟».
تدعون وجودها
بكلام سطحي ليس وراءه مدلول. وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها
الناس بظاهر من القول؟!
وينتهي هذا
التهكم بالتقرير الجاد الفاصل :
(بَلْ زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ..
فالمسألة إذن
أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى ، فحقت
عليهم سنة الله ، وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب ، وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة
حسن وجميل ، فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم. ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه
سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد ، لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على
العباد.
والنهاية
الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب :
(لَهُمْ عَذابٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا).
إن أصابتهم
قارعة فيها ، وإن حلت قريبا من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع. وإلا فجفاف القلب
من بشاشة الإيمان عذاب ، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب. ومواجهة كل حادث
بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب ...
(وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَقُّ) ..
ويتركه هنا بلا
تحديد للتصور والتخيل بلا حدود.
(وَما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ).
يحميهم من أخذه
، ومن نكاله. فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله بهم من عذاب ..
وعلى الضفة
الأخرى «المتقون» .. في مقابل (وَما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ). المتقون الذين وقوا أنفسهم بالإيمان والصلاح فهم في
مأمن من العذاب. بل لهم فوق الأمن الجنة التي وعدوها : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) فهو المتاع والاسترواح ـ ومشهد الظل الدائم والثمر
الدائم مشهد تطمئن له النفس وتستريح ـ في مقابل المشقة هناك :
ذلك العذاب
وهذه الجنة هما النهاية الطبيعية لهؤلاء وهؤلاء :
(تِلْكَ عُقْبَى
الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) ..
* * *
ويمضي السياق
مع قضية الوحي وقضية التوحيد معا يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله ،
وهو المرجع الأخير ، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل
كافة ؛ ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته. فليقف عند ما أنزل عليه ، لا
يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة. أما الذين يطلبون منه آية ،
فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ.
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ. قُلْ : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا
أُشْرِكَ بِهِ ، إِلَيْهِ أَدْعُوا ، وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ
حُكْماً عَرَبِيًّا ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ، وَما كانَ
لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ.
يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ، وَيُثْبِتُ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وَإِنْ ما
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما
عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ..
إن الفريق
الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه ، ويجد في هذا القرآن مصداق القواعد
الأساسية في عقيدة التوحيد ؛ كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها ،
ودرسها مع الإكبار والتقدير ، وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله
جميعا. فمن ثم يفرحون ويؤمنون. والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية
وهو فرح الالتقاء على الحق ، وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد
له ..
«ومن الأحزاب
من ينكر بعضه» ..
الأحزاب من أهل
الكتاب والمشركين .. ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه ، لأنه الغرض هو ذكر
هذا الإنكار للرد عليه :
(قُلْ : إِنَّما
أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ. إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ
مَآبِ) ..
فله وحده
العبادة ، وإليه وحده الدعوة ، وله وحده المآب.
وقد أمر الرسول
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب ، وهو استمساكه الكامل بكامل
الكتاب الذي أنزل إليه من ربه ، سواء فرح به أهل الكتاب كله ، أم أنكر فريق منهم
بعضه.
ذلك أن ما أنزل
إليه هو الحكم الأخير ، نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماما ، وإليه يرجع ما دام
هو حكم الله الأخير في العقيدة :
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) ..
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا واقٍ) ..
فالذي جاءك هو
العلم اليقين ، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين. وهذا التهديد
الموجه إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أبلغ في تقرير هذه الحقيقة ؛ التي لا تسامح في الانحراف عنها ، حتى ولو
كان من الرسول ، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هناك
اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشرا :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً).
وإذا كان
الاعتراض بأنه لم يأت بخارقة مادية ، فذلك ليس من شأنه إنما هو شأن الله :
(وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ..
وفق ما تقتضيه
حكمته وعند ما يشاء.
وإذا كان هناك
خلاف جزئي بين ما أنزل على الرسول وما عليه أهل الكتاب ، فإن لكل فترة كتابا ،
وهذا هو الكتاب الأخير :
(لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ. يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ..
فما انقضت
حكمته يمحوه ، وما هو نافع يثبته. وعنده أصل الكتاب ، المتضمن لكل ما يثبته وما
يمحوه. فعنه صدر الكتاب كله ، وهو المتصرف فيه ، حسبما تقتضي حكمته ، ولا راد
لمشيئته ولا اعتراض.
وسواء أخذهم
الله في حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بشيء مما أوعدهم ، أو توفاه إليه قبل ذلك ، فإن هذا لا يغير من الأمر
شيئا ، ولا يبدل من طبيعة الرسالة وطبيعة الألوهية :
(وَإِنْ ما
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما
عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ..
وفي هذا
التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة .. إن الدعاة إلى الله
ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها ؛ وليس عليهم أن يبلغوا بها
إلا ما يشاؤه الله. كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة ، ولا أن يشعروا
بالفشل والخيبة ، إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض ،
إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة.
* * *
وإن يد الله
القوية لبادية الآثار فيما حولهم ، فهي تأتي الأمم القوية الغنية ـ حين تبطر وتكفر
وتفسد ـ فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها ؛ وتحصرها في رقعة من
الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد ، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا
معقب لحكمه ، ولا بد له من النفاذ :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها! وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ..
وليسوا هم بأشد
مكرا ولا تدبيرا ولا كيدا ممن كان قبلهم. فأخذهم الله وهو أحكم تدبيرا وأعظم كيدا
:
(وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) ..
ويختم السورة
بحكاية إنكار الكفار للرسالة. وقد بدأها بإثبات الرسالة. فيلتقي البدء والختام.
ويشهد الله مكتفيا بشهادته. وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا : لَسْتَ مُرْسَلاً. قُلْ : كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) .
* * *
__________________
وتنتهي السورة
وقد طوفت بالقلب البشري في أرجاء الكون ، وأرجاء النفس ، ووقعت عليه إيقاعات مطردة
مؤثرة عميقة. وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام
، والتي يحسم بها كل جدل ، وينتهي بعدها كل كلام ..
* * *
وبعد .. ففي
السورة معالم للعقيدة الإسلامية ، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة .. وكان من
حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها ؛ لو لا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق
القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات ؛ وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين!
وقد أشرنا في
أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة ؛ فنرجو أن نقف
عندها الآن وقفات أطول بقدر المستطاع.
.. والله
المستعان ..
* * *
إن افتتاح
السورة ، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها ، وكثيرا من التوجيهات فيها .. كل أولئك
يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية ـ وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات
والمصاحف ـ وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين ؛
كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واستعجال العذاب الذي ينذرهم به ؛ مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه ، في وجه المعارضة والإعراض ،
والتكذيب والتحدي ؛ والاستعلاء بهذا الحق ، والالتجاء إلى الله وحده ؛ وإعلان
وحدانيته إلها وربا ؛ والثبات على هذه الحقيقة ؛ والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق ،
مهما كذب بها المشركون. كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله
، وفي أنفسهم ، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك ؛ مع حشد جميع هذه المؤثرات
ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطابا مؤثرا موحيا عميق الإيقاع قوي الدلالة.
وهذه نماذج من
التوكيدات على أن هذا الكتاب هو وحده الحق ؛ وأن الإعراض عنه ، والتكذيب به ،
والتحدي ، وبطء الاستجابة ، وو عورة الطريق .. كلها لا تغير شيئا من تلك الحقيقة
الكبيرة :
* (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ، وَالَّذِي
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ).
* (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ
قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ، وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ
الْعِقابِ. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ
رَبِّهِ! إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).
* (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ، وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ، إِلَّا كَباسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ، وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).
* (... كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ
وَالْباطِلَ. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ..
__________________
* (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) ..
* (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ : إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللهِ. أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ..
* (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ. قُلْ : هُوَ رَبِّي ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ،
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ مَتابِ) ..
* (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ.
قُلْ : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ، إِلَيْهِ
أَدْعُوا ، وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ
اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ..
* (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا
الْحِسابُ) ..
* (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَسْتَ
مُرْسَلاً. قُلْ : كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) ..
وهكذا نلمس في
هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويتحدون بها هذا القرآن ؛ ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني
إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي.
ومن اللمحات
البارزة في التوجيه الرباني لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يجهر ـ في مواجهة الإعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة
الطريق ـ بالحق الذي معه كاملا ؛ وهو أنه لا إله إلا الله ، ولا رب إلا الله ، ولا
معبود إلا الله ، وأن الله هو الواحد القهار ، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى
جنة وإما إلى نار .. وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها
.. وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه!
مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من
العلم! ..
وهذه اللمحة
البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم
الاجتهاد فيها! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين ، وألا
يخفوا منها شيئا ، وألا يؤجلوا منها شيئا .. وفي مقدمة هذه الحقائق : أنه لا
ألوهية ولا ربوبية إلا لله. ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا
لله .. فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أيا كانت المعارضة والتحدي ؛ وأيا كان
الإعراض من المكذبين والتولي ؛ وأيا كان وعورة الطريق وأخطارها كذلك .. وليس من «الحمكة
والموعظة الحسنة» إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله ، لأن الطواغيت في الأرض
يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين ، أو يكيدون له
وللدعاة إليه! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئا من
حقائقه الأساسية أو يؤجلونه ؛ ولا أن يبدأوا مثلا من الشعائر والأخلاق والسلوك
والتهذيب الروحي ، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية
والربوبية ، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده!
إن هذا لهو
منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه ؛ ومنهج الدعوة إلى الله كما سار
بها سيدنا محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بتوجيه من ربه .. فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق ؛ وليس له أن
ينهج غير ذلك المنهج .. والله ـ بعد ذلك ـ متكفل بدينه ، وهو حسب الدعاة إلى هذا
الدين وكافيهم شر الطواغيت!
* * *
والمنهج
القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلوّ ـ وهو هذا القرآن ـ وبين
كتاب الكون المفتوح ؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية ؛ بما فيه
من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره. كما يضم إلى هذين الكتابين سجل
التاريخ البشري ، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضا.
ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعا ؛ وهو يخاطب حسها
وقلبها وعقلها جميعا!
وهذه السورة
تحوي الكثير من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني ـ عقب الكتاب القرآني ـ
في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها .. وهذه بعض هذه النماذج :
* (المر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.
وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يُؤْمِنُونَ.) * (اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ؛ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ؛
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً ، وَمِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ ، وَنَخِيلٌ ـ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ ـ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..
يحشد السياق
هذه المشاهد الكونية ، ليحيل الكون كله شاهدا ناطقا بسلطان الله ـ سبحانه ـ في
الخلق والإنشاء ، والتقدير والتدبير. ثم يعجّب من أمر قوم يرون هذه الشواهد كلها ،
ثم يستكثرون قضية البعث والنشأة الأخرى ، ويكذبون بالوحي من أجل أنه يقرر هذه
الحقيقة القريبة .. القريبة في ظل تلك المشاهد العجيبة ..
* (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ : أَإِذا
كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
* (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ
بِها مَنْ يَشاءُ ...) ..
يعرض هذه
الصفحة من الوجود الكوني ليعجّب من أمر قوم يجادلون في الله ويشركون به ، وهم
يشاهدون آثار ربوبيته وقدرته وسلطانه ، ودينونة الكون له ، وتصريفه وتدبيره لأمر
العباد فيه ؛ وعجز كل من عداه ـ سبحانه ـ عن الخلق والتدبير والتقدير :
* (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ ، وَهُوَ
شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ
لِيَبْلُغَ فاهُ ـ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ـ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ،
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ .. قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ؟ قُلِ : اللهُ. قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ : اللهُ
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).
وهكذا يستحيل
الكون معرضا باهرا لدلائل القدرة وموحيات الإيمان ، يخاطب الفطرة بالمنطق الشامل
العميق ؛ ويخاطب الكينونة البشرية جملة ، بكل ما فيها من قوى الإدراك الباطنة
والظاهرة ، في تناسق عجيب.
ثم يضيف إلى
صفحات الكتاب الكوني ، صفحات التاريخ الإنساني ؛ ويعرض آثار القدرة والسلطان
والهيمنة والقهر والتقدير والتدبير في حياة الإنسان :
* (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ
قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ!).
* (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ
أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ
بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ
مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ
بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ ـ يَحْفَظُونَهُ ـ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ
سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ..
* (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
وَيَقْدِرُ ، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) ..
* (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى
يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ ، إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟).
* (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي
الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ).
* (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ،
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ!).
وهكذا يحشد
المنهج القرآني هذه الشواهد والدلائل في التاريخ البشري ؛ ويحيلها إلى مؤثرات
وموحيات ، تخاطب الكينونة البشرية بجملتها في تناسق واتساق.
ونقف من هذا
الحشد على معلم من معالم هذا المنهج في الدعوة إلى الله ـ على بصيرة ـ دعوة تخاطب
الكينونة البشرية بجملتها ، ولا تخاطب فيها جانبا واحدا من قواها المدركة .. جانب
الفكر والذهن ، أو جانب الإلهام والبصيرة ، أو جانب الحس والشعور ..
وهذا القرآن
ينبغي أن يكون هو كتاب هذه الدعوة ، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله ، قبل
الاتجاه إلى أي مصدر سواه. والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون
الناس ، وكيف يوقظون القلوب الغافية ، وكيف يحيون الأرواح الخامدة.
إن الذي أوحى
بهذا القرآن هو الله ، خالق هذا الإنسان ، العليم بطبيعة تكوينه ، الخبير بدروب
نفسه ومنحنياتها .. وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء
بتقرير ألوهية الله ـ سبحانه ـ وربوبيته وحاكميته وسلطانه ؛ فإنهم كذلك يجب أن
يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق ـ على ذلك النحو ـ كيما
تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده ، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه ..
* * *
ولتعريف الناس
بربهم الحق ، ونفي كل شبهة شرك ، يعني المنهج القرآني ببيان طبيعة الرسالة ،
وطبيعة الرسول .. ذلك أن انحرافات كثيرة في التصور الاعتقادي جاءت لأهل الكتاب من
قبل ، من جراء الخلط بين طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ـ وبخاصة في العقائد
النصرانية ـ حيث خلعت على عيسى ـ عليهالسلام ـ خصائص الألوهية وخصائص الربوبية ؛ ودخل أتباع شتى الكنائس في متاهة من
الخلافات العقيدية المذهبية بسبب ذلك الخلط المنافي للحقيقة.
ولم تكن عقائد
النصارى وحدهم هي التي دخلت في تلك المتاهة ؛ فقد خبطت شتى الوثنيات في ذلك التيه
؛ وتصورت للنبوة صفات غامضة ؛ بعضها يصل بين النبوة والسحر! وبعضها يصل بين النبوة
والتنبؤات الكشفية! وبعضها يصل بين النبوة والجن والأرواح الخفية!
وكثير من هذه
التصورات كان يخالج الوثنية العربية .. من أجل هذا كان بعضهم يطلب من الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ينبئهم بالغيب! وبعضهم كان يقترح أن يصنع لهم خوارق مادية معينة! كما
أنهم كانوا يرمونه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأنه ساحر ، وبأنه «مجنون» ـ أي على صلة بالجن! ـ وبعضهم كان يطلب أن
يكون معه ملك ... إلى آخر هذه المقترحات والتحديات والاتهامات التي كانت متلبسة
بالتصورات الوثنية عن طبيعة النبي وطبيعة النبوة!
ولقد جاء هذا
القرآن ليجلي الحقيقة كاملة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي ؛ وعن طبيعة الرسالة
وطبيعة الرسول ؛ وعن حقيقة الألوهية المتمثلة في الله وحده ـ سبحانه ـ وحقيقة
العبودية التي تشمل كل ما خلق الله وكل من خلق ؛ ومنهم أنبياء الله ورسله ؛ فهم
عباد صالحون ؛ وليسوا خلقا آخر غير البشر ؛ وليس لهم من خصائص الألوهية شيء ؛
وليسوا على اتصال بعوالم الجن والخفاء المسحور ؛ إنما هو الوحي من الله ـ سبحانه ـ
وليس لهم وراءه شيء من القدرة على الخوارق ـ إلا بإذن الله حين يشاء ـ فهم بشر من
البشر ، وقع عليهم الاختيار ، وبقيت لهم بشريتهم وعبوديتهم لله ـ سبحانه ـ كبقية
خلق الله.
وفي هذه السورة
نماذج من تجلية طبيعة النبوة والرسالة ؛ وحدود النبي والرسول ؛ وتخليص العقول
والأفكار من رواسب الوثنيات كلها ؛ وتحريرها من تلك الأساطير التي أفسدت عقائد أهل
الكتاب من قبل ؛ وردتها إلى الوثنية بأوهامها وأساطيرها!
وقد كانت تلك
التجلية تواجه تحديات المشركين الواقعية ؛ ولم تكن جدلا ذهنيا ، ولا بحثا فلسفيا «ميتافيزيقيا»
... كانت «حركة» تواجه «الواقع» وتجاهده مجاهدة واقعية :
* (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ
قَوْمٍ هادٍ) ..
* (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ : إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ..
* (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ، قُلْ : هُوَ رَبِّي ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ،
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ مَتابِ) ..
* (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ..
* (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا
الْحِسابُ) ..
وهكذا تتجلى
طبيعة الرسالة وحدود الرسول .. إنما هو منذر ، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن
يتلو ما أوحي إليه ، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله. ثم هو عبد لله ،
الله ربه ، وإليه متابه ومآبه ؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل ؛ ويزاول بشريته
كاملة بكل مقتضيات البشرية ؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية ..
وبهذه النصاعة
الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهوّمة في الفضاء
والظلام ، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي ، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة
التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية ؛ والتي قضت على «المسيحية»
منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها ، بعد ما
كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليهالسلام ؛ تجعل المسيح عبد الله ؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله.
ولا ننتهي من
هذه الوقفة قبل أن نلم بتلك اللفتة البارزة في قوله تعالى :
(وَإِنْ ما
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ..
إن هذا القول إنما
يقال للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الرسول الذي أوحي إليه من ربه. وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة .. وخلاصة
هذا القول : إن أمر هذا الدين ليس إليه هو ، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما
عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس. فالله وحده هو الذي يملك الهداية. وسواء حقق
الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله ، فهذا أو ذاك
لا يغير من طبيعة مهمته .. البلاغ .. وحسابهم بعد ذلك على الله .. وليس بعد هذا
تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته. فواجبه محدد ، والأمر كله في هذه الدعوة وفي
كل شيء آخر لله.
بذلك يتعلم
الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر
.. ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس ، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين
وللمكذبين .. ليس لهم أن يقولوا : لقد دعونا كثيرا فلم يستجب لنا إلا القليل ؛ أو لقد
صبرنا طويلا فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! .. إن عليهم إلا البلاغ ..
أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد. إنما هو من شأن
الله! فينبغي ـ تأدبا في حق الله واعترافا بالعبودية له ـ أن يترك له سبحانه ،
يفعل فيه ما يشاء ويختار ..
والسورة مكية
.. من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «بالبلاغ» .. ذلك أن «الجهاد» لم يكن بعد قد كتب. فأما بعد ذلك فقد أمر
بالجهاد ـ بعد البلاغ ـ وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين.
فالنصوص فيه نصوص حركية ؛ مواكبة لحركة الدعوة وواقعها ؛ وموجهة كذلك لحركة الدعوة
وواقعها .. وهذا ما تغفل عنه كثرة «الباحثين» في هذا الدين في هذا الزمان. وهم
يزاولون «البحث» ولا يزاولون «الحركة» فلا يدركون ـ من ثم ـ مواقع النصوص القرآنية
، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين!
وكثيرون يقرأون
مثل هذا النص : (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند
البلاغ. فإذا قاموا «بالتبليغ» فقد أدوا ما عليهم! .. أما «الجهاد»! فلا أدري ـ والله
ـ أين مكانه في تصور هؤلاء!
كما أن كثيرين
يقرأون مثل هذا النص ، فلا يلغون به الجهاد ، ولكن يقيدونه! .. دون أن يفطنوا إلى
أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد. ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية
بحركة الدعوة الإسلامية. ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين ؛ إنما هم
يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون! وهذا الدين لا يفقهه القاعدون. فما هو بدين
القاعدين!
على أن «البلاغ»
يظل هو قاعدة عمل الرسول ، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين. وهذا البلاغ هو
أول مراتب الجهاد. فإنه متى صح ، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين
قبل الحقائق الفرعية .. أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله
وحده منذ الخطوة الأولى ؛ واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده ، وقصر دينونتهم عليه
وخلع الدينونة لغيره .. فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله ، المبلغين
التبليغ الصحيح ، بالإعراض والتحدي ، ثم بالإيذاء والمكافحة ... ومن ثم تجيء مرحلة
الجهاد في حينها ،
نتاجا طبيعيا للتبليغ الصحيح لا محالة : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً
وَنَصِيراً) ..
هذا هو الطريق
... وليس هنالك غيره من طريق!
* * *
ثم نقف من
السورة أمام معلم آخر ، وهي تقرر كلمة الفصل في العلاقة بين اتجاه «الإنسان»
وحركته وبين تحديد مآله ومصيره ؛ وتقرير أن مشيئة الله به إنما تتحقق من خلال
حركته بنفسه ؛ وذلك مع تقرير أن كل حدث إنما يقع ويتحقق بقدر من الله خاص ..
ومجموعة النصوص الخاصة بهذا الموضوع في السورة كافية بذاتها لجلاء النظرة
الإسلامية في هذه القضية الخطيرة .. وهذه نماذج منها كافية :
* (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً
فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ..
* (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنى ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ، أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ
الْحِسابِ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ..
* (قُلْ : إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ..
* (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً؟!) ..
* (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
هادٍ) ..
وواضح من النص
الأول من هذه النصوص أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة
هؤلاء القوم بأنفسهم ، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييرا شعوريا وعمليا. فإذا غير
القوم ما بأنفسهم اتجاها وعملا غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم .. فإذا
اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد ، ولم يعصمهم من الله
شيء ، ولم يجدوا لهم من دونه وليا ولا نصيرا.
فأما إذا هم
استجابوا لربهم ، وغيروا ما بأنفسهم بهذه الاستجابة ، فإن الله يريد بهم الحسنى ،
ويحقق لهم هذه الحسنى في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا ، فإذا لم يستجيبوا
أراد بهم السوء ، وكان لهم سوء الحساب ، ولم تغن عنهم فدية إذا جاءوه ـ غير
مستجيبين ـ يوم الحساب!
وواضح من النص
الثاني أن الاستجابة أو عدم الاستجابة راجعة إلى اتجاههم وحركتهم ؛ وأن مشيئة الله
بهم إنما تتحقق من خلال هذه الحركة وذلك الاتجاه.
أما النص
الثالث فإن مطلعه يتحدث عن طلاقة مشيئة الله في إضلال من يشاء. ولكن عقب النص : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ... إلخ» يقرر أن الله ـ سبحانه ـ يقضي بالهدى لمن ينيب
إليه ؛ فيدل هذا على أنه إنما يضل من لا ينيب ومن لا يستجيب ، ولا يضل منيبا ولا
مستجيبا. وذلك وفق وعده سبحانه في قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). فهذه الهداية وذلك الإضلال هما مقتضى مشيئته سبحانه
بالعباد. هذه المشيئة التي تجري وتتحقق من خلال تغيير العباد ما بأنفسهم ،
والاتجاه إلى الاستجابة أو الإعراض.
والنص الرابع
يقرر أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا .. وفي ظل مجموع النصوص يتضح أن المقصود هو
أنه لو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، أو لقهرهم على الهدى. ولكنه ـ
سبحانه ـ شاء أن
يخلقهم كما خلقهم مستعدين للهدى أو للضلال ؛ ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على
الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال ـ حاشاه! ـ إنما جعل مشيئته بهم تجري من خلال
استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان.
أما النص
الخامس فيقرر أن الذين كفروا زين لهم مكرهم وصدوا عن السبيل .. وأخذ أمثال هذا
النص بمفرده هو الذي ساق إلى الجدل المعروف في تاريخ الفكر الإسلامي حول الجبر
والاختيار .. أما أخذه مع مجموعة النصوص ـ كما رأينا ـ فإنه يعطي التصور الشامل :
وهو أن هذا التزيين وهذا الصد عن السبيل ، إنما كان من جراء الكفر وعدم الاستجابة
لله. أي من جراء تغيير الكفار ما بأنفسهم إلى ما يقتضي أن تجري مشيئة الله فيهم
بالتزيين والصد والإضلال.
وتبقى تكملة لا
بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل .. ذلك أن اتجاه
الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم. فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله
؛ وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص ؛ تتحقق به
إرادته وتتم به مشيئته : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) .. وليست هنالك آلية في نظام الكون كله ، ولا حتمية
أسباب تنشئ بذاتها آثارا. فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر .. وكل ما يصنعه اتجاه
الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة الله بهم من خلال هذا الاتجاه ، أما جريان هذه المشيئة
وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من الله خاص بكل حادث : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ).
وهذا التصور ـ كما
أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة ـ يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا
الكائن الإنساني ؛ بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله. فهو وحده المخلوق
الذي تجري مشيئة الله به من خلال اتجاهه وحركته .. وما أثقلها من تبعة! وما أعظمها
كذلك من كرامة!
* * *
وفي السورة
كلمة الفصل كذلك في دلالة الكفر وعدم الاستجابة لهذا الحق الذي جاء به هذا الدين ،
على فساد الكينونة البشرية ، وتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية فيها ، واختلال
طبيعتها وخروجها عن سوائها. فما يمكن أن تكون هناك بنية إنسانية سوية ، غير مطموسة
ولا معطلة ولا مشوهة ؛ ثم يعرض عليها هذا الحق ، ويبين لها بالصورة التي بينها
المنهج القرآني ؛ ثم لا تستجيب لهذا الحق بالإيمان والإسلام. والفطرة الإنسانية
بطبيعتها مصطلحة على هذا الحق في أعماقها ؛ فإذا صدت عنه فإنما يصدها صاحبها لآفة
فيه تجعله يختار لنفسه غير هذا الهدى ؛ وتجعله بذلك مستحقا للضلال ، ومستحقا
للعذاب ، كما قال الله سبحانه في السورة الأخرى ؛ (سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ،
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ..
وفي هذه السورة
ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمى وانطماس بصيرة ، وأن
الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى ، ودلالة على سلامة القوى
المدركة فيها ؛ وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون
ولمن يعقلون :
* (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ
__________________
اللهِ
وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ
صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ ، أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ...) ..
* (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ : إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ،
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ..
* (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ
أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..
وهكذا يتقرر أن
الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم ـ بشهادة الله سبحانه ـ عمي. وأنهم لا يتفكرون ولا
يعقلون. وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب ، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله ،
وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة ، فتسكن وتستريح.
وإن الإنسان
ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضا عن هذا الحق الذي تضمنه
دين الله ، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله .. فإن هي إلا جبلات
مؤوفة مطموسة. وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا
الوجود كله من حولها ، وهو يسبح بحمد ربه ؛ وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره
وتقديره.
وإذا كان الذين
لا يؤمنون بهذا الحق عميا ـ بشهادة الله سبحانه ـ فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه
يؤمن برسول الله ، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله .. لا ينبغي لمسلم يزعم
هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى! وبخاصة إذا كان هذا الشأن
متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان ؛ أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها
حياته ؛ أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه ..
وهذا هو موقفنا
من نتاج الفكر ـ غير الإسلامي ـ بجملته ـ فيما عدا العلوم المادية البحتة
وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بقوله : «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله
ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله ، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي
إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق .. فهو أعمى بشهادة الله سبحانه ..
ولن يرد شهادة الله مسلم .. ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم!!!
إنه لا بد لنا
أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد ؛ وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم .. وكل تميع في
مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها ؛ إن لم يكن هو رد شهادة الله ـ سبحانه ـ
وهو الكفر البواح في هذه الصورة!
وأعجب العجب أن
ناسا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون ؛ ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن
فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه : إنهم عمي. ثم يظلون يزعمون بعد ذلك
أنهم مسلمون!
إن هذا الدين
جد لا يحتمل الهزل ، وجزم لا يحتمل التميع ، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة ..
فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين
عنه. والله غني عن العالمين !
وما يجوز أن
يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم ، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته ؛ وهو
يعلم أن ما جاءه به محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هو الحق ؛ وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق «أعمى». ثم يتبع هذا الأعمى ،
ويتلقى عنه ، بعد شهادة الله سبحانه وتعالى ..
* * *
وأخيرا نقف
أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين ..
إن هناك علاقة
وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي
جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير. فالذين لا يستجيبون لعهد
الله على الفطرة ، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق ..
هم الذين يفسدون في الأرض ؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين
يصلحون في الأرض ، وتزكو بهم الحياة :
* (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً ، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ، أُولئِكَ لَهُمْ
عُقْبَى الدَّارِ ...) ..
* (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ،
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ) ..
إن حياة الناس
لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى
محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هو الحق. ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته
، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره
ونهيه. ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما
نهى عنه وما يغضبه ؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة
وكل حركة ؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ؛
ويقيمون الصلاة ؛ وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ؛ ويدفعون السوء والفساد في
الأرض بالصلاح والإحسان ..
إن حياة الناس
في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة ؛ التي تسير على هدى الله وحده ؛
والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه .. إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء
، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هو الحق وحده ؛ والتي تتبع ـ من ثم ـ مناهج أخرى غير منهج الله الذي
ارتضاه للصالحين من عباده .. إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا
تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! .. إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون
أن ما أنزل على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه .. إنها لا
تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في
كونها من مناهج العمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله ، تضع
__________________
هي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله ؛ وتعبدهم
لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله ..
وآية هذا الذي
نقوله ـ استمداد من النص القرآني ـ هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم
في جاهلية القرن العشرين. وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق
الأرض ومغاربها .. سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية
والاشتراكية العلمية! .. وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية!
.. إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن
قلق .. لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه
هو الحق وحده ؛ ولا تلتزم ـ من ثم ـ بعهد الله وشرعه ؛ ولا تستقيم في حياتها على
منهجه وهديه.
إن المسلم يرفض
ـ بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق ـ كل منهج للحياة غير
منهج الله ؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ؛ وكل وضع كذلك سياسي ، غير المنهج
الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من
عباده.
ومجرد الاعتراف
بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله
؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه.
إن هذا
الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم
الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر
الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض .. فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط
بقيادة العمي! ..
ولقد شقيت
البشرية في تاريخها كله ؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع
بقيادة أولئك العمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين
على مدار القرون. فلم تسعد قط ؛ ولم ترتفع «إنسانيتها» قط ، ولم تكن في مستوى
الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت
فيها إلى ذلك المنهج القويم .
* * *
هذه بعض
المعالم البارزة في هذه السورة ، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها ،
ولكنها تشير إليها.
والحمد لله
الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ..
__________________
(١٤) سورة إبراهيم مكيّة
وآياتها ثنتان وخمسون
بسم الله الرّحمن الرّحيم
هذه السورة ـ سورة
إبراهيم ـ مكية ، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب : العقيدة في
أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء.
ولكن السياق في
السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة. نهجا مفردا يميزها
ـ كالشأن في كل سورة قرآنية ـ عن السور غيرها. يميزها بجوها وطريقة أدائها ،
والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى. ولون هذه الحقائق التي قد
لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ؛ ولكنها تعرض من زاوية خاصة ، في
أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها ، فتزيد
أطرافا وتنقص أطرافا ، فيحسها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد في «اللقطات
الفنية». ونحن نستعمل هذا التعبير «اللقطات الفنية» لأنه يلاحظ في صورته المعجزة
في طريقة الأداء القرآنية!
ويبدو أنه كان
لجو السورة من اسمها نصيب .. إبراهيم .. أبو الأنبياء .. المبارك ، الشاكر الأواه
المنيب. وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة ، وفي الحقائق
التي تبرزها ، وفي طريقة الأداء ، وفي التعبير والإيقاع.
ولقد تضمنت
السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة. ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها.
وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة : حقيقة وحدة الرسالة
والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله
على اختلاف الأمكنة والأزمان. وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ؛
ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران ..
وبروز هاتين
الحقيقتين ، أو هذين الظلين. لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة. ولكن
هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة. وهذا ما أردنا الإشارة إليه :
تبدأ السورة
ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب .. فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور
بإذن الله :
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وتختم بهذا
المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة. حقيقة التوحيد :
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ).
وفي أثنائها
يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولمثل ما أرسل به ، حتى في ألفاظ التعبير :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ..
ويذكر كذلك أن
وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ..
وتتضمن إلى
جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية ، وهي التي تحدد وظيفته. فهو مبلّغ ومنذر
وناصح ومبين. ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن الله ، وحين يشاء الله ، لا
حين يشاء هو أو قومه ؛ ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم ، فالهدى والضلال
متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة.
ولقد كانت
بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم ، والسورة هنا تحكي
قولهم مجتمعين :
(قالُوا : إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ
آباؤُنا ، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).
وتحكي رد رسلهم
كذلك مجتمعين :
(قالَتْ لَهُمْ
رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ. وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
ويتضمن السياق
كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) .. وكل رسول يبين لقومه (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وبهذا وذلك
تتحدد حقيقة الرسول ، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة ، ولا تشتبه حقيقة الرسل
البشرية وصفاتهم ، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرد توحيد الله
بلا ظل من مماثلة أو مشابهة.
كذلك تتضمن
السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا. تحقق ذلك الوعد في الدنيا
بالنصر والاستخلاف ، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
يصور السياق
هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا
:
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ،
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ
وَعِيدِ .. وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ..).
ويصورها في
مشاهد القيامة في الآخرة :
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ..
(وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ..
ويصورها في
الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء :
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ؛
وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ
مِنْ
فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ
اللهُ الظَّالِمِينَ ، وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ..
(مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عاصِفٍ ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) ..
* * *
فأما الحقيقتان
اللتان تظللان جو السورة ، وتتسقان مع ظل إبراهيم : أبي الأنبياء. الشكور الأواه
المنيب ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في
مواجهة الجاهلية المكذبة. وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم
بصفة خاصة .. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة
الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور
الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ، فيقول كلمته لقومه ويمضي ،
ثم يجيء رسول ورسول. كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب
المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في
يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد ، كالشريط المتحرك منذ
الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة
إبراهيم ـ أبي الأنبياء ـ فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف.
وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا ، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم
الحساب!
ونبصر فنشهد
أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان
والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون ـ حقيقة الإيمان والكفر ـ
فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان :
«ألم يأتكم نبأ
الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود. والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله. جاءتهم
رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ،
وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب. قالت رسلهم : أفي الله شك فاطر السماوات
والأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى؟ قالوا : إن أنتم إلا
بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين. قالت لهم
رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا
أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل
على الله وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا. وعلى الله فليتوكل
المتوكلون. وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا.
فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف
وعيد.
(وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ
صَدِيدٍ ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ
كُلِّ مَكانٍ ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) ..
فها هنا تتجمع
الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ؛ ويتلاشى الزمان والمكان ؛ وتبرز الحقيقة الكبرى
: حقيقة الرسالة وهي واحدة. واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة. وحقيقة نصر الله
للمؤمنين وهي واحدة. وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة. وحقيقة الخيبة
والخذلان للمتجبرين وهي واحدة. وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة .. وذلك
إلى التماثل بين قول الله لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).
وحكاية قوله
لموسى ـ عليهالسلام ـ :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).
ولا تنتهي
المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة.
فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة. وهذه نماذج منها :
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً ، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟
قالُوا : لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ
صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ :
إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما
كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما
أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ،
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ..
(وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) ..
(وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ ، وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ
، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) ...
وهي كلها تشير
إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ، وتكمل إحداهما الأخرى بلا
انقطاع ولا انفصال.
وتكمل الأمثال
التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين ،
ونتائجها الأخيرة : مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة ، وشجرة
الإيمان ، وشجرة الخير. والكلمة الخبيثة : كالشجرة الخبيثة : شجرة الجاهلية
والباطل والتكذيب والشر والطغيان.
* * *
وأما الحقيقة
الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله ، وتتناثر في سياقها.
يعدد الله نعمه
على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، برهم وفاجرهم ، طائعهم
وعاصيهم. وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمه في
هذه الأرض ، كالمؤمن والبار والطائع : لعلهم يشكرون. ويعرض هذه النعمة في أضخم
مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل اطار من مشاهد الوجود العظيمة :
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ؛ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ
كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها. إِنَّ
الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ..
وفي إرسال
الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها :
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ..
والنور أجلّ
نعم الله في الوجود. والنور هنا هو النور الأكبر. النور الذي يشرق به كيان الإنسان
، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه .. وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه. ووظيفة الرسل
كما بينتها السورة.
وفي قول الرسل
مجتمعين :
(يَدْعُوكُمْ
لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ..
والدعوة لأجل
الغفران نعمة تعدل نعمة النور ، وهي منه قريب ..
وفي جو الحديث
عن النعمة يذكّر موسى قومه بأنعم الله عليهم :
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).
وفي هذا الجو
يذكر وعد الله للرسل :
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) ..
وهي نعمة من
نعم الله الكثار الكبار.
ويبرز السياق
حقيقة زيادة النعمة بالشكر :
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذابِي لَشَدِيدٌ) ..
مع بيان أن
الله غني عن الشكر وعن الشاكرين :
(إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).
ويقرر السياق
أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :
(وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ..
ولكن الذين
يتدبرون آيات الله ، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء :
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
ويمثل الصبر
والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع ، وفي دعاء واجف ، عند بيت الله الحرام ، كله
حمد وشكر وصبر ودعاء.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ : رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ،
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ ، وَما يَخْفى
عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ،
رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) ..
ولأن النعمة
والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة
مع هذا الجو :
(وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ..
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ..
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ) ..
(اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) ..
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ..
وفي رد
الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء :
(وَلكِنَّ اللهَ
يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ..
فيبرز منة الله
تنسيقا للرد مع جو السورة كله. جو النعمة والمنة والشكر والكفران ..
وهكذا يتساوق
التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في
القرآن ..
* * *
وتنقسم السورة
إلى مقطعين متماسكي الحلقات :
المقطع الأول
يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول. ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة
المكذبين في الدنيا وفي الآخرة ، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة.
والمقطع الثاني
يتحدث عن نعم الله على البشر ، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا. والذين آمنوا بها
وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم. ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في
سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها ، وأحفلها بالحركة والحياة .. ليختم السورة
ختاما يتسق مع مطلعها :
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ) ..
فلنأخذ في
السير مع المقطع الأول في السياق :
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)
اللهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ
عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
وَما
أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ
اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي
لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ
تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا
يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
قالَتْ
رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ
لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا
إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ
يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ
رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما
آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا
أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)
مِنْ
وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦)
يَتَجَرَّعُهُ
وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ
بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ
فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ
الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا
لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما
لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
وَأُدْخِلَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤)
تُؤْتِي
أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)
وَمَثَلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما
لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)
(٢٧)
(الر. كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. عَلَى الْآخِرَةِ ، وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَما
أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ
اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..
ألف لام. را ..
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ) ..
هذا الكتاب
المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك. لم تنشئه أنت. أنزلناه إليك لغاية :
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ..
لتخرج هذه
البشرية من الظلمات. ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الأوضاع والتقاليد. وظلمات
الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة ، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين .. لتخرج
البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور. النور الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في
عالم الضمير وفي دنيا التفكير. ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع
والتقاليد.
والإيمان بالله
نور يشرق في القلب ، فيشرق به هذا الكيان البشري ، المركب من الطينة الغليظة ومن
نفخة روح الله. فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة ، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة
استحال طينة معتمة. طينة من لحم ودم كالبهيمة ، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة
الأرض ومادتها. لو لا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله ، يرقرقها الإيمان
ويجلوها ، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم ، ويشف بها هذا الكيان المعتم.
والإيمان بالله
نور تشرق به النفس ، فترى الطريق. ترى الطريق واضحة إلى الله ، لا يشوبها غبش ولا
يحجبها ضباب. غبش الأوهام وضباب الخرافات. أو غبش الشهوات وضباب الأطماع. ومتى رأت
الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار.
والإيمان بالله
نور تشرق به الحياة. فإذا الناس كلهم عباد متساوون. تربط بينهم آصرتهم في الله
وتتمحض دينونتهم له دون سواه ، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة. وتربطهم بالكون كله
رابطة المعرفة. معرفة الناموس المسير لهذا الكون وما فيه ومن فيه. فإذا هم في سلام
مع الكون وما فيه ومن فيه.
والإيمان بالله
نور. نور العدل. ونور الحرية. ونور المعرفة. ونور الأنس بجوار الله ، والاطمئنان
إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء. ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في
الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء.
والإيمان بالله
وحده إلها وربا ، منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور ..
منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده ، والدينونة لربوبيته وحده ، والتخلص
من ربوبيات العبيد ، والاستعلاء على حاكمية العبيد ..
وفي هذا المنهج
من المواءمة مع الفطرة البشرية ، ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، ما يملأ
الحياة سعادة ونورا وطمأنينة وراحة. كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصما من
التقلبات والتخبطات التي تتعرض لها المجتمعات التي تخضع لربوبية العبيد ، وحاكمية
العبيد ، ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع ، وفي الخلق
والسلوك ، وفي العادات والتقاليد .. وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشرية أن
تبذل في تأليه العبيد ، والطبل والزمر للطواغيت!!!
وإن وراء هذا
التعبير القصير : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ..) لآفاقا بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب.
وفي عالم الحياة والواقع ، لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير!
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ .. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ..
فليس في قدرة
الرسول إلا البلاغ ، وليس من وظيفته إلا البيان. أما إخراج الناس من الظلمات إلى
النور ، فإنما يتحقق بإذن الله ، وفق سنته التي ارتضتها مشيئته ، وما الرسول إلا
رسول!
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) .. (إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ..
فالصراط بدل من
النور. وصراط الله : طريقه ، وسنته ، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم
الحياة. والنور يهدي إلى هذا الصراط ، أو النور هو الصراط. وهو أقوى في المعنى.
فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون. هو السنة. هو الناموس. هو
الشريعة. والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطئ الإدراك ولا تخطئ التصور ولا تخطئ
السلوك. فهي على صراط مستقيم .. (صِراطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) .. مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور.
والقوة تبرز
هنا لتهديد من يكفرون ، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون .. ثم يعقبها التعريف بالله
سبحانه. إنه مالك ما في السماوات وما في الأرض ، الغني عن الناس ، المسيطر على
الكون وما فيه ومن فيه :
(اللهِ الَّذِي لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ..
فمن خرج واهتدى
فذاك. ولا يذكر عنه شيئا هنا ، إنما يمضي السياق إلى تهديد الكافرين ينذرهم بالويل
من عذاب شديد. جزاء كفرهم هذه النعمة. نعمة إرسال الرسول بالكتاب ليخرجهم من
الظلمات إلى النور. وهي النعمة الكبرى التي لا يقوم لها شكر إنسان. فكيف بالكفران
:
(وَوَيْلٌ
لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ..
ثم يكشف عن صفة
تحمل معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي يحملها رسوله الكريم :
(الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) .. (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ..
فاستحباب
الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان ؛ ويتعارض مع الاستقامة على
الصراط. وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة ، لأنه عندئذ تصلح الدنيا ، ويصبح
المتاع بها معتدلا ، ويراعى فيه وجه الله. فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة
ومتاع هذه الحياة.
إن الذين
يوجهون قلوبهم للآخرة ، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا ـ كما يقوم في الأخيلة
المنحرفة ـ فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا. والإيمان بالله يقتضي
حسن الخلافة في الأرض. وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها. إنه
لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظارا للآخرة ، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة
ابتغاء رضوان الله ، وتمهيدا للآخرة .. هذا هو الإسلام.
فأما الذين
يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار
بخيرات الأرض ، ومن الكسب الحرام ، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم .. لا
يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله ، وفي ظل الاستقامة على
هداه. ومن ثم يصدون عن سبيل الله. يصدون أنفسهم ويصدون الناس ، ويبغونها عوجا لا
استقامة فيها ولا عدالة. وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله ، وحين
يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها ، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن
يغشوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد ، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه
من الاستئثار بخيرات الأرض ، والكسب الحرام ، والمتاع المرذول ، والكبرياء في
الأرض ، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار.
إن منهج
الإيمان ضمانة للحياة وضمانة للأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على
الآخرة ، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ).
وهذه نعمة
شاملة للبشر في كل رسالة. فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور
بإذن ربهم ، لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم ، ليبين لهم وليفهموا عنه ، فتتم الغاية
من الرسالة.
وقد أرسل النبي
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بلسان قومه ـ وإن كان رسولا إلى الناس كافة ـ لأن قومه هم الذين سيحملون
رسالته إلى كافة البشر. وعمره ـ صلىاللهعليهوسلم ـ محدود. وقد أمر ليدعو قومه أولا حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام. ومن
ثم تكون مهدا يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض. والذي حدث بالفعل ـ وهو
من تقدير الله العليم الخبير ـ أن اختير الرسول إلى جوار ربه عند انتهاء الإسلام
إلى آخر حدود الجزيرة ، وبعث جيش أسامة إلى أطراف الجزيرة ، الذي توفي الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يتحرك بعد .. وحقيقة إن الرسول قد بعث برسائله إلى خارج الجزيرة يدعو
إلى الإسلام ، تصديقا لرسالته إلى الناس كافة. ولكن الذي قدره الله له ، والذي
يتفق مع طبيعة العمر البشري المحدود ، أن يبلغ الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قومه بلسانهم ، وأن تتم رسالته إلى البشر كافة عن طريق حملة هذه الرسالة
إلى الأصقاع .. وقد كان .. فلا تعارض بين رسالته للناس كافة ، ورسالته بلسان قومه
، في تقدير الله ، وفي واقع الحياة.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .. (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ..
إذ تنتهي مهمة
الرسول ـ كل رسول ـ عند البيان. أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال ، فلا قدرة له
عليه ، وليس خاضعا لرغبته ، إنما هو من شأن الله. وضع له سنة ارتضتها مشيئته
المطلقة. فمن سار على درب الضلال ضل ، ومن سار على درب الهدى وصل .. هذا وذلك يتبع
مشيئة الله ، التي شرعت سنته في الحياة.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) ..
القادر على
تصريف الناس والحياة ، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافا بلا توجيه
ولا تدبير.
* * *
وكذلك كانت
رسالة موسى. بلسان قومه.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا : أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ،
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ،
وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ : لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. وَقالَ مُوسى :
إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ) ..
والتعبير يوحد
بين صيغة الأمر الصادر لموسى والصادر لمحمد ـ عليهما صلاة الله وسلامه ـ تمشيا مع
نسق الأداء في السورة ـ وقد تحدثنا عنه آنفا ـ فإذا الأمر هناك :
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ..
والأمر هنا :
(أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ..
الأولى للناس
كافة والثانية لقوم موسى خاصة ، ولكن الغاية واحدة :
(أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) .. (وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللهِ) ..
وكل الأيام
أيام الله. ولكن المقصود هنا أن يذكرهم بالأيام التي يبدو فيها للبشر أو لجماعة
منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو بالنقمة ؛ كما سيجيء في حكاية تذكير موسى لقومه.
وقد ذكرهم بأيام لهم ، وأيام لأقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم. فهذه هي
الأيام.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ..
ففي هذه الأيام
ما هو بؤسى فهو آية للصبر ، وفيها ما هو نعمى فهو آية للشكر. والصبار الشكور هو
الذي يدرك هذه الآيات ، ويدرك ما وراءها ، ويجد فيها عبرة له وعظة ؛ كما يجد فيها
تسرية وتذكيرا.
وراح موسى يؤدي
رسالته ، ويذكر قومه :
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ..
إنه يذكرهم
بنعمة الله عليهم. نعمة النجاة من سوء العذاب الذي كانوا يلقونه من آل فرعون ،
يسامونه سوما ، أي يوالون به ويتابعون ، فلا يفتر عنهم ولا ينقطع. ومن ألوانه
البارزة تذبيح الذكور من الأولاد واستحياء الإناث ، منعا لتكاثر القوة المانعة
فيهم واستبقاء لضعفهم وذلهم. فإنجاء الله لهم من هذه الحال نعمة تذكر. وتذكر
لتشكر.
(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ..
بلاء بالعذاب
أولا ، لامتحان الصبر والتماسك والمقاومة والعزم على الخلاص والعمل له. فليس الصبر
هو احتمال الذل والعذاب وكفى. ولكن الصبر هو احتمال العذاب بلا تضعضع ولا هزيمة
روحية ، واستمرار العزم على الخلاص ، والاستعداد للوقوف في وجه الظلم والطغيان.
وإلا فما هو صبر مشكور ذلك الاستسلام للذل والهوان .. وبلاء بالنجاة ثانيا لامتحان
الشكر ، والاعتراف بنعمة الله ، والاستقامة على الهدى في مقابل النجاة.
ويمضي موسى في
البيان لقومه. بعد ما ذكرهم بأيامه. ووجههم إلى الغاية من العذاب والنجاة. وهي
الصبر للعذاب والشكر للنجاة .. يمضي ليبين لهم ما رتبه الله جزاء على الشكر
والكفران :
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذابِي لَشَدِيدٌ) ..
ونقف نحن أمام
هذه الحقيقة الكبيرة : حقيقة زيادة النعمة بالشكر ، والعذاب الشديد على الكفر.
نقف نحن أمام
هذه الحقيقة تطمئن إليها قلوبنا أول وهلة لأنها وعد من الله صادق. فلا بد أن يتحقق
على أية حال .. فإذا أردنا أن نرى مصداقها في الحياة ، ونبحث عن أسبابه
المدركة لنا ، فإننا لا نبعد كثيرا في تلمس الأسباب.
إن شكر النعمة
دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية. فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه
الطبيعي في الفطرة المستقيمة ..
هذه واحدة ..
والأخرى أن النفس التي تشكر الله على نعمته ، تراقبه في التصرف بهذه النعمة. بلا
بطر ، وبلا استعلاء على الخلق ، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس
والفساد.
وهذه وتلك مما
يزكي النفس ، ويدفعها للعمل الصالح ، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك
فيها ؛ ويرضي الناس عنها وعن صاحبها ، فيكونون له عونا ؛ ويصلح روابط المجتمع
فتنمو فيه الثروات في أمان. إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة. وإن
كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن ، أدرك الأسباب أولم يدركها ، فهو حق
واقع لأنه وعد الله.
والكفر بنعمة
الله قد يكون بعدم شكرها. أو بإنكار أن الله واهبها ، ونسبتها إلى العلم والخبرة
والكد الشخصي والسعي! كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله! وقد يكون بسوء
استخدامها بالبطر والكبر على الناس واستغلالها للشهوات والفساد .. وكله كفر بنعمة
الله ..
والعذاب الشديد
قد يتضمن محق النعمة. عينا بذهابها. أو سحق آثارها في الشعور. فكم من نعمة تكون
بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين! وقد يكون عذابا مؤجلا إلى أجله في
الدنيا أو في الآخرة كما يشاء الله. ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا
جزاء.
ذلك الشكر لا
تعود على الله عائدته. وهذا الكفر لا يرجع على الله أثره. فالله غني بذاته محمود
بذاته ، لا بحمد الناس وشكرهم على عطاياه.
(وَقالَ مُوسى : إِنْ
تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ) ..
إنما هو صلاح
الحياة يتحقق بالشكر ، ونفوس الناس تزكو بالاتجاه إلى الله ، وتستقيم بشكر الخير ،
وتطمئن إلى الاتصال بالمنعم ، فلا تخشى نفاد النعمة وذهابها ، ولا تذهب حسرات وراء
ما ينفق أو يضيع منها. فالمنعم موجود ، والنعمة بشكره تزكو وتزيد.
* * *
ويستمر موسى في
بيانه وتذكيره لقومه. ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة
الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات. وذلك من بدائع الأداء في القرآن ،
لإحياء المشاهد ، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع ، وتتحرك فيه الشخوص ،
وتتجلى فيه السمات والانفعالات ..
والآن إلى
الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان :
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ
مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ؟ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ، وَقالُوا : إِنَّا
كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا
إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ..
هذا التذكير من
قول موسى. ولكن السياق منذ الآن يجعل موسى يتوارى ليستمر في عرض قصة الرسل
والرسالات في جميع أزمانها. قصة الرسل والرسالات وحقيقتها في مواجهة الجاهلية ،
وعاقبة المكذبين بها
على اختلاف الزمان والمكان .. وكأن موسى «راوية» يبدأ بالإشارة إلى أحداث
الرواية الكبرى. ثم يدع أبطالها يتحدثون بعد ذلك ويتصرفون .. وهي طريقة من طرق
العرض للقصة في القرآن ، تحول القصة المحكية إلى رواية حية كما أسلفنا. وهنا نشهد
الرسل الكرام في موكب الإيمان ، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها. حيث تتوارى
الفواصل بين أجيالها وأقوامها. وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان ،
كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان :
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ : قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ
مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ؟) ..
فهم كثير إذن ،
وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن. ما بين ثمود وقوم موسى. والسياق هنا لا يعنى
بتفصيل أمرهم ، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به :
(جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ..
الواضحات التي
لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم.
(فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ، وَقالُوا : إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ
بِهِ ؛ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ..
ردوا أيديهم في
أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد ، بتحريك كفه أمام فمه وهو
يرفع صوته ذهابا وإيابا فيتموج الصوت ويسمع. يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على
جهرهم بالتكذيب والشك ، وإفحاشهم في هذا الجهر ، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة
التي لا أدب فيها ولا ذوق ، إمعانا منهم في الجهر بالكفر.
ولما كان الذي
يدعوهم إليه رسلهم هو الاعتقاد بألوهية الله وحده ، وربوبيته للبشر بلا شريك من
عباده .. فإن الشك في هذه الحقيقة الناطقة التي تدركها الفطرة ، وتدل عليها آيات
الله المبثوثة في ظاهر الكون المتجلية في صفحاته ، يبدو مستنكرا قبيحا. وقد استنكر
الرسل هذا الشك. والسماوات والأرض شاهدان.
(قالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي
اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) ..
أفي الله شك
والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما إبداعا وأنشأهما إنشاء؟ قالت
رسلهم هذا القول ، لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان ، فمجرد الإشارة
إليهما يكفي ، ويرد الشارد إلى الرشد سريعا ، ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها
وحدها تكفي ؛ ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان ، وفي
إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب :
(أَفِي اللهِ شَكٌّ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).
والدعوة أصلا
دعوة إلى الإيمان ، المؤدي إلى المغفرة. ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة ،
لتتجلى نعمة الله ومنته. وعندئذ يبدو عجيبا أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا
تلقيهم للدعوة!
(يَدْعُوكُمْ
لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) .. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) ..
فهو ـ سبحانه ـ
مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة ، ولا يأخذكم بالعذاب فور
التكذيب. إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى. إما في هذه الدنيا وإما
إلى يوم الحساب ، ترجعون فيه إلى نفوسكم ، وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم. وهي
رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم .. فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان؟!
هنا يرجع القوم
في جهالتهم إلى ذلك الاعتراض الجهول :
(قالُوا : إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ
يَعْبُدُ آباؤُنا) ..
وبدلا من أن
يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته ، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا
الاختيار ، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين ؛ ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها
رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم. ولا يسألون أنفسهم : لما ذا يرغب الرسل في
تحويلهم؟! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما
كان يعبد آباؤهم : ما قيمته؟ ما حقيقته؟ ما ذا يساوي في معرض النقد والتفكير؟!
وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة ، إنما يطلبون خارقة
ترغمهم على التصديق :
(فَأْتُونا بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) ..
ويرد الرسل ..
لا ينكرون بشريتهم بل يقررونها ، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منة الله في اختيار
رسل من البشر ، وفي منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى :
(قالَتْ لَهُمْ
رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ..
ويذكر السياق
لفظ «يمن» تنسيقا للحوار مع جو السورة. جو الحديث عن نعم الله. ومنها هذه المنة
على من يشاء من عباده. وهي منة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم. ولكن كذلك على
البشرية التي تشرف بانتخاب أفراد منها لهذه المهمة العظمى. مهمة الاتصال والتلقي
من الملأ الأعلى. وهي منة على البشرية بتذكير الفطرة التي ران عليها الركام لتخرج
من الظلمات إلى النور ؛ ولتتحرك فيها أجهزة الاستقبال والتلقي فتخرج من الموت
الراكد إلى الحياة المتفتحة .. ثم هي المنة الكبرى على البشرية بإخراج الناس من
الدينونة للعباد إلى الدينونة لله وحده بلا شريك ؛ واستنقاذ كرامتهم وطاقتهم من
الذل والتبدد في الدينونة للعبيد .. الذل الذي يحني هامة إنسان لعبد مثله! والتبدد
الذي يسخر طاقة إنسان لتأليه عبد مثله!
فأما حكاية
الإتيان بسلطان مبين ، وقوة خارقة ، فالرسل يبينون لقومهم أنها من شأن الله.
ليفرقوا في مداركهم المبهمة المظلمة بين ذات الله الإلهية ، وذواتهم هم البشرية ،
وليمحصوا صورة التوحيد المطلق الذي لا يلتبس بمشابهة في ذات ولا صفة ، وهي المتاهة
التي تاهت فيها الوثنيات كما تاهت فيها التصورات الكنسية في المسيحية عند ما تلبست
بالوثنيات الإغريقية والرومانية والمصرية والهندية. وكانت نقطة البدء في المتاهة
هي نسبة الخوارق إلى عيسى ـ عليهالسلام ـ بذاته واللبس بين ألوهية الله وعبودية عيسى عليهالسلام!
(وَما كانَ لَنا أَنْ
نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ..
وما نعتمد على
قوة غير قوته :
(وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ..
يطلقها الرسل
حقيقة دائمة. فعلى الله وحده يتوكل المؤمن ، لا يتلفت قلبه إلى سواه ، ولا يرجو
عونا إلا منه ، ولا يرتكن إلا إلى حماه.
ثم يواجهون
الطغيان بالإيمان ، ويواجهون الأذى بالثبات ؛ ويسألون للتقرير والتوكيد :
(وَما لَنا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا؟ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما
آذَيْتُمُونا ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
(وَما لَنا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) ..
إنها كلمة
المطمئن إلى موقفه وطريقه. المالئ يديه من وليه وناصره. المؤمن بأن الله الذي يهدي
السبيل لا بد
أن ينصر وأن يعين. وماذا يهم حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصر إذا كان
العبد قد ضمن هداية السبيل؟
والقلب الذي
يحس أن يد الله ـ سبحانه ـ تقود خطاه ، وتهديه السبيل ، هو قلب موصول بالله لا
يخطئ الشعور بوجوده ـ سبحانه ـ وألوهيته القاهرة المسيطرة ؛ وهو شعور لا مجال معه
للتردد في المضي في الطريق ، أيا كانت العقبات في الطريق ، وأيا كانت قوى الطاغوت
التي تتربص في هذا الطريق. ومن ثم هذا الربط في رد الرسل ـ صلوات الله وسلامه
عليهم ـ بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكلهم عليه في مواجهة التهديد السافر من
الطواغيت ؛ ثم إصرارهم على المضي في طريقهم في وجه هذا التهديد.
وهذه الحقيقة ـ
حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه ـ لا
تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلا في مواجهة طاغوت الجاهلية ؛ والتي
تستشعر في أعماقها يد الله ـ سبحانه ـ وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق
المشرقة وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة ، وتحس الأنس والقربى .. وحينئذ لا تحفل
بما يتوعدها به طواغيت الأرض ؛ ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد ؛ وهي
تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل. وما ذا يخاف القلب
الموصول بالله على هذا النحو؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد؟!
(وَما لَنا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) ..
(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى
ما آذَيْتُمُونا) ..
لنصبرن ؛ لا
نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نهن ، ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد ..
(وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
وهنا يسفر
الطغيان عن وجهه. لا يجادل ولا يناقش ولا يفكر ولا يتعقل ، لأنه يحس بهزيمته أمام
انتصار العقيدة ، فيسفر بالقوة المادية الغليظة التي لا يملك غيرها المتجبرون :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا)!
هنا تتجلى
حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية .. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام
أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا
تسالم الإسلام حتى لو سالمها. فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل
بقيادة مستقلة وولاء مستقل ، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية. لذلك لا يطلب الذين كفروا
من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ؛ ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم ، وأن
يندمجوا في تجمعهم الجاهلي ، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل. وهذا
ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله ، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه ، فما ينبغي
لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى ..
وعند ما تسفر
القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة ، ولا يبقى مجال لحجة ؛ ولا يسلم
الله الرسل إلى الجاهلية ..
إن التجمع
الجاهلي ـ بطبيعة تركيبه العضوي ـ لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله ، إلا أن
يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي ، ولتوطيد جاهليته! والذين
يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي ،
والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه
الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع
ولحساب منهجه وتصوره .. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد
إذ نجاهم الله منها ..
وهنا تتدخل
القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل ،
وإن كانوا طغاة متجبرين :
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ).
ولا بد أن ندرك
أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل
لقومهم .. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها
.. وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة. وبعد
أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة
ومنهجا وقيادة وتجمعا .. عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة ، ولتدمر
على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين ، ولتمكن للمؤمنين في الأرض ، ولتحقق وعد
الله لرسله بالنصر والتمكين ... ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في
المجتمع الجاهلي ، عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته ، غير منفصلين عنه ولا متميزين
بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة ..
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) ..
نون العظمة
ونون التوكيد .. كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد. لنهلكن المتجبرين
المهددين ، المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد ..
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ..
لا محاباة ولا
جزافا ، إنما هي السنة الجارية العادلة :
(ذلِكَ لِمَنْ خافَ
مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) ..
ذلك الإسكان
والاستخلاف لمن خاف مقامي ، فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر. وخاف وعيد
، فحسب حسابه ، واتقى أسبابه ، فلم يفسد في الأرض ، ولم يظلم في الناس. فهو من ثم
يستحق الاستخلاف ، ويناله باستحقاق.
وهكذا تلتقي
القوة الصغيرة الهزيلة ـ قوة الطغاة الظالمين ـ بالقوة الجبارة الطامة ـ قوة
الجبار المهيمن المتكبر ـ فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي
تميز المؤمنين من المكذبين.
ووقف الطغاة
المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف ، ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم
قوة الله ـ سبحانه ـ في صف. ودعا كلاهما بالنصر والفتح .. وكانت العاقبة كما يجب
أن تكون :
(وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ
صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ
مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) ..
والمشهد هنا
عجيب. إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد. مشهد الخيبة في هذه الأرض. ولكنه يقف هذا
الموقف ، ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها ، وهو يسقى من الصديد السائل من
الجسوم. يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ، ولا يكاد يسيغه ، لقذارته ومرارته ،
والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات! ويأتيه الموت بأسبابه
المحيطة به من كل مكان ، ولكنه لا يموت ، ليستكمل عذابه. ومن ورائه عذاب غليظ ..
إنه مشهد عجيب
، يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروّع
الفظيع. وتشترك كلمة «غليظ» في تفظيع المشهد ، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي
كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين.
* * *
وفي ظل هذا
المصير يجيء التعقيب مثلا مصورا في مشهد يضرب الذين كفروا ؛ ولفتة إلى قدرة الله
على أن يذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد .. ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في
الساحة الأخرى ، وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض ، مخايلا بالساحة
الأخرى :
(مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عاصِفٍ. لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) ..
ومشهد الرماد
تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود ، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى ،
لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ، ولا الانتفاع به أصلا. يجسمه في هذا
المشهد العاصف المتحرك ، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني
المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.
هذا المشهد
ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار. فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من
الإيمان ، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث ، وتصل الباعث بالله
.. مفككة كالهباء والرماد ، لا قوام لها ولا نظام. فليس المعول عليه هو العمل ،
ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث
والقصد والغاية.
وهكذا يلتقي
المشهد المصور مع الحقيقة العميقة ، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر.
ويلتقي معهما التعقيب :
(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) ..
فهو تعقيب يتفق
ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف .. إلى بعيد!!
ثم يلتقي مع
مشهد الرماد المتطاير ظل آخر في الآية التالية ، التي يلتفت فيها السياق من مصائر
المكذبين السابقين إلى المكذبين من قريش ، يهددهم بإذهابهم والإتيان بخلق جديد :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ..
والانتقال من
حديث الإيمان والكفر ، ومن قضية الرسل والجاهلية إلى مشهد السماوات والأرض .. هو
انتقال طبيعي في المنهج القرآني كما أنه انتقال طبيعي في مشاعر الفطرة البشرية يدل
على ربانية هذا المنهج القرآني ..
إن بين فطرة
الكائن الإنساني وبين هذا الكون لغة سرية مفهومة! .. إن فطرته تتلاقى مباشرة مع
السر الكامن وراء هذا الكون بمجرد الاتجاه إليه والتقاط إيقاعاته ودلالاته!
والذين يرون
هذا الكون ثم لا تسمع فطرتهم هذه الإيقاعات وهذه الإيحاءات هم أفراد معطلو الفطرة.
في كيانهم خلل تعطلت به أجهزة الاستقبال الفطرية. كما تصاب الحواس بالتعطل نتيجة
لآفة تصيبها .. كما تصاب العين بالعمى ، والأذن بالصمم ، واللسان بالبكم! .. إنهم
أجهزة تالفة لا تصلح للتلقي ؛ ومن باب
أولى لا تصلح للقيادة والزعامة! .. ومن هؤلاء كل أصحاب التفكير المادي ـ الذي
يسمونه «المذاهب العلمية» كذبا وافتراء .. إن العلم لا يتفق مع تعطل أجهزة
الاستقبال الفطرية وفساد أجهزة الاتصال الإنسانية بالكون كله! إنهم الذين يسميهم
القرآن بالعمي .. وما يمكن أن تقام الحياة الإنسانية على مذهب أو رأي أو نظام يراه
أعمى!!!
إن خلق
السماوات والأرض بالحق يوحي بالقدرة كما يوحي بالثبات. فالحق ثابت مستقر حتى في
جرسه اللفظي .. ذلك في مقابل الرماد المتطاير إلى بعيد. وفي مقابل الضلال البعيد.
وفي ضوء مصير
المعاندين الجبارين في معركة الحق والباطل يجيء التهديد :
(إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ..
والقادر على
خلق السماوات والأرض ، قادر على استخلاف جنس غير هذا الجنس في الأرض. واستخلاف قوم
مكان قوم من أقوام هذا الجنس. وظل الذهاب بالقوم يتسق من بعيد مع ظل الرماد المتطاير
الذاهب إلى الفناء.
(وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ) ..
وخلق السماوات
والأرض شاهد. ومصارع المكذبين من قبل شاهدة. والرماد المتطاير شاهد من بعيد! ألا
إنه الإعجاز في تنسيق المشاهد والصور والظلال في هذا القرآن!
* * *
ثم نرقى إلى
أفق آخر من آفاق الإعجاز في التصوير والأداء والتنسيق. فلقد كنا منذ لحظة مع
الجبارين المعاندين. ولقد خاب كل جبار عنيد. وكانت صورته في جهنم تخايل له من
ورائه وهو بعد في الدنيا. فالآن نجدهم هناك ، حيث يتابع السياق خطواته بالرواية
الكبرى ـ رواية البشرية ورسلها ـ في المشهد الأخير. وهو مشهد من أعجب مشاهد
القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين. وبين الشيطان
والجميع :
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً ـ فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قالُوا
: لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ. سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا
ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ : إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ؛ وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. فَلا
تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ).
لقد انتقلت
الرواية .. رواية الدعوة والدعاة ، والمكذبين والطغاة .. انتقلت من مسرح الدنيا
إلى مسرح الآخرة :
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً) ..
الطغاة
المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين. ومعهم الشيطان .. ثم الذين آمنوا بالرسل
وعملوا الصالحات .. برزوا «جميعا» مكشوفين. وهم مكشوفون لله دائما. ولكنهم الساعة
يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون
لا يحجبهم حجاب ، ولا يسترهم ساتر ، ولا يقيهم واق .. برزوا وامتلأت الساحة
ورفع الستار ، وبدأ الحوار :
(فَقالَ الضُّعَفاءُ
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟) ..
والضعفاء هم
الضعفاء. هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن
حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ؛ وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين
والطغاة. ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله. والضعف ليس عذرا
، بل هو الجريمة ؛ فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا ، وهو يدعو الناس كلهم إلى
حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية ـ
التي هي ميزته ومناط تكريمه ـ أو أن ينزل كارها. والقوة المادية ـ كائنة ما كانت ـ
لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية ، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه
تلك القوة أن تملك الجسد ، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح.
أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها ، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس
والإذلال!
من ذا الذي
يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة ، وفي التفكير ، وفي
السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة ، وفي
التفكير ، وفي السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله ،
والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة.
فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة ، ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو
منصبا أو مقاما .. كلا ، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة
الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم
بأخص خصائص الإنسان!
إن المستضعفين
كثرة ، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وما ذا الذي يخضعها؟ إنما
يخضعها ضعف الروح ، وسقوط الهمة ، وقلة النخوة ، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي
وهبها الله لبني الإنسان!
إن الطغاة لا
يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائما قادرة على الوقوف
لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان!
إن الذل لا
ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء .. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد
عليها الطغاة!!
والأذلاء هنا
على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم :
(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)؟ ..
وقد اتبعناكم
فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟!
أم لعلهم وقد
رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة ، وتعريضهم
إياهم للعذاب؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال!
ويرد الذين
استكبروا على ذلك السؤال :
(قالُوا : لَوْ
هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ! سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا
مِنْ مَحِيصٍ!) ..
وهو رد يبدو
فيه البرم والضيق :
(لَوْ هَدانَا اللهُ
لَهَدَيْناكُمْ) ..
فعلام تلوموننا
ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد ونضللكم. ولو هدانا الله
لقدناكم
إلى الهدى معنا ، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم
وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها ،
ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار. وهم إنما
يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله .. والله لا يأمر بالضلال كما قال
سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) .. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي ، فيعلنونهم بأن لا
جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر. فقد حق العذاب ، ولا راد له من صبر أو
جزع ، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ؛
وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله. لقد انتهى كل شيء ، ولم يعد
هنالك مفر ولا محيص :
(سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا
أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)!
لقد قضي الأمر
، وانتهى الجدل ، وسكت الحوار .. وهنا نرى على المسرح عجبا. نرى الشيطان .. هاتف
الغواية ، وحادي الغواة .. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان ، أو مسوح الشيطان!
ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء ، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب :
(وَقالَ الشَّيْطانُ ـ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ـ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ،
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا
أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.
ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
الله! الله!
أما إن الشيطان حقا لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء
وشخصية المستكبرين في هذا الحوار ..
إنه الشيطان
الذي وسوس في الصدور ، وأغرى بالعصيان ، وزين الكفر ، وصدهم عن استماع الدعوة .. هو
هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة ، حيث لا يملكون أن يردوها عليه ـ وقد
قضي الأمر ـ هو الذي يقول الآن ، وبعد فوات الأوان :
(إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)!
ثم يخزهم وخزة
أخرى بتعبيرهم بالاستجابة له ، وليس له عليهم من سلطان ، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم
، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم ، فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا
دعوة الحق من الله :
(وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)!
ثم يؤنبهم ،
ويدعوهم لتأنيب أنفسهم. يؤنبهم على أن أطاعوه! :
(فَلا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)!
ثم يخلي بهم ،
وينفض يده منهم ، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم ، ووسوس لهم أن لا غالب لهم ؛ فأما
الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا ، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ :
(ما أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) ..
وما بيننا من
صلة ولا ولاء! ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك :
(إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)!
ثم ينهي خطبته
الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه :
(إِنَّ الظَّالِمِينَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)!
فيا للشيطان!
ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه ؛ ودعاهم الرسل إلى الله
فكذبوهم وجحدوه!
وقبل أن يسدل
الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة ، الأمة الفائزة ، الأمة الناجية
:
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ،
خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ..
ويسدل الستار
..
فيا له من مشهد!
ويا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة!
* * *
وفي ظل هذه
القصة بفصولها جميعا. في الدنيا حيث وقفت أمة الرسل في مواجهة الجاهلية الظالمة :
(وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ
صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ
مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) ..
وفي الآخرة حيث
شاهدنا ذلك المشهد الفريد : مشهد الذين استكبروا والضعفاء والشيطان ، مع ذلك
الحوار العجيب ..
في ظل تلك
القصة ومصائر الأمة الطيبة ، والفرقة الخبيثة ، يضرب الله مثل الكلمة الطيبة
والكلمة الخبيثة ، لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة ؛ فتكون
خاتمة كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار :
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ، أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ،
وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما
لَها مِنْ قَرارٍ .. يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ؛ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ؛
وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ..
إن مشهد الكلمة
الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ... والكلمة الخبيثة كالشجرة
الخبيثة ، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .. هو مشهد مأخوذ من جو السياق ، ومن
قصة النبيين والمكذبين ، ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص. وشجرة النبوة هنا وظل
إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح ، وهي تؤتي أكلها كل فترة ، أكلا جنيا طيبا ..
نبيا من الأنبياء .. يثمر إيمانا وخيرا وحيوية ..
ولكن المثل ـ بعد
تناسقه مع جو السورة وجو القصة ـ أبعد من هذا آفاقا ، وأعرض مساحة ، وأعمق حقيقة.
إن الكلمة
الطيبة ـ كلمة الحق ـ لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة .. ثابتة لا تزعزعها
الأعاصير ، ولا تعصف بها رياح الباطل ؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان ـ وإن خيل
للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان ـ سامقة متعالية ، تطل على الشر
والظلم والطغيان من عل ـ وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء ـ مثمرة
لا ينقطع ثمرها ، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن ..
وإن الكلمة
الخبيثة ـ كلمة الباطل ـ لكالشجرة الخبيثة ؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك ؛ ويخيل إلى
بعض
الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة ، وتظل
جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض .. وما هي إلا فترة ثم تجتث من
فوق الأرض ، فلا قرار لها ولا بقاء.
ليس هذا وذلك
مجرد مثل يضرب ، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع. إنما هو الواقع في الحياة ، ولو
أبطأ تحققه في بعض الأحيان.
والخير الأصيل
لا يموت ولا يذوي. مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق .. والشر كذلك لا يعيش إلا
ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به ـ فقلما يوجد الشر الخالص ـ وعند ما يستهلك ما
يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية ، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال.
إن الخير بخير!
وإن الشر بشر!
(وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..
فهي أمثال
مصداقها واقع في الأرض ، ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة.
وفي ظل الشجرة
الثابتة ، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه ، فيرسمها : أصلها ثابت
مستقر في الأرض ، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر ، قائم أمام العين يوحي
بالقوة والثبات.
في ظل الشجرة
الثابتة مثلا للكلمة الطيبة : (يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ) .. وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها
من قرار ولا ثبات : (وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ) .. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق!
يثبت الله
الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر ،
الثابتة في الفطر ، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة. ويثبتهم
بكلمات القرآن وكلمات الرسول ؛ وبوعده للحق بالنصر في الدنيا ، والفوز في الآخرة
.. وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة ، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل ، ولا يمس أصحابها
قلق ولا حيرة ولا اضطراب.
ويضل الله
الظالمين بظلمهم وشركهم (والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك
ويغلب) وبعدهم عن النور الهادي ، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات
واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله .. يضلهم وفق سنته التي تنتهي
بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
(وَيَفْعَلُ اللهُ ما
يَشاءُ) ..
بإرادته
المطلقة ، التي تختار الناموس ، فلا تتقيد به ولكنها ترضاه. حتى تقتضي الحكمة
تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة ، ولا يقوم في طريقها عائق ؛
والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء.
وبهذه الخاتمة
يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر
من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء ، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة
خير الثمرات ، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة ، تحتوي دائما على
الحقيقة الكبرى .. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل ، وحقيقة الدعوة الواحدة
التي لا تتغير ، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار.
* * *
والآن نقف
وقفات قصيرة أمام الحقائق البارزة التي تعرضها قصة الرسل مع الجاهلية. وهي الحقائق
التي
أشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني ، ونرى أنها
تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مسقلة :
* إننا نقف من
هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير .. إن موكب الإيمان
منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول ، يقوده رسل الله الكرام ، داعين بحقيقة
واحدة ، جاهرين بدعوة واحدة ، سائرين على منهج واحد .. كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة
، وربوبية واحدة ؛ وكلهم لا يدعو مع الله أحدا ، ولا يتوكل على أحد غيره ، ولا
يلجأ إلى ملجأ سواه ، ولا يعرف له سندا إلا إياه.
وأمر الاعتقاد
في الله الواحد ـ إذن ـ ليس كما يزعم «علماء الدين المقارن» أنه تطور وترقى من
التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ؛ ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب
إلى عبادة الله الواحد ؛ وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم
البشري ، وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان
واحد ...
إن الاعتقاد في
الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ؛ ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل
في رسالة واحدة من الرسالات ؛ ولا في دين واحد من الأديان السماوية. كما يقص علينا
الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك «العلماء»
: إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول
إلى عهد رسول ؛ وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي
كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين. حتى جاء زمان كانت
عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت ، بفعل توالي رسالات التوحيد
؛ وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير ... لو قال أولئك «العلماء» قولا
كهذا لساغ .. ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء
الدفين القديم للكنيسة في أوربا ـ حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! ـ ومن
الرغبة الخفية ـ الواعية أو غير الواعية ـ في تحطيم المنهج الديني في التفكير ؛
وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند الله ؛ إنما كان اجتهادا من البشر ، ينطبق
عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء .. ومن
ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ؛ ويسمى
مع ذلك «علما» ينخدع به الكثيرون!
وإذا جاز أن
يخدع أحد بمثل هذا «العلم» فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه ، ويحترم منهج هذا
الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة ؛ وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما
مباشرا مع مقررات دينه ، ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير ..
* هذا الموكب
الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة ـ إذن ـ بدعوة واحدة ، وعقيدة واحدة ، وكذلك
واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم ، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة ،
مواجهة واحدة ـ كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان ، مبرزا
للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان ـ وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل ،
فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل!
إنها حقيقة
تستوقف النظر حقا! .. إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان .. إن الجاهلية
ليست فترة تاريخية ؛ ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات
..
__________________
والجاهلية تقوم
ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ؛ ومن تأليه غير الله. أو من ربوبية غير
الله ـ وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية ـ فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد
الآلهة ؛ أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب ـ أي المتسلطين ـ فهو ينشئ
الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى!
ودعوة الرسل
إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة ، وإخلاص الدين لله ـ أي إخلاص
الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية ، أي الحاكمية والسلطان ـ ومن ثم تصطدم
اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية ؛ وتصبح بذاتها خطرا على وجود
الجاهلية. وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص ، يأخذ أفراده من التجمع
الجاهلي ؛ وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد ، ومن ناحية القيادة ، ومن
ناحية الولاء .. الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان ..
وعند ما يشعر
التجمع الجاهلي ـ بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا ـ بالخطر الذي يتهدد قاعدة
وجوده من الناحية الاعتقادية ؛ كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في
تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له .. فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه
دعوة الإسلام!
إنها المعركة
بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام! المعركة بين تجمعين عضويين كل
منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر. فالتجمع
الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة ، أو تعدد الأرباب ، ومن ثم يدين فيه العباد
للعباد. والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ؛
ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد ..
ولما كان
التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي ، في أول الأمر وهو في
دور التكوين ، ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه ،
وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده .. لما كانت هذه كلها
حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح ، فإن الجاهلية لا
تطيق منذ البدء دعوة الإسلام .. ومن هنا ندرك لما ذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة
لدعوة الرسل الكرام! .. إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاحتياج ؛ ومواجهة
الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية
العباد!
* وإذ كان هذا
هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها ، فقد واجهت هذه الدعوة في معركة
حياة أو موت ، لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! .. إن الجاهلية لم تخدع
نفسها في حقيقة المعركة ؛ وكذلك لم يخدع الرسل الكرام ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ
أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة ..
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا) ..
فهم لا يقبلون
من الرسل والذين آمنوا معهم ، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم
الخاص. إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم ، ويندمجوا في تجمعهم ، ويذوبوا في
هذا التجمع. أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم ..
ولم يقبل الرسل
الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي ، ولا أن يذوبوا فيه ، ولا أن يفقدوا شخصية
تجمعهم الخاص .. هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها
التجمع الجاهلي .. ولم يقولوا ـ كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام .. ولا
حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات ـ : حسنا! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم
عقيدتنا من خلالهم!!!
إن تميز المسلم
بعقيدته في المجتمع الجاهلي ، لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته
وولائه .. وليس في ذلك اختيار .. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي
للمجتمعات .. هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام
القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده ؛ وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز
القيادة والسلطان. كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع
الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !
ثم تبقى
الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال. وهي
أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين ؛ والفصل بينهم وبين قومهم بالحق ، لا
يقع ولا يكون ، إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم ؛ وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على
الحق الذي معهم .. فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع
الجاهلي ، ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته .. وكل فترة تميع على هذا النحو هي
فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين .. وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن
يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله ، وهم واعون مقدرون ..
* وأخيرا ..
نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان ، وهو يواجه
الجاهلية الضالة على مدار الزمان .. جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق ،
الواثق المطمئن ، الرصين المكين :
(قالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي
اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟) ..
... (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ ، وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ،
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ
عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ،
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
وهذا الجمال
الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة الجاهلية
الموحدة ؛ ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة ؛ ويبرز المعالم
المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم ، من وراء الزمان
والمكان ، ومن وراء الأجناس والأقوام!
ثم يتجلى هذا
الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام ، والحق الكامن في
كيان هذا الوجود :
(قالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي
اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) ..
(وَما لَنا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا؟) ..
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ..
وهكذا تتجلى
العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة ، والحق الكامن في الوجود كله. ويبدو أنه
حق واحد موصول بالله الحق ، ثابت وطيد عميق الجذور : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) .. وأن ما عداه هو الباطل الزائل (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ
فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) ..
__________________
كذلك يتمثل ذلك
الجمال في شعور الرسل بحقيقة الله ربهم ؛ وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب
تلك العصبة المختارة من عباده :
(وَما لَنا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما
آذَيْتُمُونا ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
وكلها لمحات من
ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم
البعيد ، لا تبلغ الإشارة مداه ، ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه ...
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩)
وَجَعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ
مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
قُلْ
لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ
فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢)
وَسَخَّرَ
لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ
كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ
الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
وَإِذْ
قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
رَبَّنا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
رَبَّنا
إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي
مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ
لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
وَلا
تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ
(٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى
أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)
يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)
لِيَجْزِيَ
اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ
لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)
(٥٢)
يبدأ هذا الشوط
الثاني من نهاية الشوط الأول ، قائما عليه ، متناسقا معه ، مستمدا منه.
لقد تضمن الشوط
الأول رسالة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. ورسالة موسى ـ عليهالسلام ـ لقومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويذكرهم بأيام الله. فبين لهم
وذكرهم بنعمة الله عليهم ، وأعلن لهم ما تأذن الله به : لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن
كفرتم إن عذابي لشديد .. ثم عرض عليهم قصة النبوات والمكذبين. بدأها ثم توارى عن
السياق ؛ وتابعت القصة أدوارها ومشاهدها حتى انتهت بالكافرين إلى ذلك الموقف ،
الذي يستمعون فيه من الشيطان عظته البليغة! حيث لا تنفع العظات!
فالآن يعود
السياق إلى المكذبين من قوم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ما عرض عليهم ذلك الشريط الطويل ـ أولئك الذين أنعم الله عليهم ـ فيما
أنعم ـ برسول يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويدعوهم ليغفر الله لهم ، فإذا هم
يكفرون النعمة ، ويردونها ، ويستبدلون بها الكفر ، يؤثرونه على الرسول وعلى دعوة
الإيمان ..
ومن ثم يبدأ
الشوط الثاني بالتعجيب من أمر هؤلاء الذين يبدلون نعمة الله كفرا ، ويقودون قومهم
إلى دار البوار ، كما قاد من قبلهم أتباعهم إلى النار. في قصة الرسل والكفار.
ثم يستطرد إلى
بيان نعم الله على البشر في أضخم المشاهد الكونية البارزة. ويقدم نموذجا لشكر
النعمة : إبراهيم الخليل ـ بعد أن يأمر الذين آمنوا بلون من ألوان الشكر هو الصلاة
والبر بعباد الله ـ قبل أن يأتي يوم لا تربو فيه الأموال. يوم لا بيع فيه ولا
خلال.
فأما الذين
كفروا فليسوا بمتروكين عن غفلة ولا إهمال ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
وأما وعد الله لرسله فهو واقع مهما يمكر الذين كفروا وإن كان مكرهم لتزول منه
الجبال ..
وهكذا يتماسك
الشوط الثاني مع الشوط الأول ويتناسق.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها ، وَبِئْسَ الْقَرارُ؟! وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ. قُلْ : تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ
إِلَى النَّارِ) ..
ألم تر إلى هذا
الحال العجيب. حال الذين وهبوا نعمة الله ، ممثلة في رسول وفي دعوة إلى الإيمان ،
وفي قيادة إلى المغفرة ، وإلى مصير في الجنة .. فإذا هم يتركون هذا كله ويأخذون
بدله «كفرا»! أولئك هم السادة القادة من كبراء قومك ـ مثلهم مثل السادة القادة من
كل قوم ـ وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم ، وأنزلوهم بها ـ كما
شاهدنا منذ قليل في الأقوام من قبل! ـ وبئس ما أحلوهم من مستقر ، وبئس القرار فيها
من قرار!
ألم تر إلى
تصرف القوم العجيب ، بعد ما رأوا ما حل بمن قبلهم ـ وقد عرضه القرآن عليهم عرض
رؤية في مشاهد تلك القصة التي مضى بها الشوط الأول من السورة. عرضه كأنه وقع فعلا.
وإنه لواقع. وما يزيد النسق القرآني على أن يعرض ما تقرر وقوعه في صورة الواقع
المشهود.
لقد استبدلوا
بنعمة الرسول ودعوته كفرا. وكانت دعوته إلى التوحيد ، فتركوها :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ..
جعلوا لله
أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته ، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه ،
ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه!
جعلوا لله هذه
الأنداد ليضلّوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل.
والنص يشير إلى
أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله ، باتخاذ هذه الأنداد من
دون الله. فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان. لا في زمن
الجاهلية الأولى ، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق ، في
أية صورة من صور الانحراف ، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم ، وينزلون لهم عن حرياتهم
وشخصياتهم ، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم ، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء
لا من وحي الله .. عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل
وسيلة. ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى. ومنها اليوم
اتخاذ شرائع من عمل البشر ، تأمر بما لم يأمر الله به ، وتنهى عما لم ينه عنه
الله. فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله ، وفي واقع
الحياة!
فيا أيها
الرسول «قل» للقوم : «تمتعوا» .. تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره
الله. والعاقبة معروفة : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ
إِلَى النَّارِ) ..
ودعهم. وانصرف
عنهم إلى (لِعِبادِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا). انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة. الذين
يتقبلون نعمة الله ولا يردونها ، ولا يستبدلون بها الكفر. انصرف إليهم تعلمهم كيف
يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله :
(قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا : يُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ
سِرًّا وَعَلانِيَةً ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خِلالٌ) ..
قل لعبادي
الذين آمنوا : يشكروا ربهم بإقامة الصلاة. فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله. وينفقوا
مما أنعمنا عليهم به من الرزق سرا وعلانية. سرا حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة
المعطين ، فلا يكون الإنفاق تفاخرا وتظاهرا ومباهاة. وعلانية حيث تعلن الطاعة
بالإنفاق وتؤدى الفريضة ، وتكون القدوة الطيبة في المجتمع. وهذا وذلك متروك
لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال.
قل لهم :
ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة ، ولا تنفع
كذلك فيه صداقة ، إنما ينفع المدخر من الأعمال :
(مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) ..
* * *
وهنا يفتح كتاب
الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى. وتتوالى صفحاته
الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر : السماوات والأرض. الشمس والقمر.
الليل والنهار. الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض. البحر تجري فيه
الفلك ، والأنهار تجري بالأرزاق .. هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار ،
ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون : إن الإنسان
لظلوم كفار. يبدل نعمة الله كفرا ، ويجعل لله أندادا ، وهو الخالق الرازق المسخر
الكون كله لهذا الإنسان :
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ
كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ
الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ..
إنها حملة.
إنها سياط تلذع الوجدان ... حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر
والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار .. وسياط ذات إيقاع ، وذات رنين
، وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار!
إن من معجزات
هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحول كل
ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء .. وهكذا يستحيل الكون
بكل ما فيه وبكل من فيه معرضا لآيات الله ، تبدع فيه يد القدرة ، وتتجلى آثارها في
كل مشهد فيه ومنظر ، وفي كل صورة فيه وظل .. إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية
في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة «ميتافيزيقية» ذلك العرض الميت
الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه .. إنما هو يعرض هذه
القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون ، ومجالي الخلق ،
ولمسات الفطرة ، وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة واتساق.
والمشهد الهائل
الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه ، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه
الآلاء
بالقياس إلى الإنسان : خط السماوات والأرض. يتبعه خط الماء النازل من
السماء والثمرات النابتة من الأرض بهذا الماء. فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار
تجري بالأرزاق .. ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد. خط الشمس والقمر. فخط
آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر : خط الليل والنهار .. ثم الخط الشامل
الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها :
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ..
إنه الإعجاز
الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون وكل ظل. في مشهد الكون ومعرض الآلاء.
أفكل هذا مسخر
للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها
الماء ، والأرض تتلقاه ، والثمرات تخرج من بينهما. والبحر تجري فيه الفلك بأمر
الله مسخرة. والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان. والشمس والقمر
مسخران دائبان لا يفتران. والليل والنهار يتعاقبان .. أفكل أولئك للإنسان؟ ثم لا
يشكر ولا يذكر؟
(إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)!
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ..
وبعد ذلك
يجعلون لله أندادا ، فكيف يكون الظلم في التقدير ، والظلم في عبادة خلق من خلقه في
السماوات أو في الأرض؟
(وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ..
والزرع مورد
الرزق الأول ، ومصدر النعمة الظاهر. والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر
الله عليها هذا الكون ، ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر وإنبات الزرع وخروج
الثمر ، وموافقة هذا كله للإنسان. وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على
هذا الكون كله لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من
تربة وماء وأشعة وهواء. والناس يسمعون كلمة «الرزق» فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا
صورة الكسب للمال. ولكن مدلول «الرزق» أوسع من ذلك كثيرا ، وأعمق من ذلك كثيرا ..
إن أقل «رزق» يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق
ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لو لاها لم يكن
لهذا الكائن ابتداء وجود ؛ ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد. ويكفي ما ذكر في
هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله
..
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) ..
بما أودع في
العناصر من خصائص تجري الفلك على سطح الماء ؛ وبما أودع في الإنسان من خصائص يدرك
بها ناموس الأشياء ؛ وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْأَنْهارَ) ..
تجري فتجري
الحياة ، وتفيض فيفيض الخير ، وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات .. كلها
للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان ..
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) ..
لا يستخدمهما
الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمار والبحار والفلك والأنهار .. ولكنه ينتفع
بآثارهما ،
ويستمد منهما مواد الحياة وطاقاتها. فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر
عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه بل في تركيب خلاياه وتجديدها.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ..
سخرهما كذلك
وفق حاجة الإنسان وتركيبه ، وما يناسب نشاطه وراحته. ولو كان نهار دائم أو ليل
دائم لفسد جهاز هذا الإنسان ؛ فضلا على فساد ما حوله كله ، وتعذر حياته ونشاطه
وإنتاجه.
وليست هذه سوى
الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة. ففي كل خط من النقط ما لا يحصى. ومن ثم
يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل :
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ) ..
من مال وذرية
وصحة وزينة ومتاع ...
(وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ..
فهي أكبر وأكثر
من أن يحصيها فريق من البشر ، أو كل البشر. وكلهم محدودون بين حدين من الزمان : بدء
ونهاية. وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان. ونعم الله مطلقة ـ فوق
كثرتها ـ فلا يحيط بها إدراك إنسان ..
وبعد ذلك كله
تجعلون لله أندادا ، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا ..
(إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)!!
* * *
وحين يستيقظ
ضمير الإنسان ، ويتطلع إلى الكون من حوله ، فإذا هو مسخر له ، إما مباشرة ، وإما
بموافقة ناموسه لحياة البشر وحوائجهم ؛ ويتأمل فيما حوله فإذا هو صديق له برحمة
الله ، معين بقدرة الله ، ذلول له بتسخير الله .. حين يستيقظ ضمير الإنسان فيتطلع
ويتأمل ويتدبر. لا بد يرتجف ويخشع ويسجد ويشكر ، ويتطلع دائما إلى ربه المنعم :
حين يكون في الشدة ليبدله منها يسرا ، وحين يكون في الرخاء ليحفظ عليه النعماء.
والنموذج
الكامل للإنسان الذاكر الشاكر هو أبو الأنبياء. إبراهيم. الذي يظلل سمته هذه
السورة ، كما تظللها النعمة وما يتعلق بها من شكران أو كفران .. ومن ثم يأتي به
السياق في مشهد خاشع ، يظلله الشكر ، وتشيع فيه الضراعة ، ويتجاوب فيه الدعاء ، في
نغمة رخية متموجة ، ذاهبة في السماء.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ : رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ، وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ،
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ؛ وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ ، وَما يَخْفى عَلَى اللهِ
مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ
لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ
دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ
الْحِسابُ) ..
إن السياق يصور
إبراهيم ـ عليهالسلام ـ إلى جوار بيت الله الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش ، فإذا بها تكفر
فيه بالله ، مرتكنة إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة الله! فيصوره في هذا المشهد
الضارع الخاشع
الذاكر الشاكر ، ليرد الجاحدين إلى الاعتراف ، ويرد الكافرين إلى الشكر ،
ويرد الغافلين إلى الذكر ، ويرد الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون
بها ويهتدون.
ويبدأ إبراهيم
دعاءه :
(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا
الْبَلَدَ آمِناً) ..
فنعمة الأمن
نعمة ماسة بالإنسان ، عظيمة الوقع في حسه ، متعلقة بحرصه على نفسه. والسياق يذكرها
هنا ليذكر بها سكان ذلك البلد ، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها وقد استجاب
الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمنا ، ولكنهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم ،
فكفروا النعمة ، وجعلوا لله أندادا ، وصدوا عن سبيل الله. ولقد كانت دعوة أبيهم
التالية لدعوة الأمن :
(وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ..
ويبدو في دعوة
إبراهيم الثانية تسليم إبراهيم المطلق إلى ربه ، والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه.
فهو يدعوه أن يجنبه عبادة الأصنام هو وبنيه ، يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه. ثم
ليبرز أن هذه نعمة أخرى من نعم الله. وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشرك
وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده. فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود
، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء. ويخرج من الدينونة المذلة لشتى
الأرباب ، إلى الدينونة الكريمة العزيزة لرب العباد .. إنها لنعمة يدعو إبراهيم
ربه ليحفظها عليه ، فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام.
يدعو إبراهيم دعوته
هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال
التي قبله ؛ ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير :
(رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ..
ثم يتابع
الدعاء .. فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني ، ينتسب إلي ويلتقي معي في
الآصرة الكبرى ، آصرة العقيدة :
(فَمَنْ تَبِعَنِي
فَإِنَّهُ مِنِّي) ..
وأما من عصاني
منهم فأفوض أمره إليك :
(وَمَنْ عَصانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
وفي هذا تبدو
سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم ؛ فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله
ويحيد عن طريقه ، ولا يستعجل لهم العذاب ؛ بل لا يذكر العذاب ، إنما يكلهم إلى
غفران الله ورحمته. ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة ؛ وتحت هذا الظل يتوارى
ظل المعصية ؛ فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم!
ويمضي إبراهيم
في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم
، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها :
(رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ) ..
لما ذا؟
(رَبَّنا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) ..
فهذا هو الذي
من أجله أسكنهم هناك ، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان.
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ..
وفي التعبير
رقة ورفرفة ، تصور القلوب رفافة مجنحة ، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك
الوادي الجديب. إنه تعبير نديّ يندّي الجدب برقة القلوب ..
(وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَراتِ) ..
عن طريق تلك
القلوب التي ترف عليهم من كل فج .. لما ذا؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا؟ نعم! ولكن
لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور :
(لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ) ..
وهكذا يبرز
السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام .. إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله.
ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويّها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض ..
إنه شكر الله المنعم الوهاب.
وفي ظل هذا
الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم .. فلا صلاة قائمة لله
، ولا شكر بعد استجابة الدعاء ، وهويّ القلوب والثمرات!
ويعقب إبراهيم
على دعاء الله لذريته الساكنة بجوار بيته المحرم لتقيم الصلاة وتشكر الله .. يعقب
على الدعاء بتسجيله لعلم الله الذي يطلع على ما في قلوبهم من توجه وشكر ودعاء.
فليس القصد هو المظاهرات والأدعية والتصدية والمكاء. إنما هو توجه القلب إلى الله
الذي يعلم السر والجهر ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء :
(رَبَّنا إِنَّكَ
تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ : وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ..
ويذكر إبراهيم
نعمة الله عليه من قبل ؛ فيلهج لسانه بالحمد والشكر شأن العبد الصالح يذكر فيشكر :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) ..
وهبة الذرية
على الكبر أوقع في النفس. فالذرية امتداد. وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب
النهاية ، وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد. وإن إبراهيم ليحمد الله ، ويطمع
في رحمته :
(إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ).
ويعقب على
الشكر بدعاء الله أن يجعله مديما للشكر. الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه
على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق ، أو يصرفه عنها صارف ، ويستعين الله على
إنفاذ عزيمته وقبول دعائه :
(رَبِّ اجْعَلْنِي
مُقِيمَ الصَّلاةِ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) ..
وفي ظل هذا
الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش. وهذا إبراهيم يجعل عون
الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه ، ويدعو الله ليوفقه إليه. وهم ينأون عنها
ويعرضون ، ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو
وبنيه من بعده!
ويختم إبراهيم
دعاءه الضارع الخاشع بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين جميعا ، يوم يقوم الحساب
، فلا ينفع إنسانا إلا عمله ؛ ثم مغفرة الله في تقصيره :
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) ..
وينتهي المشهد
الطويل : مشهد الدعاء الخاشع الضارع. ومشهد تعداد النعم والشكر عليها .. في إيقاع
موسيقي
متموج رخي .. ينتهي بعد أن يخلع على الموقف كله ظلا وديعا لطيفا ، تهفو
القلوب معه إلى جوار الله ، وتذكر القلوب فيه نعم الله. ويرتسم إبراهيم أبو
الأنبياء نموذجا للعبد الصالح الذاكر الشاكر ، كما ينبغي أن يكون عباد الله ،
الذين وجه الحديث إليهم قبيل هذا الدعاء ..
ولا يفوتنا أن
نلمح تكرار إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في كل فقرة من فقرات دعائه الخاشع المنيب لكلمة : «ربنا» أو «ربّ». فإن
لهجان لسانه بذكر ربوبية الله له ولبنيه من بعده ذات مغزى .. إنه لا يذكر الله ـ سبحانه
ـ بصفة الألوهية ، إنما يذكره بصفة الربوبية. فالألوهية قلما كانت موضع جدال في
معظم الجاهليات ـ وبخاصة في الجاهلية العربية ـ إنما الذي كان دائما موضع جدل هو
قضية الربوبية. قضية الدينونة في واقع الحياة الأرضية. وهي القضية العملية
الواقعية المؤثرة في حياة الإنسان. والتي هي مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية
وبين التوحيد والشرك في عالم الواقع .. فإما أن يدين الناس لله فيكون ربهم وإما أن
يدينوا لغير الله فيكون غيره ربهم .. وهذا هو مفرق الطريق بين التوحيد والشرك وبين
الإسلام والجاهلية في واقع الحياة. والقرآن وهو يعرض على مشركي العرب دعاء أبيهم
إبراهيم والتركيز فيه على قضية الربوبية كان يلفتهم إلى ما هم فيه من مخالفة واضحة
لمدلول هذا الدعاء!
* * *
ثم يكمل السياق
الشوط مع (الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) .. وهم ما يزالون بعد في ظلمهم لم يأخذهم العذاب.
والذين أمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يقول لهم : (تَمَتَّعُوا فَإِنَّ
مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) .. وأن ينصرف إلى عباد الله المؤمنين يأمرهم بالصلاة
والإنفاق سرا وعلانية (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) ..
يكمل السياق
الشوط ليكشف عما أعد للكافرين بنعمة الله ؛ ومتى يلقون مصيرهم المحتوم ؛ وذلك في
مشاهد متعاقبة من مشاهد القيامة ، تزلزل الأقدام والقلوب :
(وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) ..
والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يحسب الله غافلا عما يعمل الظالمون. ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض
من يرون الظالمين يتمتعون ، ويسمع بوعيد الله ، ثم لا يراه واقعا بهم في هذه
الحياة الدنيا. فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة ، التي
لا إمهال بعدها. ولا فكاك منها. أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من
الفزع والهلع ، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك. ثم
يرسم مشهدا للقوم في زحمة الهول .. مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء ، ولا يلتفتون
إلى شيء. رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكا. يمتد
بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم. وقلوبهم من الفزع خاوية
خالية لا تضم شيئا يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه ، فهي هواء خواء ..
هذا هو اليوم
الذي يؤخرهم الله إليه. حيث يقفون هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب. الذي يرتسم من
خلال المقاطع الأربعة مذهلا آخذا بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب :
(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ، لا
يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) ..
فالسرعة
المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة ، مع القلب المفزع الطائر
الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك .. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار ..
هذا هو اليوم
الذي يؤخرهم الله إليه ، والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك. فأنذر الناس أنه إذا جاء
فلا اعتذار يومئذ ولا فكاك .. وهنا يرسم مشهدا آخر لليوم الرعيب المنظور :
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا : رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ. أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟! وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ ،
وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ؟) ..
أنذرهم يوم
يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفا ، فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء ،
يقولون :
«ربنا» ..
الآن وقد كانوا
يكفرون به من قبل ويجعلون له أندادا!
(أَخِّرْنا إِلى
أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) ..
وهنا ينقلب
السياق من الحكاية إلى الخطاب. كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون. وكأننا في الآخرة وقد
انطوت الدنيا وما كان فيها. فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت
والتأنيب ، والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة :
(أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟!) ..
فكيف ترون الآن؟!
زلتم يا ترى أم لم تزولوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم
مثلا بارزا للظالمين ومصيرهم المحتوم :
(وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) ..
فكان عجيبا أن
تروا مساكن الظالمين أمامكم ، خالية منهم ، وأنتم فيها خلفاء ، ثم تقسمون مع ذلك :
«ما لكم من
زوال»!
وعند هذا التبكيت
ينتهي المشهد ، وندرك أين صاروا ، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرجاء.
وإن هذا المثل
ليتجدد في الحياة ويقع كل حين. فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من
قبلهم. وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم. ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون ؛ ويسيرون
حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين ؛ فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي
يسكنونها ، والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين ، وتصور مصائرهم للناظرين. ثم يؤخذون
إخذة الغابرين ، ويلحقون بهم وتخلو منهم الديار بعد حين!
* * *
ثم يلتفت
السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك ، إلى واقعهم الحاضر ، وشدة مكرهم بالرسول
والمؤمنين ، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة. فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى
ذلك المصير ، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير :
(وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ .. وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ) ..
إن الله محيط
بهم وبمكرهم ، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ، أثقل
شيء وأصلب شيء ، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال. فإن مكرهم هذا ليس مجهولا وليس
خافيا
وليس بعيدا عن متناول القدرة. بل إنه لحاضر «عند الله» يفعل به كيفما يشاء.
(فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ..
فما لهذا المكر
من أثر ، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر :
(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
ذُو انتِقامٍ) ..
لا يدع الظالم
يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو .. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر
، فالظالم الماكر يستحق الانتقام ، وهو بالقياس إلى الله تعالى ، يعني تعذيبهم
جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم ، تحقيقا لعدل الله في الجزاء.
وسيكون ذلك لا
محالة :
(يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ..
ولا ندري نحن
كيف يتم هذا ، ولا طبيعة الأرض الجديدة وطبيعة السماوات ، ولا مكانها ؛ ولكن النص
يلقي ظلال القدرة القادرة التي تبدل الأرض وتبدل السماوات ؛ في مقابل ذلك المكر
الذي مهما اشتد فهو ضئيل عاجز حسير.
وفجأة نرى ذلك
قد تحقق :
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ..
وأحسوا أنهم
مكشوفون لا يسترهم ساتر ، ولا يقيهم واق. ليسوا في دورهم وليسوا في قبورهم. إنما
هم في العراء أمام الواحد القهار .. ولفظة «القهار» هنا تشترك في ظل التهديد
بالقوة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
ثم ها نحن
أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل ، يناسب ذلك المكر وذلك
الجبروت :
(وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ..
فمشهد المجرمين
: اثنين اثنين مقرونين في الوثاق ، يمرون صفا وراء صف .. مشهد مذل دال كذلك على
قدرة القهار. ويضاف إلى قرنهم في الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة
القابلية للالتهاب ، وهي في ذات الوقت قذرة سوداء .. «من قطران» .. ففيها الذل
والتحقير ، وفيها الإيحاء بشدة الاشتعال بمجرد قربهم من النار!
(وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) ..
فهو مشهد
العذاب المذل المتلظي المشتعل جزاء المكر والاستكبار ..
(لِيَجْزِيَ اللهُ
كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ..
ولقد كسبوا
المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذل. إن الله سريع الحساب. فالسرعة في الحساب هنا
تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم ، ويعوق انتصار أحد
عليهم. فها هم أولاء يجزون ما كسبوا ذلا وألما وسرعة حساب!
* * *
وفي النهاية
تختم السورة بمثل ما بدأت ، ولكن في إعلان عام جهير الصوت ، عالي الصدى ، لتبليغ
البشرية كلها في كل مكان :
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ،
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).
إن الغاية
الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار ، هي أن يعلم الناس (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) .. فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في
الحياة.
وليس المقصود
بطبيعة الحال مجرد العلم ، إنما المقصود هو إقامة حياتهم على قاعدة هذا العلم ..
المقصود هو الدينونة لله وحده ، ما دام أنه لا إله غيره. فالإله هو الذي يستحق أن
يكون ربا ـ أي حاكما وسيدا ومتصرفا ومشرعا وموجها ـ وقيام الحياة البشرية على هذه
القاعدة يجعلها تختلف اختلافا جوهريا عن كل حياة تقوم على قاعدة ربوبية العباد
للعباد ـ أي حاكمية العباد للعباد ودينونة العباد للعباد ـ وهو اختلاف يتناول
الاعتقاد والتصور ، ويتناول الشعائر والمناسك ؛ كما يتناول الأخلاق والسلوك ،
والقيم والموازين ؛ وكما يتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وكل
جانب من جوانب الحياة الفردية والجماعية على السواء.
إن الاعتقاد
بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل ؛ وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر.
وحدود العقيدة أبعد كثيرا من مجرد الاعتقاد الساكن .. إن حدود العقيدة تتسع
وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة .. وقضية الحاكمية بكل فروعها في
الإسلام هي قضية عقيدة. كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة. فمن العقيدة
ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم ؛ كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواء
بسواء ..
ونحن لا ندرك
مرامي هذا القرآن قبل أن ندرك حدود العقيدة في هذا الدين ، وقبل أن ندرك مدلولات :
«شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» على هذا المستوي الواسع البعيد
الآماد. وقبل أن نفهم مدلول : العبادة لله وحده ؛ ونحدده بأنه الدينونة لله وحده ؛
لا في لحظات الصلاة ، ولكن في كل شأن من شؤون الحياة!
إن عبادة
الأصنام التي دعا إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها ، لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي
كان يزاولها العرب في جاهليتهم ، أو التي كانت تزاولها شتى الوثنيات في صور شتى ،
مجسمة في أحجار أو أشجار ، أو حيوان أو طير ، أو نجم أو نار ، أو أرواح أو أشباح
...
إن هذه الصور
الساذجة كلها لا تستغرق كل صور الشرك بالله ، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام
من دون الله. والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور الساذجة يمنعنا من رؤية صور
الشرك الأخرى التي لا نهاية لها ؛ ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور
البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة!
ولا بد من
التعمق في إدراك طبيعة الشرك وعلاقة الأصنام بها ؛ كما أنه لا بد من التعمق في
معنى الأصنام ، وتمثل صورها المتجددة مع الجاهليات المستحدثة!
إن الشرك بالله
ـ المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله ـ يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها
الدينونة في كل شأن من شؤون الحياة خالصة لله وحده. ويكفي أن يدين العبد لله في
جوانب من حياته ، بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله ، حتى تتحقق صورة الشرك
وحقيقته .. وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة ..
والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق
طبيعته .. إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ؛ ثم يدين لله في
الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر. بينما هو في الوقت ذاته يدين
في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
لشرائع من عند غير الله. ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات
واصطلاحات من صنع غير الله. ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من
البشر تفرض عليه هذه الأخلاق والتقاليد والعادات والأزياء ـ مخالفة لشرع الله
وأمره ـ إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته ؛ ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله في أخص حقيقتها .. وهذا ما يغفل عنه الناس اليوم
فيزاولونه في ترخص وتميع ، وهم لا يحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل
زمان ومكان!
والأصنام ..
ليس من الضروري أن تتمثل في تلك الصور الأولية الساذجة .. فالأصنام ليست سوى
شعارات للطاغوت ، يتخفى وراءها لتعبيد الناس باسمها ، وضمان دينونتهم له من خلالها
..
إن الصنم لم
يكن ينطق أو يسمع أو يبصر .. إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها
؛ يتمتم حولها بالتعاويذ والرقى .. ثم ينطق باسمها بما يريد هو أن ينطق لتعبيد
الجماهير وتذليلها!
فإذا رفعت في
أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام والكهان ، ويقررون باسمها ما لم يأذن
به الله من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال ... فهذه هي
الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها!
إذا رفعت «القومية»
شعارا ، أو رفع «الوطن» شعارا ، أو رفع «الشعب» شعارا ، أو رفعت «الطبقة» شعارا ...
ثم أريد الناس على عبادة هذه الشعارات من دون الله ؛ وعلى التضحية لها بالنفوس
والأموال والأخلاق والأعراض. بحيث كلما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته
وتعليماته مع مطالب تلك الشعارات ومقتضياتها ، نحيت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته
وتعاليمه ، ونفذت إرادة تلك الشعارات ـ أو بالتعبير الصحيح الدقيق : إرادة
الطواغيت الواقفة وراء هذه الشعارات ـ كانت هذه هي عبادة الأصنام من دون الله ..
فالصنم ليس من الضروري أن يتمثل في حجر أو خشبة ؛ ولقد يكون الصنم مذهبا أو شعارا!
إن الإسلام لم
يجىء لمجرد تحطيم الأصنام الحجرية والخشبية! ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة ،
من موكب الرسل الموصول ؛ ولم تقدم من أجله تلك التضحيات الجسام وتلك العذابات
والآلام ، لمجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب!
إنما جاء
الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ؛ وبين
الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة .. ولا بد من تتبع الهيئات والصور في كل
وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة ، وتقرير ما إذا كانت
توحيدا أم شركا؟ دينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام!
والذين يظنون
أنفسهم في «دين الله» لأنهم يقولون بأفواههم «نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله» ، ويدينون لله فعلا في شؤون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث
.. بينما هم يدينون فيما وراء هذا الركن الضيق لغير الله ؛ ويخضعون لشرائع لم يأذن
بها الله ـ وكثرتها مما يخالف مخالفة صريحة شريعة الله ـ ثم هم يبذلون أرواحهم
وأموالهم وأعراضهم وأخلاقهم ـ أرادوا أم لم يريدوا ـ ليحققوا ما تتطلبه منهم
الأصنام الجديدة. فإذا تعارض دين أو خلق أو عرض مع مطالب هذه الأصنام ، نبذت أوامر
الله فيها ونفذت مطالب هذه الأصنام ...
الذين يظنون
أنفسهم «مسلمين» وفي «دين الله» وهذا حالهم .. عليهم أن يستفيقوا لما هم فيه من
الشرك العظيم!!!
إن دين الله
ليس بهذا الهزل الذي يتصوره من يزعمون أنفسهم «مسلمين» في مشارق الأرض ومغاربها!
إن دين الله منهج شامل لجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها. والدينونة لله وحده في
كل تفصيل وكل جزئية من جزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها ـ فضلا على أصولها
وكلياتها ـ هي دين الله ، وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه.
وإن الشرك
بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غيره معه ؛ ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم
أرباب غيره معه ..
وإن عبادة
الأصنام لا تتمثل في إقامة أحجار وأخشاب ؛ بقدر ما تتمثل في إقامة شعارات لها كل
ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات!
ولينظر الناس
في كل بلد لمن المقام الأعلى في حياتهم؟ ولمن الدينونة الكاملة؟ ولمن الطاعة
والاتباع والامتثال؟
.. فإن كان هذا
كله لله فهم في دين الله. وإن كان لغير الله ـ معه أو من دونه ـ فهم في دين
الطواغيت والأصنام .. والعياذ بالله ..!
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ،
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..
* * *
انتهى الجزء الثالث عشر
ويليه الجزء الرابع عشر
مبدوءا بسورة الحجر
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورتا
الحجر والنّحل
الجزء الرابع عشر
(١٥) سورة الحجر مكيّة
وآياتها تسع وتسعون
بسم الله الرّحمن الرّحيم
هذه السورة
مكية بجملتها ، نزلت بعد سورة يوسف ، في الفترة الحرجة ، ما بين «عام الحزن» وعام
الهجرة .. تلك الفترة التي تحدثنا عن طبيعتها وملابساتها ومعالمها من قبل في تقديم
سورة يونس وفي تقديم سورة هود وفي تقديم سورة يوسف بما فيه الكفاية ..
وهذه السورة
عليها طابع هذه الفترة ، وحاجاتها ومقتضياتها الحركية .. إنها تواجه واقع تلك
الفترة مواجهة حركية ؛ وتوجه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والجماعة المسلمة معه ، توجيها واقعيا مباشرا وتجاهد المكذبين جهادا
كبيرا. كما هي طبيعة هذا القرآن ووظيفته.
ولما كانت حركة
الدعوة في تلك الفترة تكاد تكون قد تجمدت ، بسبب موقف قريش العنيد منها ومن النبي ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ والعصبة المؤمنة معه ؛ حيث اجترأت قريش على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بما لم تكن تجترئ عليه في حياة أبي طالب. واشتد استهزاؤها بدعوته ؛ كما
اشتد إيذاؤها لصحابته .. فقد جاء القرآن الكريم في هذه الفترة يهدد المشركين
المكذبين ويتوعدهم ؛ ويعرض عليهم مصارع المكذبين الغابرين ومصائرهم ؛ ويكشف للرسول
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن علة تكذيبهم وعنادهم ؛ وهي لا تتعلق به ولا بالحق الذي معه ، لكنها
ترجع إلى العناد الذي لا تجدي معه الآيات البينات. ومن ثم يسلي الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويواسيه ؛ ويوجهه إلى الإصرار على الحق الذي معه ؛ والصدع به بقوة في
مواجهة الشرك وأهله ؛ والصبر بعد ذلك على بطء الاستجابة ووحشة العزلة ، وطول
الطريق!
ومن هنا تلتقي
هذه السورة في وجهتها وفي موضوعها وفي ملامحها مع بقية السور التي نزلت في تلك
الفترة ؛ وتواجه مثلها مقتضيات تلك الفترة وحاجاتها الحركية. أي الحاجات
والمقتضيات الناشئة من حركة الجماعة المسلمة بعقيدتها الإسلامية في مواجهة
الجاهلية العربية في تلك الفترة من الزمان بكل ملابساتها الواقعية. ومن ثم تواجه
حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة ، وذلك كالذي تواجهه
الحركة الإسلامية الآن في هذا الزمان.
ونحن نؤكد على
هذه السمة في هذا القرآن .. سمة الواقعية الحركية .. لأنها في نظرنا مفتاح التعامل
مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه ..
إنه لا بد من
استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي
صاحبت
نزول النص القرآني .. لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته ؛
ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي ؛ ويواجه حالة واقعة ؛ كما يواجه أحياء يتحركون
معه أو ضده. وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها ؛ كما هي ضرورية للانتفاع
بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية ، وعلى الأخص
فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه
المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا
الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة ؛ ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا
وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والعصبة
المسلمة معه .. من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة ؛ التي
لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شؤون الحياة الاعتقادية
والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية .. وما يلقونه كذلك من
الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تبتلى
ـ في سبيل الله ـ به ..
إن هؤلاء الذين
يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ؛ ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة
المسلمة الأولى .. هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية .. وهم وحدهم الذين يفقهون هذا
القرآن ؛ ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه. على النحو الذي أسلفنا .. وهم
وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق ، في مواجهة
الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة!
وبمناسبة هذه
الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة
الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى
إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الجاهلية إلى الإسلام ؛ ومن الدينونة
للعباد إلى الدينونة لرب العباد ؛ كما كانت الحركة الأولى ـ على عهد محمد صلىاللهعليهوسلم ـ تواجه جاهلية العرب بمثل هذه المحاولة ؛ قبل أن تقوم الدولة في المدينة ؛
وقبل أن يكون للإسلام سلطان على أرض وعلى أمة من الناس.
نحن اليوم في
شبه هذا الموقف لا في مثله ، وذلك لاختلاف بعض الظروف والملابسات الخارجية .. نحن
نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة .. ولكن مع اختلاف في
الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة .. وهذا الاختلاف هو الذي
يقتضي «اجتهادا» جديدا في «فقه الحركة» يوائم بين السوابق التاريخية للحركة
الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا
..
هذا النوع من
الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة .. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة
، وشرائع المجتمع المنظم المستقر ، فهذا ليس أوانه ... إنه ليس على وجه الأرض
اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم ، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه
الإسلامي! .. هذا النوع من الفقه يأتي في حينه ؛ وتفصل أحكامه على قد المجتمع
المسلم حين يوجد ؛ ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك!
إن الفقه
الإسلامي لا ينشأ في فراغ ولا تستنبت بذوره في الهواء!
* * *
ونعود إلى
استكمال الحديث عن موضوعات السورة :
محور هذه
السورة الأول : هو إبراز طبيعة المكذبين بهذا الدين ودوافعهم الأصيلة للتكذيب ،
وتصوير المصير المخوف الذي ينتظر الكافرين المكذبين .. وحول هذا المحور يدور
السياق في عدة جولات ، متنوعة
الموضوع والمجال ، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل. سواء في ذلك القصة ،
ومشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله
وتعقب عليه.
وإذا كان جو
سورة الرعد يذكّر بجو سورة الأنعام. فإن جو هذه السورة ـ الحجر ـ يذكر بجو سورة
الأعراف. ـ وابتداؤها كان بالإنذار ، وسياقها كله جاء مصداقا للإنذار ـ فهنا كذلك
في سورة الحجر يتشابه البدء والسياق ، مع اختلاف في الطعم والمذاق!
إن الإنذار في
مطلع سورة الأعراف صريح :
(كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. وَكَمْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ
دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ
..)
ثم ترد فيها
قصة آدم وإبليس ويتابعها السياق حتى تنتهي الحياة الدنيا ، ويعود الجميع إلى ربهم
، فيجدوا مصداق النذير .. ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون : السماوات والأرض ،
والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره ، والرياح والسحاب والماء
والثمرات .. ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى : وكلها تصدق
النذير ..
وهنا في سورة الحجر
يجيء الإنذار كذلك في مطلعها ، ولكن ملفعا بظل من التهويل والغموض يزيد جوها رهبة
وتوقعا للمصير :
(رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ
إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ) ..
ثم يعرض السياق
بعض مشاهد الكون : السماء وما فيها من بروج ، والأرض الممدودة والرواسي الراسخة ،
والنبت الموزون ، والرياح اللواقح ، والماء والسقيا ، والحياة والموت والحشر
للجميع .. يلي ذلك قصة آدم وإبليس ، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين .. ومن ثم
لمحات من قصص إبراهيم ولوط وشعيب وصالح منظورا فيها إلى مصائر المكذبين ، وملحوظا
فيها أن مشركي العرب يعرفون الآثار الدارسة لهذه الأقوام ، وهم يمرون عليها في طريقهم
إلى الشام.
فالمحور في
السورتين واحد ، ولكن شخصية كل منهما متميزة ؛ وإيقاعهما يتشابه ولا يتماثل ، على
عادة القرآن الكريم في تناوله لموضوعاته الموحدة ، بطرق شتى ، تختلف وتتشابه ،
ولكنها لا تتكرر أبدا ولا تتماثل!
ويمكن تقسيم
سياق السورة هنا إلى خمس جولات ، أو خمسة مقاطع ، يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا :
تتضمن الجولة
الأولى بيان سنة الله التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب. مبدوءة
بذلك الإنذار الضمني الملفع بالتهويل :
(رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..
ومنتهية بأن
المكذبين إنما يكذبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان :
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا : إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ!) .. وأنهم جميعا من طراز واحد :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) ..
وتعرض الجولة
الثانية بعض آيات الله في الكون : في السماء وفي الأرض وما بينهما. وقد قدرت بحكمة
، وأنزلت بقدر :
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ، فَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) ..
وإلى الله مرجع
كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم : (وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ..
أما الجولة
الثالثة فتعرض قصة البشرية وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصيلة ،
ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين. وذلك في خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون
والنفخ من روح الله في هذا الطين. ثم في غرور إبليس واستكباره وتوليه الغاوين دون
المخلصين.
والجولة
الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح ، مبدوءة بقول الله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ثم يتتابع القصص ، يجلو رحمة الله مع إبراهيم ولوط ،
وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح .. ملحوظا في هذا القصص أنه يعرض على قريش مصارع
أقوام يمرون على أرضهم في طريقهم إلى الشام ويرون آثارهم :
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ..
أما الجولة
الخامسة والأخيرة فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض المتلبس بالساعة
وما بعدها من ثواب وعقاب ، المتصل بدعوة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله ، وللبدء والمصير : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ
الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَلَقَدْ
آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ..) إلى آخر السورة ..
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
وَما
أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
ما
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
وَقالُوا
يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦)
لَوْ
ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(٧) ما
نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
كَذلِكَ
نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢)
لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
وَلَوْ
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)
(١٥)
هذا المقطع
الأول في سياق السورة ، يتحدث عن طبيعة الكتاب الذي يكذب به المشركون .. ويهددهم
بيوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين! كما يكشف لهم عن سبب إرجاء هذا اليوم عنهم ، فهو
موقوت بأجل معلوم .. ويذكر تحدياتهم واستهزاءهم وطلبهم الملائكة ، ثم يهددهم بأن
نزول الملائكة يكون معه الهلاك والتدمير! وأخيرا يكشف عن العلة الحقيقية للتكذيب
.. إنها ليست نقص الدليل ولكنه العناد الأصيل! ..
ألف. لام. را
.. (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ..
هذه الأحرف
ونظائرها هي الكتاب وهي القرآن. هذه الأحرف التي في متناول الجميع ، هي «تلك»
الآيات العالية الأفق البعيدة المتناول ، المعجزة التنسيق. هذه الأحرف التي لا
مدلول لها في ذاتها هي القرآن الواضح الكاشف المبين.
فإذا كان قوم
يكفرون بآيات الكتاب المعجز ويكذبون بهذا القرآن المبين فسيأتي يوم يودون فيه لو
كانوا غير ما كانوا ؛ ويتمنون فيه لو آمنوا واستقاموا :
(رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ..
ربما .. ولكن
حيث لا ينفع التمني ولا تجدي الودادة .. ربما .. وفيها التهديد الخفي ، والاستهزاء
الملفوف ؛ وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام والنجاة قبل أن
تضيع ، ويأتي اليوم الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين ؛ فما ينفعهم يومئذ أنهم يودون!
وتهديد آخر
ملفوف :
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..
ذرهم فيما هم
فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع. لا تأمل فيها ولا تدبرو لا استطلاع. ذرهم
في تلك الدوامة : الأمل يلهي والمطامع تغر ، والعمر يمضي والفرصة تضيع. ذرهم فلا
تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين ، الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور ، يلوح لهم ويشغلهم
بالأطماع ، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود ، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم
عنه راد ، ولا يمنعهم منه مانع. وأن ليس وراءهم حسيب ؛ وأنهم ناجون في النهاية بما
ينالون مما يطعمون!
وصورة الأمل
الملهي صورة إنسانية حية. فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان ، وهو يجري
وراءه ، وينشغل به ، ويستغرق فيه ، حتى يجاوز المنطقة المأمونة ؛ وحتى يغفل عن
الله ، وعن القدر ، وعن الأجل ؛ وحتى ينسى أن هنالك واجبا ، وأن هنالك محظورا ؛ بل
حتى لينسى أن هنالك إلها ، وأن هنالك موتا ، وأن هناك نشورا.
وهذا هو الأمل
القاتل الذي يؤمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يدعهم له .. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) .. حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان .. وهو أمر فيه
تهديد لهم ، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن
المصير المحتوم.
وإن سنة الله
لماضية لا تتخلف ؛ وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها ؛ مترتب على
سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته :
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها
وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ..
فلا يغرنهم
تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت ، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم.
ولسوف يعلمون.
وذلك الكتاب
المعلوم والأجل المقسوم ، يمنحه الله للقرى والأمم ، لتعمل ، وعلى حسب العمل يكون
المصير. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها ، حتى تنحرف عن هذه
الأسس كلها ، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى ، عندئذ تبلغ أجلها ، وينتهي وجودها
، إما نهائيا بالهلاك والدثور ، وإما وقتيا بالضعف والذبول.
ولقد يقال : إن
أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم. فلا
بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير العمارة للأرض ، وخير العدل في
حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى
هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي
حتما إلى المصير المعلوم.
إن سنة الله لا
تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم :
(ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ..
* * *
ويحكي السياق
سوء أدبهم مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد جاءهم بالكتاب والقرآن المبين ، يوقظهم من الأمل الملهي ، ويذكّرهم بسنة
الله ، فإذا هم يسخرون منه ويتوقحون :
«وقالوا : يا
أيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!»
..
وتبدو السخرية
في ندائهم :
(يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ..
فهم ينكرون
الوحي والرسالة ؛ ولكنهم يتهكمون على الرسول الكريم بهذا الذي يقولون.
ويبدو سوء
الأدب في وصفهم للرسول الأمين :
(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ..
جزاء على دعوته
لهم بالقرآن المبين.
وهم يتمحكون
فيطلبون الملائكة مصدقين :
«لو ما تأتينا
بالملائكة إن كنت من الصادقين!».
وطلب نزول
الملائكة يتكرر في هذه السورة وفي غيرها ، مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومع غيره من الرسل قبله : وهو كما قلنا ظاهرة من ظواهر الجهل بقيمة هذا
الكائن الإنساني الذي كرمه الله ، فجعل النبوة في جنسه ، ممثلة في أفراده
المختارين.
والرد على ذلك
التهكم وتلك الوقاحة وهذا الجهل هو ذكر القاعدة التي تشهد بها مصارع السالفين : أن
الملائكة لا تنزل على الرسول إلا لهلاك المكذبين من قومه حين ينتهي الأجل المعلوم
؛ وعندئذ فلا إمهال ولا تأجيل :
(ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ..
فهل هو ما
يريدون وما يتطلبون؟!
* * *
ثم يردهم
السياق إلى الهدى والتدبر .. إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق ، ليحقوه
وينفذوه. والحق عند التكذيب هو الهلاك. فهم يستحقونه فيحق عليهم. فهو حق تنزل به
الملائكة لتنفذه بلا تأخير. وقد أراد الله لهم خيرا مما يريدون بأنفسهم ، فنزل لهم
الذكر يتدبرونه ويهتدون به ، وهو خير لهم من تنزيل الملائكة بالحق الأخير! لو
كانوا يفقهون :
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ..
فخير لهم أن
يقبلوا عليه. فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل. ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه
التحريف وهو يقودهم إلى الحق برعاية الله وحفظه ، إن كانوا يريدون الحق ، وإن
كانوا يطلبون الملائكة للتثبت .. إن الله لا يريد أن ينزل عليهم الملائكة ، لأنه
أراد بهم الخير فنزل لهم الذكر المحفوظ ، لا ملائكة الهلاك والتدمير.
وننظر نحن
اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر ؛ فنرى فيه المعجزة
الشاهدة بربانية هذا الكتاب ـ إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة ـ ونرى أن
الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه
القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونا محفوظا لا تتبدل فيه كلمة ،
ولا تحرف فيه جملة ، لو لا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر ، أكبر من
الأحوال والظروف والملابسات والعوامل ، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل ،
وتصونه من العبث والتحريف.
لقد جاء على
هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق ، وكثر فيه النزاع ، وطمت
فيه الفتن ، وتماوجت فيه الأحداث. وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن
وفي حديث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود ـ خاصة ـ ثم
من «القوميين» دعاة «القومية» الذين تسمّوا بالشعوبيين!
ولقد أدخلت هذه
الفرق على حديث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين
لتحرير سنة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين.
كما استطاعت هذه
الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية ، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص
لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات ..
ولكنها عجزت
جميعا ـ وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابا ـ أن تحدث حدثا واحدا في نصوص هذا
الكتاب المحفوظ ؛ وبقيت نصوصه كما أنزلها الله ؛ حجة باقية على كل محرف وكل مؤول ؛
وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ.
ثم جاء على
المسلمين زمان ـ ما نزال نعانيه ـ ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم ، وعن حماية عقيدتهم
، وعن حماية نظامهم ، وعن حماية أرضهم ، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم.
وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم ،
وأحلوا مكانه كل منكر فيهم .. كل منكر من العقائد والتصورات ، ومن القيم والموازين
، ومن الأخلاق والعادات. ومن الأنظمة والقوانين .. وزينوا لهم الانحلال والفساد
والتوقح والتعري من كل خصائص «الإنسان» وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان .. وأحيانا
إلى حياة يشمئز منها الحيوان .. ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من «التقدم»
و «التطور» و «العلمانية» و «العلمية» و «الانطلاق» و «التحرر» و «تحطيم الأغلال» و
«الثورية» و «التجديد» ... إلى آخر تلك الشعارات والعناوين .. وأصبح «المسلمون»
بالأسماء وحدها مسلمين. ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير. وباتوا غثاء كغثاء
السيل لا يمنع ولا يدفع ، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقودا للنار .. وهو وقود هزيل!
..
ولكن أعداء هذا
الدين ـ بعد هذا كله ـ لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها. ولم يكونوا
في هذا من الزاهدين. فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ ، وعلى
نيل هذه الأمنية لو كانت تنال!
ولقد بذل أعداء
هذا الدين ـ وفي مقدمتهم اليهود ـ رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في
الكيد لدين الله. وقدروا على أشياء كثيرة .. قدروا على الدس في سنة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعلى تاريخ الأمة المسلمة. وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم
المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون. وقدروا على
تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين. وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في
صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات
الإسلامية على مدار القرون ، وبخاصة في العصر الحديث ..
ولكنهم لم
يقدروا على شيء واحد ـ والظروف الظاهرية كلها مهيأة له ـ .. لم يقدروا على إحداث
شيء في
هذا الكتاب المحفوظ ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه ؛ وهم بعد
أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع ؛ فدل هذا مرة أخرى على
ربانية هذا الكتاب ، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقا تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا
الوعد على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مجرد وعد. أما هو اليوم ـ من وراء كل تلك الأحداث الضخام ؛ ومن وراء كل
تلك القرون الطوال. فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب ، والتي لا يماري فيها
إلا عنيد جهول :
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) .. وصدق الله العظيم ..
ويعزي الله
سبحانه نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيخبره أنه ليس بدعا من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب ، فهكذا
المكذبون دائما في عنادهم الذميم :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..
وعلى هذا النحو
الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم ، يتلقى المكذبون المجرمون
من أتباعك ما جئتهم به. وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر
ولا تحسن الاستقبال ، جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين :
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ) ..
نسلكه في
قلوبهم مكذّبا بما فيه مستهزأ به ؛ لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا
النحو. سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة ؛
فالمكذبون أمة واحدة ، من طينة واحدة :
(وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) ..
وليس الذي
ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان ، فهم معاندون ومكابرون ، مهما تأتهم من آية بينة
فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون.
وهنا يرسم
السياق نموذجا باهرا للمكابرة المرذولة والعناد البغيض :
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا :
إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ..
ويكفي تصورهم
يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها. يصعدون بأجسامهم ، ويرون الباب المفتوح
أمامهم ، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها .. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون :
لا. لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكّر أبصارنا وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل :
(إِنَّما سُكِّرَتْ
أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ..
سكر أبصارنا
مسكر وسحرنا ساحر ، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكّر مسحور!
يكفي تصورهم
على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من
الجدل مع هؤلاء. ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان. وليس الذي يمنعهم أن
الملائكة لا تنزل. فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم
مكابرون. مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف!
إنه نموذج بشري
للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير ، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير ..
وهذا النموذج
ليس محليا ولا وقتيا ، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين .. إنه نموذج للإنسان
حين تفسد فطرته ، وتستغلق بصيرته ، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي ،
وينقطع عن الوجود الحي من حوله ، وعن إيقاعاته وإيحاءاته.
هذا النموذج
يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها «المذاهب
العلمية!» وهي أبعد ما تكون عن العلم ؛ بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة ..
إن أصحاب
المذاهب المادية يلحدون في الله ؛ ويجادلون في وجوده ـ سبحانه ـ وينكرون هذا
الوجود .. ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله ، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا
بذاته ، بلا خالق ، وبلا مدبر ، وبلا موجّه .. يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك
الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و «أخلاقية!» كذلك. ويزعمون أن هذه
المذاهب القائمة على ذلك الأساس ، والتي لا تنفصل عنه بحال .. «علمية» .. هي وحدها
«العلمية»!
وعدم الشعور
بوجود الله سبحانه ، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية ، هو دلالة لا تنكر على
تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلّات النّكدة. كما أن اللجاجة في هذا الإنكار
لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة :
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا : إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ!) ..
فالشواهد
الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء. وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا
هامسا وجاهرا ، باطنا وظاهرا ، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار.
إن القول بأن
هذا الكون موجود بذاته ؛ وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ؛
كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه .. وهي موافقات لا تحصى
.. إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري ، كما ترفضه الفطرة من أعماقها. وكلما
توغل «العلم» في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ؛ رفض فكرة التلقائية
في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ؛ واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة
المدبرة من ورائه .. هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا
الكون وإيحاءاته. قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجئ إلا أخيرا!
إن الكون لا
يملك أن يخلق ذاته ، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده. كما أن نشأة
الحياة لا يفسرها وجود الخالي من الحياة. وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون
وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا .. كما أخذ يرفضه
العلم المادي نفسه أخيرا :
يقول عالم
الأحياء والنبات «رسل تشارلز إرنست» الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا : «لقد
وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ؛ فذهب بعض الباحثين إلى
أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزئيات
البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي
تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن
جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل
وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر
للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة ، يمكن أن
يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة
التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا
التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد
إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذي خلق الأشياء ودبرها.
«إنني أعتقد أن
كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين
الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على
الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أو من بوجود الله إيمانا راسخا»
وهذا الذي يكتب
هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة. إنما بدأ بحثه من
النظر الموضوعي لنواميس الحياة. والمنطق السائد في بحثه هو منطق «العلم الحديث» ـ بكل
خصائصه ـ لا منطق الإلهام الفطري ، ولا منطق الحس الديني. ومع ذلك فقد انتهى إلى
الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري ، كما يقررها الحس الديني. ذلك أن الحقيقة متى
كان لها وجود ، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها ؛ أما الذين لا
يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا!
والذين يجادلون
في الله ـ مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل ، وعن منطق الكون ... أولئك
كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا .. إنهم العمي الذين يقول الله
تعالى فيهم : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى).
وإذا كانت هذه
حقيقتهم ؛ فإن ما ينشئونه من مذاهب «علمية!» اجتماعية وسياسية واقتصادية ؛ وما
ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني
؛ يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط ، صادر عن أعمى ، معطل الحواس
الأخرى ، محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا ـ على الأقل فيما يتعلق
بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها. وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا ؛
فضلا على أن يكيّف نظرته ، ويقيم منهج حياته ، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا!
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية ، وليست قضية رأي وفكر! إن الذي يقيم تفكيره ، ويقيم
مذهبه في الحياة ، ويقيم نظام حياته كذلك ، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشئ
ذاته ، ومنشئ الإنسان أيضا .. إنما يخطئ في قاعدة الفكرة والمذهب والنظام ؛ فكل
التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ؛
ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم ، يقيم اعتقاده وتصوره ، ويجب أن
يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره.
ومن ثم يصبح
القول بأن ما يسمى «الاشتراكية العلمية» منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة
أو هراء! ويصبح الأخذ بما يسمى «الاشتراكية العلمية» ـ وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج
تفكيرها وبناء أنظمتها ـ عدولا جذريا عن الإسلام : اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما
.. حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك «الاشتراكية العلمية» واحترام العقيدة في
الله بتاتا. ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام .. وهذه هي
الحقيقة التي لا محيص عنها ..
إن الناس في أي
أرض وفي أي زمان ؛ إما أن يتخذوا الإسلام دينا ، وإما أن يتخذوا المادية دينا.
فإذا
__________________
اتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا «الاشتراكية العلمية» المنبثقة
من «الفلسفة المادية» ، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه ، نظاما ..
وعلى الناس أن تختار .. إما الإسلام ، وإما المادية ، منذ الابتداء!
إن الإسلام ليس
مجرد عقيدة مستكنة في الضمير. إنما هو نظام قائم على عقيدة .. كما أن «الاشتراكية
العلمية» ـ بهذا الاصطلاح ـ ليست قائمة على هواء ، إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا
من «المذهب المادي» الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق
المدبر أصلا ، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي .. ومن ثم ذلك التناقض
الجذري بين الإسلام وما يسمى «الاشتراكية العلمية» بكل تطبيقاتها!
ولا بد من
الاختيار بينهما .. ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار!!!
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦)
وَحَفِظْناها
مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما
أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)
وَإِنَّا
لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)
وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)
وَإِنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)
(٢٥)
من مشهد
المكابرة. وكان ميدانه السماء. إلى معرض الآيات الكونية مبدوءا بمشهد السماء.
فمشهد الأرض. فمشهد الرياح اللواقح بالماء. فمشهد الحياة والموت. فمشهد البعث
والحشر .. كل أولئك آيات يكابر فيها من لو فتح عليهم باب من السماء فظلوا فيه
يعرجون ، لقالوا : إنما سكرت أبصارنا ، بل نحن قوم مسحورون. فلنعرضها مشهدا مشهدا
كما هي في السياق :
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً. وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
مُبِينٌ) ..
إنه الخط الأول
في اللوحة العريضة .. لوحة الكون العجيبة ، التي تنطق بآيات القدرة المبدعة ،
وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة ؛ وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير ،
كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير.
والبروج قد
تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها. وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي
تتنقل فيها في مدارها. وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة ، وشاهدة بالدقة
، وشاهدة بالإبداع الجميل :
(وَزَيَّنَّاها
لِلنَّاظِرِينَ) ..
وهي لفتة هنا
إلى جمال الكون ـ وبخاصة تلك السماء ـ تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا
الكون. فليست الضخامة وحدها ، وليست الدقة وحدها ، إنما هو الجمال الذي ينتظم
المظاهر جميعا ، وينشأ من تناسقها جميعا.
وإن نظرة مبصرة
إلى السماء في الليلة الحالكة ، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم ، توصوص بنورها
ثم يبدو كأنما تخبو ، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد .. ونظرة مثلها في
الليلة القمرية والبدر حالم ، والكون من حوله مهوّم ، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ
الحالم السعيد!.
إن نظرة واحدة
شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني ، وعمق هذا الجمال في تكوينه ؛ ولإدراك
معنى هذه اللفتة العجيبة :
(وَزَيَّنَّاها
لِلنَّاظِرِينَ) ..
ومع الزينة
الحفظ والطهارة :
(وَحَفِظْناها مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) ..
لا ينالها ولا
يدنسها ؛ ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته. فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها ،
وبالغاوين من أبناء آدم فيها. أما السماء ـ وهي رمز للسمو والارتفاع ـ فهو مطرود
عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها. إلا محاولة منه ترد كلما حاولها :
(إِلَّا مَنِ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) ..
وما الشيطان؟
وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟ .. كل هذا غيب من غيب الله ، لا سبيل لنا
إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه ، لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة ؛
ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ، وبما يعطله عن عمله
الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة.
فلنعلم أن لا
سبيل في السماء لشيطان ، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ ، وأن ما ترمز إليه من
سمو وعلى مصون لا يناله دنس ولا رجس ، ولا يخطر فيه شيطان ، وإلا طورد فطرد وحيل
بينه وبين ما يريد.
ولا ننسى جمال
الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت ، والشيطان الصاعد ، والشهاب المنقض ، فهي
من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل.
والخط الثاني
في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر ، المبسوطة للخطو
والسير ؛ وما فيها من رواس ، وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء :
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ..
إن ظل الضخامة
واضح في السياق. فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة ـ تبدو ضخامتها حتى في جرس
كلمة «بروج» وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه «مبين» .. والإشارة في الأرض إلى
الرواسي ـ ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله : (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ). وإلى النبات موصوفا بأنه «موزون» وهي كلمة
ذات ثقل ، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام
وتقدير .. ويشترك في ظل التضخيم جمع «معايش» وتنكيرها ، وكذلك «ومن لستم له
برازقين» من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام. فكلها تخلع ظل
الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم.
والآية الكونية
هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس. فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو ؛ وهذه الرواسي
الملقاة على الأرض ، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون ؛ ومنه إلى المعايش التي
جعلها الله للناس في هذه الأرض. وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها. وهي
كثيرة شتى ، يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا. جعلنا لكم
فيها معايش ، وجعلنا لكم كذلك «من لستم له برازقين». فهم يعيشون على أرزاق الله
التي جعلها لهم في الأرض. وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى. أمة لا
ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها ، ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها
وخدمتها أمما أخرى تعيش من رزق الله ، ولا تكلفها شيئا.
هذه الأرزاق ـ ككل
شيء ـ مقدرة في علم الله ، تابعة لأمره ومشيئته ، يصرفها حيث يشاء وكما يريد ، في
الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها ، وأجراها في الناس والأرزاق :
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ..
فما من مخلوق
يقدر على شيء أو يملك شيئا ، إنما خزائن كل شيء ـ مصادره وموارده ـ عند الله. في
علاه. ينزله على الخلق في عوالمهم «بقدر معلوم» فليس من شيء ينزل جزافا ، وليس من
شيء يتم اعتباطا.
ومدلول هذا
النص المحكم : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة ، وكلما
اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه. ومدلول «خزائنه» يتجلى في صورة أقرب بعد
ما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي ؛ وطبيعة تركيبها
وتحليلها ـ إلى حد ما ـ وعرف مثلا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين
والأكسوجين! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في
الهواء! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون! وتلك الأشعة
التي ترسل بها الشمس أيضا! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان
إلى معرفة شيء منها .. وهو شيء على كثرته قليل قليل ... ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء :
(وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ ، فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ. وَما
أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) ..
أرسلنا الرياح لواقح
بالماء ، كما تلقح الناقة بالنتاج ؛ فأنزلنا من السماء ماء مما
حملت الرياح ، فأسقينا كموه فعشتم به :
(وَما أَنْتُمْ لَهُ
بِخازِنِينَ) ..
__________________
فما من خزائنكم
جاء ، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم.
والرياح تنطلق
وفق نواميس كونية ، وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس ؛ وتسقط الماء كذلك بحسبها. ولكن
من الذي قدر هذا كله من الأساس؟ لقد قدره الخالق ، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ
عنه كل الظواهر :
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
ونلحظ في التعبير
أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء .. (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) .. والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء ، وجعلنا
الماء صالحا لحاجتكم ، وقدرنا هذا وذاك. وأجريناه وحققناه بقدر الله. والتعبير
يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله ، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول
الماء للشراب. لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره
المتعلق بكل حركة وحادث .. سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته هناك في حركات
الأنفس .. تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين ، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات
والأرضين ، وفي الرياح والماء والاستقاء. وكله من سنة الله التي يجري بها قدر
الله. وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس
والأشياء سواء.
ثم يتم السياق
رجع كل شيء إلى الله ، فيرد إليه الحياة والموت ، والأحياء والأموات ، والبعث
والنشور.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ..
وهنا يلتقي
المقطع الثاني بالمقطع الأول. فهناك قال :
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها
وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ..
وهنا يقرر أن
الحياة والموت بيد الله ، وأن الله هو الوارث بعد الحياة. وأنه هو يعلم من كتب
عليهم أن يستقدموا فيتوفوا ، ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة وأنه هو
الذي يحشرهم في النهاية ، وإليه المصير :
(إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ) ..
يقدر لكل أمة
أجلها بحكمته ، ويعلم متى تموت ، ومتى تحشر ، وما بين ذلك من أمور ..
ونلاحظ في هذا
المقطع وفي الذي قبله تناسقا في حركة المشهد. في تنزيل الذكر. وتنزيل الملائكة.
وتنزيل الرجوم للشياطين. وتنزيل الماء من السماء .. ثم في المجال الذي يحيط
بالأحداث والمعاني ، وهو مجال الكون الكبير : السماء والبروج والشهب ، والأرض
والرواسي والنبات ، والرياح والمطر .. فلما ضرب مثلا للمكابرة جعل موضوعه العروج
من الأرض إلى السماء خلال باب منها مفتوح في ذات المجال المعروض .. وذلك من بدائع
التصوير في هذا الكتاب العجيب.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨)
فَإِذا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا
لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ
أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ
ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ
لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)
قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤)
وَإِنَّ
عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦)
قالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قالَ
رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩)
إِلاَّ
عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
(٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)
وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ
لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ
آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ
فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)
(٤٨)
هنا نجيء إلى
قصة البشرية الكبرى : قصة الفطرة الأولى. قصة الهدى والضلال وعواملهما الأصيلة. قصة
آدم. مم خلق؟ وماذا صاحب خلقه وتلاه؟
ولقد مرت بنا
هذه القصة في الظلال معروضة مرتين من قبل. في سورة البقرة ، وفي سورة الأعراف. ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص ، في معرض خاص
، في جو خاص ، ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع ، واختلفت طريقة
الأداء ، واختلفت الظلال ، واختلف الإيقاع. مع المشاركة في بعض المقدمات
والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف.
تشابهت مقدمات
القصة في السور الثلاث ؛ في الإشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه
فيها :
ففي سورة
البقرة سبقها في السياق : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ،
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..
وفي سورة
الأعراف سبقها : (وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) ..
وهنا سبقها : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ، وَجَعَلْنا
لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ..
ولكن السياق
الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض ..
في البقرة كانت
نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق الله للناس ما فيها
جميعا :
__________________
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) .. ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت
له الملائكة لما خفي عليهم سره : «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة
فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم
بأسمائهم قال : ألم أقل لكم : إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما
كنتم تكتمون؟» .. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره. وسكنى آدم
وزوجه الجنة. وإزلال الشيطان لهما عنها وإخراجهما منها. ثم الهبوط إلى الأرض
للخلافة فيها ، بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية ، واستغفارهما وتوبة الله
عليهما ... وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده
معهم ، فكان هذا متصلا باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض ، وعهده معه ، والتجربة
القاسية لأبي البشر ..
وفي الأعراف
كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها ؛ وإبراز عداوة
إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها. حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة
العرض الأولي. ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم
عادوه وخالفوه. وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود ..
ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره. وطلبه من الله أن
ينظره إلى يوم البعث ، ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد. ثم إسكان آدم وزوجه
الجنة يأكلان من ثمرها كله إلا شجرة واحدة ، هي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة
والطاعة. ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل ، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما
لهما ، وعتاب الله لآدم وزوجه ، وإهباطهم إلى الأرض جميعا للعمل في أرض المعركة
الكبرى : «قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ، قال :
فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون» .. ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود
الجميع كرة أخرى. وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار. ثم انتهى فريق إلى
الجنة وفريق إلى النار : (وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ. قالُوا : إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) .. وأسدل الستار ..
فأما هنا في
هذه السورة فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم ، وسر الهدى والضلال
، وعواملهما الأصيلة في كيان الإنسان .. ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من
صلصال من حمأ مسنون ، ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم ؛ وخلق الشيطان من قبل من
نار السموم. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافا من السجود لبشر من
صلصال من حمأ مسنون. وطرده ولعنته. وطلبه الإنظار إلى يوم البعث وإجابته. وزاد أن
إبليس قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين. إنما سلطانه على من
يدينون له ولا يدينون لله. وانتهى بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا
تفصيل. تبعا لنقطة التركيز في السياق ، وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان ، وبيان
مجال سلطة الشيطان ..
فلنمض إلى
مشاهد القصة في هذا المجال :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ
نارِ السَّمُومِ) ..
وفي هذا
الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين بين الصلصال ـ وهو الطين اليابس الذي يصلصل عند
نقره ، المتخذ من الطين الرطب الآسن ـ والنار الموسومة بأنها شعواء سامة .. نار
السموم .. وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الإنسان قد دخل فيها عنصر جديد هو النفخة من
روح الله ، أما طبيعة الشيطان فبقيت من نار السموم.
«وإذ قال ربك
للملائكة : إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس أبي أن يكون مع
الساجدين. قال : يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين؟ قال : لم أكن لأسجد لبشر
خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال : فاخرج منها فإنك رجيم ، وإن عليك اللعنة إلى
يوم الدين» ..
وإذ قال ربك
للملائكة .. متى قال؟. وأين قال؟ وكيف قال؟ كل أولئك قد أجبنا عنه في سورة البقرة
في الجزء الأول من هذه الظلال. إنه لا سبيل إلى الإجابة ، لأنه ليس لدينا نص يجيب.
وليس لنا من سبيل إلى ذلك الغيب إلا بنص ، وكل ما عدا ذلك ضرب في التيه بلا دليل .
فأما خلق
الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والنفخ فيه من روح الله فكيف كان؟ فهو كذلك ما لا
ندري كيفيته ، ولا سبيل إلى تحديد هذه الكيفية بحال من الأحوال.
وقد يقال
بالإحالة إلى نصوص القرآن الأخرى في هذه القضية ، وبخاصة قوله : ولقد خلقنا
الإنسان من سلالة من طين. وقوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماء مهين. أن
أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض ؛ ومن عناصره الرئيسية التي تتمثل
بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي وتركيب الأحياء أجمعين. وأن هنالك أطوارا بين
الطين والإنسان تشير إليها كلمة «سلالة». وإلى هنا وتنتهي دلالة النصوص ، فكل زيادة
تحمل عليها ضرب من التمحل ليس القرآن في حاجة إليه. وللبحث العلمي أن يمضي في
طريقه بوسائله الميسرة له ، ، فيصل إلى ما يصل إليه من فروض ونظريات ، يحقق منها
ما يجد إلى تحقيقه سبيلا مضمونة ، ويبدل منها ما لا يثبت على البحث والتمحيص. غير
متعارض في أية نتيجة يحققها مع الحقيقة الأولية التي تضمنها القرآن ؛ وهي ابتداء
خلق هذه السلالة من عناصر الطين ودخول الماء في تركيبها على وجه اليقين.
فأما كيف ارتقى
هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة إلى أفق الحياة العضوية أولا ، وإلى أفق
الحياة الإنسانية أخيرا؟ فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون. وما يزال سر
الحياة في الخلية الأولى خافيا لا يزعم أحد أنه اهتدى إليه. فأما سر الحياة
الإنسانية العليا بما فيها من مدارك وإشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية
جميعا ، تفوقا حاسما فاصلا منذ بدء ظهور الإنسان. فأما هذا السر فما تزال النظريات
تخبط حوله ولا تملك الآن أن تنكر تفرد الإنسان بخصائصه منذ نشأته كما أنها لا تملك
أن تثبت الصلة المباشرة بينه وبين أي كائن قبله ، مما يزعم بعضها أن الإنسان «تطور»
عنه. كما أنها لا تملك نفي الاحتمال الآخر : وهو نشأة الأجناس منفصلة منذ البدء ـ وإن
كان بعضها أرقى من بعض ـ ثم نشأة هذا الإنسان متفردا منذ البدء أيضا. والقرآن
الكريم يفسر لنا ذلك التفرد ، هذا التفسير المجمل الواضح البسيط :
(فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ...)
فهي روح الله
تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم ، منذ بدء التكوين
، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ
بدء التكوين.
كيف؟ ..
ومتى كان في
نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم؟.
__________________
وهنا نصل إلى
الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين ..
ـ لقد كان خلق
الشيطان ـ من قبل ـ من نار السموم. فهو سابق إذن للإنسان في الخلق. هذا ما نعلمه.
أما كيف هو وكيف كان خلقه. فذلك شأن آخر. ليس لنا أن نخوض فيه. إنما ندرك من صفاته
بعض صفات نار السموم. ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار.
والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم. ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة
الغرور والاستكبار. وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار! ولقد كان خلق
الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ؛ ثم من النفخة العلوية التي
فرقت بينه وبين سائر الأحياء ؛ ومنحته خصائصه الإنسانية ، التي أفردته منذ نشأته
عن كل الكائنات الحية ؛ فسلك طريقا غير طريقها منذ الابتداء. بينما بقيت هي في
مستواها الحيواني لا تتعداه!
هذه النفخة
التي تصله بالملأ الأعلى ؛ وتجعله أهلا للاتصال بالله ، وللتلقي عنه ؛ ولتجاوز
النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل
فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان
، ووراء طاقة العضلات والحواس ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير
محدودة في بعض الأحيان.
ذلك كله مع
ثقلة الطين في طبعه ، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته : من طعام وشراب ولباس
وشهوات ونزوات. ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات ..
هذا مع أن هذا الكائن «مركّب» منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه.
طبيعته طبيعة «المركّب» لا طبيعة «المخلوط» أو «الممزوج!» .. ولا بد من ملاحظة هذه
الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية
التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين .. إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في
تكوينه ، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته. إنه لا يكون طينا
خالصا في لحظة ، ولا يكون روحا خالصا في لحظة ؛ ولا يتصرف تصرفا واحدا إلا بحكم
تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال!
والتوازن بين
خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن
يبلغه ، وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوبا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد
عنصريه ومطالبه ليكون ملكا أو ليكون حيوانا. وليس واحد منهما هو الكمال المنشود
للإنسان. والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه
الأصيلة ، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص.
والذي يحاول أن
يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة .. كلاهما
يخرج على سواء فطرته ؛ ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له. وكلاهما يدمر نفسه
بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا
أنكر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء ، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا
يفطر ، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة ـ رضي
الله عنها ـ وقال : «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وقد أقام
الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك ؛ وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر
فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه
الطاقات ، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى.
فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير.
والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله. والنظام الذي يقيمه
الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان.
والذي يريد قتل
النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد. ومثله الذي يريد قتل
النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب
الذي هو من خصائص الإنسان .. والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية ،
كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء .. كلاهما عدو «للإنسان»
يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان!
إن الإنسان
حيوان وزيادة .. فله مثل مطالب الحيوان ، وله ما يقابل هذه الزيادة. وليست هذه
المطالب دون هذه هي «المطالب الأساسية» كما يزعم أعداء الإنسان من أصحاب المذاهب
المادية «العلمية».
هذه بعض
الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان ، كما يقررها القرآن. نمر بها
سراعا ، حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى ، راجين أن نعود
إليها ببعض التعقيبات في نهايتها :
لقد قال الله
للملائكة : «إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين» ..
وقد كان ما
قاله الله. فقوله ـ تعالى ـ إرادة. وتوجه الإرادة ينشئ الخلق المراد. ولا نملك أن
نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني. فالجدل على هذا
النحو عبث عقلي. بل عبث بالعقل ذاته ، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب
التصور والإدراك والحكم. وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو
إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده ، وإقحام له في غير ميدانه ، ليقيس
عمل الخالق إلى مدركات الإنسان ، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية ، وخطأ في
المنهج من الأساس. إنه يقول : كيف يتلبس الخالد بالفاني ، وكيف يتلبس الأزلي
بالحادث؟ ثم ينكر أو يثبت ويعلل! بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في
الموضوع. لأن الله يقول : إن هذا قد كان. ولا يقول : كيف كان. فالأمر إذن ثابت ولا
يملك العقل البشري أن ينفيه. وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده ـ غير
التسليم بالنص ـ لأنه لا يملك وسائل الحكم. فهو حادث. والحادث لا يملك وسائل الحكم
على الأزلي في ذاته ، ولا على الأزلي في خلقه للحادث. وتسليم العقل ابتداء بهذه
البديهية أو القضية ـ وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من
صوره. يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون.
فلننظر بعد ذلك
ماذا كان :
(فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ..
كما هي طبيعة
هذا الخلق ـ الملائكة ـ الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق.
(إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) ..
وإبليس خلق آخر
غير الملائكة. فهو من نار وهم من نور. وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون. وهو أبى وعصى. فليس هو من الملائكة بيقين. أما الاستثناء هنا فليس على
وجهه. إنما هو كما تقول : حضر بنو فلان إلا أحمد. وليس منهم. إنما هو معهم في كل
مكان أو ملابسة. وأما أن الأمر المذكور للملائكة : «وإذ
قال ربك للملائكة» .. فكيف شمل إبليس؟ فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه
ما بعده ، وقد ذكر صريحا في سورة الأعراف : «قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟» ..
وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع. فقول الله تعالى له : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ؟) .. قاطع في أن الأمر قد صدر له. وليس من الضروري أن
يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة. فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما.
وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف. ولكن
المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة. وهذا ما نختاره.
وعلى أية حال
فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود
النصوص. لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال.
(قالَ : يا إِبْلِيسُ
ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؟ قالَ : لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ
لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ..
وصرحت طبيعة
الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم. وذكر إبليس الصلصال
والحمأ ، ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين. وتشامخ برأسه المغرور
يقول : إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون!.
وكان ما ينبغي
أن يكون :
(قالَ : فَاخْرُجْ
مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (وَإِنَّ عَلَيْكَ
اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ..
جزاء العصيان
والشرود.
عندئذ تتبدى
خليقة الحقد وخليقة الشر :
(قالَ : رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قال : فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» ..
لقد طلب النظرة
إلى يوم البعث ، لا ليندم على خطيئته في حضرة الخالق العظيم ، ولا ليتوب إلى الله
ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم. ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده.
يربط لعنة الله له بآدم ، ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير! (قالَ : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا
عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ..
وبذلك حدد
إبليس ساحة المعركة. إنها الأرض :
(لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ..
وحدد عدته فيها
إنه التزيين. تزيين القبيح وتجميله ، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه. وهكذا
لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله ، وتظهره في غير
حقيقته وردائه. فليفطن الناس إلى عدة الشيطان ؛ وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا
، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء.
ليحذروا فقد
يكون الشيطان هناك. إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته ، فليس للشيطان ـ بشرطه
هو ـ على عباد الله المخلصين من سبيل :
(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ..
__________________
والله يستخلص
لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله ، ويجردها له وحده ، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء
ليس للشيطان عليهم من سلطان.
هذا الشرط الذي
قرره إبليس ـ اللعين ـ قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه ، لأنه سنة الله .. أن
يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه ، وأن يحميه ويرعاه .. ومن ثم كان الجواب :
(هذا صِراطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ..
هذا صراط. هذا
ناموس. هذه سنة. وهي السنة التي ارتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال.
«إن عبادي»
المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان ، ولا لك فيهم تأثير ، ولا تملك أن تزين لهم لأنك
عنهم محصور ، ولأنهم منك في حمى ، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة ، وهم يعلقون
أبصارهم بالله ، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. إنما سلطانك على من
اتبعك من الغاوين الضالين. فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءا من عباد الله
المخلصين. إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع.
فأما من يخلصون أنفسهم لله ، فالله لا يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا
فإنهم يثوبون من قريب!
فأما العاقبة.
عاقبة الغاوين. فهي معلنة في الساحة منذ البدء :
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ
مَقْسُومٌ).
فهؤلاء الغاوون
صنوف ودرجات. والغواية ألوان وأشكال. ولكل باب منهم جزء مقسوم ، بحسب ما يكونون
وما يعملون.
وينتهي المشهد
وقد وصل السياق بالقصة إلى نقطة التركيز وموضع العبرة. ووضح كيف يسلك الشيطان
طريقه إلى النفوس. وكيف تغلب خصائص الطين في الإنسان على خصائص النفخة. فأما من
يتصل بالله ويحتفظ بنفخة روحه فلا سلطان عليه للشيطان ..
وبمناسبة ذكر
مصير الغاوين يذكر مصير المخلصين :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ
فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).
والمتقون هم
الذين يرقبون الله ويقون أنفسهم عذابه وأسبابه. ولعل العيون في الجنات تقابل في
المشهد تلك الأبواب في جهنم وهم يدخلون الجنات بسلام آمنين في مقابل الخوف والفزع
هناك. ونزعنا ما في صدورهم من غل ، في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما
سلف من السياق. لا يمسهم فيها نصب ولا يخافون منها خروجا. جزاء ما خافوا في الأرض
واتقوا فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم ....
* * *
وبعد ، فإن قصة
البشرية الكبرى ـ كما تعرض في هذا السياق القرآني ـ تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك
أن نستطرد فيها ـ في ظلال القرآن ـ فنكتفي أن نلم بها إلماما ، على قدر المناسبة :
* إن دلالتها
واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان. فهو تكوين خاص متفرد ، يزيد على
مجرد التركيب العضوي الحيوي ، الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء. وأيا كانت نشأة
الحياة ، ونشأة الأحياء ؛ فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها
النص القرآني .. خاصية الروح الإلهي المودع فيه ..
وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانا ، يتفرد بخصائصه عن كل
الأحياء الأخرى. وهي قطعا ليست مجرد الحياة. فهو يشترك في «الحياة» مع سائر
الأحياء. ولكنها خاصية الروح الزائد عن مجرد الحياة.
هذه الخاصية ـ كما
يلهم النص القرآني ـ لم تجئ للإنسان بعد مراحل أو أطوار من نشأته ـ كما تزعم
الدارونية ـ ولكنها جاءت مصاحبة لخلقه ونشأته. فلم يجئ على هذا الكائن الإنساني
زمان كان فيه مجرد حيّ من الأحياء ـ بلا روح إنساني خاص ـ ثم دخلته هذه الروح ،
فصاربها هو هذا الإنسان!
ولقد اضطرت
الدارونية الحديثة ـ على يد جوليان هاكسلي ـ أن تعترف بشطر من هذه الحقيقة الكبيرة
؛ وهي تقرر «تفرد الإنسان» من الناحية الحيوية والوظيفية. ومن ثم تفرده من الناحية
العقلية ، وما نشأ عن ذلك كله من تفرده من الناحية الحضارية ..
ولكنها ظلت
تزعم أن هذا الإنسان المتفرد متطور عن حيوان!
والتوفيق عسير
بين ما انتهت إليه الداروينية الحديثة من تفرد الإنسان ، وبين القاعدة التي تقوم
عليها الداروينية ـ قاعدة التطور المطلق وتطور الإنسان عن الحيوان ـ ولكن
الداروينيين ومن والاهم لا يزالون مصرين على ذلك الاندفاع ـ غير العلمي ـ الذي
صبغوه بصبغة العلم ، في دفعة الانسلاخ من كل مقررات الكنيسة! والذي شجع اليهود على
نشره وتمكينه وتثبيته ، وإضفاء الصبغة «العلمية» عليه لغرض في نفوسهم ؛ ولغاية في
مخططاتهم !
ولقد سبق أن تحدثنا
عن هذه القضية ، ونحن نواجه النصوص القرآنية المشابهة في سورة الأعراف في هذه
الظلال ؛ فنقتطف هذه الفقرات مما سبق تقريره هناك :
«وعلى أية حال
، فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليهالسلام ، وفي نشأة الجنس البشري ، ترجح أن إعطاء هذا الكائن
خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة ، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي «الإنساني» كان
ترقيا في بروز هذه الخصائص ، ونموها ، وتدريبها ، واكتسابها الخبرة العالية. ولم
يكن ترقيا في «وجود» الإنسان .. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان .. كما
تقول الداروينية.
«ووجود أنواع
مترقية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيا ـ بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية
النشوء والارتقاء ـ هو مجرد نظرية «ظنية» وليست «يقينية» لأن تقدير أعمار الصخور
ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس
ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدّلها أو تغيرها!
«على أنه ـ على
فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور ـ ليس هناك ما يمنع من وجود «أنواع» من الحيوان ،
في أزمان متوالية ، بعضها أرقى من بعض ، بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما
تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة في حياتها. ثم انقراض بعضها حين
تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة (وظهور أنواع أخرى أكثر ملاءمة
للظروف السائدة) .. ولكن هذا لا «يحتم» أن يكون بعضها «متطورا» من بعض
.. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا ، لا تستطيع أن تثبت
__________________
ـ في يقين مقطوع به ـ أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من
الناحية الزمنية ـ وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها ـ ولكنها فقط تثبت أن
هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا .. وهذا يمكن تعليله بما قلنا من أن
الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة
نوع آخر ، فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى
، فانقرض.
«وعندئذ تكون
نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة ، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح
بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع .. وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في
نشأة البشرية.
«وتفرد الإنسان
من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر
الداروينيون المحدثون ـ وفيهم الملحدون بالله كلية ـ للاعتراف به ، دليل مرجح (في
مجال البحوث الإنسانية) على تفرد النشأة الإنسانية ، وعدم تداخلها مع الأنواع
الأخرى في تطور عضوي».
* هذه النشأة
المتفردة للإنسان ، باحتوائها على هذه الخاصية المنشئة للوجود الإنساني المستقل ..
خاصية النفخة من روح الله .. تجعل النظرة إلى هذا الإنسان و «مطالبه الأساسية»
تختلف اختلافا أصيلا عن نظرة المذاهب المادية ، بكل إفرازاتها الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية ، وكل إفرازاتها في التصورات والقيم التي ينبغي أن تسود
الحياة الإنسانية.
إن الزعم بأن
الإنسان مجرد حيوان متطور عن حيوان! هي التي جعلت الإعلان الماركسي يذكر أن مطالب
الإنسان الأساسية هي الطعام والشراب والمسكن والجنس! فهذه فعلا هي مطالب الحيوان
الأساسية! ولا يكون الإنسان في وضع أحقر مما يكون وفق هذه النظرة! ومن ثم تهدر كل
حقوقه المترتبة على تفرده عن الحيوان بخصائصه الإنسانية .. تهدر حقوقه في الاعتقاد
الديني. وتهدر حقوقه في حرية التفكير والرأي. وتهدر حقوقه في اختيار نوع العمل ،
ومكان الإقامة. وتهدر حقوقه في نقد النظام السائد وأسسه الفكرية والمذهبية. بل
تهدر حقوقه في نقد تصرفات «الحزب» ومن هم أقل من الحزب من الحكام المتسلطين في تلك
الأنظمة البغيضة ، التي تحشر الأناسي حشرا ، وتسوقهم سوقا ، لأن هؤلاء «الأناسيّ»
وفق الفلسفة المادية ليسوا سوى نوع من الحيوان تطور عن حيوان! .. ثم يسمى ذلك
النكد كله : «الاشتراكية العلمية»! فأما النظرة الإسلامية إلى «الإنسان» ـ وهي
تقوم على أساس تفرده بخصائصه الإنسانية إلى جانب ما يشارك فيه الحيوان من التكوين
العضوي ـ فإنها منذ اللحظة الأولى تعتبر أن مطالب الإنسان الأساسية مختلفة وزائدة
عن مطالب الحيوان الأساسية. فليس الطعام والشراب والمسكن والجنس هي كل مطالبه
الأساسية. وليس ما وراءها من مطالب العقل والروح مطالب ثانوية! .. إن العقيدة
وحرية التفكير والإرادة والاختيار هي مطالب أساسية كالطعام والشراب والمسكن والجنس
.. بل هي أعلى منها في الاعتبار ؛ لأنها هي المطالب الزائدة في الإنسان على
الحيوان. أي المطالب المتعلقة بخصائصه التي تقرر إنسانيته! والتي بإهدارها تهدر
آدميته! ومن ثم لا يجوز أن تهدر في النظام الإسلامي حرية الاعتقاد والتفكير
والاختيار في سبيل «الإنتاج» وتوفير الطعام والشراب والمسكن والجنس للآدميين! كما
لا يجوز أن تهدر القيم الأخلاقية ـ كما يقررها الله للإنسان لا كما يقررها العرف
والبيئة والاقتصاد ـ في سبيل توفير تلك المطالب الحيوانية ..
إنهما نظرتان
مختلفتان من الأساس في تقييم «الإنسان» و «مطالبه الأساسية» .. ومن ثم لا يمكن
الجمع بينهما في نظام واحد على الإطلاق! فإما الإسلام ، وإما المذاهب المادية بكل
ما تفرزه من إفرازات نكدة ..
بما فيها ما يسمونه هناك : «الاشتراكية العلمية» فإن هو إلا إفراز خبيث من
إفرازات المادية الحقيرة المحتقرة للإنسان الذي كرمه الله.
* والمعركة
الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان
للإنسان بعيدا عن منهج الله ؛ والتزيين له فيما عداه. استدراجه إلى الخروج من
عبادة الله ـ أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور ، وشعيرة ونسك ، وشريعة
ونظام ـ فأما الذين يدينون له وحده ـ أي يعبدونه وحده ـ فليس للشيطان عليهم من
سلطان .. (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ..
ومفرق الطريق
بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون ؛ وبين الاتجاه إلى جهنم التي وعد بها
الغاوون ، هو الدينونة لله وحده ـ التي يعبر عنها في القرآن دائما بالعبادة ـ أو
اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة.
والشيطان نفسه
لم يكن ينكر وجود الله سبحانه ، ولا صفاته .. أي إنه لم يكن يلحد في الله من ناحية
العقيدة! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة لله .. وهذا هو ما أورده جهنم هو
ومن اتبعه من الغاوين.
إن الدينونة
لله وحده هي مناط الإسلام. فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير الله في حكم من
الأحكام. وسواء كان هذا الحكم خاصا بالاعتقاد والتصور. أو خاصا بالشعائر والمناسك.
أو خاصا بالشرائع والقوانين. أو خاصا بالقيم والموازين ... فهو سواء .. الدينونة
فيه لله هي الإسلام. والدينونة فيه لغير الله هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان.
ولا يمكن تجزئة
هذه الدينونة ؛ واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع. فالدينونة لله
كل لا يتجزأ. وهي العبادة لله في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء
.. وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان!
* وأخيرا نقف
أمام اللفتة الصادقة العميقة في قوله تعالى عن المتقين :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ
فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) ..
إن هذا الدين
لا يحاول تغيير طبيعة البشر في هذه الأرض ؛ ولا تحويلهم خلقا آخر. ومن ثم يعترف
لهم بأنه كان في صدورهم غلّ في الدنيا ؛ وبأن هذا من طبيعة بشريتهم التي لا يذهب
بها الإيمان والإسلام من جذورها ؛ ولكنه يعالجها فقط لتخف حدتها ، ويتسامى بها
لتنصرف إلى الحب في الله والكره في الله ـ وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ـ ولكنهم
في الجنة ـ وقد وصلت بشريتهم إلى منتهى رقيها وأدت كذلك دورها في الحياة الدنيا ـ ينزع
أصل الإحساس بالغل من صدورهم ؛ ولا تكون إلا الأخوة الصافية الودود ..
إنها درجة أهل
الجنة .. فمن وجدها في نفسه غالبة في هذه الأرض ، فليستبشر بأنه من أهلها ، ما دام
ذلك وهو مؤمن ، فهذا هو الشرط الذي لا تقوم بغيره الأعمال ..
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ
عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢)
قالُوا
لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣)
قالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤)
قالُوا
بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ
يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
قالَ
فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩)
إِلاَّ
امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
فَلَمَّا
جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
قالَ
إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢)
قالُوا
بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣)
وَأَتَيْناكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤)
فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا
إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧)
قالَ
إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨)
وَاتَّقُوا
اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ
بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)
فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣)
فَجَعَلْنا
عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
وَإِنْ
كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨)
فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
وَلَقَدْ
كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠)
وَآتَيْناهُمْ
آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا
يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣)
فَما
أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
(٨٤)
يتضمن هذا الدرس
نماذج من رحمة الله وعذابه ، ممثلة في قصص إبراهيم وبشارته على الكبر بغلام عليم ،
ولوط ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين ، وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما
حل بهم من عذاب أليم.
هذا القصص يساق
بعد مقدمة : (نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) فيجيء بعضه مصداقا لنبأ الرحمة ، ويجيء بعضه مصداقا
لنبأ العذاب .. كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة. فيصدق ما جاء فيها من نذير : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ
إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ) .. فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر ، حل بها
جزاؤها بعد انقضاء الأجل .. وكذلك يصدق هذا القصص ما جاء في مطالع السورة في شأن
الملائكة حين يرسلون : (وَقالُوا : يا
أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما
تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
(ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ..
فتبدو السورة
وحدة متناسقة ، يظاهر بعضها بعضا .. وذلك مع ما هو معلوم من أن السور لم تكن تنزل
جملة إلا نادرا ، وأن الآيات الواردة فيها لم تكن تنزل متتالية تواليها في المصحف.
ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي ، فلا بد من حكمة في ترتيبها على هذا
النسق. وقد كشفت لنا جوانب من هذه الحكمة حتى الآن في السور التي عرضناها في تماسك
بنيان السور ، واتحاد الجو والظلال في كل سورة .. والعلم بعد ذلك لله. إنما هو
اجتهاد. والله الموفق إلى الصواب.
* * *
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ..
يجيء هذا الأمر
للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ذكر جزاء الغاوين وجزاء المتقين في سياق السورة. والمناسبة بينهما
ظاهرة في السياق. ويقدم الله نبأ الغفران والرحمة على نبأ العذاب. جريا على الأصل
الذي ارتضت مشيئته. فقد كتب على نفسه الرحمة. وإنما يذكر العذاب وحده أحيانا أو
يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه.
ثم تجيء قصة
إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط .. وقد وردت هذه الحلقة من قصة إبراهيم
وقصة لوط في مواضع متعددة بأشكال متنوعة ، تناسب السياق الذي وردت فيه. ووردت قصة
لوط وحده في مواضع أخرى.
وقد مرت بنا
حلقة من قصة لوط في الأعراف ، وحلقة من قصة إبراهيم ولوط في هود .. فأما في الأولى
فقد تضمنت استنكار لوط لما يأتيه قومه من الفاحشة ، وجواب قومه : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) .. وإنجاءه هو وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وذلك
دون ذكر لمجيء الملائكة إليه وائتمار قومه بهم .. وأما في الثانية فقد جاءت قصة
الملائكة مع إبراهيم ولوط مع اختلاف في طريقة العرض. فهناك تفصيل في الجزء الخاص
بإبراهيم وتبشيره وامرأته قائمة ، وجداله مع الملائكة عن لوط وقومه. وهو ما لم
يذكر هنا. وكذلك يختلف ترتيب الحوادث في القسم الخاص بلوط في السورتين .. ففي سورة
هود لم يكشف عن طبيعة الملائكة إلا بعد أن جاءه قومه يهرعون إليه وهو يرجوهم في
ضيفه فلا يقبلون رجاءه ، حتى ضاق بهم ذرعا وقال قولته الأسيفة : «لو أن لي بكم قوة
أو آوي إلى ركن شديد!». وأما هنا فقدم الكشف عن طبيعة الملائكة منذ اللحظة الأولى
، وأخر حكاية القوم وائتمار هم بضيف لوط. لأن المقصود هنا ليس هو القصة بترتيبها
الذي وقعت به ، ولكن تصديق النذير ، وأن الملائكة حين ينزلون فإنما ينزلون للعذاب
فلا ينظر القوم ولا يمهلون ..
«ونبئهم عن ضيف
إبراهيم. إذ دخلوا عليه فقالوا : سلاما. قال : إنا منكم وجلون. قالوا : لا توجل
إنا نبشرك بغلام عليم. قال : أبشرتموني على أن مسني الكبر؟ فبم تبشرون؟ قالوا :
بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟».
قالوا : سلاما.
قال : إنا منكم وجلون .. ولم يذكر هنا سبب قوله ، ولم يذكر أنه جاءهم بعجل حنيذ ..
«فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة» .. كما جاء في سورة هود. ذلك
أن المجال هنا هو مجال تصديق الرحمة التي ينبئ الله بها عباده على لسان رسوله ، لا
مجال تفصيلات قصة إبراهيم ..
(قالُوا : لا تَوْجَلْ
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ..
وهكذا عجلوا له
البشرى ، وعجل بها السياق دون تفصيل.
كذلك يثبت هنا
رد إبراهيم ولا يدخل امرأته وحوارها في هذه الحلقة :
«قال : أبشرتموني
على أن مسني الكبر؟ فبم تبشرون؟»
فقد استبعد
إبراهيم في أول الأمر أن يرزق بولد وقد مسه الكبر (وزوجته كذلك عجوز عقيم كما جاء
في مجال آخر) فرده الملائكة إلى اليقين :
«.. قالوا :
بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين» ..
أي من
اليائسين. فآب إبراهيم سريعا ، ونفى عن نفسه القنوط من رحمة الله :
«قال : ومن
يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟»
وبرزت كلمة «الرحمة»
في حكاية قول إبراهيم تنسيقا مع المقدمة في هذا السياق ؛ وبرزت معها الحقيقة
الكلية : أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. الضالون عن طريق الله ، الذين لا
يستروحون روحه ، ولا يحسون رحمته ، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته. فأما القلب
الندي بالإيمان ، المتصل بالرحمن ، فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد ،
ومهما ادلهمت حوله الخطوب ، ومهما غام الجو وتلبد ، وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر
وثقل هذا الواقع الظاهر .. فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين. وقدرة
الله تنشئ الأسباب كما تنشئ النتائج ، وتغير الواقع كما تغير الموعود.
وهنا ـ وقد
اطمأن إبراهيم إلى الملائكة ، وثابت نفسه واطمأنت للبشرى ـ راح يستطلع سبب مجيئهم
وغايته :
«قال : فما
خطبكم أيها المرسلون؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم
أجمعين ، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين » ..
ولا يعرض
السياق لجدال إبراهيم عن لوط وقومه هنا كما عرض له في سورة هود. بل يصل إخبار
الملائكة له ، بالنبإ كله. ذلك أنه يصدق رحمة الله بلوط وأهله ، وعذابه لامرأته
وقومه. وينتهي بذلك دورهم مع إبراهيم ، ويمضون لعملهم مع قوم لوط ..
«فلما جاء آل
لوط المرسلون ، قال : إنكم قوم منكرون. قالوا : بل جئناك بما كانوا فيه يمترون. وأتيناك
بالحق وإنا لصادقون. فأسر بأهلك بقطع من الليل ، واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم
أحد ، وامضوا حيث تؤمرون. وقضينا إليه ذلك الأمر : أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» ..
وهكذا يعجل
السياق إخبارهم للوط بأنهم الملائكة ، جاءوه بما كان قومه يمترون فيه من أخذهم
بذنوبهم وإهلاكهم جزاء ما يرتكبون ، تصديقا لوعد الله ، وتوكيدا لوقوع العذاب حين
ينزل الملائكة بلا إبطاء.
«قال : إنكم
قوم منكرون» ..
قالها ضيّق
النفس بهم ، وهو يعرف قومه ، ويعرف ماذا سيحاولون بأضيافه هؤلاء ، وهو بين قومه
غريب ، وهم فجرة فاحشون .. إنكم قوم منكرون أن تجيئوا إلى هذه القرية وأهلها
مشهورون بما يفعلون مع أمثالكم حين يجيئون!
__________________
(قالُوا : بَلْ
جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ، وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا
لَصادِقُونَ) ..
وهذه التوكيدات
كلها تصور لنا جزع لوط وكربه. وهو في حيرة بين واجبه لضيفه وضعفه عن حمايتهم في
وجه قومه. فجاءه التوكيد بعد التوكيد ، لإدخال الطمأنينة عليه قبل إلقاء التعليمات
إليه :
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ
بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ ، وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) ..
والسرى سير
الليل ، والقطع من الليل جزؤه. وقد كان الأمر للوط أن يسير بقومه في الليل قبل
الصبح ، وأن يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم ولا يدع أحدا منهم يتخلف أو يتلكأ أو
يتلفت إلى الديار على عادة المهاجرين الذين يتنازعهم الشوق إلى ما خلفوا من ديارهم
فيتلفتون إليها ويتلكأون. وكان الموعد هو الصبح والصبح قريب :
(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ
ذلِكَ الْأَمْرَ : أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) ..
وأطلعناه على
ذلك الأمر الخطير : أن آخر هؤلاء القوم ـ وهو دابرهم ـ مقطوع في الصباح. وإذا
انقطع آخرهم فقد انقطع أولهم ؛ والتعبير على هذا النحو يصور النهاية الشاملة التي
لا تبقي أحدا. فلا بد من الحرص واليقظة كي لا يتخلف أحد ولا يتلفت ، فيصيبه ما
يصيب أهل المدينة المتخلفين.
قدم السياق هذه
الواقعة في القصة لأنها الأنسب لموضوع السورة كله. ثم أكمل ما حدث من قوم لوط قبلها.
لقد تسامعوا
بأن في بيت لوط شبانا صباح الوجوه ففرحوا بأن هناك صيدا :
(وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) ..
والتعبير على
هذا النحو يكشف عن مدى الشناعة والبشاعة الذي وصل إليه القوم في الدنس والفجور في
الفاحشة الشاذة المريضة. يكشف عن هذا المدى في مشهد أهل المدينة يجيئون جماعة ،
يستبشرون بالعثور على شبان يعتدون عليهم جهرة وعلانية. هذه العلانية الفاضحة في
طلب هذا المنكر ـ فوق المنكر ذاته ـ شيء بشع لا يكاد الخيال يتصور وقوعه لو لا أنه
وقع. فقد يشذ فرد مريض فيتوارى بشذوذه ، ويتخفى بمرضه ، ويحاول الحصول على لذته
المستقذرة في الخفاء وهو يخجل أن يطلع عليه الناس. وإن الفطرة السليمة لتتخفى بهذه
اللذة حين تكون طبيعية. بل حين تكون شرعية. وبعض أنواع الحيوان يتخفى بها كذلك ..
بينما أولئك القوم المنحوسون يجاهرون بها ، ويتجمهرون لتحصيلها ، ويستبشرون جماعات
وهم يتلمظون عليها! إنها حالة من الارتكاس معدومة النظير.
فأما لوط فوقف
مكروبا يحاول أن يدفع عن ضيفه وعن شرفه. وقف يستشير النخوة الآدمية فيهم ويستجيش
وجدان التقوى لله. وإنه ليعلم أنهم لا يتقون الله ، ويعلم أن هذه النفوس المرتكسة
المطموسة لم تعد فيها نخوة ولا شعور إنساني يستجاش. ولكنه في كربه وشدته يحاول ما
يستطيع :
(قالَ : إِنَّ هؤُلاءِ
ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ، وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) ..
وبدلا من أن
يثير هذا في نفوسهم رواسب المروءة والحياة ، إذا هم يتبجحون فيؤنبون لوطا على
استضافة أحد من الرجال. كأنما هو الجاني الذي هيأ لهم أسباب الجريمة ودفعهم إليها
وهم لا يملكون له دفاعا!
(قالُوا : أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟) ..
ويمضي لوط في
محاولته يلوح لهم باتجاه الفطرة السليم إلى الجنس الآخر. إلى الإناث اللواتي جعلهن
الله
لتلبية هذا الدافع العميق في نظام الحياة ؛ ليكون النسل الذي تمتد به
الحياة وجعل تلبية هذا الدافع معهن موضع اللذة السليمة المريحة للجنسين معا ـ في
الحالات الطبيعية ـ ليكون هذا ضمانا لامتداد الحياة ، بدافع من الرغبة الشخصية
العميقة .. يمضي لوط في محاولته هذه :
(قالَ : هؤُلاءِ بَناتِي
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ..
ولوط النبي لا
يعرض بناته على هؤلاء الفجار ليأخذوهن سفاحا. إنما هو يلوح لهم بالطريق الطبيعي
الذي ترضاه الفطرة السليمة ، لينبه فيهم هذه الفطرة. وهو يعلم أنهم إن ثابوا إليها
فلن يطلبوا النساء سفاحا. فهو مجرد هتاف للفطرة السليمة في نفوسهم لعلها تستيقظ
على هذا العرض الذي هم عنه معرضون.
وبينما هذا
المشهد معروض. القوم في سعارهم المريض يستبشرون ويتلمظون. ولوط يدافعهم ويستشير
نخوتهم ، ويستجيش وجدانهم ، ويحرك دواعي الفطرة السليمة فيهم ، وهم في سعارهم
مندفعون ..
بينما المشهد
البشع معروض على هذا النحو المثير يلتفت السياق خطابا لمن يشهد ذلك المشهد ، على
طريقة العرب في كلامهم بالقسم :
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ..
لتصوير حالتهم
الأصيلة الدائمة التي لا يرجى معها أن يفيقوا ولا أن يسمعوا هواتف النخوة والتقوى
والفطرة السليمة.
ثم تكون
الخاتمة. وتحق عليهم كلمة الله :
(ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ..
وإذا نحن أمام
مشهد الدمار والخراب والخسف والهلاك المناسب لتلك الطبائع المقلوبة :
(فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ
حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ..
وقد خسف بقرى
لوط بظاهرة تشبه ظاهرة الزلازل أو البراكين وتصاحبها أحيانا ظاهرة الخسف وتناثر
أحجار ملوثة بالطين وهبوط مدن بكاملها تسيح في الأرض. ويقال : إن بحيرة لوط
الحالية وجدت بعد هذا الحادث ، بعد انقلاب عمورة وسدوم في باطن الأرض ، وهبوط
مكانها وامتلائه بالماء. ولكننا لا نعلل ما وقع لهم بأنه كان زلزالا أو بركانا
عابرا مما يقع في كل حين .. فالمنهج الإيماني الذي نحرص عليه في هذه الظلال يبعد
كل البعد عن هذه المحاولة!
إننا نعلم علم
اليقين أن الظواهر الكونية كلها تجري وفق ناموس الله الذي أودعه هذا الكون. ولكن
كل ظاهرة وكل حدث في هذا الكون لا يقع بأية حتمية إنما يقع وفق قدر خاص به. بلا
تعارض بين ثبات الناموس وجريان المشيئة بقدر خاص لكل حدث .. كذلك نحن نعلم علم
اليقين أن الله سبحانه يجري في حالات معينة أقدارا معينة بأحداث معينة لوجهة
معينة. وليس من الضروري أن يكون ذلك الذي دمر قرى لوط زلزال أو بركان عادي ؛ فقد
يريد الله أن ينزل بهم ما يشاء ، وقتما يشاء ، فيكون ما يشاء ، وفق ما يشاء ..
وهذا هو المنهج الإيماني في تفسير معجزات الرسل أجمعين ..
وقرى لوط تقع
في طريق مطروق بين الحجاز والشام يمر عليها الناس. وفيها عظات لمن يتفرس ويتأمل ،
ويجد العبرة في مصارع الغابرين. وإن كانت الآيات لا تنفع إلا القلوب المؤمنة
المتفتحة المستعدة للتلقي والتدبر واليقين :
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (. إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ..)
وهكذا صدق
النذير ، وكان نزول الملائكة إيذانا بعذاب الله الذي لا يرد ولا يمهل ولا يحيد.
* * *
كذلك كان الحال
مع قوم شعيب ـ أصحاب الأيكة ـ ومع قوم صالح ـ أصحاب الحجر :
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ.
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ؛ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا
فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ؛ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
آمِنِينَ ؛ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما
كانُوا يَكْسِبُونَ) ..
وقد فصل القرآن
قصة شعيب مع قومه : أهل مدين وأصحاب الأيكة في مواضع أخرى. فأما هنا فيشير إشارة
إلى ظلمهم وإلى مصرعهم تصديقا لنبأ العذاب ، في هذا الشوط ، ولإهلاك القرى بعد
انقضاء الأجل المعلوم الوارد في مطالع السورة. ومدين والأيكة كانتا بالقرب من قرى
لوط. والإشارة الواردة هنا .. (وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ..) قد تعني مدين والأيكة ، فهما في طريق واضح غير مندثر ،
وقد تعني قرى لوط السالفة الذكر وقرية شعيب ، جمعهما لأنهما في طريق واحد بين
الحجاز والشام. ووقوع القرى الداثرة على الطريق المطروق أدعى إلى العبرة ، فهي
شاهد حاضر يراه الرائح والغادي. والحياة تجري من حولها وهي داثرة كأن لم تكن يوما
عامرة. والحياة لا تحفلها وهي ماضية في الطريق!
أما اصحاب
الحجر فهم قوم صالح ، والحجر تقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وهي ظاهرة
إلى اليوم. فقد نحتوها في الصخر في ذلك الزمان البعيد ، مما يدل على القوة والأيد
والحضارة.
(وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) ..
وهم لم يكذبوا
سوى رسولهم صالح. ولكن صالحا ليس إلا ممثلا للرسل أجمعين ؛ فلما كذبه قومه قيل : إنهم
كذبوا المرسلين. توحيدا للرسالة وللرسل وللمكذبين. في كل أعصار التاريخ ، وفي كل
جوانب الأرض ، على اختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأقوام.
(وَآتَيْناهُمْ
آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ..
وآية صالح كانت
الناقة. ولكن الآيات في هذا الكون كثير. والآيات في هذه الأنفس كثير. وكلها معروضة
للأنظار والأفكار. وليست الخارقة التي جاءهم بها صالح هي وحدها الآية التي آتاهم
الله. وقد أعرضوا عن آيات الله كلها ، ولم يفتحوا لها عينا ولا قلبا ، ولم
يستشعرها فيهم عقل ولا ضمير.
(وَكانُوا يَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ،
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..
وهذه اللمحة
الخاطفة من الأمن في البيوت الحصينة في صلب الجبال ، إلى الصيحة التي تأخذهم فلا
تبقي لهم مما جمعوا ومما كسبوا ومما بنوا ومما نحتوا شيئا يغني عنهم ويدفع الهلاك
الخاطف .. هذه اللمحة تلمس القلب البشري لمسة عنيفة. فما يأمن قوم على أنفسهم أكثر
مما يأمن قوم بيوتهم منحوتة في صلب الصخور. وما يبلغ الاطمئنان بالناس في وقت أشد
من اطمئنانهم في وقت الصباح المشرق الوديع .. وها هم أولاء
__________________
قوم صالح تأخذهم الصيحة مصبحين وهم في ديارهم الحصينة آمنون. فإذا كل شيء
ذاهب ، وإذا كل وقاية ضائعة ، وإذا كل حصين موهون .. فما شيء من هذا كله بواقيهم
من الصيحة. وهي فرقعة ريح أو صاعقة ، تلحقهم فتهلكهم في جوف الصخر المتين.
وهكذا تنتهي
تلك الحلقات الخاطفة من القصص في السورة ، محققة سنة الله في أخذ المكذبين عند
انقضاء الأجل المعلوم. فتتناسق نهاية هذا الشوط مع نهايات الأشواط الثلاثة السابقة
في تحقيق سنة الله التي لا ترد ، ولا تتخلف ، ولا تحيد.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥)
إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)
لا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
وَقُلْ
إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
كَما
أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
(٩٠)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ
(٩١)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)
إِنَّا
كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)
الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ
(٩٧) فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨)
وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)
(٩٩)
تلك السنن
العامة التي لا تتخلف ، والتي تحكم الكون والحياة ، وتحكم الجماعات والرسالات ،
وتحكم الهدى والضلال ، وتحكم المصائر والحساب والجزاء. والتي انتهى كل مقطع من
مقاطع السورة بتصديق سنة منها ، أو عرض نماذج منه في شتى هذه المجالات .. تلك
السنن شاهد على الحكمة المكنونة في كل خلق من خلق الله ، وعلى الحق الأصيل الذي
تقوم عليه طبيعة هذا الخلق.
ومن ثم يعقب
السياق في ختام السورة ببيان هذا الحق الأكبر ، الذي يتجلى في طبيعة خلق السماوات
والأرض وما بينهما. وطبيعة الساعة الآتية لا ريب فيها. وطبيعة الدعوة التي يحملها
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد حملها الرسل قبله. ويجمع بينها كلها في نطاق الحق الأكبر الذي يربطها
ويتجلى فيها ؛ ويشير إلى أن ذلك الحق متلبس بالخلق ، صادر عن أن الله هو الخالق
لهذا الوجود : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ..
فليمض الحق
الأكبر في طريقه ، ولتمض الدعوة المستندة إلى الحق الأكبر في طريقها ، وليمض
الداعية إلى الحق لا يبالي المشركين المستهزئين : (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) .. وسنة الله ماضية في
طريقها لا تتخلف. والحق الأكبر من ورائها متلبسا بالدعوة وبالساعة وبخلق
السماوات والأرض ، وبكل ما في الوجود الصادر عن الخلاق العليم .. إنها لفتة ضخيمة
تختم بها السورة. لفتة إلى الحق الأكبر الذي يقوم به هذا الوجود ..
* * *
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ) ..
إن هذا التعقيب
بتقرير الحق الذي تقوم به السماوات والأرض ، والذي به كان خلقهما وما بينهما ،
لتعقيب عظيم الدلالة ، عميق المعنى ، عجيب التعبير. فماذا يشير إليه هذا القول : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ)؟ إنه يوحي بأن الحق عميق في تصميم هذا الوجود : عميق في
تكوينه. عميق في تدبيره. عميق في مصير هذا الوجود وما فيه ومن فيه ..
عميق في تصميم
هذا الوجود. فهو لم يخلق عبثا ، ولم يكن جزافا ، ولم يتلبس بتصميمه الأصيل خداع
ولا زيف ولا باطل. والباطل طارئ عليه ليس عنصرا من عناصر تصميمه.
عميق في
تكوينه. فقوامه من العناصر التي يتألف منها حق لا وهم ولا خداع. والنواميس التي
تحكم هذه العناصر وتؤلف بينها حق لا يتزعزع ولا يضطرب ولا يتبدل. ولا يتلبس به هوى
أو خلل أو اختلاف.
عميق في
تدبيره. فبالحق يدبر ويصرف ، وفق تلك النواميس الصحيحة العادلة التي لا تتبع هوى
ولا نزوة ، إنما تتبع الحق والعدل.
عميق في مصيره.
فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة ؛ وكل تغيير يقع في السماوات
والأرض وما بينهما يتم بالحق وللحق. وكل جزاء يترتب يتبع الحق الذي لا يحابي.
ومن هنا يتصل
الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض وما بينهما ، بالساعة الآتية لا ريب فيها.
فهي آتية لا تتخلف. وهي جزء من الحق الذي قام به الوجود. فهي في ذاتها حقيقة ، وقد
جاءت لتحق الحق.
(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ) ..
ولا تشغل قلبك
بالحنق والحقد ، فالحق لا بد أن يحق :
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) .. الذي خلق ويعلم ما خلق ومن خلق. والخلق كله من
إبداعه فلا بد أن يكون الحق أصيلا فيه ، ولا بد أن ينتهي كل شيء فيه إلى الحق الذي
بدأ منه وقام عليه. فهو فيه أصيل وما عداه باطل وزيف طارئ يذهب ، فلا يبقى إلا ذلك
الحق الكبير الشامل المستقر في ضمير الوجود.
يتصل بهذا الحق
الكبير تلك الرسالة التي جاء بها الرسول. وذلك القرآن الذي أوتيه :
(وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
والمثاني
الأرجح أن المقصود بها آيات سورة الفاتحة السبع ـ كما ورد في الأثر ـ فهي تثنى
وتكرر في الصلاة ، أو يثنى فيها على الله .
__________________
والقرآن العظيم
سائر القرآن.
والمهم أن وصل
هذا النص بآيات خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق والساعة الآتية لا ريب فيها
، يشي بالاتصال بين هذا القرآن والحق الأصيل الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه
الساعة. فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق ، وهو يكشف سنن الخالق ويوجه القلوب إليها
، ويكشف آياته في الأنفس والآفاق ويستجيش القلوب لإدراكها ، ويكشف أسباب الهدى
والضلال ، ومصير الحق والباطل ، والخير والشر والصلاح والطلاح. فهو من مادة ذلك
الحق ومن وسائل كشفه وتبيانه. وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات
والأرض. ثابت ثبوت نواميس الوجود ، مرتبط بتلك النواميس. وليس أمرا عارضا ولا
ذاهبا. إنما يبقى مؤثرا في توجيه الحياة وتصريفها وتحويلها ، مهما يكذب المكذبون ،
ويستهزئ المستهزءون ، ويحاول المبطلون ، الذين يعتمدون على الباطل ، وهو عنصر طارئ
زائل في هذا الوجود.
ومن ثم فإن من
أوتي هذه المثاني وهذا القرآن العظيم ، المستمد من الحق الأكبر ، المتصل بالحق
الأكبر .. لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل في هذه الأرض من أعراضها
الزوائل. ولا يحفل مصير أهل الضلال ، ولا يهمه شأنهم في كثير ولا قليل. إنما يمضي
في طريقه مع الحق الأصيل :
(لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ : إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ) ..
(لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) ..
والعين لا
تمتد. إنما يمتد البصر أي يتوجه. ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها
ممدودة إلى المتاع. وهي صورة طريفة حين يتصورها المتخيل. والمعنى وراء ذلك ألا
يحفل الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ذلك المتاع الذي آتاه الله لبعض الناس رجالا ونساء ـ امتحانا وابتلاء ـ ولا
يلقي إليه نظرة اهتمام ، أو نظرة استجمال. أو نظرة تمن. فهو شيء زائل وشيء باطل ؛
ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم.
وهذه اللفتة
كافية للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول ، والمتاع الصغير
الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل. يليها توجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى إهمال القوم المتمتعين ، والعناية بالمؤمنين ، فهؤلاء هم أتباع الحق
الذي جاء به ، والذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ؛ وأولئك هم أتباع
الباطل الزائل الطارئ على صميم الوجود ..
(وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) ..
ولا تهتم
لمصيرهم السيئ الذي تعلم أن عدل الله يقتضيه ، وأن الحق في الساعة يقتضيه. ودعهم
لمصيرهم الحق.
(وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
والتعبير عن
اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري ، يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة
ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
(وَقُلْ : إِنِّي
أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ..
فذلك هو طريق
الدعوة الأصيل .. ويفرد الإنذار هنا دون التبشير لأنه الأليق بقوم يكذبون
ويستهزئون ،
ويتمتعون ذلك المتاع البراق ، ولا يستيقظون منه لتدبر الحق الذي تقوم عليه
الدعوة ، وتقوم عليه الساعة ، ويقوم عليه الكون الكبير.
(وَقُلْ : إِنِّي
أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) .. تلك القولة التي قالها كل رسول لقومه ؛ ومنهم بقايا
الأقوام التي جاءها أولئك الرسل بتلك النذارة البينة التي جئت بها قومك .. وكان
منهم في الجزيرة العربية اليهود والنصارى .. ولكن هذه البقايا لم تكن تتلقى هذا
القرآن بالتسليم الكامل ، إنما كانت تقبل بعضه وترفض بعضه ، وفق الهوى ووفق التعصب
وهؤلاء هم الذين يسميهم الله هنا : (الْمُقْتَسِمِينَ ،
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ..
(كَما أَنْزَلْنا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
وهذه السورة
مكية. ولكن الخطاب بالقرآن كان عاما للبشر. ومن البشر هؤلاء المقتسمون الذين جعلوا
القرآن عضين (والعضة : الجزء. من عضى الشاة أي فصل بين أعضائها) .. وهم مسؤولون عن
هذه التفرقة. وقد جاءهم القرآن بالنذارة البينة ، كما جاءتهم كتبهم من قبل. ولم
يكن أمر القرآن ولا أمر النبي بدعا لا عهد لهم به. فقد أنزل الله عليهم مثله ،
فكان أولى أن يستقبلوا الجديد من كتاب الله بالقبول والتسليم ..
وحين يصل
السياق إلى هذا الحد ، يتجه بالخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يمضي في طريقه. يجهر بما أمره الله أن يبلغه. ويسمي هذا الجهر صدعا ـ أي
شقا ـ دلالة على القوة والنفاذ. لا يقعده عن الجهر والمضي شرك مشرك فسوف يعلم
المشركون عاقبة أمرهم. ولا استهزاء مستهزئ فقد كفاه الله شر المستهزئين : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ ؛ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..
والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بشر لا يملك نفسه أن يضيق صدره وهو يسمع الشرك بالله ، ويسمع الاستهزاء
بدعوة الحق. فيغار على الدعوة ويغار على الحق ، ويضيق بالضلال والشرك. لهذا يؤمر
أن يسبح بحمد ربه ويعبده ، ويلوذ بالتسبيح والحمد والعبادة من سوء ما يسمع من
القوم. ولا يفتر عن التسبيح بحمد ربه طوال الحياة ، حتى يأتيه اليقين الذي ما بعده
يقين .. الأجل .. فيمضي إلى جوار ربه الكريم :
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ
مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
ويكون هذا ختام
السورة .. الإعراض عن الكافرين واللواذ بجوار الله الكريم. أولئك الكافرين الذين
سيأتي يوم يودون فيه لو كانوا مسلمين ..
إن الصدع
بحقيقة هذه العقيدة ؛ والجهر بكل مقوّماتها وكل مقتضياتها. ضرورة في الحركة بهذه
الدعوة ؛ فالصدع القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية ؛ ويوقظ المشاعر المتبلدة
؛ ويقيم الحجة على الناس (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أما التدسس الناعم بهذه العقيدة ؛ وجعلها عضين يعرض
الداعية منها جانبا ويكتم جانبا ، لأن هذا الجانب يثير الطواغيت أو يصد الجماهير!
فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.
والصدع بحقيقة
هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة ، والخشونة وقلة الذوق والجلافة! كما أن
الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم ، وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء
جانب ، وجعل القرآن عضين .. لا هذه ولا تلك .. إنما هو البيان الكامل لكل حقائق
هذه العقيدة ؛ في وضوح جلي ، وفي حكمة كذلك في الخطاب ولطف ومودة ولين وتيسير.
«وليست وظيفة
الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض ، ولا الأوضاع الجاهلية
القائمة في كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ؛ ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا
في المستقبل .. فالجاهلية هي الجاهلية ، والإسلام هو الإسلام .. الجاهلية هي
الانحراف عن العبودية لله وحده ، وعن المنهج الإلهي في الحياة ، واستنباط النظم
والشرائع والقوانين ، والعادات والتقاليد والقيم والموازين ، من مصدر آخر غير
المصدر الإلهي .. والإسلام هو الإسلام ، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى
الإسلام» .
وهذه الحقيقة
الأساسية الكبيرة هي التي يجب أن يصدع بها أصحاب الدعوة الإسلامية ، ولا يخفوا
منها شيئا ؛ وأن يصروا عليها مهما لاقوا من بطش الطواغيت وتململ الجماهير :
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ
مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ..
* * *
__________________
(١٦) سورة النّحل مكيّة
وآياتها ثمان وعشرون ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)
يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)
وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ
(٨)
وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
وَسَخَّرَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
وَما
ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى
فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
أَفَمَنْ
يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)
وَاللهُ
يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ
أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)
(٢١)
هذه السورة
هادئة الإيقاع ، عادية الجرس ؛ ولكنها مليئة حافلة. موضوعاتها الرئيسية كثيرة
منوعة ؛ والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل ؛ والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة
، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط.
وهي كسائر
السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية. والوحي. والبعث. ولكنها
تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية. تلم بحقيقة الوحدانية
الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ودين محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر
والهدى والضلال. وتلم بوظيفة الرسل ، وسنة الله في المكذبين لهم. وتلم بموضوع
التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع. وتلم بالهجرة في سبيل الله ،
وفتنة المسلمين في دينهم ، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله .. ثم تضيف
إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد ،
وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة .. وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية
الموضوعات التي تعالجها.
فأما الإطار
الذي تعرض فيه هذه الموضوعات ، والمجال الذي تجري فيه الأحداث ، فهو فسيح شامل .. هو
السماوات والأرض. والماء الهاطل والشجر النامي. والليل والنهار والشمس والقمر
والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار. وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها
، والأخرى بأقدارها ومشاهدها. وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال
الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل
والضمير. حملة هادئة الإيقاع ، ولكنها متعددة الأوتار. ليست في جلجلة الأنعام
والرعد ، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري ، وتتجه إلى
العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى ، والأذن لتسمع
، واللمس ليستشعر ، والوجدان ليتأثر ، والعقل ليتدبر. وتحشد الكون كله : سماءه
وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله
وأكنانه نبته وثماره ، وحيوانه وطيوره. كما تحشد دنياه وآخرته ، وأسراره وغيوبه ..
كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب ، مختلف الإيقاعات
التي لا يصمد لها فلا يتأثر بها إلا العقل المغلق والقلب الميت ، والحس المطموس.
هذه الإيقاعات
تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون ، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد
القيامة ، وصور الاحتضار ، ومصارع الغابرين ؛ تصاحبها اللمسات الوجدانية التي
تتدسس إلى أسرار الأنفس ، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون ، وهم في الشباب
والهرم والشيخوخة ، وهم في حالات الضعف والقوة ، وهم في أحوال النعمة والنقمة.
كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح.
فأما الظلال
العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق ،
وعظمة النعمة ، وعظمة العلم والتدبير .. كلها متداخلة .. فهذا الخلق الهائل العظيم
المدبر عن علم وتقدير ، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر ، لا تلبي ضروراتهم
وحدها ، ولكن تلبي أشواقهم كذلك ، فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة ، وترتاح بها
أبدانهم وتستروح لها نفوسهم ، لعلهم يشكرون ..
ومن ثم تتراءى
في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر ، والتوجيهات إليها ، والتعقيب بها في مقاطع
السورة ، وتضرب عليها الأمثال ، وتعرض لها النماذج ، وأظهرها نموذج إبراهيم (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ
وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
كل أولئك في
تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات ، والقضايا والموضوعات نرجو
أن نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق.
ونبدأ الشوط
الأول ، وموضوعه هو التوحيد ؛ وأدواته هي آيات الله في الخلق ، وأياديه في النعمة
، وعلمه الشامل في السر والعلانية ، والدنيا والآخرة. فلنأخذ في التفصيل :
* * *
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ : أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ..
لقد كان مشركوا
مكة يستعجلون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل
بهم العذاب زادوا استعجالا ، وزادوا استهزاء ، وزادوا استهتارا ؛ وحسبوا أن محمدا
يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة ، ليؤمنوا له ويستسلموا. ولم يدركوا حكمة الله في
إمهالهم ورحمته في إنظارهم ؛ ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون ، وآياته في القرآن.
هذه الآيات التي تخاطب العقول والقلوب ، خيرا من خطابها بالعذاب! والتي تليق
بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور ، وحرية الإرادة والتفكير.
وجاء مطلع
السورة حاسما جازما : (أَتى أَمْرُ اللهِ) .. يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة ؛ وهذا يكفي لتحققه
في الموعد الذي قدره الله لوقوعه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته ، لا يقدمها استعجال. ولا
يؤخرها رجاء. فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى ، أما وقوعه ونفاذه
فسيكون في حينه المقدر ، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر.
وهذه الصيغة
الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر ، وذلك فوق مطابقتها
لحقيقة الواقع ؛ فأمر الله لا بد واقع ، ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه ، ويتحقق به
وجوده ، فلا مبالغة في الصيغة ولا مجانبة للحقيقة ، في الوقت الذي تؤدي غايتها من
التأثر العميق في الشعور.
فأما ما هم
عليه من شرك بالله الواحد ، وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه الله عنه وتعالى
:
(سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) بكل صوره وأشكاله ، الناشئة عن هبوط في التصور
والتفكير.
أتى أمر الله
المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون. الله الذي لا يدع الناس إلى ضلالهم وأوهامهم
إنما هو ينزل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم : (يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) .. وهذا أولى نعمه وكبراها. فهو لا ينزل من السماء ماء
يحيي الأرض والأجسام وحدها ـ كما سيجيء ـ إنما ينزل الملائكة بالروح من أمره.
وللتعبير بالروح ظله ومعناه. فهو حياة ومبعث حياة : حياة في النفوس والضمائر
والعقول والمشاعر. وحياة في المجتمع تحفظه من الفساد والتحلل والانهيار. وهو أول
ما ينزله الله من السماء للناس ، وأول النعم التي يمن الله بها على العباد. تنزل
به الملائكة أطهر خلق الله على المختارين من عباده ـ الأنبياء ـ خلاصته وفحواه : (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.)
إنها الوحدانية
في الألوهية. روح العقيدة. وحياة النفس. ومفرق الطريق بين الاتجاه المحيي والاتجاه
المدمر. فالنفس التي لا توحد المعبود نفس حائرة هالكة تتجاذبها السبل وتخايل لها
الأوهام وتمزقها التصورات المتناقضة ، وتناوشها الوساوس ، فلا تنطلق مجتمعة لهدف
من الأهداف!
والتعبير
بالروح يشمل هذه المعاني كلها ويشير إليها في مطلع السورة المشتملة على شتى النعم
، فيصدر بها نعمه جميعا ؛ وهي النعمة الكبرى التي لا قيمة لغيرها بدونها ؛ ولا
تحسن النفس البشرية الانتفاع بنعم الأرض كلها إن لم توهب نعمة العقيدة التي
تحييها.
ويفرد الإنذار
، فيجعله فحوى الوحي والرسالة ، لأن معظم سياق السورة يدور حول المكذبين والمشركين
والجاحدين لنعمة الله ، والمحرمين ما أحله الله ، والناقضين لعهد الله ، والمرتدين
عن الإيمان ومن ثم يكون إظهار الإنذار أليق في هذا السياق. وتكون الدعوة إلى
التقوى والحذر والخوف أولى في هذا المقام.
* * *
ثم يأخذ في عرض
الآيات. آيات الخلق الدالة على وحدانية الخالق ؛ وآيات النعمة الدالة على وحدانية
المنعم ؛ يعرضها فوجا فوجا ، ومجموعة مجموعة. بادئا بخلق السماوات والأرض وخلق
الإنسان.
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) .. الحق قوام خلقهما ، والحق قوام تدبيرهما ، والحق
عنصر أصيل في تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما. فما شيء من ذلك كله عبث ولا
جزاف. إنما كل شيء قائم على الحق ومتلبس به ومفض له وصائر في النهاية إليه .. (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .. تعالى عن شركهم ، وتعالى عما يشركون به من خلق الله
الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق من فيهما وما فيهما ، فليس أحد وليس شيء شريكا له
وهو الخالق الواحد بلا شريك.
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير. بين النطفة
الساذجة والإنسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه فيكفر به ويجادل في وجوده أو
في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة.
فهكذا يصوره التعبير ، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير ، لتبدو المفارقة كاملة
، والنقلة بعيدة ، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين : مشهد النطفة المهينة
الساذجة ، ومشهد الإنسان الخصيم المبين .. وهو إيجاز مقصود في التصوير.
وفي هذا المجال
الواسع ـ مجال الكون : السماوات والأرض ـ الذي يقف فيه الإنسان ، يأخذ السياق
في استعراض خلق الله الذي سخره للإنسان ، ويبدأ بالأنعام :
(وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها ، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ. وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى
بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ، إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً
، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ...
وفي بيئة
كالبيئة التي نزل فيها القرآن أول مرة ، وأشباهها كثير ؛ وفي كل بيئة زراعية
والبيئات الزراعية هي الغالبة حتى اليوم في العالم .. في هذه البيئة تبرز نعمة
الأنعام ، التي لا حياة بدونها لبني الإنسان. والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة
كانت هي الإبل والبقر والضأن والمعز. أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة
ولا تؤكل والقرآن إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من
تلبية لضرورات البشر وتلبية لأشواقهم كذلك : ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف
والأوبار والأشعار ، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وما إليها. ومنها تأكلون لحما
ولبنا وسمنا ، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد لا يبلغونه إلا بشق الأنفس. وفيها
كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح. جمال الاستمتاع بمنظرها
فارهة رائعة صحيحة سمينة. وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم
أكثر مما يدركه أهل المدينة.
وفي الخيل
والبغال والحمير تلبية للضرورة في الركوب. وتلبية لحاسة الجمال في الزينة : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).
وهذه اللفتة
لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة. فالجمال عنصر أصيل في هذه
النظرة وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب ؛ بل تلبية
الأشواق الزائدة على الضرورات. تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني
المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان.
(إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يعقب بها على حمل الأثقال إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا
بشق الأنفس توجيها إلى ما في خلق الأنعام من نعمة ، وما في هذه النعمة من رحمة.
(وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ) .. يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال ،
وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة .. ليظل المجال مفتوحا في التصور
البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة ، فلا يغلق
تصورهم خارج حدود البيئة ، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم. فوراء الموجود في كل
مكان وزمان صور أخرى ، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم ، ويريد
لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع
بها. ولا يقولوا : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم
سواها. وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!.
إن الإسلام
عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم
يهيّئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ، ويتمخض عنه العلم
، ويتمخض عنه المستقبل. استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد
في عجائب الخلق والعلم والحياة.
ولقد جدت وسائل
للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان. وستجد وسائل
__________________
أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان. والقرآن يهيّئ لها القلوب والأذهان ، بلا
جمود ولا تحجر (وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ) ..
وفي معرض النقل
والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض ، يدخل السياق غايات
معنوية وسيرا معنويا وطرقا معنوية. فثمة الطريق إلى الله. وهو طريق قاصد مستقيم لا
يلتوي ولا يتجاوز الغاية. وثمة طرق أخرى لا توصل ولا تهدي. فأما الطريق إلى الله
فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها : بآياته في الكون وبرسله إلى الناس :
(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ. وَمِنْها جائِرٌ. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ..
والسبيل القاصد
هو الطريق المستقيم الذي لا يلتوي كأنه يقصد قصدا إلى غايته فلا يحيد عنها.
والسبيل الجائر هو السبيل المنحرف المجاوز للغاية لا يوصل إليها ، أو لا يقف عندها!
(وَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) .. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان مستعدا للهدى والضلال ،
وأن يدع لإرادته اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال. فكان منهم من يسلك السبيل
القاصد ، ومنهم من يسلك السبيل الجائر. وكلاهما لا يخرج على مشيئة الله ، التي قضت
بأن تدع للإنسان حرية الاختيار.
والفوج الثاني
من آيات الخلق والنعمة :
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنابَ ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) ..
والماء ينزل من
السماء وفق النواميس التي خلقها الله في هذا الكون ، والتي تدبر حركاته ، وتنشئ
نتائجها وفق إرادة الخالق وتدبيره. بقدر خاص من أقداره ينشئ كل حركة وكل نتيجة.
هذا الماء يذكر هنا نعمة من نعم الله (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) فهي خصوصية الشراب التي تبرز في هذا المجال ثم خصوصية
المرعى (وَمِنْهُ شَجَرٌ
فِيهِ تُسِيمُونَ) وهي المراعي التي تربون فيها السوائم. ذلك بمناسبة ذكر
الأنعام قبلها وتنسيقا للجو العام بين المراعي والأنعام. ثم الزروع التي يأكل منها
الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار ..
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .. في تدبير الله لهذا الكون ، ونواميسه المواتية لحياة
البشر ، وما كان الإنسان ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون
مواتية لحياته ، موافقة لفطرته ، ملبية لحاجاته. وما هي بالمصادفة العابرة أن يخلق
الإنسان في هذا الكوكب الأرضي ، وأن تكون النسب بين هذا الكوكب وغيره من النجوم
والكواكب هي هذه النسب ، وأن تكون الظواهر الجوية والفلكية على ما هي عليه ، ممكنة
للإنسان من الحياة ، ملبية هكذا لحاجاته على النحو الذي نراه.
والذين يتفكرون
هم الذين يدركون حكمة التدبير ، وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما
ينشئه على الأرض من حياة وشجر وزروع وثمار ، وبين النواميس العليا للوجود ،
ودلالتها على الخالق وعلى وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره. أما
الغافلون فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء ، في الصيف والشتاء ، فلا
توقظ تطلعهم ، ولا تثير استطلاعهم ولا تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا
النظام الفريد.
والفوج الثالث
من أفواج الآيات :
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..
ومن مظاهر
التدبير في الخلق ، وظواهر النعمة على البشر في آن : الليل والنهار والشمس والقمر
والنجوم. فكلها مما يلبي حاجة الإنسان في الأرض. وهي لم تخلق له ولكنها مسخرة
لمنفعته. فظاهرة الليل والنهار ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري. ومن شاء
فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار ، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان
والنبات في هذه الأرض كيف تكون.
كذلك الشمس
والقمر. وعلاقتهما بالحياة على الكوكب الأرضي ، وعلاقة الحياة بهما في أصلها وفي
نموها ، (وَالنُّجُومُ
مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) للإنسان ولغير الإنسان مما يعلم الله ..
وكل أولئك طرف
من حكمة التدبير ، وتناسق النواميس في الكون كله ، يدركه أصحاب العقول التي تتدبر
وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..
والفوج الرابع
من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان :
(وَما ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ) ..
وما خلق الله
في الأرض وما أودع فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض
الجهات وفي بعض الأزمان. ونظرة إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض ، المودعة للناس
حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم ، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها.
وكلما قيل : إن كنزا منها قد نفد أعقبه كنز آخر غني ، من رزق الله المدخر للعباد
.. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ولا ينسون أن يد القدرة هي التي خبأت لهم هذه الكنوز.
والفوج الخامس
من أفواج الخلق والأنعام في البحر الملح الذي لا يشرب ولا يسقي ، ولكنه يشتمل على
صنوف من آلاء الله على الإنسان :
(وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ، وَتَسْتَخْرِجُوا
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ، وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ،
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..
ونعمة البحر
وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه. فمنه اللحم الطري من السمك وغيره
للطعام. وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان ، وغيرهما من الأصداف والقواقع
التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن. والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة
الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال : (وَتَرَى الْفُلْكَ
مَواخِرَ فِيهِ) فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها : رؤية الفلك (مَواخِرَ) تشق الماء وتفرق العباب .. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام
التوجيه القرآني العالي إلى الجمال في مظاهر الكون ، بجانب الضرورة والحاجة ،
لنتملى هذا الجمال ونستمتع به ، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات.
كذلك يوجهنا
السياق ـ أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه ـ إلى ابتغاء فضل الله ورزقه ، وإلى
شكره على ما سخر من الطعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
والفوج الأخير
في هذا المقطع من السورة :
(وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه
لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا. يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها
أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش ، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون
الجبال والمرتفعات والمنخفضات. ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض. وهذه
الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث.
وفي مقابل
الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري ، والسبل السوالك. والأنهار ذات
علاقة طبيعية في المشهد بالجبال ، ففي الجبال في الغالب تكون منابع الأنهار ، حيث
مساقط الأمطار. والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار. وذات علاقة كذلك بجو الأنعام
والأحمال والانتقال. وإلى جوار ذلك معالم الطرق التي يهتدي بها السالكون في الأرض
من جبال ومرتفعات ومنفرجات ، وفي السماء من النجم الذي يهدي السالكين في البر
والبحر سواء.
* * *
وعند ما ينتهي
استعراض آيات الخلق ، وآيات النعمة ، وآيات التدبير في هذا المقطع من السورة يعقب
السياق عليه بما سيق هذا الاستعراض من أجله. فقد ساقه في صدد قضية التعريف بالله
سبحانه وتوحيده وتنزيهه عما يشركون :
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً
وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ) ..
وهو تعقيب يجيء
في أوانه ، والنفس متهيئة للإقرار بمضمونه : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟) .. فهل هنالك إلا جواب واحد : لا. وكلا : أفيجوز أن
يسوي إنسان في حسه وتقديره .. بين من يخلق ذلك الخلق كله ، ومن لا يخلق لا كبيرا
ولا صغيرا؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر ، فيتضح الأمر
ويتجلى اليقين.
ولقد استعرض
ألوانا من النعمة. فهو يعقب عليها : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .. فضلا على أن تشكروها. وأكثر النعم لا يدريها الإنسان
، لأنه يألفها فلا يشعر بها إلا حين يفتقدها .. وهذا تركيب جسده ووظائفه متى يشعر
بما فيه من إنعام إلا حين يدركه المرض فيحس بالاختلال؟ إنما يسعه غفران الله
للتقصير ورحمته بالإنسان الضعيف (إِنَّ اللهَ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
والخالق يعلم
ما خلق. يعلم الخافي والظاهر : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) فكيف يسوونه في حسهم وتقديرهم بتلك الآلهة المدعاة وهم
لا يخلقون شيئا ولا يعلمون شيئا ، بل إنهم لأموات غير قابلين للحياة على الإطلاق.
ومن ثم فهم لا يشعرون :
(وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْواتٌ
غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ..
والإشارة هنا
إلى البعث وموعده فيها تقرير أن الخالق لا بد أن يعلم موعد البعث. لأن البعث تكملة
للخلق. وعنده يستوفي الأحياء جزاءهم على ما قدموا. فالآلهة التي لا تعلم متى يبعث
عبادها هي آلهة لا تستحق التأليه ، بل هي سخرية الساخرين. فالخالق يبعث مخاليقه
ويعلم متى يبعثهم على التحقيق!
(إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ
وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما
كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
وَقِيلَ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ
دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ
كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)
الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
وَقالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى
هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً
عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا
كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
وَالَّذِينَ
هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا
حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ
يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ
(٤٥)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ
عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
وقفنا في الدرس
السابق عند استعراض آيات الخالق في خلقه ، وفي نعمته على عباده ، وفي علمه بالسر
والعلن .. بينما الآلهة المدعاة. لا تخلق شيئا ، بل هي مخلوقة. ولا تعلم شيئا ، بل
هي ميتة لا تنتظر لها حياة. وهي لا تعلم متى يبعث عبادها للجزاء! وهذا وذلك قاطع
في بطلان عبادتها ، وفي بطلان عقيدة الشرك كافة .. وكان هذا هو الشوط الأول في
قضية التوحيد في السورة مع إشارة إلى قضية البعث أيضا.
وها نحن أولاء
نبدأ في الدرس الجديد من حيث انتهينا في الدرس السابق. نبدأ شوطا جديدا ، يفتتح
بتقرير وحدة الألوهية ، ويعلل عدم إيمان الذين لا يؤمنون بالآخرة بأن قلوبهم منكرة
، فالجحود صفة كامنة فيها تصدهم عن الإقرار بالآيات البينات ، وهم مستكبرون ،
فالاستكبار يصدهم عن الإذعان والتسليم .. ويختم بمشهد مؤثر : مشهد الظلال في الأرض
كلها ساجدة لله ، ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ، والملائكة ، قد
برئت نفوسهم من الاستكبار ، وامتلأت بالخوف من الله ، والطاعة لأمره بلا جدال .. هذا
المشهد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المنكرة قلوبهم في مفتتح هذا الشوط
الجديد.
وبين المطلع
والختام يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين عن الوحي والقرآن إذ
يزعمون أنه أساطير الأولين. ومقولاتهم عن أسباب شركهم بالله وتحريمهم ما لم يحرمه
الله ، إذ يدعون أن الله أراد منهم الشر وارتضاه. ومقولاتهم عن البعث والقيامة إذ
يقسمون جهدهم لا يبعث الله من يموت. ويتولى الرد على مقولاتهم جميعا. ويعرض في ذلك
مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرأون من تلك المقولات الباطلة ، كما يعرض
بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم ، ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو
نهار وهم لا يشعرون ، وهم في تقلبهم في البلاد ، أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار
للعذاب .. وإلى جوار هذا
يعرض صورا من مقولات المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث
من طيب الجزاء. وينتهي بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلال والدواب والملائكة في
الأرض والسماء ..
* * *
(إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ. فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ
، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) ..
ويجمع السياق
بين الإيمان بوحدة الله والإيمان بالآخرة. بل يجعل إحداهما دالة على الأخرى
لارتباط عبادة الله الواحد بعقيدة البعث والجزاء. فبالآخرة تتم حكمة الخالق الواحد
ويتجلى عدله في الجزاء ..
(إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات
العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة ، الواضحة الآثار في نواميس الكون
وتناسقها وتعاونها كما سلف الحديث.
فالذين لا
يسلمون بهذه الحقيقة ، ولا يؤمنون بالآخرة ـ وهي فرع عن الاعتقاد بوحدانية الخالق
وحكمته وعدله ـ هؤلاء لا تنقصهم الآيات ولا تنقصهم البراهين ، إنما تكمن العلة في
كيانهم وفي طباعهم. إن قلوبهم منكرة جاحدة لا تقر بما ترى من الآيات ، وهم
مستكبرون لا يريدون التسليم بالبراهين والاستسلام لله والرسول. فالعلة أصيلة
والداء كامن في الطباع والقلوب!.
والله الذي
خلقهم يعلم ذلك منهم. فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون. يعلمه دون شك ولا ريب ويكرهه
فيهم. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ) فالقلب المستكبر لا يرجى له أن يقتنع أو يسلم. ومن ثم
فهم مكروهون من الله لاستكبارهم الذي يعلمه من يعلم حقيقة أمرهم ويعلم ما يسرون
وما يعلنون.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).
هؤلاء
المستكبرون ذو والقلوب المنكرة التي لا تقتنع ولا تستجيب إذا سئلوا : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟) لم يجيبوا الجواب الطبيعي المباشر ، فيتلوا شيئا من
القرآن أو يلخصوا فحواه ، فيكونوا أمناء في النقل ، ولو لم يعتقدوه. إنما هم
يعدلون عن الجواب الأمين فيقولون : (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) والأساطير هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة ..
وهكذا يصفون هذا القرآن الذي يعالج النفوس والعقول ، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك
الناس وعلاقات المجتمع وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل. هكذا يصفونه لما
يحويه من قصص الأولين. وهكذا يؤدي بهم ذلك الإنكار والاستهتار إلى حمل ذنوبهم وشطر
من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول ، ويصدونهم عن القرآن والإيمان ، وهم جاهلون به
لا يعلمون حقيقته .. ويصور التعبير هذه الذنوب أحمالا ذات ثقل ـ وساءت أحمالا
وأثقالا! ـ فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور ، وهي تثقل القلوب ، كما تثقل
الأحمال العواتق ، وهي تتعب وتشقي كما تتعب الأثقال حامليها بل هي أدهى وأنكى!
روى ابن أبي
حاتم عن السدي قال : «اجتمعت قريش ، فقالوا : إن محمدا رجل حلو اللسان ، إذا كلمه
الرجل ذهب بعقله ، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم
في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين ، فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج
ناس في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ، ووصل إليهم ،
قال أحدهم : أنا فلان ابن فلان. فيعرفه نسبه ، ويقول له : أنا أخبرك عن محمد. إنه
رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم ،
وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له. فيرجع الوافد. فذلك قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد ، فقالوا له
مثل ذلك قال : بئس الوافد لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن
ألقى هذا الرجل ، وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره. فيدخل مكة ، فيلقى المؤمنين
فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون : خيرا ...».
فقد كانت حرب
دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة ، ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من
المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان ، لأن استكبارهم يمنعهم من
الخضوع للحق والبرهان. فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر ، وليسوا أول
من يمكر. والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم ، ومصيرهم يوم القيامة ، بل
مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم. يعرض عليهم هذا
كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة :
(قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ، وَيَقُولُ : أَيْنَ
شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ : إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ ، الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما
كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ. بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).
(قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان
وسقف إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته. ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله
وتدبيره : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل ، يطبق عليهم من فوقهم
ومن تحت أرجلهم ، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها ، والسقف يخر
عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) فإذا البناء الذي بنوه وأحكموه واعتمدوا على الاحتماء
فيه. إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم ، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته!
إنه مشهد كامل
للدمار والهلاك ، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين ، الذين يقفون لدعوة
الله ، ويحسبون مكرهم لا يرد ، وتدبيرهم لا يخيب ، والله من ورائهم محيط!.
وهو مشهد مكرر
في الزمان قبل قريش وبعدها. ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون ،
ومهما يدبر المدبرون. وبين الحين والحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر
الذي رسمه القرآن الكريم : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ،
وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).
هذا في الدنيا
، وفي واقع الأرض : (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ، وَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟).
ويرتسم مشهد من
مشاهد القيامة يقف فيه هؤلاء المستكبرون الماكرون موقف الخزي ؛ وقد انتهى عهد
الاستكبار والمكر. وجاءوا إلى صاحب الخلق والأمر ، يسألهم سؤال التبكيت والتأنيب :
(أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟) أين شركائي الذين كنتم تخاصمون من أجلهم الرسول
والمؤمنين ، وتجادلون فيهم المقرين الموحدين؟.
ويسكت القوم من
خزي ، لتنطلق ألسنة الذين أوتوا العلم من الملائكة والرسل والمؤمنين وقد أذن الله
لهم أن يكونوا في هذا اليوم متكلمين ظاهرين : (قالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ : إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) ..
(إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) .. (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فيعود السياق بهم خطوة قبل خطوة القيامة. يعود بهم إلى
ساعة الاحتضار ، والملائكة تتوفاهم ظالمين لأنفسهم بما حرموها من الإيمان واليقين
، وبما أوردوها موارد الهلاك ، وبما قادوها في النهاية إلى النار والعذاب.
ويرسم مشهدهم
في ساعة الاحتضار ، وهم قريبو عهد بالأرض ، وما لهم فيها من كذب ومكر وكيد : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا
نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ!) ألقوا السلم. هؤلاء المستكبرون. فإذا هم مستسلمون لا
يهمون بنزاع أو خصام ، إنما يلقون السلم ويعرضون الاستسلام! ثم يكذبون ـ ولعله طرف
من مكرهم في الدنيا ـ فيقولون مستسلمين : (ما كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ)! وهو مشهد مخز وموقف مهين لأولئك المستكبرين!
ويجيئهم الجواب
: (بَلى) من العليم بما كان منهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا سبيل إلى الكذب والمغالطة والتمويه.
ويجيئهم الجزاء
جزاء المتكبرين : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)!
* * *
وعلى الجانب
الآخر .. الذين اتقوا .. يقابلون المنكرين المستكبرين في المبدأ والمصير :
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : خَيْراً. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ، وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ، كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ، يَقُولُونَ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..
إن المتقين
يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوة ، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه
وتشريع. فيلخصون الأمر كله في كلمة : (قالُوا : خَيْراً) ثم يفصلون هذا الخير حسبما علموا مما أنزل الله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ
الدُّنْيا حَسَنَةٌ) حياة حسنة ومتعة حسنة ، ومكانة حسنة. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من هذه الدار الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ) .. ثم يفصل ما أجمل. عن هذه الدار. فإذا هي (جَنَّاتُ عَدْنٍ) للإقامة (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) رخاء. (لَهُمْ فِيها ما
يَشاؤُنَ) فلا حرمان ولا كد ، ولا حدود للرزق كما هي الحياة
الدنيا .. (كَذلِكَ يَجْزِي
اللهُ الْمُتَّقِينَ).
ثم يعود السياق
خطوة بالمتقين كما عاد من قبلهم خطوة بالمستكبرين. فإذا هم في مشهد الاحتضار وهو
مشهد هين لين كريم : (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) طيبة نفوسهم بلقاء الله ، معافين من الكرب وعذاب الموت.
(يَقُولُونَ : سَلامٌ
عَلَيْكُمْ) طمأنة لقلوبهم وترحيبا بقدومهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) تعجيلا لهم بالبشرى ، وهم على عتاب الآخرة ، جزاء وفاقا
على ما كانوا يعملون.
* * *
وفي ظل هذا
المشهد بشقيه. مشهد الاحتضار ومشهد البعث. يعقب السياق بسؤال عن المشركين من قريش
: ماذا ينتظرون؟ أينتظرون الملائكة فتتوفاهم؟ أم ينتظرون أمر الله فيبعثهم. وهذا
ما ينتظرهم عند الوفاة ، وما ينتظرهم يوم يبعثهم الله! أوليس في مصير المكذبين
قبلهم وقد شهدوه ممثلا في ذينك المشهدين عبرة وغناء :
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ؟ كَذلِكَ
فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ ، وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..
وعجيب أمر
الناس. فإنهم يرون ما حل بمن قبلهم ممن يسلكون طريقهم ، ثم يظلون سادرين في الطريق
غير متصورين أن ما أصاب غيرهم يمكن أن يصيبهم ، وغير مدركين أن سنة الله تمضي وفق
ناموس مرسوم ، وأن المقدمات تعطي دائما نتائجها ، وأن الأعمال تلقى دائما جزاءها ،
وأن سنة الله لن تحابيهم ولن تتوقف إزاءهم ، ولن تحيد عن طريقهم.
(وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فقد آتاهم الله حرية التدبر والتفكر والاختيار ، وعرض
عليهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم العاقبة ، ووكلهم إلى عملهم وإلى سنته
الجارية. فما ظلمهم في مصيرهم المحتوم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وما قسا عليهم
في عقوبة ، إنما قست عليهم سيئات أعمالهم ، لأنهم أصيبوا بها أي بنتائجها الطبيعية
وجرائرها : (فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) .. ولهذا التعبير وأمثاله دلالة فإنهم لا يعاقبون بشيء
خارج عن ثمرة أعمالهم الذاتية. وإنهم ليصابون بجرائر سلوكهم التلقائية. وهم
ينتكسون إلى أدنى من رتبة البشرية بما يعملون ، فيجازون بما هو أدنى من رتبة
البشرية في دركات المقام المهين ، والعذاب الأليم.
* * *
ومقولة جديدة
من مقولات المشركين عن علة شركهم وملابساته :
(وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ. كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ؟ وَلَقَدْ
بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) ..
إنهم يحيلون
شركهم وعبادتهم آلهة من دون الله هم وآباؤهم ، وأوهام الوثنية التي يزاولونها من
تحريمهم لبعض الذبائح وبعض الأطعمة على أنفسهم بغير شريعة من الله .. إنهم يحيلون
هذا كله على إرادة الله ومشيئته. فلو شاء الله ـ في زعمهم ـ ألا يفعلوا شيئا من
هذا لمنعهم من فعله.
وهذا وهم وخطأ
في فهم معنى المشيئة الإلهية. وتجريد للإنسان من أهم خصائصه التي وهبها له الله
لاستخدامها في الحياة.
فالله سبحانه
لا يريد لعباده الشرك ، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات. وإرادته
هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه ، على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده
فقاموا به وأدوه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فهذا أمره وهذه إرادته لعباده. والله ـ تعالى ـ لا يأمر
الناس بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ، أو دفعهم قسرا إلى مخالفته. وآية
عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا ما أخذ به المكذبين (فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
إنما شاءت
إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلال ، وأن يدع مشيئتهم حرة
في اختيار أي الطريقين ؛ ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين ، بعد ما
بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت
آناء الليل وأطراف النهار .. ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا
العقل وحده ، فوضع لهذا العقل ميزانا ثابتا في شرائعه التي
جاءت بها رسله ، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر ، ليتأكد من صواب
تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء. ولم يجعل الرسل
جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان ، ولكن مبلغين ليس عليهم إلا البلاغ ،
يأمرون بعبادة الله وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة وسلطان :
(وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ..
ففريق استجاب :
(فَمِنْهُمْ مَنْ
هَدَى اللهُ) وفريق شرد في طريق الضلال (وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) .. وهذا الفريق وذلك كلاهما لم يخرج على مشيئة الله ،
وكلاهما لم يقسره الله قسرا على هدى أو ضلال ، إنما سلك طريقه الذي شاءت إرادة
الله أن تجعل إرادته حرة في سلوكه ، بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي
الآفاق.
كذلك ينفي
القرآن الكريم بهذا النص وهم الإجبار الذي لوح به المشركون ، والذي يستند إليه
كثير من العصاة والمنحرفين. والعقيدة الإسلامية عقيدة ناصعة واضحة في هذه النقطة.
فالله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر ، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا
عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم. فلا مجال بعد هذا لأن يقال : إن إرادة الله
تتدخل لترغمهم على الانحراف ثم يعاقبهم عليه الله! إنما هم متروكون لاختيار طريقهم
وهذه هي إرادة الله. وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر. من هدى ومن ضلال. يتم وفق
مشيئة الله على هذا المعنى الذي فصلناه.
ومن ثم يعقب
على هذا بخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقرر سنة الله في الهدى والضلال :
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى
هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).
فليس الهدى أو
الضلال بحرص الرسول على هدى القوم أو عدم حرصه ، فوظيفته البلاغ. أما الهدى أو
الضلال فيمضي وفق سنة الله وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها ، فمن أضله الله
لأنه استحق الضلال وفق سنة الله ، فإن الله لا يهديه ، لأن لله سننا تعطي نتائجها.
وهكذا شاء. والله فعال لما يشاء. (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) ينصرونهم من دون الله.
* * *
ومقولة ثالثة
من مقولات المنكرين المستكبرين :
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ. بَلى. وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا
كاذِبِينَ. إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ.
فَيَكُونُ) ..
ولقد كانت قضية
البعث دائما هي مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام منذ أن أرسل الله رسله للناس ،
يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، ويخوفونهم حساب الله يوم البعث والحساب.
وهؤلاء
المشركون من قريش أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت! فهم يقرون بوجود
الله ولكنهم ينفون عنه بعث الموتى من القبور. يرون هذا البعث أمرا عسيرا بعد الموت
والبلى وتفرق الأشلاء والذرات!.
وغفلوا عن
معجزة الحياة الأولى .. وغفلوا عن طبيعة القدرة الإلهية ، وأنها لا تقاس إلى
تصورات البشر وطاقتهم. وأن إيجاد شيء لا يكلف تلك القدرة شيئا ؛ فيكفي أن تتوجه
الإرادة إلى كون الشيء ليكون.
وغفلوا كذلك عن
حكمة الله في البعث. وهذه الدنيا لا يبلغ أمر فيها تمامه. فالناس يختلفون حول الحق
والباطل ، والهدى والضلال ، والخير والشر. وقد لا يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في
هذه الأرض لأن إرادة الله شاءت أن يمتد ببعضهم الأجل ، وألا يحل بهم عذابه الفاصل
في هذه الديار. حتى يتم الجزاء في الآخرة ويبلغ كل أمر تمامه هناك.
والسياق يرد
على تلك المقولة الكافرة ، ويكشف ما يحيط بها في نفوس القوم من شبهات فيبدأ
بالتقرير : (بَلى. وَعْداً
عَلَيْهِ حَقًّا) ومتى وعد الله فقد كان ما وعد به لا يتخلف بحال من
الأحوال (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة وعد الله.
وللأمر حكمته :
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا
كاذِبِينَ) فيما ادعوا أنهم على الهدى ؛ وفيما زعموا من كذب الرسل
، ومن نفي الآخرة ؛ وفيما كانوا فيه من اعتقاد ومن فساد.
والأمر بعد ذلك
هين : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ..
والبعث شيء من
هذه الأشياء يتم حالما تتوجه إليه الإرادة دون إبطاء.
* * *
وهنا يعرض في
الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين ، لمحة عن المؤمنين المصدقين ، الذين يحملهم
يقينهم في الله والآخرة على هجر الديار والأموال ، في الله ، وفي سبيل الله :
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ،
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ..
فهؤلاء الذين
هاجروا من ديارهم وأموالهم ، وتعروا عما يملكون وعما يحبون ، وضحوا بدارهم وقرب
عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم .. هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما
تركوا. وقد عانوا الظلم وفارقوه. فإذا كانوا قد خسروا الديار ف (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا
حَسَنَةً) ولنسكننهم خيرا مما فقدوا (وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) لو كان الناس يعلمون. هؤلاء (الَّذِينَ صَبَرُوا) واحتملوا ما احتملوا (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) لا يشركون به أحدا في الاعتماد والتوجه والتكلان.
* * *
ثم يعود السياق
إلى بيان وظيفة الرسل التي أشار عليها عند الرد على مقولة المشركين عن إرادة الله
الشرك لهم ولآبائهم. يعود إليها لبيان وظيفة الرسول الأخير ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ وما معه من الذكر الأخير. وذلك تمهيدا لإنذار المكذبين به ما يتهددهم من
هذا التكذيب :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ، وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) ..
وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالا .. لم نرسل ملائكة ، ولم نرسل خلقا آخر. رجالا مختارين (نُوحِي إِلَيْهِمْ) كما أوحينا إليك ، ونكل إليهم التبليغ كما وكلنا إليك. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب الذين جاءتهم
الرسل من قبل ، أكانوا رجالا أم كانوا ملائكة أم خلقا آخر. اسألوهم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). أرسلناهم بالبينات وبالكتب (والزبر الكتب المتفرقة) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) سواء منهم السابقون أهل الكتاب الذين اختلفوا في كتابهم
، فجاء القرآن ليفصل في هذا الخلاف ، وليبين لهم وجه الحق فيه .. أو المعاصرون
الذين جاءهم القرآن والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يبينه لهم ويشرحه بفعله وقوله (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) في آيات الله وآيات القرآن فإنه يدعو دائما إلى التفكر
والتدبر ، وإلى يقظة الفكر والشعور.
* * *
ويختم هذا الدرس
الذي بدأه بالإشارة إلى الذين يستكبرون ويمكرون .. ينتهي بلمسة وجدانية بعد لمسة :
أولاهما للتخويف من مكر الله الذي لا يأمنه أحد في ساعة من ليل أو نهار. والثانية
لمشاركة هذا الوجود في عبادة الله وتسبيحه. فليس إلا الإنسان هو الذي يستكبر
ويمكر. وكل ما حوله يحمد ويسبح.
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ؟ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما
هُمْ بِمُعْجِزِينَ؟ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ؟ فَإِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ
يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ
داخِرُونَ؟ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ
دابَّةٍ ، وَالْمَلائِكَةُ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ..
وأعجب العجب في
البشر أن يد الله تعمل من حولهم ، وتأخذ بعضهم أخذ عزيز مقتدر ، فلا يغني عنهم
مكرهم وتدبيرهم ، ولا تدفع عنهم قوتهم وعلمهم ومالهم .. وبعد ذلك يظل الذين يمكرون
يمكرون ، ويظل الناجون آمنين لا يتوقعون أن يؤخذوا كما أخذ من قبلهم ومن حولهم ،
ولا يخشون أن تمتد إليهم يد الله في صحوهم أو في منامهم ، في غفلتهم أو في
استيقاظهم والقرآن الكريم يلمس وجدانهم من هذا الجانب ليثير حساسيتهم للخطر
المتوقع. الذي لا يغفل عنه إلا الخاسرون :
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)؟.
أو يأخذهم وهم
يتقلبون في البلاد ، من بلد إلى بلد للتجارة والسياحة ، (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) لله ، ولا يبعد عليه مكانهم في حل أو ترحال. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فإن يقظتهم وتوقعهم لا يرد يد الله عنهم فهو قادر على
أخذهم وهم متأهبون قدرته على أخذهم وهم لا يشعرون؟ ولكن الله رؤوف رحيم.
أفأمن الذين
مكروا السيئات أن يأخذهم الله؟ فهم لاجون في مكرهم سادرون في غيبهم لا يثوبون ولا
يتقون.
ذلك والكون من
حولهم بنواميسه وظواهره يوحي بالإيمان. ويوحي بالخشوع : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً
لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ..
ومشهد الظلال
تمتد وتتراجع ، تثبت وتتمايل ، مشهد موح لمن يفتح قلبه ، ويوقظ حسه ، ويتجاوب مع
الكون حوله.
والسياق
القرآني يعبر عن خضوع الأشياء لنواميس الله بالسجود ـ وهو أقصى مظاهر الخضوع ـ ويوجه
إلى حركة الظلال المتفيئة ـ أي الراجعة بعد امتداد ـ وهي حركة لطيفة خفية ذات دبيب
في المشاعر وئيد عميق. ويرسم المخلوقات داخرة أي خاضعة خاشعة طائعة. ويضم إليها ما
في السماوات وما في الأرض من
دابة. ويضيف إلى الحشد الكوني .. الملائكة فإذا مشهد عجيب من الأشياء
والظلال والدواب. ومعهم الملائكة. في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود. لا يستكبرون
عن عبادة الله ولا يخالفون عن أمره. والمنكرون المستكبرون من بني الإنسان وحدهم
شواذ في هذا المقام العجيب.
وبهذا المشهد
يختم الدرس الذي بدأ بالإشارة إلى المنكرين المستكبرين ، ليفردهم في النهاية
بالإنكار والاستكبار في مشهد الوجود ...
(وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
وَما
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ
تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ
الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ
لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا
كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧)
وَإِذا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)
يَتَوارى
مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ
يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
لِلَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
تَاللهِ
لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
وَاللهُ
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
وَمِنْ
ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
وَأَوْحى
رَبُّكَ
إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها
شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
وَاللهُ
خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ
اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ
وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ
عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ
وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
(٧٦)
هذا الشوط
الثالث في قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدد ، يبدأ فيقرر وحدة الإله ، ووحدة
المالك ، ووحدة المنعم في الآيات الثلاث الأولى متواليات ، ويختم بمثلين يضربهما
للسيد المالك الرازق ، والعبد المملوك لا يقدر على شيء ، ولا يملك شيئا .. هل
يستوون؟ فكيف يسوي الله المالك الرازق بمن لا يقدر ولا يملك ولا يرزق؟ فيقال : هذا
إله وهذا إله؟!.
وفي خلال الدرس
يعرض نموذجا بشريا للناس حين يصيبهم الضر فيجأرون إلى الله وحده. حتى إذا كشف عنهم
الضر راحوا يشركون به غيره!.
ويعرض كذلك
صورا من أوهام الوثنية وخرافاتها. في تخصيص بعض ما رزقهم الله لآلهتهم المدعاة ،
في حين أنهم لا يردون شيئا مما يملكونه على عبيدهم ولا يقاسمونهم إياه! وفي الوقت
الذي
يجعلون لله ما يكرهون تروح ألسنتهم تتشدق بأن لهم الحسنى ، وأنهم سينالون
على ما فعلوا خيرا! وهذه الأوهام التي ورثوها من المشركين قبلهم هي التي جاءهم الرسول
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليبين لهم الحقيقة فيها هدى ورحمة للمؤمنين.
ثم يأخذ في عرض
نماذج من صنع الألوهية الحقة في تأملها عظة وعبرة فالله وحده هو القادر عليها
الموجد لها ، وهي هي دلائل الألوهية لا سواها : فالله أنزل من السماء ماء فأحيا به
الأرض بعد موتها. والله يسقي الناس ـ غير الماء ـ لبنا سائغا يخرج من بطون الأنعام
من بين فرث ودم. والله يطلع للناس ثمرات النخيل والأعناب يتخذون منها سكرا ورزقا
حسنا. والله أوحى إلى النحل لتتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم
تخرج عسلا فيه شفاء للناس .. ثم الله يخلق الناس ويتوفاهم ويؤجل بعضهم حتى يشيخ
فينسى ما تعلمه ويرتد ساذجا لا يعلم شيئا. والله فضل بعضهم على بعض في الرزق.
والله جعل لهم من أنفسهم أزواجا وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ... وهم بعد هذا
كله يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض ولا يقدرون على
شيء. ويجعلون لله الأشباه والأمثال!.
هذه اللمسات
كلها في أنفسهم وفيما حولهم ، يوجههم إليها لعلهم يستشعرون القدرة وهي تعمل في
ذواتهم وفي أرزاقهم وفي طعامهم وفي شرابهم ، وفي كل شيء حولهم .. ثم يختمها
بالمثلين الواضحين الموضحين اللذين أشرنا إليهما آنفا. فهي حملة على الوجدان
البشري والعقل البشري ، ذات إيقاعات عميقة ، تضرب على أوتار حساسة في النفس
البشرية يصعب ألا تهتز لها وتتأثر وتستجيب.
* * *
(وَقالَ اللهُ : لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ. وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً. أَفَغَيْرَ
اللهِ تَتَّقُونَ. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ؛ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا
فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ،
فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ..
لقد أمر الله
ألا يتخذ الناس إلهين اثنين. إنما هو إله واحد لا ثاني له. ويأخذ التعبير أسلوب
التقرير والتكرير فيتبع كلمة إلهين بكلمة اثنين ، ويتبع النهي بالقصر إنما هو إله واحد.
ويعقب على النهي والقصر بقصر آخر (فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) دون سواي بلا شبيه أو نظير. ويذكر الرهبة زيادة في
التحذير .. ذلك أنها القضية الأساسية في العقيدة كلها ، لا تقوم إلا بها ، ولا
توجد إلا بوجودها في النفس واضحة كاملة دقيقة لا لبس فيها ولا غموض.
إنما هو إله
واحد .. وإنما هو كذلك مالك واحد : (وَلَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. ودائن واحد (وَلَهُ الدِّينُ
واصِباً) (أي واصلا منذ ما وجد الدين ، فلا دين إلا دينه) ومنعم واحد : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ). وفطرتكم تلجأ إليه وحده ساعة العسرة والضيق ، وتنتفي
عنها أوهام الشرك والوثنية فلا تتوجه إلا إليه دون شريك : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ
فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) وتصرخون لينجيكم مما أنتم فيه.
وهكذا يتفرد
سبحانه وتعالى بالألوهية والملك والدين والنعمة والتوجه ؛ وتشهد فطرة البشر بهذا
كله حين يصهرها الضر وينفض عنها أوشاب الشرك .. ومع هذا فإن فريقا من البشر يشركون
بالله بعد توحيده حالما ينجيهم من الضر المحيق! فينتهوا إلى الكفر بنعمة الله
عليهم ، وبالهدى الذي آتاهم .. فلينظروا إذن ما يصيبهم بعد المتاع القصير : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ....
هذا النموذج
الذي يرسمه التعبير هنا (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ، ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا
فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .. نموذج متكرر في البشرية. ففي الضيق تتوجه القلوب إلى
الله ، لأنها تشعر بالفطرة ألا عاصم لها سواه. وفي الفرج تتلهى بالنعمة والمتاع ،
فتضعف ضلتها بالله ، وتزيغ عنه ألوانا من الزيغ تبدو في الشرك به وتبدو كذلك في
صور شتى من تأليه قيم وأوضاع ولو لم تدع باسم الإله!.
ولقد يشتد
انحراف الفطرة وفسادها ، فإذا بعضهم في ساعة العسرة لا يلجأ إلى الله ؛ ولكن يلجأ
إلى بعض مخاليقه يدعوها للنصرة والإنقاذ والنجاة ، بحجة أنها ذات جاه أو منزلة عند
الله ، أو بغير هذه الحجة في بعض الأحيان ، كالذين يدعون الأولياء لإنقاذهم من مرض
أو شدة أو كرب .. فهؤلاء أشد انحرافا من مشركي الجاهلية الذين يرسم لهم القرآن ذلك
النموذج الذي رأيناه!.
* * *
(وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ). فإذا هم يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام. لا يركبونها
أو لا يذوقون لحومها. أو يبيحونها للذكور دون الإناث ـ كما أسلفنا في سورة الأنعام
ـ باسم الآلهة المدعاة ؛ التي لا يعلمون عنها شيئا ، إنما هي أوهام موروثة من
الجاهلية الأولى. والله هو الذي رزقهم هذه النعمة التي يجعلون لما لا يعلمون نصيبا
منها ، فليست هي من رزق الآلهة المدعاة لهم ليردوها عليها ، إنما هي من رزق الله ،
الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه!.
وهكذا تبدو
المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء .. الرزق كله من الله. والله يأمر ألا
يعبد سواه فهم يخالفون عن أمره فيتخذون الآلهة. وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما
نهاهم عنه! وبهذا تتبدى المفارقة واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة!.
وما يزال أناس
بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت ، يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما
يشبه آلهة الجاهلية. ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه «عجل السيد البدوي» يأكل من
حيث يشاء لا يمنعه أحد ، ولا ينتفع به أحد ، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على
اسم الله! وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله ، ولا
باسم الله ، ولكن باسم ذلك الولي ، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون
نصيبا مما رزقهم الله. وهو حرام نذره على هذا الوجه. حرام لحمه. ولو سمي اسم الله
عليه. لأنه أهلّ لغير الله به!.
(تَاللهِ
لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) بالقسم والتوكيد الشديد. فهو افتراء يحطم العقيدة من
أساسها لأنه يحطم فكرة التوحيد.
* * *
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ ـ سُبْحانَهُ ـ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ. وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ
فِي التُّرابِ؟ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ!) ..
إن الانحراف في
العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة ، بل يتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية
وتقاليدها. فالعقيدة هي المحرك الأول للحياة ، سواء ظهرت أو كمنت. وهؤلاء عرب
الجاهلية كانوا يزعمون أن لله بنات ـ هن الملائكة ـ على حين أنهم كانوا يكرهون
لأنفسهم ولادة البنات! فالبنات لله أما هم فيجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور!.
وانحرافهم عن
العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة
السيئة والنظرة الوضيعة. ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولادة البنات. إذ
البنات لا يقاتلن ولا يكسبن ، وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار ، أو
يعشن كلّا على أهليهن فيجلبن الفقر.
والعقيدة
الصحيحة عصمة من هذا كله. إذ الرزق بيد الله يرزق الجميع ؛ ولا يصيب أحدا إلا ما
كتب له ؛ ثم إن الإنسان بجنسيه كريم على الله ، والأنثى ـ من حيث إنسانيتها ـ صنو
الرجل وشطر نفسه كما يقرر الإسلام.
ويرسم السياق
صورة منكرة لعادات الجاهلية : (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) مسودا من الهم والحزن والضيق ، وهو كظيم ، يكظم غيظه
وغمه ، كأنها بلية ، والأنثى هبة الله له كالذكر ، وما يملك أن يصور في الرحم أنثى
ولا ذكرا ، وما يملك أن ينفخ فيه حياة ، وما يملك أن يجعل من النطفة الساذجة
إنسانا سويا. وإن مجرد تصور الحياة نامية متطورة من نطفة إلى بشر ـ بإذن الله ـ ليكفي
لاستقبال المولود ـ أيا كان جنسه ـ بالفرح والترحيب وحسن الاستقبال ، لمعجزة الله
التي تتكرر ، فلا يبلي جدتها التكرار! فكيف يغتم من يبشر بالأنثى ويتوارى من القوم
من سوء ما بشر به وهو لم يخلق ولم يصور. إنما كان أداة القدرة في حدوث المعجزة
الباهرة؟.
وحكمة الله ،
وقاعدة الحياة ، اقتضت أن تنشأ الحياة من زوجين ذكر وأنثى. فالأنثى أصيلة في نظام
الحياة أصالة الذكر ؛ بل ربما كانت أشد أصالة لأنها المستقر. فكيف يغتم من يبشر
بالأنثى ، وكيف يتوارى من القوم من سوء ما يشربه ونظام الحياة لا يقوم إلا على
وجود الزوجين دائما؟.
إنه انحراف
العقيدة ينشئ آثاره في انحراف المجتمع وتصوراته وتقاليده .. (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وما أسوأه من حكم وتقدير.
وهكذا تبدو
قيمة العقيدة الإسلامية في تصحيح التصورات والأوضاع الاجتماعية. وتتجلى النظرة
الكريمة القويمة التي بثها في النفوس والمجتمعات تجاه المرأة ، بل تجاه الإنسان.
فما كانت المرأة هي المغبونة وحدها في المجتمع الجاهلي الوثني إنما كانت «الإنسانية»
في أخص معانيها. فالأنثى نفس إنسانية ، إهانتها إهانة للعنصر الإنساني الكريم ،
ووأدها قتل للنفس البشرية ، وإهدار لشطر الحياة ؛ ومصادمة لحكمة الخلق الأصيلة ،
التي اقتضت أن يكون الأحياء جميعا ـ لا الإنسان وحده ـ من ذكر وأنثى.
وكلما انحرفت
المجتمعات عن العقيدة الصحيحة عادت تصورات الجاهلية تطل بقرونها .. وفي كثير من
المجتمعات اليوم تعود تلك التصورات إلى الظهور. فالأنثى لا يرحب بمولدها كثير من
الأوساط وكثير من الناس ، ولا تعامل معاملة الذكر من العناية والاحترام. وهذه
وثنية جاهلية في إحدى صورها ، نشأت من الانحراف الذي أصاب العقيدة الإسلامية.
ومن عجب أن
ينعق الناعقون بلمز العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية ـ في مسألة المرأة ـ ،
نتيجة لما يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ولا يكلف هؤلاء الناعقون اللامزون
أنفسهم أن يراجعوا نظرة الإسلام ، وما أحدثته من ثورة في التطورات والأوضاع. وفي
المشاعر والضمائر. وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها ضرورة واقعية ولا دعوة أرضية ولا
مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية. إنما أنشأتها العقيدة الإلهية الصادرة عن الله الذي
كرم الإنسان ، فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى ، ووصفها بأنها شطر
النفس البشرية ، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على الله.
والفارق بين
طبيعة النظرة الجاهلية والنظرة الإسلامية ، هو الفارق بين صفة الذين لا يؤمنون
بالآخرة وصفة الله سبحانه ـ ولله المثل الأعلى ـ :
(لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ،
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..
وهنا تقترن
قضية الشرك بقضية إنكار الآخرة ، لأنهما ينبعان من معين واحد وانحراف واحد.
ويختلطان في الضمير البشري ، وينشئان آثارهما في النفس والحياة والمجتمع والأوضاع.
فإذا ضرب مثل للذين لا يؤمنون بالآخرة فهو مثل السوء. السوء المطلق في كل شيء : في
الشعور والسلوك ، في الاعتقاد والعمل. في التصور والتعامل ، في الأرض والسماء .. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الذي لا يقارن ولا يوازن بينه وبين أحد ، بله الذين لا
يؤمنون بالآخرة هؤلاء .. (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) ذو المنعة وذو الحكمة الذي يتحكم ليضع كل شيء موضعه ، ويحكم ليقر كل شيء في
مكانه بالحق والحكمة والصواب.
وإنه لقادر أن
يأخذ الناس بظلمهم الذي يقع منهم ولو فعل لدمرها عليهم تدميرا ؛ ولكن حكمته اقتضت
أن يؤخرهم إلى أجل. وهو العزيز الحكيم :
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ
النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ) ..
والله خلق هذا
الخلق ـ البشري ـ وأنعم عليه بآلائه. وهو وحده الذي يفسد في الأرض ويظلم ، وينحرف
عن الله ويشرك ؛ ويطغى بعضه على بعض ، ويؤذي سواه من الخلق .. والله بعد هذا كله
يحلم عليه ويرأف به ، ويمهله وإن كان لا يهمله. فهي الحكمة تصاحب القوة ، وهي
الرحمة تصاحب العدل. ولكن الناس يغترون بالإمهال ، فلا تستشعر قلوبهم رحمة الله
وحكمته ، حتى يأخذهم عدله وقوته. عند الأجل المسمى الذي ضربه الله لحكمة ، وأمهلهم
إليه لرحمة. (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).
وأعجب ما في
الأمر أن المشركين ، يجعلون لله ما يكرهون من البنات وغير البنات ، ثم يزعمون
كاذبين أن سينالهم الخير والإحسان جزاء على ما يجعلون ويزعمون! والقرآن يقرر ما
ينتظرهم وهو غير ما يزعمون :
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى.
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ).
والتعبير يجعل
ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ، أو كأنها صورة له ، تحكيه وتصفه بذاتها. كما
تقول قوامه يصف الرشاقة وعينه تصف الحور. لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة
مفصح عنها ، ولأن هذه العين بذاتها تعبير عن الحور مفصح عنه. كذلك قال : تصف
ألسنتهم الكذب ، فهي بذاتها تعبير عن الكذب مفصح عنه مصور له ، لطول ما قالت الكذب
وعبرت عنه حتى صارت رمزا عليه ودلالة له!.
وقولهم : أن
لهم الحسنى ، وهم يجعلون لله ما يكرهون هو ذلك الكذب الذي تصفه ألسنتهم أما
الحقيقة التي يجبههم بها النص قبل أن تكمل الآية ، فهي أن لهم النار دون شك ولا
ريب ، وعن استحقاق وجدارة : (لا جَرَمَ أَنَّ
لَهُمُ النَّارَ) وأنهم معجلون إليها غير مؤخرين عنها : (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) والفرط هو ما يسبق ، والمفرط ما يقدم ليسبق فلا يؤجل.
* * *
وبعد فإن القوم
ليسوا أول من انحرف ، وليسوا أول من جدف ، فقد كان قبلهم منحرفون ومجدفون ، أغواهم
الشيطان ، وزين لهم ما انحرفوا إليه من تصورات وأعمال ، فصار وليهم الذي يشرف
عليهم ويصرفهم ؛
وإنما أرسل الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليستنقذهم ، وليبين لهم الحق من الباطل ، ويفصل فيما وقع بينهم من خلاف
في عقائدهم وكتبهم ؛ وليكون هدى ورحمة لمن يؤمنون.
(تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَما
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
فوظيفة الكتاب
الأخير والرسالة الأخيرة هي الفصل فيما شجر من خلاف بين أصحاب الكتب السابقة
وطوائفهم. إذ الأصل هو التوحيد ، وكل ما طرأ على التوحيد من شبهات وكل ما شابه من
شرك في صورة من الصور ، ومن تشبيه وتمثيل .. كله باطل جاء القرآن الكريم ليجلوه
وينفيه. وليكون هدى ورحمة لمن استعدت قلوبهم للإيمان وتفتحت لتلقيه.
* * *
وعند هذا الحد
يأخذ السياق في استعراض آيات الألوهية الواحدة فيما خلق الله في الكون ، وفيما
أودع الإنسان من صفات واستعدادات ، وفيما وهبه من نعم وآلاء ، مما لا يقدر عليه
أحد إلا الله.
وقد ذكر في
الآية السابقة إنزال الكتاب ـ وهو خير ما أنزل الله للناس وفيه حياة الروح ـ فهو
يتبعه بإنزال الماء من السماء ، وفيه حياة الأجسام :
(وَاللهُ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ..
والماء حياة كل
حي. والنص يجعله حياة للأرض كلها على وجه الشمول لكل ما عليها ومن عليها. والذي
يحول الموت إلى حياة هو الذي يستحق أن يكون إلها : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فيتدبرون ما يسمعون. فهذه القضية. قضية آيات الألوهية
ودلائلها من الحياة بعد الموت ذكرها القرآن كثيرا ووجه الأنظار إليها كثيرا ،
ففيها آية لمن يسمع ويعقل ويتدبر ما يقال.
وعبرة أخرى في
الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق ، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب :
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ـ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ ـ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ،) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو؟ إنه مستخلص
من بين فرث ودم. والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، وامتصاص الأمعاء للعصارة
التي تتحول إلى دم. هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ، فإذا صار إلى غدد
اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب ، الذي لا يدري أحد كيف يكون.
وعملية تحول
الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من
مواد هذا الدم ، عملية عجيبة فائقة العجب ، وهي تتم في الجسم في كل ثانية ، كما
تتم عمليات الاحتراق. وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء
مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد .. ولا يملك إنسان سوي الشعور أن يقف أمام
هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز
الإنساني ، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ، ولا إلى خلية واحدة من
خلاياه التي لا تحصى.
ووراء الوصف
العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل ، وعمل الخلية
الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه.
وقد بقي هذا
كله سرا إلى عهد قريب. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن
من
بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا
على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة. وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في
هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من
الله بهذا القرآن. فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة.
والقرآن ـ يعبر
هذه الحقائق العلمية البحتة ـ يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك
هذه الخصائص ويقدرها ؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين
المتعنتين.
(وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً. إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ..
هذه الثمرات
المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء. تتخذون منه سكرا (والسكر
الخمر ولم تكن حرمت بعد) ورزقا حسنا. والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن
الخمر ليست رزقا حسنا ، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ، وإنما كان يصف
الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب ، وليس فيه نص
بحلها ، بل فيه توطئة لتحريمها (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .. فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق
العبودية له وهو الله ..
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ، وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً ، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ
شِفاءٌ لِلنَّاسِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..
والنحل تعمل
بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق ، فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه. وهي
تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها ، أو في تقسيم
العمل بينها ، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى.
وهي تتخذ
بيوتها ـ حسب فطرتها ـ في الجبال والشجر وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها
ـ وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من
توافق. والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب. شرحا
فنيا . وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه. وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى
الحق الكلي الثابت في كتاب الله ؛ كما أثر عن رسول الله.
روى البخاري
ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال له رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «اسقه عسلا» فسقاه عسلا. ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا فما
زاده إلا استطلاقا. قال : «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا
رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
ويرو عنا في
هذا الأثر يقين الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه. وقد انتهى
هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية. وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية
وبكل حقيقة وردت في كتاب الله. مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها.
فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري ، الذي ينثني في النهاية ليصدقها ..
__________________
ونقف هنا أمام
ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم : إنزال الماء من السماء. وإخراج اللبن من بين فرث
ودم. واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب. والعسل من بطون النحل
.. إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها. ولما كان الجو جو أشربة
فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله. وسنرى في
الدرس التالي أنه عرض من الأنعام جلودها وأصوافها وأوبارها لأن الجو هناك كان جو
أكنان وبيوت وسرابيل فناسب أن يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات
المشهد .. وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن .
* * *
ومن الأنعام
والأشجار والثمار والنحل والعسل إلى لمسة أقرب إلى أعماق النفس البشرية ، لأنها في
صميم ذواتهم : في أعمارهم وأرزاقهم وأزواجهم وبنيهم وأحفادهم. فهم أشد حساسية بها
، وأعمق تأثرا واستجابة لها :
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ
لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. وَاللهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ، فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا
بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ. أَفَبِنِعْمَةِ
اللهِ يَجْحَدُونَ؟ وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ؟ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا
يَسْتَطِيعُونَ؟) ..
واللمسة الأولى
في الحياة والوفاة ، وهي متصلة بكل فرد وبكل نفس ؛ والحياة حبيبة ، والتفكر في
أمرها قد يرد القلب الصلد إلى شيء من اللين ، وإلى شيء من الحساسية بيد الله
ونعمته وقدرته. والخوف عليها قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء إلى واهب
الحياة. وصورة الشيخوخة حين يرد الإنسان إلى أرذل العمر ، فينسى ما كان قد تعلم ،
ويرتد إلى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة. هذه الصورة قد ترد النفس إلى
شيء من التأمل في أطوار الحياة ، وقد تغض من كبرياء المرء واعتزازه بقوته وعلمه
ومقدرته. ويجيء التعقيب : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
قَدِيرٌ) ليرد النفس إلى هذه الحقيقة الكبيرة. أن العلم الشامل
الأزلي الدائم لله ، وأن القدرة الكاملة التي لا تتأثر بالزمن هي قدرة الله. وأن
علم الإنسان إلى حين ، وقدرته إلى أجل ، وهما بعد جزئيان ناقصان محدودان.
واللمسة
الثانية في الرزق. والتفاوت فيه ملحوظ. والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل الله
لبعضهم على بعض في الرزق. ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة الله. فليس
شيء من ذلك جزافا ولا عبثا. وقد يكون الإنسان مفكرا عالما عاقلا ، ولكن موهبته في
الحصول على الرزق وتنميته محدودة ، لأن له مواهب في ميادين أخرى. وقد يبدو غبيا
جاهلا ساذجا ، ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته.
__________________
والناس مواهب وطاقات. فيحسب من لا يدقق أن لا علاقة للرزق بالمقدرة ، وإنما
هي مقدرة خاصة في جانب من جوانب الحياة. وقد تكون بسطة الرزق ابتلاء من الله ، كما
يكون التضييق فيه لحكمة يريدها ويحققها بالابتلاء .. وعلى أية حال فإن التفاوت في
الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لاختلاف في المواهب ـ وذلك حين تمتنع الأسباب المصطنعة
الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلة ـ والنص يشير إلى هذه الظاهرة التي كانت
واقعة في المجتمع العربي ؛ ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي
يزاولونها ، والتي سبقت الإشارة إليها. ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق الله
الذي أعطاهم ويجعلونه لآلهتهم المدعاة. فهو يقول عنهم هنا : إنهم لا يردون جزءا من
أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق. (وكان هذا أمرا واقعا قبل الإسلام)
ليصبحوا سواء في الرزق. فما بالهم يردون جزءا من مال الله الذي رزقهم إياه على
آلهتهم المدعاة؟ (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ
يَجْحَدُونَ؟) فيجازون النعمة بالشرك ، بدل الشكر للمنعم المتفضل
الوهاب؟.
واللمسة
الثالثة في الأنفس والأزواج والأبناء والأحفاد وتبدأ بتقرير الصلة الحية بين
الجنسين : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) فهن من أنفسكم ، شطر منكم ، لا جنس أحط يتوارى من يبشر
به ويحزن! (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) والإنسان الفاني يحس الامتداد في الأبناء والحفدة ،
ولمس هذا الجانب في النفس يثير أشد الحساسية .. ويضم إلى هبة الأبناء والأحفاد هبة
الطيبات من الرزق للمشاكلة بين الرزقين ليعقب عليها بسؤال استنكاري : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ؟) فيشركون به ويخالفون عن أمره. وهذه النعم كلها من
عطائه. وهي آيات على ألوهيته وهي واقعة في حياتهم ، تلابسهم في كل آن ..
أفبالباطل
يؤمنون؟ وما عدا الله باطل ، وهذه الآلهة المدعاة ، والأوهام المدعاة كلها باطل لا
وجود له ، ولا حق فيه. وبنعمة الله هم يكفرون ، وهي حق يلمسونه ويحسونه ويتمتعون
به ثم يجحدونه.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ..
وإنه لعجيب أن
تنحرف الفطرة إلى هذا الحد ، فيتجه الناس بالعبادة إلى ما لا يملك لهم رزقا وما هو
بقادر في يوم من الأيام ، ولا في حال من الأحوال. ويدعون الله الخالق الرازق ،
وآلاؤه بين أيديهم لا يملكون إنكارها ، ثم يجعلون لله الأشباه والأمثال!
(فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ. إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ..
إنه ليس لله
مثال ، حتى تضربوا له الأمثال.
ثم يضرب لهم
مثلين للسيد المالك الرازق وللمملوك العاجز الذي لا يملك ولا يكسب. لتقريب الحقيقة
الكبرى التي غفلوا عنها. حقيقة أن ليس لله مثال ، وما يجوز أن يسووا في العبادة
بين الله وأحد من خلقه وكلهم لهم عبيد :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً. هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ
لِلَّهِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ :
أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما
يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟)
والمثل الأول
مأخوذ من واقعهم ، فقد كان لهم عبيد مملوكون ، لا يملكون شيئا ولا يقدرون على شيء.
وهم لا يسوون بين العبد المملوك العاجز والسيد المالك المتصرف. فكيف يسوون بين سيد
العباد ومالكهم وبين أحد أو شيء مما خلق. وكل مخلوقاته له عبيد؟
والمثل الثاني
يصور الرجل الأبكم الضعيف البليد الذي لا يدري شيئا ولا يعود بخير. والرجل القوي
المتكلم الآمر بالعدل ، العامل المستقيم على طريق الخير .. ولا يسوي عاقل بين هذا
وذاك. فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر ، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم
الآمر بالمعروف ، الهادي إلى الصراط المستقيم؟
وبهذين المثلين
يختم الشوط الذي بدأ بأمر الله للناس ألا يتخذوا إلهين اثنين ، وختم بالتعجيب من
أمر قوم يتخذون إلهين اثنين!
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ
هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(٧٧) وَاللهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
أَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ
اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ
أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
وَيَوْمَ
نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ
كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ
لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً
عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً
وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)
(٨٩)
يستمر السياق
في هذا الدرس في استعراض دلائل الألوهية الواحدة التي يتكئ عليها في هذه السورة :
عظمة الخلق ، وفيض النعمة وإحاطة العلم. غير أنه يركز في هذا الشوط على قضية
البعث. والساعة أحد أسرار الغيب الذي يختص الله بعلمه فلا يطلع عليه أحدا.
وموضوعات هذا
الدرس تشمل ألوانا من أسرار غيب الله في السماوات والأرض ، وفي الأنفس والآفاق. غيب
الساعة. التي لا يعلمها إلا الله وهو عليها قادر وهي عليه هينة : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) .. وغيب الأرحام والله وحده هو الذي يخرج الأجنة من هذا
الغيب. لا تعلم شيئا ، ثم ينعم على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون
نعمته .. وغيب أسرار الخلق يعرض منها تسخير الطير في جو السماء ما يمسكهن إلا
الله.
يلي هذا في
الدرس استعراض لبعض نعم الله المادية على الناس وهي بجانب تلك الأسرار وفي جوها ،
نعم السكن والهدوء والاستظلال. في البيوت المبنية والبيوت المتخذة من جلود الأنعام
للظعن والإقامة ، والأثاث والمتاع من الأصواف والأوبار والأشعار. وهي كذلك الظلال
والأكنان والسرابيل تقي الحر وتقي البأس في الحرب : (كَذلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).
ثم تفصيل لأمر
البعث في مشاهد يعرض فيها المشركين وشركاءهم ، والرسل شهداء عليهم. والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ شهيدا على قومه. وبذلك تتم هذه الجولة في جو البعث والقيامة.
* * *
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ
هُوَ أَقْرَبُ. إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وقضية البعث
إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدلا شديدا في كل عصر ، ومع كل رسول. وهي غيب من غيب
الله الذي يختص بعلمه. (وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين ،
مهما يبلغ علمهم الأرضي ، ومهما تتفتح لهم كنوز الأرض وقواها المذخورة. وإن أعلم
العلماء من بني البشر ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه. أيرتد
نفسه الذي خرج أم يذهب فلا يعود! وتذهب الآمال بالإنسان كل مذهب ، وقدره كامن خلف
ستار الغيب لا يدري متى يفجؤه ، وقد يفجؤه اللحظة. وإنه لمن رحمة الله بالناس أن
يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا وينشئوا ، ويخلفوا وراءهم
ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبئ لهم خلف الستار الرهيب.
والساعة من هذا
الغيب المستور. ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة ، أو اختلت ، ولما سارت
الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة ، والناس يعدون السنين والأيام والشهور
والساعات واللحظات لليوم الموعود! (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ
إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) .. فهي قريب. ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم. وتدبير
أمرها لا يحتاج إلى وقت. طرفة عين. فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق ،
وانتفاضها ، وجمعها ، وحسابها ، وجزاؤها .. كله هين على تلك القدرة التي تقول
للشيء : كن. فيكون. إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر ، وينظرون
بعين البشر ، ويقيسون بمقاييس البشر .. ومن هنا يخطئون التصور والتقدير!
ويقرب القرآن
الأمر بعرض مثل صغير من حياة البشر ، تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم ، وهو يقع
في كل لحظة من ليل أو نهار :
(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..
وهو غيب قريب ،
ولكنه موغل بعيد. وأطوار الجنين قد يراها الناس ، ولكنهم لا يعلمون كيف تتم ، لأن
سرها هو سر الحياة المكنون. والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر
به أمر الساعة وأمر الغيب ، علم حادث مكسوب : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ومولد كل عالم وكل باحث ، ومخرجه من بطن أمه لا يعلم
شيئا قريب قريب! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر ،
وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب ، في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك
الإنسان الواعية ؛ وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل ، وتشمل كذلك قوى الإلهام
الكامنة المجهولة الكنه والعمل. جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله
عليكم. وأول الشكر : الإيمان بالله الواحد المعبود.
وعجيبة أخرى من
آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون :
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ. إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
ومشهد الطير
مسخرات في جو السماء مشهد مكرور ، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب ، وما يتلفت
القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ ، ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب. وإن تحليقة طائر
في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه. فينتفض للمشهد القديم
الجديد .. (ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلَّا اللهُ) بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها
، وجعل الطير قادرة على الطيران ، وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران ؛ وأمسك
بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .. فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق
والتكوين ، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر. وهو يعبر
عن إحساسه بروعة الخلق ، بالإيمان والعبادة والتسبيح ؛ والموهوبون من المؤمنين هبة
التعبير ، قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين ، لا
يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء.
* * *
ويخطو السياق
خطوة أخرى في أسرار الخلق وآثار القدرة ومظاهر النعمة ، يدخل بها إلى بيوت القوم
وما يسر لهم فيها وحولها من سكن ومتاع وأكنان وظلال!
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ
أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ؛ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ.
كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) ..
والسكن
والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا
سكن ولا طمأنينة. وذكرها في السياق يجيء بعد الحديث عن الغيب ، وظل السكن ليس
غريبا عن ظل الغيب ، فكلاهما فيه خفاء وستر. والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة
عن قيمة هذه النعمة.
ونستطرد هنا
إلى شيء عن نظرة الإسلام إلى البيت ، بمناسبة هذا التعبير الموحي : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَناً) .. فهكذا يريد الإسلام البيت مكانا للسكينة النفسية
والاطمئنان الشعوري. هكذا يريده مريحا تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته
المادية للسكنى والراحة ، أو باطمئنان من فيه بعضهم
لبعض ، وبسكن من فيه كل إلى الآخر. فليس البيت مكانا للنزاع والشقاق
والخصام ، إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام.
ومن ثم يضمن
الإسلام للبيت حرمته ، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه. فلا يدخله داخل إلا بعد
الاستئذان ، ولا يقتحمه أحد ـ بغير حق ـ باسم السلطان ، ولا يتطلع أحد على من فيه
لسبب من الأسباب ، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة ، فيروع أمنهم ،
ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت ، ويعبر عنه ذلك التعبير الجميل العميق!
ولأن المشهد
مشهد بيوت وأكنان وسرابيل ، فإن السياق يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع
مفردات المشهد : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
إِقامَتِكُمْ ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً
إِلى حِينٍ). وهو هنا كذلك يستعرض من نعمة الأنعام ما يلبي الضرورات
وما يلبي الأشواق ، فيذكر المتاع ، إلى جانب الأثاث. والمتاع ولو أنه يطلق على ما
في الأرحال من فرش وأغطية وأدوات ، إلا أنه يشي بالتمتع والارتياح.
ويرق التعبير
في جو السكن والطمأنينة ، وهو يشير إلى الظلال والأكنان في الجبال ، وإلى السرابيل
تقي في الحر وتقي في الحرب : (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ،
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ، وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وللنفس في الظلال استرواح وسكن ، ولها في الأكنان
طمأنينة ووسن ، ولها في السرابيل التي تقي الحر من الأردية والأغطية راحة وفي
السرابيل التي تقي البأس من الدروع وغيرها وقاية .. وكلها بسبيل من طمأنينة البيوت
وأمنها وراحتها وظلها .. ومن ثم يجيء التعقيب : (كَذلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) والإسلام استسلام وسكن وركون ..
وهكذا تتناسق
ظلال المشهد كله على طريقة القرآن في التصوير.
فإن أسلموا
فبها. وإن تولوا وشردوا فما على الرسول إلا البلاغ. وليكونن إذا جاحدين منكرين ،
بعد ما عرفوا نعمة الله التي لا تقبل النكران!
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ. يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَها ، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) ..
* * *
ثم يعرض ما
ينتظر الكافرين عند ما تأتي الساعة التي ذكرت في مطلع الحديث :
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ، ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا
: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ.
فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ : إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ. وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما
كانُوا يُفْسِدُونَ) ..
والمشهد يبدأ
بموقف الشهداء من الأنبياء يدلون بما يعلمون مما وقع لهم في الدنيا مع أقوامهم من
تبليغ وتكذيب والذين كفروا واقفون لا يؤذن لهم في حجة ولا استشفاع ولا يطلب منهم
أن يسترضوا ربهم بعمل أو قول ، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء ، وجاء وقت الحساب
والعقاب. (وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) .. ثم يقطع هذا الصمت رؤية الذين أشركوا لشركائهم في
ساحة الحشر ممن كانوا يزعمون أنهم شركاء لله ، وأنهم آلهة يعبدونهم مع الله أو من
دون الله. فإذا هم يشيرون إليهم ويقولون! (رَبَّنا هؤُلاءِ
شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) فاليوم يقرون : (رَبَّنا) واليوم لا يقولون عن هؤلاء إنهم
شركاء لله. إنما يقولون : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) .. ويفزع الشركاء ويرتجفون من هذا الاتهام الثقيل ،
فإذا هم يجبهون عبادهم بالكذب في تقرير وتوكيد : (فَأَلْقَوْا
إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) ويتجهون إلى الله مستسلمين خاضعين (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ
السَّلَمَ) .. وإذا المشركون لا يجدون من مفترياتهم شيئا يعتمدون
عليه في موقفهم العصيب : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) .. وينتهي الموقف بتقرير مضاعفة العذاب للذين كفروا
وحملوا غيرهم على الكفر وصدوهم عن سبيل الله : (الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ) فالكفر فساد ، والتكفير فساد ، وقد ارتكبوا جريمة كفرهم
، وجريمة صد غيرهم عن الهدى ، فضوعف لهم العذاب جزاء وفاقا.
ذلك شأن عام مع
جميع الأقوام. ثم يخصص السياق موقفا خاصا للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مع قومه :
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَجِئْنا بِكَ
شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ، وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ
، وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ..
وفي ظل المشهد
المعروض للمشركين ، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم ، ويستسلمون لله
متبرئين من دعوى عبادهم الضالين ، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث
من كل أمة شهيد. فتجيء هذه اللمسة في وقتها وقوتها : (وَجِئْنا بِكَ
شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) .. ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) فلا حجة بعده لمحتج ، ولا عذر معه لمعتذر. (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ) .. فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم
المرهوب ، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ..
وهكذا تجيء
مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق ، تتناسق مع جوه وتؤديه.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ
جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا
السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
وَلا
تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(٩٥) ما
عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
مَنْ
عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)
إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ
عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
قُلْ
نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
(١٠٣)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
مَنْ
كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧)
أُولئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ
هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ
تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)
(١١١)
ختم الدرس
الماضي بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ). وفي هذا الدرس بيان لبعض ما في الكتاب من التبيان
والهدى والرحمة والبشرى. فيه الأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، والنهي عن
الفحشاء والمنكر والبغي ، وفيه الأمر بالوفاء بالعهد والنهي عن نقض الأيمان بعد
توكيدها .. وكلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها هذا الكتاب.
وفيه بيان
الجزاء المقرر لنقض العهد واتخاذ الأيمان للخداع والتضليل ، وهو العذاب العظيم.
والبشرى للذين صبروا وتوفيتهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
ثم يذكر بعض
آداب قراءة هذا الكتاب. وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، لطرد شبحه من
مجلس القرآن الكريم. كما يذكر بعض تقولات المشركين عن هذا الكتاب. فمنهم من يرمي
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بافترائه على الله. ومنهم من يقول : إن غلاما أعجميا هو الذي يعلمه هذا
القرآن!
وفي نهاية
الدرس يبين جزاء من يكفر بعد إيمانه ، ومن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ،
ومن فتنوا عن دينهم ثم هاجروا وجاهدوا وصبروا .. وكل أولئك تبيان ، وهدى ورحمة
وبشرى للمسلمين.
* * *
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ. يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها
، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنْكاثاً ، تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ ، إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ، وَلَيُبَيِّنَنَّ
لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ ، وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..
لقد جاء هذا
الكتاب لينشىء أمة وينظم مجتمعا ، ثم لينشىء عالما ويقيم نظاما. جاء دعوة عالمية
إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس ؛ إنما العقيدة وحدها هي الآصرة
والرابطة والقومية والعصبية.
ومن ثم جاء
بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات ، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب ،
والثقة بالمعاملات والوعود والعهود :
جاء (بِالْعَدْلِ) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة
للتعامل ، لا تميل مع الهوى ، ولا تتأثر بالود والبغض ، ولا تتبدل مجاراة للصهر
والنسب ، والغنى والفقر ، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد
للجميع ، وتزن بميزان واحد للجميع.
وإلى جوار
العدل .. (الْإِحْسانِ) .. يلطف من حدة العدل الصارم الجازم ، ويدع الباب
مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب ، وشفاء لغل الصدور. ولمن
يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.
والإحسان أوسع
مدلولا ، فكل عمل طيب إحسان ، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل ، فيشمل محيط
الحياة كلها في علاقات العبد بربه ، وعلاقاته بأسرته ، وعلاقاته بالجماعة ،
وعلاقاته بالبشرية جميعا .
ومن الإحسان (إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه ، وتوكيدا عليه. وما
يبني هذا على عصبية الأسرة ، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام
من المحيط المحلي إلى المحيط العام. وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل .
__________________
(وَيَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) .. والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد. ومنه ما خصص
به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض ، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد
حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها. والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره
الشريعة فهي شريعة الفطرة. وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى
أصل الفطرة قبل انحرافها. والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل.
وما من مجتمع
يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي. ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل
مدلولاتها ، والمنكر بكل مغرراته ، والبغي بكل معقباته ، ثم يقوم ..
والفطرة
البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة ، مهما تبلغ قوتها ، ومهما
يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها. وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد
الفحشاء والمنكر والبغي. فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر ،
فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة ، فهي تنتفض لطردها ،
كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه. وأمر الله بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء
والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة ، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم
الله. لذلك يجيء التعقيب : (يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ
جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) ..
والوفاء بعهد
الله يشمل بيعة المسلمين للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله. والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء
عنصر الثقة في التعمال بين الناس ، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع ، ولا تقوم
إنسانية. والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله
كفيلا عليهم ، وأشهدوه عهدهم ، وجعلوه كافلا للوفاء بها. ثم يهددهم تهديدا خفيا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).
وقد تشدد
الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا ، لأنها قاعدة الثقة التي
ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم ، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر
بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال ، وتقبيح نكث العهد ، ونفي
الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات :
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ، أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ
أُمَّةٍ. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ. وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
فمثل من ينقض
العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه
مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل
والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود. وما يرضى إنسان
كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل ، التي
تقضي حياتها فيما لا غناء فيه!
وكان بعضهم
يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة ، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أن هذا
ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة. وطلبا للمصلحة
مع الأمة الأربى.
ويدخل في مدلول
النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن «مصلحة الدولة» فتعقد دولة معاهدة مع
دولة أو مجموعة دول ، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في
الصف الآخر ، تحقيقا
«لمصلحة الدولة»! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ، ويجزم بالوفاء بالعهد ،
وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا
على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان
، وأكل حقوق الناس ، واستغلال الدول والشعوب .. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة
الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في
المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام.
والنص هنا يحذر
من مثل ذلك المبرر ، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ
أُمَّةٍ) هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم
على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) ..
ثم يكل أمر
الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه : (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم
في الرأي والعقيدة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد ، ولكنه
خلقهم باستعدادات متفاوتة ، نسخا غير مكررة ولا معادة ، وجعل نواميس للهدى والضلال
، تمضي بها مشيئته في الناس. وكل مسؤول عما يعمل. فلا يكون الاختلاف في العقيدة
سببا في نقض العهود. فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله. والعهد مكفول مهما
اختلفت المعتقدات. وهذه قمة في نظافة التعامل ، والسماحة الدينية ، لم يحققها في
واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن.
* * *
ويمضي السياق
في توكيده للوفاء بالعهود ، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة ، وبث الطمأنينة
الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية. ويحذر عاقبة ذلك في
زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية ، وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات.
وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة ، ويلوح بما عند الله من عوض عما يفوتهم بالوفاء
من منافع هزيلة ، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند الله الذي لا تنفد خزائنه ،
ولا ينقطع رزقه :
(وَلا تَتَّخِذُوا
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ،
وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَلَكُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ. وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً. إِنَّما عِنْدَ اللهِ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما
عِنْدَ اللهِ باقٍ. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ).
واتخاذ الأيمان
غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير ، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين. فالذي يقسم
وهو يعلم أنه خادع في قسمه ، لا يمكن أن تثبت له عقيدة ، ولا أن تثبت له قدم على
صراطها. وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث ، ويعلمون
أن أقسامه كانت للغش والدخل ؛ ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السيئ الذي
يضربه للمؤمنين بالله.
ولقد دخلت في
الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم ، ومن صدقهم في وعدهم
، ومن إخلاصهم في أيمانهم ، ومن نظافتهم في معاملاتهم. فكان الكسب أضخم بكثير من
الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم.
ولقد ترك
القرآن وسنة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في نفوس المسلمين أثرا قويا وطابعا عاما في هذه الناحية ظل هو طابع
التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز .. روي أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان
وملك
الروم أمد ، فسار إليهم في آخر الأجل. (حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم
أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون) فقال له عمر بن عتبة : الله أكبر يا معاوية. وفاء
لا غدر. سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها» فرجع
معاوية بالجيش. والروايات عن حفظ العهود ـ مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها ـ متواترة
مشهورة.
وقد ترك هذا
القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي البارز. وهو يرغب ويرهب ، وينذر ويحذر ويجعل
العهد عهد الله ، ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيلا هزيلا ، وما عند الله على
الوفاء عظيما جزيلا : (وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً. إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .. ويذكر بأن ما عند البشر ولو ملكه فرد فإنه زائل ،
وما عند الله باق دائم : (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ، ويقوي العزائم على الوفاء ، والصبر لتكاليف الوفاء ،
ويعد الصابرين أجرا حسنا (وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) والتجاوز عما وقع منهم من عمل سيئ ، ليكون الجزاء على
أحسن العمل دون سواه.
* * *
وبمناسبة العمل
والجزاء ، يعقب بالقاعدة العامة فيهما :
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ،
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) .. فيقرر بذلك القواعد التالية :
أن الجنسين :
الذكر والأنثى. متساويان في قاعدة العمل والجزاء ، وفي صلتهما بالله ، وفي جزائهما
عند الله. ومع أن لفظ «من» حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) لزيادة تقرير هذه الحقيقة. وذلك في السورة التي عرض
فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى ، وضيق المجتمع بها ، واستياء من يبشر بمولدها ،
وتواريه من القوم حزنا وغما وخجلا وعارا!
وأن العمل
الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها. قاعدة الإيمان بالله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء ، وبغير هذه الرابطة لا
يتجمع شتاته ، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. والعقيدة هي المحور
الذي تشد إليه الخيوط جميعا ، وإلا فهي أنكاث. فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح
باعثا وغاية. فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير. لا عارضا مزعزعا يميل
مع الشهوات والأهواء حيث تميل.
وأن العمل
الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية
بالمال. فقد تكون به ، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير
تطيب بها الحياة في حدود الكفاية : فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى
رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة ، وسكن البيوت ومودات
القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة .. وليس
المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل ، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى
عند الله.
وأن الحياة
الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.
وأن هذا الأجر
يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن
السيئات. فما أكرمه من جزاء!.
* * *
ثم يأخذ السياق
في شيء عن خاصة الكتاب. عن آداب قراءته. وعن تقولات المشركين عليه :
(فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما
سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).
والاستعاذة
بالله من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله ، وتطهير له من
الوسوسة واتجاه بالمشاعر إلى الله خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي
يمثله الشيطان.
فاستعذ بالله
من الشيطان الرجيم .. (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فالذين يتوجهون إلى الله وحده ، ويخلصون قلوبهم لله ،
لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم ، مهما وسوس لهم فإن صلتهم بالله تعصمهم أن
ينساقوا معه ، وينقادا إليه. وقد يخطئون ، لكنهم لا يستسلمون ، فيطردون الشيطان
عنهم ويثوبون إلى ربهم من قريب .. (إِنَّما سُلْطانُهُ
عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أولئك الذين يجعلونه وليهم ويستسلمون له بشهواتهم
ونزواتهم ، ومنهم من يشرك به. فقد عرفت عبادة الشيطان وعبادة إله الشر عند بعض
الأقوام. على أن اتباعهم للشيطان نوع من الشرك بالولاء والاتباع.
وعند ذكر
المشركين يذكر تقولاتهم عن القرآن الكريم :
(وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا : إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ : نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ
مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّما يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ
اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ..
إن المشركين لا
يدركون وظيفة هذا الكتاب. لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني ، وبناء
أمة تقود هذا المجتمع العالمي. وأنه الرسالة الأخيرة التي ليست بعدها من السماء
رسالة ، وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع. فإذا بدل
آية انتهى أجلها واستنفدت أغراضها ، ليأتي بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي
صارت إليها الأمة ، وأصلح للبقاء بعد ذلك الدهر الطويل الذي لا يعلمه إلا هو ،
فالشأن له ، ومثل آيات هذا الكتاب كمثل الدواء تعطى للمريض منه جرعات حتى يشفى ،
ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية.
إن المشركين لا
يدركون شيئا من هذا كله ، ومن ثم لم يدركوا حكمة تبديل آية مكان آية في حياة
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فحسبوها افتراء منه وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذبا قط. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..
(قُلْ : نَزَّلَهُ
رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) .. فما يمكن أن يكون افتراء. وقد نزله (رُوحُ الْقُدُسِ) ـ جبريل عليهالسلام ـ (مِنْ رَبِّكَ) لا من عندك (بِالْحَقِّ) لا يتلبس به الباطل (لِيُثَبِّتَ
الَّذِينَ آمَنُوا) الموصولة قلوبهم بالله ، فهي تدرك أنه من عند الله ،
فتثبت على الحق وتطمئن إلى الصدق (وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ) بما يهديهم إلى الطريق المستقيم ، وبما يبشرهم بالنصر
والتمكين.
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ..
والفرية الأخرى
بزعمهم أن الذي يعلم الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا القرآن إنما هو بشر. سموه باسمه ، واختلفت الروايات في تعيينه .. قيل
: كانوا يشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض
بطون قريش ، وكان بياعا يبيع عند الصفا ، وربما كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذلك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية ،
أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه.
وقال محمد بن
إسحاق في السيرة : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى سبيعة. غلام نصراني يقال له :
جبر. عبد لبعض بني الحضرمي ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
وقال عبد الله
بن كثير وعن عكرمة وقتادة كان اسمه «يعيش».
وروى ابن جرير ـ
بإسناده ـ عن ابن عباس قال : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعلم قنا بمكة وكان اسمه بلعام. وكان أعجمي اللسان ، وكان المشركون يرون
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا : إنما يعلمه بلعام. فأنزل الله هذه الآية
..
وأما ما كان
فقد رد عليهم الرد البسيط الواضح الذي لا يحتاج إلى جدل : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) فكيف يمكن لمن لسانه أعجمي أن يعلم محمدا هذا الكتاب
العربي المبين؟
وهذه المقالة
منهم يصعب حملها على الجد ، وأغلب الظن أنها كيد من كيدهم الذي كانوا يدبرونه وهم
يعلمون كذبه وافتراءه. وإلا فكيف يقولون ـ وهم أخبر بقيمة هذا الكتاب وإعجازه ـ إن
أعجميا يملك أن يعلم محمدا هذا الكتاب. ولئن كان قادرا على مثله ليظهرن به لنفسه!
واليوم ، بعد
ما تقدمت البشرية كثيرا ، وتفتقت مواهب البشر عن كتب ومؤلفات ، وعن نظم وتشريعات ؛
يملك كل من يتذوق القول ، وكل من يفقه أصول النظم الاجتماعية ، والتشريعات
القانونية أن يدرك أن مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من عمل البشر.
وحتى الماديون
الملحدون في روسيا الشيوعية ، عند ما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر
المستشرقين عام ١٩٥٤ كانت دعواهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد ـ
هو محمد ـ بل من عمل جماعة كبيرة. وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية
بل إن بعض أجزائه كتب خارجها!!! دعاهم إلى هذا استكثار هذا الكتاب على موهبة رجل
واحد. وعلى علم أمة واحدة.
ولم يقولوا ما
يوحي به المنطق الطبيعي المستقيم : إنه من وحي رب العالمين. لأنهم ينكرون أن يكون
لهذا الوجود إله ، وأن يكون هناك وحي ورسل ونبوات!
فكيف كان يمكن ـ
وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين ـ أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني
فلان في الجزيرة العربية؟!
ويعلل القرآن
هذه المقولة الضالة فيقول :
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..
فهؤلاء الذين
لم يؤمنوا بآيات الله لم يهدهم الله إلى الحقيقة في أمر هذا الكتاب ، ولا يهديهم
إلى الحقيقة في شيء ما. بكفرهم وإعراضهم عن الآيات المؤدية إلى الهدى (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بعد ذلك الضلال المقيم.
ثم يثني بأن
الافتراء على الله لا يصدر إلا من مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون. ولا يمكن أن يصدر من
الرسول الأمين :
(إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ. وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ..
فالكذب جريمة
فاحشة لا يقدم عليها مؤمن. وقد نفى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في حديث له صدورها عن المسلم ، وإن كان يصدر عنه غيرها من الذنوب.
* * *
ثم ينتقل السياق
إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ـ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمانِ ـ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ
الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ،
وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْخاسِرُونَ) ..
ولقد لقي
المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة
الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال.
والنص هنا يغلظ
جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه. لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثارا
للحياة الدنيا على الآخرة. فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من
الهداية ؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار ؛ وحكم عليهم بأنهم في
الآخرة هم الخاسرون .. ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح
والخسارة. ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض ؛
فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان. وليست العقيدة هزلا ، وليست صفقة قابلة
للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز. ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع
للجريمة.
واستثنى من ذلك
الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه
من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به. وقد روي أن هذه الآية
نزلت في عمار بن ياسر.
روى ابن جرير ـ
بإسناده ـ عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه
حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئنا بالإيمان. قال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن عادوا فعد» .. فكانت رخصة في مثل هذه الحال.
وقد أبى بعض
المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان. كذلك صنعت سمية
أم ياسر ، وهي تطعن بالحربة في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر.
وقد كان بلال ـ
رضوان الله عليه ـ يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره
في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد. أحد. ويقول :
والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.
وكذلك. حبيب بن
زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله. فيقول : نعم.
فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع! فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو
ثابت على ذلك.
وذكر الحافظ
ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي ـ أحد الصحابة رضوان الله عليهم ـ أنه
أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تنصّر وأنا أشركك في ملكي
وأزوجك ابنتي. فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب أن أرجع عن
دين محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ طرفة عين ما فعلت. فقال : إذن أقتلك ، فقال : أنت وذاك. قال : فأمر به
فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية
فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر. وفي رواية : بقرة. من نحاس فأحميت ، وجاء
بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى ، فأمر به
أن يلقى فيها. فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه. فقال : إني إنما
بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون
لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي رواية أنه
سجنه ، ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه
، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن
لأشمتك في. فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك. فقال : تطلق معي جميع أسارى
المسلمين. فقال : نعم. فقبل رأسه ، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ،
وأنا أبدأ. فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .
ذلك أن العقيدة
أمر عظيم ، لا هوادة فيها ولا ترخص ، وثمن الاحتفاظ بها فادح ، ولكنها ترجحه في
نفس المؤمن ، وعند الله. وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت
الحياة وهان كل ما فيها من نعيم.
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ
عَنْ نَفْسِها. وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
وقد كانوا من
ضعاف العرب ، الذين فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب وغيره. ولكنهم هاجروا
بعد ذلك عند ما أمكنتهم الفرصة ، وحسن إسلامهم ، وجاهدوا في سبيل الله ، صابرين
على تكاليف الدعوة. فالله يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ).
ذلك يوم تشغل
كل نفس بأمرها ، لا تتلفت إلى سواها ؛ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) وهو تعبير يلقي ظل الهول الذي يشغل كل امرئ بنفسه ،
يجادل عنها لعلها تنجو من العذاب. ولا غناء في انشغال ولا جدال. إنما هو الجزاء.
كل نفس وما كسبت. (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) ..
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ
كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
__________________
فَكُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
إِنَّما
حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦)
مَتاعٌ
قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(١١٧) وَعَلَى
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً
لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما
صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
(١٢٨)
سبق أن ضرب
الله في هذه السورة مثلين لتقريب حقيقة من حقائق العقيدة. وهو يضرب هنا مثلا
لتصوير حال مكة ، وقومها المشركين ، الذين جحدوا نعمة الله عليهم. لينظروا المصير
الذي يتهددهم من خلال المثل الذي يضربه لهم.
ومن ذكر النعمة
في المثل ، وهي نعمة الرزق الرغد مع الأمن والطمأنينة ينتقل السياق بهم إلى
الطيبات التي يحرمونها عليهم اتباعا لأوهام الوثنية ، وقد أحلها الله لهم ، وحدد
المحرمات وبينها وليست هذه منها. وذلك لون من الكفر بنعمة الله ، وعدم القيام
بشكرها. يتهددهم بالعذاب الأليم من أجله ، وهو افتراء على الله لم ينزل به شريعة.
وبمناسبة ما
حرم على المسلمين من الخبائث ، يشير إلى ما حرم على اليهود من الطيبات. بسبب
ظلمهم. جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم ولم يكن محرما على آبائهم في عهد
إبراهيم الذي كان أمة قانتا لله حنيفا ، ولم يك من المشتركين شاكرا لأنعمه اجتباه
وهداه إلى صراط مستقيم ، فكانت حلالا له الطيبات ولبنيه من بعده ، حتى حرم الله
بعضها على اليهود في صورة عقوبة لهم خاصة. ومن تاب بعد جهالته فالله غفور رحيم.
ثم جاء دين
محمد امتدادا واتباعا لدين إبراهيم ، فعادت الطيبات حلالا كلها. وكذلك السبت الذي
منع فيه اليهود من الصيد. فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه ففريق كف عن
الصيد وفريق نقض عهده فمسخه الله وانتكس عن مستوى الإنسانية الكريم.
وتختم السورة
عند هذه المناسبة بالأمر إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. وأن يجادلهم بالتي هي
أحسن. وأن يلتزم قاعدة العدل في رد الاعتداء بمثله دون تجاوز .. والصبر والعفو
خير. والعاقبة بعد ذلك للمتقين المحسنين لأن الله معهم ، ينصرهم ويرعاهم ويهديهم
طريق الخير والفلاح.
* * *
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ
كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ، فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
فَكَذَّبُوهُ ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) ..
وهي حال أشبه
شيء بحال مكة. جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن ،
لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله
الكريم. وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون
مطمئنون. كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل
الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء
فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل.
ثم إذا رسول
منهم ، يعرفونه صادقا أمينا ، ولا يعرفون عنه ما يشين ، يبعثه الله فيهم رحمة لهم
وللعالمين ، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة
والعيش الرغيد ؛ فإذا هم يكذبونه ، ويفترون عليه الافتراءات ، وينزلون به وبمن
اتبعوه الأذى. وهم ظالمون.
والمثل الذي
يضربه الله لهم منطبق على حالهم ، وعاقبة المثل أمامهم. مثل القرية التي كانت آمنة
مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ، وكذبت رسوله (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون.
ويجسم التعبير
الجوع والخوف فيجعله لباسا ؛ ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا ، لأن الذوق أعمق
أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد. وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس
الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس. لعلهم يشفقون من تلك العاقبة
التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون.
وفي ظل هذا
المثل الذي تخايل فيه النعمة والرزق ، كما يخايل فيه المنع والحرمان ، يأمرهم
بالأكل مما أحل لهم من الطيبات وشكر الله على نعمته إن كانوا يريدون أن يستقيموا
على الإيمان الحق بالله ، وأن يخلصوا له
العبودية خالصة من الشرك ، الذي يوحي إليهم بتحريم بعض الطيبات على أنفسهم
باسم الآلهة المدعاة :
(فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ، وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
ويحدد لهم
المحرمات على سبيل الحصر. وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق الله من بحيرة
أو سائبة أو وصيلة أوحام :
(إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللهِ بِهِ) .. وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة
والدم ولحم الخنزير ، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا الدين يسر لا عسر. ومن خاف على نفسه الموت أو
المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر (على
خلاف فقهي ذكرناه من قبل) غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي
أباحت المحظور.
ذلك حد الحلال
والحرام الذي شرعه الله في المطعومات ، فلا تخالفوه اتباعا لأوهام الوثنية ، ولا
تكذبوا فتدعوا تحريم ما أحله الله. فالتحريم والتحليل لا يكونان إلا بأمر من الله.
فهما تشريع. والتشريع لله وحده لا لأحد من البشر. وما يدعي أحد لنفسه حق التشريع
بدون أمر من الله إلا مفتر ، والمفترون على الله لا يفلحون : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ.
مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..
لا تقولوا
للكذب الذي تصفه ألسنتكم وتحكيه : هذا حلال وهذا حرام. فهذا حلال وهذا حرام حين
تقولونها بلا نص هي الكذب عينه ، الذي تفترونه على الله. والذين يفترون على الله
الكذب ليس لهم إلا المتاع القليل في الدنيا ومن ورائه العذاب الأليم ، والخيبة
والخسران ..
ثم يجرؤ ناس
بعد ذلك على التشريع بغير إذن من الله ، وبغير نص في شريعته يقوم عليه ما يشرعونه
من القوانين ، وينتظرون أن يكون لهم فلاح في هذه الأرض أو عند الله!
* * *
فأما ما حرمه
الله على اليهود في قوله من قبل في سورة الأنعام. (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ، أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) فقد كان عقوبة خاصة بهم لا تسري على المسلمين :
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا
السُّوءَ بِجَهالَةٍ ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا. إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
ولقد استحق
اليهود تحريم هذه الطيبات عليهم بسبب تجاوزهم الحد ومعصيتهم لله. فكانوا ظالمين
لأنفسهم لم يظلمهم الله. فمن تاب ممن عمل السوء بجهالة ولم يصر على المعصية ، ولم
يلج فيها حتى يوافيه الأجل ؛ ثم أتبع التوبة القلبية بالعمل الصالح فإن غفران الله
يسعه ورحمته تشمله. والنص عام يشمل التائبين العاملين من اليهود المذنبين وغيرهم
إلى يوم الدين.
* * *
وبمناسبة ما
حرم على اليهود خاصة ، ومناسبة ادعاء مشركي قريش أنهم على ملة إبراهيم فيما
يحرمونه على أنفسهم ويجعلونه للآلهة ، يعرج السياق على إبراهيم ـ عليهالسلام ـ يجلو حقيقة ديانته ، ويربط بينها وبين الدين
الذي جاء به محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويبين ما اختص به اليهود من المحظورات التي لم تكن على عهد إبراهيم.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً
لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ؛ وَآتَيْناهُ فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ. إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ،
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ).
والقرآن الكريم
يرسم إبراهيم ـ عليهالسلام ـ نموذجا للهداية والطاعة والشكر والإنابة لله. ويقول عنه هنا : إنه كان
أمة. واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة. ويحتمل أنه
كان إماما يقتدى به في الخير. وورد في التفسير المأثور هذا المعنى وذاك. وهما قريبان
فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة
من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد. (قانِتاً لِلَّهِ) طائعا خاشعا عابدا (حَنِيفاً) متجها إلى الحق مائلا إليه (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلا يتعلق به ولا يتمسح فيه المشركون! (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) بالقول والعمل. لا كهؤلاء المشركين الذين يجحدون نعمة
الله قولا ، ويكفرونها عملا ، ويشركون في رزقه لهم ما يدعون من الشركاء ، ويحرمون
نعمة الله عليهم اتباعا للأوهام والأهواء. (اجْتَباهُ) اختاره (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) هو صراط التوحيد الخالص القويم.
ذلك شأن
إبراهيم الذي يتعلق به اليهود ويتمسح به المشركون (ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) فكان ذلك وصل ما انقطع من عقيدة التوحيد ، ويؤكدها النص
من جديد على أن إبراهيم (ما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) فالصلة الحقيقية هي صلة الدين الجديد. فأما تحريم السبت
فهو خاص باليهود الذين اختلفوا فيه ، وليس من ديانة إبراهيم ، وليس كذلك من دين
محمد السائر على نهج إبراهيم : (إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) وأمرهم موكول إلى الله (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
* * *
ذلك بيان
المشتبهات في العلاقة بين عقيدة التوحيد التي جاء بها إبراهيم من قبل ، وكملت في
الدين الأخير ، والعقائد المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود. وهو بعض ما
جاء هذا الكتاب لتبيانه. فليأخذ الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة ،
ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي هي أحسن. فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين
عاقبهم بمثل ما اعتدوا. إلا أن يعفو ويصبر مع المقدرة على العقاب بالمثل ؛ مطمئنا
إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين. فلا يحزن على من لا يهتدون ، ولا يضيق صدره
بمكرهم به وبالمؤمنين :
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ
بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ
إِلَّا بِاللهِ. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ) ..
على هذه الأسس
يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها ، ويعين وسائلها وطرائقها ، ويرسم
المنهج للرسول الكريم ، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي
شرعه الله في هذا القرآن.
إن الدعوة دعوة
إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي
واجبه
لله ، لا فضل له يتحدث به ، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به ، وأجره
بعد ذلك على الله.
والدعوة
بالحكمة ، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم ، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة
حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها. والطريقة التي
يخاطبهم بها ، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة
والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة
الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق ، وتتعمق المشاعر بلطف ، لا بالزجر والتأنيب في
غير موجب. ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة
كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة ، ويؤلف القلوب النافرة ، ويأتي بخير من الزجر
والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي
هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح. حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر
أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل ، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية
لها كبرياؤها وعنادها ، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق ، حتى لا
تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس ،
فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو
الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة. ويشعر المجادل أن ذاته مصونة ، وقيمته كريمة
، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها ، والاهتداء إليها. في سبيل الله ،
لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!
ولكي يطامن
الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن
سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد
ذلك لله.
هذا هو منهج
الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة. فأما إذا
وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير ، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله
إعزازا لكرامة الحق ، ودفعا لغلبة الباطل ، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء
حدوده إلى التمثيل والتفظيع ، فالإسلام دين العدل والاعتدال ، ودين السلم
والمسالمة ، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه. فالدفع
عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها ، فلا تهون في نفوس
الناس. والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد ، ولا يثق أنها دعوة الله. فالله لا يترك
دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها ، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله
والعزة لله جميعا. ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين
الناس ، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم ، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا
يعاقبون ، ويعتدى عليهم فلا يردون؟!.
ومع تقرير
قاعدة القصاص بالمثل ، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر ، حين يكون
المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان ، في الحالات التي قد يكون العفو فيها
والصبر أعمق أثرا. وأكثر فائدة للدعوة. فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة
تؤثر العفو والصبر. فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها ،
فالقاعدة الأولى هي الأولى.
ولأن الصبر
يحتاج إلى مقاومة للانفعال ، وضبط للعواطف ، وكبت للفطرة ، فإن القرآن يصله بالله
ويزين عقباه : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) .. فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس ، والاتجاه إليه
هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره.
ويوصي القرآن
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهي وصية لكل داعية من بعده ، ألا يأخذه الحزن إذا
رأى الناس لا يهتدون ، فإنما عليه واجبه يؤديه ، والهدى والضلال بيد الله ،
وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال. وألا
يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله ، فالله حافظه من المكر والكيد ، لا يدعه
للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه ..
ولقد يقع به
الأذى لامتحان صبره ، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه ، ولكن العاقبة مظنونة
ومعروفة (إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون.
هذا هو دستور
الدعوة إلى الله كما رسمه الله. والنصر مرهون باتباعه كما وعد الله. ومن أصدق من
الله؟.
* * *
انتهى الجزء الرابع عشر
ويليه الجزء الخامس عشر
مبدوءا بسورة الإسراء
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الإسراء
وقسم من
سورة الكهف
الجزء الخامس عشر
(١٧) سورة الإسراء مكيّة
وآياتها إحدى عشرة ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
وَقَضَيْنا
إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
فَإِذا
جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ
أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً
(٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ
أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)
وَأَنَّ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)
وَيَدْعُ
الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
وَكُلَّ
إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣)
اقْرَأْ
كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
(١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ
عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً)
(٢١)
هذه السورة ـ سورة
الإسراء ـ مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن
العقيدة ؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ؛
إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء.
وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان.
ولكن العنصر
البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وموقف القوم منه في مكة. وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ،
وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له. واستطراد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة
والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها
من هلاك المكذبين بها. وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ،
والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع .. كل ذلك بعد أن يعذر الله ـ سبحانه
ـ إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً).
ويتكرر في سياق
السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه. ففي مطلعها : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ...) وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية
المؤمنين مع نوح (إِنَّهُ كانَ عَبْداً
شَكُوراً) .. وعند ذكر دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيراً ، تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .. وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن
: (وَيَقُولُونَ :
سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) .. وتختم السورة بالآية (وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ
فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ، وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً).
في تلك
الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بيّنا ، يمضي سياق السورة في أشواط
متتابعة.
يبدأ الشوط الأول
بالإشارة إلى الإسراء : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) مع الكشف عن حكمة الإسراء (لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا) .. وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه
لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم
بثالثة ورابعة (وَإِنْ عُدْتُمْ
عُدْنا) .. ثم يقرر أن الكتاب الأخير ـ القرآن ـ يهدي للتي هي
أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته. ويقرر قاعدة التبعة
الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك.
ويبدأ الشوط
الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك
فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه.
ويتحدث في
الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن
البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن.
وفي الشوط
الرابع يبين لما ذا لم يرسل الله محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ؛ كما
يتناول موقف المشركين من إنذار الله لهم في رؤيا الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتكذيبهم وطغيانهم. ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه
سيكون حربا على ذرية آدم. يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي
يبدو من المشركين. ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله
عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى
فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).
ويستعرض الشوط
الأخير كيد المشركين للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة. ولو أخرجوه
قسرا ـ ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله ـ لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم
حين أخرجت رسلها أو قتلتهم. ويأمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله
ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن
بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً).
ويستمر في
الحديث عن القرآن وإعجازه. بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ،
ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها
تفجيرا! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا. أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب
مادي معه يقرأونه ... إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب
الهدى والاقتناع. ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ،
ويكل الأمر إلى الله. ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم
لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله ـ على سعتها وعدم نفادها ـ لأمسكوا خوفا من
الإنفاق! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات
الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلى
إيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال.
وتنتهي السورة
بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه. القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على
القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية
واقعية عملية. والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد
البكاء والسجود. ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في
الملك ولم يكن له ولي من الذل. كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه.
* * *
وقصة الإسراء ـ
ومعها قصة المعراج ـ إذ كانتا في ليلة واحدة ـ الإسراء من المسجد الحرام في مكة
إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى
وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا .. هذه القصة جاءت فيها روايات
شتى ؛ وثار حولها جدل كثير. ولا يزال إلى اليوم يثور.
وقد اختلفت في
المكان الذي أسري منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه ـ وهو الظاهر ـ وروي عن النبي
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني
جبريل عليهالسلام بالبراق». وقيل : أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب.
والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس : الحرم
كله مسجد.
وروي أنه كان
نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم
هانىء وقال : «مثل لي النبيون فصليت بهم» ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم
هانىء بثوبه ، فقال : «ما لك؟» قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم. قال : «وإن
كذبوني». فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بحديث الإسراء. فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم. فحدثهم ،
فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ؛ وارتد ناس ممن كان آمن به ؛ وسعى
رجال إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال : أو قال ذلك؟ قالوا نعم. قال : فأنا أشهد
لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم
يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء!
فسمي الصدّيق. وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له
، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب. فقالوا : أخبرنا عن
عيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها
جمل أورق. فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية ـ لمراقبة مقدم العير ـ فقال قائل
منهم : هذه والله الشمس قد شرقت. فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل
أورق ، كما قال محمد .. ثم لم يؤمنوا! .. وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى
السماء من بيت المقدس.
واختلف في أن
الإسراء كان في اليقظة أم في المنام. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت :
والله ما فقد جسد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولكن عرج بروحه. وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها. وفي أخبار أخرى أنه
كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يبرد حتى عاد إليه.
والراجح من
مجموع الروايات أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ترك فراشه في بيت أم هانىء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين
النائم واليقظان أسري به وعرج. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.
على أننا لا
نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه
الواقعة المؤكدة في حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكون
رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة .. المسافة بين هذه الحالات كلها ليست
بعيدة ؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة .. والذين يدركون شيئا
من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا. فأمام
القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته
وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه. والمعتاد المرئي في
عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله. أما طبيعة النبوة
فهي اتصال بالملأ الأعلى ـ على غير قياس أو عادة لبقية البشر ـ وهذه التجلية لمكان
بعيد ، أو عالم بعيد ؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال
بالملأ الأعلى والتلقي عنه. وقد صدق أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ وهو يرد المسألة
المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من
ذلك. أصدقه بخبر السماء!
ومما يلاحظ ـ بمناسبة
هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير
وصفتها ـ أن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يسمع لتخوف أم هانىء ـ رضي الله عنها ـ من تكذيب القوم له بسبب غرابة
الواقعة. فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له ، جعلته يصارح
القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه. وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة
للسخرية والتشكيك. ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن الجهر بالحق الذي آمن به .. وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا
بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع
الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال.
كذلك يلاحظ أن
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق
ـ وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل ـ ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد
على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ،
المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها. فلم يكن جهر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته. إنما كان جهرا
بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :
والآن نأخذ في
الدرس الأول على وجه التفصيل :
* * *
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ..
تبدأ السورة
بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد
والرب في ذلك الأفق الوضيء.
وتذكر صفة
العبودية : (أَسْرى بِعَبْدِهِ) ، لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى
الدرجات التي لم يبلغها بشر ؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام
العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليهالسلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت
له ، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية .. وبذلك تبقى
للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو
مشابهة ، من قريب أو من بعيد.
والإسراء من
السرى : السير ليلا. فكلمة (أَسْرى) تحمل معها زمانها. ولا تحتاج إلى ذكره. ولكن
السياق ينص على الليل (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) للتظليل والتصوير ـ على طريقة القرآن الكريم ـ فيلقي ظل
الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة
وتتابعها.
والرحلة من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد
التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام ، إلى محمد خاتم النبيين ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا. وكأنما أريد بهذه
الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته
على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود
الزمان والمكان ؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ؛ وتتضمن معاني أكبر
من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.
ووصف المسجد
الأقصى بأنه (الَّذِي بارَكْنا
حَوْلَهُ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه. وهو ظل لم
يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه. أو باركنا فيه. وذلك من دقائق التعبير
القرآني العجيب.
والإسراء آية
صاحبتها آيات : (لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في
البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أيا كانت صورتها وكيفيتها .. آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق
عجيبة في هذا الوجود ؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ،
والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من
هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار
اللطيفة .. (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .. يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع
والأبصار من اللطائف والأسرار.
والسياق يتنقل
في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) إلى صيغة التقرير من الله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) إلى صيغة الوصف لله : (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس.
فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه. وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه
تعالى نصا. والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية. وتجتمع
هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة.
* * *
هذا الإسراء
آية من آيات الله. وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر. والمسجد الأقصى هو طرف
الرحلة. والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم
أخرجهم منها. فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة
في الآيات التالية :
(وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلاً ؛ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما
بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ
الدِّيارِ ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ ، وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ
نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ، وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا
تَتْبِيراً. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ،
وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) ..
وهذه الحلقة من
سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة. وهي تتضمن نهاية بني
إسرائيل التي صاروا إليها ؛ ودالت دولتهم بها. وتكشف عن العلاقة المباشرة بين
مصارع الأمم وفشو الفساد فيها ، وفاقا
لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها. وذلك أنه إذا قدر الله
الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها.
ويبدأ الحديث
في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى ـ التوراة ـ وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل
وتذكير لهم بجدهم الأكبر ـ نوح ـ العبد الشكور ، وآبائهم الأولين الذين حملوا معه
في السفينة ، ولم يحمل معه إلا المؤمنون :
(وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ
دُونِي وَكِيلاً ، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً
شَكُوراً) ..
ذلك الإنذار
وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل. وذلك ألا
يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم.
وقد نص على
القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب : (هُدىً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) فلا يعتمدوا إلا على الله وحده ، ولا يتجهوا إلا إلى
الله وحده. فهذا هو الهدى ، وهذا هو الإيمان. فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون
الله وكيلا.
ولقد خاطبهم
باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح ، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في
الأرض. خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين ، مع نوح العبد
الشكور ، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق.
ووصف نوحا
بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر ، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها. وقد
وصف بها محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من قبل. على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها.
في ذلك الكتاب
الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل ، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم
بسبب إفسادهم في الأرض. وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم.
وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض ، تصديقا لسنة الله الجارية التي
لا تتخلف :
(وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) ..
وهذا القضاء
إخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم ، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ؛
لا أنه قضاء قهري عليهم ، تنشأ عنه أفعالهم. فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على
أحد (قُلْ : إِنَّ اللهَ
لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن. فما سيكون ـ
بالقياس إلى علم الله ـ كائن ، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد ، ولم
يكشف عنه الستار.
ولقد قضى الله
لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، وأنهم
سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون. وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد
سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا :
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ
أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا
خِلالَ الدِّيارِ ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).
فهذه هي الأولى
: يعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان ، فيفسدون فيها. فيبعث الله
عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد ، وأولي بطش وقوة ، يستبيحون الديار ، ويروحون
فيها ويغدون باستهتار ، ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) لا يخلف ولا يكذب.
حتى إذا ذاق
بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل ؛ فرجعوا إلى ربهم ، وأصلحوا أحوالهم
وأفادوا من البلاء المسلط عليهم. وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم ، فطغوا
هم الآخرون وأفسدوا في الأرض ، أدال الله للمغلوبين من الغالبين ، ومكن للمستضعفين
من المستكبرين : (ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) ..
ثم تتكرر القصة
من جديد!
وقبل أن يتم
السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء :
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ..
القاعدة التي
لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له ، بكل ثماره
ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل ، منه تنتج ، وبه تتكيف ؛ وتجعل الإنسان
مسؤولا عن نفسه ، إن شاء أحسن إليها ، وإن شاء أساء ، لا يلومن إلا نفسه حين يحق
عليه الجزاء.
فإذا تقررت
القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة :
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) ..
ويحذف السياق
ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض ، اكتفاء بذكره من قبل : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ) ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ
لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى
تفيض على الوجوه ، أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال. ويستبيحون المقدسات
ويستهينون بها : (وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) .. وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء
، والذي لا يبقي على شيء.
ولقد صدقت
النبوءة ووقع الوعد ، فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة ، ثم سلط عليهم
من شردهم في الأرض ، ودمر مملكتهم فيها تدميرا.
ولا ينص القرآن
على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل ، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة
شيئا. والعبرة هي المطلوبة هنا. وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود.
ويعقب السياق
على النبوءة الصادقة والوعد المفعول ، بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) إن أفدتم منه عبرة.
فأما إذا عاد
بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) ..
ولقد عادوا إلى
الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها. ثم عادوا إلى الإفساد
فسلط عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر» .. ولقد عادوا
اليوم إلى الإفساد في صورة «إسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات.
وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع ، وفاقا لسنته
التي لا تتخلف .. وإن غدا لناظره قريب!
ويختم السياق
الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة :
(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) .. تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ؛ وتتسع لهم فلا يند عنها
أحد.
* * *
ومن هذه الحلقة
من سيرة بني إسرائيل ، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ؛ بل
ضلوا فهلكوا .. ينتقل السياق إلى القرآن. القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم :
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ، وَأَنَّ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ..
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ..
هكذا على وجه
الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان
أو مكان ؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في
كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي
أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا
غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة
للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق
واتساق.
ويهدي للتي هي
أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته
وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى
وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان
هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي
أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على
النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة
والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي
أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا ، وحكومات وشعوبا ، ودولا
وأجناسا ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي
والهوى ؛ ولا تميل مع المودة والشنآن ؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي
أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض
وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع
ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي
أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها
وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .. (وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً
، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً
أَلِيماً) فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء. فعلى الإيمان
والعمل الصالح يقيم بناءه. فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم
يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لاركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم
.. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا
يهتدون بهدي القرآن ، فهم متروكون لهوى الإنسان. الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه
وما يضره ، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له :
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) ..
ذلك أنه لا
يعرف مصائر الأمور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا
يدري. أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه .. فأين هذا من هدى القرآن
الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان. هدى القرآن وهو الإنسان!
* * *
ومن الإشارة
إلى الإسراء وما صاحبه من آيات ؛ والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين ؛
والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب ، وما يدل عليه هذا
القضاء من سنن الله في العباد ، ومن قواعد العمل والجزاء ؛ والإشارة إلى الكتاب
الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم ..
من هذه
الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في
هذا الوجود ، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم ، وجهدهم وجزاءهم ، وكسبهم وحسابهم ،
فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية
الكبرى ، محكومة بالنواميس ذاتها ، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف ، دقيقة منظمة
دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار ؛ مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل
والنهار :
(وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً ، لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً ؛ وَكُلَّ
إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ
عَلَيْكَ حَسِيباً. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ، وَكَفى
بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ
عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ؛ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ
كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ..
فالناموس
الكوني الذي يحكم الليل والنهار ، يرتبط به سعي الناس للكسب. وعلم السنين والحساب.
ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر. وترتبط به عواقب الهدى
والضلال ، وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى. ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى
يبعث رسولا. وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها. وترتبط
به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في
الدنيا والآخرة .. كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل ، ونظام لا يتحول. فليس
شيء من هذا كله جزافا.
(وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) ..
والليل والنهار
آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة ، ولا
يدركه التعطل مرة واحدة ، ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار. فما المحو المقصود
هنا وآية الليل باقية كآية النهار؟ يبدو ـ والله أعلم ـ أن المقصود به ظلمة الليل
التي تخفى فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح .. فكأن الليل ممحو إذا قيس
إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء ؛ وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي
يكشف كل شيء فيه للأبصار.
ذلك المحو لليل
والبروز للنهار (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) .. فالليل للراحة
والسكون والجمام ، والنهار للسعي والكسب والقيام ، ومن المخالفة بين الليل
والنهار يعلم البشر عدد السنين ، ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات.
(وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة
والجزاف. ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل ، وهي
عليه شاهد ودليل.
بهذا الناموس
الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء.
(وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً).
وطائر كل إنسان
ما يطير له من عمله ، أي ما يقسم له من العمل ، وهو كناية عما يعمله. وإلزامه له
في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ؛ على طريقة القرآن في تجسيم المعاني
وإبرازها في صورة حسية. فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه. وكذلك التعبير
بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة. فهو يصور عمله مكشوفا ، لا يملك إخفاءه ، أو
تجاهله أو المغالطة فيه. ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور ، فإذا هو أعمق
أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ؛ وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ
هذا الكتاب في فزع طائر من اليوم العصيب ، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار ، ولا
يحتاج إلى شاهد أو حسيب : (اقْرَأْ كِتابَكَ.
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).
وبذلك الناموس
الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء :
(مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ..
فهي التبعة
الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ؛ إن اهتدى فلها ، وإن ضل فعليها. وما من نفس
تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أحد. إنما يسأل كل عن عمله ، ويجزى كل بعمله
ولا يسأل حميم حميما ..
وقد شاءت رحمة
الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود ، وألا يأخذه
بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم ، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً) وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم
بالعذاب.
كذلك تمضي سنة
الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا ، مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف
الليل والنهار :
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).
والمترفون في
كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ،
فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق
والمجانة ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم
إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ، ونشروا الفاحشة في الأمة
وأشاعوها ، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثم تتحلل
الأمة وتسترخي ، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها.
والآية تقرر
سنة الله هذه. فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك ، فكثر
فيها المترفون ،
__________________
فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها ،
فعم فيها الفسق ، فتحللت وترهلت ، فحقت عليها سنة الله ، وأصابها الدمار والهلاك.
وهي المسئولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ، ولم تصلح من نظامها
الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله
عليها ففسقوا ، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك
، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.
إن إرادة الله
قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف ، وسننا لا تتبدل ، وحين توجد الأسباب
تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق ، لأن الله لا
يأمر بالفحشاء. لكن وجود المترفين في ذاته ، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها ،
وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا. وهي التي تعرضت لسنة
الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة.
فالإرادة هنا
ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشىء السبب ، ولكنها ترتب النتيجة على السبب.
الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به. والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق ،
ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق.
وهنا تبرز تبعة
الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها. وعدم الضرب على أيدي
المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا.
هذه السنة قد
مضت في الأولين من بعد نوح ، قرنا بعد قرن ، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى
ذلك المصير ، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير :
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً بَصِيراً).
* * *
وبعد فإن من
أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها ، فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها ،
فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء ، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق.
فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها ،
ويستمتعون فيها كالأنعام ، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات. ويرتكبون في سبيل
تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً).
مذموما بما
ارتكب ، مدحورا بما انتهى إليه من عذاب.
(وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً).
والذي يريد
الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها ، فيؤدي تكاليفها ، وينهض بتبعاتها ، ويقيم سعيه
لها على الإيمان. وليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة ، إنما يمد بالبصر إلى آفاق
أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية. ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين
يملك الإنسان نفسه ، فلا يكون عبدا لهذا المتاع.
وإذا كان الذي
يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا ، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها
ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم ،
وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء.
إن الحياة
للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام. فأما
الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ، الذي خلقه فسواه ،
وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.
على أن هؤلاء
وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله. سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب
الآخرة فيلقاها. وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه ، فهو مطلق تتوجه به المشيئة
حيث تشاء :
(كُلًّا نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ. وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).
والتفاوت في
الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم ، ومجال الأرض
ضيق ورقعة الأرض محدودة. فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول. كيف بهم
في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة؟
(انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً).
فمن شاء
التفاوت الحق ، ومن شاء التفاضل الضخم ، فهو هناك في الآخرة. هنالك في الرقعة
الفسيحة ، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله. وفي ذلك فليتنافس
المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل ...
(لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
وَقَضى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)
وَاخْفِضْ
لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما
رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً (٣٠)
وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)
وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا
مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ
كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ
طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)
(٣٩)
في الدرس
الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء ، والهدى والضلال ، والكسب والحساب .. إلى
الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار. وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب
والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله ، كما تربط بهذه العروة
الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج ، في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة.
وفي الدرس
الماضي ورد (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وورد : (وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً).
ففي هذا الدرس
يعرض شيئا من أوامر هذا القرآن ونواهيه ، مما يهدي للتي هي أقوم ، ويفصل شيئا مما
اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة.
يبدأ الدرس
بالنهي عن الشرك ، وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده. ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف
: بر الوالدين ، وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، في غير إسراف ولا تبذير.
وتحريم قتل الذرية ، وتحريم الزنا ، وتحريم القتل. ورعاية مال اليتيم ، والوفاء
بالعهد ، وتوفية الكيل والميزان ، والتثبت من الحق ، والنهي عن الخيلاء والكبر ...
وينتهي بالتحذير من الشرك. فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس
وختامه ، مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة.
* * *
(لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً).
إنه النهي عن
الشرك والتحذير من عاقبته ، والأمر عام ، ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه
أمر خاص به ، صادر إلى شخصه. فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته ،
والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن «يقعد» «مذموما» بالفعلة الذميمة
التي أقدم عليها ، (مَخْذُولاً) لا ناصر له ، ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر
ناصروه. ولفظ (فَتَقْعُدَ) يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد ،
ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا ، وهو يلقي
كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان ، لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير
الوضع ، فهو لفظ مقصود في هذا المكان.
(وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ..
فهو أمر بتوحيد
المعبود بعد النهي عن الشرك. أمر في صورة قضاء. فهو أمر حتمي حتمية القضاء. ولفظة (قَضى) تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي
يفيده النفي والاستثناء (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد.
فإذا وضعت
القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس
ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال.
والرابطة
الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين
بعبادة الله ، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله :
(وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا
تَقُلْ لَهُما : أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ،
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ : رَبِّ ارْحَمْهُما
كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).
بهذه العبارات
الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب
الأبناء. ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى
الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم
إلى الوراء. إلى الأبوة. إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج
البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين
يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات. وكما تمتص
النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة
فإذا هي قشر ؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من
الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان!
فأما الأولاد
فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدورهم إلى الأمام. إلى الزوجات والذرية ..
وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا
يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء. إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة
ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف!
وهنا يجيء
الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد
الأمر المؤكد بعبادة الله.
ثم يأخذ السياق
في تظليل الجو كله بأرق الظلال ؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب
والعطف والحنان:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) .. والكبر له جلاله ، وضعف الكبر له إيحاؤه ؛ وكلمة (عِنْدَكَ) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف .. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا
تَنْهَرْهُما) وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد
ما يدل على الضجر والضيق ، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب .. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي
بالإكرام والاحترام. (وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وهنا يشف التعبير ويلطف ، ويبلغ شغاف القلب وحنايا
الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا ، ولا يرفض
أمرا. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام
والاستسلام. (وَقُلْ : رَبِّ
ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) فهي الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها
الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه
إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب. وهو
أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.
قال الحافظ أبو
بكر البزار ـ بإسناده ـ عن بريدة عن أبيه : أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف
بها فسأل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هل أديت حقها؟ قال : لا. ولا بزفرة واحدة.
ولأن
الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق ، فإنه يعقب على ذلك يرجع الأمر
كله لله الذي يعلم النوايا ، ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال :
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ ، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
غَفُوراً).
وجاء هذا النص
قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل ؛
وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطىء أو يقصر ، ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير.
وما دام القلب
صالحا ، فإن باب المغفرة مفتوح. والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم
مستغفرين.
* * *
ثم يمضي السياق
بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين ؛ ويصل بهم المساكين وابن السبيل ، متوسعا في
القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير :
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ، إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً ؛ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ
تَرْجُوها ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).
والقرآن يجعل
لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق. فليس هو تفضلا من
أحد على أحد ؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله ، ووصله بعبادته وتوحيده. الحق الذي
يؤديه المكلف فيبرىء ذمته ، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه ، وإن هو إلا مؤد ما
عليه لله.
وينهى القرآن
عن التبذير. والتبذير ـ كما يفسره ابن مسعود وابن عباس ـ الإنفاق في غير حق. وقال
مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ، ولو أنفق مدّا في غير حق
كان مبذرا.
فليست هي
الكثرة والقلة في الإنفاق. إنما هو موضع الإنفاق. ومن ثم كان المبذرون إخوان
الشياطين ، لأنهم ينفقون في الباطل ، وينفقون في الشر ، وينفقون في المعصية. فهم
رفقاء الشياطين وصحابهم (وَكانَ الشَّيْطانُ
لِرَبِّهِ كَفُوراً) لا يؤدي حق النعمة ، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق
النعمة ، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق ، غير متجاوزين ولا مبذرين.
فإذا لم يجد
إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم ، وتوجه
إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم ، فليعدهم إلى ميسرة ، وليقل لهم قولا لينا ، فلا
يضيق بهم صدره ، ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته ، ففي القول الميسور عوض
وأمل وتجمل.
* * *
وبمناسبة
التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة :
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً) ..
والتوازن هو
القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي ، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن. والتعبير هنا
يجري على طريقة التصوير ؛ فيرسم البخل يدا مغلولة إلى العنق ، ويرسم الإسراف يدا
مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا ، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة
الملوم المحسور. والحسير في اللغة الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفا وعجزا. فكذلك
البخيل يحسره بخله فيقف. وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير. ملوما في
الحالتين على البخل وعلى السرف ، وخير الأمور الوسط.
ثم يعقب على
الأمر بالتوسط بأن الرازق هو الله. هو الذي يبسط في الرزق ويوسع ، وهو الذي يقدر
في الرزق ويضيق. ومعطي الرزق هو الآمر بالتوسط في الإنفاق :
(إِنَّ رَبَّكَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً).
يبسط الرزق لمن
يشاء عن خبرة وبصر ، ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر. ويأمر بالقصد والاعتدال ،
وينهى عن البخل والسرف ، وهو الخبير البصير بالأقوم في جميع الأحوال ؛ وقد أنزل
هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال.
* * *
وكان بعض أهل
الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق ؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان
المناسب من السياق. فما دام الرزق بيد الله ، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة
النسل أو نوع النسل ؛ إنما الأمر كله إلى الله. ومتى انتفت العلاقة بين الفقر
والنسل من تفكير الناس ، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك
الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة :
(وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ، إِنَّ
قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) ..
إن انحراف
العقيدة وفسادها ينشىء آثاره في حياة الجماعة الواقعية ، ولا يقتصر على فساد
الاعتقاد والطقوس التعبدية. وتصحيح العقيدة ينشىء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها ،
وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها. وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على
آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية. وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن
تتأثر بالعقيدة ، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة.
ثم نقف هنا
لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة.
ففي هذا الموضع
قدم رزق الأبناء على رزق الآباء : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ) وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ). وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين. فهذا النص : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) : والنص الآخر (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).
هنا قتل
الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد. وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر
الآباء فعلا. فقدم رزق الآباء. فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات
التعبيرية هنا وهناك.
ومن النهي عن
قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا :
(وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ..
وبين قتل
الأولاد والزنا صلة ومناسبة ـ وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد
والنهي عن قتل النفس ـ لذات الصلة وذات المناسبة.
إن في الزنا
قتلا من نواحي شتى. إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها. يتبعه
غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق ، قبل
مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة ، أو حياة
مهينة ، فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء .. وهو قتل في صورة أخرى.
قتل للجماعة التي يفشو فيها. فتضيع الأنساب وتختلط الدماء ، وتذهب الثقة في العرض
والولد ، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها ، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات.
وهو قتل
للجماعة من جانب آخر ، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية
نافلة لا ضرورة لها ، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها ، والأسرة هي المحضن الصالح
للفراخ الناشئة ، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه.
وما من أمة فشت
فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال ، منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث. وقد يغر
بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة
فيهما. ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفر نسا ظاهرة لا شك فيها.
أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة ، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة
هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في
بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عند ما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال
آثار السن ، كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده!
والقرآن يحذر
من مجرد مقاربة الزنا. وهي مبالغة في التحرز. لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة.
فالتحرز من المقاربة أضمن. فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان.
ومن ثم يأخذ
الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة ، توقيا للوقوع فيه .. يكره الاختلاط في غير
ضرورة. ويحرم الخلوة. وينهى عن التبرج بالزينة. ويحض على الزواج لمن استطاع ،
ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع. ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في
المهور. وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد. ويحض على مساعدة من يبتغون
الزواج ليحصنوا أنفسهم. ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع ، وعلى رمي
المحصنات الغافلات دون برهان ... إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج ، ليحفظ الجماعة
الإسلامية من التردي والانحلال.
* * *
ويختم النهي عن
قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق :
(وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً
فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ، إِنَّهُ
كانَ مَنْصُوراً) ..
والإسلام دين
الحياة ودين السلام ، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله ، فالله واهب الحياة
، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها. وكل نفس هي حرم
لا يمس ، وحرام إلا بالحق ، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه ،
وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى. وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «لا يحل دم امرى مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
فأما الأولى
فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص
ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء.
وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل ، بل
يمضوا في الثأر ، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء.
وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص ، فينطلق آمنا يعمل وينتج
فإذا الأمة كلها في حياة.
وأما الثانية
فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة ، وهي لون من القتل على النحو الذي
بيناه.
وأما الثالثة
فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة ، ويهدد أمنها ونظامها الذي
اختاره الله لها ، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة. والتارك لدينه المفارق للجماعة
إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه ، ودخل في جسم الجماعة المسلمة ، واطلع
على أسرارها ، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها. ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد
على الإسلام. بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه
مأمنه إن كان من المشركين. وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة.
(وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) .. (وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ
كانَ مَنْصُوراً) ..
تلك الأسباب
الثلاثة هي المبيحة للقتل ، فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب ، فقد جعل
الله لوليه ـ وهو أقرب عاصب إليه ـ سلطانا على القاتل ، إن شاء قتله وإن شاء عفا
على الدية ، وإن شاء عفا عنه بلا دية. فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل ، لأن
دمه له.
وفي مقابل هذا
السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي
منحه إياه. والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم ـ كما
يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب
إلا أنهم من أسرة القاتل ـ ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل ، والولي مسلط على
دمه بلا مثلة. فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها.
(فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) يقضي له الله ، ويؤيده الشرع ، وينصره الحاكم. فليكن عادلا
في قصاصه ، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه.
وفي تولية صاحب
الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية
للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي. الغليان الذي قد يجرفه
ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى. فأما حين يحس
أن الله قد ولاه على دم القاتل ، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته
تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ.
والإنسان إنسان
فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص. لذلك يعترف الإسلام
بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا. إنما
هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه ، ويأجر عليه. ولكن بعد أن يعطي الحق. فلولي
الدم أن يقتص أو يصفح. وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح
والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو
والجماح!
* * *
وبعد أن ينتهي
السياق من حرمة العرض وحرمة النفس ، يتحدث عن حرمة مال اليتيم ، وحرمة العهد.
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) ..
والإسلام يحفظ
على المسلم دمه وعرضه وماله ، لقول الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «كل المسلم على
المسلم حرام دمه وعرضه وماله» ولكنه يشدد في مال اليتيم ويبرز النهي عن مجرد قربه إلا
بالتي هي أحسن. ذلك أن اليتيم ضعيف عن تدبير ماله ، ضعيف عن الذود عنه ، والجماعة
الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله
وأن يدفع عنه.
ومما يلاحظ في
هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو
النهي فيها بصيغة المفرد ؛ أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أو النهي
فيها بصيغة الجمع ، ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ،
وعدم التبذير ، والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف ، وفي التثبت من الحق والنهي
عن الخيلاء والكبر .. كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية. وفي
النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس ، والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء
بالعهد ، وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة
جماعية.
ومن ثم جاء
النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع ، لتكون الجماعة كلها
مسؤولة عن اليتيم وماله ، فهذا عهد عليها بوصفها جماعة.
ولأن رعاية مال
اليتيم عهد على الجماعة ألحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقا. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ
كانَ مَسْؤُلاً) .. يسأل الله جل جلاله عن الوفاء به ، ويحاسب من ينكث
به وينقضه.
وقد أكد
الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد. لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة
في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة. وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في
القرآن والحديث ؛ سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس. عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد
الدولة. عهد الحاكم وعهد المحكوم. وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في
الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام .
* * *
ومن الوفاء
بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان :
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) ..
والمناسبة بين
الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ ، فالانتقال في
السياق ملحوظ التناسق.
وإيفاء الكيل
والاستقامة في الوزن ، أمانة في التعامل ، ونظافة في القلب ، يستقيم بهما التعامل
في الجماعة ، وتتوافر بهما الثقة في النفوس ، وتتم بهما البركة في الحياة. (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) .. خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة.
والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا
أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك».
والطمع في
الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة ،
ويتبعها الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة ، فيرتد هذا على الأفراد ؛ وهم
يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف.
__________________
وهو كسب ظاهري ووقتي ، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين.
وهذه حقيقة
أدركها بعيد والنظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي ، أو
الحافز الديني هو الباعث عليها ؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية.
والفارق بين من
يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقادا .. أن هذا يحقق أهداف ذاك
؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع
في تصور الحياة وتذوقها. وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض
في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ، ومجالاته الرحيبة.
* * *
والعقيدة
الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة. فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم
أو الشبهة :
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ .. كُلُّ
أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ...
وهذه الكلمات
القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية
حديثا جدا ، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ، ميزة الإسلام على المناهج
العقلية الجافة!
فالتثبت من كل
خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج
الإسلام الدقيق. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم
والخرافة في عالم العقيدة. ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء
والتعامل. ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب
والعلوم.
والأمانة
العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية
القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى ، ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره
وفؤاده ، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد ..
إنها أمانة
الجوارح والحواس والعقل والقلب. أمانة يسأل عنها صاحبها ، وتسأل عنها الجوارح
والحواس والعقل والقلب جميعا. أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق
اللسان بكلمة ، وكلما روى الإنسان رواية ، وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أو
حادثة.
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) .. ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين ، وما لم تتثبت من
صحته : من قول يقال ورواية تروى. من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل. ومن حكم شرعي أو
قضية اعتقادية.
وفي الحديث : «إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث». وفي سنن أبي داود : «بئس مطية الرجل : زعموا» وفي
الحديث الآخر : «إن أفرى الفري أن يري الرجل عينيه ما لم تريا» ..
وهكذا تتضافر
الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده
بالتحرج في أحكامه ، والتثبت في استقرائه ؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره
وتصوراته ، وفي مشاعره وأحكامه ، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية
، ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل
ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ) حقا وصدقا ..
* * *
وتختم هذه
الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحي د بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء
الكاذبة :
(وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ
طُولاً) ..
والإنسان حين
يخلوا قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء
أو سلطان ، أو قوة أو جمال. ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله ، وأنه ضعيف أمام
حول الله ، لطامن من كبريائه ، وخفف من خيلائه ، ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا
مرحا.
والقرآن يجبه
المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته : (إِنَّكَ لَنْ
تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل ، لا يبلغ شيئا من الأجسام
الضخمة التي خلقها الله. إنما هو قوي بقوة الله ، عزيز بعزة الله ، كريم بروحه
الذي نفخه الله فيه ، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه.
ذلك التطامن
والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء ، أدب مع الله ، وأدب مع
الناس. أدب نفسي وأدب اجتماعي. وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ
صغير القلب صغير الاهتمامات. يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته ، ويكرهه الناس
لانتفاشه وتعاليه.
وفي الحديث : «من
تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير. ومن استكبر وضعه الله ، فهو في
نفسه كبير وعند الناس حقير. حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير ».
* * *
وتنتهي تلك
الأوامر والنواهي والغالب فيها هو النهي عن ذميم الفعال والصفات بإعلان كراهية
الله للسيىء منها :
(كُلُّ ذلِكَ كانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً).
فيكون هذا
تلخيصا وتذكيرا بمرجع الأمر والنهي وهو كراهية الله للسيىء من تلك الأمور. ويسكت
عن الحسن المأمور به ، لأن النهي عن السيّء هو الغالب فيها كما ذكرنا.
ويختم الأوامر
والنواهي كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك. وبيان أنها
بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول :
(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).
وهو ختام يشبه
الابتداء. فتجيء محبوكة الطرفين ، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام
بناء الحياة ، قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه ..
(أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
وَلَقَدْ
صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)
سُبْحانَهُ
وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ
__________________
مِنْ
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ
كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
قُلْ
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ
عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما
أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى
بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)
(٥٧)
بدأ الدرس
الثاني وانتهى بتوحيد الله والنهي عن الشرك به ، وضم بين البداية والنهاية تكاليف
وأوامر ونواهي وآدابا مرتكزة كلها على قاعدة التوحيد الوطيدة .. ويبدأ هذا الدرس
وينتهي باستنكار فكرة الولد والشريك ، وبيان ما فيها من اضطراب وتهافت ، وتقرير
وحدة الاتجاه الكوني إلى الخالق الواحد : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ووحدة المصير والرجعة إلى الله في الآخرة ، ووحدة علم
الله الشامل بمن في السماوات ومن في الأرض ، ووحدة التصرف في شؤون الخلائق بلا
معقب : (إِنْ يَشَأْ
يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) ..
ومن خلال
السياق تتهافت عقائد الشرك وتتهاوى ، وتنفرد الذات الإلهية بالعبادة والاتجاه
والقدرة والتصرف والحكم في هذا الوجود ، ظاهره وخافيه ، دنياه وآخرته ؛ ويبدو
الوجود كله متجها إلى خالقه في تسبيحة مديدة شاملة تشترك فيها الأحياء والأشياء.
* * *
(أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً؟)
استفهام للاستنكار والتهكم. استنكار لما
يقولون من أن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن الولد والصاحبة كما تعالى عن
الشبيه والشريك. وتهكم على نسبة البنات لله وهم يعدون البنات أدنى من البنين
ويقتلون البنات خوف الفقر أو العار ؛ ومع هذا يجعلون الملائكة إناثا ، وينسبون
هؤلاء الإناث إلى الله! فإذا كان الله هو واهب البنين والبنات ، فهل أصفاهم
بالبنين المفضلين واتخذ لنفسه الإناث المفضولات؟!
وهذا كله على سبيل مجاراتهم في
ادعاءاتهم لبيان ما فيها من تفكك وتهافت. وإلا فالقضية كلها مستنكرة من الأساس :
(إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)
.. عظيما في شناعته وبشاعته ، عظيما في جرأته ووقاحته ، عظيما في ضخامة الافتراء
فيه ، عظيما في خروجه عن التصور والتصديق.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ، وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) ..
فقد جاء القرآن
بالتوحيد ، وسلك إلى تقرير هذه العقيدة وإيضاحها طرقا شتى ، وأساليب متنوعة ،
ووسائل متعددة (لِيَذَّكَّرُوا) فالتوحيد لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والرجوع إلى
الفطرة ومنطقها ، وإلى الآيات الكونية ودلالتها ؛ ولكنهم يزيدون نفورا كلما سمعوا
هذا القرآن. نفورا من العقيدة التي جاء بها ، ونفورا من القرآن ذاته خيفة أن
يغلبهم على عقائدهم الباطلة التي يستمسكون بها. عقائد الشرك والوهم والترهات.
وكما جاراهم في
ادعاءاتهم في حكاية البنات ونسبتها إلى الله ليكشف عما فيها من تفكك وتهافت ، فهو
يجاريهم في حكاية الآلهة المدعاة ، ليقرر أن هذه الآلهة لو وجدت فإنها ستحاول أن
تتقرب إلى الله ، وأن تجد لها وسيلة إليه وسبيلا :
(قُلْ : لَوْ كانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) ..
ولو ـ كما يقول
النحاة ـ حرف امتناع لامتناع ، فالقضية كلها ممتنعة ، وليس هنالك آلهة مع الله ـ كما
يقولون ـ والآلهة التي يدعونها إن هي إلا خلق من خلق الله سواء كانت نجما أو كوكبا
، إنسانا أو حيوانا ، نباتا أو جمادا. وهذه كلها تتجه إلى الخالق حسب ناموس الفطرة
الكونية ، وتخضع للإرادة التي تحكمها وتصرفها ؛ وتجد طريقها إلى الله عن طريق
خضوعها لناموسه وتلبيتها لإرادته :
(إِذاً لَابْتَغَوْا
إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) .. وذكر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتسامي على هذه
الخلائق التي يدعون أنها آلهة «مع» الله. وهي تحت عرشه وليست معه .. ويعقب على ذلك
بتنزيه الله في علاه :
(سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) ..
ثم يرسم السياق
للكون كله بما فيه ومن فيه مشهدا فريدا ، تحت عرش الله ، يتوجه كله إلى الله ،
يسبح له ويجد الوسيلة إليه:
(تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً غَفُوراً) ..
وهو تعبير تنبض
به كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتنفض روحا حية تسبح الله. فإذا الكون كله حركة
وحياة ، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية ، ترتفع في جلال إلى الخالق
الواحد الكبير المتعال.
وإنه لمشهد
كوني فريد ، حين يتصور القلب. كل حصاة وكل حجر. كل حبة وكل ورقة. كل زهرة وكل
ثمرة. كل نبتة وكل شجرة. كل حشرة وكل زاحفة. كل حيوان وكل إنسان. كل دابة
على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء .. ومعها سكان السماء .. كلها تسبح الله
وتتوجه إليه في علاه.
وإن الوجدان
ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه ، وكلما همت
يده أن تلمس شيئا ، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا .. سمعه يسبح لله ، وينبض بالحياة.
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) يسبح بطريقته ولغته (وَلكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين ، ولأنكم لم
تتسمعوا بقلوبكم ، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية ، وإلى النواميس التي
تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتتوجه بها إلى خالق النواميس ، ومدبر
هذا الكون الكبير.
وحين تشف الروح
وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح ، ويتوجه بالتسبيح ، فإنها تتهيأ
للاتصال بالملأ الأعلى ، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون ، الذين
تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود ، النابضة
في كل متحرك وساكن ، وفي كل شيء في هذا الوجود.
(إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً غَفُوراً) .. وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر
من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله ، بينما البشر في جحود وفيهم
من يشرك بالله ، ومن ينسب له البنات ، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه. والبشر أولى من
كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد. ولو لا حلم الله
وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).
* * *
ولقد كان كبراء
قريش يستمعون إلى القرآن ، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له ، ويمانعون فطرتهم أن
تتأثر به ؛ فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا ، حجابا خفيا ، وجعل على قلوبهم
كالأغفلة فلا تفقه القرآن ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه :
(وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً. وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ
وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ،
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى. إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ :
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ ، فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) ..
وقد روى ابن
إسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب ،
وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا
ليلة ليستمعوا من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يصلي بالليل في بيته ؛ فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا
يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا
جمعتهم الطريق تلاوموا ، فقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم
لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم
إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق. فقال
بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل
رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ؛
فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما
أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم
خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن
رأيك فيما سمعت من محمد. قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما
يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا ،
والذي حلفت به. قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ؛ فقال : يا
أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو
عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا
تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء.
فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! قال فقام عنه الأخنس وتركه ..
فهكذا كان
القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها ، وتجاذبهم إليه قلوبهم فيما نعونها ، فجعل
الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب ، فإذا هم لا
ينتفعون به ، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه. وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم
من القرآن ، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ؛ ثم يغلبهم التأثر به فيعودون ، ثم
يتناجون من جديد ، حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن
المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها
هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها :
(وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) ..
نفورا من كلمة
التوحيد ، التي تهدد وضعهم الاجتماعي ، القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية
، وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت ، وما في
الإسلام من تماسك ، وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سموا وارتفاع
وامتياز. وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به ، على
شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها!
ولقد كانت
الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ؛ والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ؛
فيطلقون التهم على الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعتذرون بها عن المكابرة والعناد :
(إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) ..
وهذه الكلمة
ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ؛ فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا
قول بشر ؛ لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري. ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون
قائله إلى السحر ، يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله ، وهذا التميز في حديثه ، وهذا
التفوق في نظمه. فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه ، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة
البشر! ولو أنصفوا لقالوا : إنه من عند الله ، فما يمكن أن يقول هذا إنسان ، ولا
خلق آخر من خلق الله.
(انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) ..
ضربوا لك
الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور ، إنما أنت رسول ، فضلوا ولم يهتدوا ، وحاروا فلم
يجدوا طريقا يسلكونه. لا إلى الهدى ، ولا إلى تعليل موقفهم المريب!
* * *
ذلك قولهم عن
القرآن ، وعن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يتلو عليهم القرآن. كذلك كذبوا بالبعث ، وكفروا بالآخرة :
(وَقالُوا : أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟ قُلْ :
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.
فَسَيَقُولُونَ : مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ : الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ : مَتى هُوَ؟ قُلْ : عَسى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً ، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ..
وقد كانت قضية
البعث مثار جدل طويل بين الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والمشركين ، واشتمل القرآن الكريم على الكثير من هذا الجدل. مع بساطة هذه
القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت ، وطبيعة البعث والحشر. ولقد
عرضها القرآن الكريم في هذا الضوء مرات. ولكن القوم لم يكونوا يتصورونها بهذا
الوضوح وبتلك البساطة ؛ فكان يصعب عليهم تصور البعث بعد البلى والفناء المسلط على
الأجسام :
(وَقالُوا : أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)؟
ذلك أنهم لم
يكونوا يتدبرون أنهم لم يكونوا أحياء أصلا ثم كانوا ، وأن النشأة الآخرة ليست أعسر
من النشأة الأولى. وأنه لا شيء أما القدرة الإلهية أعسر من شيء ، وأداة الخلق
واحدة في كل شيء : (كُنْ فَيَكُونُ) فيستوي إذن أن يكون الشيء سهلا وأن يكون صعبا في نظر
الناس ، متى توجهت الإرادة الإلهية إليه.
وكان الرد على
ذلك التعجب :
(قُلْ : كُونُوا
حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ..
والعظام
والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة ؛ والحديد والحجارة أبعد عن الحياة.
فيقال لهم : كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر أو غل في البعد عن الحياة من
الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة. فسيبعثكم
الله.
وهم لا يملكون
أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي. وفيه كذلك ظل التوبيخ
والتقريع ، فالحجارة والحديد جماد لا يحس ولا يتأثر ، وفي هذا إيماء من بعيد إلى
ما في تصورهم من جمود وتحجر!
(فَسَيَقُولُونَ :
مَنْ يُعِيدُنا)؟
من يردنا إلى
الحياة إن كنا رفاتا وعظاما ، أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود؟ (قُلِ : الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ) ...
وهو رد يرجع
المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح. فالذي أنشأهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء.
ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون :
(فَسَيُنْغِضُونَ
إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) ينغضونها علوا أو سفلا ، استنكارا واستهزاء :
(وَيَقُولُونَ : مَتى
هُوَ؟) : استبعادا لهذا الحادث واستنكارا.
(قُلْ : عَسى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً) ..
فالرسول لا
يعلم موعده تحديدا. ولكن لعله أقرب مما يظنون. وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في
غفلتهم يكذبون ويستهزئون! ثم يرسم مشهدا سريعا لذلك اليوم :
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ..
وهو مشهد يصور
أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له ، وقد قاموا يلبون دعوة الداعي ، وألسنتهم تلهج
بحمد
الله. ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب!
وهو جواب عجيب
ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله ، فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا :
الحمد لله. الحمد لله!
ويومئذ تنطوي
الحياة الدنيا كما ينطوي الظل : (وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً).
وتصوير الشعور
بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين ، فإذا هي قصيرة قصيرة ،
لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس ، إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول
، ومتاع قليل.
* * *
ثم يلتفت
السياق عن هؤلاء المكذبين بالبعث والنشور ، المستهزئين بوعد الله وقول الرسول ،
المنغضين رؤوسهم المتهكمين المتهجمين .. يلتفت عنهم إلى عباد الله المؤمنين
ليوجههم الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى :
(وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ، إِنَّ
الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً).
(وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على وجه الإطلاق وفي كل مجال. فيختاروا أحسن ما يقال
ليقولوه .. بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة. فالشيطان ينزغ بين
الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت ، وبالرد السيّء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق
مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء. والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب ، تندّي
جفافها ، وتجمعها على الود الكريم.
(إِنَّ الشَّيْطانَ
كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) ..
يتلمس سقطات
فمه وعثرات لسانه ، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه. والكلمة الطيبة
تسد عليه الثغرات ، وتقطع عليه الطريق ، وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته.
* * *
وبعد هذه
اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده ، فإذا المصير كله
بيد الله وحده ، إن شاء رحم ، وإن شاء عذب ، وهم متروكون لقضاء الله ، وما الرسول
عليهم بوكيل ، إن هو إلا رسول :
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ، وَما
أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ..
فالعلم المطلق
لله. وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم. وعند البلاغ تنتهي وظيفة
الرسول.
وعلم الله
الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن ، وكائنات لا يعلم إلا
الله ما هي؟ وما قدرها؟ وما درجتها.
وبهذا العلم
المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض :
(وَلَقَدْ فَضَّلْنا
بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ). وهو تفضيل يعلم الله أسبابه. أما مظاهر هذا التفضيل
فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ) .. فيراجع في موضعه هناك :
(وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) .. وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه ، ومن مظاهر
التفضيل أيضا. إذ كانت
الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من
الزمان.
* * *
وينتهي هذا
الدرس الذي بدأ بنفي فكرة الأبناء والشركاء ، واستطرد إلى تفرد الله سبحانه
بالاتجاه إليه ، وتفرده بالعلم والتصرف في مصائر العباد .. ينتهي بتحدي الذين
يزعمون الشركاء ، أن يدعوا الآلهة المدعاة إلى كشف الضر عنهم لو شاء الله أن
يعذبهم ، أو تحويل العذاب إلى سواهم :
(قُلِ : ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً) .. فليس أحد بقادر على أن يكشف الضر أو يحوله إلا الله
وحده ، المتصرف في أقدار عباده.
ويقرر لهم أن
من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس .. إن هم إلا خلق من خلق الله ،
يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه ، ويخافون عذابه الذي يحذره
من يعلم حقيقته ويخشاه :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ،
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ
مَحْذُوراً) ..
وقد كان بعضهم
يدعو عزيرا ابن الله ويعبده ، وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده. وبعضهم يدعو
الملائكة بنات الله ويعبدهم ، وبعضهم يدعو غير هؤلاء .. فالله يقول لهم جميعا : إن
هؤلاء الذين تدعونهم ، أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة ، ويتقرب إليه بالعبادة
، ويرجو رحمته ، ويخشى عذابه ـ وعذاب الله شديد يحذر ويخاف ـ فما أجدركم أن
تتوجهوا إلى الله ، كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله ، يبتغون
رضاه.
وهكذا يبدأ
الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها. وتفرد الله سبحانه بالألوهية
والعبادة والاتجاه.
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً
شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ
تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ
إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ
هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢)
قالَ
اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً
(٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشارِكْهُمْ
فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ
غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ
أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ
الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً
(٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)
(٧٢)
انتهى الدرس
السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد ، إن شاء رحمهم وإن شاء
عذبهم ؛ وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى
سواهم.
فالآن يستطرد
السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعا ـ كما قدره الله في علمه وقضائه ـ وهو
انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة ، أو وقوع العذاب ببعضها
إن ارتكبت ما يستحق العذاب. فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين :
الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب.
وبمناسبة ذكر
العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي
الرسل ـ قبل رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ـ هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة ، لأن الأولين الذين جاءتهم
كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك. والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم
يرسله بالخوارق المادية ، وما كانت الخوارق إلا تخويفا للأمم الخالية مما يحل بها
من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها.
وقد كف الله
الناس عن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعصمه منهم فلا يصلون إليه. وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون
ابتلاء للناس ، ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل ، وخوفهم الشجرة
الملعونة في القرآن ـ شجرة الزقوم ـ التي رآها في أصل الجحيم ، فلم يزدهم التخويف
إلا طغيانا. وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغيانا.
وفي هذا الموضع
من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم ، وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من
عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه .. فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي
تقود الناس إلى الكفر والطغيان ، وتبعدهم عن تدبر الآيات.
ويلمس السياق
في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم ، ومقابلتهم هذا الفضل
بالبطر والجحود ، فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة. فإذا مسهم الضر في البحر
لجأوا إليه. فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا. والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي
البحر سواء! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه ، ولكنهم لا يشكرون ولا
يذكرون.
ويختم هذا
الدرس بمشهد من مشاهد القيامة ؛ يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم ، فلا مجال
للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه.
* * *
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً
شَدِيداً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ..
فقد قدر الله
أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة ، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك
اليوم الموعود. كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب. ذلك ما ركز في
علم الله. والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن. فالذي كان والذي سيكون كله
بالقياس إلى علم الله سواء.
وقد كانت
الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك
بالعذاب. ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ؛ أما الجاحدون
فقد كذبوا بها في زمانهم. ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق :
(وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا
تَخْوِيفاً).
إن معجزة
الإسلام هي القرآن. وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة. ويخاطب الفكر والقلب ،
ويلبي الفطرة القويمة. ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم
القيامة. أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس ، وتقتصر على من
يشاهدها من هذا الجيل.
على أن كثرة من
كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها. وقد ضرب السياق المثل بثمود ، الذين جاءتهم
الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة. فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة
تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة. وما كانت الآيات إلا إنذارا
وتخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات.
هذه التجارب
البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق. لأنها رسالة الأجيال
المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها. ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك
الإنسان جيلا بعد جيل ، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه
الله على كثير من خلقه.
أما الخوارق
التي وقعت للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة. إنما جعلت
فتنة للناس وابتلاء.
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ :
إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ
إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً).
ولقد ارتد بعض
من كان آمن بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد حادثة الإسراء ، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا. ومن ثم كانت الرؤيا
التي أراها الله لعبده في تلك الليلة (فِتْنَةً لِلنَّاسِ) وابتلاء لإيمانهم. أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا
من الله لرسوله بالنصر ، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه.
ولقد أخبرهم
بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة. ومنه شجرة الزقوم
التي يخوف الله بها المكذبين. فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما : هاتوا لنا
تمرا وزبدا ، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا!
فماذا كانت
الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله
ومعجزة المرسلين؟ وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا
طغيانا كبيرا؟
إن الله لم
يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده. ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة. فقد اقتضت إرادته أن
يهلك المكذبين بالخوارق. أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود
وصالح ولوط وشعيب .. ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين.
ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين. وظل القرآن ـ معجزة الإسلام ـ كتابا مفتوحا لجيل
محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وللأجيال بعده ، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته. إنما قرأ
القرآن أو صاحب من قرأه. وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال ، يهتدي به من هم بعد
في ضمير الغيب ، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا ، وأنفع للإسلام من
كثير سبقوه ..
* * *
وفي ظل الرؤيا
التي رآها الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واطلع فيها على ما اطلع من عوالم ، والشجرة الملعونة التي يطعم منها
أتباع الشياطين .. يجيء مشهد إبليس الملعون ، يهدد ويتوعد بإغواء الضالين :
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ. قالَ : أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟ قالَ : أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا
قَلِيلاً. قالَ : اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ
جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ،
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ
عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) ..
إن السياق يكشف
عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين ، فيعرض هذا المشهد هنا ، ليحذر الناس وهم
يطلعون على أسباب الغواية ، ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها ، عن إصرار
سابق قديم!
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ : أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟) إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله
في هذا الطين!
ويعرض إبليس
بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية ، فيقول في تبجح :
(أَرَأَيْتَكَ هذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟) أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك؟
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) .. فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في
قبضة يدي أصرف أمرهم.
ويغفل إبليس عن
استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية. عن حالته التي يكون فيها
متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية ، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا
المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه
بلا إرادة. فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب.
وتشاء إرادة
الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام ، يحاول محاولته مع بني الإنسان :
(قالَ : اذْهَبْ
فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) ..
اذهب فحاول
محاولتك. اذهب مأذونا في إغوائهم. فهم مزودون بالعقل والإرادة ، يملكون أن يتبعوك
أو يعرضوا عنك (فَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ) مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية ، معرضا
عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان ، غافلا عن آيات الله في الكون ، وآيات الله
المصاحبة للرسالات ، (فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزاؤُكُمْ) أنت وتابعوك (جَزاءً مَوْفُوراً).
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).
وهو تجسيم
لوسائل الغواية والإحاطة ، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول. فهي المعركة
الصاخبة ، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات. يرسل
فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ، أو يستدرجهم للفخ المنصوب
والمكيدة المدبرة. فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل ، وأحاطت بهم الرجال!
(وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ..
وهذه الشركة
تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية ، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة
المدعاة ـ فهي للشيطان ـ وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها ـ فهي للشيطان ـ كعبد
اللات وعبد مناة. وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث!
كما تتمثل في
كل مال يجبى من حرام ، أو يتصرف فيه بغير حق ، أو ينفق في إثم. وفي كل ولد يجيء من
حرام. ففيه شركة للشيطان.
والتعبير يصور
في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة!
وإبليس مأذون
في أن يستخدم وسائله كلها ، ومنها الوعود المغرية الخادعة : (وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ
إِلَّا غُرُوراً) كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من
الأسباب الحرام. والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة ...
ولعل أشد
الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ؛ وهي الثغرة التي يدخل
منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية
والمكابرة. فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح
لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة!
اذهب مأذونا في
إغواء من يجنحون إليك. ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم ، لأنهم مزودون بحصانة
تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك!
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) ..
فمتى اتصل
القلب بالله ، واتجه إليه بالعبادة. متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت .. فلا سلطان حينئذ للشيطان على
ذلك القلب الموصول بالله ، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان .. (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان.
وانطلق الشيطان
ينفذ وعيده ، ويستذل عبيده ، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن ، فما له عليهم من
سلطان.
* * *
ذلك ما يبيته
الشيطان للناس من شر وأذى ؛ ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان ، ويستمعون
إليه ،
ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته. والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر
لهم المعاش ، وينجيهم من الضر والكرب ، ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق .. ثم
إذا هم يعرضون ويكفرون :
(رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ
كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ
تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ،
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) ..
والسياق يعرض
هذا المشهد ، مشهد الفلك في البحر ، نموذجا للحظات الشدة والحرج. لأن الشعور بيد
الله في الخضم أقوى وأشد حساسية ، ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم ،
تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبئون بهذه النقطة على كف الرحمن.
إنه مشهد يحس
به من كابده ، ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك
صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة
في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار!
والتعبير يلمس القلوب
لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من
فضله (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ
رَحِيماً) فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان.
ثم ينتقل بهم
من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي. حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج
كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله ، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون
أحدا سواه : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ
إِلَّا إِيَّاهُ) ..
ولكن الإنسان
هو الإنسان ، فما إن تنجلي الغمرة ، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة
الشدة ، فينسى الله ، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات ، وتغطي على فطرته التي
جلاها الخطر : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار.
وهنا يستجيش
السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو
وهم يعودون إليه في البحر ، ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله
وحماه ، لا في البحر ولا في البر ؛ لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في
الملجأ الحصين والمنزل المريح :
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً؟ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى
، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ،
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً؟).
إن البشر في
قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة. إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في
البحر. فكيف يأمنون؟ كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بر كان ، أو
بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله؟ أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم
بالحمم والماء والطين والأحجار ، فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا
يحميهم ويدفع عنهم؟
أم كيف يأمنون
أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة ، تقصف الصواري وتحطم السفين ،
فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم ، فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم؟
ألا إنها الغفلة
أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا. ثم يأمنوا أخذه وكيده. وهم يتوجهون إليه وحده في
الشدة ثم ينسونه بعد النجاة. كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله!
* * *
ذلك وقد كرم
الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة ، بهذه
الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة ، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!
وكرمه
بالاستعدادات التي أودعها فطرته ؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض ، يغير فيها
ويبدل ، وينتج فيها وينشىء ، ويركب فيها ويحلل ، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير
القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك ..
وكرمه بذلك
الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود ، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة
ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!
وكرمه بإعلان
هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض .. القرآن ..
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ..
(وَحَمَلْناهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها
موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات ، ولو لم تكن هذه
النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية ، وهي ضعيفة ضئيلة
بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر. ولكن الإنسان مزود بالقدرة على
الحياة فيها ، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل
الله.
(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) .. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة
فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما
يستمتع به ، ولكنه سرعان ما يعود فينسى .. هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه
الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل .. هذه المطاعم والمشارب
والمشاهد ... هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه ، وفيه من الطيبات ما لا
يحصيه.
(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) .. فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض.
وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك
الله ...
* * *
ومن التكريم أن
يكون الإنسان قيما على نفسه ، محتملا تبعة اتجاهه وعمله. فهذه هي الصفة الأولى
التي بها كان الإنسان إنسانا. حرية الاتجاه وفردية التبعة. وبها استخلف في دار
العمل. فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب :
(يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ
كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ..
وهو مشهد يصور
الخلائق محشورة. وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته ، أو الرسول
الذي اقتدت به ، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا. تنادي ليسلم لها كتاب
عملها وجزائها في الدار الآخرة .. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه
ويتملاه ، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة! ومن عمي
في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير. وأشد ضلالا. وجزاؤه
معروف. ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل ، أعمى ضالا يتخبط ، لا يجد من
يهديه ولا ما يهتدي به ، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا ، لأن مشهد العمى
والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ؛ يؤثر في القلوب!
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ
وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)
إِذاً
لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا
نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ
الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ
يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا
وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ
كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً
رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي
الْأَرْضِ
مَلائِكَةٌ
يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً
(٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
وَمَنْ
يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ
مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً
وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ
كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ
الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ
لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ
عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣)
وَقُلْنا
مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
(١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ
أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧)
وَيَقُولُونَ
سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)
وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)
(١١١)
هذا الدرس
الأخير في سورة الإسراء يقوم على المحور الرئيسي للسورة. شخص الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وموقف القوم منه. والقرآن الذي جاء به وخصائص هذا القرآن.
وهو يبدأ
بالإشارة إلى محاولات المشركين مع الرسول ليفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه ، وما
هموا به من إخراجه من مكة وعصمة الله له من فتنتهم ومن استفزازهم ، لما سبق في
علمه تعالى من إمهالهم وعدم أخذهم بعذاب الإبادة كالأمم قبلهم. ولو أخرجوا الرسول
لحاق بهم الهلاك وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من الأقوام.
ومن ثم يؤمر
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يمضي في طريقه يصلي لربه ويقرأ قرآنه ويدعو الله أن يدخله مدخل صدق
ويخرجه مخرج صدق ويجعل له سلطانا نصيرا ، ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل. فهذا
الاتصال بالله هو سلاحه الذي يعصمه من الفتنة ويكفل له النصر والسلطان.
ثم بيان لوظيفة
القرآن فهو شفاء ورحمة لمن يؤمنون به ، وهو عذاب ونقمة على من يكذبون. فهم في عذاب
منه في الدنيا ويلقون العذاب بسببه في الآخرة.
وبمناسبة
الرحمة والعذاب يذكر السياق شيئا من صفة الإنسان في حالتي الرحمة والعذاب. فهو في
النعمة متبطر معرض ، وهو في النقمة يؤوس قنوط. ويعقب على هذا بتهديد خفي بترك كل
إنسان يعمل وفق طبيعته حتى يلقى في الآخرة جزاءه.
كذلك يقرر أن
علم الإنسان قليل ضئيل. وذلك بمناسبة سؤالهم عن الروح. والروح غيب من غيب الله ،
ليس في مقدور البشر إدراكه .. والعلم المستيقن هو ما أنزله الله على رسوله. وهو من
فضله عليه ولو شاء الله لذهب بهذا الفضل دون معقب ، ولكنها رحمة الله وفضله على
رسوله.
ثم يذكر أن هذا
القرآن المعجز الذي لا يستطيع الإنسان والجن أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا وتظاهروا
، والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وكل قلب .. هذا القرآن لم
يغن كفار قريش. فراحوا يطلبون إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خوارق مادية ساذجة كتفجير الينابيع في الأرض ، أو أن يكون له بيت من زخرف
؛ كما تعنتوا فطلبوا ما ليس من خصائص البشر كأن يرقى الرسول في السماء أمامهم
ويأتي إليهم بكتاب مادي يقرأونه ، أو يرسل عليهم قطعا من السماء تهلكهم. وزادوا
عنتا وكفرا فطلبوا أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا!
وهنا يعرض
السياق مشهدا من مشاهد القيامة يصور فيه عاقبتهم التي تنتظرهم جزاء هذا العنت ،
وجزاء تكذيبهم بالآخرة ، واستنكارهم البعث وقد صاروا عظاما ورفاتا.
ويسخر من
اقتراحاتهم المتعنتة ، وهم لو كانوا خزنة رحمة الله ، لأدركهم الشح البشري فأمسكوا
خشية نفاد الخزائن التي لا تنفد! وهم مع ذلك لا يقفون عند حد فيما يطلبون ويقترحون!
وبمناسبة طلبهم
الخوارق يذكرهم بالخوارق التي جاء بها موسى فكذب بها فرعون وقومه فأهلكهم الله حسب
سنته في إهلاك المكذبين.
فأما هذا
القرآن فهو المعجزة الباقية الحقة. وقد جاء متفرقا حسب حاجة الأمة التي جاء
لتربيتها وإعدادها. والذين أوتوا العلم من قبله من مؤمني الأمم السابقة يدركون ما
فيه من حق ويذعنون له ويخشعون ، ويؤمنون به ويسلمون.
وتنتهي السورة
بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى عبادة الله وحده ، وإلى تسبيحه وحمده ، كما بدأت بالتسبيح والتنزيه
..
* * *
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا
غَيْرَهُ. وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ
الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً. وَإِنْ
كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا
وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) ..
يعدد السياق
محاولات المشركين مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق
الأمين.
لقد حاولوا هذه
المحاولة في صور شتى .. منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد
بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم. ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت
العتيق الذي حرمه الله. ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء
..
والنص يشير إلى
هذه المحاولات ولا يفصلها ، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق ،
وعصمته من الفتنة ، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا.
وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات ،
دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات
التي عصم الله منها رسوله ، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما. محاولة
إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلا ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها. ويرضوا بالحلول الوسط
التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته
لأنه يرى الأمر هينا ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية ، إنما
هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على
حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو
بالتنازل عن جانب منها!
ولكن الانحراف
الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة
الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل ، لا يملك
أن يقف عند ما سلم به أول مرة. لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى
الوراء!
والمسألة مسألة
إيمان بالدعوة كلها. فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها
مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في
نظر المؤمن هو حق كالآخر. وليس فيها فاضل ومفضول. وليس فيها ضروري ونافلة. وليس
فيها ما يمكن الاستغناء عنه ، وهي كلّ متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد
أجزائه. كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره! وأصحاب السلطان يستدرجون
أصحاب الدعوات. فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم ، وعرف المتسلطون أن
استمرار المساومة ، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها!
والتسليم في
جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ؛ هو هزيمة روحية
بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة. والله وحده هو الذي يعتمد عيه
المؤمنون بدعوتهم. ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة ، فلن تنقلب الهزيمة نصرا!
لذلك امتن الله
على رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ثبته على ما أوحى الله ، وعصمه من فتنة المشركين له ، ووقاه الركون
إليهم ـ ولو قليلا ـ ورحمه من عاقبة هذا الركون ، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا
، وفقدان المعين والنصير.
وعند ما عجز
المشركون عن استدراج الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض ـ أي مكة ـ ولكن الله أوحى إليه
أن يخرج هو مهاجرا ، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة. ولو أخرجوا
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وَإِذاً لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) فهذه هي سنة الله النافذة : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ
مِنْ رُسُلِنا ، وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).
ولقد جعل الله
هذه سنة جارية لا تتحول ، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم. وهذا الكون
تصرفه سنن مطردة ، لا تتحول أمام اعتبار فردي. وليست المصادفات العابرة هي السائدة
في هذا الكون ، إنما هي السنن المطردة الثابتة. فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا
بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل ، لحكمة علوية ، لم يرسل الرسول بالخوارق ،
ولم يقدر أن يخرجوه عنوة ، بل أوحى إليه بالهجرة. ومضت سنة الله في طريقها لا
تتحول ..
* * *
بعد ذلك يوجه
الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى الاتصال به ، واستمداد العون منه ، والمضي في طريقه ، يعلن انتصار
الحق وزهوق الباطل :
(أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ؛ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ،
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي
مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
سُلْطاناً نَصِيراً. وَقُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ
كانَ زَهُوقاً. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ..
ودلوك الشمس هو
ميلها إلى المغيب. والأمر هنا للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خاصة. أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ وتواترت بها سنته العملية. وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد
السماء ، والغسق بأول الليل ، وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر ، وأخذ من هذا أوقات
الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ـ من دلوك الشمس إلى الغسق ـ ثم
الفجر. وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به ، وأنه نافلة
له. ونحن نميل إلى الرأي الأول. وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية.
(أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) .. أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل
وظلامه ؛ واقرأ قرآن الفجر (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) .. ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال
الليل. وإدبار الليل وإقبال النهار. ولهما وقعهما العميق في النفس ، فإن مقدم
الليل وزحف الظلام ، كمطلع النور وانكشاف الظلمة .. كلاهما يخشع فيه القلب ،
وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة.
وللقرآن ـ كما للصلاة ـ إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته ، ونسماته الرخية ،
وهدوئه السارب ، وتفتحه بالنور ، ونبضه بالحركة ، وتنفسه بالحياة.
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) .. والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل. والضمير في (بِهِ) عائد على القرآن ، لأنه روح الصلاة وقوامها.
(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) .. بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به ، وبهذه الصلة
الدائمة بالله. فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به ، وهو المصطفى المختار ، فما أحوج الآخرين إلى هذه
الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم. فهذا هو الطريق. وهذا هو زاد
الطريق.
(وَقُلْ : رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ. وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً).
وهو دعاء يعلمه
الله لنبيه ليدعوه به. ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه. دعاء بصدق
المدخل وصدق المخرج ، كناية عن صدق الرحلة كلها. بدئها وختامها. أولها وآخرها وما
بين الأول والآخر. وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل
الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله : ظلال الثبات والاطمئنان
والنظافة والإخلاص. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين
وكلمة (مِنْ لَدُنْكَ) تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة
واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدعوة
لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله. ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله. لا يمكن
أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله.
والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه ، فيصبحون لها جندا وخدما فيفلحون ،
ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه ، فهي من أمر الله ، وهي أعلى من
ذوي السلطان والجاه.
(وَقُلْ : جاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ..
بهذا السلطان
المستمد من الله ، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته ، وزهوق الباطل واندحاره
وجلاءه. فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت ، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق ..
(إِنَّ الْباطِلَ كانَ
زَهُوقاً) .. حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد. وإن بدا للنظرة
الأولى أن للباطل صولة ودولة. فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش ، لأنه باطل لا يطمئن
إلى حقيقة ؛ ومن ثم يحاول أن يموه على العين ، وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا ،
ولكنه هش سريع العطب ، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل
إلى رماد ؛ بينما الجمرة الذاكية تدفىء وتنفع وتبقى ؛ وكالزبد يطفو على الماء
ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
(إِنَّ الْباطِلَ كانَ
زَهُوقاً) .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته ، إنما يستمد
حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل ،
ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار. فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده. وقد تقف
ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان .. ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له
العقبى ويكفل له البقاء ، لأنه من عند الله الذي جعل (الْحَقُّ) من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.
(إِنَّ الْباطِلَ كانَ
زَهُوقاً) .. ومن ورائه الشيطان ، ومن ورائه السلطان. ولكن وعد
الله أصدق ، وسلطان
__________________
الله أقوى. وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان ، إلا وذاق معه حلاوة الوعد ، وصدق
العهد. ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثا؟
* * *
(وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
وفي القرآن
شفاء ، وفي القرآن رحمة ، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت وتفتحت لتلقي
ما في القرآن من روح ، وطمأنينة وأمان.
في القرآن شفاء
من الوسوسة والقلق والحيرة. فهو يصل القلب بالله ، فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية
والأمن ؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة ؛ والقلق مرض ، والحيرة
نصب ، والوسوسة داء. ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.
وفي القرآن
شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان .. وهي من آفات القلب تصيبه
بالمرض والضعف والتعب ، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار. ومن ثم هو رحمة
للمؤمنين.
وفي القرآن
شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير. فهو يعصم العقل من الشطط ، ويطلق
له الحرية في مجالاته المثمرة ، ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي ، ويأخذه بمنهج
سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجا ومأمونا. ويعصمه من الشطط والزلل. وكذلك هو في عالم
الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليما معافى ويدخر طاقاته
للإنتاج المثمر. ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.
وفي القرآن
شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات ، وتذهب بسلامتها وأمنها
وطمأنينتها. فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن
وطمأنينة. ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.
(وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ..
فهم لا ينتفعون
بما فيه من شفاء ورحمة. وهم في غيظ وقهر من استعلاء المؤمنين به ، وهم في عنادهم
وكبريائهم يشتطون في الظلم والفساد ، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن ،
فهم خاسرون. وفي الآخرة معذبون بكفرهم به ولجاجهم في الطغيان ، فهم خاسرون : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا
خَساراً) ..
* * *
فأما حين يترك
الإنسان بلا شفاء ولا رحمة. حين يترك لنزعاته واندفاعاته فهو في حال النعمة متبطر
معرض لا يشكر ولا يذكر ، وهو في حال الشدة يائس من رحمة الله ، تظلم في وجهه فجاج
الحياة :
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ
يَؤُساً) ..
والنعمة تطغى
وتبطر ما لم يذكر الإنسان واهبها فيحمد ويشكر ، والشدة تيئس وتقنط ما لم يتصل
الإنسان بالله ، فيرجو ويأمل ، ويطمئن إلى رحمة الله وفضله ، فيتفاءل ويستبشر.
ومن هنا تتجلى
قيمة الإيمان وما فيه من رحمة في السراء والضراء سواء.
ثم يقرر السياق
أن كل فرد وكل فريق يعمل وفق طريقته واتجاهه ؛ والحكم على الاتجاهات والأعمال
موكول لله :
(قُلْ : كُلٌّ
يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) ..
وفي هذا
التقرير تهديد خفي ، بعاقبة العمل والاتجاه ، ليأخذ كل حذره ، ويحاول أن يسلك سبيل
الهدى ويجد طريقه إلى الله.
* * *
وراح بعضهم
يسأل الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن الروح ما هو؟ والمنهج الذي سار عليه القرآن ـ وهو المنهج الأقوم ـ أن
يجيب الناس عما هم في حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته ؛ فلا
يبدد الطاقة العقلية التي وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفي غير مجالها
الذي تملك وسائله وتحيط به. فلما سألوه عن الروح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من
أمر الله ، اختص بعلمه دون سواه :
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ. قُلِ : الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلَّا قَلِيلاً) ..
وليس في هذا
حجر على العقل البشري أن يعمل. ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي
مجاله الذي يدركه. فلا جدوى من الخبط في التيه ، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك
العقل إدراكه لأنه لا يملك وسائل إدراكه. والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه ،
وسر من أسراره القدسية أودعه هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم
حقيقتها. وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق ، وأسرار هذا الوجود
أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود. والإنسان لا يدبر هذا الكون فطاقاته
ليست شاملة ، إنما وهب منها بقدر محيطه وبقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض ،
ويحقق فيها ما شاء الله أن يحققه ، في حدود علمه القليل.
ولقد أبدع
الإنسان في هذه الأرض ما أبدع ؛ ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف ـ الروح ـ لا
يدري ما هو ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يذهب ، ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما
يخبر به العليم الخبير في التنزيل.
وما جاء في
التنزيل هو العلم المستيقن ، لأنه من العليم الخبير. ولو شاء الله لحرم البشرية
منه ، وذهب بما أوحى إلى رسوله ، ولكنها رحمة الله وفضله.
(وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ
عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، إِنَّ فَضْلَهُ ، كانَ
عَلَيْكَ كَبِيراً) ..
والله يمتن على
رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بهذا الفضل. فضل إنزال الوحي ، واستبقاء ما أوحى به إليه ؛ المنة على
الناس أكبر ، فهم بهذا القرآن في رحمة وهداية ونعمة ، أجيالا بعد أجيال.
* * *
وكما أن الروح
من الأسرار التي اختص الله بها فالقرآن من صنع الله الذي لا يملك الخلق محاكاته ،
ولا يملك الإنس والجن ـ وهما يمثلان الخلق الظاهر والخفي ـ أن يأتوا بمثله ، ولو
تظاهروا وتعاونوا في هذه المحاولة :
(قُلْ : لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ..
فهذا القرآن
ليس ألفاظا وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها. إنما هو كسائر ما يبدعه الله
يعجز
__________________
المخلوقون أن يصنعوه. هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل
الكامل ، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره.
والقرآن بعد
ذلك منهج حياة كامل. منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرف النفس البشرية في كل
أطوارها وأحوالها ، والتي تصرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها. ومن ثم
فهو يعالج النفس المفردة ، ويعالج الجماعة المتشابكة ، بالقوانين الملائمة للفطرة
المتغلغلة في وشائجها ودروبها ومنحنياتها الكثيرة. يعالجها علاجا متكاملا متناسق
الخطوات في كل جانب ، في الوقت الواحد ، فلا يغيب عن حسابه احتمال من الاحتمالات
الكثيرة ولا ملابسة من الملابسات المتعارضة في حياة الفرد وحياة الجماعة. لأن مشرع
هذه القوانين هو العليم بالفطرة في كل أحوالها وملابساتها المتشابكة.
أما النظم
البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان وملابسات حياته. ومن ثم فهي تقصر عن الإحاطة
بجميع الاحتمالات في الوقت الواحد ؛ وقد تعالج ظاهرة فردية أو اجتماعية بدواء يؤدي
بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد!
إن إعجاز
القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه ، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو
عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا
كُفُوراً. وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعاً ؛ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ
الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ؛ أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ ـ كَما زَعَمْتَ ـ عَلَيْنا
كِسَفاً ؛ أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ؛ أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ؛ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ
حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ...).
وهكذا قصر
إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية ، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية
، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية ، أو يتبجحون في حق الذات
الإلهية بلا أدب ولا تحرج .. لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض
حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر ، وشتى الأجيال والأطوار. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا
كُفُوراً) وعلقوا إيمانهم بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا! أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر
الأنهار خلالها تفجيرا! أو أن يأخذهم بعذاب من السماء ، فيسقطها عليهم قطعا كما
أنذرهم أن يكون ذلك يوم القيامة! أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلا يناصره ويدفع
عنه كما يفعلون هم في قبائلهم! أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة. أو أن يرقى
في السماء. ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه ، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه
كتاب محبر يقرأونه! وتبدو طفولة الإدراك والتصور ، كما يبدو التعنت في هذه
المقترحات الساذجة. وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء! أو بين تفجير
الينبوع من الأرض ومجيء الله ـ سبحانه ـ والملائكة قبيلا! والذي يجمع في تصورهم
بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق. فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له
والتصديق به!
وغفلوا عن
الخارقة الباقية في القرآن ، وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه ،
ولكنهم لا يلمتسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس!
والخارقة ليست
من صنع الرسول ، ولا هي من شأنه ، إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته. وليس
من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها. فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله
في تدبيره يمنعان
الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به .. (قُلْ : سُبْحانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) يقف عند حدود بشريته ، ويعمل وفق تكاليف رسالته ، لا
يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه.
* * *
ولقد كانت
الشبهة التي عرضت للأقوام من قبل أن يأتيهم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن بعد ما جاءهم ، والتي صدتهم عن الإيمان بالرسل وما معهم من الهدى ،
أنهم استبعدوا أن يكون الرسول بشرا ؛ ولا يكون ملكا :
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا : أَبَعَثَ اللهُ
بَشَراً رَسُولاً؟)
وقد نشأ هذا
الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله ، فاستكثروا على بشر أن
يكون رسولا من عند الله. كذلك نشأ هذا الوهم من عدم إدراكهم لطبيعة الكون وطبيعة
الملائكة ، وأنهم ليسوا مهيئين للاستقرار في الأرض وهم في صورتهم الملائكية حتى
يميزهم الناس ويستيقنوا أنهم ملائكة.
(قُلْ : لَوْ كانَ فِي
الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً).
فلو قدر الله
أن الملائكة تعيش في الأرض لصاغهم في صورة آدمية ، لأنها الصورة التي تنفق مع
نواميس الخلق وطبيعة الأرض ، كما قال في آية أخرى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) والله قادر على كل شيء ، ولكنه خلق نواميس وبرأ
مخلوقاته وفق هذه النواميس بقدرته واختياره ، وقدر أن تمضي النواميس في طريقها لا
تتبدل ولا تتحول ، لتحقق حكمته في الخلق والتكوين ـ غير أن القوم لا يدركون!
وما دامت هذه
سنة الله في خلقه ، فهو يأمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ينهي معهم الجدل ، وأن يكل أمره وأمرهم إلى الله يشهده عليهم ، ويدع
له التصرف في أمرهم ، وهو الخبير البصير بالعباد جميعا :
(قُلْ : كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ..
وهو قول يحمل
رائحة التهديد. أما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف :
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِهِ ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً
وَصُمًّا ، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً. ذلِكَ
جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا ، وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً
وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ؟ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ ، فَأَبَى الظَّالِمُونَ
إِلَّا كُفُوراً) ..
ولقد جعل الله
للهدى وللضلال سننا ، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها ، ويتعرضون لعواقبها.
ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى وللضلال ، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في
طريق الهدى أو طريق الضلال. فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله ؛
وهذا هو المهتدي حقا ، لأنه اتبع هدى الله. والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن
دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة : (عَلى وُجُوهِهِمْ) يتكفأون (عُمْياً وَبُكْماً
وَصُمًّا) مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام.
جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى. و (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) في النهاية ، لا تبرد ولا تفتر (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً).
وهي نهاية
مفزعة وجزاء مخيف. ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِآياتِنا) واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه : (وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً
وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟)
والسياق يعرض
هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن ، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها
وصارت ماضيا بعيدا .. وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية ،
تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان.
ثم يعود
ليجادلهم بالمنطق الواقعي الذي يرونه فيغفلونه.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ؟) فأية غرابة في البعث ؛ والله خالق هذا الكون الهائل
قادر على أن يخلق مثلهم ، فهو قادر إذا على أن يعيدهم أحياء. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ
فِيهِ) أنظرهم إليه ، وأجلهم إلى موعده (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) فكان جزاؤهم عادلا بعد منطق الدلالات ومنطق المشاهدات ،
ووضوح الآيات.
* * *
على أن أولئك
الذين يقترحون على الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تلك المقترحات المتعنتة ، من بيوت الزخرف ، وجنات النخيل والأعناب ،
والينابيع المتفجرة ... بخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها
لأمسكوا وبخلوا خوفا من نفادها ، ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض :
(قُلْ : لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً).
وهي صورة بالغة
للشح ، فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، ولا يخشى نفادها ولا نقصها. ولكن نفوسهم لشحيحة
تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها!
* * *
وعلى أية حال
فإن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة. وها هو ذا موسى قد أوتي تسع
آيات بينات ثم كذب بها فرعون وملؤه ، فحل بهم الهلاك جميعا.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ، فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ،
فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ : إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً. قالَ : لَقَدْ
عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ،
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً. فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ
مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ
لِبَنِي إِسْرائِيلَ : اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا
بِكُمْ لَفِيفاً ..)
وهذا المثل من
قصة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة وذكر المسجد الأقصى في أولها
وطرف من قصة بني إسرائيل وموسى. وكذلك يعقب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه
لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة ومصير المكذبين بالبعث الذي صوره هذا
المشهد.
والآيات التسع
المشار إليها هنا هي اليد البيضاء والعصا وما أخذ الله به فرعون وقومه من السنين
ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم .. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ
جاءَهُمْ) فهم شهداء على ما كان بين موسى وفرعون :
(فَقالَ لَهُ
فِرْعَوْنُ : إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) .. فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم
والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما
يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ؛ ولا أن يرفع أحد رأسه
ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية!
فأما موسى فهو
قوي بالحق الذي أرسل به مشرقا منيرا ؛ مطمئن إلى نصرة الله له وأخذه للطغاة :
(قالَ : لَقَدْ
عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. بَصائِرَ.
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) هالكا مدمرا ، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد
غيره يملك هذه الخوارق. وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر ، حتى لكأنها البصائر
تكشف الحقائق وتجلوها.
عندئذ يلجأ
الطاغية إلى قوته المادية ، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم ، (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ
الْأَرْضِ) فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق.
وعندئذ تحق على
الطاغية كلمة الله ، وتجري سنته بإهلاك الظالمين وتوريث المستضعفين الصابرين : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ : اسْكُنُوا الْأَرْضَ. فَإِذا جاءَ
وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) ..
وهكذا كانت
عاقبة التكذيب بالآيات. وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون ، موكولين
فيها إلى أعمالهم وسلوكهم ـ وقد عرفنا كيف كان مصيرهم في أول السورة ـ أما هنا فهو
يكلهم هم وأعداءهم إلى جزاء الآخرة ، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً).
* * *
ذلك مثل من
الخوارق ، وكيف استقبلها المكذبون ، وكيف جرت سنة الله مع المكذبين. فأما هذا
القرآن فقد جاء بالحق ليكون آية دائمة ، ونزل مفرقا ليقرأ على مهل في الزمن الطويل
:
(وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً
وَنَذِيراً ، وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) ...
لقد جاء هذا
القرآن ليربي أمة ، ويقيم لها نظاما ، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها
، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل. ومن ثم فقد جاء هذا
القرآن مفرقا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة
التربية الأولى. والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن
الطويل. جاء ليكون منهجا عمليا يتحقق جزءا جزءا في مرحلة الإعداد ، لا فقها نظريا
ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني!
وتلك حكمة
نزوله متفرقا ، لا كتابا كاملا منذ اللحظة الأولى.
ولقد تلقاه
الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى. تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة كلما
جاءهم منه أمر أو نهي ، وكلما تلقوا منه أدبا أو فريضة. ولم يأخذوه متعة عقلية أو
نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب ؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص
والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية. تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي
سلوكهم ونشاطهم. وفي بيوتهم ومعاشهم. فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما
ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما ما رسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن.
قال ابن مسعود ـ
رضي الله عنه ـ كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن
والعمل بهن.
ولقد أنزل الله
هذا القرآن قائما على الحق : (وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ) فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) .. فالحق مادته والحق غايته. ومن الحق قوامه ، وبالحق
اهتمامه .. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض
قائمين به ، متلبسا بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه
وهو طرف منه. فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته. والرسول مبشر ومنذر بهذا
الحق الذي جاء به.
وهنا يأمر
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يجبه القوم بهذا الحق ، ويدع لهم أن يختاروا طريقهم. إن شاءوا آمنوا
بالقرآن وإن شاءوا لم يؤمنوا. وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم. ويضع أمام أنظارهم
نموذجا من تلقي الذين أوتوا العلم من قبله من اليهود والنصارى المؤمنين لهذا
القرآن ، لعل لهم فيه قدوة وأسوة وهم الأميون الذين لم يؤتوا علما ولا كتابا :
(قُلْ : آمِنُوا بِهِ
أَوْ لا تُؤْمِنُوا. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ، وَيَقُولُونَ : سُبْحانَ رَبِّنا
إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) ..
وهو مشهد موح
يلمس الوجدان. مشهد الذين أوتوا العلم من قبله ، وهم يسمعون القرآن ، فيخشعون ، و (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) إنهم لا يتمالكون أنفسهم ، فهم لا يسجدون ولكن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) ثمّ تنطق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله
وصدق وعده : (سُبْحانَ رَبِّنا
إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً). ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في
صدورهم منه ، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ
: (وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) .. (وَيَزِيدُهُمْ
خُشُوعاً) فوق ما استقبلوه به من خشوع.
إنه مشهد مصور
لحالة شعورية غامرة ، يرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه ؛
العارفة بطبيعته وقيمته بسبب ما أوتيت من العلم قبله. والعلم المقصود هو ما أنزله
الله من الكتاب قبل القرآن ، فالعلم الحق هو ما جاء من عند الله.
* * *
هذا المشهد
الموحي للذين أوتوا العلم من قبل يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا
القرآن أو لا يؤمنوا ، ثم يعقب عليه بتركهم يدعون الله بما شاءوا من الأسماء ـ وقد
كانوا بسبب أوهامهم الجاهلية ينكرون تسمية الله بالرحمن ، ويستبعدون هذا الاسم من
أسماء الله ـ فكلها أسماؤه فما شاءوا منها فليدعوه بها :
(قُلِ : ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ. أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).
وإن هي إلا
سخافات الجاهلية وأوهام الوثنية التي لا تثبت للمناقشة والتعليل.
كذلك يؤمر
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت لما كانوا يقابلون به صلاته من
استهزاء وإيذاء ، أو من نفور وابتعاد ولعل الأمر كذلك لأن التوسط بين الجهر
والخفاء أليق بالوقوف في حضرة الله :
(وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ..
وتختم السورة
كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك ، وتنزيهه عن الحاجة إلى
الولي والنصير. وهو العلي الكبير. فيلخص هذا الختام محور السورة الذي دارت عليه ،
والذي بدأت ثم ختمت به :
(وَقُلِ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) ..
(١٨) سورة الكهف مكيّة
وآياتها عشر ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ
بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ
أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ
يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)
وَإِنَّا
لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ
نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ
مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ
فِي
فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧)
وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما
لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩)
إِنَّهُمْ
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ
أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ
لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا
عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى
أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ
اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
وَاتْلُ
ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ
مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)
(٢٧)
القصص هو
العنصر الغالب في هذه السورة. ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة
الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس. وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح.
وفي نهايتها قصة ذي القرنين. ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة ، فهو وارد في
إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ؛ ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو
تعقيب على القصص فيها. وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعض
مشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى ، على طريقة القرآن في التعبير
بالتصوير.
أما المحور
الموضوعي للسورة الذي ترتبط به موضوعاتها ، ويدور حوله سياقها ، فهو تصحيح العقيدة
وتصحيح منهج النظر والفكر. وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة.
فأما تصحيح
العقيدة فيقرره بدؤها وختامها.
في البدء : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً. لِيُنْذِرَ
بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ؛ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ
يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).
وفي الختام : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
وهكذا يتساوق
البدء والختام في إعلان الوحدانية وإنكار الشرك ، وإثبات الوحي ، والتمييز المطلق
بين الذات الإلهية وذوات الحوادث.
ويلمس سياق السورة
هذا الموضوع مرات كثيرة في صور شتى :
في قصة أصحاب
الكهف يقول الفتية الذين آمنوا بربهم : (رَبُّنا رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ، لَقَدْ قُلْنا
إِذاً شَطَطاً).
وفي التعقيب
عليها : (ما لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ..
وفي قصة
الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ، لكِنَّا هُوَ
اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً).
وفي التعقيب
عليها : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً ، هُنالِكَ
الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً).
وفي مشهد من
مشاهد القيامة : (وَيَوْمَ يَقُولُ :
نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً).
وفي التعقيب
على مشهد آخر : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ؟ إِنَّا أَعْتَدْنا
جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً)
* * *
أما تصحيح منهج
الفكر والنظر فيتجلى في استنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم ،
والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان. وفي توجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم
ولا يتعداه ، وما لا علم له به فليدع أمره إلى الله.
ففي مطلع
السورة : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ)
والفتية أصحاب
الكهف يقولون : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ
بَيِّنٍ!) وعند ما يتساءلون عن فترة لبثهم في الكهف يكلون علمها
لله : (قالُوا : رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).
وفي ثنايا
القصة إنكار على من يتحدثون عن عددهم رجما بالغيب : (سَيَقُولُونَ :
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ؛ وَيَقُولُونَ : خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ـ
رَجْماً بِالْغَيْبِ ـ وَيَقُولُونَ : سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. قُلْ :
رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ
ما
يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ؛ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ، وَلا
تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).
وفي قصة موسى
مع العبد الصالح عند ما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ
عَنْ أَمْرِي) فيكل الأمر فيها لله.
* * *
فأما تصحيح
القيم بميزان العقيدة ، فيرد في مواضع متفرقة ، حيث يرد القيم الحقيقية إلى
الإيمان والعمل الصالح ، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر
الأنظار.
فكل ما على
الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار ، ونهايته إلى فناء وزوال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).
وحمى الله أوسع
وأرحب ، ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق. والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون
بعد اعتزالهم لقومهم : (وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ـ إِلَّا اللهَ ـ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ
مِرْفَقاً)
والخطاب يوجه
إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليصبر نفسه مع أهل الإيمان ؛ غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها
الغافلين عن الله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ؛ وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ
أَمْرُهُ فُرُطاً. وَقُلِ : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).
وقصة الجنتين
تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة. وكيف يجبه صاحبها
المنتفش المنتفخ بالحق ، ويؤنبه على نسيان الله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً؟ لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ
بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ : ما شاءَ اللهُ ، لا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً.
فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ، وَيُرْسِلَ عَلَيْها
حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ، أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها
غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً).
وعقب القصة
يضرب مثلا للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ
الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ مُقْتَدِراً).
ويعقب عليه
ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية : (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
وذو القرنين لا
يذكر لأنه ملك ، ولكن يذكر لأعماله الصالحة. وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين
السدين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالا ، فإنه يرد
عليهم ما عرضوه من المال ، لأن تمكين الله له خير من أموالهم (قالَ : ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي
خَيْرٌ). وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية : (قالَ : هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ،
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
وفي نهاية
السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالا ، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ؛ وهؤلاء لا
وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا : (قُلْ : هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً؟ أُولئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).
وهكذا نجد محور
السورة هو تصحيح العقيدة. وتصحيح منهج الفكر والنظر. وتصحيح القيم بميزان العقيدة.
* * *
ويسير سياق
السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية في أشواط متتابعة :
تبدأ السورة
بالحمد لله الذي أنزل على عباده الكتاب للإنذار والتبشير. تبشير المؤمنين وإنذار
الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ؛ وتقرير أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء
والاختبار ، والنهاية إلى زوال وفناء .. ويتلو هذا قصة أصحاب الكهف. وهي نموذج
لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها ، والالتجاء إلى رحمة الله في الكهف ،
هربا بالعقيدة أن تمس.
ويبدأ الشوط
الثاني بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأن يغفل
الغافلين عن ذكر الله .. ثم تجيء قصة الجنتين تصور اعتزاز القلب المؤمن بالله ،
واستصغاره لقيم الأرض .. وينتهي هذا الشوط بتقرير القيم الحقيقية الباقية.
والشوط الثالث
يتضمن عدة مشاهد متصلة من مشاهد القيامة تتوسطها إشارة قصة آدم وإبليس .. وينتهي
ببيان سنة الله في إهلاك الظالمين ، ورحمة الله وإمهاله للمذنبين إلى أجل معلوم.
وتشغل قصة موسى
مع العبد الصالح الشوط الرابع. وقصة ذي القرنين الشوط الخامس.
ثم تختم السورة
بمثل ما بدأت : تبشيرا للمؤمنين وإنذارا للكافرين ، وإثباتا للوحي وتنزيها لله عن
الشريك. فلنأخذ في الشوط الأول بالتفصيل :
* * *
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.
قَيِّماً. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ، وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً
ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ،
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى
آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً .. إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ،
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) ...
بدء فيه
استقامة ، وفيه صرامة. وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب (عَلى عَبْدِهِ) بهذه الاستقامة ، لا عوج فيه ولا التواء ، ولا مداراة
ولا مداورة : (لِيُنْذِرَ بَأْساً
شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ).
ومنذ الآية
الأولى تتضح المعالم ، فلا لبس في العقيدة ولا غموض : الله هو الذي أنزل الكتاب ،
والحمد له على تنزيله. ومحمد هو عبد لله. فالكل إذن عبيد ، وليس لله من ولد ولا
شريك.
والكتاب لا عوج
له .. (قَيِّماً) .. يتكرر معنى الاستقامة مرة عن طريق نفي العوج ، ومرة
عن طريق إثبات الاستقامة. توكيدا لهذا المعنى وتشديدا فيه.
والغرض من
إنزال الكتاب واضح صريح : (لِيُنْذِرَ بَأْساً
شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً).
ويغلب ظل
الإنذار الصارم في التعبير كله. فهو يبدأ به على وجه الإجمال : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ
لَدُنْهُ). ثم يعود إليه على وجه التخصيص : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً) .. وبينهما تبشير للمؤمنين (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) بهذا القيد الذي يجعل للإيمان دليله العملي الظاهر
المستند إلى الواقع الأكيد.
ثم يأخذ في كشف
المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها. قضية العقيدة :
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) ..
فما أشنع وما
أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم ، هكذا جزافا :
(كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ..
وتشترك الألفاظ
بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها. فهو يبدأ
بكلمة (كَبُرَتْ) لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما. ويجعل
الكلمة الكبيرة تمييزا لضميرها في الجملة : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) زيادة في توجيه الانتباه إليها. ويجعل هذه الكلمة تخرج
من أفواههم خروجا كأنما تنطلق منها جزافا وتندفع منها اندفاعا (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ). وتشارك لفظة (أَفْواهِهِمْ) بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها ، فالناطق
بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد : «أفوا ...» ثم تتوالى الهاءان
فيمتلىء الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة : (أَفْواهِهِمْ). وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى
ورسم الظل. ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) : ويختار للنفي كلمة : (إِنْ) لا كلمة «ما» لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح ، وفي
لفظ «ما» شيء من الليونة بالمد .. وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار ، ولزيادة
التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة ..
* * *
وفيما يشبه
الإنكار يخاطب الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في
الطريق الذي يعلم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه مود بهم إلى الهلاك .. فيما يشبه الإنكار يقول للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ. أَسَفاً)!
أي فلعلك قاتل
نفسك أسفا وحزنا عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن. وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم
وتأسف. فدعهم فقد جعلنا ما على الأرض من زخرف ومتاع ، وأموال وأولاد .. جعلناه
اختبارا وامتحانا لأهلها ، ليتبين من يحسن منهم العمل في الدنيا ، ويستحق نعمتها ،
كما يستحق نعيم الآخرة :
(إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
والله يعلم.
ولكنه يجزي على ما يصدر من العباد فعلا ، وما يتحقق منهم في الحياة عملا. ويسكت
عمن لا يحسنون العمل فلا يذكرهم لأن مفهوم التعبير واضح.
ونهاية هذه
الزينة محتومة. فستعود الأرض مجردة منها ، وسيهلك كل ما عليها ، فتصبح قبل يوم
القيامة سطحا أجرد خشنا جدبا :
(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) ..
وفي التعبير
صرامة ، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك. وكلمة (جُرُزاً) تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي. كما أن كلمة صَعِيداً) ترسم مشهد الاستواء والصلادة!
* * *
ثم تجيء قصة
أصحاب الكهف ، فتعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة. كيف تطمئن به ، وتؤثره على
زينة الأرض ومتاعها ، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس. وكيف
يرعى الله هذه
النفوس المؤمنة ، ويقيها الفتنة ، ويشملها بالرحمة.
وفي القصة
روايات شتى ، وأقاويل كثيرة. فقد وردت في بعض الكتب القديمة وفي الأساطير بصور
شتى. ونحن نقف فيها عند حد ما جاء في القرآن ، فهو المصدر الوحيد المستيقن. ونطرح
سائر الروايات والأساطير التي اندست في التفاسير بلا سند صحيح. وبخاصة أن القرآن
الكريم قد نهى عن استفتاء غير القرآن فيها ، وعن المراء فيها والجدل رجما بالغيب.
وقد ورد في سبب
نزولها ونزول قصة ذي القرنين أن اليهود أغروا أهل مكة بسؤال الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عنهما وعن الروح. أو أن أهل مكة طلبوا إلى اليهود أن يصوغوا لهم أسئلة
يختبرون بها الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا. فقد جاء في أول قصة ذي القرنين : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي
الْقَرْنَيْنِ. قُلْ : سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) ولكن لم تجىء عن قصة أصحاب الكهف مثل هذه الإشارة. فنحن
نمضي في القصة لذاتها وهي واضحة الارتباط بمحور السورة كما بينا.
* * *
إن الطريقة
التي اتبعت في عرض هذه القصة من الناحية الفنية هي طريقة التلخيص الإجمالي أولا ،
ثم العرض التفصيلي أخيرا. وهي تعرض في مشاهد وتترك بين المشاهد فجوات يعرف ما فيها
من السياق . وهي تبدأ هكذا :
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً. إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ، فَقالُوا : رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ،
وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ
سِنِينَ عَدَداً ، ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما
لَبِثُوا أَمَداً).
وهو تلخيص يجمل
القصة ، ويرسم خطوطها الرئيسية العريضة. فنعرف أن أصحاب الكهف فتية ـ لا نعلم
عددهم ـ آووا إلى الكهف وهم مؤمنون. وأنه ضرب على آذانهم في الكهف ـ أي ناموا ـ سنين
معدودة ـ لا نعلم عددها ـ وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة. وأنه كان هناك فريقان
يتجادلان في شأنهم ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء. وأن
قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله. وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي
ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم .
وبعد هذا
التلخيص المشوق للقصة يأخذ السياق في التفصيل. ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه
الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة ، وهو الحق اليقين :
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا : رَبُّنا
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً. لَقَدْ
قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْ
لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ـ إِلَّا اللهَ ـ
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ،
وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).
هذا هو المشهد
الأول من مشاهد القصة. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ
آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) .. (وَزِدْناهُمْ هُدىً) بإلهامهم كيف
__________________
يدبرون أمرهم. (وَرَبَطْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ) فإذا هي ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت.
معتزة بالإيمان الذي اختارت (إِذْ قامُوا) .. والقيام حركة تدل على العزم والثبات. (فَقالُوا : رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) .. فهو رب هذا الكون كله (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ
دُونِهِ إِلهاً) .. فهو واحد بلا شريك. (لَقَدْ قُلْنا إِذاً
شَطَطاً) .. وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب.
ثم يلتفتون إلى
ما عليه قومهم فيستنكرونه ، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة :
(هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ
بَيِّنٍ؟) ..
فهذا هو طريق
الاعتقاد : أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه ، وبرهان له سلطان على النفوس
والعقول. وإلا فهو الكذب الشنيع ، لأنه الكذب على الله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً؟) ..
وإلى هنا يبدو
موقف الفتية واضحا صريحا حاسما ، لا تردد فيه ولا تلعثم .. إنهم فتية ، أشداء في
أجسامهم ، أشداء في إيمانهم. أشداء في استنكار ما عليه قومهم ..
ولقد تبين
الطريقان ، واختلف المنهجان ، فلا سبيل إلى الالتقاء ، ولا للمشاركة في الحياة.
ولا بد من الفرار بالعقيدة. إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة
ويدعوهم إليها ، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل. إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط
ظالم كافر ، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها ، وهم لا
يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداروهم ، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل
التقية ويخفوا عبادتهم لله. والأرجح أن أمرهم قد كشف. فلا سبيل لهم إلا أن يفروا
بدينهم إلى الله ، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة. وقد أجمعوا أمرهم فهم
يتناجون بينهم :
(وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ـ إِلَّا اللهَ ـ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ
مِرْفَقاً) ..
وهنا ينكشف
العجب في شأن القلوب المؤمنة. فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ، ويهجرون ديارهم
، ويفارقون أهلهم. ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة. هؤلاء الذين يأوون إلى
الكهف الضيق الخشن المظلم. هؤلاء يستروحون رحمة الله. ويحسون هذه الرحمة ظليلة
فسيحة ممتدة. (يَنْشُرْ لَكُمْ
رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) ولفظة (يَنْشُرْ) تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح. فإذا الكهف فضاء
فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها ، وتشملهم بالرفق
واللين والرخاء .. إن الحدود الضيقة لتنزاح ، وإن الجدران الصلدة لترق ، وإن
الوحشة الموغلة لتشف ، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق.
إنه الإيمان ..
وما قيمة
الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم
الأرضية؟ إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان ، المأنوس بالرحمن.
عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان.
ويسدل الستار
على هذا المشهد. ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس.
* * *
(وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ ، وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ. ذلِكَ مِنْ آياتِ
اللهِ. مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِداً. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً
وَهُمْ
رُقُودٌ. وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ. وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ
فِراراً ، وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً).
وهو مشهد
تصويري عجيب ، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف ، كما يلتقطها شريط متحرك.
والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة. ولفظ (تَزاوَرُ) تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها. والشمس تغرب
فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه ..
وقبل أن يكمل
نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل سياق
القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة :
(ذلِكَ مِنْ آياتِ
اللهِ) .. وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب
منهم بضوئها. وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون.
(مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) .. وللهدى والضلال ناموس. فمن اهتدى بآيات الله فقد
هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا. ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل ، وجاء ضلاله
وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن ، ولن تجد له من بعد هاديا.
ثم يمضي السياق
يكمل المشهد العجيب. وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة. فيحسبهم الرائي
أيقاظا وهم رقود. وكلبهم ـ على عادة الكلاب ـ باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب
الكهف كأنه يحرسهم. وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم. إذ
يراهم نياما كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون. وذلك من تدبير الله كي لا يعبث بهم
عابث ، حتى يحين الوقت المعلوم.
* * *
وفجأة تدب فيهم
الحياة. فلنظر ولنسمع :
(وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : كَمْ لَبِثْتُمْ؟
قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالُوا : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما
لَبِثْتُمْ ، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ،
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ، وَلَنْ تُفْلِحُوا
إِذاً أَبَداً) ..
إن السياق
يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة ، فيعرض هذا المشهد ، والفتية يستيقظون وهم لا
يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس .. إنهم يفركون أعينهم ، ويلتفت أحدهم إلى
الآخرين فيسأل : كم لبثتم؟ كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل. ولا بد أنه كان يحس
بآثار نوم طويل. (قالُوا : لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)!
ثم رأوا أن
يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها ، ويدعوا أمرها لله ـ شأن المؤمن
في كل ما يعرض له مما يجهله ـ وأن يأخذوا في شأن عملي. فهم جائعون. ولديهم نقود
فضية خرجوا بها من المدينة : (قالُوا : رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً ، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ) .. أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه.
__________________
وهم يحذرون أن
ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم. فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجما ـ بوصفهم
خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلها واحدا في المدينة المشركة! ـ أو يفتنوهم عن
عقيدتهم بالتعذيب. وهذه هي التي يتقونها. لذلك يوصون الرسول أن يكون حذرا لبقا : (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ
بِكُمْ أَحَداً. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ
يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) .. فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك ، وإنها
للخسارة الكبرى.
وهكذا نشهد
الفتية يتناجون فيما بينهم ، حذرين خائفين ، لا يدرون أن الأعوام قد كرت ، وأن
عجلة الزمن قد دارت ، وأن أجيالا قد تعاقبت ، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت
معالمها ، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم ، وأن قصة
الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف ؛ وأن
الأقاويل حولهم متعارضة ؛ حول عقيدتهم ، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم.
وهنا يسدل
الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر. وبين المشهدين فجوة متروكة في
السياق القرآني.
ونفهم أن أهل
المدينة اليوم مؤمنون ، فهم شديد والحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم
بذهاب أحدهم لشراء الطعام ، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد
بعيد.
ولنا أن نتصور
ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية ـ بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها
العهد الطويل منذ أن فارقوها ؛ وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما
ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون. وأنهم
أعجوبة في نظر الناس وحسهم ، فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين. وأن كل ما يربطهم
بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد .. كله قد تقطع ، فهم أشبه
بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية .. فيرحمهمالله من هذا كله فيتوفاهم.
لنا أن نتصور
هذا كله. أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير ، مشهد وفاتهم ، والناس خارج
الكهف يتنازعون في شأنهم : على أي دين كانوا ، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم
للأجيال. ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب :
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ
فِيها. إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ، فَقالُوا : ابْنُوا عَلَيْهِمْ
بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ. قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ :
لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).
إن العبرة في
خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس. يقرب إلى الناس
قضية البعث. فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق ، وأن الساعة لا ريب فيها .. وعلى هذا
النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم.
وقال بعض الناس
: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ
بُنْياناً) لا يحدد عقيدتهم (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ
بِهِمْ) وبما كانوا عليه من عقيدة. وقال أصحاب السلطان في ذلك
الأوان : (لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) والمقصود معبد ، على طريقة اليهود والنصارى في اتخاذ المعابد
على مقابر الأنبياء والقديسين. وكما يصنع اليوم من يقلدونهم من المسلمين مخالفين
لهدى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» .
ويسدل الستار
على هذا المشهد. ثم يرفع لنسمع الجدل حول أصحاب الكهف ـ على عادة الناس يتناقلون
__________________
الروايات والأخبار ، ويزيدون فيها وينقصون ، ويضيفون إليها من خيالهم جيلا
بعد جيل ، حتى تتضخم وتتحول ، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد
كلما مرت القرون :
(سَيَقُولُونَ :
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ : خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ـ
رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ : سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. قُلْ :
رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ. ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. فَلا تُمارِ
فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) ..
فهذا الجدل حول
عدد الفتية لا طائل وراءه. وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة ، أو
أكثر. وأمرهم موكول إلى الله ، وعلمهم عند الله. وعند القليلين الذين تثبتوا من
الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة. فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم.
والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير. لذلك يوجه القرآن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى ترك الجدل في هذه القضية ، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في
شأنهم. تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد. وفي
ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق. وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب
الموكول إلى علم الله ، فليترك إلى علم الله.
وبمناسبة النهي
عن الجدل في غيب الماضي ، يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه ؛
فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه :
(وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ـ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ـ وَاذْكُرْ
رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ، وَقُلْ : عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا
رَشَداً) ..
إن كل حركة وكل
نأمة ، بل كل نفس من أنفاس الحي ، مرهون بإرادة الله. وسجف الغيب مسبل يحجب ما
وراء اللحظة الحاضرة ؛ وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل ؛ وعقله
مهما علم قاصر كليل. فلا يقل إنسان : إني فاعل ذلك غدا. وغدا في غيب الله وأستار
غيب الله دون العواقب.
وليس معنى هذا
أن يقعد الإنسان ، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له ؛ وأن يعيش يوما بيوم ،
لحظة بلحظة. وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله .. كلا. ولكن معناه أن يحسب حساب
الغيب وحساب المشيئة التي تدبره ؛ وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما
يعزم ، ويستشعر أن يد الله فوق يده ، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره.
فإن وفقه الله إلى ما اعتزم فبها. وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم
ييأس ، لأن الأمر لله أولا وأخيرا.
فليفكر الإنسان
وليدبر ؛ ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله ، ويدبر بتوفيق الله ، وأنه لا
يملك إلا ما يمده الله به من تفكير وتدبير. ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ ، أو ضعف
أو فتور ؛ بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة. فإذا انكشف ستر
الغيب عن تدبير لله غير تدبيره ، فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام.
لأنه الأصل الذي كان مجهولا له فكشف عنه الستار.
هذا هو المنهج
الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم. فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكر ويدبر. ولا
يحس بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح. ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق. بل
يبقى في كل أحواله متصلا بالله ، قويا بالاعتماد عليه ، شاكرا لتوفيقه إياه ،
مسلما بقضائه وقدره. غير متبطر ولا قنوط.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) .. إذا نسيت هذا التوجيه والاتجاه فاذكر ربك وارجع
إليه.
(وَقُلْ : عَسى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) .. من هذا النهج الذي يصل القلب دائما بالله ، في كل ما
يهم به وكل ما يتوجه إليه.
وتجيء كلمة (عَسى) وكلمة (لِأَقْرَبَ) للدلالة على ارتفاع هذا المرتقى ، وضرورة المحاولة
الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال.
* * *
وإلى هنا لم
نكن نعلم : كم لبث الفتية في الكهف. فلنعرفه الآن لنعرفه على وجه اليقين :
(وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ، وَازْدَادُوا تِسْعاً. قُلِ : اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) ..
فهذا هو فصل
الخطاب في أمرهم ، يقرره عالم غيب السماوات والأرض. ما أبصره ، وما أسمعه! سبحانه.
فلا جدال بعد هذا ولا مراء.
* * *
ويعقب على
القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ.
وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ..
وبتوجيه الرسول
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه ، وفيه فصل الخطاب ـ وهو الحق الذي لا يأتيه
الباطل ـ والاتجاه إلى الله وحده ، فليس من حمى إلا حماه. وقد فر إليه أصحاب الكهف
فشملهم برحمته وهداه :
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَداً) ..
وهكذا تنتهي
القصة ، تسبقها وتتخللها وتعقبها تلك التوجيهات التي من أجلها يساق القصص في
القرآن. مع التناسق المطلق بين التوجيه الديني والعرض الفني في السياق.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ
ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ
يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ
أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢)
كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما
نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها
مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ
رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ
يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ
فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ
ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ
بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ
خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢)
وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣)
هُنالِكَ
الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ
وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ
عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
(٤٦)
هذا الدرس كله
تقرير للقيم في ميزان العقيدة. إن القيم الحقيقية ليست هي المال ، وليست هي الجاه
، وليست هي السلطان. كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة .. إن هذه كلها
قيم زائفة وقيم زائلة. والإسلام لا يحرم الطيب منها ؛ ولكنه لا يجعل منها غاية
لحياة الإنسان. فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع ، ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها.
وليشكره على النعمة بالعمل الصالح ، فالباقيات الصالحات خير وأبقى.
وهو يبدأ
بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله ؛ وأن يغفل ويهمل
الذين يغفلون عن ذكر الله. ثم يضرب للفريقين مثلا رجلين : أحدهما يعتز بما
أوتي من مال وعزة ومتاع. والآخر يعتز بالإيمان الخالص ، ويرجو عند ربه ما هو خير.
ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها ، فإذا هي قصيرة زائلة كالهشيم تذروه
الرياح. وينتهي من ذلك كله بتقرير الحقيقة الباقية : (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) ..
* * *
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ، وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ
أَمْرُهُ فُرُطاً. وَقُلِ : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ.
وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ..
يروى أنها نزلت
في أشراف قريش ، حين طلبوا إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا
كان يطمع في إيمان رؤوس قريش. أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر ، لأن
عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق ، فتؤذي السادة من كبراء قريش!
ويروى أن
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه. فأنزل الله عزوجل : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية ، وتقيم الميزان الذي لا
يخطىء. وبعد ذلك (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) فالإسلام لا يتملق أحدا ، ولا يزن الناس بموازين
الجاهلية الأولى ، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) .. لا تمل ولا تستعجل (مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) .. فالله غايتهم ، يتجهون إليه بالغداة والعشي ، لا
يتحولون عنه ، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب
الحياة.
اصبر نفسك مع
هؤلاء. صاحبهم وجالسهم وعلمهم. ففيهم الخير ، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات
لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ؛ ومن
يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع ، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع!
إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له ، لا تبغي جاها ولا
متاعا ولا انتفاعا ، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) .. ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي
يستمتع بها أصحاب الزينة. فهذه زينة الحياة (الدُّنْيا) لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
(وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ، وَاتَّبَعَ هَواهُ ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) .. لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء.
فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم ، وخففوا من غلوائهم ، وخفضوا من تلك الهامات
المتشامخة ، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس ؛ وأحسوا رابطة
العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية.
ويحكمون مقاييسها في العباد. فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما
غفلوا عن ذكر الله.
لقد جاء
الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه
قيم زائفة ،
وقيم زائلة. إنما التفاضل بمكانها عند الله. ومكانها عند الله يوزن بقدر
اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان.
(وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) .. أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته ، وإلى ماله ، وإلى
أبنائه ، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته ، فلم يعد في قلبه متسع لله. والقلب الذي
يشتغل بهذه الشواغل ، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله ، فيزيده الله
غفلة ، ويملي له فيما هو فيه ، حتى تفلت الأيام من بين يديه ، ويلقى ما أعده الله
لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم ، ويظلمون غيرهم :
(وَقُلِ : الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ..
بهذه العزة ،
وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة ، فالحق لا ينثني ولا ينحني ، إنما يسير في طريقه
قيما لا عوج فيه ، قويا لا ضعف فيه ، صريحا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر. ومن لم يعجبه الحق فليذهب ، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله
فلا مجاملة على حساب العقيدة ؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله
فلا حاجة بالعقيدة إليه.
إن العقيدة
ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها. إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين.
والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ، ولا يأخذونها كما هي
بلا تحوير. والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين
* * *
ثم يعرض ما أعد
للكافرين ، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة :
(إِنَّا أَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ؛ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا
بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ. بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ
أَحْسَنَ عَمَلاً. أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهارُ ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ؛ وَيَلْبَسُونَ
ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى
الْأَرائِكِ. نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً).
(إِنَّا أَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ ناراً) .. أعددناها وأحضرناها .. فهي لا تحتاج إلى جهد
لإيقادها ، ولا تستغرق زمنا لإعدادها! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة
الإرادة : كن. فيكون. إلا أن التعبير هنا بلفظ (أَعْتَدْنا) يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد ، والأخذ المباشر
إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال!
وهي نار ذات
سرادق يحيط بالظالمين ، فلا سبيل إلى الهرب ، ولا أمل في النجاة والإفلات. ولا
مطمع في منفذ تهب منه نسمة ، أو يكون فيه استرواح!
فإن استغاثوا
من الحريق والظمأ أغيثوا .. أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول ، وكالصديد
الساخن في قول! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه (بِئْسَ الشَّرابُ) الذي يغاث به الملهوفون من الحريق! ويا لسوء النار
وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء. وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير.
فما هم هنالك للارتفاق ، إنما هم للاشتواء!
ولكنها مقابلة
مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان .. وشتان شتان! وبينما
هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن. للإقامة. تجري من تحتهم
الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم. وهم هنالك للارتفاق حقا (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) وهم رافلون في
ألوان من الحرير. من سندس ناعم خفيف ومن إستبرق مخمل كثيف. تزيد عليها
أساور من ذهب للزينة والمتاع : (نِعْمَ الثَّوابُ
وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)!
ومن شاء
فليختر. ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن شاء فليجالس فقراء المؤمنين ، وجبابهم
تفوح منها رائحة العرق أو فلينفر. فمن لم ترضه رائحة العرق من تلك الجباب ، التي
تضم القلوب الزكية بذكر الله ، فليرتفق في سرادق النار ، وليهنأ بدردي الزيت أو
القيح يغاث به من النار ..
* * *
ثم تجيء قصة
الرجلين والجنتين تضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية ، وترسم نموذجين واضحين
للنفس المعتزة بزينة الحياة ، والنفس المعتزة بالله. وكلاهما نموذج إنساني لطائفة
من الناس : صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ، تذهله الثروة ، وتبطره النعمة ،
فينسى القوة الكبر التي تسيطر على أقدار الناس والحياة. ويحسب هذه النعمة خالدة لا
تفنى ، فلن تخذله القوة ولا الجاه. وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه ،
الذاكر لربه ، يرى النعمة دليلا على المنعم ، موجبة لحمده وذكره ، لا لجحوده
وكفره.
وتبدأ القصة
بمشهد الجنتين في ازدهار وفخامة :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ،
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ
آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً.
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) ..
فهما جنتان
مثمرتان من الكروم ، محفوفتان بسياج من النخيل ، تتوسطهما الزروع ، ويتفجر بينهما
نهر .. إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال :
(كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) .. ويختار التعبير كلمة (تَظْلِمْ) في معنى تنقص وتمنع ، لتقابل بين الجنتين وصاحبهما الذي
ظلم نفسه فبطر ولم يشكر ، وازدهى وتكبر.
وها هو ذا صاحب
الجنتين تمتلىء نفسه بهما ، ويزدهيه النظر إليهما ، فيحس بالزهو ، وينتفش كالديك ،
ويختال كالطاووس ، ويتعالى على صاحبه الفقير : (فَقالَ لِصاحِبِهِ ـ وَهُوَ
يُحاوِرُهُ ـ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) ..
ثم يخطو بصاحبه
إلى إحدى الجنتين ، وملء نفسه البطر ، وملء جنبه الغرور ؛ وقد نسي الله ، ونسي أن
يشكره على ما أعطاه ؛ وظن أن هذه الجنان المثمرة لن تبيد أبدا ، أنكر قيام الساعة
أصلا ، وهبها قامت فسيجد هنالك الرعاية والإيثار! أليس من أصحاب الجنان في الدنيا
فلا بد أن يكون جنابه ملحوظا في الآخرة! (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ. قالَ : ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ، وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها مُنْقَلَباً)!
إنه الغرور
يخيل لذوي الجاه والسلطان والمتاع والثراء ، أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه
الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى! فما داموا يستطيلون على أهل
هذه الأرض فلا بد أن يكون لهم عند السماء مكان ملحوظ!
فأما صاحبه
الفقير الذي لا مال له ولا نفر ، ولا جنة عنده ولا ثمر .. فإنه معتز بما هو أبقى
وأعلى. معتز بعقيدته وإيمانه. معتز بالله الذي تعنؤ له الجباه ؛ فهو يجبه صاحبه
المتبطر المغرور منكرا عليه بطره وكبره ، يذكره بمنشئه المهين من ماء وطين ،
ويوجهه إلى الأدب الواجب في حق المنعم. وينذره عاقبة البطر والكبر. ويرجو عند ربه
ما هو خير من الجنة والثمار :
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ ـ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ ـ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً؟ لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ، وَلا أُشْرِكُ
بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ : ما شاءَ اللهُ لا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً.
فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ، وَيُرْسِلَ عَلَيْها
حُسْباناً مِنَ
السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ
يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ
تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) ...
وهكذا تنتفض
عزة الإيمان في النفس المؤمنة ، فلا تبالي المال والنفر ، ولا تداري الغنى والبطر
، ولا تتلعثم في الحق ، ولا تجامل فيه الأصحاب. وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام
الجاه والمال ، وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة ، وأن فضل الله عظيم وهو يطمع
في فضل الله. وأن نقمة الله جبارة وأنها وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين.
وفجأة ينقلنا
السياق من مشهد النماء والإزدهار إلى مشهد الدمار والبوار. ومن هيئة البطر ،
والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار. فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن :
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها ، وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها ، وَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) ..
وهو مشهد شاخص
كامل : الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء. والجنة خاوية على
عروشها مهشمة محطمة. وصاحبها يقلب كفيه أسفا وحزنا على ماله الضائع وجهده الذاهب.
وهو نادم على إشراكه بالله ، يعترف الآن بربوبيته ووحدانيته. ومع أنه لم يصرح
بكلمة الشرك ، إلا أن اعتزازه بقيمة أخرى أرضية غير قيمة الإيمان كان شركا ينكره الآن
، ويندم عليه ويستعيذ منه بعد فوات الأوان.
هنا يتفرد الله
بالولاية والقدرة : فلا قوة إلا قوته ، ولا نصر إلا نصره. وثوابه هو خير الثواب ،
وما يبقى عنده للمرء من خير فهو خير ما يتبقى :
(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَما كانَ مُنْتَصِراً. هُنالِكَ
الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) ..
ويسدل الستار
على مشهد الجنة الخاوية على عروشها ، وموقف صاحبها يقلب كفيه أسفا وندما ، وجلال
الله يظلل الموقف ، حيث تتوارى قدرة الإنسان ..
* * *
وأمام هذا
المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها. فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة
قصيرة ، لا بقاء لها ولا قرار :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) ..
هذا المشهد
يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال. فالماء ينزل من السماء فلا
يجري ولا
__________________
يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض. والنبات لا ينمو ولا ينضج ، ولكنه يصبح
هشيما تذروه الرياح. وما بين ثلاث جمل قصار ، ينتهي شريط الحياة.
ولقد استخدم
النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد. بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء :
(كَماءٍ أَنْزَلْناهُ
مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ
الرِّياحُ) فما أقصرها حياة!
وما أهونها
حياة! وبعد أن يلقي مشهد الحياة الذاهبة ظله في النفس يقرر السياق بميزان العقيدة
قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض ، والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام :
(الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً ، وَخَيْرٌ أَمَلاً) ..
المال والبنون
زينة الحياة ؛ والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات. ولكنه يعطيهما
القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد.
إنهما زينة
ولكنهما ليسا قيمة. فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على أساسهما في
الحياة. إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات.
وإذا كان أمل
الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين فإن الباقيات الصالحات خير ثوابا وخير أملا.
عند ما تتعلق بها القلوب ، ويناط بها الرجاء ، ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم
الجزاء.
* * *
وهكذا يتناسق
التوجيه الإلهي للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه. مع
إيحاء قصة الجنتين. مع ظل المثل المضروب للحياة الدنيا. مع هذا التقرير الأخير
للقيم في الحياة وما بعد الحياة .. وتشترك كلها في تصحيح القيم بميزان العقيدة.
وتتساوى كلها في السورة وفق قاعدة التناسق الفني والتناسق الوجداني في القرآن .
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ
جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ
لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
__________________
أَوْلِياءَ
مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ
نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها
مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ
شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا
هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا
عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ
تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ
الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ
الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى
أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)
(٥٩)
انتهى الدرس
السابق بالحديث عن الباقيات الصالحات ؛ فهنا يصله بوصف اليوم الذي يكون للباقيات
الصالحات وزن فيه وحساب ، يعرضه في مشهد من مشاهد القيامة. ويتبعه في السياق
بإشارة إلى ما كان من إبليس يوم أمر بالسجود لآدم ففسق عن أمر ربه للتعجيب من
أبناء آدم الذين يتخذون الشياطين أولياء ، وقد علموا أنهم لهم أعداء ، وبذلك
ينتهون إلى العذاب في يوم الحساب. ويعرج على الشركاء الذين لا يستجيبون لعبادهم في
ذلك اليوم الموعود.
هذا وقد صرف
الله في القرآن الأمثال للناس ليقوا أنفسهم شر ذلك اليوم ، ولكنهم لم يؤمنوا ،
وطلبوا أن يحل بهم العذاب أو أن يأتيهم الهلاك الذي نزل بالأمم قبلهم. وجادلوا
بالباطل ليغلبوا به الحق ، واستهزأوا بآيات الله ورسله. ولو لا رحمة الله لعجل لهم
العذاب ..
هذا الشوط من
مشاهد القيامة ، ومن مصارع المكذبين يرتبط بمحور السورة الأصيل في تصحيح العقيدة ،
وبيان ما ينتظر المكذبين ، لعلهم يهتدون.
* * *
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ، وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا).
(لَقَدْ جِئْتُمُونا
كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ
مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ؛
وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا! ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً).
إنه مشهد تشترك
فيه الطبيعة ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب. مشهد تتحرك فيه
الجبال الراسخة فتسير ، فكيف بالقلوب ، وتتبدى فيه الأرض عارية ، وتبرز فيه صفحتها
مكشوفة لا نجاد فيها ولا وهاد ، ولا جبال فيها ولا وديان .. وكذلك تتكشف خبايا
القلوب فلا تخفى منها خافية.
ومن هذه الأرض
المستوية المكشوفة التي لا تخبئ شيئا ، ولا تخفي أحدا : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ
مِنْهُمْ أَحَداً).
ومن الحشر
الجامع الذي لا يخلف أحدا إلى العرض الشامل : (وَعُرِضُوا عَلى
رَبِّكَ صَفًّا) .. هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد ، منذ أن قامت
البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة الدنيا .. هذه الخلائق كلها محشورة
مجموعة مصفوفة ، لم يتخلف منها أحد ، فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي أحدا.
وهنا يتحول
السياق من الوصف إلى الخطاب. فكأنما المشهد حاضر اللحظة ، شاخص نراه ونسمع ما يدور
فيه. ونرى الخزي على وجوه القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ. بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً).
هذا الالتفات
من الوصف إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه. كأنما هو حاضر اللحظة ، لا مستقبل في
ضمير الغيب في يوم الحساب.
وإننا لنكاد
نلمح الخزي على الوجوه ، والذل في الملامح. وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء
المجرمين بالتأنيب : (لَقَدْ جِئْتُمُونا
كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ
لَكُمْ مَوْعِداً)!
وبعد إحياء
المشهد واستحضاره بهذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يعود إلى وصف ما هناك :
(وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم ، وهم يتملونه
ويراجعونه ، فإذا هو شامل دقيق. وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب
الذي لا يترك شاردة ولا واردة ، ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة : (وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا. ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، إِلَّا أَحْصاها؟) وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ العواقب
، وقد ضبط مكشوفا لا يملك تفلتا ولا هربا ، ولا مغالطة ولا مداورة : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) ولا قوا جزاء عادلا : (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) ..
* * *
هؤلاء المجرمون
الذين وقفوا ذلك الموقف كانوا يعرفون أن الشيطان عدو لهم ، ولكنهم تولوه فقادهم
إلى ذلك الموقف العصيب فما أعجب أن يتولوا إبليس وذريته وهم لهم عدو منذ ما كان
بين آدم وإبليس :
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).
وهذه الإشارة
إلى تلك القصة القديمة تجيء هنا للتعجيب من أبناء آدم الذين يتخذون ذرية إبليس
أولياء من دون الله بعد ذلك العداء القديم.
واتخاذ إبليس
وذريته أولياء يتمثل في تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة.
ولما ذا يتولون
أعداءهم هؤلاء ، وليس لديهم علم ولا لهم قوة فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض
ولا خلق أنفسهم فيطلعهم على غيبه. والله لا يتخذهم عضدا فتكون لهم قوة :
(ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ، وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً) ..
إنما هو خلق من
خلق الله ، لا يعلمون غيبه ، ولا يستعين بهم سبحانه ..
(وَما كُنْتُ
مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضدا؟
وتعالى الله
الغني عن العالمين ، ذو القوة المتين .. إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين
لتتبعها واستئصالها. فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله ، إنما يسلكون هذا
المسلك توهما منهم أن للشيطان علما خفيا ، وقوة خارقة. والشيطان مضل ، والله يكره
الضلال والمضلين. فلو أنه ـ على سبيل الفرض والجدل ـ كان متخذا له مساعدين ، لما
اختارهم من المضلين!
وهذا هو الظل
الذي يراد أن يلقيه التعبير ..
ثم يعرض مشهد
من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين :
(وَيَوْمَ يَقُولُ :
نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ. فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) ..
إنهم في الموقف
الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان. والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا
، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا .. وإنهم لفي ذهول ينسون أنها الآخرة ، فينادون. لكن
الشركاء لا يجيبون! وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا في
الموقف المرهوب. وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا
هؤلاء .. إنها النار (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً).
ويتطلع
المجرمون ، فتمتلىء نفوسهم بالخوف والهلع ، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها.
وما أشق توقع العذاب وهو حاضر ، وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص :
(وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ، وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْها مَصْرِفاً)
* * *
ولقد كان لهم
عنها مصرف ، لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن ، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء
به ، وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جميع الأحوال :
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ
شَيْءٍ جَدَلاً) ..
ويعبر السياق
عن الإنسان في هذا المقام بأنه (شَيْءٍ) وأنه أكثر شيء جدلا. ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه ،
ويقلل من غروره ، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة. وأنه أكثر هذه الخلائق
جدلا. بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل.
ثم يعرض الشبهة
التي تعلق بها من لم يؤمنوا ـ وهم كثرة الناس ـ على مدار الزمان والرسالات :
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) ..
فلقد جاءهم من
الهدى ما يكفي للاهتداء. ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم
من هلاك ـ استبعادا لوقوعه واستهزاء ـ أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه
سيقع بهم. وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون!
وليس هذا أو
ذاك من شأن الرسل. فأخذ المكذبين بالهلاك ـ كما جرت سنة الله في الأولين بعد مجيء
الخوارق وتكذيبهم بها ـ أو إرسال العذاب .. كله من أمر الله. أما الرسل فهم مبشرون
ومنذرون :
(وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا
هُزُواً).
والحق واضح.
ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه. وهم حين يطلبون
الخوارق ، ويستعجلون بالعذاب لا يبغون اقتناعا ، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر
ويسخرون.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ.
إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً ، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ..
فهؤلاء الذين
يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن ، ولا أن ينتفعوا
به. لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا
يستمعون إليه. وقدر عليهم الضلال ـ بسبب استهزائهم وإعراضهم ـ فلن يهتدوا إذن
أبدا. فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي.
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ
ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ..
ولكن الله
يمهلهم رحمة بهم ، ويؤخر عنهم الهلاك الذي يستعجلون به ، ولكنه لن يهملهم :
(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ
لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ..
موعد في الدنيا
يحل بهم فيه شيء من العذاب. وموعد في الآخرة يوفون فيه الحساب.
ولقد ظلموا
فكانوا مستحقين للعذاب أو الهلاك كالقرى قبلهم. لو لا أن الله قدر إمهالهم إلى
موعدهم ، لحكمة اقتضتها إرادته فيهم ، فلم يأخذهم أخذ القرى ؛ بل جعل لهم موعدا
آخر لا يخلفونه :
(وَتِلْكَ الْقُرى
أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا. وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ..
فلا يغرنهم
إمهال الله لهم ، فإن موعدهم بعد ذلك آت. وسنة الله لا تتخلف. والله لا يخلف
الميعاد ..
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما
نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا
قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ
إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ
إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣)
قالَ
ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى
أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ
إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧)
وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨)
قالَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي
السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢)
قالَ
لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
فَانْطَلَقا
حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥)
قالَ
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧)
قالَ
هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
وَأَمَّا
الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً
وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)
(٨٢)
هذه الحلقة من
سيرة موسى ـ عليهالسلام ـ لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة. والقرآن لا يحدد
المكان الذي وقعت فيه إلا بأنه (مَجْمَعَ
الْبَحْرَيْنِ) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى ، هل كان
ذلك وهو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها؟ ومتى بعد الخروج : قبل
أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة ، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون
لأن فيها قوما جبارين؟ أم بعد ذهابهم في التيه ، مفرقين مبددين؟
كذلك لا يذكر
القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى. من هو؟ ما اسمه؟ هل هو نبي أو رسول؟ أم
عالم؟ أم ولي؟
وهناك روايات
كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة. ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن. لنعيش
«في ظلال القرآن» ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به ، دون زيادة
، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء ، حكمة خاصة. فنقف نحن عند النص القرآني
نتملاه ..
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ : لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً) ..
والأرجح ـ والله
أعلم ـ أنه مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم. أي البحر الأبيض والبحر الأحمر
.. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو أنه مجمع
خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل
بعد خروجهم من مصر. وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة .
ونفهم من سياق
القصة فيما بعد ـ أنه كان لموسى ـ عليهالسلام ـ هدف من رحلته هذه التي اعتزمها ، وأنه كان يقصد من ورائها أمرا ، فهو
يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة ، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه
في الوصول. وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) والحقب قيل عام ، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو
تعبير عن التصميم ، لا عن المدة على وجه التحديد.
(فَلَمَّا بَلَغا
مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ
سَرَباً. فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ : آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ
سَفَرِنا هذا نَصَباً. قالَ : أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ..) ..
والأرجح كذلك
أن هذا الحوت كان مشوبا ، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سربا كان آية من آيات
الله لموسى ، يعرف بهما موعده ، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر ، ولو
كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب. ويرجح هذا الوجه أن الرحلة
كلها مفاجآت غيبية. فهذه إحداها.
وأدرك موسى أنه
جاوز الموعد الذي حدده ربه له للقاء عبده الصالح. وأنه هنالك عند الصخرة ثم عاد
على أثره هو وفتاه فوجداه :
(قالَ : ذلِكَ ما
كُنَّا نَبْغِ. فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ
عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ..
ويبدو أن ذلك
اللقاء كان سر موسى وحده مع ربه ، فلم يطلع عليه فتاه حتى لقياه. ومن ثم ينفرد
موسى والعبد الصالح في المشاهد التالية للقصة :
(قالَ لَهُ مُوسى :
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟).
__________________
بهذا الأدب
اللائق بنبي ، يستفهم ولا يجزم ، ويطلب العلم الراشد من العبد الصالح العالم.
ولكن علم الرجل
ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج ، إنما هو جانب من العلم
اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده ، للحكمة التي أرادها. ومن ثم
فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبيا رسولا. لأن هذه التصرفات
حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي ، وبالأحكام الظاهرة ، ولا بد من إدراك ما
وراءها من الحكمة المغيبة ؛ وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار. لذلك يخشى العبد
الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته :
(قالَ : إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟).
ويعزم موسى على
الصبر والطاعة ، ويستعين الله ، ويقدم مشيئته :
(قالَ : سَتَجِدُنِي
إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ..
فيزيد الرجل
توكيدا وبيانا ، ويذكر له شرط صحبته قبل بدء الرحلة ، وهو أن يصبر فلا يسأل ولا
يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له عن سرها :
(قالَ : فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).
ويرضى موسى ..
وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما :
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) ..
سفينة تحملهما
وتحمل معهما ركابا ، وهم في وسط اللجة ؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة!
إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى
هذا الشر ؛ فلما ذا يقدم الرجل على هذا الشر؟
لقد نسي موسى
ما قاله هو وما قاله صاحبه ، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر
المنطق العقلي! والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد ، ولكنه عند ما يصطدم
بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور
النظري. فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد. وها هو ذا موسى الذي نبه
من قبل إلى أنه لا يستطيع صبرا على ما لم يحط به خبرا ، فاعتزم الصبر واستعان
بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط. ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا
الرجل فيندفع مستنكرا.
نعم إن طبيعة
موسى طبيعة انفعالية اندفاعية ، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته. منذ أن وكز
الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله في اندفاعة من اندفاعاته. ثم
أناب إلى ربه مستغفرا معتذرا حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع
مصري آخر ، هم بالآخر مرة أخرى !
نعم إن طبيعة
موسى هي هذه الطبيعة. ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي
قطعه أمام غرابتها. ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية
وقعا وطعما غير التصور النظري. ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها
وجربتها.
ومن هنا اندفع
موسى مستنكرا :
(قالَ : أَخَرَقْتَها
لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).
__________________
وفي صبر ولطف
يذكره العبد الصالح بما كان قد قاله منذ البداية :
(قالَ : أَلَمْ أَقُلْ
: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟).
ويعتذر موسى
بنسيانه ، ويطلب إلى الرجل أن يقبل عذره ولا يرهقه بالمراجعة والتذكير :
(قالَ : لا
تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) ..
ويقبل الرجل
اعتذاره ، فنجدنا أمام المشهد الثاني :
(فَانْطَلَقا. حَتَّى
إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ..).
وإذا كانت
الأولى خرق سفينة واحتمال غرق من فيها ؛ فهذه قتل نفس. قتل عمد لا مجرد احتمال.
وهي فظيعة كبيرة لم يستطع موسى أن يصبر عليها على الرغم من تذكره لوعده :
(قالَ : أَقَتَلْتَ
نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً).
فليس ناسيا في
هذه المرة ولا غافلا ؛ ولكنه قاصد. قاصد أن ينكر هذا النكر الذي لا يصبر على وقوعه
ولا يتأول له أسبابا ؛ والغلام في نظره بريء. لم يرتكب ما يوجب القتل ، بل لم يبلغ
الحلم حتى يكون مؤاخذا على ما يصدر منه.
ومرة أخرى يرده
العبد الصالح إلى شرطه الذي شرط ووعده الذي وعد ، ويذكره بما قال له أول مرة. والتجربة
تصدقه بعد التجربة : (قالَ : أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ..
وفي هذه المرة
يعين أنه قال له : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟) لك أنت على التعيين والتحديد. فلم تقتنع وطلبت الصحبة
وقبلت الشرط.
ويعود موسى إلى
نفسه ، ويجد أنه خالف عن وعده مرتين ، ونسي ما تعهد به بعد التذكير والتفكير.
فيندفع ويقطع على نفسه الطريق ، ويجعلها آخر فرصة أمامه :
(قالَ : إِنْ
سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي
عُذْراً).
وينطلق السياق
فإذا نحن أمام المشهد الثالث :
(فَانْطَلَقا. حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) ..
إنهما جائعان ،
وهما في قرية أهلها بخلاء ، لا يطعمون جائعا ، ولا يستضيفون ضيفا. ثم يجد أن جدارا
مائلا يهم أن ينقض. والتعبير يخلع على الجدار حياة وإرادة كالأحياء فيقول : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) فإذا الرجل الغريب يشغل نفسه بإقامة الجدار دون مقابل!!!
وهنا يشعر موسى
بالتناقض في الموقف. ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جدارا يهم
بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان ، وقد أبوا أن
يستضيفوهما؟ أفلا أقل من أن يصب عليه أجرا يأكلان منه؟
(قالَ : لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)!
وكانت هي
الفاصلة. فلم يعد لموسى من عذر ، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال :
(قالَ : هذا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْراً) .
وإلى هنا كان
موسى ـ ونحن الذين نتابع سياق القرآن ـ أمام مفاجآت متوالية لا نعلم لها سرا.
وموقفنا منها كموقف موسى. بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات
العجيبة ، فلم ينبئنا القرآن باسمه ، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا. وما قيمة
اسمه؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا ، التي لا ترتب النتائج القريبة
على المقدمات المنظورة ، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة. فعدم
ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها. وإن القوى الغيبية لتتحكم في
القصة منذ نشأتها. فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود. فيمضي في طريقه
؛ ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة ، وكأنما نسيه ليعودا. فيجد هذا الرجل هناك.
وكان لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما ، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة
أخرى .. كل الجو غامض مجهول ، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن.
ثم يأخذ السر
في التجلي ..
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ؛
وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً).
فبهذا العيب
نجت السفينة من أن يأخذها ذلك الملك الظالم غصبا. وكان الضرر الصغير الذي أصابها
اتقاء للضرر الكبير الذي يكنه الغيب لها لو بقيت على سلامتها.
(وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً.
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) ..
فهذا الغلام
الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل ، قد كشف ستر الغيب عن حقيقته للعبد
الصالح ، فإذا هو في طبيعته كافر طاغ ، تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان ، وتزيد
على الزمن بروزا وتحققا .. فلو عاش لأرهق والديه المؤمنين بكفره وطغيانه ، وقادهما
بدافع حبهما له أن يتبعاه في طريقه. فأراد الله ووجه إرادة عبده الصالح إلى قتل
هذا الغلام الذي يحمل طبيعة كافرة طاغية ، وأن يبدلهما الله خلفا خيرا منه ، وأرحم
بوالديه.
ولو كان الأمر
موكولا إلى العلم البشري الظاهر ، لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام ، ولما كان
له عليه من سلطان ، وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعا. وليس لغير الله
ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس.
ولا أن يرتب على هذا العلم حكما غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة. ولكنه أمر
الله القائم على علمه بالغيب البعيد.
(وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ
لَهُما ، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
.. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) ..
فهذا الجدار
الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية ـ وهما جائعان
وأهل القرية لا يضيفونهما ـ كان يخبىء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين
يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع
الصغيران أن يدفعا عنه .. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في
طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران
على حمايته.
__________________
ثم ينفض الرجل
يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد
أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه
عليه من غيبه (رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ..
فالآن ينكشف
الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من
ارتضى.
وفي دهشة السر
المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا. لقد مضى في المجهول كما
خرج من المجهول. فالقصة تمثل الحكمة الكبرى. وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا
بمقدار. ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار.
* * *
وهكذا ترتبط ـ في
سياق السورة ـ قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي
يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار
، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار ...
انتهى الجزء الخامس عشر
ويليه الجزء السادس عشر
مبدوءا بقوله تعالى :
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ...)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بقيّة
سورة الكهف
وسورتا
مريم وطه
الجزء السّادس عشر
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا
وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
(٧٩) وَأَمَّا
الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا
(٨٠) فَأَرَدْنَا
أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا
(٨١) وَأَمَّا
الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ
وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ
أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ
تَسْطِع
عَّلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) وَيَسْأَلُونَكَ عَن
ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا
(٨٣) إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
(٨٤) فَأَتْبَعَ
سَبَبًا
(٨٥) حَتَّى
إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ
عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا
أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا
(٨٦) قَالَ
أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ
فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا
(٨٧) وَأَمَّا
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ
أَمْرِنَا يُسْرًا
(٨٨) ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ
مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن
دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ
أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ
خُبْرًا
(٩١) ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ
بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
(٩٤) قَالَ
مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ
رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا
سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا
(٩٦) فَمَا
اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا
اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
(٩٧) قَالَ
هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ
وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي
بَعْضٍ
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
(٩٩) وَعَرَضْنَا
جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
__________________
لِّلْكَافِرِينَ
عَرْضًا (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي
غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا
(١٠١) أَفَحَسِبَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي
مِن
دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا
(١٠٢) قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
(١٠٣) الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ
صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ
جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا
آيَاتِي
وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
(١٠٧) خَالِدِينَ
فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا
(١٠٨) قُل
لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا
لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا
(١٠٩) قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَدًا) (١١٠)
هذا الدرس
الأخير في سورة الكهف قوامه قصة ذي القرنين ، ورحلاته الثلاث إلى الشرق وإلى الغرب
وإلى الوسط ، وبناؤه للسد في وجه يأجوج ومأجوج.
والسياق يحكي
عن ذي القرنين قوله بعد بناء السد : (قالَ : هذا رَحْمَةٌ مِنْ
رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي
حَقًّا) .. ثم يعقب الوعد الحق ، بالنفخ في الصور ومشهد من
مشاهد القيامة .. ثم تختم السورة بثلاثة مقاطع ، يبدأ كل مقطع منها : بقوله : (قُلْ).
وهذه المقاطع
تلخص موضوعات السورة الرئيسية واتجاهاتها العامة. وكأنما هي الإيقاعات الأخيرة
القوية في اللحن المتناسق ..
* * *
وتبدأ قصة ذي
القرنين على النحو التالي :
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ. قُلْ : سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) ..
وقد ذكر محمد
بن إسحاق سبب نزول هذه السورة فقال : «حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع
وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : «بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة
بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم
صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم
الأنبياء .. فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم
لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال : فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم
بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر
الأول. ما كان من أمرهم؟ فإنهم كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق
الأرض ومغاربها. ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي
فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .. فأقبل
النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم
وبين محمد. قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ... فأخبروهم بها. فجاءوا رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالوا : يا محمد أخبرنا .. فسألوه عما أمرهم به. فقال لهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «أخبركم غدا عما سألتم عنه» ـ ولم يستثن ـ فانصرفوا عنه. ومكث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل عليهالسلام ، حتى أرجف أهل مكة ؛ وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم
خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مكث الوحي عنه ؛ وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل ـ عليهالسلام ـ من الله عزوجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم
، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله عزوجل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ ...) الآية.
هذه رواية ..
وقد وردت عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة ،
ذكرها العوفي. وذلك أن اليهود قالوا للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أخبرنا عن الروح. وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله؟
ولم يكن نزل عليه شيء. فلم يحر إليهم شيئا. فأتاه جبريل فقال له : (قُلِ : الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ،
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) .. إلى آخر الرواية.
ولتعدد
الروايات في أسباب النزول ، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن. ومن هذا
النص نعلم أنه كان هناك سؤال عن ذي القرنين. لا ندري ـ على وجه التحقيق ـ من الذي
سأله. والمعرفة به لا تزيد شيئا في دلالة القصة. فلنواجه النص بلا زيادة.
إن النص لا
يذكر شيئا عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه. وهذه هي السمة المطردة في
قصص القرآن. فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود. إنما المقصود هو العبرة المستفادة
من القصة. والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان.
والتاريخ
المدون يعرف ملكا اسمه الإسكندر ذو القرنين. ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين
المذكور في القرآن. فالإسكندر الإغريقي كان وثنيا. وهذا الذي يتحدث عنه القرآن
مؤمن بالله موحد معتقد بالبعث والآخرة.
ويقول أبو
الريحان البيروني المنجم في كتاب : «الآثار الباقية عن القرون الخالية» إن ذا
القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلا باسمه. فملوك حمير كانوا يلقبون
بذي. كذي نواس وذي يزن. وكان اسمه أبو بكر بن أفريقش. وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل
البحر الأبيض المتوسط ، فمر بتونس ومراكش وغيرهما ؛ وبنى مدينة إفريقية فسميت
القارة كلها باسمه. وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس.
__________________
وقد يكون هذا
القول صحيحا. ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه. ذلك أنه لا يمكن البحث في التاريخ
المدون عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفا من سيرته ، شأنه شأن كثير من القصص
الوارد في القرآن كقصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم. فالتاريخ مولود حديث
العهد جدا بالقياس إلى عمر البشرية. وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة
لا يعرف عنها شيئا : فليس هو الذي يستفتى فيها!
ولو قد سلمت
التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث. ولكن
التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير. وشحنت كذلك بالروايات التي
لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله. فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا
لما ورد فيها من القصص التاريخي.
وإذن فلم يبق
إلا القرآن. الذي حفظ من التحريف والتبديل. هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص
التاريخي.
ومن البديهي
أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين :
أولهما : أن
التاريخ مولود حديث العهد ، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية ، لم يعلم عنها
شيئا. والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها!
وثانيهما : أن
التاريخ ـ وإن وعى بعض هذه الأحداث ـ هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب
جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف. ونحن نشهد في زماننا هذا ـ الذي
تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص ـ أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى
على أوجه شتى ، وينظر إليه من زوايا مختلفة ، ويفسر تفسيرات متناقضة. ومن مثل هذا
الركام يصنع التاريخ ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق!
فمجرد الكلام
عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص ، كلام تنكره القواعد
العلمية المقررة التي ارتضاها البشر ، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن
هو القول الفصل. وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن ، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي
على السواء. إنما هو مراء!!!
* * *
لقد سأل سائلون
عن ذي القرنين. سألوا الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته. وليس أمامنا مصدر آخر غير
القرآن في هذه السيرة. فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم. وقد وردت في التفاسير
أقوال كثيرة ، ولكنها لا تعتمد على يقين. وينبغي أن تؤخذ بحذر ، لما فيها من
إسرائيليات وأساطير.
وقد سجل السياق
القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات : واحدة إلى المغرب ، وواحدة إلى المشرق ، وواحدة
إلى مكان بين السدين .. فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث.
* * *
يبدأ الحديث عن
ذي القرنين بشيء عنه :
(إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) ..
لقد مكن الله
له في الأرض ، فأعطاه سلطانا وطيد الدعائم ؛ ويسر له أسباب الحكم والفتح. وأسباب
البناء والعمران ، وأسباب السلطان والمتاع .. وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا
فيه في هذه الحياة.
(فَأَتْبَعَ سَبَباً). ومضى في وجه مما هو ميسر له ، وسلك طريقه إلى الغرب.
(حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ، وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً. قُلْنا : يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ : أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ،
ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا
يُسْراً).
ومغرب الشمس هو
المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب عنده وراء الأفق. وهو يختلف بالنسبة
للمواضع. فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف جبل. وفي بعض المواضع
يرى أنها تغرب في الماء كما في المحيطات الواسعة والبحار. وفي بعض المواضع يرى
أنها تغرب في الرمال إذا كان في صحراء مكشوفة على مد البصر ..
والظاهر من
النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطىء المحيط الأطلسي ـ وكان يسمى
بحر الظلمات ويظن أن اليابسة تنتهي عنده ـ فرأى الشمس تغرب فيه.
والأرجح أنه
كان عند مصب أحد الأنهار. حيث تكثر الأعشاب ويتجمع حولها طين لزج هو الحمأ. وتوجد
البرك وكأنها عيون الماء .. فرأى الشمس تغرب هناك و (وَجَدَها تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .. ولكن يتعذر علينا تحديد المكان ، لأن النص لا يحدده.
وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في تحديده. وكل قول غير هذا ليس مأمونا
لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح.
عند هذه الحمئة
وجد ذو القرنين قوما : (قُلْنا : يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً).
كيف قال الله
هذا القول لذي القرنين؟ أكان ذلك وحيا إليه أم إنه حكاية حال. إذ سلطه الله على
القوم ، وترك له التصرف في أمرهم فكأنما قيل له : دونك وإياهم. فإما أن تعذب وإما
أن تتخذ فيهم حسنا؟ كلا القولين ممكن ، ولا مانع من فهم النص على هذا الوجه أو
ذاك. والمهم أن ذا القرنين أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة ، التي دان له
أهلها وسلطه الله عليها.
(قالَ : أَمَّا مَنْ
ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً
نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ،
وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً).
أعلن أن
للمعتدين الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه ، وأنهم بعد ذلك يردون إلى ربهم فيعذبهم
عذابا فظيعا (نُكْراً) لا نظير له فيما يعرفه البشر. أما المؤمنون الصالحون
فلهم الجزاء الحسن ، والمعاملة الطيبة ، والتكريم والمعونة والتيسير.
وهذا هو دستور
الحكم الصالح. فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند
الحاكم. والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء .. وحين يجد المحسن في
الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسنا ، ومكانا كريما وعونا وتيسيرا ؛ ويجد المعتدي جزاء
إفساده عقوبة وإهانة وجفوة .. عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج. أما
حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة
؛ وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون. فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم
سوط عذاب وأداة إفساد. ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد.
* * *
ثم عاد ذو
القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق ، ممكنا له في الأرض ، ميسرة له الأسباب :
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ
لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما
لَدَيْهِ خُبْراً).
وما قيل عن
مغرب الشمس يقال عن مطلعها. فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي. والقرآن
لم يحدد المكان. ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذي وجدهم ذو القرنين هناك : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ
وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) .. أي إنها أرض مكشوفة ، لا تحجبها عن الشمس مرتفعات
ولا أشجار. فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر .. وهذا الوصف ينطبق على
الصحارى والسهوب الواسعة. فهو لا يحدد مكانا بعينه. وكل ما نرجحه أن هذا المكان
كان في أقصى الشرق حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على هذه الأرض المستوية المكشوفة
، وقد يكون ذلك على شاطىء إفريقية الشرقي. وهناك احتمال لأن يكون المقصود بقوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها
سِتْراً) أنهم قوم عراة الأجسام لم يجعل لهم سترا من الشمس ...
ولقد أعلن ذو
القرنين من قبل دستوره في الحكم ، فلم يتكرر بيانه هنا ، ولا تصرفه في رحلة المشرق
لأنه معروف من قبل ، وقد علم الله كل ما لديه من أفكار واتجاهات.
ونقف هنا وقفة
قصيرة أمام ظاهرة التناسق الفني في العرض .. فإن المشهد الذي يعرضه السياق هو مشهد
مكشوف في الطبيعة : الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر. وكذلك ضمير ذي القرنين
ونواياه كلها مكشوفة لعلم الله .. وكذلك يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ضمير ذي
القرنين على طريقة التنسيق القرآنية الدقيقة.
* * *
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً. قالُوا : يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ
تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟ قالَ : ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي
زُبَرَ الْحَدِيدِ. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ : انْفُخُوا.
حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ : آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا
اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قالَ : هذا رَحْمَةٌ
مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، وَكانَ وَعْدُ
رَبِّي حَقًّا).
ونحن لا نستطيع
أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) ولا ما هما هذان السدان. كل ما يؤخذ من النص أنه وصل
إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين ، أو بين سدين صناعيين. تفصلهما فجوة أو ممر. فوجد
هنالك قوما متخلفين : (لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً).
وعند ما وجدوه
فاتحا قويا ، وتوسموا فيه القدرة والصلاح .. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه
يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين ، ويغيرون عليهم من ذلك الممر ،
فيعيثون في أرضهم فسادا ؛ ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم .. وذلك في مقابل خراج من
المال يجمعونه له من بينهم.
وتبعا للمنهج
الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم
عرضهم الذي عرضوه من المال ؛ وتطوع بإقامة السد ؛ ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي
ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين ؛ فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه
بقوتهم المادية والعضلية : (فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) .. فجمعوا له قطع الحديد ، وكومها في الفتحة بين
الحاجزين ، فأصبحا
كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما. (حَتَّى إِذا ساوى
بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) وأصبح الركام بمساواة القمتين (قالَ : انْفُخُوا) على النار لتسخين الحديد (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ
ناراً) كله لشدة توهجه واحمراره (قالَ : آتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي نحاسا مذابا يتخلل الحديد ، ويختلط به فيزيده صلابة.
وقد استخدمت
هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد ؛ فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف
مقاومته وصلابته. وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين ، وسجله في كتابه الخالد
سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.
بذلك التحم
الحاجزان ، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ) ويتسوروه (وَمَا اسْتَطاعُوا
لَهُ نَقْباً) فينفذوا منه. وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم
الضعاف المتخلفين. فأمنوا واطمأنوا .
ونظر ذو
القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولم تسكره نشوة
القوة والعلم. ولكنه ذكر الله فشكره. ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه. وتبرأ
من قوته إلى قوة الله ، وفوض إليه الأمر ، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز
والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا.
(قالَ : هذا رَحْمَةٌ
مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ. وَكانَ وَعْدُ رَبِّي
حَقًّا) ..
وبذلك تنتهي
هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. النموذج الطيب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في
الأرض ، وييسر له الأسباب ؛ فيجتاح الأرض شرقا وغربا ؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ،
ولا يطغى ولا يتبطر ، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد
والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ؛ ولا يسخر أهلها في
أغراضه وأطماعه .. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ
عنهم العدوان دون مقابل ؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح ،
ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل
الله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله.
* * *
وبعد فمن يأجوج
ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون!
كل هذه أسئلة
تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ،
وفي بعض الأثر الصحيح.
والقرآن يذكر
في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
وهذا النص لا
يحدد زمانا. ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ،
وانساحوا في الأرض ، ودمروا الممالك تدميرا.
__________________
وفي موضع آخر
في سورة الأنبياء : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ ...).
وهذا النص كذلك
لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة
قد وقع منذ زمن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فجاء في القرآن : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر. فقد تمر
بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون ، يراها البشر طويلة مديدة ،
وهي عند الله ومضة قصيرة.
وإذن فمن
الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ) ويومنا هذا. وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت
الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج.
وهناك حديث
صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة
بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش ـ زوج النبي صلىاللهعليهوسلم ـ قالت : استيقظ الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول : «ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم
من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وحلق (بإصبعيه السبابة والإبهام). قلت : يا رسول
الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم إذا كثر الخبيث».
وقد كانت هذه
الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن. وقد وقعت غارات التتار بعدها ، ودمرت
ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك
العباسيين. وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعلم ذلك عند الله. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين.
* * *
ثم نعود إلى
سياق السورة. فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة.
(وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً ؛ وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ، الَّذِينَ
كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ
سَمْعاً).
وهو مشهد يرسم
حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض. ومن كل جيل وزمان وعصر ، مبعوثين
منشرين. يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه ، تتدافع جموعهم تدافع الموج
وتختلط اختلاط الموج .. ثم إذا نفخة التجمع والنظام : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً) فإذا هم في الصف في نظام! ثم إذا الكافرون الذين أعرضوا
عن ذكر الله حتى لكأن على عيونهم غطاء ، ولكأن في أسماعهم صمما .. إذا بهؤلاء تعرض
عليهم جهنم فلا يعرضون عنها كما كانوا يعرضون عن ذكر الله. فما يستطيعون اليوم إعراضا.
لقد نزع الغطاء عن عيونهم نزعا فرأوا عاقبة الإعراض والعمى جزاء وفاقا!
والتعبير ينسق
بين الإعراض والعرض متقابلين في المشهد ، متقابلين في الحركة على طريقة التناسق
الفني في القرآن.
ويعقب على هذا
التقابل بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة :
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ. إِنَّا أَعْتَدْنا
جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) ..
__________________
أفحسب الذين
كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له أنصارا لهم من دونه ، ينصرونهم منه
ويدفعون عنهم سلطانه؟ إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) .. ويا له من نزل مهيأ للاستقبال ، لا يحتاج إلى جهد
ولا انتظار. فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار!
* * *
ثم تختم السورة
بالإيقاعات الأخيرة ، تلخص خطوطها الكثيرة ، وتجمع إيقاعاتها المتفرقة :
فأما الإيقاع
الأول فهو الإيقاع حول القيم والموازين كما هي في عرف الضالين ، وكما هي على وجه
اليقين .. قيم الأعمال وقيم الأشخاص ..
(قُلْ : هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً؟ أُولئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).
(قُلْ : هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) الذين لا يوجد من هم أشد منهم خسرانا؟ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) فلم يؤد بهم إلى الهدى ، ولم ينته بهم إلى ثمرة أو غاية
: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) لأنهم من الغفلة بحيث لا يشعرون بضلال سعيهم وذهابه سدى
، فهم ماضون في هذا السعي الخائب الضال ، ينفقون حياتهم فيه هدرا ..
قل هل ننبئكم
من هم هؤلاء؟
وعند ما يبلغ
من استتارة التطلع والانتظار إلى هذا الحد يكشف عنهم فإذا هم :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ..
وأصل الحبوط هو
انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها .. وهو أنسب شيء
لوصف الأعمال .. إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة .. ثم تنتهي إلى
البوار!
(أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) .. (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ..
فهم مهملون ،
لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولهم بعد ذلك جزاؤهم :
(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً).
ويتم التعاون
في المشهد بعرض كفة المؤمنين في الميزان وقيمتهم :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً.
خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) ..
وهذا النزل في
جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار جهنم. وشتان شتان!
ثم هذه اللفتة
الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) .. وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة
..
إنهم خالدون في
جنات الفردوس .. ولكن النفس البشرية حوّل قلب. تمل الاطراد ، وتسأم البقاء على حال
واحدة أو مكان واحد ؛ وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه.
وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه. بل قد تنتهي إلى الضيق به ؛ والرغبة في
الفرار منه!
__________________
هذه هي الفطرة
التي فطر عليها الإنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض ، ودوره في هذه الخلافة. فهذا
الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله. ومن
ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل ؛ وحب الكشف والاستطاع ، وحب
الانتقال من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، ومن مشهد إلى مشهد ، ومن نظام إلى
نظام .. وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه ، يغير في واقع الحياة ، ويكشف عن مجاهل
الأرض ، ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة .. ومن وراء التغير والكشف
والإبداع ترتقي الحياة وتتطور ؛ وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم
الله.
نعم إنه مركوز
في الفطرة كذلك ألفة القديم ، والتعلق بالمألوف ، والمحافظة على العادة. ولكن ذلك
كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع ، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع.
ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود. إنما هي المقاومة التي تضمن
التوازن مع الاندفاع. وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت
الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال. وخير الفترات هي
فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب ، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز
الحياة. فأما إذا غلب الركود والجمود. فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة ، وهو
الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء.
هذه هي الفطرة
المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض. فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق .. فإن
هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة. ولو بقيت النفس بفطرة الأرض ، وعاشت في هذا النعيم
المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد ، ولا تتحول هي عنه ، ولا يتحول هو عنها لا نقلب
النعيم جحيما لهذه النفس بعد فترة من الزمان ؛ ولأصبحت الجنة سجنا لنزلائها يودون
لو يغادرونه فترة ، ولو إلى الجحيم ، ليرضوا نزعة التغيير والتبديل! ولكن بارئ هذه
النفس ـ وهو أعلم بها ـ يحول رغباتها ، فلا تعود تبغي التحول عن الجنة ، وذلك في
مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد!
* * *
وأما الإيقاع
الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود ؛
ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
(قُلْ : لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي ، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ..
والبحر أوسع
وأغزر ما يعرفه البشر. والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون ؛ وكل ما يسجلون به
علمهم الذي يعتقدون أنه غزير!
فالسياق يعرض
لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه ؛
فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ، ثم إذا
البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد!
وبهذا التصوير
المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود ، ونسبة
المحدود إليه مهما عظم واتسع.
والمعنى الكلي
المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما أوتي
العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في
صور وأشكال وخصائص ونماذج .. ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود ،
فكيف بغير المحدود؟
لذلك يضرب
القرآن الأمثال للناس ؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ،
ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال.
والبحر في هذا
المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعا غزيرا. وهو ـ على سعته وغزارته ـ محدود. وكلمات
الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له ، والذي لا يدرك البشر نهايته ؛ بل لا
يستطيعون تلقيه وتسجيله. فضلا على محاكاته.
ولقد يدرك البشر
الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق ، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي ،
فيحسبون أنهم علموا كل شيء ، أو أنهم في الطريق!
ولكن المجهول
يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها ، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ
، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم!
إن ما يطيق
الإنسان تلقيه وتسجيله من علم الله ضئيل قليل ، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير
المحدود.
فليعلم الإنسان
ما يعلم ؛ وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف .. ولكن ليطامن من غروره العلمي ،
فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادا في يده. وسينفد البحر وكلمات الله
لم تنفد ؛ ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد
..
* * *
وفي ظل هذا
المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة ،
فيرسم أعلى أفق للبشرية ـ وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة. فإذا هو قريب محدود
بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار ، وتنحسر دونه الأنظار :
(قُلْ : إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَمَنْ كانَ
يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ
رَبِّهِ أَحَداً) ..
إنه أفق
الألوهية الأسمى .. فأين هنا آفاق النبوة ، وهي ـ على كل حال ـ آفاق بشرية؟
(قُلْ : إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ...) .. بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى. بشر يستمد من ذلك
المعين الذي لا ينضب. بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه. بشر يتعلم فيعلم
فيعلم .. فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى ، فلينتفع بما يتعلم من
الرسول الذي يتلقى ، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها :
(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) ..
هذا هو جواز
المرور إلى ذلك اللقاء الأثير.
* * *
وهكذا تختم
السورة ـ التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد ـ بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق
والشمول ، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق ، الذي ترتكز عليه
سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير ..
(١٩) سورة مريم مكيّة
وآياتها ثمان وتسعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ
رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
يا
زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ
قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ
لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا
بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
(١٤) وَسَلامٌ
عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)
فَاتَّخَذَتْ
مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً
سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)
قالَتْ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ
كَذلِكِ
قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً
مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ
نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ
تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ
ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ
قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا
(٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢)
وَالسَّلامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)
ما
كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ
يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ
نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)
(٤٠)
يدور سياق هذه
السورة على محور التوحيد ؛ ونفي الولد والشريك ؛ ويلم بقضية البعث القائمة على
قضية التوحيد .. هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة ، كالشأن في السور
المكية غالبا.
والقصص هو مادة
هذه السورة. فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى. فقصة مريم ومولد عيسى. فطرف من قصة
إبراهيم مع أبيه .. ثم تعقبها إشارات إلى النبيين : إسحاق ويعقوب ، وموسى وهرون ،
وإسماعيل ، وإدريس. وآدم ونوح. ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة. ويستهدف
إثبات الوحدانية والبعث ، ونفي الولد والشريك ، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين
من أتباع النبيين.
ومن ثم بعض
مشاهد القيامة ، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث.
واستنكار للشرك
ودعوى الولد ؛ وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة .. وكله
يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل.
وللسورة كلها
جو خاص يظللها ويشيع فيها ، ويتمشى في موضوعاتها ..
إن سياق هذه
السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية .. الانفعالات في النفس البشرية ، وفي «نفس»
الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوره جمادا لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس
ومشاعر وانفعالات ، تشارك في رسم الجو العام للسورة. حيث نرى السماوات والأرض
والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا :
(أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ..
أما الانفعالات
في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيسي فيها
حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة. وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى.
والظل الغالب
في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا) وهو يناجي ربه نجاء : (إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا) .. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة
كثيرا. ويكثر فيها اسم (الرَّحْمنِ). ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حنانا (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً
وَكانَ تَقِيًّا). ومن نعمة الله على عيسى أن جعله برا بوالدته وديعا
لطيفا : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ..
وإنك لتحس
لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال. كما تحس انتفاضات
الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته .. كذلك تحس أن للسورة
إيقاعا موسيقيا خاصا. فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق : رضيا. سريا.
حفيا. نجيا .. فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة
دالا في الغالب. مدّا. ضدّا. إدّا ، هدّا ، أو زايا : عزّا. أزّا.
وتنوع الإيقاع
الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة . فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية
هكذا :
(ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ... إلخ».
وتليها قصة
مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا.
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ
لَها بَشَراً سَوِيًّا) ... إلخ»
إلى أن ينتهي
القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف
نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة ، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون
المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية. على النحو التالي :
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ :
كُنْ فَيَكُونُ) ... إلخ».
__________________
حتى إذا انتهى
التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ : يا
أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) .. إلخ».
حتى إذا جاء
ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ، تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية :
(قُلْ : مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما
يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ ؛ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ
شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) .. إلخ».
وفي موضع
الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال :
(وَقالُوا : اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) ... إلخ».
وهكذا يسير
الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ؛ ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق
مع المعنى في ثنايا السورة ، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى.
* * *
ويسير السياق
مع موضوعات السورة في أشواط ثلاثة :
الشوط الأول
يتضمن قصة زكريا ويحيى ، وقصة مريم وعيسى. والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية
عيسى التي كثر فيها الجدل ، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى.
والشوط الثاني
يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه الله من
ذرية نسلت بعد ذلك أمة. ثم إشارات إلى قصص النبيين ، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من
الغواة ؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء. وينتهي بإعلان الربوبية الواحدة ، التي تعبد بلا شريك
: (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ. هَلْ تَعْلَمُ
لَهُ سَمِيًّا؟)
والشوط الثالث
والأخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث ، ويستعرض بعض مشاهد القيامة. ويعرض صورة من
استنكار الكون كله لدعوى الشرك ، وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون! (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) فنأخذ في الدرس الأول :
* * *
«كاف. ها. يا.
عين. صاد» ..
هذه الأحرف
المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور ، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف
التي يتألف منها هذا القرآن ، فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون
الحروف ويعرفون الكلمات ، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة
المبدعة لهذا القرآن.
وبعدها تبدأ
القصة الأولى. قصة زكريا ويحيى. والرحمة قوامها. والرحمة تظللها. ومن ثم يتقدمها
ذكر الرحمة : (ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) ..
تبدأ القصة
بمشهد الدعاء. دعاء زكريا لربه في ضراعة وفي خفية :
(إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا. قالَ : رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً ، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِ
شَقِيًّا.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ، فَهَبْ
لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ،
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ..
إنه يناجي ربه
بعيدا عن عيون الناس ، بعيدا عن أسماعهم. في عزلة يخلص فيها لربه ، ويكشف له عما
يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال : «رب ..» بلا واسطة حتى ولا حرف
النداء. وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث ،
ويحتاج إلى الشكوى. والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر ، فيستحب لهم أن
يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم. (وَقالَ رَبُّكُمُ :
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق ، ولتطمئن قلوبهم إلى
أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر ؛ وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا
يضام من يلجأ إليه ، ولا يخيب من يتوكل عليه.
وزكريا يشكو
إلى ربه وهن العظم. وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن. فالعظم هو أصلب ما فيه
، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه. ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا. والتعبير
المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة
، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد.
ووهن العظم
واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى
ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه ..
ثم يعقب عليه
بقوله : (وَلَمْ أَكُنْ
بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) معترفا بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه ، فلم
يشق مع دعائه لربه ، وهو في فتوته وقوته. فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب
الله له ويتم نعمته عليه.
فإذا صور حاله
، وقدم رجاءه ، ذكر ما يخشاه ، وعرض ما يطلبه .. إنه يخشى من بعده. يخشاهم ألا
يقوموا على تراثه بما يرضاه. وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها ـ وهو أحد أنبياء
بني إسرائيل البارزين ـ وأهله الذين يرعاهم ـ ومنهم مريم التي كان قيما عليها وهي
تخدم المحراب الذي يتولاه ـ وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه. وهو يخشى
الموالي من ورائه على هذا التراث كله ، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته .. قيل لأنه
يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث ..
(وَكانَتِ امْرَأَتِي
عاقِراً) .. لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده
لوراثته وخلافته.
ذلك ما يخشاه.
فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح ، الذي يحسن الوراثة ، ويحسن القيام على تراثه
وتراث النبوة من آبائه وأجداده : (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ).
ولا ينسى زكريا
، النبي الصالح ، أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) لا جبارا ولا غليظا ، ولا متبطرا ولا طموعا. ولفظة «رضي»
تلقي هذه الظلال. فالرضي الذي يرضى ويرضي. وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله.
ذلك دعاء زكريا
لربه في ضراعة وخفية. والألفاظ والمعاني والظلال والإيقاع الرخي. كلها تشارك في
تصوير مشهد الدعاء.
ثم ترتسم لحظة
الاستجابة في رعاية وعطف ورضى .. فالرب ينادي عبده من الملأ الأعلى : (يا زَكَرِيَّا) .. ويعجل له البشرى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ) ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشره به : (اسْمُهُ يَحْيى). وهو اسم فذ غير مسبوق : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ..
إنه فيض الكرم
الإلهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة ، وناجاه في خفية ، وكشف له عما يخشى ،
وتوجه إليه فيما يرجو. والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث
العقيدة وعلى تدبير المال والقيام على الأهل بما يرضي الله. وعلم الله ذلك من نيته
فأغدق عليه وأرضاه.
وكأنما أفاق
زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فإذا هو
يواجه الواقع .. إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا ، وهن عظمه واشتعل شيبه ، وامرأته
عاقر لم تلد له في فتوته وصباه : فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن ،
ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام : (قالَ : رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا؟).
إنه يواجه
الواقع ، ويواجه معه وعد الله. وإنه ليثق بالوعد ، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون
تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه. وهي حالة نفسية طبيعية. في مثل
موقف زكريا النبي الصالح. الإنسان! الذي لا يملك أن يغفل الواقع ، فيشتاق أن يعرف
كيف يغيره الله!
هنا يأتيه
الجواب عن سؤاله : أن هذا هين على الله سهل. ويذكره بمثل قريب في نفسه : في خلقته
هو وإيجاده بعد أن لم يكن. وهو مثل لكل حي ، ولكل شيء في هذا الوجود :
(قالَ : كَذلِكَ قالَ
رَبُّكَ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ
شَيْئاً).
وليس في الخلق
هين وصعب على الله. ووسيلة الخلق للصغير والكبير ، وللحقير والجليل واحدة : كن.
فيكون.
والله هو الذي
جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل ؛ وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة
سبب العقم ، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل. وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء
الحياة ابتداء. وإن كان كل شيء هينا على القدرة : إعادة أو إنشاء.
ومع ذلك فإن
لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلا.
فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة ..
ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلاما .. وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس
ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه ، ويحتبس إذا كلم الناس ، وهو
سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة.
(قالَ : آيَتُكَ
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) ..
وكان ذلك :
(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ
مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ..
ذلك ليعيشوا في
مثل الجو الذي يعيش فيه ، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده.
* * *
ويترك السياق
زكريا في صمته وتسبيحه ، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح
الصفحة الجديدة على يحيى ؛ يناديه ربه من الملأ الأعلى :
(يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ...).
لقد ولد يحيى
وترعرع وصار صبيا ، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين. على طريقة القرآن
في عرضه الفني للقصص ، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد ، وأشدها حيوية وحركة.
وهو يبدأ بهذا
النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة. لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم ،
يدل على مكانة يحيى ، وعلى استجابة الله لزكريا ، في أن يجعل له من ذريته وليا ،
يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة. فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف
انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى. (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) .. والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى ،
وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون. وقد ورث يحيى أباه زكريا ، ونودي
ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم ، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن
تكاليف الوراثة ..
وبعد النداء
يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى :
(وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا ، وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً ، وَكانَ تَقِيًّا) ..
فهذه هي
المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عند ما ناداه
..
آتاه الحكمة
صبيا. فكان فذا في زاده ، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة.
ولكن يحيى قد زود بها صبيا.
وآتاه الحنان
هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه ؛ إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به. والحنان صفة
ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس ، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق.
وآتاه الطهارة
والعفة ونظافة القلب والطبع ؛ يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس ، فيطهرها
ويزكيها.
(وَكانَ تَقِيًّا) موصولا بالله ، متحرجا معه ، مراقبا له ، يخشاه ويستشعر
رقابته عليه في سره ونجواه.
ذلك هو الزاد
الذي آتاه الله يحيى في صباه ، ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا.
فاستجاب له ربه ووهب له غلاما زكيا ..
وهنا يسدل
الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا. وقد رسم الخط الرئيسي في حياته ، وفي
منهجه ، وفي اتجاهه. وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له ، وفي
نداء يحيى وما زوده الله به. ولم يعد في تفصيلات القصة بعد ذلك ما يزيد شيئا في
عبرتها ومغزاها ..
* * *
والآن فإلى قصة
أعجب من قصة ميلاد يحيى. إنها قصة ميلاد عيسى. وقد تدرج السياق من القصة الأولى
ووجه العجب فيها هو ولادة العاقر من بعلها الشيخ ، إلى الثانية ووجه العجب فيها هو
ولادة العذراء من غير بعل! وهي أعجب وأغرب.
وإذا نحن
تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا وإنشائه على هذه الصورة ، فإن حادث ولادة عيسى ابن
مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله ، ويكون حادثا فذا لا نظير له من
قبله ولا من بعده.
والبشرية لم
تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لم تشهد خلق الإنسان الأول من
غير أب وأم ، وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث ؛ فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز
العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب ، على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان
على هذه الأرض ، ليشهدها البشر ؛ ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت
إليها الأجيال ، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان!
لقد جرت بسنة
الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع
بلا
استثناء ، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في
الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث .. جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى
استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة ، ونسوا الحادث الأول. حادث وجود
الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم ـ عليهالسلام ـ ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة ، وأنها لا تحتبس داخل النواميس
التي تختارها. ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله ،
وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار
البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة ، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ).
ونظرا لغرابة
الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في
إبرازه ، فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم ـ عليهالسلام ـ صفات ألوهية ، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير ، وتعكس الحكمة من
خلقه على هذا النحو العجيب ، ـ وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد ـ تعكسها
فتشوه عقيدة التوحيد.
والقرآن في هذه
السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة ، ويبرز دلالتها الحقيقية ، وينفي تلك الخرافات
والأساطير.
والسياق يخرج
القصة في مشاهد مثيرة ، حافلة بالعواطف والانفعالات ، التي تهز من يقرؤها هزا
كأنما هو يشهدها :
* * *
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا ،
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ،
فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ : أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟ قالَ : كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ،
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا .. وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) ..
فهذا هو المشهد
الأول ـ فتاة عذراء. قديسة ، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد. لا يعرف عنها
أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد الإسرائيلي المتطهرين ـ
ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم.
ها هي ذي تخلو
إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم .. ولا
يحدد السياق هذا الشأن ، ربما لأنه شأن خاص جدا من خصوصيات الفتاة ..
وها هي ذي في
خلوتها ، مطمئنة إلى انفرادها. ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة .. إنه رجل مكتمل
سوي : (فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) .. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها
رجل في خلوتها ، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستشير مشاعر التقوى في نفس
الرجل ، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي : (قالَتْ : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن ، ويرجع عن دفعة
الشهوة ونزغ الشيطان ..
وهنا يتمثل
الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة ، التي نشأت في وسط صالح ،
وكفلها زكريا ، بعد أن نذرت لله جنينا .. وهذه هي الهزة الأولى.
(قالَ : إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) .. وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل. وهذا
الرجل السوي ـ الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها ـ فقد تكون حيلة فاتك يستغل
طيبتها ـ يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول ، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاما ،
وهما في خلوة ـ وهذه هي الهزة الثانية.
ثم تدركها
شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة : كيف؟
(قالَتْ : أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟) .. هكذا في صراحة. وبالألفاظ المكشوفة. فهي والرجل في
خلوة. والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفا. فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاما؟
وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها : (إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ) ولا أنه مرسل ليهب لها غلاما طاهرا غير مدنس المولد ،
ولا مدنس السيرة ، ليطمئن بالها. لا. فالحياء هنا لا يجدي ، والصراحة أولى .. كيف؟
وهي عذراء لم يمسسها بشر ، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام!
ويبدو من
سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما إلا الوسيلة
المعهودة بين الذكر والأنثى. وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري.
(قالَ : كَذلِكِ قالَ
رَبُّكِ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ، وَرَحْمَةً
مِنَّا) ..
فهذا الأمر
الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه ، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن
فيكون ، كل شيء هين ، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره. والروح يخبرها بأن
ربها يخبّرها بأن هذا هين عليه. وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس ،
وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته. ورحمة لبني إسرائيل أولا وللبشرية جميعا ،
بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.
بذلك انتهى
الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء .. ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار ،
فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة. ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها
غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر ، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله. أن
هذا قد انتهى أمره ، وتحقق وقوعه : (وَكانَ أَمْراً
مَقْضِيًّا) كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئا .
ثم تمضي القصة
في مشهد جديد من مشاهدها ؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولا : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ؛ قالَتْ : يا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) ..
وهذه هي الهزة
الثالثة ..
إن السياق لا
يذكر كيف حملته ولا كم حملته. هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء وتكون النفخة قد
بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم
ويستكمل الجنين أيامه
__________________
المعهودة؟ إن هذا جائز. فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو
حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية ، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة
سيرتها الطبيعية .. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير
البويضة بعد النفخة سيرة عادية ، فتختصر المراحل اختصارا ؛ ويعقبها تكون الجنين
ونموه واكتماله في فترة وجيزة .. ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين. فلا نجري
طويلا وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها ... فلنشهد مريم تنتبذ مكانا قصيّا
عن أهلها ، في موقف أشد هولا من موقفها الذي أسلفنا. فلئن كانت في الموقف الأول
تواجه الحصانة والتربية والأخلاق ، بينها وبين نفسها ، فهي هنا وشيكة أن تواجه
المجتمع بالفضيحة. ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض
الذي «أجاءها» إجاءة إلى جذع النخلة ، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها. وهي
وحيدة فريدة ، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض ، ولا علم لها بشيء ، ولا معين لها
في شيء .. فإذا هي قالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) فإننا لنكاد نرى ملامحها ، ونحس اضطراب خواطرها ، ونلمس
مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت (نَسْياً) : تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض ، ثم تلقى بعد ذلك
وتنسى!
وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة
الكبرى :
(فَناداها مِنْ
تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً
فَقُولِي : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنْسِيًّا) ..
يا لله! طفل
ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها ، ويرشدها إلى طعامها
وشرابها. ويدلها على حجتها وبرهانها!
لا تحزني .. (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) فلم ينسك ولم يتركك ، بل أجرى لك تحت قدميك جدولا ساريا
ـ الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل ـ وهذه النخلة
التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب. والطعام الحلو
مناسب للنفساء. والرطب والتمر من أجود طعام النفساء. (فَكُلِي وَاشْرَبِي) هنيئا. (وَقَرِّي عَيْناً) واطمئني قلبا. فأما إذا واجهت أحدا فأعلنيه بطريقة غير
الكلام ، أنك نذرت للرحمن صوما عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي
أحدا عن سؤال ..
ونحسبها قد
دهشت طويلا ، وبهتت طويلا ، قبل أن تمديدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا
جنيا .. ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها. وإلى أن حجتها معها .. هذا الطفل
الذي ينطق في المهد .. فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها ..
(فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ ..!) .. فلنشهد هذا المشهد المثير :
إننا لنتصور
الدهشة التي تعلو وجوه القوم ـ ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود ـ
وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة ..
يرونها تحمل طفلا!
(قالُوا : يا مَرْيَمُ
لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ
سَوْءٍ ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا!) إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً
فَرِيًّا) فظيعا مستنكرا. ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير : (يا أُخْتَ هارُونَ) النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي
تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل. فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي
تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه! (ما كانَ
أَبُوكِ
امْرَأَ سَوْءٍ ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء
السوء والأمهات البغايا! وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها :
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) .. فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون
عذراء تواجههم بطفل ؛ ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى
الطفل ليسألوه عن سرها!
(قالُوا : كَيْفَ
نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟).
ولكن ها هي ذي
الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى :
(قالَ : إِنِّي عَبْدُ
اللهِ ، آتانِيَ الْكِتابَ ، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ
ما كُنْتُ ، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا
بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ
وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).
وهكذا يعلن
عيسى ـ عليهالسلام ـ عبوديته لله. فليس هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلها كما تدعي فرقة.
وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة .. ويعلن أن الله جعله
نبيا ، لا ولدا ولا شريكا. وبارك فيه ، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته. والبر
بوالدته والتواضع مع عشيرته. فله إذن حياة محدودة ذات أمد. وهو يموت ويبعث. وقد
قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ..
والنص صريح هنا
في موت عيسى وبعثه. وهو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة ولا جدالا.
* * *
ولا يزيد
السياق القرآني شيئا على هذا المشهد. لا يقول : كيف استقبل القوم هذه الخارقة. ولا
ماذا كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب. ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو
يقول :
(آتانِيَ الْكِتابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) .. ذلك أن حادث ميلاد عيسى هو المقصود في هذا الموضع.
فحين يصل به السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في
أنسب موضع من السياق ، بلهجة التقرير ، وإيقاع التقرير :
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ. قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ. سُبْحانَهُ. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ :
كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) ..
ذلك عيسى ابن
مريم ، لا ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لأمه في مولده .. ذلك هو في حقيقته
وذلك واقع نشأته. ذلك هو يقول قول الحق الذي فيه يمترون ويشكون. يقولها لسانه
ويقولها الحال في قصته : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولدا. والولد إنما
يتخذه الفانون للامتداد ، ويتخذه الضعاف للنصرة. والله باق لا يخشى فناء ، قادر لا
يحتاج معينا. والكائنات كلها توجد بكلمة كن. وإذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن
فيكون .. فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين .. وينتهي ما
يقوله عيسى ـ عليهالسلام ـ ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس ، ودعوته إلى عبادة الله
الواحد بلا شريك : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) .. فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام
والأساطير .. وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير.
* * *
وبعد هذا
التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكرا نابيا
في ظل هذه الحقيقة الناصعة :
(فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ..
ولقد جمع
الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الأساقفة ـ وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة
ـ بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا ،
وقالت كل فرقة فيه قولا .. قال بعضهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات
من أمات ثم صعد إلى السماء. وقال بعضهم : هو ابن الله ، وقال بعضهم : هو أحد
الأقانيم الثلاثة : الأب والابن والروح القدس. وقال بعضهم : هو ثالث ثلاثة : الله
إله وهو إله وأمه إله. وقال بعضهم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته. وقالت فرق
أخرى أقوالا أخرى. ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على
قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة
الموحدين.
ولما كانت
العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر
الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله ، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده
جموع أكبر ، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين :
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ
يَأْتُونَنا ، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ).
ويل لهم من ذلك
المشهد في يوم عظيم. بهذا التنكير للتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان :
الإنس والجن ، وتشهده الملائكة ، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار.
ثم يأخذ السياق
في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا. وهم في ذلك المشهد أسمع الناس
وأبصر الناس :
(أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) ..
فما أعجب حالهم!
.. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء
وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما
يتقون في مشهد يوم عظيم!
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ) .. يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء
فيه سواها ، فهي الغالبة على جوه ، البارزة فيه. أنذرهم هذا اليوم الذي لا تنفع
فيه الحسرات : (إِذْ قُضِيَ
الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم ، موصول بالغفلة
التي هم فيها سادرون.
أنذرهم ذلك
اليوم الذي لا شك فيه ؛ فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله ، عودة
الميراث كله إلى الوارث الوحيد! :
(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ..
* * *
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا
تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ
أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ
عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ
رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩)
وَوَهَبْنا
لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١)
وَنادَيْناهُ
مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ
مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ
أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ
مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً
وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ
الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
وَما
نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما
بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ
لَهُ سَمِيًّا)
(٦٥)
انتهت قصة
ميلاد عيسى بكشف ما في أسطورة الولد من نكارة وكذب وضلال ؛ وهي التي يستند إليها
بعض أهل الكتاب في عقائدهم الفاسدة. وتليها في السورة حلقة من قصة إبراهيم تكشف
عما في عقيدة الشرك من نكارة وكذب وضلال كذلك. وإبراهيم هو الذي ينتسب إليه العرب.
ويقول المشركون : إنهم سدنة البيت الذي بناه هو وإسماعيل.
وتبدو في هذه
الحلقة شخصية إبراهيم الرضي الحليم .. تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي
يحكي القرآن الكريم ترجمتها بالعربية ، وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه. كما
تتجلى رحمة الله به وتعويضه عن أبيه وأهله المشركين ذرية صالحة تنسل أمة كبيرة ،
فيها الأنبياء وفيها الصالحون. وقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا
الشهوات ينحرفون عن الصراط الذي سنه لهم أبوهم إبراهيم. هم هؤلاء المشركون ..
ويصف الله
إبراهيم بأنه كان صديقا نبيا. ولفظة صديق تحتمل معنى أنه كثير الصدق وأنه كثير
التصديق. وكلتاهما تناسب شخصية إبراهيم :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ :
يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ
يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ..).
بهذا اللطف في
الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه ، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه ،
وعلمه إياه ؛ وهو يتحبب إليه فيخاطبه : (يا أَبَتِ) ويسأله : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا
يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟) والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى
من الإنسان وأعلم وأقوى. وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى. فكيف
يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان ، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة
الحيوان ، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا. إذ كان أبوه وقومه يعبدون
الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام.
هذه هي اللمسة
الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه. ثم يتبعها بأنه لا يقول هذا من نفسه ،
إنما هو العلم الذي جاءه من الله فهداه. ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة ،
ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف الحق ؛ فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم ،
ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه :
(يا أَبَتِ إِنِّي
قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً
سَوِيًّا) ..
فليست هناك
غضاضة في أن يتبع الوالد ولده ، إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى. فإنما يتبع
ذلك المصدر ، ويسير في الطريق إلى الهدى.
وبعد هذا الكشف
عما في عبادة الأصنام من نكارة ، وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه
في دعوة أبيه .. يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان ، وهو يريد أن يهديه إلى طريق
الرحمن ، فهو يخشى
أن يغضب الله عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان.
(يا أَبَتِ لا
تَعْبُدِ الشَّيْطانَ. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ
إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ
وَلِيًّا).
والشيطان هو
الذي يغري بعبادة الأصنام من دون الله ، فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان
والشيطان عاص للرحمن. وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب الله عليه فيعاقبه فيجعله وليا
للشيطان وتابعا. فهداية الله لعبده إلى الطاعة نعمة ؛ وقضاؤه عليه أن يكون من
أولياء الشيطان نقمة .. نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح يوم يقوم الحساب.
ولكن هذه
الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي ، فإذا أبو
إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد :
(قالَ : أَراغِبٌ
أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).
أراغب أنت عن
آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها؟ أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من
الجراءة؟! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ)! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا. استبقاء لحياتك إن كنت
تريد النجاة : (وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا) ..
بهذه الجهالة
تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى. وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب. وذلك شأن
الإيمان مع الكفر ؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر.
ولم يغضب
إبراهيم الحليم. ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه :
(قالَ : سَلامٌ
عَلَيْكَ. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا.
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى
أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا).
سلام عليك ..
فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد. سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك
بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان ، بل يرحمك فيرزقك الهدى. وقد عودني ربي أن
يكرمني فيجيب دعائي. وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتز
لك أنت وقومك ، وأعتزل ما تدعون من دون الله من الآلهة. وأدعو ربي وحده ، راجيا ـ بسبب
دعائي لله ـ ألا يجعلني شقيا.
فالذي يرجوه
إبراهيم هو مجرد تجنيبه الشقاوة .. وذلك من الأدب والتحرج الذي يستشعره. فهو لا
يرى لنفسه فضلا ، ولا يتطلع إلى أكثر من تجنيبه الشقاوة!
وهكذا اعتزل
إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره ، فلم يتركه الله وحيدا. بل
وهب له ذرية وعوضه خيرا :
(فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ. وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ،
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ..
وإسحاق هو ابن
إبراهيم ، رزقه من سارة ـ وكانت قبله عقيما ـ ويعقوب هو ابن إسحاق : ولكنه يحسب
ولدا لإبراهيم لأن إسحاق رزقه في حياة جده ، فنشأ في بيته وحجره ، وكان كأنه ولده
المباشر ؛ وتعلم ديانته ولقنها بنيه. وكان نبيا كأبيه.
(وَوَهَبْنا لَهُمْ
مِنْ رَحْمَتِنا) إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم .. والرحمة تذكر هنا
لأنها السمة البارزة
في جو السورة ، ولأنها هبة الله التي تعوض إبراهيم عن أهله ودياره ، وتؤنسه
في وحدته واعتزاله.
(وَجَعَلْنا لَهُمْ
لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) .. فكانوا صادقين في دعوتهم ، مسموعي الكلمة في قومهم.
يؤخذ قولهم بالطاعة وبالتبجيل.
* * *
ثم يمضي السياق
مع ذرية إبراهيم : مستطردا مع فرع إسحق فيذكر موسى وهارون :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا. وَنادَيْناهُ
مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ..
فيصف موسى بأنه
كان مخلصا استخلصه الله له ومحضه لدعوته. وكان رسولا نبيا. والرسول هو صاحب الدعوة
من الأنبياء المأمور بإبلاغها للناس. والنبي لا يكلف إبلاغ الناس دعوة إنما هو في
ذاته صاحب عقيدة يتلقاها من الله. وكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون وظيفتهم
القيام على دعوة موسى والحكم بالتوراة التي جاء بها من عند الله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) ..
ويبين فضل موسى
بندائه من جانب الطور الأيمن (الأيمن بالنسبة لموسى إذ ذاك) وتقريبه إلى الله
لدرجة الكلام. الكلام القريب في صورة مناجاة. ونحن لا ندري كيف كان هذا الكلام ،
وكيف أدركه موسى .. أكان صوتا تسمعه الأذن أم يتلقاه الكيان الإنساني كله. ولا
نعلم كيف أعد الله كيان موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي .. إنما نؤمن أنه كان.
وهو على الله هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق ، وهو بشر على بشريته ، وكلام
الله علوي على علويته. ومن قبل كان الإنسان إنسانا بنفخة من روح الله ..
ويذكر رحمة
الله بموسى في مساعدته بإرسال أخيه هارون معه حين طلب إلى الله أن يعينه به (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ). وظل الرحمة هو الذي يظلل جو السورة كله.
ثم يعود السياق
إلى الفرع الآخر من ذرية إبراهيم. فيذكر إسماعيل أبا العرب : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ ،
إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا. وَكانَ يَأْمُرُ
أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) ..
وينوه من صفات
إسماعيل بأنه كان صادق الوعد. وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح ، فلا بد أن هذه
الصفة كانت بارزة في إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص.
وهو رسول فلا
بد أن كانت له دعوة في العرب الأوائل وهو جدهم الكبير. وقد كان في العرب موحدون
أفراد قبيل الرسالة المحمدية ، فالأرجح أنهم بقية الموحدين من أتباع إسماعيل.
ويذكر السياق من أركان العقيدة التي جاء بها الصلاة والزكاة وكان يأمر بهما أهله
.. ثم يثبت له أنه كان عند ربه مرضيا .. والرضى سمة من سمات هذه السورة البارزة في
جوها وهي شبيهة بسمة الرحمة ، وبينهما قرابة!
وأخيرا يختم
السياق هذه الإشارات بذكر إدريس :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا).
ولا نملك نحن
تحديد زمان إدريس. ولكن الأرجح أنه سابق على إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل
فلم يرد ذكره في كتبهم. والقرآن يصفه بأنه كان صديقا نبيا ويسجل له أن الله رفعه
مكانا عليا. فأعلى قدره ورفع ذكره ..
وهناك رأي
نذكره لمجرد الاستئناس به ولا نقرره أو ننفيه ، يقول به بعض الباحثين في الآثار
المصرية ، وهو أن إدريس تعريب لكلمة «أوزريس» المصرية القديمة. كما أن يحيى تعريب
لكلمة يوحنا. وكلمة اليسع تعريب لكلمة اليشع .. وأنه هو الذي صيغت حوله أساطير
كثيرة. فهم يعتقدون أنه صعد إلى السماء وصار له فيها عرش عظيم. وكل من وزنت أعماله
بعد الموت فوجدت حسناته ترجح سيئاته فإنه يلحق بأوزريس الذي جعلوه إلها لهم. وقد
علمهم العلوم والمعارف قبل صعوده إلى السماء.
وعلى أية حال
فنحن نكتفي بما جاء عنه في القرآن الكريم ؛ ونرجح أنه سابق على أنبياء بني
إسرائيل.
* * *
يستعرض السياق
أولئك الأنبياء ، ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين الأتقياء وبين الذين خلفوهم
سواء من مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل .. فإذا المفارقة صارخة والمسافة
شاسعة والهوة عميقة والفارق بعيد بين السلف والخلف :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ، وَمِمَّنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ ، وَمِمَّنْ
هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا. إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا
سُجَّداً وَبُكِيًّا. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ...).
والسياق يقف في
هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ). (وَمِمَّنْ حَمَلْنا
مَعَ نُوحٍ). (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ). فآدم يشمل الجميع ، ونوح يشمل من بعده ، وإبراهيم يشمل
فرعي النبوة الكبيرين : ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل. وإسماعيل وإليه ينتسب العرب
ومنهم خاتم النبيين.
أولئك النبيون
ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم .. صفتهم البارزة : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ
الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) .. فهم أتقياء شديد والحساسية بالله ؛ ترتعش وجداناتهم
حين تتلى عليهم آياته ، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر ،
فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا ..
أولئك الأتقياء
الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله .. خلف من بعدهم خلف ،
بعيدون عن الله. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) فتركوها وجحدوها (وَاتَّبَعُوا
الشَّهَواتِ) واستغرقوا فيها. فما أشد المفارقة ، وما أبعد الشبه بين
أولئك وهؤلاء!
ومن ثم يتهدد
السياق هؤلاء الذين خالفوا عن سيرة آبائهم الصالحين. يتهددهم بالضلال والهلاك : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) والغي الشرود والضلال ، وعاقبة الشرود الضياع والهلاك.
ثم يفتح باب
التوبة على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعمى :
(إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً. جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ.
إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً.
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا. تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) ..
فالتوبة التي
تنشئ الإيمان والعمل الصالح ، فتحقق مدلولها الإيجابي الواضح .. تنجي من ذلك
المصير فلا يلقى أصحابها (غَيًّا) إنما يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا. يدخلون الجنة
للإقامة. الجنة التي وعد الرحمن عباده إياها فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها. ووعد
الله واقع لا يضيع ..
ثم يرسم صورة
للجنة ومن فيها .. (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً إِلَّا سَلاماً) فلا فضول في الحديث ولا ضجة ولا جدال ، إنما يسمع فيها
صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي. صوت السلام .. والرزق في هذه الجنة مكفول لا
يحتاج إلى طلب ولا كد. ولا يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) فما يليق الطلب ولا القلق في هذا الجو الراضي الناعم
الأمين ..
(تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) .. فمن شاء الوراثة فالطريق معروف : التوبة والإيمان
والعمل الصالح. أما وراثة النسب فلا تجدي. فقد ورث قوم نسب أولئك الأتقياء من
النبيّين وممن هدى الله واجتبى ؛ ولكنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فلم
تنفعهم وراثة النسب (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا) ..
* * *
ويختم هذا
الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله ، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها.
ونفي الشبيه والنظير :
(وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ
ذلِكَ ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما ، فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟) ..
وتتضافر
الروايات على أن قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ..) مما أمر جبريل عليهالسلام أن يقوله للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل. فاستوحشت نفسه ،
واشتاقت للاتصال الحبيب. فكلف جبريل أن يقول له : (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا :
(لَهُ ما بَيْنَ
أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو لا ينسى شيئا ، إنما ينزل الوحي عند ما تقتضي حكمته
أن ينزل (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع
إعلان الربوبية له دون سواه :
(رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) .. فلا ربوبية لغيره ، ولا شرك معه في هذا الكون
الكبير.
(فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) .. اعبده واصطبر على تكاليف العبادة. وهي تكاليف
الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود ، والثبات في هذا المرتقى العالي. اعبده
واحشد نفسك وعبىء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي .. إنها مشقة. مشقة
التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل ، ومن كل هاتف ومن كل التفات .. وإنها مع
المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق. ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة ، وإلا بالتجرد
لها ، والاستغراق فيها ، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة. فهي لا تفشي سرها ولا تمنح
عطرها إلا لمن يتجرد لها ، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا.
(فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) .. والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر. إنما هي كل
نشاط : كل حركة. كل خالجة. كل نية. كل اتجاه. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا
كله إلى الله وحده دون سواه. مشقة تحتاج إلى الاصطبار. ليتوجه القلب في كل نشاط من
نشاط الأرض إلى السماء. خالصا من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات ، وشهوات النفس ،
ومواضعات الحياة.
إنه منهج حياة
كامل ، يعيش الإنسان وفقه ، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله
؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء. وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر
والجهد والمعاناة.
فاعبده واصطبر
لعبادته .. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب .. (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟). هل تعرف له نظيرا؟ تعالى الله عن السمي والنظير ..
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ
شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ
أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)
ثُمَّ
نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا
أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
وَكَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
قُلْ
مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا
رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
وَيَزِيدُ
اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ
الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧)
أَطَّلَعَ
الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨)
كَلاَّ
سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما
يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)
كَلاَّ
سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً
لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)
(٩٨)
مضى السياق في
السورة بقصص زكريا ومولد يحيى ؛ ومريم ومولد عيسى ؛ وإبراهيم واعتزاله لأبيه. ومن
خلف بعدهم من المهتدين والضالين ، وبالتعقيب على هذا القصص بإعلان الربوبية
الواحدة ، التي تستحق العبادة بلا شريك ؛ وهي الحقيقة الكبيرة التي يبرزها ذلك
القصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته.
وهذا الدرس
الأخير في السورة يمضي في جدل حول عقائد الشرك وحول إنكار البعث. ويعرض في مشاهد
القيامة مصائر البشر في مواقف حية حافلة بالحركة والانفعال ، يشارك فيها الكون كله
، سماواته وأرضه ، إنسه وجنه ، مؤمنوه وكافروه.
ويتنقل السياق
بمشاهد بين الدنيا والآخرة ، فإذا هما متصلتان. تعرض المقدمة هنا في هذه الأرض ،
وتعرض نتيجتها هنالك في العالم الآخر ، فلا تتجاوز المسافة بضع آيات أو بضع كلمات.
مما يلقي في الحس أن العالمين متصلان مرتبطان متكاملان.
* * *
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ : أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟ أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟ فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمنِ عِتِيًّا. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها
صِلِيًّا. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا.
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).
يبدأ المشهد
بذكر ما يقوله (الْإِنْسانُ) عن البعث. ذلك أن هذه المقولة قالتها صنوف كثيرة من
البشر في عصور مختلفة ؛ فكأنما هي شبهة (الْإِنْسانُ) واعتراضه المتكرر في جميع الأجيال :
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ : أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟) ..
وهو اعتراض
منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى. فأين كان؟ وكيف كان؟ إنه لم يكن ثم كان ؛
والبعث أقرب إلى التصور من النشأة الأولى لو أنه تذكر :
(أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟).
ثم يعقب على
هذا الإنكار والاستنكار بقسم تهديدي. يقسم الله تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله ؛
أنهم سيحشرون ـ بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه :
(فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ) .. ولن يكونوا وحدهم. فلنحشرنهم (وَالشَّياطِينَ) فهم والشياطين سواء. والشياطين هم الذين يوسوسون
بالإنكار ، وبينهما صلة التابع والمتبوع ، والقائد والمقود ..
وهنا يرسم لهم
صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثّو الخزي والمهانة : (ثُمَّ
لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) .. وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي لا يحصيها العد
محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها ، تشهد هولها ويلفحها حرها ، وتنتظر في كل لحظة
أن تؤخذ فتلقى فيها. وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع ..
وهو مشهد ذليل
للمتجبرين المتكبرين ، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتوا وتجبرا :
(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ
مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) .. وفي اللفظ تشديد ، ليرسم بظله وجرسه صورة لهذا الانتزاع ؛ تتبعها صورة
القذف في النار ، وهي الحركة التي يكملها الخيال!
وإن الله ليعلم
من هم أولى بأن يصلوها ، فلا يؤخذ أحد جزافا من هذه الجموع التي لا تحصى. والتي
أحصاها الله فردا فردا :
(ثُمَّ لَنَحْنُ
أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) .. فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين!
وإن المؤمنين
ليشهدون العرض الرهيب : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) فهم يردون فيدنون ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ ؛ ويرون العتاة
ينزعون ويقذفون. (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا) فتزحزح عنهم وينجون منها لا يكادون! (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) ..
* * *
ومن هذا المشهد
المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة ، ويروح فيه المتقون ناجين. ويبقى
الظالمون فيه جاثين .. من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على
المؤمنين ، ويعيرونهم بفقرهم ، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا :
أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟) ..
إنها النوادي
الفخمة والمجامع المترفة ؛ والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور
الفساد. وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من
الإيمان. لا أبهة ولا زينة ، ولا زخرف ، ولا فخامة .. هذه وتلك تتقابلان في هذه
الأرض وتجتمعان!
وتقف الأولى
بمغرياتها الفخمة الضخمة : تقف بمالها وجمالها. بسلطانها وجاهها. بالمصالح تحققها
، والمغانم توفرها ، وباللذائذ والمتاع. وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع ،
تهزأ بالمال والمتاع ، وتسخر من الجاه والسلطان ؛ وتدعو الناس إليها ، لا باسم لذة
تحققها ، ولا مصلحة توفرها ، ولا قربى من حاكم ولا اعتزاز بذي سلطان. ولكن باسم
العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف ، عاطلة من كل زينة ، معتزة بعزة الله دون
سواه .. لا بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والاستهتار ، لا تملك أن
تأجرهم على ذلك كله شيئا في هذه الأرض ، إنما هو القرب من الله ، وجزاؤه الأوفى
يوم الحساب.
وهؤلاء هم سادة
قريش تتلى عليهم آيات الله ـ على عهد الرسول صلىاللهعليهوسلم ـ فيقولون للمؤمنين الفقراء : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟) الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد ، أم الفقراء الذين
يلتفون حوله. أيهم خير مقاما وأحسن ناديا؟ النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد
بن المغيرة وإخوانهم من السادة ، أم بلال وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين؟ أفلو
كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم
في مجتمع قريش ولا خطر؟ وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب؟ ويكون معارضوه هم
أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الاجتماعية البارزة؟.
إنه منطق
الأرض. منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان. وإنها لحكمة الله أن
تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء ، عاطلة من عوامل الإغراء. ليقبل عليها من
يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ؛
وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والزخرف ، ومن يطلب
المال والمتاع.
ويعقب السياق
على قولة الكفار التياهين ، المتباهين بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية
ترجع القلب إلى مصارع الغابرين ، على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها
فاكهين :
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) ..
فلم ينفعهم
أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم. ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك.
ألا إن هذا
الإنسان لينسى. ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر ؛ ومصارع الغابرين من حوله
تلفته بعنف وتنذره وتحذره ، وهو سادر فيما هو فيه ، غافل عما ينتظره مما لقيه من
كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا.
يعقب السياق
بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يدعو عليهم في صورة مباهلة ـ بأن من كان من الفريقين في الضلالة
فليزده الله مما هو فيه ؛ حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة :
(قُلْ : مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما
يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ، وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) ..
فهم يزعمون
أنهم أهدى من أتباع محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنهم أغنى وأبهى. فليكن! وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين
ضلالا ، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء .. حتى إذا وقع ما يعدهم ؛ وهو لا يعدو أن
يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين ، أو عذابهم الأكبر يوم الدين ـ فعندئذ
سيعرفون : أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا. ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ
عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) خير من كل ما يتباهى به أهل الأرض ويتيهون.
* * *
ثم يستعرض
السياق نموذجا آخر من تبجح الكافرين ، وقولة أخرى من أقوالهم يستنكرها ويعجب منها
:
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ : لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً؟ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ
أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ
لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) ..
ورد في سبب
نزول هذه الآيات ـ بإسناده ـ عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا (حدادا) وكان
لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر
بمحمد ، فقلت : لا والله ، لا أكفر بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى تموت ثم تبعث. قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد ،
فأعطيتك! فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ : لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ...) .
وقولة العاص بن
وائل نموذج من تهكم الكفار واستخفافهم بالبعث ؛ والقرآن يعجب من أمره ، ويستنكر
ادعاءه : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ؟) فهو يعرف ما هنالك. (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمنِ عَهْداً) فهو واثق من تحققه؟ ثم يعقب : (كَلَّا). وهي لفظة نفي وزجر. كلا لم يطلع على الغيب ولم يتخذ
عند الله عهدا ، إنما هو يكفر ويسخر ؛ فالتهديد إذن والوعيد هو اللائق لتأديب
الكافرين السافرين : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما
يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) .. سنكتب ما يقول فنسجله عليه ليوم الحساب فلا ينسى ولا
يقبل المغالطة .. وهو تعبير تصويري
__________________
للتهديد ، وإلا فالمغالطة مستحيلة ، وعلم الله لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة.
ونمد له من العذاب مدا ، فنزيده منه ونطيله عليه ولا نقطعه عنه! ويستمر السياق في
التهديد على طريقة التصوير أيضا : (وَنَرِثُهُ ما
يَقُولُ) أي نأخذ ما يخلفه مما يتحدث عنه من مال وولد كما يفعل
الوارث بعد موت المورث! (وَيَأْتِينا فَرْداً) لا مال معه ولا ولد ولا نصير له ولا سند ، مجردا ضعيفا
وحيدا فريدا.
فهل رأيت إلى
هذا الذي كفر بآيات الله وهو يحيل على يوم لا يملك فيه شيئا؟ يوم يجرد من كل ما
يملك في هذه الدنيا؟ إنه نموذج من نماذج الكفار. نموذج الكفر والادعاء والاستهتار
..
* * *
ويستطرد السياق
في استعراض ظواهر الكفر والشرك :
(وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا. أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا
الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ
إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا. يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ
وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ، لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).
فهؤلاء الذين
يكفرون بآيات الله يتخذون من دونه آلهة يطلبون عندها العزة ، والغلب والنصرة ،
وكان فيهم من يعبد الملائكة ومن يعبد الجن ويستنصرونهم ويتقوون بهم .. كلا! فسيكفر
الملائكة والجن بعبادتهم ، وينكرونها عليهم ، ويبرأون إلى الله منهم ، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) بالتبرؤ منهم والشهادة عليهم.
وإن الشياطين
ليهيجونهم إلى المعاصي. فهم مسلطون عليهم ، مأذون لهم في إغوائهم منذ أن طلب إبليس
إطلاق يده فيهم ..
(فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ) ولا يضيق صدرك بهم ؛ فإنهم ممهلون إلى أجل قريب ، وكل
شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود .. والتعبير يصور دقة الحساب تصويرا محسوسا (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) .. وإنه لتصوير مرهوب ، فيا ويل من يعد الله عليه ذنوبه
وأعماله وأنفاسه ، ويتتبعها ليحاسبه الحساب العسير .. إن الذي يحس أن رئيسه في
الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف ويعيش في قلق وحسبان .. فكيف بالله المنتقم
الجبار؟! وفي مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة العد والحساب. فأما المؤمنون
فقادمون على الرحمن وفدا في كرامة وحسن استقبال : (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً). وأما المجرمون فمسوقون إلى جهنم وردا كما تساق
القطعان. (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً). ولا شفاعة يومئذ إلا لمن قدم عملا صالحا فهو عهد له
عند الله يستوفيه. وقد وعد الله من آمن وعمل صالحا أن يجزيه الجزاء الأوفى ، ولن
يخلف الله وعدا.
* * *
ثم يستطرد
السياق مرة أخرى إلى مقولة منكرة من مقولات المشركين. ذلك حين يقول المشركون من
العرب : الملائكة بنات الله. والمشركون من اليهود : عزيز ابن الله. والمشركون من
النصارى : المسيح ابن الله .. فينتفض الكون كله لهذه القولة المنكرة التي تنكرها
فطرته ، وينفر منها ضميره :
(وَقالُوا : اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ، أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ..
إن جرس الألفاظ
وإيقاع العبارات ليشارك ظلال المشهد في رسم الجو : جو الغضب والغيرة والانتفاض!
وإن ضمير الكون وجوارحه لتنتفض ، وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النابية ،
والمساس بقداسة
الذات العلية ، كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عند ما يغضب الإنسان للمساس
بكرامته أو كرامة من يحبه ويوقره ..
هذه الانتفاضة
الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والأرض والجبال. والألفاظ بإيقاعها
ترسم حركة الزلزلة والارتجاف.
وما تكاد
الكلمة النابية تنطلق : (وَقالُوا : اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً) حتى تنطلق كلمة التفظيع والتبشيع : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) ثم يهتز كل ساكن من حولهم ويرتج كل مستقر ، ويغضب الكون
كله لبارئه. وهو يحس بتلك الكلمة تصدم كيانه وفطرته ؛ وتجافي ما وقر في ضميره وما
استقر في كيانه ؛ وتهز القاعدة التي قام عليها واطمأن إليها : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ..
وفي وسط الغضبة
الكونية يصدر البيان الرهيب :
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ
عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً).
إن كل من في
السماوات والأرض إلا عبد يأتي معبوده خاضعا طائعا ، فلا ولد ولا شريك ، إنما خلق
وعبيد.
وإن الكيان
البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان .. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فلا مجال لهرب أحد ولا لنسيان أحد (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَرْداً) فعين الله على كل فرد. وكل فرد يقدم وحيدا لا يأنس بأحد
ولا يعتز بأحد. حتى روح الجماعة ومشاعر الجماعة يجرد منها ، فإذا هو وحيد فريد
أمام الديان.
وفي وسط هذه
الوحدة والوحشة والرهبة ، إذا المؤمنون في ظلال ندية من الود السامي : ود الرحمن :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ..
وللتعبير بالود
في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب ، وروح رضى يلمس النفوس. وهو ود يشيع في الملأ
الأعلى ، ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلىء به الكون كله ويفيض ..
عن أبي هريرة ـ
رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أحب فلانا
فأحبه. قال : فيحبه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه.
قال : فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبدا دعا
جبريل فقال : يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه. قال : فيبغضه جبريل. ثم ينادي في
أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه. قال : فيبغضه أهل السماء ؛ ثم يوضع له
البغضاء في الأرض » ..
* * *
وبعد فإن هذه
البشرى للمؤمنين المتقين ، وذلك الإنذار للجاحدين الخصيمين هما غاية هذا القرآن.
ولقد يسره الله للعرب فأنزله بلسان الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليقرأوه :
(فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً
لُدًّا) ..
وتختم السورة
بمشهد يتأمله القلب طويلا ؛ ويرتعش له الوجدان طويلا ؛ ولا ينتهي الخيال من
استعراضه
__________________
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزاً؟).
وهو مشهد يبدؤك
بالرجة المدمرة ، ثم يغمرك بالصمت العميق. وكأنما يأخذ بك إلى وادي الردى ، ويقفك
على مصارع القرون ؛ وفي ذلك الوادي الذي لا يكاد يحده البصر ، يسبح خيالك مع
الشخوص التي كانت تدب وتتحرك ، والحياة التي كانت تنبض وتمرح. والأماني والمشاعر
التي كانت تحيا وتتطلع .. ثم إذا الصمت يخيم ، والموت يجثم ، وإذا الجثث والأشلاء
والبلى والدمار ، لا نأمة. لا حس. لا حركة. لا صوت .. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) انظر وتلفت (هَلْ تُحِسُّ
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) تسمع وأنصت. ألا إنه السكون العميق والصمت الرهيب. وما
من أحد إلا الواحد الحي الذي لا يموت.
* * *
(٢٠) سورة طه مكيّة
وآياتها خمس وثلاثون ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طه (١) ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً
لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً
فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها
بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا
رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ
فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا
اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا
مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى
(٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي
أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي
وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ
بِهِ
أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ
كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا
بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)
وَلَقَدْ
مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا
إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩)
إِذْ
تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ
إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً
فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ
مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢)
اذْهَبا
إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ
قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤)
قالا
رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥)
قالَ
لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا
إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ
قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ
إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما
يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤)
مِنْها
خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا
لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ
بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨)
قالَ
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ
خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ
يُرِيدانِ
أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
قالُوا
يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥)
قالَ
بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ
سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦)
فَأَوْجَسَ
فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨)
وَأَلْقِ
ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا
يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠)
قالَ
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ
عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ
نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما
أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ
مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى
(٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ
أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ
دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨)
وَأَضَلَّ
فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)
يا
بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ
الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠)
كُلُوا
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
وَما
أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣)
قالَ
هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)
فَرَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ
وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما
أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ
الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ
أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
وَلَقَدْ
قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ
رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ
نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
قالَ
يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ
أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ
فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ
تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً
لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
إِنَّما
إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)
(٩٨)
تبدأ هذه
السورة وتختم خطابا للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ببيان وظيفته وحدود تكاليفه .. إنها ليست شقوة كتبت عليه ، وليست عناء
يعذب به. إنما هي الدعوة والتذكرة ، وهي التبشير والإنذار. وأمر الخلق بعد ذلك إلى
الله الواحد الذي لا إله غيره. المهيمن على ظاهر الكون وباطنه ، الخبير بظواهر
القلوب وخوافيها. الذي تعنو له الجباه ، ويرجع إليه الناس : طائعهم وعاصيهم .. فلا
على الرسول ممن يكذب ويكفر ؛ ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون.
وبين المطلع
والختام تعرض قصة موسى عليهالسلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد
خروجهم من مصر ، مفصلة مطولة ؛ وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى ـ وموقف
الجدل بين موسى وفرعون. وموقف المباراة بين موسى والسحرة ... وتتجلى في غضون القصة
رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه ، وقال له ولأخيه : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ
وَأَرى) ..
وتعرض قصة آدم
سريعة قصيرة ، تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته ، وهدايته له. وترك البشر من
أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار.
وتحيط بالقصة
مشاهد القيامة. وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم.
حيث يعود الطائعون إلى الجنة ، ويذهب العصاة إلى النار. تصديقا لما قيل لأبيهم آدم
، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان! ومن ثم يمضي السياق في هذه السورة في شوطين
اثنين : الشوط الأول يتضمن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ...) تتبعه قصة موسى نموذجا كاملا لرعاية الله سبحانه لمن
يختارهم لإبلاغ دعوته فلا يشقون بها وهم في رعايته.
والشوط الثاني
يتضمن مشاهد القيامة وقصة آدم وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة وقصة موسى. ثم
ختام السورة بما يشبه مطلعها ويتناسق معه ومع جو السورة.
وللسورة ظل خاص
يغمر جوها كله .. ظل علوي جليل ، تخشع له القلوب ، وتسكن له النفوس ، وتعنو له
الجباه .. إنه الظل الذي يخلعه تجلي الرحمن على الوادي المقدس على عبده موسى ، في
تلك المناجاة الطويلة ؛ والليل ساكن وموسى وحيد ، والوجود كله يتجاوب بذلك النجاء
الطويل .. وهو الظل الذي يخلعه تجلي القيوم في موقف الحشر العظيم : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ
فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) .. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ..
والإيقاع
الموسيقي للسورة كلها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها رخيا شجيا نديا
بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في القافية كلها تقريبا.
* * *
(طه. ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزِيلاً
مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ
الثَّرى. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى.
اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).
مطلع رخي ندي.
يبدأ بالحروف المقطعة : «طا. ها» للتنبيه إلى أن هذه السورة. كهذا القرآن ـ مؤلفة
من مثل هذه الحروف على نحو ما أوردنا في مطالع السور. ويختار هنا حرفان ينتهيان
بإيقاع كإيقاع السورة ، ويقصران ولا يمدان لتنسيق الإيقاع كذلك.
يتلو هذين
الحرفين حديث عن القرآن ـ كما هو الحال في السور التي تبدأ بالحروف المقطعة ـ في
صورة خطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) .. ما أنزلنا عليك القرآن ليؤدي إلى شقائك به أو بسببه.
ما أنزلناه لتشقى بتلاوته والتعبد به حتى يجاوز ذلك طاقتك ، ويشق عليك ؛ فهو ميسر
للذكر ، لا تتجاوز تكاليفه طاقة البشر ، ولا يكلفك إلا ما في وسعك ، ولا يفرض عليك
إلا ما في طوقك والتعبد به في حدود الطاقة نعمة لا شقوة ، وفرصة للاتصال بالملأ
الأعلى ، واستمداد القوة والطمأنينة ، والشعور بالرضى والأنس والوصول ..
وما أنزلناه
عليك لتشقى مع الناس حين لا يؤمنون به. فلست مكلفا أن تحملهم على الإيمان حملا ؛
ولا أن تذهب نفسك عليهم حسرات ؛ وما كان هذا القرآن إلا للتذكير والإنذار :
(إِلَّا تَذْكِرَةً
لِمَنْ يَخْشى).
والذي يخشى
يتذكر حين يذكر ، ويتقي ربه فيستغفر. وعند هذا تنتهي وظيفة الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم ـ فلا يكلف فتح مغاليق القلوب ، والسيطرة على الأفئدة والنفوس. إنما
ذلك إلى الله الذي أنزل هذا القرآن. وهو المهيمن على الكون كله ، المحيط بخفايا
القلوب والأسرار :
(تَنْزِيلاً مِمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ..
فالذي نزل هذا
القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات .. السماوات العلى .. فالقرآن ظاهرة كونية
كالأرض والسماوات. تنزلت من الملأ الأعلى. ويربط السياق بين النواميس التي تحكم
الكون والتي ينزل بها القرآن ؛ كما ينسق ظل السماوات العلى مع الأرض ، وظل القرآن
الذي ينزل من الملأ الأعلى إلى الأرض ..
والذي نزل
القرآن من الملأ الأعلى ، وخلق الأرض والسماوات العلى ، هو (الرَّحْمنُ) فما نزله على عبده ليشقى. وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا
للإلمام بهذا المعنى. وهو المهيمن على الكون كله. (عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء.
فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى.
ومع الهيمنة
والاستعلاء الملك والإحاطة :
(لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ..
والمشاهد
الكونية تستخدم في التعبير لإبراز معنى الملك والإحاطة في صورة يدركها التصور
البشري. والأمر أكبر من ذلك جدا. ولله ما في الوجود كله وهو أكبر مما في السماوات
وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وعلم الله يحيط
بما يحيط به ملكه :
(وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) ..
وينسق التعبير
بين الظل الذي تلقيه الآية : (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى). والظل الذي تلقيه الآية بعدها : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) ينسق بين الظاهر الجاهر في الكون ، والظاهر الجاهر من
القول. وبين المستور المخبوء تحت الثرى والمستور المخبوء في الصدور : السر وأخفى.
على طريقة التنسيق في التصوير. والسر خاف. وما هو أخفى من السر تصوير لدرجات
الخفاء والاستتار ، كما هو الحال تحت أطباق الثرى ..
والخطاب للرسول
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لطمأنة قلبه بأن ربه معه يسمعه ، ولا يتركه وحده يشقى بهذا القرآن ،
ويواجه الكافرين بلا سند ، فإذا كان يدعوه جهرا فإنه يعلم السر وأخفى. والقلب حين
يستشعر قرب الله منه ، وعلمه بسره ونجواه ، يطمئن ويرضى ؛ ويأنس بهذا القرب فلا
يستوحش من العزلة بين المكذبين المناوئين ؛ ولا يشعر بالغربة بين المخالفين له في
العقيدة والشعور.
ويختم هذا
المطلع بإعلان وحدانية الله بعد إعلان هيمنته وملكيته وعلمه :
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ..
و (الْحُسْنى) تشارك في تنسيق الإيقاع : كما تشارك في تنسيق الظلال.
ظلال الرحمة والقرب. والرعاية ، التي تغمر جو هذا المطلع وجو السورة كله.
* * *
ثم يقص الله
على رسوله حديث موسى ، نموذجا لرعايته للمختارين لحمل دعوته : وقصة موسى هي أكثر
قصص المرسلين ورودا في القرآن. وهي تعرض في حلقات تناسب موضوع السورة التي تعرض
فيها وجوّها وظلها. وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة. وسورة المائدة.
وسورة الأعراف. وسورة يونس. وسورة الإسراء. وسورة الكهف .. وذلك غير الإشارات
إليها في سور أخرى.
وما جاء منها
في المائدة كان حلقة واحدة : حلقة وقوف بني إسرائيل أمام الأرض المقدسة لا يدخلون
لأن فيها قوما جبارين. وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة : حلقة لقاء موسى
للعبد الصالح وصحبته فترة ..
فأما في البقرة
والأعراف ويونس وفي هذه السورة ـ طه ـ فقد وردت منها حلقات كثيرة. ولكن هذه
الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى. تختلف الحلقات المعروضة ، كما يختلف الجانب
الذي تعرض منه تنسيقا له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها.
في البقرة
سبقتها قصة آدم وتكريمه في الملأ الأعلى ، وعهد الله إليه بخلافة الأرض ونعمته
عليه بعد ما غفر له .. فجاءت قصة موسى وبني إسرائيل تذكيرا لبني إسرائيل بنعمة
الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه. واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم
وإطعامهم المن والسلوى ، وذكرت مواعدة موسى وعبادتهم للعجل من بعده ، ثم غفرانه
لهم. وعهده إليهم تحت الجبل. ثم عدوانهم في السبت. وقصة البقرة.
وفي الأعراف
سبقها الإنذار وعواقب المكذبين بالآيات قبل موسى ـ عليهالسلام ـ فجاءت قصة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة ، وتعرض فيها آيات العصا
واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل.
وخاتمة فرعون وملئه المكذبين. ثم ما كان من بني إسرائيل بعد ذلك من اتخاذ العجل في
غيبة موسى. وتنتهي القصة بإعلان فيها وراثة رحمة الله وهداه للذين يتبعون الرسول
النبي الأمي.
وفي يونس سبقها
عرض مصارع المكذبين. فجاءت قصة موسى من حلقة الرسالة ، وعرض مشهد السحرة ، ومصرع
فرعون وقومه بالتفصيل.
أما هنا في طه.
فقد سبقها مطلع السورة يشف عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ
دعوته. فجاءت القصة مظللة بهذا الظل تبدأ بمشهد المناجاة ؛ وتضمن نماذج من رعاية
الله لموسى عليهالسلام وتثبيته وتأييده ؛ وتشير إلى سبق هذه الرعاية للرسالة ،
فقد كانت ترافقه في طفولته ، فتحرسه وتتعهده : (وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ..
فلنأخذ في تتبع
حلقات القصة كما وردت في السياق.
* * *
(وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى. إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
ناراً ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) ..
(وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى؟) وما يتجلى فيه من رعاية الله وهداه لمن اصطفاه؟ ..
فها هو ذا موسى
ـ عليهالسلام ـ في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى
فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب ، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن
يخدمه ثماني سنوات أو عشرا. والأرجح أنه وفى عشرا ؛ ثم خطر له أن يفارق شعيبا وأن
يستقل بنفسه وبزوجه ، ويعود إلى
البلد الذي نشأ فيه ، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون
وقهره .
لما ذا عاد.
وقد خرج من مصر طريدا. قتل قبطيا فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي ، وغادر مصر
هاربا وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألوانا؟ حيث وجد الأمن والطمأنينة في مدين
إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه؟
إنها جاذبية
الوطن والأهل تتخذها القدرة ستارا لما تهيئه لموسى من أدوار .. وهكذا نحن في هذه
الحياة نتحرك. تحركنا أشواق وهواتف ، ومطامح ومطامع ، وآلام وآمال .. وإن هي إلا
الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة ، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها
الأنظار ولا تدركها الأبصار. يد المدبر المهيمن العزيز القهار ..
وهكذا عاد
موسى. وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم. ضل طريقه والليل
مظلم ، والمتاهة واسعة. نعرف هذا من قوله لأهله : (امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ
هُدىً) .. فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض ،
ليراها الساري في الصحراء ، فتكشف له عن الطريق ، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن
يهديه إلى الطريق.
ولقد رأى موسى
النار في الفلاة. فاستبشر. وذهب ليأتي منها بقبس يستدفىء به أهله ، فالليلة باردة
وليالي الصحراء باردة قارة. أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق ؛ أو يهتدي على
ضوئها إلى الطريق.
لقد ذهب يطلب
قبسا من النار ؛ ويطلب هاديا في السرى .. ولكنه وجد المفاجأة الكبرى. إنها النار
التي تدفىء. لا الأجسام ولكن الأرواح. النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة
الكبرى :
(فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ : يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ. إِنَّكَ
بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى.
إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ
فَتَرْدى) ..
إن القلب ليجف
، وإن الكيان ليرتجف. وهو يتصور ـ مجرد تصور ـ ذلك المشهد .. موسى فريد في تلك
الفلاة. والليل دامس ، والظلام شامل ، والصمت مخيم. وهو ذاهب يلتمس النار التي
آنسها من جانب الطور. ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ. إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ...).
إن تلك الذرة
الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه الأبصار. الجلال الذي تتضاءل
في ظله الأرض والسماوات. ويتلقى. يتلقى ذلك النداء العلوي بالكيان البشري .. فكيف؟
كيف لو لا لطف الله؟
إنها لحظة
ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى ـ عليهالسلام ـ فبحسب الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة. وبحسب البشرية أن
يكون فيها الاستعداد لمثل هذا الاتصال على نحو من الأنحاء .. كيف؟ لا ندري كيف!
فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم ، إنما قصاراه أن يقف مبهوتا يشهد ويؤمن!
(فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ يا مُوسى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ..) نودي بهذا البناء للمجهول. فما يمكن تحديد مصدر
__________________
النداء ولا اتجاهه. ولا تعيين صورته ولا كيفيته. ولا كيف سمعه موسى أو
تلقاه .. نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة ما. فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه ،
ولا نسأل عن كيفيته ، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان
(يا مُوسى إِنِّي
أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) .. إنك في الحضرة العلوية. فتجرد بقدميك. وفي الوادي
الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة ، فلا تطأه بنعليك.
(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) .. فيا للتكريم! يا للتكريم أن يكون الله بذاته هو الذي
يختار. يختار عبدا من العبيد هو فرد من جموع الجموع .. تعيش على كوكب من الكواكب
هو ذرة في مجموعة. المجموعة هي ذرة في الكون الكبير الذي قال له الله : كن .. فكان!
ولكنها رعاية الرحمن لهذا الإنسان!
وبعد إعلانه
بالتكريم والاختيار ، والاستعداد والتهيؤ بخلع نعليه ، يجيء التنبيه للتلقي :
(فَاسْتَمِعْ لِما
يُوحى) ..
ويلخص ما يوحى
في ثلاثة أمور مترابطة : الاعتقاد بالوحدانية ، والتوجه بالعبادة ، والإيمان بالساعة
؛ وهي أسس رسالة الله الواحدة :
(إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا
يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) ..
فأما الألوهية
الواحدة فهي قوام العقيدة. والله في ندائه لموسى ـ عليهالسلام ـ يؤكدها بكل المؤكدات : بالإثبات المؤكد. (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) وبالقصر المستفاد من النفي والاستثناء : (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) الأولى لإثبات الألوهية لله ، والثانية لنفيها عن سواه
.. وعلى الألوهية تترتب العبادة ؛ والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة ؛
ولكنه يخص بالذكر منها الصلاة : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) لأن الصلاة أكمل صورة من صور العبادة ، وأكمل وسيلة من
وسائل الذكر ، لأنها تتمحض لهذه الغاية ، وتتجرد من كل الملابسات الأخرى ؛ وتتهيأ
فيها النفس لهذا الغرض وحده ، وتتجمع للاتصال بالله.
فأما الساعة
فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل ، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه ؛
وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق .. والله سبحانه يؤكد مجيئها : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما
يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم .. والمجهول عنصر
أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي. فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه.
ولو كان كل شيء مكشوفا لهم ـ وهم بهذه الفطرة ـ لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء
المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون ، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم
وطاقات الكون من حولهم ؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق ؛ ويبدعون في الأرض
بما شاء لهم الله أن يبدعوا .. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد ،
يحفظهم من الشرود ، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة ، فهم من موعدها على حذر دائم
وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام. فأما من فسدت فطرته واتبع هواه
فيغفل ويجهل ، فيسقط ومصيره إلى الردى :
(فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) ..
__________________
ذلك أن اتباع
الهوى هو الذي ينشىء التكذيب بالساعة. فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة
الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها ، ولا يتم فيها العدل تمامه ؛ وأنه لا بد من
حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان ، والعدل المطلق في الجزاء على
الأعمال.
* * *
هذه هي الوهلة
الأولى للنداء العلوي الذي تجاوبت به جنبات الوجود ؛ وأنهى الله سبحانه إلى عبده
المختار قواعد التوحيد. ولا بد أن موسى قد نسي نفسه ونسي ما جاء من أجله ، ليتبع
ذلك الصوت العلوي الذي ناداه ؛ وليسمع التوجيه القدسي الذي يتلقاه. وبينما هو
مستغرق فيما هو فيه ، ليس في كيانه ذرة واحدة تتلفت إلى سواه ، إذا هو يتلقى سؤالا
لا يحتاج منه إلى جواب :
(وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟) ..
إنها عصاه.
ولكن أين هو من عصاه؟ إنما يتذكر فيجيب :
(قالَ : هِيَ عَصايَ ،
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) ..
والسؤال لم يكن
عن وظيفة العصا في يده. إنما كان عما في يمينه. ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل
، فهي واضحة ، إنما عن وظيفتها معه. فأجاب ..
ذلك أقصى ما
يعرفه موسى عن تلك العصا : أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط
فتأكلها الغنم ـ وقد كان يرعى الغنم لشعيب. وقيل : إنه ساق معه في عودته قطيعا
منها كان من نصيبه. وأن يستخدمها في أغراض أخرى من هذا القبيل أجملها ولم يعددها
لأن ما ذكره نموذج منها.
ولكن ها هي ذي
القدرة القادرة تصنع بتلك العصا في يده ما لم يخطر له على بال ، تمهيدا لتكليفه
بالمهمة الكبرى :
(قالَ : أَلْقِها يا
مُوسى. فَأَلْقاها. فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. قالَ : خُذْها وَلا تَخَفْ
سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) :
ووقعت المعجزة
الخارقة التي تقع في كل لحظة ؛ ولكن الناس لا ينتبهون إليها. وقعت معجزة الحياة. فإذا
العصا حية تسعى. وكم من ملايين الذرات الميتة أو الجامدة كالعصا تتحول في كل لحظة
إلى خلية حية ؛ ولكنها لا تبهر الإنسان كما يبهره أن تتحول عصا موسى حية تسعى! ذلك
أن الإنسان أسير حواسه ، وأسير تجاربه ، فلا يبعد كثيرا في تصوراته عما تدركه
حواسه. وانقلاب العصا حية تسعى ظاهرة حسية تصدم حسه فينتبه لها بشدة. أما الظواهر
الخفية لمعجزة الحياة الأولى ، ومعجزات الحياة التي تدب في كل لحظة فهي خفية قلما
يلتفت إليها. وبخاصة أن الألفة تفقدها جدتها في حسه ، فيمر عليها غافلا أو ناسيا.
وقعت المعجزة
فدهش لها موسى وخاف : (قالَ : خُذْها وَلا
تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) ونردها عصا.
والسياق هنا لا
يذكر ما ذكره في سورة أخرى من أنه ولى مدبرا ولم يعقب. إنما يكتفي بالإشارة
الخفيفة إلى ما نال موسى ـ عليهالسلام ـ من خوف : ذلك أن ظل هذه السورة ظل أمن وطمأنينة ، فلا يشوبه بحركة الفزع
والجري والتولي بعيدا.
واطمأن موسى
والتقط الحية ، فإذا هي تعود سيرتها الأولى! عصا! .. ووقعت المعجزة في صورتها
الأخرى. صورة سلب الحياة من الحي ، فإذا هو جامد ميت ، كما كان قبل أن تدركه
المعجزة الأولى ..
وصدر الأمر
العلوي مرة أخرى إلى عبده موسى :
(وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) ..
ووضع موسى يده
تحت إبطه .. والسياق يختار للإبط والذراع صورة الجناح لما فيها من رفرفة وطلاقة
وخفة في هذا الموقف المجنح الطليق من ربقة الأرض وثقلة الجسم لتخرج بيضاء لا عن
مرض أو آفة. ولكن : (آيَةً أُخْرى) مع آية العصا. (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى) فتشهد وقوعها بنفسك تحت بصرك وحسك. فتطمئن للنهوض
بالتبعة الكبرى :
(اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ..
وإلى هنا لم
يكن موسى يعلم أنه منتدب لهذه المهمة الضخمة .. وإنه ليعرف من هو فرعون : فقد ربي
في قصره. وشهد طغيانه وجبروته. وشاهد ما يصبه على قومه من عذاب ونكال .. وهو اللحظة
في حضرة ربه. يحس الرضى والتكريم والحفاوة. فليسأله كل ما يطمئنه على مواجهة هذه
المهمة العسيرة ؛ ويكفل له الاستقامة على طريق الرسالة :
(قالَ : رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا
قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ
أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ
كَثِيراً. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) ..
لقد طلب إلى
ربه أن يشرح له صدره .. وانشراح الصدر يحول مشقة التكليف إلى متعة ، ويحيل عناءه
لذة ؛ ويجعله دافعا للحياة لا عبئا يثقل خطى الحياة.
وطلب إلى ربه
أن ييسر له أمره .. وتيسير الله لعباده هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان
بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة وعلمه قاصر والطريق طويل وشائك ومجهول؟!.
وطلب إلى ربه
أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله .. وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة والأرجح أن هذا
هو الذي عناه. ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً). وقد دعا ربه في أول الأمر دعاء شاملا بشرح الصدر
وتيسير الأمر. ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه.
وطلب أن يعينه
الله بمعين من أهله. هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان وثبات الجنان وهدوء
الأعصاب ، وكان موسى ـ عليهالسلام ـ انفعاليا حاد الطبع سريع الانفعال. فطلب إلى ربه أن يعينه بأخيه يشد أزره
ويقويه ويتروى معه في الأمر الجليل الذي هو مقدم عليه.
والأمر الجليل
الذي هو مقدم عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير والاتصال الكثير. فموسى
ـ عليهالسلام ـ يطلب أن يشرح الله صدره وييسر له أمره ويحل عقدة من لسانه ويعينه بوزير
من أهله .. كل أولئك لا ليواجه المهمة مباشرة ؛ ولكن ليتخذ ذلك كله مساعدا له
ولأخيه على التسبيح الكثير والذكر الكثير والتلقي الكثير من السميع البصير .. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) .. تعرف حالنا وتطلع على ضعفنا وقصورنا وتعلم حاجتنا
إلى العون والتدبير ..
لقد أطال موسى
سؤله ، وبسط حاجته ، وكشف عن ضعفه ، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير. وربه
يسمع له ، وهو ضعيف في حضرته ، ناداه وناجاه. فها هوذا الكريم المنان لا يخجل ضيفه
، ولا يرد سائله ، ولا يبطىء عليه بالإجابة الكاملة :
(قالَ : قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى) :
هكذا مرة واحدة
، في كلمة واحدة. فيها إجمال يغني عن التفصيل. وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل .. كل
ما سألته أعطيته. أعطيته فعلا. لا تعطاه ولاستعطاه؟ وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم
وإيناس بندائه باسمه : (يا مُوسى) وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من
العباد؟
وإلى هنا كفاية
وفضل من التكريم والعطف والإيناس. وقد طال التجلي ؛ وطال النجاء ؛ وأجيب السؤال
وقضيت الحاجة .. ولكن فضل الله لا خازن له ، ورحمة الله لا ممسك لها. فهو يغمر
عبده بمزيد من فضله وفيض من رضاه ، فيستبقيه في حضرته ، ويمد في نجائه وهو يذكره
بسابق نعمته ، ليزيده اطمئنانا وأنسا بموصول رحمته وقديم رعايته. وكل لحظة تمر وهو
في هذا المقام الوضيء هي متاع ونعمى وزاد ورصيد.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى. أَنِ اقْذِفِيهِ
فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ. فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ،
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ،
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا
تَحْزَنَ. وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً
، فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى.
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ...).
إن موسى ـ عليهالسلام ـ ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار. إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان
مع الطغيان. إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر ؛ ثم مع
قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم ، وأضعف استعدادهم
للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص. فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلا من
التهيؤ والاستعداد. وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد. وأنه صنع على عين الله
منذ زمان ، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع ، ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير
ضعيف. وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد
إليه يد فرعون ، لأن يد القدرة كانت تسنده ، وعين القدرة كانت ترعاه. في كل خطاه.
فلا عليه اليوم من فرعون ، وقد بلغ أشده. وربه معه. قد اصطنعه لنفسه ، واستخلصه
واصطفاه.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) .. فالمنة قديمة ممتدة مطردة ، سائرة في طريقها معك منذ
زمان. فلا انقطاع لها إذن بعد التكليف الآن.
لقد مننا عليك
إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ، وألهمناها ما يلهم في مثل حالها .. ذلك الإلهام :
(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) ..
حركات كلها عنف
وكلها خشونة .. قذف في التابوت بالطفل. وقذف في اليم بالتابوت. وإلقاء للتابوت على
الساحل .. ثم ماذا؟ أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى
به على الساحل. من يتسلمه؟ (عَدُوٌّ لِي
وَعَدُوٌّ لَهُ).
وفي زحمة هذه
المخاوف كلها. وبعد تلك الصدمات كلها. ماذا؟ ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من
كل قوة؟ ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية؟
(وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)!!! يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة
اللينة درعا تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج.
وتعجز قوى الشر
والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء ؛ ولو كان طفلا رضيعا لا يصول ولا يجول بل لا
يملك أن يقول ...
إنها مقابلة
عجيبة في تصوير المشهد. مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل
الصغير ، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف .. والرحمة اللينة
اللطيفة تحرسه من المخاوف ، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة ، ممثلة في المحبة
لا في صيال أو نزال : (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) .. وما من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق
اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب : (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) وكيف يصف لسان بشري ، خلقا يصنع على عين الله؟ إن قصارى
أي بشري أن يتأمله ويتملاه .. إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من
العناية. فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله؟ إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى
ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه.
ولتصنع على
عيني. تحت عين فرعون ـ عدوك وعدوي ـ وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع. ولكن
عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني. ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع
على عيني.
ولم أحطك في
قصر فرعون ، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف. بل جمعتك بها
وجمعتها بك :
(إِذْ تَمْشِي
أُخْتُكَ فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى
أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) ..
وكان ذلك من
تدبير الله. إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات. وفرعون وزوجه وقد تبنيا الطفل
الذي ألقاه اليم بالساحل ـ مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر ـ يبحثان له
عن مرضع. فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم : هل أدلكم على من
يكفله؟ وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها. وهكذا يتم تدبير الله للطفل وأمه التي سمعت
الإلهام فقذفت بفلذة كبدها في التابوت ، وقذفت بالتابوت في اليم ، فألقاه اليم
بالساحل. ليأخذه عدو لله وله ، فيكون الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف ، وتكون
النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني إسرائيل. بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس
ولا معين!
ومنة أخرى : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ
الْغَمِّ ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ
جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ..
ذلك حين كبر
وشب في قصر فرعون ، ثم نزل المدينة يوما فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي
والآخر مصري ، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعا. ولم يكن ينوي قتله
إنما كان ينوي دفعه. فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة ـ وهو المصنوع على عين
الله منذ نشأته ؛ وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه .. فربه يذكره هنا بنعمته عليه ،
إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم. ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء
ليربيه ويعده لما أراد ؛ فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص؟ وامتحنه بالغربة
ومفارقة الأهل والوطن ؛ وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم ، وهو الذي تربى في قصر أعظم
ملوك الأرض ، وأكثرهم نزفا ومتاعا وزينة ..
وفي الوقت
المقدر. عند ما نضج واستعد ، وابتلي فثبت وصبر ؛ وامتحن فجاز الامتحان. وتهيأت
الظروف كذلك والأحوال في مصر ، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه ..
في ذلك الوقت
المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين ، وهو يظن أنه هو جاء : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى).
جئت في الوقت
الذي قدرته لمجيئك .. (وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي) خالصا مستخلصا ممحضا لي ولرسالتي ودعوتي .. ليس بك شيء
من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا. إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها واصطنعتك
لتؤديها. فما لك في نفسك شيء. وما لأهلك منك شيء ، وما لأحد فيك شيء. فامض
لما اصطنعتك له :
(اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ
طَغى. فَقُولا لَهُ : قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ..
اذهب أنت وأخوك
مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد ـ ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما
وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد .. اذهبا إلى فرعون. وقد حفظتك من
شره من قبل. وأنت طفل وقد قذفت في التابوت ، فقذف التابوت في اليم ، فألقاه اليم
بالساحل ، فلم تضرك هذه الخشونة ، ولم تؤذك هذه المخاوف. فالآن أنت معد مهيأ ،
ومعك أخوك. فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد ، في ظروف أسوأ وأعنف.
اذهبا إلى
فرعون فقد طغى وتجبر وعتا (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً) فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ؛ ولا يهيج الكبرياء
الزائف الذي يعيش به الطغاة. ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
اذهبا إليه غير
يائسين من هدايته ، راجيين أن يتذكر ويخشى. فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد
بدعوته لا يبلغها بحرارة ، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار.
وإن الله ليعلم
ما يكون من فرعون. ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه. والله يحاسب
الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم. وهو عالم بأنه سيكون. فعلمه تعالى
بمستقبل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء.
* * *
وإلى هنا كان
الخطاب لموسى ـ عليهالسلام ـ وكان المشهد هو مشهد المناجاة في الفلاة. وهنا يطوي السياق المسافات
والأبعاد والأزمان ، فإذا هارون مع موسى. وإذا هما معا يكشفان لربهما عن خوفهما من
مواجهة فرعون ، ومن التسرع في أذاه ، ومن طغيانه إذا دعواه :
(قالا : رَبَّنا
إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى. قالَ : لا تَخافا
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. فَأْتِياهُ فَقُولا : إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ
فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ. قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّكَ. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ
إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى).
وهارون لم يكن
مع موسى قطعا في موقف المناجاة الطويل ـ الذي تفضل المنعم فيه على عبده ، فأطال له
فيه النجاء ، وبسط له في القول ، وأوسع له في السؤال والجواب ـ فردهما معا بقولهما
: (إِنَّنا نَخافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) لم يكن في موقف المناجاة. إنما هو السياق القرآني يطوي
الزمان والمكان ، ويترك فجوات بين مشاهد القصص ، تعلم من السياق ليصل مباشرة إلى
المواقف الحية الموحية ذات الأثر في سير القصص وفي وجدان الناس.
ولقد اجتمع موسى
وهارون عليهماالسلام إذن بعد انصراف موسى من موقف المناجاة بجانب الطور. وأوحى
الله إلى هارون بمشاركة أخيه في دعوة فرعون ثم هاهما ذان يتوجهان إلى ربهما
بمخاوفهما : (قالا : رَبَّنا
إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ..
والفرط هو التسرع
بالأذى للوهلة الأولى ، والطغيان أشمل من التسرع وأشمل من الأذى. وفرعون الجبار
يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما.
هنا يجيئهما
الرد الحاسم الذي لا خوف بعده ، ولا خشية معه :
(قالَ : لا تَخافا
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ..
إنني معكما ..
إنه القوي الجبار الكبير المتعال. إنه الله القاهر فوق عباده. إنه موجد الأكوان
والحيوات والأفراد والأشياء بقولة : كن. ولا زيادة .. إنه معهما .. وكان هذا
الإجمال يكفي. ولكنه يزيدهما طمأنينة ، ولمسا بالحس للمعونة : (أَسْمَعُ وَأَرى ..) فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟
والله معهما يسمع ويرى؟
ومع الطمأنينة
الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال :
(فَأْتِياهُ فَقُولا :
إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ. فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ.
قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ..
إنه البدء
بإيضاح قاعدة رسالتهما : (إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ) ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلها هو ربه. وهو رب
الناس. فليس هو إلها خاصا بموسى وهارون أو ببني إسرائيل ، كما كان سائدا في خرافات
الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلها أو آلهة ؛ ولكل قبيل إلها أو آلهة. أو كما كان
سائدا في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة.
ثم إيضاح
لموضوع رسالتهما : (فَأَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) .. ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون. لاستنقاذ
بني إسرائيل ، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد ، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله
لهم أن يسكنوها (إلى أن يفسدوا فيها ، فيدمرهم تدميرا).
ثم استشهاد على
صدقهما في الرسالة : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّكَ) تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك ، في هذه المهمة
التي حددناها.
ثم ترغيب
واستمالة : (وَالسَّلامُ عَلى
مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) : فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى.
ثم تهديد
وتحذير غير مباشرين كي لا يثيرا كبرياءه وطغيانه : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ
إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) .. فلعله لا يكون ممن كذب وتولى!
هكذا ألقى الله
الطمأنينة على موسى وهارون. وهكذا رسم لهما الطريق. ودبر لهما الأمر. ليمضيا آمنين
عارفين هاديين.
وهنا يسدل
الستار ليرفع. فإذا هما أمام الطاغية في حوار وجدال.
* * *
لقد أتيا فرعون
ـ والسياق لا يذكر كيف وصلا إليه ـ أتياه وربهما معهما يسمع ويرى. فأية قوة وأي
سلطان هذا الذي يتكلم به موسى وهارون ، كائنا فرعون ما كان ؛ ولقا أبلغاه ما
أمرهما ربهما بتبليغه. والمشهد هنا يبدأ بما دار بينه وبين موسى ـ عليهالسلام ـ من حوار :
(قالَ : فَمَنْ
رَبُّكُما يا مُوسى! قالَ : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدى) ..
إنه لا يريد أن
يعترف بأن رب موسى وهارون هو ربه ، كما قالا له : (إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ) فهو يسأل موجها الكلام إلى موسى لما بدا له أنه هو صاحب
الدعوى : (فَمَنْ رَبُّكُما يا
مُوسى؟) من ربكما الذي تتكلمان باسمه وتطلبان اطلاق بني إسرائيل؟
فأما موسى ـ عليهالسلام ـ فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى : (قالَ : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) .. ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي
أوجده بها وفطره عليها. ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها ؛ وأمده بما يناسب
هذه الوظيفة ويعينه عليها. وثم هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شيء مخلوق ومعه
الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها ، وليس هناك افتراق زمني بين خلق
المخلوق وخلق وظيفته. إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى
وظيفته ؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا ..
وهذا الوصف
الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى ـ عليهالسلام ـ يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود : هبة الوجود لكل
موجود .. وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها. وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها ..
وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته ـ في حدود ما يطيق ـ في جنبات هذا الوجود الكبير
تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير. من الذرة
المفردة إلى أضخم الأجسام ، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان.
هذا الوجود
الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا ، والخلائق والأحياء ؛ وكل ذرة فيه
تنبض ، وكل خلية فيه تحيا ، وكل حي فيه يتحرك ، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع
الكائنات الأخرى .. وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل اطار. النواميس المودعة في
فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات!
وكل كائن
بمفرده كون وحده وعالم بذاته ، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق
الفطرة التي فطرت عليها ، داخل حدود الناموس العام ، في توافق وانتظام.
وكل كائن
بمفرده ـ ودعك من الكون الكبير ـ يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة
خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه. دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى
وظائفها ، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان. وهو خلق من خلق الله .. وهبه وجوده ،
على الهيئة التي وجد بها؟ للوظيفة التي خلق لها ، كأي شيء من هاته الأشياء!
إلا أنه للإله
الواحد .. ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ..
وثنى فرعون
بسؤال آخر :
(قالَ : فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى؟).
ما شأن القرون
التي مضت من الناس؟ أين ذهبت؟ ومن كان ربها؟ وما يكون شأنها وقد هلكت لا تعرف
إلهها هذا؟
(قالَ : عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) ..
بهذا أحال موسى
ذلك الغيب البعيد في الزمان ، الخافي عن العيان ، إلى ربه الذي لا يفوت علمه شيء ولا
ينسى شيئا. فهو الذي يعلم شأن تلك القرون كله. في ماضيها وفي مستقبلها. والغيب لله
والتصرف في شأن البشر لله.
ثم يستطرد
فيعرض على فرعون آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان. فيختار بعض هذه
الآثار المحيطة بفرعون ، المشهودة له في مصر ذات التربة الخصبة والماء الموفور
والزروع والأنعام :
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ، وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً ، وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى. كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) ..
والأرض كلها
مهد للبشر في كل مكان وزمان. مهد كمهد الطفل. وما البشر إلا أطفال هذه الأرض. يضمهم
حضنها ويغذوهم درها! وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة. جعلها
الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه. فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي
خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها ؛ وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي
خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم .. المعنيان
متقاربان متصلان.
وصورة المهد
وصفة التمهيد لا تبدو في بقعة من الأرض كما تبدو في مصر. ذلك الوادي الخصيب الأخضر
السهل الممهد الذي لا يحوج أهله إلا إلى أيسر الكد في زرعه وجناه. وكأنما هو المهد
الحاني على الطفل يضمه ويرعاه والخالق المدبر الذي جعل الأرض مهدا ، شق للبشر فيها
طرقا وأنزل من السماء ماء. ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض ـ ومنها نهر النيل القريب
من فرعون ـ فيخرج النبات أزواجا من أجناس كثيرة. ومصر أظهر نموذج لإخراج النبات
لطعام الإنسان ورعي الحيوان.
وقد شاء الخالق
المدبر أن يكون النبات أزواجا كسائر الأحياء. وهي ظاهرة مطردة في الأحياء كلها. والنبات
في الغالب يحمل خلايا التذكير ، وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة وأحيانا يكون
اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية. وبذلك يتم التناسق
في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع .. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) .. وما من عقل مستقيم يتأمل هذا النظام العجيب ثم لا يطلع
فيه على آيات تدل على الخالق المدبر الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ..
ويكمل السياق
حكاية قول موسى بقول مباشر من الله جل وعلا :
(مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى. وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى).
من هذه الأرض
التي جعلناها لكم مهدا وسلكنا لكم فيها سبلا وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به
أزواجا من نبات شتى ، للأكل والمرعى .. من هذه الأرض خلقناكم ، وفي هذه الأرض
نعيدكم ، ومنها نخرجكم بعد موتكم.
والإنسان مخلوق
من مادة هذه الأرض. عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالا. ومن زرعها يأكل ، ومن
مائها يشرب ، ومن هوائها يتنفس. وهو ابنها وهي له مهد. وإليها يعود جثة تطويها
الأرض ، ورفاتا يختلط بترابها ، وغازا يختلط بهوائها. ومنها يبعث إلى الحياة
الأخرى ، كما خلق في النشأة الأولى.
وللتذكير
بالأرض هنا مناسبة في مشهد الحوار مع فرعون الطاغية المتكبر ، الذي يتسامى إلى
مقام الربوبية ؛ وهو من هذه الأرض وإليها! وهو شيء من الأشياء التي خلقها الله في
الأرض وهداها إلى وظيفتها .. (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) أريناه الآيات الكونية التي وجهه إليها موسى ـ عليهالسلام ـ فيما حوله ، وآيتي العصا واليد يجملهما هنا لأنهما بعض آيات الله ، وما
في الكون منها أكبر وأبقى. لذلك لا يفصل السياق هنا عرض هاتين الآيتين على فرعون ،
فهذا مفهوم ضمنا ، إنما يفصل رده على الآيات كلها فنفهم أنه يشير إليهما ..
(قالَ : أَجِئْتَنا
لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ
مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً
لا
نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ ، مَكاناً سُوىً. قالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) ..
وهكذا لم يمض
فرعون في الجدل ، لأن حجة موسى ـ عليهالسلام ـ فيه واضحة وسلطانه فيه قوي ، وهو يستمد حجته من آيات الله في الكون ، ومن
آياته الخاصة معه .. إنما لجأ إلى اتهام موسى بالسحر الذي يجعل العصا حية تسعى ،
ويحيل اليد بيضاء من غير سوء. وقد كان السحر أقرب خاطر إلى فرعون لأنه منتشر في
ذلك الوقت في مصر ؛ وهاتان الآيتان أقرب في طبيعتهما إلى المعروف من السحر .. وهو
تخييل لا حقيقة ، وخداع للبصر والحواس ، قد يصل إلى خداع الإحساس ، فينشىء فيه
آثارا محسوسة كآثار الحقيقة. كما يشاهد من رؤية الإنسان لأشياء لا وجود لها ، أو
في صورة غير صورتها. وما يشاهد من تأثر المسحور أحيانا تأثرات عصبية وجسدية كما لو
كان الأثر الواقع عليه حقيقة .. وليس من هذا النوع آيتا موسى. إنما هما من صنع
القدرة المبدعة المحولة للأشياء حقا. تحويلا وقتيا أو دائما.
(قالَ : أَجِئْتَنا
لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟).
ويظهر أن
استعباد بني إسرائيل كان إجراء سياسيا خوفا من تكاثرهم وغلبتهم. وفي سبيل الملك
والحكم لا يتحرج الطغاة من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل
معاني الإنسانية وعن الخلق والشرف والضمير. ومن ثم كان فرعون يستأصل بني إسرائيل
ويذلهم بقتل المواليد الذكور. واستبقاء الإناث ؛ وتسخير الكبار في الشاق المهلك من
الأعمال .. فلما قال له موسى وهارون : أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قال : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا
بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟) لأن إطلاق بني إسرائيل تمهيد للاستيلاء على الحكم
والأرض.
وإذا كان موسى
يطلب إطلاق بني إسرائيل لهذا الغرض ، وكل ما يقدمه هو عمل من أعمال السحر ، فما
أسهل الرد عليه : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ
بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) .. وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إنما تخفي
وراءها هدفا من أهداف هذه الأرض ؛ وأنها ليست سوى ستار للملك والحكم .. ثم هم يرون
مع أصحاب الدعوات آيات ، إما خارقة كآيات موسى ، وإما مؤثرة في الناس تأخذ طريقها
إلى قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق. فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا ..
سحر نأتي بسحر مثله! كلام نأتي بكلام من نوعه! صلاح نتظاهر بالصلاح! عمل طيب نرائي
بعمل طيب! ولا يدركون أن للعقائد رصيدا من الإيمان ، ورصيدا من عون الله ؛ فهي
تغلب بهذا وبذاك ، لا بالظواهر والأشكال!
وهكذا طلب
فرعون إلى موسى تحديد موعد للمباراة مع السحرة .. وترك له اختيار ذلك الموعد :
للتحدي : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا
وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) وشدد عليه في عدم إخلاف الموعد زيادة في التحدي (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ). وأن يكون الموعد في مكان مفتوح مكشوف : (مَكاناً سُوىً) مبالغة في التحدي!
وقبل موسى ـ عليهالسلام ـ تحدي فرعون له ؛ واختار الموعد يوم عيد من الأعياد الجامعة ، يأخذ فيه
الناس في مصر زينتهم ، ويتجمعون في الميادين والأمكنة المكشوفة ؛ (قالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ). وطلب أن يجمع الناس ضحى ، ليكون المكان مكشوفا والوقت
ضاحيا. فقابل التحدي بمثله وزاد عليه اختيار الوقت في أوضح فترة من النهار وأشدها
تجمعا في يوم العيد. لا في الصباح الباكر حيث لا يكون الجميع قد غادروا البيوت.
ولا في الظهيرة فقد يعوقهم الحر ، ولا في المساء حيث يمنعهم الظلام من التجمع أو
من وضوح الرؤية ..!!
وانتهى المشهد
الأول من مشاهد اللقاء بين الإيمان والطغيان في الميدان ..
وهنا يسدل
الستار ليرفع على مشهد المباراة :
* * *
(فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) ..
ويجمل السياق
في هذا التعبير كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه ، وما دار بينه وبين
السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة ، وما فكر فيه وما دبر هو ومستشاروه ..
يجمله في جملة : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى. وتصور تلك الآية الواحدة القصيرة
ثلاث حركات متواليات : ذهاب فرعون ، وجمع كيده ، والإتيان به.
ورأى موسى ـ عليهالسلام ـ قبل الدخول في المباراة أن يبذل لهم النصيحة ، وأن يحذرهم عاقبة الكذب
والافتراء على الله ، لعلهم يثوبون إلى الهدى ، ويدعون التحدي بالسحر والسحر
افتراء :
(قالَ لَهُمْ مُوسى :
وَيْلَكُمْ! لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ
، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى).
والكلمة الصادقة
تلمس بعض القلوب وتنفذ فيها. ويبدو أن هذا الذي كان ؛ فقد تأثر بعض السحرة بالكلمة
المخلصة ، فتلجلج في الأمر ؛ وأخذ المصرون على المباراة يجادلونهم همسا خيفة أن
يسمعهم موسى :
(فَتَنازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) ..
وجعل بعضهم
يحمس بعضا ، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون ، اللذين يريدان
الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها ؛ مما يوجب مواجهتهما يدا واحدة بلا تردد
ولا نزاع. واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح :
(قالُوا : إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا. وَقَدْ
أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) ..
وهكذا تنزل
الكلمة الصادقة الواحدة الصادرة عن عقيدة ، كالقذيفة في معسكر المبطلين وصفوفهم ،
فتزعزع اعتقادهم في أنفسهم وفي قدرتهم ، وفي ما هم عليه من عقيدة وفكرة. وتحتاج
إلى مثل هذا التحميس والتشجيع. وموسى وأخوه رجلان اثنان ، والسحرة كثيرون ،
ووراءهم فرعون وملكه وجنده وجبروته وماله .. ولكن موسى وهارون كان معهما ربهما
يسمع ويرى ..
ولعل هذا هو
الذي يفسر لنا تصرف فرعون الطاغية المتجبر ، وموقف السحرة ومن ورائهم فرعون. فمن
هو موسى ومن هو هارون من أول الأمر حتى يتحداهما فرعون ويقبل تحديهما ؛ ويجمع كيده
ثم يأتي ؛ ويحشر السحرة ويجمع الناس ؛ ويجلس هو والملأ من قومه ليشهدوا المباراة؟
وكيف قبل فرعون أن يجادله موسى ويطاوله؟ وموسى فرد من بني إسرائيل المستعبدين
المستذلين تحت قهره؟ .. إنها الهيبة التي ألقاها الله على موسى وهارون وهو معهما
يسمع ويرى ..
وهي كذلك التي
جعلت جملة واحدة توقع الارتباك في صفوف السحرة المدربين ، فتحوجهم إلى التناجي سرا
؛ وإلى تجسيم الخطر ، واستثارة الهمم ، والدعوة إلى التجمع والترابط والثبات.
ثم أقدموا :
__________________
(قالُوا : يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ..
وهي دعوة
الميدان إلى النزال. يبدو فيها التماسك وإظهار النصفة والتحدي.
(قالَ : بَلْ أَلْقُوا) ..
فقبل التحدي ،
وترك لهم فرصة البدء ، واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة .. ولكن ماذا؟ إنه لسحر عظيم
فيما يبدو ، وحركة مفاجئة ماجت بها الساحة حتى موسى :
(فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) ، والتعبير يشي بعظمة ذلك السحر وضخامته حتى ليوجس في
نفسه خيفة موسى ، ومعه ربه يسمع ويرى.
وهو لا يوجس في
نفسه خيفة إلا لأمر جلل ينسيه لحظة أنه الأقوى ، حتى يذكره ربه بأن معه القوة الكبرى
:
(قُلْنا : لا تَخَفْ.
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا.
إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ..
لا تخف إنك أنت
الأعلى. فمعك الحق ومعهم الباطل. معك العقيدة ومعهم الحرفة. معك الإيمان بصدق ما
أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة. أنت متصل بالقوة الكبرى وهم
يخدمون مخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا.
لا تخف (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) بهذا التنكير للتضخيم (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا). فهو سحر من تدبير ساحر وعمله. والساحر لا يفلح أنى ذهب
وفي أي طريق سار ، لأنه يتبع تخييلا ويصنع تخييلا ؛ ولا يعتمد على حقيقة ثابتة
باقية. شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق المعتمد على الصدق. وقد يبدو باطله
ضخما فخما ، مخيفا لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول
ولا تتظاهر ؛ ولكنها تدمغ الباطل في النهاية ، فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه ، فإذا
هو يتوارى.
وألقى موسى ..
ووقعت المفاجأة الكبرى. والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين
جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس على الفوز فيها ، والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم
بعضا ويدفع بعضهم بعضا. والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلى حد أن يوجس في نفسه
خيفة موسى.
ويخيل اليه ـ وهو
الرسول ـ أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى! يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة
تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم ، لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه ؛ ولا يكفي النطق
للإفضاء به :
(فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً. قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ..
إنها اللمسة
تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله. وتصادف «الزر» الصغير فينبعث النور ويشرق
الظلام. إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان.
ولكن أنى
للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف؟ أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب؟ وهم قد
نسوا لطول ما طغوا وبغوا ، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم ، نسوا أن الله هو
مقلب القلوب ؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان
:
(قالَ : آمَنْتُمْ
لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ ، فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً
وَأَبْقى).
(آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) .. قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون
ـ وقد لمس الإيمان
قلوبهم ـ أن يدفعوه عنها ، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف
يشاء.
(إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) .. فذلك سر الاستسلام في نظره ، لا أنه الإيمان الذي دب
في قلوبهم من حيث لا يحتسبون. ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال.
ثم التهديد
الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة ؛ ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين
يعجزون عن قهر القلوب والأرواح : (فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ).
ثم الاستعلاء
بالقوة الغاشمة. قوة الوحوش في الغابة. القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال ، ولا
تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب : (وَلَتَعْلَمُنَّ
أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى)!
ولكنه كان قد
فات الأوان. كانت اللمسة الإيمانية قد وصلت الذرة الصغيرة بمصدرها الهائل. فإذا هي
قوية قويمة. وإذا القوى الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة. وإذا الحياة الأرضية كلها زهيدة
زهيدة. وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى
الأرض وما بها من عرض زائل. ولا إلى حياة الأرض وما فيها من متاع تافه :
(قالُوا : لَنْ
نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا ، فَاقْضِ ما
أَنْتَ قاضٍ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ،
وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).
إنها لمسة
الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنما يتسابق
إليه المتسابقون. فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة ، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه
وسلطانه :
(قالُوا : لَنْ
نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا ...) فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) ودونك وما تملكه لنا في الأرض. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ
الدُّنْيا). فسلطانك مقيد بها ، ومالك من سلطان علينا في غيرها.
وما أقصر الحياة الدنيا ، وما أهون الحياة الدنيا. وما تملكه لنا من عذاب أيسر من
أن يخشاه قلب يتصل بالله ، ويأمل في الحياة الخالدة أبدا. (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ
لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) مما كنت تكلفنا به فلا نملك لك عصيانا ؛ فلعل بإيماننا
بربنا يغفر لنا خطايانا. (وَاللهُ خَيْرٌ
وَأَبْقى) خير قسمة وجوارا ، وأبقى مغنما وجزاء. إن كنت تهددنا
بمن هو أشد وأبقى ...
وألهم السحرة
الذين آمنوا بربهم أن يقفوا من الطاغية موقف المعلم المستعلي :
(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وَمَنْ
يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ
الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى).
فإذا كان
يتهددهم بمن هو أشد وأبقى. فها هي ذي صورة لمن يأتي ربه مجرما هي أشد عذابا وأدوم (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ
فِيها وَلا يَحْيى) فلا هو ميت فيستريح ، ولا هو حي فيتمتع. إنما هو العذاب
الذي لا ينتهي إلى موت ولا ينتهي إلى حياة .. وفي الجانب الآخر الدرجات العلى ..
جنات للإقامة ندية بما يجري تحت غرفاتها من أنهار (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ
تَزَكَّى) وتطهر من الآثام.
وهزأت القلوب
المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر ، وواجهته بكلمة الإيمان القوية. وباستعلاء الإيمان
الواثق. وبتحذير الإيمان الناصع. وبرجاء الإيمان العميق.
ومضى هذا
المشهد في تاريخ البشرية إعلانا لحرية القلب البشري باستعلائه على قيود الأرض
وسلطان
الأرض ، وعلى الطمع ، في المثوبة والخوف من السلطان. وما يملك القلب البشري
أن يجهر بهذا الإعلان القوي إلا في ظلال الإيمان.
وهنا يسدل
الستار ليرفع على مشهد آخر وحلقة من القصة جديدة.
إنه مشهد
انتصار الحق والإيمان في واقع الحياة المشهود ، بعد انتصارهما في عالم الفكرة
والعقيدة. فلقد مضى السياق بانتصار آية العصا على السحر ؛ وانتصار العقيدة في قلوب
السحرة على الاحتراف ؛ وانتصار الإيمان في قلوبهم على الرغب والرهب ، والتهديد
والوعيد. فالآن ينتصر الحق على الباطل والهدى على الضلال ، والإيمان على الطغيان
في الواقع المشهود. والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول. فما يتحقق النصر في عالم
الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير ؛ وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد
أن يستعلوا بالحق في الباطن .. إن للحق والإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت
طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية. فأما إذا ظل الإيمان مظهرا لم
يتجسم في القلب ، والحق شعارا لا ينبع من الضمير ، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان
، لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان ..
يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب ؛ فتصبحا أقوى من حقيقة
القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ويصول بها الطغيان .. وهذا هو الذي كان في
موقف موسى ـ عليهالسلام ـ من السحر والسحرة. وفي موقف السحرة من فرعون وملئه. ومن ثم انتصر الحق في
الأرض كما يعرضه هذا المشهد في سياق السورة :
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا
إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ
يَبَساً ، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما
هَدى) ..
ولا يذكر
السياق هنا ما الذي كان بعد مواجهة الإيمان للطغيان في موقف السحرة مع فرعون. ولا
كيف تصرف معهم بعد ما اعتصموا بإيمانهم مستقبلين التهديد والوعيد بقلب المؤمن
المتعلق بربه ، المستهين بحياة الأرض وما فيها ومن فيها. إنما يعقب بهذا المشهد.
مشهد الانتصار الكامل ليتصل النصر القلبي بالنصر الواقعي. وتتجلى رعاية الله
لعباده المؤمنين كاملة حاسمة .. ولنفس الغرض لا يطيل هنا في مشهد الخروج والوقوف
أمام البحر ـ كما يطيل في سور أخرى ـ بل يبادر بعرض مشهد النصر بلا مقدمات كثيرة.
لأن مقدماته كانت في الضمائر والقلوب.
وإن هو إلا
الإيحاء لموسى أن يخرج بعباد الله ـ بني إسرائيل ـ ليلا. فيضرب لهم طريقا في البحر
يبسا بدون تفصيل ولا تطويل ـ فنعرضه نحن كذلك كما جاء ـ مطمئنا إلى أن عناية الله
ترعاهم فلا يخاف أن يدركه فرعون وجنوده ، ولا يخشى من البحر الذي اتخذ له طريقا
يابسا فيه!
ويد القدرة
التي أجرت الماء وفق الناموس الذي أرادته قادرة على أن تكشفه بعض الوقت عن طريق
يابس فيه!
(فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ. وَأَضَلَّ
فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) ..
هكذا يجمل
السياق كذلك ما غشي فرعون وقومه ، ولا يفصله ، ليبقى وقعه في النفس شاملا مهولا ؛
لا يحدده التفصيل ، وقاد فرعون قومه إلى الضلال في الحياة كما قادهم إلى الضلال
والبحر. وكلاهما ضلال يؤدي إلى البوار ..
ولا نتعرض نحن
لتفصيلات ما حدث في هذا الموضع ، كي نتابع السياق في حكمة الإجمال. إنما نقف أمام
العبرة التي يتركها المشهد ونتسمع لإيقاعه في القلوب ..
لقد تولت يد
القدرة إدارة المعركة بين الإيمان والطغيان فلم يتكلف أصحاب الإيمان فيها شيئا سوى
اتباع الوحي والسرى ليلا. ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين في
عالم الواقع .. موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة ، وفرعون وجنده يملكون القوة
كلها. فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلا. هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة. ولكن
بعد أن اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها. بعد أن استعلن
الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه ؛ لا يرهب وعيده ولا يرغب في شيء مما
في يده .. يقول الطغيان : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) فيقول الإيمان : (فَاقْضِ ما أَنْتَ
قاضٍ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) .. عند ما بلغت المعركة بين الإيمان والطغيان في عالم
القلب إلى هذا الحد تولت يد القدرة راية الحق لتعرفعها عالية ، وتنكس راية الباطل
بلا جهد من أهل الإيمان.
وعبرة أخرى ..
إنه حين كان
بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم تتدخل يد
القدرة لإدارة المعركة. فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستكانة وخوفا.
فأما حين استعلن الإيمان ، في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب
وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج ودون تحرج ، ودون
اتقاء للتعذيب. فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة. وإعلان النصر
الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب ..
هذه هي العبرة
التي يبرزها السياق بذلك الإجمال ، وبتتابع المشهدين بلا عائق من التفصيلات.
ليستيقنها أصحاب الدعوات ، ويعرفوا متى يرتقبون النصر من عند الله وهم مجردون من
عدة الأرض. والطغاة يملكون المال والجند والسلاح.
* * *
وفي ظلال النصر
والنجاة يتوجه الخطاب إلى الناجين بالتذكير والتحذير ، كي لا ينسوا ولا يبطروا ؛
ولا يتجردوا من السلاح الوحيد الذي كان لهم في المعركة فضمنوا به النصر والنجاح :
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ؛ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ
الْأَيْمَنَ ، وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى. كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ،
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ..
لقد جازوا
منطقة الخطر ، وانطلقوا ناجين ناحية الطور. وتركوا وراءهم فرعون وجنده غرقى :
وإنجاؤهم من عدوهم واقع قريب يذكرونه اللحظة فلم يمض عليه كثير. ولكنه إعلان
التسجيل. والتذكير بالنعمة المشهودة ليعرفوها ويشكروها.
ومواعدتهم جانب
الطور الأيمن يشار إليها هنا على أنها أمر وقع ؛ وكانت مواعدة لموسى ـ عليهالسلام ـ بعد خروجهم من مصر ، أن يأتي إلى الطور بعد أربعين ليلة يتهيأ فيها للقاء
ربه ، ليسمع ما يوحى إليه في الألواح من أمور العقيدة والشريعة ، المنظمة لهذا
الشعب الذي كتب له دورا يؤديه في الأرض المقدسة بعد الخروج من مصر.
وتنزيل المن.
وهو مادة حلوة تتجمع على أوراق الشجر. والسلوى وهو طائر السماني يساق إليهم في
الصحراء ، قريب المتناول سهل التناول ، كان نعمة من الله ومظهرا لعنايته بهم في
الصحراء الجرداء. وهو يتولاهم حتى في طعامهم اليومي فييسره لهم من أقرب الموارد.
وهو يذكرهم
بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها. بالبطنة
والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له ، والتكليف الذي
يعدهم ربهم لتلقيه. ويسميه طغيانا وهم قريبو العهد بالطغيان ، ذاقوا منه ما ذاقوا
، ورأوا من نهايته ما رأوا. (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) .. ولقد هوى فرعون منذ قليل. هوى عن عرشه وهوى في الماء
.. والهوى إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي. والتعبير ينسق هذه المقابلات في اللفظ
والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة.
هذا هو التحذير
والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا ؛ كي لا تبطرهم النعمة ،
ولا يترفوا فيها فيسترخوا .. وإلى جانب التحذير والإنذار يفتح باب التوبة لمن
يخطىء ويرجع :
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ..
والتوبة ليست
كلمة تقال ، إنما هي عزيمة في القلب ، يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح.
ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع. فإذا وقعت التوبة وصح الإيمان ،
وصدقه العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق ، على هدى من الإيمان ، وعلى ضمانة من
العمل الصالح. فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل ..
وإلى هنا ينتهي
مشهد النصر والتعقيب عليه. فيسدل الستار حتى يرفع على مشهد المناجاة الثانية إلى
جانب الطور الأيمن ...
* * *
لقد واعد الله
موسى ـ عليهالسلام ـ على الجبل ميعادا ضربه له ليلقاه بعد أربعين يوما ؛ لتلقي التكاليف : تكاليف
النصر بعد الهزيمة. وللنصر تكاليفه ، وللعقيدة تكاليفها ، ولا بد من تهيؤ نفسي
واستعداد للتلقي.
وصعد موسى إلى
الجبل ، وترك قومه في أسفله ، وترك عليهم هارون نائبا عنه ..
لقد غلب الشوق
على موسى إلى مناجاة ربه ، والوقوف بين يديه ، وقد ذاق حلاوتها من قبل ، فهو إليها
مشتاق عجول. ووقف في حضرة مولاه. وهو لا يعلم ما وراءه ، ولا ما أحدث القوم بعده ؛
حين تركهم في أسفل الجبل.
وهنا ينبئه ربه
بما كان خلفه .. فلنشهد المشهد ولنسمع الحوار :
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى؟ قالَ : هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي ، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضى. قالَ : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ).
وهكذا فوجىء
موسى .. إنه عجلان إلى ربه ، بعد ما تهيأ واستعد أربعين يوما ، ليلقاه ويتلقى منه
التوجيه الذي يقيم عليه حياة بني إسرائيل الجديدة. وقد استخلصهم من الذل
والاستعباد ، ليصوغ منهم أمة ذات رسالة ، وذات تكاليف.
ولكن الاستعباد
الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف
استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها ، والوفاء بالعهد والثبات عليه ؛ وترك في
كيانهم النفسي خلخلة واستعدادا للانقياد والتقليد المريح .. فما يكاد موسى يتركهم
في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختيار.
ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم
النفسي. وكان أول ابتلاء هو ابتلاؤهم بالعجل الذي صنعه لهم السامري : (قالَ : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ
مِنْ بَعْدِكَ ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) ولم يكن لدى موسى علم بهذا الابتلاء ، حتى لقي ربه ،
وتلقى الألواح وفي نسختها هدى ، وبها الدستور التشريعي لبناء بني إسرائيل بناء
يصلح للمهمة التي هم منتدبون لها.
وينهي السياق
موقف المناجاة هنا على عجل ويطويه ، ليصور انفعال موسى ـ عليهالسلام ـ مما علم من أمر الفتنة ، ومسارعته بالعودة ، وفي نفسه حزن وغضب ، على
القوم الذين أنقذهم الله على يديه من الاستعباد والذل في ظل الوثنية ؛ ومن عليهم
بالرزق الميسر والرعاية الرحيمة في الصحراء ؛ وذكرهم منذ قليل بآلائه ، وحذرهم
الضلال وعواقبه. ثم ها هم أولاء يتبعون أول ناعق إلى الوثنية ، وإلى عبادة العجل!
ولم يذكر هنا
ما أخبر الله به موسى من تفصيلات الفتنة ، استعجالا في عرض موقف العودة إلى قومه.
ولكن السياق يشي بهذه التفصيلات. فلقد عاد موسى غضبان أسفا يوبخ قومه ويؤنب أخاه.
فلا بد أنه كان يعلم شناعة الفعلة التي أقدموا عليها :
(فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ : يا قَوْمِ : أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ
وَعْداً حَسَناً؟ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ؛ قالُوا : ما
أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ، وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ
الْقَوْمِ فَقَذَفْناها ، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ، فَقالُوا : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ،
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ : يا قَوْمِ
إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا
أَمْرِي. قالُوا : لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا
مُوسى!).
هذه هي الفتنة
يكشف السياق عنها في مواجهة موسى بقومه ؛ وقد أخر كشفها عن موقف المناجاة ، واحتفظ
بتفصيلاتها لتظهر في مشهد التحقيق الذي يقوم به موسى ..
لقد رجع موسى
ليجد قومه عاكفين على عجل من الذهب له خوار يقولون : هذا إلهكم وإله موسى. وقد نسي
موسى فذهب يطلب ربه على الجبل وربه هنا حاضر!
فراح موسى
يسألهم في حزن وغضب : (يا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟) وقد وعدهم الله بالنصر ودخول الأرض المقدسة في ظل
التوحيد ؛ ولم يمض على هذا الوعد وإنجاز مقدماته طويل وقت. ويؤنبهم في استنكار : (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ
أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ؟) فعملكم هذا عمل من يريد أن يحل عليه غضب من الله كأنما
يتعمد ذلك تعمدا ، ويقصد إليه قصدا! .. أفطال عليكم العهد؟ أم تعمدتم حلول الغضب (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) وقد تواعدنا على أن تبقوا على عهدي حتى أعود إليكم ، لا
تغيرون في عقيدتكم ولا منهجكم بغير أمري؟
عندئذ يعتذرون
بذلك العذر العجيب ، الذي يكشف عن أثر الاستعباد الطويل ، والتخلخل النفسي والسخف
العقلي : (قالُوا : ما
أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) فلقد كان الأمر أكبر من طاقتنا! (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ
زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها) .. وقد حملوا معهم أكداسا من حلي المصريات كانت عارية
عند نسائهم فحملنها معهن. فهم يشيرون إلى هذه الأحمال. ويقولون : لقد قذفناها
تخلصا منها لأنها حرام. فأخذها السامري فصاغ منها عجلا. والسامري رجل من «سامراء»
كان يرافقهم أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب. وجعل له منافذ إذا دارت فيها الريح
أخرجت صوتا كصوت الخوار ، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد ـ ولفظ الجسد يطلق على
الجسم الذي لا حياة فيه ـ فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي
أنقذهم
من أرض الذل ، وعكفوا على عجل الذهب ؛ وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) راح يبحث عنه على الجبل ، وهو هنا معنا. وقد نسي موسى
الطريق إلى ربه وضل عنه!
وهي قولة تضيف
إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه ،
وبتوجيهه وإرشاده. اتهامهم له بأنه غير موصول بربه ، حتى ليضل الطريق إليه ، فلا
هو يهتدي ولا ربه يهديه!
ذلك فضلا على
وضوح الخدعة : (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟) والمقصود أنه حتى لم يكن عجلا حيا يسمع قولهم ويستجيب
له على عادة العجول البقرية! فهو في درجة أقل من درجة الحيوانية. وهو بطبيعة الحال
لا يملك لهم ضرا ولا نفعا في أبسط صورة. فهو لا ينطح ولا يرفس ولا يدير طاحونة ولا
ساقية!
وغير ذلك كله
لقد نصح لهم هارون ، وهو نبيهم كذلك ، والنائب عن نبيهم المنقذ. ونبههم إلى أن هذا
ابتلاء. قال : (يا قَوْمِ إِنَّما
فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ونصحهم باتباعه وطاعته كما تواعدوا مع موسى ، وهو عائد
إليهم بعد ميعاده مع ربه على الجبل .. ولكنهم بدلا من الاستجابة له التووا وتملصوا
من نصحه ، ومن عهدهم لنبيهم بطاعته ، وقالوا : (لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) ..
رجع موسى إلى
قومه غضبان أسفا ؛ فسمع منهم حجتهم التي تكشف عن مدى ما أصاب نفوسهم من تخلخل ،
وأصاب تفكيرهم من فساد. فالتفت إلى أخيه وهو في فورة الغضب ، يأخذ بشعر رأسه
وبلحيته في انفعال وثورة :
(قالَ : يا هارُونُ ما
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟).
يؤنبه على
تركهم يعبدون العجل ، دون أن يبطل عبادته ، اتباعا لأمر موسى ـ عليهالسلام ـ بألا يحدث أمرا بعده ، ولا يسمح بإحداث أمر. ويستنكر عليه عدم تنفيذه ،
فهل كان ذلك عصيانا لأمره؟
وقد قرر السياق
ما كان من موقف هارون. فهو يطلع أخاه عليه ؛ محاولا أن يهدىء من غضبه ، باستجاشة
عاطفة الرحم في نفسه :
(قالَ : يَا بْنَ
أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي. إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ :
فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي).
وهكذا نجد
هارون أهدأ أعصابا وأملك لانفعاله من موسى ، فهو يلمس في مشاعره نقطة حساسة. ويجيء
له من ناحية الرحم وهي أشد حساسية ، ويعرض له وجهة نظره في صورة الطاعة لأمره حسب
تقديره ؛ وأنه خشي إن هو عالج الأمر بالعنف أن يتفرق بنو إسرائيل شيعا ، بعضها مع
العجل ، وبعضها مع نصيحة هارون. وقد أمره بأن يحافظ على بني إسرائيل ولا يحدث فيهم
أمرا. فهي كذلك طاعة الأمر من ناحية أخرى ..
عندئذ يتجه
موسى بغضبه وانفعاله إلى السامري صاحب الفتنة من أساسها. إنما لم يتوجه إليه منذ
البدء ، لأن القوم هم المسئولون ألا يتبعوا كل ناعق ، وهارون هو المسئول أن يحول
بينهم وبين اتباعه إذا هموا بذلك وهو قائدهم المؤتمن عليهم. فأما السامري فذنبه
يجيء متأخرا لأنه لم يفتنهم بالقوة ، ولم يضرب على عقولهم ، إنما أغواهم فغووا ،
وكانوا يملكون أن يثبتوا على هدى نبيهم الأول ونضح نبيهم الثاني. فالتبعة عليهم
أولا وعلى راعيهم بعد ذلك. ثم على صاحب الفتنة والغواية أخيرا.
اتجه موسى إلى
السامري!
(قالَ : فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ؟) .. أي ما شأنك وما قصتك. وهذه الصيغة تشير إلى جسامة
الأمر ، وعظم الفعلة.
(قالَ : بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها.
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) ..
وتتكاثر
الروايات حول قول السامريّ هذا. فما هو الذي بصر به؟ ومن هو الرسول الذي قبض قبضة
من أثره فنبذها؟ وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه؟ وما أثر هذه القبضة فيه؟
والذي يتردد
كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل ـ عليهالسلام ـ وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض ؛ فقبض قبضة من تحت قدمه ، أو من
تحت حافر فرسه ، فألقاها على عجل الذهب ، فكان له هذا الخوار. أو إنها هي التي
أحالت كوم الذهب عجلا له خوار ..
والقرآن لا
يقرر هنا حقيقة ما حدث ، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية .. ونحن نميل إلى
اعتبار هذا عذرا من السامريّ وتملصا من تبعة ما حدث. وأنه هو صنع العجل من الذهب
الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم ، وأنه صنعه بطريقة تجعل
الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار. ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه
، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول!
وعلى أية حال
فقد أعلنه موسى ـ عليهالسلام ـ بالطرد من جماعة بني إسرائيل. مدة حياته. ووكل أمره بعد ذلك إلى الله.
وواجهه بعنف في أمر إلهه الذي صنعه بيده. ليرى قومه بالدليل المادي أنه ليس إلها ،
فهو لا يحمي صانعه ، ولا يدفع عن نفسه :
(قالَ : فَاذْهَبْ
فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ : لا مِساسَ. وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً
لَنْ تُخْلَفَهُ. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ،
لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) ..
اذهب مطرودا لا
يمسك أحد لا بسوء ولا بخير ولا تمس أحدا ـ وكانت هذه إحدى العقوبات في ديانة موسى.
عقوبة العزل ، وإعلان دنس المدنس فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا ـ
أما الموعد
الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله .. وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل
الذهب ، فيحرق وينسف ويلقى في الماء. والعنف إحدى سمات موسى ـ عليهالسلام ـ وهو هنا غضبة لله ولدين الله ، حيث يستحب العنف وتحسن الشدة.
وعلى مشهد الإله
المزيف يحرق وينسف ، يعلن موسى ـ عليهالسلام ـ حقيقة العقيدة.
(إِنَّما إِلهُكُمُ
اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).
وينتهي بهذا
الإعلان هذا القدر من قصة موسى في هذه السورة. تتجلى فيه رحمة الله ورعايته بحملة
دعوته وعباده. حتى عند ما يبتلون فيخطئون. ولا يزيد السياق شيئا من مراحل القصة
بعد هذا ، لأنه بعد ذلك يقع العذاب على بني إسرائيل بما يرتكبون من آثام وفساد
وطغيان. وجو السورة هو جو الرحمة والرعاية بالمختارين. فلا حاجة إلى عرض مشاهد
أخرى من القصة في هذا الجو الظليل.
(كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ
عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ
وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١)
يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ
يَوْمَئِذٍ
زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ
بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ
يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ
يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥)
فَيَذَرُها
قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها
عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا
تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا
تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١)
وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
وَلَقَدْ
عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)
وَإِذْ
قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)
فَقُلْنا
يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ
تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا
تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا
يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)
وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ
أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)
وَكَذلِكَ
نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ
أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
أَفَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
فَاصْبِرْ
عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ
تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما
مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا
يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ
الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)
قُلْ
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ
السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)
(١٣٥)
بدأت السورة
بالحديث عن القرآن ، وأنه لم ينزل على الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليشقى به أو بسببه. ومن القرآن قصة موسى ـ عليهالسلام ـ وما يبدو فيها من رعاية الله وعنايته بموسى وأخيه وقومه.
فالآن يعقب
السياق على القصة بالعودة إلى القرآن ووظيفته ، وعاقبة من يعرض عنه. ويرسم هذه
العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة ، تتضاءل فيه أيام الحياة الدنيا ؛ وتتكشف الأرض
من جبالها وتعرى ، وتخشع الأصوات للرحمن ، وتعنوا الوجوه للحي القيوم. لعل هذا
المشهد وما في القرآن من وعيد يثير مشاعر التقوى في النفوس ، ويذكرها بالله ويصلها
به .. وينتهي هذا المقطع بإراحة بال الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من القلق من ناحية القرآن الذي ينزل عليه ، فلا يعجل في ترديده خوف أن
ينساه ، ولا يشقى بذلك فالله ميسره وحافظه. إنما يطلب من ربه أن يزيده علما.
وبمناسبة حرص
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على أن يردد ما يوحى إليه قبل انتهاء الوحي خشية النسيان ، يعرض السياق
نسيان آدم لعهد الله. وينتهي بإعلان العداوة بينه وبين إبليس ، وعاقبة من يتذكرون
عهد الله ومن يعرضون عنه من ولد آدم. ويرسم هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة
كأنما هو نهاية الرحلة التي بدأت في الملأ الأعلى ، ثم تنتهي إلى هناك مرة أخرى.
وتختم السورة
بتسلية الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن إعراض المعرضين وتكذيب المكذبين فلا يشقى بهم ، فلهم أجل معلوم. ولا
يحفل بما أوتوه من متاع في الحياة الدنيا فهو فتنة لهم. وينصرف إلى عبادة الله
وذكره فترضى نفسه وتطمئن. ولقد هلكت القرون من قبلهم ، وشاء الله أن يعذر إليهم
بالرسول الأخير ، فلينفض يده من أمرهم ويكلهم إلى مصيرهم.
(قُلْ : كُلٌّ
مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ
وَمَنِ اهْتَدى) ..
* * *
(كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ، وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً.
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً. خالِدِينَ
فِيهِ ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ : إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ..
كذلك القصص
الذي أوحينا إليك بشأن موسى نقص عليك من أنباء ما قد سبق. نقصه عليك في القرآن ـ ويسمى
القرآن ذكرا ، فهو ذكر لله ولآياته ، وتذكير بما كان من هذه الآيات في القرون
الأولى.
ويرسم للمعرضين
عن هذا الذكر ـ ويسميهم المجرمين ـ مشهدا في يوم القيامة. فهؤلاء المجرمون يحملون
أثقالهم كما يحمل المسافر أحماله. ويا لسوئها من أحمال! فإذا نفخ في البوق للتجمع
فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه من الكدر والغم. يتخافتون بينهم بالحديث ، لا يرفعون
به صوتا من الرعب والهول ، ومن الرهبة المخيمة على ساحة الحشر. وفيم يتخافتون؟
إنهم يحسدون عما قضوا على الأرض من أيام. وقد تضاءلت الحياة الدنيا في حسهم ،
وقصرت أيامها في مشاعرهم ، فليست في حسهم سوى أيام قلائل : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) فأما أرشدهم وأصوبهم رأيا فيحسونها أقصر وأقصر : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً). وهكذا تنزوي تلك الأعمار التي عاشوها على الأرض وتنطوي
؛ ويتضاءل متاع الحياة وهموم الحياة ؛ ويبدو ذلك كله فترة وجيزة في الزمان ، وشيئا
ضئيلا في القيمة. فما قيمة عشر ليال ولو حفلت باللذائذ كلها وبالمتاع؟ وما قيمة
ليلة ولو كانت دقائقها ولحظاتها مليئة بالسعادة والمسرة. ما قيمة هذه أو تلك إلى
جانب الآماد التي لا نهاية لها ، والتي تنتظرهم بعد الحشر وتمتد بهم بلا انقطاع؟!
ويزيد مشهد
الهول بروزا ، بالعودة إلى سؤال لهم يسألونه في الدنيا عن الجبال ما يكون من شأنها
يومذاك. فإذا الجواب يصور درجة الهول الذي يواجهونه!
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا
تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ
لَهُ ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً.
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ
لَهُ قَوْلاً. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْماً. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ، وَقَدْ خابَ مَنْ
حَمَلَ ظُلْماً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ
ظُلْماً وَلا هَضْماً) ..
ويتجلى المشهد
الرهيب فإذا الجبال الراسية الراسخة قد نسفت نسفا ؛ وإذا هي قاع بعد ارتفاع قاع
صفصف خال من كل نتوء ومن كل اعوجاج ، فلقد سويت الأرض فلا علو فيها ولا انخفاض ..
وكأنما تسكن
العاصفة بعد ذلك النسف والتسوية ؛ وتنصت الجموع المحشودة المحشورة ، وتخفت كل حركة
وكل نأمة ، ويستمعون الداعي إلى الموقف فيتبعون توجيهه كالقطيع صامتين مستسلمين ،
لا يتلفتون ولا يتخلفون ـ وقد كانوا يدعون إلى الهدى فيتخلفون ويعرضون ـ ويعبر عن
استسلامهم بأنهم (يَتَّبِعُونَ
الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) تنسيقا لمشهد القلوب والأجسام مع مشهد الجبال التي لا
عوج فيها ولا نتوء!
ثم يخيم الصمت
الرهيب والسكون الغامر : (وَخَشَعَتِ
الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) .. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ..
وهكذا يخيم
الجلال على الموقف كله ، وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع.
فالكلام همس. والسؤال تخافت. والخشوع ضاف. والوجوه عانية. وجلال الحي القيوم يغمر
النفوس بالجلال
الرزين. ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله قوله. والعلم كله لله. وهم لا يحيطون
به علما. والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة. والذين آمنوا مطمئنون لا يخشون
ظلما في الحساب ولا هضما لما عملوا من صالحات. إنه الجلال ، يغمر الجو كله ويغشاه
، في حضرة الرحمن.
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً). كذلك على هذا النسق نوعنا في القرآن من صور الوعيد
ومواقفه ومشاهده لعله يستجيش في نفوس المكذبين شعور التقوى ، أو يذكرهم بما سيلقون
في الآخرة فينزجروا .. فذلك إذ يقول الله في أول السورة. (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) ..
ولقد كان
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يلاحق الوحي فيردد ألفاظ القرآن وآياته قبل أن ينتهي الوحي مخافة أن
ينسى. وكان ذلك يشق عليه. فأراد ربه أن يطمئن قلبه على الأمانة التي يحملها.
(فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ. وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ..
فتعالى الله
الملك الحق الذي تعنو له الوجوه ؛ ويخيب في حضرته الظالمون ويأمن في ظله المؤمنون
الصالحون .. هو منزل هذا القرآن من عليائه ، فلا يعجل به لسانك ، فقد نزل القرآن
لحكمة ، ولن يضيعه. إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم ، وأنت مطمئن إلى ما
يعطيك ، لا تخشى عليه الذهاب. وما العلم إلا ما يعلمه الله فهو الباقي الذي في
ينفع ولا يضيع. ويثمر ولا يخيب ..
* * *
ثم تجيء قصة
آدم ، وقد نسي ما عهد الله به إليه ؛ وضعف أمام الإغراء بالخلود ، فاستمع لوسوسة
الشيطان : وكان هذا ابتلاء من ربه له قبل أن يعهد إليه بخلافة الأرض ؛ ونموذجا من
فعل إبليس يتخذ أبناء آدم منه عبرة. فلما تم الابتلاء تداركت آدم رحمة الله
فاجتباه وهداه ..
والقصص القرآني
يجيء في السياق متناسقا معه. وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف
النسيان ، فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان. وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله
ورعايته لمن يجتبيهم من عباده ، فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه.
ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة.
وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الأول ليجزى كل بما قدمت يداه.
فلنتبع القصة
كما جاءت في السياق :
(وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ..
وعهد الله إلى
آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة ، تمثل المحظور الذي لا بد منه
لتربية الإرادة ، وتأكيد الشخصية ، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي
يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عند ما تريد ؛ فلا تستعبدها
الرغائب وتقهرها. وهذا هو المقياس الذي لا يخطىء في قياس الرقي البشري. فكلما كانت
النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي
البشري. وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج
الأولى. من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده
لخلافة الأرض باختبار إرادته ، وتنبيه قوة المقاومة فيه ، وفتح عينيه على ما
ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان ، وإرادته
وعهده للرحمن. وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ثم تعرض تفصيلاتها :
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ
: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) ..
هكذا في إجمال
، يجيء هذا المشهد الذي يفصل في سور أخرى ، لأن السياق هنا سياق النعمة والرعاية
.. فيعجل بمظاهر النعمة في الرعاية :
(فَقُلْنا : يا آدَمُ
إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقى ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا
فِيها وَلا تَضْحى) ..
وكانت هذه
رعاية من الله وعنايته أن ينبه آدم إلى عدوه ويحذره غدره ، عقب نشوزه وعصيانه ،
والامتناع عن السجود لآدم كما أمره ربه. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) فالشقاء بالكد والعمل والشرود والضلال والقلق والحيرة
واللهفة والانتظار والألم والفقدان .. كلها تنتظر هناك خارج الجنة ؛ وأنت في حمى
منها كلها ما دمت في رحاب الفردوس .. (إِنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) .. فهذا كله مضمون لك ما دمت في رحابها ، والجوع والعري
، يتقابلان مع الظمأ والضحوة. وهي في مجموعها تمثل متاعب الإنسان الأولى في الحصول
على الطعام والكساء ، والشراب والظلال.
ولكن آدم كان
غفلا من التجارب. وهو يحمل الضعف البشري تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في
السلطان. ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان :
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطانُ قالَ : يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا
يَبْلى؟)
لقد لمس في
نفسه الموضع الحساس ، فالعمر البشري محدود ، والقوة البشرية محدودة. من هنا يتطلع
إلى الحياة الطويلة وإلى الملك الطويل ، ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان ،
وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر ، لأمر مقدور وحكمة مخبوءة .. ومن ثم نسي العهد
، وأقدم على المحظور :
(فَأَكَلا مِنْها
فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ
الْجَنَّةِ .. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ..
والظاهر أنها
السوءات الحسية تبدت لهما وكانت عنهما مستورة ، وأنها مواضع العفة في جسديهما. يرجح
ذلك أنهما أخذا يسترانها بورق الجنة يشبكانه ليستر هذه المواضع. وقد يكون ذلك
إيذانا باستيقاظ الدوافع الجنسية في كيانهما. فقبل يقظة هذه الدوافع لا يحس
الإنسان بالخجل من كشف مواضع العفة ولا ينتبه إليها ولكنه ينتبه إلى العورات عند
استيقاظ دوافع الجنس ويخجل من كشفها.
وربما كان حظر
هذه الشجرة عليهما ، لأن ثمارها مما يوقظ هذه الدوافع في الجسم تأجيلا لها فترة من
الزمان كما يشاء الله. وربما كان نسيانهما عهد الله وعصيانهما له تبعه هبوط في
عزيمتهما وانقطاع عن الصلة بخالقهما فسيطرت عليهما دوافع الجسد وتنبهت فيهما دوافع
الجنس. وربما كانت الرغبة في الخلود تجسمت في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل ؛
فهذه هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود .. كل هذه
فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوآتهما لهما للأكل من الشجرة. فهو لم يقل : فبدت
سوآتهما. إنما قال : فبدت لهما سوآتهما. مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما
بدافع داخلي من إحساسهما .. وقد جاء في موضع آخر عن إبليس : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما
مِنْ سَوْآتِهِما) ، وجاء : (يَنْزِعُ عَنْهُما
لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) وقد يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا ماديا
إنما هو شعور ساتر ، قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والصلة بالله. وعلى أية حال
فهي مجرد فروض كما أسلفنا لا نؤكدها
ولا نرجح واحدا منها. إنما هي لتقرب صورة التجربة الأولى في حياة البشرية.
ثم أدركت آدم
وزوجه رحمة الله ، بعد ما عصاه ، فقد كانت هذه هي التجربة الأولى :
(ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ..
بعد ما استغفر
آدم وندم واعتذر. ولا يذكر هذا هنا لتبدو رحمة الله في الجو وحدها ..
ثم صدر الأمر
إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى :
(قالَ : اهْبِطا
مِنْها جَمِيعاً ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ..
وبذلك أعلنت
الخصومة في الثقلين. فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما
أخذت على غرة ومن حيث لا أدري. فقد درى وعلم ؛ وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود
كله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ)!
ومع هذا
الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون ، وشهده الملائكة أجمعون. شاءت رحمة الله
بعباده أن يرسل إليهم رسله بالهدى. قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم. فأعلن لهم يوم
أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس ، أنه آتيهم بهدى منه ، فمجاز كلا منهم بعد
ذلك حسبما ضل أو اهتدى :
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدىً ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ
عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أَعْمى. قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ : كَذلِكَ
أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى. وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ
أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ
وَأَبْقى) ..
يجيء هذا
المشهد بعد القصة كأنه جزء منها ، فقد أعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى. فذلك
أمر إذن قضي فيه منذ بعيد ولا رجعة فيه ولا تعديل.
(فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) .. فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله.
وهما ينتظران خارج عتبات الجنة. ولكن الله يقي منهما من اتبع هداه. والشقاء ثمرة
الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع. فهذا المتاع ذاته شقوة. شقوة في الدنيا
وشقوة في الآخرة. وما من متاع حرام ، إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه. وما يضل
الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى
طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه. والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع!
ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء. ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء
في الأرض ، وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود ، حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ، ضنك
مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى
حماه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر : الحرص على ما في اليد والحذر
من الفوت. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت. وما يشعر القلب
بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله. وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة
الوثقى التي لا انفصام لها .. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا
وسعة ، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) وانقطع عن الاتصال بي (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) .. (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى) .. وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا. وذلك جزاء على
إعراضه عن الذكر في الأولى. حتى
إذا سأل : (رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟) كان الجواب : (كَذلِكَ أَتَتْكَ
آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى. وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ
وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)!
ولقد أسرف من
أعرض عن ذكر ربه. أسرف فألقى بالهدى من بين يديه وهو أنفس ثراء وذخر ، وأسرف في
انفاق بصره في غير ما خلق له فلم يبصر من آيات الله شيئا. فلا جرم يعيش معيشة ضنكا!
ويحشر في يوم القيامة أعمى!
اتساق في
التعبير. واتساق في التصوير .. هبوط من الجنة وشقاء وضلال ، يقابله عودة إلى الجنة
ونجوة من الشقاء والضلال. وفسحة في الحياة يقابلها الضنك ، وهداية يقابلها العمى
.. ويجيء هذا تعقيبا على قصة آدم ـ وهي قصة البشرية جميعا ـ فيبدأ الاستعراض في
الجنة ، وينتهي في الجنة ، كما مر في سورة الأعراف ، مع الاختلاف في الصور الداخلة
في الاستعراض هنا وهناك حسب اختلاف السياق ..
* * *
فإذا انتهت هذه
الجولة بطرفيها أخذ السياق في جولة حول مصارع الغابرين ؛ وهي أقرب في الزمان من
القيامة ، وهي واقع تشهده العيون إن كانت القيامة غيبا لا تراه الأبصار :
(أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) ..
وحين تجول
العين والقلب في مصارع القرون. وحين تطالع العين آثارهم ومساكنهم عن كثب ، وحين
يتملى الخيال الدور وقد خلت من أهلها الأول ؛ ويتصور شخوصهم الذاهبة ، وأشباحهم
الهاربة ، وحركاتهم وسكناتهم ، وخواطرهم وأحلامهم ، وهمومهم وآمالهم .. حين يتأمل
هذا الحشد من الأشباح والصور والانفعالات والمشاعر .. ثم يفتح عينه فلا يرى من ذلك
كله شيئا إلا الفراغ والخواء .. عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها لتبتلع الحاضر
كما ابتلعت الغابر. وعندئذ يدرك يد القدرة التي أخذت القرون الأولى وهي قادرة على
أن تأخذ ما يليها. وعندئذ يعي معنى الإنذار ، والعبرة أمامه معروضة للأنظار. فما
لهؤلاء القوم لا يهتدون وفي مصارع القرون ما يهدي أولي الألباب؟ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي
النُّهى)!
ولو لا أن الله
وعدهم ألا يستأصلهم بعذاب الدنيا ، لحكمة عليا. لحل بهم ما حل بالقرون الأولى.
ولكنها كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى أمهلهم إليه : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى).
* * *
وإذا كانوا
مؤخرين إلى أجل ، ممهلين لا مهملين ، فلا عليك ـ يا محمد ـ منهم ولا مما أوتوه من
زينة الحياة الدنيا ليكون ابتلاء لهم ، فإنما هي الفتنة ، وما أعطاكه الله إنعاما
فهو خير مما أعطاهم ابتلاء :
(فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ
تَرْضى. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَأَبْقى. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) ..
فاصبر على ما
يقولون من كفر واستهزاء وجحود وإعراض ، ولا يضق صدرك بهم ، ولا تذهب نفسك عليهم
حسرات. واتجه إلى ربك. سبح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. في هدأة الصبح وهو
يتنفس ويتفتح بالحياة ؛ وفي هدأة الغروب والشمس تودع ، والكون يغمض أجفانه ، وسبح
بحمده فترات من
الليل والنهار .. كن موصولا بالله على مدار اليوم .. (لَعَلَّكَ تَرْضى) ..
إن التسبيح
بالله اتصال. والنفس التي تتصل تطمئن وترضى. ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي ؛
وتطمئن وهي في ذلك الحمى الآمن.
فالرضى ثمرة
التسبيح والعبادة ، وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس ويترعوع في حنايا
القلب.
اتجه إلى ربك
بالعبادة (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) من عرض الحياة الدنيا ، من زينة ومتاع ومال وأولاد وجاه
وسلطان. (زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) التي تطلعها كما يطلع النبات زهرته لامعة جذابة. والزهرة
سريعة الذبول على ما بها من رواء وزواق. فإنما نمتعهم بها ابتلاء (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فنكشف عن معادنهم ، بسلوكهم مع هذه النعمة وذلك المتاع.
وهو متاع زائل كالزهرة سرعان ما تذبل (وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقى) وهو رزق للنعمة لا للفتنة. رزق طيب خير باق لا يذبل ولا
يخدع ولا يفتن.
وما هي دعوة
للزهد في طيبات الحياة ، ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة
بالله والرضى به. فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء ، ولا تفقد اعتزازها بالقيم
العليا ، وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار
..
(وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ) .. فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم
؛ وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله ، فتوحد اتجاههم العلوي في
الحياة. وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله.
(وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) .. على إقامتها كاملة ؛ وعلى تحقيق آثارها. إن الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر. وهذه هي آثارها الصحيحة. وهي في حاجة إلى اصطبار على
البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك. وإلا فما
هي صلاة مقامة. إنما هي حركات وكلمات.
هذه الصلاة
والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك والله لا ينال منها شيئا. فالله غني عنك
وعن عبادة العباد : (لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ) إنما هي العبادة تستجيش وجدان التقوى (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى). فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه. يعبد
فيرضى ويطمئن ويستريح. ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى. والله غني عن العالمين.
* * *
وقرب ختام
السورة يعود بالحديث إلى أولئك الكبراء الممتعين المكذبين ، الذين يطلبون إلى
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ما جاءهم بهذا القرآن أن يأتيهم بآية من ربه : هذا القرآن الذي يبين
ويوضح ما جاءت به الرسالات قبله :
(وَقالُوا : لَوْ لا
يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ. أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ
الْأُولى؟).
فليس إلا
التعنت وإلا المكابرة والرغبة في الاقتراح هي التي تملي مثل هذا الاقتراح وإلا
فآية القرآن كافية. وهو يصل حاضر الرسالة بماضيها ، ويوحد طبيعتها واتجاهها ،
ويبين ويفصل ما أجمل في الصحف الأولى.
ولقد أعذر الله
للمكذبين فأرسل إليهم خاتم المرسلين ـ صلىاللهعليهوسلم ـ
(وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) ..
وهم لم يذلوا
ولم يخزوا لحظة أن كان هذا النص يتلى عليهم. إنما هو تصوير لمصيرهم المحتوم. الذي
يذلون فيه ويخزون : فلعلهم حينذاك قائلون : (رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ...) فها هي ذي الحجة قد قطعت عليهم ، فلم يعد لهم من عذر
ولا عذير!
وعند ما يصل
السياق إلى تصوير المصير المحتوم الذي ينتظرهم يؤمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ينفض يده منهم ، فلا يشقى بهم ، ولا يكربه عدم إيمانهم ، وأن يعلن
إليهم أنه متربص بهم ذلك المصير ، فليتربصوا هم كيف يشاءون :
(قُلْ : كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ
فَتَرَبَّصُوا. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ
اهْتَدى) ..
* * *
بذلك تختم
السورة التي بدأت بنفي إرادة الشقاء عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من تنزيل القرآن ، وحددت وظيفة القرآن : (إِلَّا تَذْكِرَةً
لِمَنْ يَخْشى) .. والختام يتناسق مع المطلع كل التناسق. فهو التذكرة
الأخيرة لمن تنفعه التذكرة. وليس بعد البلاغ إلا انتظار العاقبة. والعاقبة بيد
الله ..
انتهى الجزء السادس عشر
ويليه الجزء السابع عشر
مبدوءاً بسورة الأنبياء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورتا
الأنبياء والحجّ
الجزء السّابع عشر
(٢١) سورة الأنبياء مكيّة
وآياتها اثنتا عشرة ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)
ما
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ
يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
قالَ
رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ
جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا
مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)
لا
تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا
إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ
دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)
لَوْ
أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا
فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ
مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ
مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ
وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ
مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)
لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ
الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ)
(٣٥)
هذه السورة ،
مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية .. موضوع العقيدة .. تعالجه
في ميادينه الكبيرة : ميادين التوحيد ، والرسالة والبعث.
وسياق السورة
يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها. فالعقيدة جزء
من بناء هذا الكون ، يسير على نواميسه الكبرى ؛ وهي تقوم على الحق الذي
قامت عليه السماوات والأرض ، وعلى الجد الذي تدبر به السماوات والأرض ، وليست لعبا
ولا باطلا ، كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا ، ولم يشب خلقه باطل : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ..
ومن ثم يجول
بالناس .. بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم .. بين مجالي الكون الكبرى : السماء والأرض. الرواسي
والفجاج. الليل والنهار. الشمس والقمر ... موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي
تحكمها وتصرفها ، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر ، والمالك الذي لا
شريك له في الملك ، كما أنه لا شريك له في الخلق .. (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ..
ثم يوجه
مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض ، وإلى وحدة مصدر الحياة
: (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) .. وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ..
والعقيدة وثيقة
الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى. فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار
الزمان : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) .. وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر :
(وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ..
وكما أن
العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في
الأرض. فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ، لأن الحق
قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) .. وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين ، وينجي الله
الرسل والمؤمنين : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) .. وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) ..
ومن ثم يستعرض
السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا. يطول بعض الشيء عند عرض
حلقة من قصة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وعند الإشارة إلى داود وسليمان. ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ،
وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ،
وعيسى عليهمالسلام.
وفي هذا
الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة. تتجلى. في صورة وقائع في حياة
الرسل والدعوات ، بعد ما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس.
كذلك يتضمن
سياق السورة بعض مشاهد القيامة ؛ وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم
القيامة ..
وهكذا تتجمع
الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد ، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق
الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ
إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ...).
إن هذه الرسالة
حق وجد. كما أن هذا الكون حق وجد. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ؛ ولا مجال
لطلب الآيات الخارقة ؛ وآيات الله في الكون وسنن الكون كله. توحي بأنه
الخالق القادر الواحد ، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.
* * *
نظم هذه السورة
من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير ، الذي يتناسق مع موضوعها
، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع .. يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم
وطه مثلا. فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما. وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب
موضوع السورة وجوها ..
ويزيد هذا
وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في مريم ونظمها هنا. وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة
التي أخذت منها هناك. ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه.
أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام ، وإلقاء إبراهيم في النار. ليتم التناسق في
الموضوع والجو والنظم والإيقاع.
* * *
والسياق في هذه
السورة يمضي في أشواط أربعة :
الأول : ويبدأ
بمطلع قوي الضربات ، يهز القلوب هزا ، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق ، وهي
عنه غافلة لاهية : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ... إلخ».
ثم يهزها هزة
أخرى بمشهد من مصارع الغابرين ، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين ، فعاشوا سادرين
في الغي ظالمين : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ
قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا
أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى
ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ. قالُوا : يا
وَيْلَنا! إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ
حَصِيداً خامِدِينَ) ..
ثم يربط بين
الحق والجد في الدعوة ، والحق والجد في نظام الكون. وبين عقيدة التوحيد ونواميس
الوجود. وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة. ووحدة مصدر الحياة
ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه.
فأما الشوط
الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالسخرية والاستهزاء ، بينما الأمر جد وحق ، وكل ما حولهم يوحي باليقظة
والاهتمام. وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب .. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد
القيامة. ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم. ويقرر أن ليس لهم من الله
من عاصم. ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها ، وتزوي
رقعتها وتطويها ، فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد
الرخاء ..
وينتهي هذا
الشوط بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى بيان وظيفته : (قُلْ : إِنَّما
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا
ما يُنْذَرُونَ) حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون.
ويتضمن الشوط
الثالث استعراض أمة النبيين ، وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة. كما تتجلى رحمة
الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين.
أما الشوط
الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير ، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة :
ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت : إيقاعا قويا ، وإنذارا صريحا ، وتخلية بينهم
وبين مصيرهم المحتوم ..
* * *
والآن نأخذ في
دراسة الشوط الأول بالتفصيل ..
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ قالَ : رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. بَلْ قالُوا : أَضْغاثُ
أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ ، فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما
أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ. ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها .. أَفَهُمْ
يُؤْمِنُونَ؟ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ،
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَما جَعَلْناهُمْ
جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ، وَما كانُوا خالِدِينَ. ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ..
مطلع قوي يهز
الغافلين هزا. والحساب يقترب وهم في غفلة. والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى. والموقف
جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته. وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه باللهو
والاستهتار ، واستمعوه وهم هازلون يلعبون .. (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) .. والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير.
إنها صورة
للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد ، فتلهو في أخطر المواقف ، وتهزل في مواطن الجد
؛ وتستهتر في مواقف القداسة. فالذكر الذي يأتيهم يأتيهم (مِنْ رَبِّهِمْ) فيستقبلونه لاعبين ، بلا وقار ولا تقديس. والنفس التي
تفرغ من الجد والاحتفال والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال ؛
فلا تصلح للنهوض بعبء ، ولا الاضطلاع بواجب ، ولا القيام بتكليف. وتغدو الحياة
فيها عاطلة هينة رخيصة! إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة.
والاستهتار غير الاحتمال. فالاحتمال قوة جادة شاعرة. والاستهتار فقدان للشعور
واسترخاء.
وهؤلاء الذين
يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة ،
ومنهاجا للعمل ، وقانونا للتعامل .. باللعب. ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة.
وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان. فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة
صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن. والتي تحيل الحياة كلها
إلى هزل فارغ ، لا هدف له ولا قوام!
ذلك بينما كان
المؤمنون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها :
جاء في ترجمة
الآمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه .. ثم جاءه هذا
الرجل وقد أصاب أرضا فقال له : إني استقطعت من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واديا في العرب. وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك.
فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك. نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ..
وهذا هو فرق ما
بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة ، والقلوب الميتة المغلقة الخامدة. التي تكفن
ميتتها باللهو ؛ وتواري خمودها بالاستهتار ؛ ولا تتأثر بالذكر لأنها خاوية من
مقومات الحياة.
(وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) .. وقد كانوا يتناجون فيما بينهم ويتآمرون خفية ،
يقولون عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (هَلْ هذا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟).
فهم على موت
قلوبهم وفراغها من الحياة لم يكونوا يملكون أنفسهم من أن تتزلزل بهذا القرآن ؛
فكانوا
يلجأون في مقاومة تأثيره الطاغي إلى التعلات ، يقولون : إن محمدا بشر. فكيف
تؤمنون لبشر مثلكم؟ وإن ما جاء به السحر. فكيف تجيئون للسحر وتنقادون له وفيكم
عيون وأنتم تبصرون؟!
عند ذلك وكل
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أمرهم وأمره إلى ربه ، وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية ؛
وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره!
(قالَ : رَبِّي
يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
فما من نجوى في
مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها ـ وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض ... وما
من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها ـ وهو السميع العليم.
ولقد حاروا كيف
يصفون هذا القرآن وكيف يتقونه. فقالوا : إنه سحر. وقالوا : إنه أحلام مختلطة يراها
محمد ويرويها. وقالوا : إنه شعر. وقالوا : إنه افتراه وزعم أنه وحي من عند الله :
(بَلْ قالُوا :
أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ..
ولم يثبتوا على
صفة له ، ولا على رأي يرونه فيه ، لأنهم إنما يتمحلون ويحاولون أن يعللوا أثره
المزلزل في نفوسهم بشتى التعلات فلا يستطيعون ؛ فينتقلون من ادعاء إلى ادعاء ، ومن
تعليل إلى تعليل ، حائرين غير مستقرين .. ثم يخلصون من الحرج بأن يطلبوا بدل
القرآن خارقة من الخوارق التي جاء بها الأولون :
(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ
كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) ..
ولقد جاءت
الخوارق من قبل ، فلم يؤمن بها من جاءتهم ، فحل بهم الهلاك ، وفقا لسنة الله التي
لا تتخلف في إهلاك من يكذبون بالخوارق :
(ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ..
ذلك أن من يبلغ
به العناد ألا يؤمن بالخارقة المادية المحسوسة ، لا يبقى له عذر ، ولا يرجى له
صلاح. فيحق عليه الهلاك.
ولقد تكررت
الآيات ، وتكرر التكذيب بها ، وتكرر كذلك إهلاك المكذبين .. فما بال هؤلاء سيؤمنون
بالخارقة لو جاءتهم ؛ وهم ليسوا سوى بشر كهؤلاء الهالكين!
(أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) ..
(وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ،
وَما كانُوا خالِدِينَ) ..
فقد اقتضت حكمة
الله أن يكون الرسل من البشر ، يتلقون الوحي فيدعون به الناس. وما كان الرسل من
قبل إلا رجالا ذوي أجساد. وما جعل الله لهم أجسادا ثم جعلهم لا يأكلون الطعام.
فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية ، والجسدية من مقتضيات البشرية. وهم بحكم أنهم بشر
مخلوقون لم يكونوا خالدين .. هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين
عرفوا الأنبياء من قبل. إن كانوا هم لا يعلمون.
لقد كان الرسل
من البشر ليعيشوا حياة البشر ؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم. وسلوكهم
العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس. فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر
وتهدي ، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة.
ولو كان الرسل
من غير البشر لا يأكلون الطعام ، ولا يمشون في الأسواق ، ولا يعاشرون النساء.
ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم
وبين الناس. فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم ، ولا البشر يتأسون بهم
ويقتدون.
وأيما داعية لا
يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره ، فإنه يقف على هامش حياتهم ، لا يتجاوب
معهم ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول. لما بينه
وبينهم من قطيعة في الحس والشعور.
وأيما داعية لا
يصدق فعله قوله. فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب. مهما تكن
كلماته بارعة وعباراته بليغة. فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ، ويؤيدها
العمل. هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل.
والذين كانوا
يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة ، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها
عن انفعالات البشر .. كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة. وهي أن الملائكة لا
يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها .. لا يمكن أن يحسوا بدوافع
الجسد ومقتضياته ، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص. وأن الرسول
يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر ، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته
دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس.
وهنالك اعتبار
آخر ، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في
جزئيات حياته ؛ لأنه من جنس غير جنسهم ، وطبيعة غير طبيعتهم ، فلا مطمع لهم في
تقليد منهجه في حياته اليومية. وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس.
وهذا وذلك فوق
ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله ، باختيار الرسل منه ،
ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه.
لذلك كله اقتضت
سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر ؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من
ولادة وموت. ومن عواطف وانفعالات. ومن آلام وآمال. ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء
.. وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم .. أكمل نموذج
لحياة الإنسان على الأرض ، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة.
تلك سنة الله
في اختيار الرسل. ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم ، وإهلاك المسرفين الظالمين
المكذبين :
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ ، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ ، وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ..
فهي كذلك سنة
جارية كسنة اختيارهم. وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيمانا حقيقيا
يصدقه العمل ؛ فصدقهم وعده ، وأهلك ، الذين كانوا يسرفون عليهم ، ويتجاوزون الحد
معهم.
* * *
هذه السنة يخوف
الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالإسراف عليه ، وتكذيبه ، وإيذائه والمؤمنين معه. وينبههم إلى أنه رحمة
بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية ، يتبعها هلاكهم ، إذا هم كذبوا بها كما كذب من
قبلهم. إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم ، ويقوم حياتهم ، ويخلق منهم أمة
ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس. وهو مفتوح للعقول تتدبره ، وترتفع به في سلم
البشرية :
(لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ..
إن معجزة
القرآن معجزة مفتوحة للأجيال ، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد ،
ولا يتأثر بها إلّا الذين يرونها من ذلك الجيل.
ولقد كان به
ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا. فلم يكن لهم قبله ذكر ، ولم
يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به. ولقد ظلت البشرية تذكرهم
وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب ، وقادوا به البشرية قرونا طويلة ، فسعدوا
وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب. حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية ، وانحط فيها
ذكرهم ، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس ، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم
وهم آمنون!
وما يملك العرب
من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد. وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى
هذه الفكرة. فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم. لأنها تجد
عندهم ما تنتفع به. فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب. فما هم؟ وما
ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم
وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة .. لم تعرفهم لأنهم عرب
فحسب. فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية ، ولا مدلول له في معجم الحضارة! إنما
عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته. وهذا أمر له مدلوله في تاريخ
البشرية ومعجم الحضارة! .. ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم ، وهو يقول
للمشركين ، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة
والتكذيب : (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟).
ولقد كانت رحمة
بهم أن ينزل الله لهم هذا القرآن. ولا يأتيهم بالخارقة التي يطلبونها. فلا يأخذهم
وفق سنته بالقاصمة كالقرى التي كذبت فاستأصلت .. وهنا يعرض مشهدا حيا من القصم
والاستئصال :
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ
قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا
أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى
ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ .. قالُوا : يا
وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى
جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) ..
والقصم أشد
حركات القطع. وجرسها اللفظي يصور معناها ، ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء
الحاسم على القرى التي كانت ظالمة. فإذا هي مدمرة محطمة .. (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).
وهو عند القصم
يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها ومن فيها. وعند الإنشاء يوقع الفعل على القوم
الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى .. وهذه حقيقة في ذاتها.
فالدمار يحل
بالديار والدّيار. والإنشاء يبدأ بالديارين فيعيدون إنشاء الدور .. ولكن عرض هذه
الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير ، وهذا هو الظل المراد إلقاؤه
بالتعبير على طريقة التصوير ! ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله
يأخذهم ، وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود :
(فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) ..
يسارعون
بالخروج من القرية ركضا وعدوا ، وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله. كأنما الركض
ينجيهم
__________________
من بأس الله. وكأنما هم أسرع عدوا فلا يلحق بهم حيث يركضون! ولكنها حركة
الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور.
عندئذ يتلقون
التهكم المرير :
(لا تَرْكُضُوا ،
وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ)!
لا تركضوا من
قريتكم. وعودوا إلى متاعكم الهنيء وعيشكم الرغيد وسكنكم المريح .. عودوا لعلكم
تسألون عن ذلك كله فيم أنفقتموه؟!
وما عاد هنالك
مجال لسؤال ولا لجواب. إنما هو التهكم والاستهزاء!
عند ذلك يفيقون
فيشعرون بأن لا مفر ولا مهرب من بأس الله المحيط. وأنه لا ينفعهم ركض ، ولا ينقذهم
فرار. فيحاولون الاعتراف والتوبة والاستغفار :
(قالُوا : يا وَيْلَنا!
إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ..
ولكن لقد فات
الأوان. فليقولوا ما يشاءون. فإنهم لمتروكون يقولون حتى يقضى الأمر وتخمد الأنفاس
:
(فَما زالَتْ تِلْكَ
دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) ..
ويا له من حصيد
آدمي ، لا حركة فيه ولا حياة ؛ وكان منذ لحظة يموج بالحركة ، وتضطرب فيه الحياة!
* * *
هنا يربط
السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها ، وسننها التي تجري عليها ، والتي تأخذ
المكذبين بها. يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل ، اللذين يقوم بهما الكون
كله ، ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه.
فإذا كان
المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو ، غافلين عما في
الأمر من حق وجد. وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب ، وعما ينتظر المكذبين
المستهزئين .. فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل :
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا. إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا
تَصِفُونَ) ..
لقد خلق الله
سبحانه هذا الكون لحكمة ، لا لعبا ولا لهوا. ودبره بحكمة ، لا جزافا ولا هوى ،
وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وفرض
الفرائض ، وشرع التكاليف .. فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون ، أصيل في تدبيره ،
أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس ، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد
الممات.
ولو أراد الله ـ
سبحانه ـ أن يتخذ لهوا لاتخذه من لدنه. لهوا ذاتيا لا يتعلق بشيء من مخلوقاته
الحادثة الفانية.
وهو مجرد فرض
جدلي : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) .. ولو ـ كما يقول النحاة ـ حرف امتناع لامتناع. تفيد
امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط. فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ لهوا
فلم يكن هناك لهو. لا من لدنه ولا من شيء خارج عنه.
ولن يكون لأن
الله ـ سبحانه ـ لم يرده ابتداء ولم يوجه إليه إرادته أصلا : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) .. وإن حرف نفي بمعنى ما ، والصيغة لنفي إرادة الفعل
ابتداء.
إنما هو فرض
جدلي لتقرير حقيقة مجردة .. هي أن كل ما يتعلق بذات الله ـ سبحانه ـ قديم لا حادث
، وباق غير فان. فلو أراد ـ سبحانه ـ أن يتخذ لهوا لما كان هذا اللهو حادثا ، ولا
كان متعلقا بحادث كالسماء والأرض وما بينهما فكلها حوادث .. إنما كان يكون ذاتيا
من لدنه سبحانه. فيكون أزليا باقيا. لأنه يتعلق بالذات الأزلية الباقية.
إنما الناموس
المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو ، إنما يكون هناك جد ، ويكون هناك حق ؛
فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض :
(بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ..
و (بَلْ) للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ؛ والعدول عنه إلى
الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس. وهو غلبة الحق وزهوق
الباطل.
والتعبير يرسم
هذه السنة في صورة حسية حية متحركة. فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة. تقذف به على
الباطل ، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب ..
هذه هي السنة
المقررة ، فالحق أصيل في طبيعة الكون ، عميق في تكوين الوجود. والباطل منفي عن
خلقة هذا الكون أصلا ، طارئ لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ، يطارده الله ، ويقذف
عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لشيء يطارده الله ؛ ولا حياة لشيء تقذفه يد الله
فتدمغه!
ولقد يخيل
للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير. وذلك
في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزويا كأنه
مغلوب. وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء. ثم
تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ؛ وقامت عليها
العقائد والدعوات سواء بسواء.
والمؤمنون
بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ؛ وفي
نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه .. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا
من الدهر عرفوا أنها الفتنة ؛ وأدركوا أنه الابتلاء ؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن
فيهم ضعفا أو نقصا ؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر ، وأن يجعلهم ستار
القدرة ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف ..
وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء ، وحقق على أيديهم ما يشاء.
أما العاقبة فهي مقررة : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) والله يفعل ما يريد.
* * *
هكذا يقرر
القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين ، الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء. وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل ،
فإذا هو زاهق .. ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ..
ثم يعرض لهم
نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم. نموذجا ممن هم أقرب
منهم إلى الله. ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته ، لا يفترون ولا يقصرون :
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ
وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ..
ومن في
السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله ، ولا يحصيهم إلا الله. والعلم البشري لا
يستيقن إلا من وجود البشر. والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك
لذكرهما في القرآن. ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم. وقد يكون هناك
غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي ، بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك
الكواكب. وعلم ذلك عند الله.
فإذا نحن قرأنا
: (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عرفنا منهم من نعرف ، وتركنا علم من لا نعلم لخالق
السماوات والأرض ومن فيهن.
(وَمَنْ عِنْدَهُ) المفهوم القريب أنهم الملائكة. ولكننا لا نحدد ولا نقيد
ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم. والمفهوم من التعبير انهم هم الأقرب إلى
الله. فكلمة «عند» القياس إلى الله لا تعني مكانا ، ولا تحدد وصفا.
(وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) كما يستكبر هؤلاء المشركون (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ـ أي يقصرون ـ في العبادة. فحياتهم كلها عبادة وتسبيح بالليل والنهار دون
انقطاع ولا فتور ..
والبشر يملكون
أن تكون حياتهم كلها عبادة دون أن ينقطعوا للتسبيح والتعبد كالملائكة. فالإسلام
يعد كل حركة وكل نفس عبادة إذا توجه بها صاحبها إلى الله. ولو كانت متاعا ذاتيا
بطيبات الحياة!
* * *
وفي ظل التسبيح
الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد ، مالك السماوات والأرض ومن فيهن. يجيء الإنكار
على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة. ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود
في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد ؛ ومن المنقول عن الكتب
السابقة عند أهل الكتاب :
(أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ؟ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا. فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ قُلْ
: هاتُوا بُرْهانَكُمْ. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي. بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) ..
والسؤال عن
اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم. ووصف هؤلاء الآلهة بأنهم ينشرون من
الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء. فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها. فمن
أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض. فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا؟
إنها لا تفعل ، ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة. فهي إذن فاقدة
للصفة الأولى من صفات الإله.
ذلك منطق
الواقع المشهود في الأرض. وهنالك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) ..
فالكون قائم
على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا ؛ وينسق بين أجزائه جميعا ؛ وبين
حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم .. هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة
لإله واحد. فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات. ولتعددت النواميس تبعا لها ـ فالإرادة
مظهر الذات المريدة. والناموس مظهر الإرادة النافذة ـ ولا نعدمت الوحدة التي تنسق
الجهاز الكوني كله ، وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه ؛ ولوقع الاضطراب والفساد تبعا
لفقدان التناسق .. هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين لأنه واقع
محسوس.
وإن الفطرة
السليمة التي تتلقى إيقاع الناموس الواحد للوجود كله ، لتشهد شهادة فطرية بوحدة
هذا
الناموس ، ووحدة الإرادة التي أوجدته ، ووحدة الخالق المدبر لهذا الكون
المنظم المنسق ، الذي لا فساد في تكوينه ، ولا خلل في سيره :
(فَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ..
وهم يصفونه بأن
له شركاء. تنزه الله المتعالي المسيطر : (رَبِّ الْعَرْشِ) والعرش رمز الملك والسيطرة والاستعلاء. تنزه عما يقولون
والوجود كله بنظامه وسلامته من الخلل والفساد يكذبهم فيما يقولون.
(لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ..
ومتى كان
المسيطر على الوجود كله يسأل ؛ ومن ذا الذي يسأله ؛ وهو القاهر فوق عباده ،
وإرادته طليقة لا يحدها قيد من إرادة أخرى ، ولا حتى من الناموس الذي ترتضيه هي
وتتخذه حاكما لنظام الوجود؟ والسؤال والحساب إنما يكونان بناء على حدود ترسم
ومقياس يوضع. والإرادة الطليقة هي التي تضع الحدود والمقاييس ، ولا تتقيد بما تضع
للكون من الحدود والمقاييس إلا كما تريد. والخلق مأخوذون بما تضع لهم من تلك
الحدود فهم يسألون.
وإن الخلق
ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب : ولما ذا صنع الله كذا.
وما الحكمة في هذا الصنيع؟ وكأنما يريدون ليقولوا : إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك
الصنيع!
وهم يتجاوزون
في هذا حدود الأدب الواجب في حق المعبود ، كما يتجاوزون حدود الإدراك الإنساني
القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات وهو محصور في حيزه المحدود ..
إن الذي يعلم
كل شيء ، ويدبر كل شيء ، ويسيطر على كل شيء ، هو الذي يقدر ويدبر ويحكم. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) ..
وإلى جانب
الدليل الكوني المستمد من طبيعة الوجود وواقعه يسألهم عن الدليل النقلي الذي
يستندون إليه في دعوى الشرك التي لا تعتمد على دليل :
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً؟ قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ
مَنْ قَبْلِي).
فهذا هو القرآن
يشتمل على ذكر المعاصرين للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهناك ذكر من سبقه من الرسل. وليس فيما جاءوا به ذكر الشركاء. فكل
الديانات قائمة على عقيدة التوحيد. فمن أين جاء المشركون بدعوى الشرك التي تنقضها
طبيعة الكون ، ولا يوجد من الكتب السابقة عليها دليل :
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ..
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) ..
فالتوحيد هو
قاعدة العقيدة منذ أن بعث الله الرسل للناس. لا تبديل فيها ولا تحويل. توحيد الإله
وتوحيد المعبود. فلا انفصال بين الألوهية والربوبية ؛ ولا مجال للشرك في الألوهية
ولا في العبادة .. قاعدة ثابتة ثبوت النواميس الكونية ، متصلة بهذه النواميس وهي
واحدة منها.
* * *
ثم يعرض السياق
لدعوى المشركين من العرب أن لله ولدا. وهي إحدى مقولات الجاهلية السخيفة :
(وَقالُوا : اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً. سُبْحانَهُ! بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَما خَلْفَهُمْ ، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ، وَهُمْ مِنْ
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ :
إِنِّي
إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ..
ودعوى البنوة
لله ـ سبحانه ـ دعوى اتخذت لها عدة صور في الجاهليات المختلفة. فقد عرفت عند مشركي
العرب في صورة بنوة الملائكة لله. وعند مشركي اليهود في صورة بنوة العزير لله.
وعند مشركي النصارى في صورة بنوة المسيح لله .. وكلها من انحرافات الجاهلية في شتى
الصور والعصور.
والمفهوم أن
الذي يعنيه السياق هنا هو دعوى العرب في بنوة الملائكة. وهو يرد عليهم ببيان طبيعة
الملائكة. فهم ليسوا بنات لله ـ كما يزعمون ـ (بَلْ عِبادٌ
مُكْرَمُونَ) عند الله. لا يقترحون عليه شيئا تأدبا وطاعة وإجلالا.
إنما يعملون بأمره لا يناقشون. وعلم الله بهم محيط. ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن
ارتضاه الله ورضي أن يقبل الشفاعة فيه. وهم بطبيعتهم خائفون لله مشفقون من خشيته ـ
على قربهم وطهارتهم وطاعتهم التي لا استثناء فيها ولا انحراف عنها. وهم لا يدعون
الألوهية قطعا. ولو ادعوها ـ جدلا ـ لكان جزاؤهم جزاء من يدعي الألوهية كائنا من
كان ، وهو جهنم. فذلك جزاء الظالمين الذين يدعون هذه الدعوى الظالمة لكل حق ، ولكل
أحد ، ولكل شيء في هذا الوجود.
وكذلك تبدو
دعوى المشركين في صورتها هذه واهية مستنكرة مستبعدة ، لا يدعيها أحد. ولو ادعاها
لذاق جزاءها الأليم!
وكذلك يلمس
الوجدان بمشهد الملائكة طائعين لله ، مشفقين من خشيته. بينما المشركون يتطاولون
ويدعون!
* * *
وعند هذا الحد
من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة ؛ والأدلة النقلية النافية للتعدد ؛ والأدلة
الوجدانية التي تلمس القلوب .. يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة ،
ويد القدرة تدبره بحكمة ، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب :
(أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ؛ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟ وَجَعَلْنا فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ؛ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ
آياتِها مُعْرِضُونَ. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ. كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ..
إنها جولة في
الكون المعروض للأنظار ، والقلوب غافلة عن آياته الكبار ، وفيها ما يحير اللب حين
يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ.
وتقريره أن
السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا ، مسألة جديرة بالتأمل ، كلما تقدمت النظريات
الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية ، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها
القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام.
فالنظرية
القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية ـ كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس
وتوابعها ومنها الأرض والقمر .. كانت سديما. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن
الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت ..
ولكن هذه ليست
سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غدا. وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر
الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية ..
ونحن ـ أصحاب
هذه العقيدة ـ لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة ،
تقبل اليوم وترفض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية
والنظريات التي تسمى علمية. وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة
للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة .. إلى آخر هذا
النوع من الحقائق العلمية. وهي شيء آخر غير النظريات العلمية ـ كما بينا من قبل في
الظلال ـ.
إن القرآن ليس
كتاب نظريات علمية ولم يجىء ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها. منهج
لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده. ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل
والانطلاق. دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة. فهذا متروك للعقل بعد
تقويمه وإطلاق سراحه.
وقد يشير
القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا
رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن
كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض. أو فتق السماوات عن الأرض. ونتقبل
النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن. ولكننا لا
نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية ، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات
البشر. وهو حقيقة مستيقنة! وقصارى ما يقال : إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا
تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال!
فأما شطر الآية
الثاني : (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) فيقرر كذلك حقيقة خطيرة. يعد العلماء كشفها وتقريرها
أمرا عظيما. ويمجدون «دارون» لاهتدائه إليها! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة
الأول.
وهي حقيقة تثير
الانتباه حقا. وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا ، ولا
يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن. فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره
من إيماننا بأنه من عند الله. لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له. وأقصى
ما يقال هنا كذلك : إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص
القرآني في هذه النقطة بالذات.
ومنذ أكثر من
ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون
، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟) وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر
الحكيم؟
ثم يمضي في عرض
مشاهد الكون الهائلة :
(وَجَعَلْنا فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) ..
فيقرر أن هذه
الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في
صور شتى. فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها ،
وهو يختلف من بقعة إلى بقعة : وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لا نخفاض الأرض
في موضع آخر .. وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض
واستقرارها. فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن فذلك
مجالها الأصيل. ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي ،
وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير :
(وَجَعَلْنا فِيها
فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ..
وذكر الفجاج في
الجبال وهي الفجوات بين حواجزها العالية ، وتتخذ سبلا وطرقا .. ذكر هذه الفجاج
هنا مع الإشارة إلى الاهتداء يصور الحقيقة الواقعة أولا ، ثم يشير من طرف
خفي إلى شأن آخر في عالم العقيدة. فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان ،
كما يهتدون في فجاج الجبال!
(وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) ..
والسماء كل ما
علا. ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف. والقرآن يقرر أن السماء سقف محفوظ. محفوظ من
الخلل بالنظام الكوني الدقيق. ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزا للعلو الذي تتنزل منه
آيات الله .. (وَهُمْ عَنْ آياتِها
مُعْرِضُونَ) ..
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
والليل والنهار
ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة وثيقة بحياة الإنسان في
الأرض. وبالحياة كلها .. والتأمل في توالي الليل والنهار ، وفي حركة الشمس والقمر.
بهذه الدقة التي لا تختل مرة ؛ وبهذا الاطراد الذي لا يكف لحظة .. جدير بأن يهدي
القلب إلى وحدة الناموس ، ووحدة الإرادة ، ووحدة الخالق المدبر القدير.
* * *
وفي نهاية
الشوط يربط السياق بين نواميس الكون في خلقه وتكوينه وتصريفه ؛ ونواميس الحياة
البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها :
(وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ. أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟ كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ،
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ..
وما جعلنا لبشر
من قبلك الخلد. فكل حادث فهو فان. وكل ما له بدء فله نهاية. وإذا كان الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يموت فهل هم يخلدون؟ وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعلمون عمل أهل
الموتى؟ وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون؟
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ). هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة. وهذه هي السنة التي
ليس لها استثناء. فما أجدر الأحياء أن يحسبوا حساب هذا المذاق!
إنه الموت
نهاية كل حي ، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض. وإلى الله يرجع الجميع.
فأما ما يصيب الإنسان في أثناء الرحلة من خير وشر فهو فتنة له وابتلاء :
(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ..
والابتلاء
بالشر مفهوم أمره. ليتكشف مدى احتمال المبتلى ، ومدى صبره على الضر ، ومدى ثقته في
ربه ، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان ..
إن الابتلاء
بالخير أشد وطأة ، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر ..
إن كثيرين
يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون
على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة
والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون
على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على
الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع ، وما يثير انه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون
على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم ، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن
قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء!
كثيرون يصبرون
على الكفاح والجراح ؛ ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح. ثم لا
يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح!
إن الابتلاء
بالشدة قد يثير الكبرياء ، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب ، فتكون القوى كلها
معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها
القدرة على اليقظة والمقاومة! لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا
جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر .. إلا من عصم الله فكانوا ممن
قال فيهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
«عجبا لأمر
المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان
خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له » .. وهم قليل!
فاليقظة للنفس
في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر. والصلة بالله في
الحالين هي وحدها الضمان ..
(وَإِذا رَآكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ
آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ
بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
قُلْ
مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ
مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
__________________
قُلْ
إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما
يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ
مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)
(٤٧)
بعد ذلك الشوط
البعيد المديد في أرجاء الكون ، وفي نواميس الوجود ، وفي سنن الدعوات ، وفي مصائر
البشر ، وفي مصارع الغابرين .. يرتد السياق إلى مثل ما بدأ به في مطلع السورة عن
استقبال المشركين للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما معه من الوحي ؛ واستهزائهم به وإصرارهم على الشرك ..
ثم يتحدث عن
طبيعة الإنسان العجول ، واستعجالهم بالعذاب. فيحذرهم ما يستعجلون به. وينذرهم
عاقبة الاستهزاء بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويعرض لهم مشهدا من تقلص ظلال الغالبين المسيطرين في الدنيا. ومشهدا من
عذاب المكذبين في الآخرة.
ويختم الشوط
بدقة الحساب والجزاء في يوم القيامة. فيربط الحساب والجزاء بنواميس الكون وفطرة
الإنسان وسنة الله في حياة البشر وفي الدعوات ..
* * *
(وَإِذا رَآكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً. أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ
آلِهَتَكُمْ ؛ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ).
إن هؤلاء
الكفار يكفرون بالرحمن ، خالق الكون ومدبره ، ليستنكرون على الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يذكر آلهتهم الأصنام بالسوء ، بينما هم يكفرون بالرحمن دون أن يتحرجوا
أو يتلوموا .. وهو أمر عجيب جد عجيب!
وإنهم ليلقون
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالهزء ، يستكثرون عليه أن ينال من أصنامهم تلك : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟) ولا يستكثرون على أنفسهم ـ وهم عبيد من عبيد الله ـ أن
يكفروا به ، ويعرضوا عما أنزل لهم من قرآن .. وهي مفارقة عجيبة تكشف عن مدى الفساد
الذي أصاب فطرتهم وتقديرهم للأمور! ثم هم يستعجلون بما ينذرهم به الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من عذاب ؛ ويحذرهم من عاقبته. والإنسان بطبعه عجول :
(خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ. سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ. وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ!) ..
(خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) .. فالعجلة في طبعه وتكوينه. وهو يمد ببصره دائما إلى
ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده ، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن
يخطر بباله ، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه. ذلك إلا
أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن ، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه. والإيمان ثقة وصبر
واطمئنان.
وهؤلاء
المشركون كانوا يستعجلون بالعذاب ، ويسألون متى هذا الوعد. الوعد بعذاب الآخرة
وعذاب الدنيا .. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهدا من عذاب الآخرة ، ويحذرهم ما
أصاب المستهزئين قبلهم من عذاب الدنيا :
(لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ،
فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ .. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ).
لو يعلمون ما
سيكون لكان لهم شأن غير شأنهم ، ولكفوا عن استهزائهم واستعجالهم .. فلينظروا ما ذا
سيكون.
ها هم أولاء
تنوشهم النار من كل جانب ، فيحاولون في حركة مخبلة ـ يرسمها التعبير من وراء
السطور ـ أن يكفوا النار عن وجوههم وعن ظهورهم ، ولكنهم لا يستطيعون. وكأنما
تلقفتهم النار من كل جانب ، فلا هم يستطيعون ردها ، ولا هم يؤخرون عنها ، ولا هم
يمهلون إلى أجل قريب.
وهذه المباغتة
جزاء الاستعجال. فلقد كانوا يقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فكان الرد هو هذه البغتة التي تذهل العقول ، وتشل
الإرادة ، وتعجزهم عن التفكير والعمل ، وتحرمهم مهلة الإنظار والتأجيل.
ذلك عذاب
الآخرة. فأما عذاب الدنيا فقد حل بالمستهزئين قبلهم. فإذا كانوا هم لم يقدر عليهم
عذاب الاستئصال ، فعذاب القتل والأسر والغلب غير ممنوع. وليحذروا الاستهزاء
برسولهم. وإلا فمصير المستهزئين بالرسل معروف ، جرت به السنة التي لا تتخلف وشهدت
به مصارع المستهزئين.
أم إن لهم من
يرعاهم بالليل والنهار غير الرحمن ، ويمنعهم من العذاب في الدنيا أو الآخرة من دون
الله؟
(قُلْ : مَنْ
يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ؟ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ. أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ).
إن الله هو
الحارس على كل نفس بالليل والنهار. وصفته هي الرحمة الكبرى ، وليس من دونه راع ولا
حام. فاسألهم : هل لهم حارس سواه؟
وهو سؤال
للإنكار ، وللتوبيخ على غفلتهم عن ذكر الله ، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار ،
ولا راعي لهم سواه : (بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ).
ثم يعيد عليهم
السؤال في صورة أخرى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟) فتكون هي التي تحرسهم إذن وتحفظهم؟ كلا فهؤلاء الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فهم من باب أولى لا يستطيعون نصر سواهم. (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) فيستمدوا القوة من صحبة القدرة لهم ـ كما استمدها هارون
وموسى وربهما يقول لهما : (إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) ..
إن هذه الآلهة
مجردة من القوة بذاتها ؛ وليس لها مدد من الله تستمد منه القوة. فهي عاجزة عاجزة.
وبعد هذا الجدل
التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل .. يضرب
السياق عن مجادلتهم ؛ ويكشف عن علة لجاجتهم ؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب ،
وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة ، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين ، وتقص
أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير ، بعد السعة والمنعة والسلطان!
(بَلْ مَتَّعْنا
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟) ..
فهو المتاع الطويل
الموروث الذي أفسد فطرتهم. والمتاع ترف. والترف يفسد القلب ويبلد الحس. وينتهي إلى
ضعف الحساسية بالله ، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته. وهذا هو الابتلاء بالنعمة
حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها ، ويصلها دائما بالله ، فلا تنساه.
ومن ثم يلمس
السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة
الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص. فإذا هي دويلات صغيرة وكانت امبراطوريات. وإذا هي
مغلوبة على أمرها وكانت غالبة. وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة. قليلة الخيرات
وكانت فائضة بالخيرات ..
والتعبير يرسم
يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد ... فإذا هو مشهد ساحر فيه
الحركة اللطيفة ، وفيه الرهبة المخيفة!
(أَفَهُمُ
الْغالِبُونَ)؟ فلا يجري عليهم ما يجري على الآخرين؟
* * *
وفي ظل هذا
المشهد الذي ترتعش له القلوب يؤمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يلقي كلمة الإنذار :
(قُلْ : إِنَّما
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) ..
فليحذروا أن
يكونوا هم الصم الذين لا يسمعون! فتطوى رقعة الأرض تحت أقدامهم ، وتقص يد القدرة
أطرافهم ، وتتحيفهم وما هم فيه من متاع!!
ويتابع السياق
إيقاعه المؤثر في القلوب ، فيصورهم لأنفسهم حين يمسهم العذاب :
(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ
نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ : يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ..
والنفحة تطلق
غالبا في الرحمة. ولكنها هنا تطلق في العذاب. كأنما ليقال : إن أخف مسة من عذاب
ربك تطلقهم يجأرون بالاعتراف. ولكن حيث لا يجدي الاعتراف. فلقد سبق في سياق السورة
مشهد القرى التي أخذها بأس الله ، فنادى أهلها : (يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً
خامِدِينَ) ..
وإذن فهو
الاعتراف بعد فوات الأوان. ولخير منه أن يسمعوا نذير الوحي وفي الوقت متسع ، قبل
أن تمسهم نفحة من العذاب!
* * *
ويختم الشوط
بالإيقاع الأخير من مشاهد يوم الحساب :
(وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً.
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) ..
والحبة من خردل
تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان ، وهي لا تترك يوم الحساب ولا تضيع. والميزان
الدقيق يشيل بها أو يميل!
فلتنظر نفس ما
قدمت لغد. وليصغ قلب إلى النذير. وليبادر الغافلون المعرضون المستهزءون قبل أن يحق
النذير في الدنيا أو في الآخرة. فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة
الذي تعد موازينه ،
فلا تظلم نفس شيئا ، ولا يهمل مثقال حبة من خردل.
وهكذا ترتبط
موازين الآخرة الدقيقة ، بنواميس الكون الدقيقة ، بسنن الدعوات ، وطبائع الحياة
والناس. وتلتقي كلها متناسقة موحدة في يد الإرادة الواحدة مما يشهد لقضية التوحيد
وهي محور السورة الأصيل.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)
وَهذا
ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا
إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا
آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ
كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤)
قالُوا
أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ
جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا
بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا
بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)
قالُوا
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
فَرَجَعُوا
إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى
رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)
قُلْنا
يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)
وَأَرادُوا
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)
وَوَهَبْنا
لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْراتِ
وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ
الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤)
وَأَدْخَلْناهُ
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى
مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨)
فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩)
وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ
مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ
فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
فَاسْتَجَبْنا
لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ
نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ
فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
وَالَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)
(٩٢)
هذا الشوط
الثالث يستعرض أمة الرسل. لا على وجه الحصر. يشير إلى بعضهم مجرد إشارة ؛ ويفصل
ذكر بعضهم تفصيلا مطولا ومختصرا.
وتتجلى في هذه
الإشارات والحلقات رحمة الله وعنايته برسله ، وعواقب المكذبين بالرسل بعد أن
جاءتهم البينات. كما تتجلى بعض الاختبارات للرسل بالخير وبالضر ، وكيف اجتازوا
الابتلاء.
كذلك تتجلى سنة
الله في إرسال الرسل من البشر. ووحدة العقيدة والطريق ، لجماعة الرسل على مدار
الزمان ؛ حتى لكأنهم أمة واحدة على تباعد الزمان والمكان.
وتلك إحدى
دلائل وحدانية الألوهية المبدعة ، ووحدانية الإرادة المدبرة ، ووحدانية الناموس
الذي يربط سنن الله في الكون ، ويؤلف بينها ، ويوجهها جميعا وجهة واحدة ، إلى
معبود واحد : (وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ)
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ. وَهذا
ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ، أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟).
ولقد سبق في
سياق السورة أن المشركين كانوا يستهزئون بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنه بشر. وأنهم كانوا يكذبون بالوحي ، ويقولون : إنه سحر أو شعر أو
افتراء.
فها هو ذا يكشف
لهم أن إرسال الرسل من البشر هي السنة المطردة ، وهذه نماذج لها من قبل. وأن نزول
الكتب على الرسل ليس بدعة مستغربة فهاهما ذان موسى وهارون آتاهما الله كتابا.
ويسمى هذا
الكتاب (الْفُرْقانَ) وهي صفة القرآن. فهناك وحدة حتى في الاسم. ذلك أن الكتب
المنزلة كلها فرقان بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، وبين منهج في الحياة
ومنهج ، واتجاه في الحياة واتجاه. فهي في عمومها فرقان. وفي هذه الصفة تلتقي
التوراة والقرآن.
وجعل التوراة
كذلك ، «ضياء» يكشف ظلمات القلب والعقيدة ، وظلمات الضلال والباطل. وهي ظلمات يتوه
فيها العقل ويضل فيها الضمير. وإن القلب البشري ليظل مظلما حتى تشرق فيه شعلة
الإيمان ، فتنير جوانبه ، ويتكشف له منهجه ، ويستقيم له اتجاهه ، ولا تختلط عليه
القيم والمعاني والتقديرات.
وجعل التوراة
كالقرآن (ذِكْراً
لِلْمُتَّقِينَ) تذكرهم بالله ، وتبقي لهم ذكرا في الناس. وماذا كان بنو
إسرائيل قبل التوراة؟ كانوا أذلاء تحت سياط فرعون ، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم
ويستذلهم بالسخرة والإيذاء.
ويخص المتقين (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ) لأن الذين تستشعر قلوبهم خشية الله ولم يروه ، (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) فيعملون لها ويستعدون هؤلاء هم الذين ينتفعون بالضياء ،
ويسيرون على هداه ، فيكون كتاب الله لهم ذكرا ، يذكرهم بالله ، ويرفع لهم ذكرا في
الناس.
ذلك شأن موسى
وهارون .. (وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) فليس بدعا ولا عجبا ، إنما هو أمر مسبوق وسنة معروفة (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟) فماذا تنكرون منه ، وقد سبقت به الرسالات؟
* * *
وبعد الإشارة
السريعة إلى موسى وهارون وكتابهما يرتد السياق إلى حلقة كاملة من قصة إبراهيم ،
وهو جد العرب الأكبر وباني الكعبة التي يحشدون فيها الأصنام ، ويعكفون عليها
بالعبادة ، وهو الذي حطم الأصنام من قبل. والسياق يعرضه هنا وهو يستنكر الشرك
ويحطم الأصنام.
والحلقة
المعروفة هنا هي حلقة الرسالة. وهي مقسمة إلى مشاهد متتابعة ، بينها فجوات صغيرة.
وهي تبدأ بالإشارة إلى سبق هداية إبراهيم إلى الرشد. ويعني به الهداية إلى
التوحيد. فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة «الرشد» في هذا المقام.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) ..
آتينا رشده ،
وكنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الأمانة التي يحملها المرسلون.
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) ..
فكانت قولته
هذه دليل رشده .. سمى تلك الأحجار والخشب باسمها : (هذِهِ التَّماثِيلُ) ولم يقل : إنها آلهة ، واستنكر أن يعكفوا عليها
بالعبادة. وكلمة (عاكِفُونَ) تفيد الانكباب الدائم المستمر. وهم لا يقضون وقتهم كله
في عبادتها. ولكنهم يتعلقون بها. فهو عكوف معنوي لا زمني. وهو يسخف هذا التعلق
ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل!
فكان جوابهم
وحجتهم أن
(قالُوا : وَجَدْنا
آباءَنا لَها عابِدِينَ)!
وهو جواب يدل
على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة ، في مقابل حرية الإيمان ،
وانطلاقه للنظر والتدبر ، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية.
فالإيمان بالله طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية ، والوراثات المتحجرة
التي لا تقوم على دليل :
(قالَ : لَقَدْ
كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
وما كانت عبادة
الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها ، ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها.
فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم ، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق.
وعند ما واجههم
إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير ، وبهذه الصراحة في الحكم ، راحوا يسألون :
(قالُوا : أَجِئْتَنا
بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) ..
وهو سؤال
المزعزع العقيدة ، الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه ، لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه.
ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد. فهو لا يدري أي الأقوال حق.
والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل! وهذا هو
التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في
العقل والضمير.
فأما إبراهيم
فهو مستيقن واثق عارف بربه ، متمثل له في خاطره وفكره ، يقولها كلمة المؤمن
المطمئن لإيمانه :
(قالَ : بَلْ
رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ، وَأَنَا عَلى
ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).
فهو رب واحد.
رب الناس ورب السماوات والأرض. ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق. فهما صفتان لا تنفكان
: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) .. فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة ، لا كما يعتقد
المشركون أن الآلهة أرباب ، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق ، وأن الخالق هو
الله. ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا وهم يعلمون!
إنه واثق وثوق
الذي يشهد على واقع لا شك فيه : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) .. وإبراهيم ـ عليهالسلام ـ لم يشهد خلق السماوات والأرض ، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه .. ولكن الأمر
من الوضوح
والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين .. إن كل ما في الكون لينطق
بوحدة الخالق المدبر. وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية
الخالق المدبر ، وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه.
ثم يعلن
إبراهيم لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار. أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرا لا
رجعة فيه :
(وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) ..
ويترك ما
اعتزمه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه .. ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه.
ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا. فتركوه!
(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً
إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ..
وتحولت الآلهة
المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة .. إلا كبير الأصنام فقد تركه
إبراهيم (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار
الآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها ، فيرجعون إلى صوابهم ، ويدركون منه ما
في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت.
وعاد القوم
ليروا آلهتهم جذاذا إلا ذلك الكبير! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم
يسألونها : إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا.
وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟ لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال. لأن الخرافة قد عطلت
عقولهم عن التفكير ، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر. فإذا هم يدعون
هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطم آلهتهم ، وصنع بها هذا الصنيع :
(قالُوا : مَنْ فَعَلَ
هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ..
عندئذ تذكر
الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة هذه التماثيل ، ويتوعدهم أن يكيد
لآلهتهم بعد انصرافهم عنها!
(قالُوا : سَمِعْنا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) ..
ويبدو من هذا
أن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ كان شابا صغير السن ، حينما آتاه الله رشده ، فاستنكر عبادة الأصنام
وحطمها هذا التحطيم. ولكن أكان قد أوحي إليه بالرسالة في ذلك الحين؟ أم هو إلهام
هداه إلى الحق قبل الرسالة. فدعا إليه أباه ، واستنكر على قومه ما هم فيه؟
هذا هو الأرجح
..
وهناك احتمال
أن يكون قولهم : (سَمِعْنا فَتًى) يقصد به إلى تصغير شأنه بدليل تجهيلهم لأمره في قولهم :
(يُقالُ لَهُ
إِبْراهِيمُ!) للتقليل من أهميته ، وإفادة أنه مجهول لا خطر له؟ قد
يكون. ولكننا نرجح أنه كان فتى حديث السن في ذلك الحين.
(قالُوا : فَأْتُوا
بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) ..
وقد قصدوا إلى
التشهير به ، وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد!
(قالُوا : أَأَنْتَ
فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) ..
فهم ما يزالون
يصرون على أنها آلهة وهي جذاذ مهشمة. فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم ، وهو
فرد وحده وهم كثير. ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ
بهم ويسخر ، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوي العقلي الدون :
(قالَ : بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ..
والتهكم واضح
في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم ـ عليهالسلام ـ والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من
هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم : إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا
أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وأنتم
كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا
الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها! (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ
كانُوا يَنْطِقُونَ)!
ويبدو أن هذا
التهكم الساخر قد هزهم هزا ، وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ ،
فَقالُوا : إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ..
وكانت بادرة
خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف ، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن
تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم ، وذلك الظلم
الذي هم فيه سادرون.
ولكنها لم تكن
إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام ، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود :
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى
رُؤُسِهِمْ. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ)!
وحقا لقد كانت الأولى
رجعة إلى النفوس ، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس ؛ كما يقول التعبير القرآني
المصور العجيب .. كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت
انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم.
وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟!
ومن ثم يجبههم
بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم :
(قالَ : أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟ أُفٍّ لَكُمْ
وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟!) وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر ، وغيظ النفس ، والعجب من
السخف الذي يتجاوز كل مألوف.
عند ذلك أخذتهم
العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل ، فيلجأون
إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ :
(قالُوا : حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ..
فيالها من آلهة
ينصرها عبادها ، وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ؛ ولا تحاول لها ولا لعبادها
نصرا!
(قالُوا : حَرِّقُوهُ) ولكن كلمة أخرى قد قيلت .. فأبطلت كل قول ، وأحبطت كل
كيد. ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد :
(قُلْنا : يا نارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ..
فكانت بردا
وسلاما على إبراهيم ..
كيف؟
ولما ذا نسأل
عن هذه وحدها. و (كُونِي) هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان ، وتنشأ بها عوالم ،
وتخلق بها نواميس : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا
أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ).
فلا نسأل : كيف
لم تحرق النار إبراهيم ، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية؟ فالذي قال
للنار : كوني حارقة. هو الذي قال لها : كوني بردا وسلاما. وهي الكلمة الواحدة التي
تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول. مألوفا للبشر أو غير مألوف.
إن الذين
يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون : كيف كان هذا؟ وكيف
أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين ، واختلاف الأداتين ، فإنهم لا
يسألون أصلا ، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلا. علميا أو غير علمي. فالمسألة ليست في
هذا الميدان أصلا. ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر.
وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج
فاسد من أساسه ، لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود.
إن علينا فقط
أن نؤمن بأن هذا قد كان ، لأن صانعه يملك أن يكون. أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد
وسلام؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار .. فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه
لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود. وليس لنا سوى النص القرآني من دليل.
وما كان تحويل
النار بردا وسلاما على إبراهيم إلا مثلا تقع نظائره في صور شتى. ولكنها قد لا تهز
المشاعر كما يهزها هذا المثل السافر الجاهر. فكم من ضيقات وكربات تحيط بالأشخاص
والجماعات من شأنها أن تكون القاصمة القاضية ، وإن هي إلا لفتة صغيرة ، فإذا هي
تحيي ولا تميت ، وتنعش ولا تخمد ، وتعود بالخير وهي الشر المستطير.
إن (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إِبْراهِيمَ) لتتكرر في حياة الأشخاص والجماعات والأمم ؛ وفي حياة
الأفكار والعقائد والدعوات. وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول ، وتحبط كل
كيد ، لأنها الكلمة العليا التي لا ترد!
(وَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ..
وقد روي أن
الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب «بالنمرود» وهو ملك الآراميين بالعراق. وأنه قد
أهلك هو والملأ من قومه بعذاب من عند الله. تختلف الروايات في تفصيلاته ، وليس لنا
عليها من دليل. المهم أن الله قد أنجى إبراهيم من الكيد الذي أريد به ، وباء
الكائدون له بخسارة ما بعدها خسارة (فَجَعَلْناهُمُ
الْأَخْسَرِينَ) هكذا على وجه الإطلاق دون تحديد!
(وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) ..
وهي أرض الشام
التي هاجر إليها هو وابن أخيه لوط. فكانت مهبط الوحي فترة طويلة ، ومبعث الرسل من
نسل إبراهيم. وفيها الأرض المقدسة. وثاني الحرمين. وفيها بركة الخصب والرزق ، إلى
جانب بركة الوحي والنبوة جيلا بعد جيل.
(وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ، وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ. وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ
وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ، وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) ..
لقد ترك
إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وطنا وأهلا وقوما. فعوضه الله الأرض المباركة وطنا خيرا من وطنه. وعوضه
ابنه إسحاق وحفيده يعقوب أهلا خيرا من أهله. وعوض من ذريته أمة عظيمة العدد قوما
خيرا من قومه. وجعل من نسله أئمة يهدون الناس بأمر الله ؛ وأوحى إليهم أن يفعلوا
الخيرات على اختلافها ، وأن يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة. وكانوا طائعين لله
عابدين .. فنعم العوض ، ونعم الجزاء ، ونعمت الخاتمة التي قسمها الله لإبراهيم. لقد
ابتلاه بالضراء فصبر ، فكانت الخاتمة الكريمة اللائقة بصبره الجميل.
* * *
(وَلُوطاً آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً ؛ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ
الْخَبائِثَ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ).
(وَأَدْخَلْناهُ فِي
رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ..
وقصة لوط قد
سبقت مفصلة. وهو يشير إليها هنا مجرد إشارة. وقد صحب عمه إبراهيم من العراق إلى
الشام ، وأقام في قرية سدوم. وكانت تعمل الخبائث. وهي إتيان الفاحشة مع الذكور
جهرة وبلا حياء أو تحرج. فأهلك الله القرية وأهلها : (إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ). وأنجى لوطا وأهله إلا امرأته. (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ
مِنَ الصَّالِحِينَ) .. وكأنما الرحمة مأوى وملاذ يدخل الله فيه من يشاء ،
فإذا هو آمن ناعم مرحوم.
* * *
ويشير إلى نوح
إشارة سريعة كذلك :
(وَنُوحاً إِذْ نادى
مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ،
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ..
وهي إشارة كذلك
لا تفصيل فيها. لإثبات استجابة الله لنوح ـ عليهالسلام ـ حين ناداه (مِنْ قَبْلُ) وهو سابق لإبراهيم ولوط. ولقد أنجاه الله وأهله كذلك.
إلا امرأته ، وأهلك قومه بالطوفان وهو (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي وصفه بالتفصيل في سورة هود.
* * *
ثم يفصل بعض
الشيء في حلقة من قصة داود وسليمان :
(وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
؛ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً. وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ.
وَكُنَّا فاعِلِينَ. وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟).
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ،
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ. وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ،
وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ ، وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) ..
وقصة الحرث
التي حكم فيها داود وسليمان يقول الرواة في تفصيلها : إن رجلين دخلا على داود ،
أحدهما صاحب حرث أي حقل وقيل حديقة كرم ـ والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث : إن
غنم هذا قد نفشت في حرثي ـ أي انطلقت فيه ليلا ـ فلم تبق منه شيئا. فحكم داود
لصاحب الحرث أن يأخذ غنم خصمه في مقابل حرثه .. ومر صاحب الغنم بسليمان ؛ فأخبره
بقضاء داود. فدخل سليمان على أبيه فقال : يا نبي الله إن القضاء غير ما قضيت. فقال
: كيف؟ قال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بها ، وادفع الحرث إلى صاحب الغنم
ليقوم عليه حتى يعود كما كان. ثم يعيد كل منهما إلى صاحبه ما تحت يده. فيأخذ صاحب
الحرث حرثه ، وصاحب الغنم غنمه .. فقال داود : القضاء ما قضيت. وأمضي حكم سليمان.
وكان حكم داود
وحكم سليمان في القضية اجتهادا منهما. وكان الله حاضرا حكمهما ، فألهم سليمان حكما
أحكم ، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب.
لقد اتجه داود
في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. ولكن حكم سليمان تضمن مع
العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير. وهذا هو العدل
الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة. وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء.
ولقد أوتي داود
وسليمان كلاهما الحكمة والعلم : (وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) .. وليس في قضاء داود من
خطأ. ولكن قضاء سليمان كان أصوب ، لأنه من نبع الإلهام.
ثم يعرض السياق
ما اختص به كلا منهما. فيبدأ بالوالد :
(وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ. وَكُنَّا فاعِلِينَ. وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ؟).
وقد عرف داود ـ
عليهالسلام ـ بمزاميره. وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون ، فتتجاوب أصداؤها
حوله ، وترجع معه الجبال والطير ..
وحينما يتصل
قلب عبد بربه فإنه يحس الاتصال بالوجود كله ؛ وينبض قلب الوجود معه ؛ وتنزاح
العوائق والحواجز الناشئة عن الشعور بالفوارق والفواصل التي تميز الأنواع والأجناس
، وتقيم بينها الحدود والحواجز ، وعندئذ تتلاقى ضمائرها وحقائقها في ضمير الكون
وحقيقته.
وفي لحظات
الإشراق تحس الروح باندماجها في الكل ، واحتوائها على الكل .. عندئذ لا تحس بأن
هنالك ما هو خارج عن ذاتها ؛ ولا بأنها هي متميزة عما حولها. فكل ما حولها مندمج
فيها وهي مندمجة فيه.
ومن النص
القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره ، فيسهو عن نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة.
وتهيم روحه في ظلال الله في هذا الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء.
فيحس ترجيعها ، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه. وإذا الكون كله فرقة مرتلة عازفة
مسبحة بجلال الله وحمده. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .. إنما يفقهه من يتجرد من الحواجز والفواصل ، وينطلق
مع أرواح الكائنات ، المتجهة كلها إلى الله.
(وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) .. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) فما هنالك من شيء يعز على القدرة أو يتأبى حين تريد.
يستوي أن يكون مألوفا للناس أو غير مالوف.
(وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ؟) ..
تلك هي صنعة
الدروع حلقا متداخلة ، بعد أن كانت تصنع صفيحة واحدة جامدة. والزرد المتداخل أيسر
استعمالا وأكثر مرونة ، ويبدو أن داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم
الله. والله يمن على الناس أن علم داود هذه الصناعة لوقايتهم في الحرب : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) وهو يسألهم سؤال توجيه وتحضيض : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟) ..
والحضارة
البشرية سارت في طريقها خطوة خطوة وراء الكشوف. ولم تجىء طفرة ، لأن خلافة الأرض
تركت لهذا الإنسان ، ولمداركه التي زوده الله بها ليخطو في كل يوم خطوة ؛ ويعيد
تنسيق حياته وفق هذه الخطوة. وإعادة تنسيق الحياة وفق نظام جديد ليست سهلة على
النفس البشرية ؛ فهي تهز أعماقها ؛ وتغير عاداتها ومألوفها ؛ وتقتضي فترة من الزمان
لإعادة الاستقرار الذي تطمئن فيه إلى العمل والإنتاج. ومن ثم شاءت حكمة الله أن
تكون هناك فترة استقرار تطول أو تقصر. بعد كل تنسيق جديد.
والقلق الذي
يستولي على أعصاب العالم اليوم منشؤه الأول سرعة توالي الهزات العلمية والاجتماعية
التي لا تدع للبشرية فترة استقرار ، ولا تدع للنفس فرصة التكيف والتذوق للوضع
الجديد.
* * *
ذلك شأن داود.
فأما شأن سليمان فهو أعظم :
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ؛
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ. وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ
وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ. وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) ..
وتدور حول
سليمان روايات وتصورات وأقاويل ، معظمها مستمد من الإسرائيليات والتخيلات
والأوهام. ولكن لا نضل في هذا التيه. فإننا نقف عند حدود النصوص القرآنية وليس
وراءها أثر مستيقن في قصة سليمان بالذات.
والنص القرآني
هنا يقرر تسخير الريح ـ وهي عاصفة ـ لسليمان ، تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا
فيها. وهي في الغالب الشام لسبق الإشارة إليها بهذه الصفة في قصة إبراهيم .. فكيف
كان هذا التسخير؟
هنالك قصة بساط
الريح الذي قيل : إن سليمان كان يجلس عليه وهو وحاشيته فيطير بهم إلى الشام في
فترة وجيزة. وهي مسافة كانت تقطع في شهر على الجمال. ثم يعود كذلك .. وتستند هذه
الرواية إلى ما ورد في سورة «سبأ» من قوله : (وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) ..
ولكن القرآن لم
يذكر شيئا عن بساط الريح ذاك ؛ ولم يرد ذكره كذلك في أي أثر مستيقن. فليس لنا ما
نستند عليه لنقرر مسألة البساط.
والأسلم إذن أن
نفسر تسخير الريح بتوجيهها ـ بأمر الله ـ إلى الأرض المباركة في دورة تستغرق شهرا
طردا وعكسا .. كيف؟ لقد قلنا : إن القدرة الإلهية الطليقة لا تسأل كيف؟ فخلق
النواميس وتوجيهها هو من اختصاص تلك القدرة الطليقة. والمعلوم للبشر من نواميس
الوجود قليل. ولا يمتنع أن تكون هناك نواميس أخرى خفية على البشر تعمل ، وتظهر
آثارها عند ما يؤذن لها بالظهور : (وَكُنَّا بِكُلِّ
شَيْءٍ عالِمِينَ) .. العلم المطلق لا كعلم البشر المحدود.
وكذلك تسخير
الجن لسليمان ـ عليهالسلام ـ ليغوصوا في أعماق البحر أو أعماق اليابسة. ويستخرجوا كنوزها المخبوءة
لسليمان ؛ أو ليعملوا له أعمالا غير هذا وذاك .. فالجن كل ما خفي. وقد قررت النصوص
القرآنية أن هناك خلقا يسمون الجن خافين علينا ، فمن هؤلاء سخر الله لسليمان من
يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك. وحفظهم فلا يهربون ولا يفسدون ولا يخرجون على
طاعة عبده. وهو القاهر فوق عباده يسخرهم حين يشاء كيف يشاء.
وعند هذا الحد
المأمون نقف في ظلال النصوص. فلا نسبح في الإسرائيليات.
* * *
لقد ابتلى الله
داود وسليمان ـ عليهماالسلام ـ بالسراء. وفتنتهما في هذه النعمة. فتن داود في القضاء. وفتن سليمان
بالخيل الصافنات ـ كما سيأتي في سورة ص ـ فلا نتعرض هنا لتفصيلات الفتنة حتى يأتي
ذكرها في موضعها. إنما نخلص إلى نتائجها .. لقد صبر داود ، وصبر سليمان للابتلاء
بالنعمة ـ بعد الاستغفار من الفتنة ـ واجتازا الامتحان في النهاية بسلام ؛ فكانا
شاكرين لنعمة الله.
* * *
والآن نجيء إلى
الابتلاء بالضراء في قصة أيوب عليهالسلام :
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ، وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ..
وقصة ابتلاء
أيوب من أروع قصص الابتلاء. والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل. وهي في
هذا الموضع تعرض دعاء أيوب واستجابة الله للدعاء. لأن السياق سياق رحمة الله
بأنبيائه ، ورعايته لهم في الابتلاء. سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم
، كما في قصص إبراهيم ولوط ونوح. أو بالنعمة في قصة داود وسليمان. أو بالضر كما في
حال أيوب ..
وأيوب هنا في
دعائه لا يزيد على وصف حاله : (أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ) .. ووصف ربه بصفته : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ). ثم لا يدعو بتغيير حاله ، صبرا على بلائه ، ولا يقترح
شيئا على ربه ، تأدبا معه وتوقيرا. فهو نموذج للعبد الصابر لا يضيق صدره بالبلاء ،
ولا يتململ من الضر الذي تضرب به الأمثال في جميع الأعصار . بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه ، فيدع
الأمر كله إليه ، اطمئنانا إلى علمه بالحال وغناه عن السؤال.
وفي اللحظة
التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة ، وكانت
الرحمة ، وكانت نهاية الابتلاء : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ
فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ، وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) ..
رفع عنه الضر
في بدنه فإذا هو معافى صحيح. ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم ، ورزقه
مثلهم. وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثليهم. أو أنه وهب له أبناء وأحفادا.
(رَحْمَةً مِنْ
عِنْدِنا) فكل نعمة فهي رحمة من عند الله ومنة. (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ). تذكرهم بالله وبلائه ، ورحمته في البلاء وبعد البلاء.
وإن في بلاء أيوب لمثلا للبشرية كلها ؛ وإن في صبر أيوب لعبرة للبشرية كلها. وإنه
لأفق للصبر والأدب وحسن العاقبة تتطلع إليه الأبصار.
والإشارة (لِلْعابِدِينَ) بمناسبة البلاء إشارة لها مغزاها. فالعابدون معرضون
للابتلاء والبلاء. وتلك تكاليف العبادة وتكاليف العقيدة وتكاليف الإيمان. والأمر
جد لا لعب. والعقيدة أمانة لا تسلم إلا للأمناء القادرين عليها ، المستعدين لتكاليفها
وليست كلمة تقولها الشفاه ، ولا دعوى يدعيها من يشاء. ولا بد من الصبر ليجتاز
العابدون البلاء ..
* * *
بعد ذلك يشير
السياق مجرد إشارة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل :
(وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ. كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي
رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ..
فهو عنصر الصبر
كذلك يشير إليه في قصص هؤلاء الرسل.
فأما إسماعيل
فقد صبر على ابتلاء ربه له بالذبح فاستسلم لله وقال : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
وأما إدريس فقد
سبق إن زمانه مجهول وكذلك مكانه ، وإن هنالك قولا بأنه ، أو زوريس الذي عبده
المصريون بعد موته ، وصاغوا حوله الأساطير. بوصف المعلم الأول للبشر ، الذي علمهم
الزراعة والصناعة!
__________________
ولكننا لا نملك على هذا دليلا. فلنعلم أنه كان من الصابرين على نحو من
أنحاء الصبر الذي يستحق التسجيل في كتاب الله الباقي.
وأما ذو الكفل
فهو كذلك مجهول لا نملك تحديد زمانه ولا مكانه. والأرجح أنه من أنبياء بني
إسرائيل. وقيل : إنه من صالحيهم ، وأنه تكفل لأحد أنبيائهم قبل موت هذا النبي ،
بأن يخلفه في بني إسرائيل على أن يتكفل بثلاث : أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا
يغضب في القضاء. فوفى بما تكفل به وسمي ذا الكفل لذاك ـ ولكن هذه ليست سوى أقوال
لا دليل عليها. والنص القرآني يكفي في هذا الموضع لتسجيل صفة الصبر لذي الكفل.
(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي
رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) .. وهذا هو المقصود بذكرهم في هذا السياق.
* * *
ثم تجيء قصة
يونس ـ عليهالسلام ـ وهو ذو النون.
(وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ. وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) ..
وقصة يونس تأتي
هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق ، وتفصل في سورة الصافات. ولكن
لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة.
لقد سمي ذا
النون ـ أي صاحب الحوت ـ لأن الحوت التقمه ثم نبذه. وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية
فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا ، وغادرهم مغاضبا ، ولم يصبر
على معاناة الدعوة معهم. ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة ، والقرى
كثيرة ، والأقوام متعددون. وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى
قوم آخرين.
ذلك معنى (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي أن لن نضيق عليه.
وقاده غضبه
الجامح ، وضيقه الخانق ، إلى شاطىء البحر ، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها. حتى إذا
كانت في اللجة ثقلت ، وقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو
سائر من فيها من الغرق. فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه.
فالتقمه الحوت. مضيقا عليه أشد الضيق! فلما كان في الظلمات : ظلمة جوف الحوت ،
وظلمة البحر ، وظلمة الليل نادى : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فاستجاب الله دعاءه ، ونجاه من الغم الذي هو فيه.
ولفظه الحوت على الساحل. ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات. فحسبنا هذا في
هذا السياق.
إن في هذه
الحلقة من قصة يونس ـ عليهالسلام ـ لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات.
إن يونس لم
يصبر على تكاليف الرسالة ، فضاق صدرا بالقوم ، وألقى عبء الدعوة ، وذهب مغاضبا ،
ضيق الصدر ، حرج النفس ؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات
المكذبين. ولو لا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله
عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه.
وأصحاب الدعوات
لا بد أن يحتملوا تكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب بها ، والإيذاء من أجلها. وتكذيب
الصادق الواثق مرير على النفس حقا. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون
حمل
الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا
الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا.
إنهم لا يجوز
لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ،
ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة
بعد المائة .. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف .. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا
ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب!
إن طريق
الدعوات ليس هينا لينا. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من
الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم والأوضاع ، يجثم على القلوب. ولا بد
من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جميع
المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل .. وإحدى اللمسات ستصادف مع
المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة
متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة ، ثم إذا
لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود ، وقد أعيا من
قبل على كل الجهود!
وأقرب ما
يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال .. إنك لتحرك
المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطىء المحطة وأنت تدقق وتصوب. ثم إذا حركة عابرة
من يدك. فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام!
إن القلب
البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا
تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق. ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر
الإرسال!
إنه من السهل
على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته ، فيهجر الناس .. إنه عمل
مريح ، قد يفثأ الغضب ، ويهدىء الأعصاب .. ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها
من هجران المكذبين المعارضين؟!
إن الدعوة هي
الأصل لا شخص الداعية! فليضق صدره. ولكن ليكظم ويمض. وخير له أن يصبر فلا يضيق
صدره بما يقولون!
إن الداعية
أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف ، وفي كل
جو ، والبقية على الله. والهدى هدى الله.
وإن في قصة ذي
النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه.
وإن في رجعة ذي
النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.
وإن في رحمة
الله لذي النون واستجابة دعائه المنيب في الظلمات لبشرى للمؤمنين : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ..
* * *
ثم إشارة إلى
قصة زكريا ويحيى ـ عليهماالسلام ـ واستجابة الله لزكريا عند ما دعاه :
(وَزَكَرِيَّا إِذْ
نادى رَبَّهُ. رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ.
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً
، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) ..
وقصة مولد يحيى
سبقت مفصلة في سورة مريم وفي سورة آل عمران. وهي ترد هنا متناسقة مع السياق.
فتبدأ بدعاء زكريا : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) بلا عقب يقوم على الهيكل : وكان زكريا قائما على هيكل
العبادة في بني إسرائيل قبل مولد عيسى ـ عليهالسلام ـ ولا ينسى زكريا أن الله هو وارث العقيدة ووارث المال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) إنما هو يريد من ذريته من يحسن الخلافة بعده في أهله
ودينه وماله. لأن الخلق ستار القدرة في الأرض.
وكانت
الاستجابة سريعة ومباشرة : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ ،
وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) وكانت عقيما لا تصلح للنسل .. ويختصر السياق تفصيلات
هذا كله ليصل مباشرة إلى استجابة الله للدعاء.
(إِنَّهُمْ كانُوا
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) .. فسارع الله في استجابة الدعاء.
(وَيَدْعُونَنا
رَغَباً وَرَهَباً) .. رغبة في الرضوان ورهبة للغضب. فقلوبهم وثيقة الصلة
دائمة التطلع.
(وَكانُوا لَنا
خاشِعِينَ) .. لا متكبرين ولا متجبرين ..
بهذه الصفات في
زكريا وزوجه وابنهما يحيى استحق الوالدان أن ينعم عليهما بالابن الصالح. فكانت
أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه.
* * *
أخيرا يذكر
مريم بمناسبة ذكر ابنها عليهالسلام :
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها ، فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ، وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ) ..
ولا يذكر هنا
اسم مريم ، لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها ـ عليهالسلام ـ وقد جاءت هي تبعا له في السياق. إنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها). أحصنته فصانته من كل مباشرة. والإحصان يطلق عادة على
الزواج بالتبعية ، لأن الزواج يحصن من الوقوع في الفاحشة. أما هنا فيذكر في معناه
الأصيل ، وهو الحفظ والصون أصلا من كل مباشرة شرعية أو غير شرعية. وذلك تنزيها
لمريم عن كل ما رماها به اليهود مع يوسف النجار الذي كان معها في خدمة الهيكل.
والذي تقول عنه الأناجيل المتداولة ، إنه كان قد تزوجها ولكنه لم يدخل بها ولم
يقربها.
لقد أحصنت
فرجها (فَنَفَخْنا فِيها
مِنْ رُوحِنا) والنفخ هنا شائع لا يحدد موضعه كما في سورة التحريم ـ وقد
سبق الحديث عن هذا الأمر في تفسير سورة مريم ـ ومحافظة على أن نعيش في ظلال النص
الذي بين أيدينا فإننا لا نفصل ولا نطوّل ، فنمضي مع النص إلى غايته :
(وَجَعَلْناها
وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ..
وهي آية غير
مسبوقة ولا ملحوقة. آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا. ذلك أن المثل الواحد من
هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها جميعا ؛ وتدرك يد القدرة الطليقة التي
تخلق النواميس ، ولكنها لا تحتبس داخل النواميس.
* * *
وفي نهاية
الاستعراض الذي شمل نماذج من الرسل ، ونماذج من الابتلاء ، ونماذج من رحمة الله ـ يعقب
بالغرض الشامل من هذا الاستعراض :
(إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ..
إن هذه أمتكم.
أمة الأنبياء. أمة واحدة. تدين بعقيدة واحدة. وتنهج نهجا واحدا. هو الاتجاه إلى
الله دون سواه.
أمة واحدة في
الأرض ، ورب واحد في السماء. لا إله غيره ولا معبود إلا إياه.
أمة واحدة وفق
سنة واحدة ، تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء.
وهنا يلتقي هذا
الاستعراض بالمحور الذي تدور عليه السورة كلها ؛ وتشترك في تقرير عقيدة التوحيد ،
تشهد بها مع سنن الكون وناموس الوجود ..
(وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا
قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
إِنَّكُمْ
وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨)
لَوْ
كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها
زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢)
لا
يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
يَوْمَ
نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
وَلَقَدْ
كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
وَما
أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما
تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي
لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)
(١١٢)
هذا الشوط
الأخير في السورة بعد عرض سنن الله الكونية ، الشاهدة بوحدة الخالق ؛ وسنن الله في
إرسال الرسل بالدعوات الشاهدة بوحدة الأمة ووحدة العقيدة .. يعرض السياق فيه مشهدا
للساعة وأشراطها ، يتبين فيه مصير المشركين بالله ومصير الشركاء ؛ ويتفرد الله ذو
الجلال بالتصريف فيه والتدبير.
ثم يقرر سنة
الله في وراثة الأرض ، ورحمة الله للعالمين المتمثلة في رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم.
وعندئذ يؤمر
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ينفض يده منهم ، وأن يدعهم لمصيرهم ، فيترك الحكم لله فيهم ؛ ويستعين
به على شركهم وتكذيبهم واستهزائهم ، وانصرافهم إلى اللعب واللهو ، ويوم الحساب
قريب.
* * *
(وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ، وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ..
إن أمة الرسل
واحدة تقوم على عقيدة واحدة وملة واحدة ، أساسها التوحيد الذي تشهد به نواميس
الوجود ؛ والذي دعت إليه الرسل منذ أولى الرسالات إلى أخراها دون تبديل ولا تغيير
في هذا الأصل الكبير.
إنما كانت
التفصيلات والزيادات في مناهج الحياة القائمة على عقيدة التوحيد ، بقدر استعداد كل
أمة ، وتطور كل جيل ؛ وبقدر نمو مدارك البشرية ونمو تجاربها ، واستعدادها لأنماط
من التكاليف ومن التشريعات ؛ وبقدر حاجاتها الجديدة التي نشأت من التجارب ، ومن
نمو الحياة ووسائلها وارتباطاتها جيلا بعد جيل.
ومع وحدة أمة
الرسل ، ووحدة القاعدة التي تقوم عليها الرسالات .. فقد تقطع أتباعها أمرهم بينهم
، كأنما اقتطع كل منهم قطعة وذهب بها. وثار بينهم الجدل ، وكثر بينهم الخلاف ،
وهاجت بينهم العداوة والبغضاء .. وقع ذلك بين أتباع الرسول الواحد حتى ليقتل بعضهم
بعضا باسم العقيدة. والعقيدة واحدة ، وأمة الرسل كلها واحدة.
لقد تقطعوا
أمرهم بينهم في الدنيا. ولكنهم جميعا سيرجعون إلى الله ، في الآخرة : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) فالمرجع إليه وحده. وهو الذي يتولى حسابهم ويعلم ما كانوا عليه من هدى أو
ضلال :
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ، وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ) ..
هذا هو قانون
العمل والجزاء .. لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الإيمان ..
وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء ولا يغيب.
ولا بد من
الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته ، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل
الصالح لتكون للإيمان ثمرته ، بل لتثبت للإيمان حقيقته.
إن الإيمان هو
قاعدة الحياة ، لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود ، والرابطة التي تشد
الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد ، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه
، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء. والعمل الصالح هو هذا البناء. فهو منهار من
أساسه ما لم يقم على قاعدته.
والعمل الصالح
هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة
متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر ..
والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.
ومن ثم يقرن
القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على
إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.
والعمل الطيب
الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة ، لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم. ولا
موصول بناموس مطرد. وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل
الصالح في هذا
الوجود. وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح ، لأنه وسيلة البناء في هذا
الكون ، ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة. فهو حركة ذات غاية مرتبطة
بغاية الحياة ومصيرها ، لا فلتة عابرة ، ولا نزوة عارضة ، ولا رمية بغير هدف ، ولا
اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير.
والجزاء على
العمل يتم في الآخرة حتى ولو قدم منه قسط في الدنيا. فالقرى التي هلكت بعذاب
الاستئصال ستعود كذلك حتما لتنال جزاءها الأخير ، وعدم عودتها ممتنعة ، فهي راجعة
بكل تأكيد.
(وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ..
إنما يفرد
السياق هذه القرى بالذكر بعد أن قال : (كُلٌّ إِلَيْنا
راجِعُونَ) لأنه قد يخطر للذهن أن هلاكها في الدنيا كان نهاية
أمرها ، ونهاية حسابها وجزائها. فهو يؤكد رجعتها إلى الله ، وينفي عدم الرجعة نفيا
قاطعا في صورة التحريم لوقوعه .. وهو تعبير فيه شيء من الغرابة ، مما جعل المفسرين
يؤولونه فيقدرون أن «لا» زائدة. وأن المعنى هي نفي رجعة القرى إلى الحياة في
الدنيا بعد إهلاكها. أو نفي رجوعهم عن غيهم إلى قيام الساعة. وكلاهما تأويل لا
داعي له. وتفسير النص على ظاهره أولى ، لأن له وجهه في السياق على النحو الذي
ذكرنا.
* * *
ثم يعرض مشهدا
من مشاهد القيامة يبدؤه بالعلامة التي تدل على قرب الموعد. وهو فتح يأجوج ومأجوج :
(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ، وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. يا
وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ. إِنَّكُمْ
وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها
زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ. إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ..
وقد قلنا من
قبل عند الكلام على يأجوج ومأجوج في قصة ذي القرنين في سورة الكهف : اقتراب الوعد
الحق الذي يقرنه السياق بفتح يأجوج ومأجوج ، ربما يكون قد وقع بانسياح التتار
وتدفقهم شرقا وغربا ، وتحطيم الممالك والعروش .. لأن القرآن قد قال منذ أيام
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ). غير أن اقتراب الوعد الحق لا يحدد زمانا معينا للساعة.
فحساب الزمن في تقدير الله غيره في تقدير البشر ، (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).
إنما المقصود
هنا هو وصف ذلك اليوم حين يجيء ، والتقديم له بصورة مصغرة من مشاهد الأرض ، هي
تدفق يأجوج ومأجوج من كل حدب في سرعة واضطراب. على طريقة القرآن الكريم في
الاستعانة بمشاهدات البشر والترقي بهم من تصوراتهم الأرضية إلى المشاهد الأخروية.
وفي المشهد
المعروض هنا يبرز عنصر المفاجأة التي تبهت المفجوئين!
(فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ
أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ..
لا تطرف من
الهول الذي فوجئوا به. ويقدم في التعبير كلمة «شاخصة» لترسم المشهد وتبرزه!
ثم يميل السياق
عن حكاية حالهم إلى إبرازهم يتكلمون ، وبذلك يحيي المشهد ويستحضره :
(يا وَيْلَنا! قَدْ
كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا. بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) ..
وهو تفجع
المفجوء الذي تتكشف له الحقيقة المروعة بغتة ؛ فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف ، ويدعو
بالويل والهلاك ، ويعترف ويندم ، ولكن بعد فوات الأوان!
وحين يصدر هذا
الاعتراف في ذهول المفاجأة يصدر الحكم القاطع الذي لا مرد له :
(إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ..
وكأنما هم
اللحظة في ساحة العرض ، يردون جهنم هم وآلهتهم المدعاة ؛ وكأنما هم يقذفون فيها
قذفا بلا رفق ولا أناة ؛ وكأنما تحصب بهم حصبا كما تحصب بالنواة! وعندئذ يوجه
إليهم البرهان على كذب ما يدعون لها من كونها آلهة. يوجه إليهم البرهان من هذا
الواقع المشهود :
(لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً ما وَرَدُوها) ..
وهو برهان
وجداني ينتزع من هذا المشهد المعروض عليهم في الدنيا ، وكأنما هو واقع في الآخرة
.. ثم يستمر السياق على أنهم قد وردوا جهنم فعلا ، فيصف مقامهم فيها ، ويصور حالهم
هناك ؛ وهي حال المكروب المذهوب بإدراكه من هول ما هو فيه :
(وَكُلٌّ فِيها
خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ ، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ).
وندع هؤلاء
لنجد المؤمنين في نجوة من هذا كله ، قد سبقت لهم الحسنى من الله ، وقدر لهم الفوز
والنجاة :
(إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) ..
ولفظة (حَسِيسَها) من الألفاظ المصورة بجرسها لمعناها. فهو تنقل صوت النار
وهي تسري وتحرق ، وتحدث ذلك الصوت المفزع. وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر. ولذلك
نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه ـ فضلا على معاناته ـ نجوا من الفزع الأكبر
الذي يذهل المشركين. وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم. وتتولى الملائكة
استقبالهم بالترحيب ، ومصاحبتهم لتطمئن قلوبهم في جو الفزع المرهوب :
(لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ. هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ..
ويختم المشهد
بمنظر الكون الذي آل إليه. وهو يشارك في تصوير الهول الآخذ بزمام القلوب ، وبزمام
الكائنات كلها في ذلك اليوم العصيب :
(يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ..
فإذا السماء
مطوية كما يطوي خازن الصحائف صحائفه ؛ وقد قضي الأمر ، وانتهى العرض ، وطوي الكون
الذي كان يألفه الإنسان .. وإذا عالم جديد وكون جديد :
(كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) .. (وَعْداً عَلَيْنا
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ..
* * *
ومن هذا المشهد
المصور لنهاية الكون والأحياء في الآخرة يعود السياق لبيان سنة الله في وراثة
الأرض ، وصيرورتها للصالحين من عبادة في الحياة. وبين المشهدين مناسبة وارتباط :
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) ..
والزبور إما أن
يكون كتابا بعينه هو الذي أوتيه داود عليهالسلام. ويكون الذكر إذن هو التوراة التي
سبقت الزبور. وإما أن يكون وصفا لكل كتاب بمعنى قطعة من الكتاب الأصيل الذي
هو الذكر وهو اللوح المحفوظ ، الذي يمثل المنهج الكلي ، والمرجع الكامل ، لكل
نواميس الله في الوجود.
وعلى أية حال
فالمقصود بقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ...) هو بيان سنة الله المقررة في وراثة الأرض : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) ..
فما هي هذه
الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟
لقد استخلف
الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها ، وتنميتها وتحويرها ، واستخدام الكنوز
والطاقات المرصودة فيها ، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة ، والبلوغ بها إلى
الكمال المقدر لها في علم الله.
ولقد وضع الله
للبشر منهجا كاملا متكاملا للعمل على وفقه في هذه الأرض. منهجا يقوم على الإيمان
والعمل الصالح. وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج ، وشرع له القوانين التي
تقيمه وتحرسه ؛ وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته.
في هذا المنهج
ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود. ولكن
المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ، ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه
الحياة. فلا ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة ؛ ولا يهبط إلى الدرك
بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
وفي الطريق
لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة
وطغاة. وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون
استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالا ماديا .. ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق.
والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين ، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح.
فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم.
وحيثما اجتمع
إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ.
ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل
المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان ، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من
الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح ، وإلى عمارة الأرض ، والقيام بتكاليف
الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وما على أصحاب
الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم ، وهو العمل الصالح ، والنهوض بتبعات الخلافة
ليتحقق وعد الله ، وتجري سنته : (أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) .. فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون ..
* * *
وفي النهاية يجيء
إيقاع الختام في السورة مشابها لإيقاع الافتتاح!
(إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
قُلْ : إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ؟ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ : آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ ، وَإِنْ
أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ
الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ. وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ
وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ .. قالَ : رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ
الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ..
(إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) .. إن في هذا القرآن وما يكشفه من سنن في الكون
والحياة. ومن
مصائر الناس في الدنيا والآخرة. ومن قواعد العمل والجزاء .. إن في هذا
لبلاغا وكفاية للمستعدين لاستقبال هدى الله. ويسميهم (عابِدِينَ) لأن العابد خاشع القلب طائع متهيىء للتلقي والتدبر
والانتفاع.
ولقد أرسل الله
رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون
المستعدون. وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين ..
إن المنهج الذي
جاء مع محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة.
ولقد جاءت هذه
الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي : جاءت كتابا مفتوحا للعقول في مقبل
الأجيال ، شاملا لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل ، مستعدا لتلبية الحاجات
المتجددة التي يعلمها خالق البشر ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير.
ولقد وضع هذا
الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة. وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام
الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة ، واستنباط وسائل
تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها ، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم.
وكفل للعقل
البشري حرية العمل ، بكفالة حقه في التفكير ، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل
بالتفكير. ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر ،
كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض.
ولقد دلت تجارب
البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقا لخطوات البشرية في عمومه
، قابلا لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نموا مطردا. وهو يقودها دائما ،
ولا يتخلف عنها ، ولا يقعد بها ، ولا يشدها إلى الخلف ، لأنه سابق دائما على
خطواتها متسع دائما لكامل خطواتها.
وهو في تلبيته
لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو
الجماعي ، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها.
وقيمة هذا
المنهج أنه متوازن متناسق. لا يعذب الجسد ليسمو بالروح ، ولا يهمل الروح ليستمتع
الجسد. ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو
الدولة. ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة ، أو
تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد.
وكافة التكاليف
التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته ، ولمصلحته
؛ وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف ، وتجعلها
محببة لديه ـ مهما لقي من أجلها الآلام أحيانا ـ لأنها تلبي رغيبة من رغائبه ، أو
تصرف طاقة من طاقاته.
ولقد كانت
رسالة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة
في أول الأمر على ضمير البشرية ، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الواقعية
والروحية من مسافة. ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئا فشيئا من آفاق هذه
المبادئ. فتزول غرابتها في حسها ، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى.
لقد جاء
الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية والجغرافية. لتلتقي في
عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد .. وكان هذا غريبا على ضمير البشرية وتفكيرها
وواقعها يومذاك. والأشراف يعدون
أنفسهم من طينة غير طينة العبيد .. ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف
وثلاثة عشر قرنا تحاول أن تقفو خطى الإسلام ، فتتعثر في الطريق ، لأنها لا تهتدي
بنور الإسلام الكامل. ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج ـ ولو في الدعاوى والأقوال
ـ وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها
الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.
ولقد جاء
الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون. في الوقت الذي كانت البشرية
تفرق الناس طبقات ، وتجعل لكل طبقة قانونا. بل تجعل إرادة السيد هي القانون في
عهدي الرق والإقطاع .. فكان غريبا على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج
السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء .. ولكن ها هي ذي شيئا فشيئا
تحاول أن تصل ـ ولو نظريا ـ إلى شيء مما طبقة الإسلام عمليا منذ نيف وثلاث مائة
وألف عام.
وغير هذا وذلك
كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنما أرسل رحمة للعالمين. من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء. فالبشرية
كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة ، شاعرة أو غير شاعرة ؛ وما
تزال ظلال هذه الرحمة وارفة ، لمن يريد أن يستظل بها ، ويستروح فيها نسائم السماء
الرخية ، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام.
وإن البشرية
اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها. وهي قلقة حائرة ، شاردة في متاهات
المادية ، وجحيم الحروب ، وجفاف الأرواح والقلوب ..
* * *
وبعد إبراز
معنى الرحمة وتقريره يؤمر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن يواجه المكذبين المستهزئين ، بخلاصة رسالته التي تنبع منها الرحمة
للعالمين :
(قُلْ : إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟).
فهذا هو عنصر
الرحمة الأصيل في تلك الرسالة. عنصر التوحيد المطلق الذي ينقذ البشرية من أوهام
الجاهلية ، ومن أثقال الوثنية ، ومن ضغط الوهم والخرافة. والذي يقيم الحياة على
قاعدتها الركينة ، فيربطها بالوجود كله ، وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة ، لا وفق
أهواء ونزوات وشهوات. والذي يكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس
إلا لله الواحد القهار.
هذا هو طريق
الرحمة .. (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ؟).
وهذا هو السؤال
الواحد الذي يكلف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يلقيه على المكذبين المستهزئين.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ : آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) ..
أي كشفت لكم ما
عندي فأنا وأنتم على علم سواء. والإيذان يكون في الحرب لإنهاء فترة السلم ، وإعلام
الفريق الآخر أنها حرب لاسلام .. أما هنا ـ والسورة مكية ولم يكن القتال قد فرض
بعد ـ فالمقصود هو أن يعلنهم بأنه قد نفض يده منهم ، وتركهم عالمين بمصيرهم ،
وأنذرهم عاقبة أمرهم. فلم يعد لهم بعد ذلك عذر ، فليذوقوا وبال أمرهم وهم عالمون
..
(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) ..
آذنتكم على
سواء. ولست أدري متى يحل بكم ما توعدون. فهو غيب من غيب الله. لا يعلمه إلا الله.
وهو وحده يعلم متى يأخذكم بعذابه في الدنيا أو في الآخرة سواء. وهو يعلم
سركم وجهركم ، فما يخفى عليه منكم خافية :
(إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) ..
فأمركم كله
مكشوف له ، وحين يعذبكم يعذبكم بما يعلم من أمركم ظاهره وخافيه. وإذا أخر عنكم
العذاب فحكمة تأخيره عند الله :
(وَإِنْ أَدْرِي
لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) ..
وما أدري ما
يريد الله بهذا التأخير. فلعله يريد أن يكون فتنة لكم وابتلاء ، فيمتعكم إلى أجل ،
ثم يأخذكم أخذ عزيز مقتدر.
وبهذا التجهيل
يلمس قلوبهم لمسة قوية ، ويدعهم يتوقعون كل احتمال ، ويتوجسون خيفة من المفاجأة
التي تأخذهم بغتة. وتوقظ قلوبهم من غفلة المتاع فلعل وراءه الفتنة والبلاء. وتوقع
العذاب على غير موعد مضروب كفيل بأن يترك النفس متوجسة ، والأعصاب متوفزة ، ترتقب
في كل لحظة أن يرفع الستار المسدل ، عن الغيب المخبوء.
وإن القلب
البشري ليغفل عما ينتظره من غيب الله ، وإن المتاع ليخدع ، فينسى الإنسان أن وراء
الستار المسدل ما وراءه مما لا يدريه ولا يكشف عنه إلا الله في موعده المغيب
المجهول.
فهذا الإنذار
يرد القلوب إلى اليقظة ، ويعذر إليها بين يدي الله قبل فوات الأوان.
* * *
وهنا يتوجه
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى ربه. وقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة. وآذنهم على سواء ، وحذرهم بغتة
البلاء .. يتوجه إلى ربه الرحمن يطلب حكمه الحق بينه وبين المستهزئين الغافلين ،
ويستعينه على كيدهم وتكذيبهم. وهو وحده المستعان :
(قالَ : رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ..
وصفة الرحمة
الكبيرة هنا ذات مدلول. فهو الذي أرسله رحمة للعالمين ، فكذب به المكذبون واستهزأ
به المستهزءون. وهو الكفيل بأن يرحم رسوله ويعينه على ما يصفون.
وبهذا المقطع
القوي تختم السورة كما بدأت بذلك المطلع القوي. فيتقابل طرفاها في إيقاع نافذ قوي
مثير عميق.
(٢٢) سورة الحج مدنيّة
وآياتها ثمان وسبعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ
مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ
تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ
(٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ
الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ
اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
مَنْ
كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ
نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما
فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ
مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)
إِنَّ
اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)
(٢٤)
هذه السورة
مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها. وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال . وآيات العقاب بالمثل ، فهي مدنية قطعا. فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال
والقصاص إلا بعد الهجرة. وبعد
__________________
قيام الدولة الإسلامية في المدينة. أما قبل ذلك فقد قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين بايعه أهل يثرب ، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار
فيقتلوهم «إني لم أومر بهذا». حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع الله القتال لرد
أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة ، وحرية العبادة للمؤمنين.
والذي يغلب على
السورة هو موضوعات السور المكية ، وجو السور المكية. فموضوعات التوحيد والتخويف من
الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك. ومشاهد القيامة ، وآيات الله المبثوثة في
صفحات الكون .. بارزة في السورة وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ،
وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر
بالجهاد في سبيل الله.
والظلال
الواضحة في جو السورة كلها هي ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة. والتحذير
والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام.
تبدو هذه
الظلال في المشاهد والأمثال ..
فمشهد البعث
مزلزل عنيف رهيب : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ
تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ
اللهِ شَدِيدٌ) ..
وكذلك مشهد
العذاب : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ،
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها ـ مِنْ غَمٍّ ـ أُعِيدُوا فِيها ،
وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ..
ومثل الذي يشرك
بالله : (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي
بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) ..
وحركة من ييأس
من نصر الله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما
يَغِيظُ) ..
ومشهد القرى
المدمرة بظلمها : (فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ،
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ..
تجتمع هذه
المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف ، وتبرير الدفع بالقوة ،
وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين. إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين
..
ففي الأولى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا
اللهُ. وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً.
وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوُا الزَّكاةَ ،
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) ..
وفي الثانية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ..
ووراء هذا وذلك
، الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاعر الرهبة والاستسلام
تبدأ بها
السورة ، وتتناثر في ثناياها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) .. (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) .. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ ، فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ
اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .. (لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) ..
ذلك إلى
استعراض مشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، ومصارع الغابرين. والأمثلة والعبر والصور
والتأملات لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام .. وهذا هو الظل
الشائع في جو السورة كلها ، والذي يطبعها ويميزها.
* * *
ويجري سياق
السورة في أربعة أشواط :
يبدأ الشوط
الأول بالنداء العام. نداء الناس جميعا إلى تقوى الله ، وتخويفهم من زلزلة الساعة
، ووصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب. ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار
الجدل في الله بغير علم ، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال. ثم يعرض
دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان ، وحياة النبات ؛ مسجلا تلك القربى
بين أبناء الحياة ، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن الله هو الحق
وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله
يبعث من في القبور .. وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود .. ثم
يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بعد هذه الدلائل
المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود. وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح
والخسارة ، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضراء ، والالتجاء إلى غير
حماه ؛ واليأس من نصرة الله وعقباه. وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد
الله ، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب .. وهنا يعرض ذلك المشهد
العنيف من مشاهد العذاب للكافرين ، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين.
ويتصل الشوط
الثاني بنهاية الشوط الأول بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد
الحرام. ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا. يستوي في
ذلك المقيمون به والطارئون عليه .. وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت ،
وتكليف إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أن يقيمه على التوحيد ، وأن يطهره من رجس الشرك. ويستطرد إلى بعض شعائر
الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب ، وهي الهدف المقصود. وينتهي
هذا الشوط بالإذن للمؤمنين بالقتال لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع
على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا : ربنا الله!
والشوط الثالث
يتضمن عرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل ، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى
المدمرة على الظالمين. وذلك لبيان سنة الله في الدعوات ، وتسلية الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عما يلقاه من صد وإعراض ، وتطمين المسلمين ، بالعاقبة التي لا بد أن
تكون. كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم ، وتثبيت الله
لدعوته ، وإحكامه لآياته ، حتى يستيقن بها المؤمنون ، ويفتن بها الضعاف
والمستكبرون!.
أما الشوط
الأخير فيتضمن وعد الله بنصرة من يقع عليه البغي وهو يدفع عنه العدوان ويتبع هذا
الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون ، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة
التي يركن إليها المشركون .. وينتهي الشوط وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا
ليعبدوا ربهم ، ويجاهدوا في الله حق جهاده ،
ويعتصموا بالله وحده ، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام
إبراهيم الخليل ..
وهكذا تتساوق
موضوعات السورة وتتعاقب في مثل هذا التناسق ..
والآن نبدأ
الشوط الأول بالتفصيل :
* * *
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ
تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها ؛ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ، وَما هُمْ بِسُكارى ، وَلكِنَّ
عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) ..
مطلع عنيف رعيب
، ومشهد ترتجف لهوله القلوب. يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يدعوهم إلى الخوف من الله : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ويخوفهم ذلك اليوم العصيب : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ).
وهكذا يبدأ
بالتهويل المجمل ، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير ، فيقال :
إنه زلزلة. وإن الزلزلة (شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، من غير تحديد ولا تعريف.
ثم يأخذ في
التفصيل. فإذا هو أشد رهبة من التهويل .. إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما
أرضعت تنظر ولا ترى ، وتتحرك ولا تعي. وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها
.. وبالناس سكارى وما هم بسكارى ، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة ، وفي خطواتهم
المترنحة .. مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج ، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة ،
بينما الخيال يتملاه. والهول الشاخص يذهله ، فلا يكاد يبلغ أقصاه .. وهو هول حي لا
يقاس بالحجم والضخامة ، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية : في المرضعات الذاهلات
عما أرضعن ـ وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية
من وعي ـ والحوامل الملقيات حملهن ، وبالناس سكارى وما هم بسكارى : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) ..
إنه مطلع عنيف
مرهوب تتزلزل له القلوب ..
* * *
في ظل هذا
الهول المروع يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله ، ولا يستشعر تقواه :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ،
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ) ..
والجدال في
الله ، سواء في وجوده تعالى ، أو في وحدانيته ، أو في قدرته ، أو في علمه ، أو في
صفة ما من صفاته .. الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعا
، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه .. ذلك الجدال يبدو عجيبا من ذي عقل
وقلب ، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح.
ويا ليته كان
جدالا عن علم ومعرفة ويقين. ولكنه جدال (بِغَيْرِ عِلْمٍ) جدال التطاول المجرد من الدليل. جدال الضلال الناشئ من
اتباع الشيطان. فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) عات مخالف للحق متبجح (كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) .. فهو حتم مقدور أن يضل تابعه عن الهدى والصواب ، وأن
يقوده إلى عذاب السعير .. ويتهكم التعبير فيسمي قيادته أتباعه إلى عذاب السعير
هداية! (وَيَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ) .. فيالها من هداية هي الضلال المهلك المبيد!
* * *
أم إن الناس في
ريب من البعث؟ وفي شك من زلزلة الساعة؟ إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا
كيف تنشأ الحياة ، ولينظروا في أنفسهم ، وفي الأرض من حولهم ، حيث تنطق لهم
الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي
الأرض غافلين :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ،
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ـ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ـ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ؛ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ؛ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. وَتَرَى
الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ..
إن البعث إعادة
لحياة كانت ، فهو في تقدير البشر ـ أيسر من إنشاء الحياة. وإن لم يكن ـ بالقياس
إلى قدرة الله ـ شيء أيسر ولا شيء أصعب. فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ).
ولكن القرآن
يأخذ البشر بمقاييسهم ، ومنطقهم ، وإدراكهم ، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود
لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة ؛ وهو من الخوارق لو تدبروه
بالعين البصيرة ، والقلب المفتوح ، والحس المدرك. ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون
وعي ولا انتباه.
فما هؤلاء
الناس؟ ما هم؟ من أين جاءوا؟ وكيف كانوا؟ وفي أي الأطوار مروا؟
(فَإِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) .. والإنسان ابن هذه الأرض. من ترابها نشأ ، ومن ترابها
تكوّن ، ومن ترابها عاش. وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض.
اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه ؛ وبه افترق عن
عناصر ذلك التراب. ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء. وكل عناصره المحسوسة
من ذلك التراب.
ولكن أين
التراب وأين الإنسان؟ أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب ،
الفاعل المستجيب ، المؤثر المتأثر ، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى
السماء ؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب ..
إنها نقلة ضخمة
بعيدة الأغوار والآماد ، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث ، وهي أنشأت ذلك الخلق
من تراب!
(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ. ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ـ لِنُبَيِّنَ
لَكُمْ ـ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ...).
والمسافة بين
عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية ، مسافة
هائلة ، تضمر في طياتها السر الأعظم. سر الحياة. السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا
يذكر ، بعد ملايين الملايين من السنين ، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة
إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين. والذي لا سبيل إلى أكثر من
ملاحظته وتسجيله ، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه ، مهما طمح الإنسان ، وتعلق بأهداب
المحال!
ثم يبقى بعد
ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة ، وتحول العلقة إلى مضغة ، وتحول المضغة إلى
إنسان! فما تلك النطفة؟ إنها ماء الرجل. والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف
الحيوانات المنوية. وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم
، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم.
وفي هذه
البويضة الملقحة بالحيوان المنوي .. في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم ـ بقدرة
القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه ـ في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان
المقبل : صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر ، وضخامة وضآلة ، وقبح ووسامة ، وآفة
وصحة .. كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية : من ميول ونزعات ، وطباع
واتجاهات ، وانحرافات واستعدادات ..
فمن يتصور أو
يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة؟ وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي
هذا الإنسان المعقد المركب ، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر ، فلا يتماثل
اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان؟!
ومن العلقة إلى
المضغة ، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا. ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها
إلى هيكل عظمي يكسى باللحم ؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام.
(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) .. فهنا محطة بين المضغة والطفل ، يقف السياق عندها
بهذه الجملة المعترضة : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ). لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في
المضغة. وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن.
ثم يمضي السياق
مع أطوار الجنين : (وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين
أجل الوضع. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً) .. ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير!
إنها في الزمان
ـ تعادل في العادة ـ تسعة أشهر. ولكنها أبعد من ذلك جدّا في اختلاف طبيعة النطفة
وطبيعة الطفل. النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد
المركب ، ذو الأعضاء والجوارح ، والسمات والملامح ، والصفات والاستعدادات ،
والميول والنزعات ..
إلا إنها
المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة
مرات ومرات ..
ثم يمضي السياق
مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور ، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق
الضخام ، في خفية عن الأنظار!
(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) .. فتستوفوا نموكم العضلي ، ونموكم العقلي ، ونموكم
النفسي .. وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من
مسافات الزمان! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص
الإنسان الرشيد ، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها ، كما
أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل ، وهي ماء مهين!
(وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ..
فاما من يتوفى
فهو صائر إلى نهاية كل حي. وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما
تزال. فبعد العلم ، وبعد الرشد ، وبعد الوعي ، وبعد الاكتمال .. إذا هو يرتد طفلا.
طفلا في عواطفه وانفعالاته. طفلا في وعيه ومعلوماته. طفلا في تقديره وتدبيره. طفلا
أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه. طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا ، وفي ذاكرته فلا
تستحضر شيئا. طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في
حسه ووعيه إلى نتيجة ، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئاً) ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به
وتطاول ، وجادل في الله وصفاته بالباطل!
ثم تستطرد
الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات ، بعد عرض مشاهد الخلق
والإحياء في الإنسان.
(وَتَرَى الْأَرْضَ
هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ،
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
والهمود درجة
بين الحياة والموت. وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة
والأحياء. فإذا نزل عليها الماء (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة
العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز
وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد
الهمود؟
وهكذا يتحدث
القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته. وإنها
للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة. وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى
وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك.
في الأرض
والنبات والحيوان والإنسان.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي الْقُبُورِ) ..
ذلك .. أي
إنشاء الإنسان من التراب وتطور الجنين في مراحل تكونه ، وتطور الطفل في مراحل
حياته ، وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود. ذلك متعلق بأن الله هو الحق. فهو من
السنن المطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحق الذي لا تختل سننه ولا تتخلف. وأن
اتجاه الحياة هذا الاتجاه في هذه الأطوار ليدل على الإرادة التي تدفعها وتنسق
خطاها وترتب مراحلها. فهناك ارتباط وثيق بين أن الله هو الحق ، وبين هذا الاطراد
والثبات والاتجاه الذي لا يحيد. (وَأَنَّهُ يُحْيِ
الْمَوْتى) فإحياء الموتى هو إعادة للحياة. والذي أنشأ الحياة
الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة (وَأَنَّ اللهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء. فهذا البعث تقتضيه حكمة
الخلق والتدبير.
وإن هذه
الأطوار التي يمر بها الجنين ، ثم يمر بها الطفل بعد أن يرى النور لتشير إلى أن
الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار
الكمال. إذ أن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض ، فهو يقف ثم يتراجع (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئاً) فلا بد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان.
فدلالة هذه
الأطوار على البعث دلالة مزدوجة .. فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على
الإنشاء قادر على الإعادة ، وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير
الإنسان في الدار الآخرة .. وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة ، ونواميس الحياة
والبعث ، ونواميس الحساب والجزاء وتشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر الذي ليس
في وجوده جدال ..
ومع هذه
الدلائل المتضافرة فهناك من يجادل في الله :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، ثانِيَ
عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَنُذِيقُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ، وَأَنَّ
اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ..
والجدال في
الله بعد تلك الدلائل يبدو غريبا مستنكرا. فكيف إذا كان جدالا بغير علم. لا يستند
إلى دليل ، ولا يقوم على معرفة ، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل ، ويوضح
الحق ، ويهدي إلى اليقين.
والتعبير يرسم
صورة لهذا الصنف من الناس. صورة فيها الكبر المتعجرف : (ثانِيَ عِطْفِهِ) مائلا مزورا بجنبه. فهو لا يستند إلى حق فيعوض عن هذا
بالعجرفة والكبر. (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) فلا يكتفي بأن يضل ، إنما يحمل غيره على الضلال.
هذا الكبر
الضال المضل لا بد أن يقمع ، ولا بد أن يحطم : (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) فالخزي هو المقابل للكبر. والله لا يدع المتكبرين
المتعجرفين الضالين المضلين حتى يحطم تلك الكبرياء الزائفة وينكسها ولو بعد حين.
إنما يمهلهم أحيانا ليكون الخزي أعظم ، والتحقير أوقع. أما عذاب الآخرة فهو أشد
وأوجع : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ).
وفي لحظة ينقلب
ذلك الوعيد المنظور إلى واقع مشهود ، بلفتة صغيرة في السياق ، من الحكاية إلى
الخطاب :
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ..
وكأنما هو
اللحظة يلقى التقريع والتبكيت ، مع العذاب والحريق.
* * *
ويمضي السياق
إلى نموذج آخر من الناس ـ إن كان يواجه الدعوة يومذاك فهو نموذج مكرور في كل جيل ـ
ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة ؛ ويظنها صفقة في سوق التجارة :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.
ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ
وَما لا يَنْفَعُهُ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ
أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ..
إن العقيدة هي
الركيزة الثابتة في حياة المؤمن ، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة
وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع ؛ وتتهاوى من حوله
الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول.
هذه قيمة
العقيدة في حياة المؤمن. ومن ثم يجب أن يستوي عليها ، متمكنا منها ، واثقا بها ،
لا يتلجلج فيها ، ولا ينتظر عليها جزاء ، فهي في ذاتها جزاء. ذلك أنها الحمى الذي
يلجأ إليه ، والسند الذي يستند عليه. أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور ،
وطلبه للهدى. ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي إليها ، ويطمئن بها. هي في ذاتها
جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله ، تتجاذبهم الرياح ،
وتتقاذفهم الزوابع ، ويستبد بهم القلق. بينما هو بعقيدته مطمئن القلب ، ثابت القدم
، هادئ البال ، موصول بالله ، مطمئن بهذا الاتصال أما ذلك الصنف من الناس الذي
يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) وقال : إن الإيمان خير. فها هو ذا يجلب النفع ، ويدر
الضرع ، وينمي الزرع ، ويربح التجارة ، ويكفل الرواج (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) .. خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه ، ولم
يتماسك له ، ولم يرجع إلى الله فيه. وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه ، وانكفائه عن
عقيدته ، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له.
والتعبير القرآني
يصوره في عبادته لله (عَلى حَرْفٍ) غير متمكن من العقيدة ، ولا متثبت في العبادة. يصوره في
حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى. ومن ثم ينقلب على وجهه عند مس
الفتنة ، ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب!
إن حساب الربح
والخسارة يصلح للتجارة ، ولكنه لا يصلح للعقيدة. فالعقيدة حق يعتنق لذاته ،
بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى.
والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها ، بما فيها
من طمأنينة وراحة ورضى ، فهي لا تطلب جزاءها خارجا عن ذاتها.
والمؤمن يعبد
ربه شكرا له على هدايته إليه ، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به. فإن كان هنالك
جزاء فهو فضل من الله ومنة. استحقاقا على الإيمان أو العبادة!
والمؤمن لا
يجرب إلهه. فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له ، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه
راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء. وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار
، إنما هي إسلام المخلوق للخالق ، صاحب الأمر فيه ، ومصدر وجوده من الأساس.
والذي ينقلب
على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب : (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) .. يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى. إلى جوار
خسارة المال أو الولد ، أو الصحة ، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها
عباده ، ويبتلي بها ثقتهم فيه ، وصبرهم على بلائه ، وإخلاصهم أنفسهم له ،
واستعدادهم لقبول قضائه وقدره .. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان. فيا
له من خسران! وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف؟ إلى أين يتجه بعيدا عن
الله؟ إنه (يَدْعُوا مِنْ دُونِ
اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) .. يدعو صنما أو وثنا على طريقة الجاهلية الأولى. ويدعو
شخصا أو جهة أو مصلحة على طريقة الجاهليات المتناثرة في كل زمان ومكان ، كلما
انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده ، والسير على صراطه ونهجه .. فما هذا كله؟
إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء .. (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ) من وثن أو شيطان ، أو سند من بني الإنسان .. وهذا كله
لا يملك ضرا ولا نفعا ؛ وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضر. وضره أقرب من نفعه. ضره في
عالم الضمير بتوزيع القلب ، وإثقاله بالوهم وإثقاله بالذل. وضره في عالم الواقع
وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران (لَبِئْسَ الْمَوْلى) ذلك الضعيف لا سلطان له في ضر أو نفع (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ذلك الذي ينشأ عنه الخسران. يستوي في ذلك المولى
والعشير من الأصنام والأوثان ، والمولى والعشير من بني الإنسان ، ممن يتخذهم بعض
الناس آلهة أو أشباه آلهة في كل زمان ومكان!
والله يدخر
للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله ، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في
الفتنة والابتلاء :
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ. إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ..
فمن مسه الضر
في فتنة من الفتن ، وفي ابتلاء من الابتلاءات ، فليثبت ولا يتزعزع ، وليستبق ثقته
برحمة الله وعونه ، وقدرته على كشف الضراء ، وعلى العوض والجزاء.
فأما من يفقد
ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة ؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد
المحنة. فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء ؛ وليذهب بنفسه كل مذهب ، فما شيء من ذلك
بمبدل ما به من البلاء :
(مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما
يَغِيظُ)!
وهو مشهد متحرك
لغيظ النفس ، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها
الضيق بالنفس أقصاه ، عند ما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله.
والذي ييأس في
الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة ، وكل نسمة رخية ، وكل رجاء في الفرج ،
ويستبد به الضيق ، ويثقل على صدره الكرب ، فيزيد هذا كله من وقع الكرب
والبلاء.
فمن كان يظن أن
لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق. ثم
ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق .. ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما
يغيظه!
ألا إنه لا
سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله. ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه
إلى الله. ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة
بالله. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ، ومضاعفة الشعور به
، والعجز عن دفعه بغير عون الله .. فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم
عليه من روح الله ...
* * *
بمثل هذا
البيان لحالات الهدى والضلال ، ولنماذج الهدى والضلال ، أنزل الله هذا القرآن
ليهتدي به من يفتح له قلبه ، فيقسم الله له الهداية :
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ ، وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) ..
وإرادة الله قد
قررت سبق الهدى والضلال. فمن طلب الهدى تحققت إرادة الله بهدايته ، وفق سنته ،
وكذلك من طلب الضلال. إنما يفرد هنا حالة الهدى بالذكر ، بمناسبة ما في الآيات من
بيان يقتضي الهدى في القلب المستقيم.
فأما الفرق
المختلفة في الاعتقاد فأمرها إلى الله يوم القيامة ، وهو العليم بكل ما في عقائدها
من حق أو باطل ، ومن هدى أو ضلال :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ، وَالَّذِينَ هادُوا ، وَالصَّابِئِينَ ، وَالنَّصارى ، وَالْمَجُوسَ ،
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا .. إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ،
إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ..
وقد سبق تعريف
هذه الفرق. وهي تذكر هنا بمناسبة أن الله يهدي من يريد ، وهو أعلم بالمهتدين
والضالين ، وعليه حساب الجميع ، والأمر إليه في النهاية ، وهو على كل شيء شهيد.
وإذا كان الناس
بتفكيرهم ونزعاتهم وميولهم ، فإن الكون كله ـ فيما عداهم ـ يتجه بفطرته إلى خالقه
، يخضع لناموسه ، ويسجد لوجهه :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ ، وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ، وَكَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ. وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما
لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ. إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ..
ويتدبر القلب
هذا النص ، فإذا حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك. وإذا حشد من
الأفلاك والأجرام. مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم. وإذا حشد من الجبال والشجر
والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان .. إذا بتلك الحشود كلها في موكب
خاشع تسجد كلها لله ، وتتجه إليه وحده دون سواه. تتجه إليه وحده في وحدة واتساق.
إلا ذلك الإنسان فهو وحده الذي يتفرق : (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) فيبدو هذا الإنسان عجيبا في ذلك الموكب المتناسق.
وهنا يقرر أن
من يحق عليه العذاب فقد حق عليه الهوان : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) .. فلا كرامة إلا بإكرام الله ، ولا عزة إلا بعزة الله.
وقد ذل وهان من دان لغير الديان.
* * *
ثم مشهد من
مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :
(هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ
نارٍ ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ؛ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ، كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها ـ مِنْ غَمٍّ ـ أُعِيدُوا فِيها. وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ. إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ
مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).
إنه مشهد عنيف
صاحب ، حافل بالحركة ، مطوّل بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير. فلا يكاد
الخيال ينتهي من تتبعه في تجدّده ..
هذه ثياب من
النار تقطع وتفصل! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون
والجلود عند صبه على الرؤوس! وهذه سياط من حديد أحمته النار .. وهذا هو العذاب
يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا «الغم»
وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : (وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) ..
ويظل الخيال
يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج
والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد!
ولا يبارح
الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد
السياق إلى عرضه. فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم. فأما الذين كفروا
به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات
تجري من تحتها الأنهار. وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير. ولهم
فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط
الحميد. فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق .. والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية
إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم. نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق.
وتلك عاقبة
الخصام في الله. فهذا فريق وذلك فريق .. فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات
البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ..
(وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
(٢٤) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ
الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
وَإِذْ
بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
ذلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ
لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
حُنَفاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ
السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
ذلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(٣٣)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ
أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
الَّذِينَ
إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ
وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ
يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)
الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ
وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً
وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)
(٤١)
انتهى الدرس
الماضي بتصوير عاقبة الخصام في الله ، ومشهد الجحيم الحارق للكافرين ، والنعيم
الوارف للمؤمنين.
وبهذه النهاية
يتصل الدرس الجديد ، فيتحدث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام.
وهم الذين كانوا يواجهون الدعوة الإسلامية في مكة ، فيصدون الناس عنها ؛
ويواجهون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والمؤمنين فيمنعونهم من دخول المسجد الحرام.
وبهذه المناسبة
يتحدث عن الأساس الذي أقيم عليه ذلك المسجد يوم فوض الله إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في بنائه ، والأذان في الناس بالحج إليه. ولقد كلف إبراهيم أن يقيم هذا
البيت على التوحيد ، وأن ينفي عنه الشرك ، وأن يجعله للناس جميعا ، سواء المقيم
فيه والطارئ عليه ، لا يمنع عنه أحد ، ولا يملكه أحد. ويستطرد إلى بعض شعائر الحج
وما وراءها من استجاشة القلوب للتقوى وذكر الله والاتصال به .. وينتهي إلى ضرورة
حماية المسجد الحرام من عدوان المعتدين الذين يصدون عنه ويغيرون الأساس الذي قام
عليه ؛ وبوعد الله للمدافعين بالنصر متى نهضوا بالتكاليف التي تفرضها حماية
العقيدة.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي
جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ ، سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ..
وكان ذلك فعل
المشركين من قريش : أن يصدوا الناس عن دين الله ـ وهو سبيله الواصل إليه ، وهو
طريقه الذي شرعه للناس ، وهو نهجه الذي اختاره للعباد ـ وأن يمنعوا المسلمين من
الحج والعمرة إلى المسجد الحرام ـ كما فعلوا عام الحديبية ـ وهو الذي جعله الله
للناس منطقة أمان ودار سلام ، وواحة اطمئنان. يستوي فيه المقيم بمكة والطارئ
عليها. فهو بيت الله الذي يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز
فيه أحد منهم : (سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ).
ولقد كان هذا
النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام سابقا لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة
حرام. يلقى فيها السلاح ، ويأمن فيها المتخاصمون ، وتحقن فيها الدماء ، ويجد كل
أحد فيها مأواه. لا تفضلا من أحد ، ولكن حقا يتساوى فيه الجميع.
ولقد اختلفت
أقوال الفقهاء في جواز الملكية الفردية لبيوت مكة غير المسكونة بأهلها. وفي جواز
كراء هذه البيوت عند من أجاز ملكيتها .. فذهب الشافعي رحمهالله ـ إلى أنها تملك وتورث وتؤجر محتجا بما ثبت من أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله
عنه ـ اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة بأربعة آلاف درهم فجعلها سجنا. وذهب إسحاق
بن راهويه ـ رحمهالله ـ إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وقال : توفي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة (جمع ربع) إلا السوائب ، من احتاج سكن
، ومن استغنى أسكن. وقال عبد الرزاق عن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمر ـ رضي
الله عنهم ـ أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها. وقال أيضا عن ابن جريج :
كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم. وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب
دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها. فكان أول من بوّب سهيل بن عمرو. فأرسل إليه
عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا ،
فأردت أن أتخذ لي بابين يحبسان لي ظهري (أي ركائبي) قال : فلك ذلك إذن. وقال عبد
الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة لا تتخذوا
لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء .. وتوسط الإمام أحمد ـ رحمهالله ـ فقال : تملك وتورث ولا تؤجر. جمعا بين الأدلة.
وهكذا سبق
الإسلام سبقا بعيدا بإنشاء واحة السلام ، ومنطقة الأمان ، ودار الإنسان المفتوحة
لكل إنسان! والقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجا في هذا النهج المستقيم بالعذاب
الأليم : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) .. فما بال من يريد ويفعل؟ إن التعبير يهدد ويتوعد على
مجرد الإرادة زيادة في التحذير ، ومبالغة في التوكيد. وذلك من دقائق التعبير.
ومن دقائق
التعبير كذلك أن يحذف خبر إن في الجملة : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) فلا يذكرهم مالهم؟ ما شأنهم؟ ما جزاؤهم كأن مجرد ذكر
هذا الوصف لهم يغني عن كل شيء آخر في شأنهم ، ويقرر أمرهم ومصيرهم!
* * *
ثم يرجع إلى
نشأة هذا البيت الحرام ، الذي يستبد به المشركون ، يعبدون فيه الأصنام ، ويمنعون
منه الموحدين بالله ، المتطهرين من الشرك .. يرجع إلى نشأته على يد إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بتوجيه ربه وإرشاده. ويرجع إلى القاعدة التي أقيم عليها وهي قاعدة
التوحيد. وإلى الغرض من إقامته وهو عبادة الله الواحد ، وتخصيصه للطائفين به
والقائمين لله فيه :
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ، وَطَهِّرْ
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ، فَكُلُوا
مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ..
فللتوحيد أقيم
هذا البيت منذ أول لحظة. عرف الله مكانه لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً) فهو بيت الله وحده دون سواه. وليطهره به من الحجيج ،
والقائمين فيه للصلاة : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فهؤلاء هم الذين أنشئ البيت لهم ، لا لمن يشركون بالله
، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه.
ثم أمر الله
إبراهيم عليهالسلام ـ باني البيت ـ إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس
بالحج ؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته ، فيتقاطرون
على البيت من كل فج ، رجالا يسعون على أقدامهم ، وركوبا (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) جهده السير فضمر من الجهد والجوع : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) ..
وما يزال وعد
الله يتحقق منذ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام ؛ وترف
إلى رؤيته والطواف به .. الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب
المختلفة تنقله ؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه. وعشرات الألوف من هؤلاء
يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم ـ عليهالسلام ـ منذ آلاف الأعوام ..
ويقف السياق
عند بعض معالم الحج وغاياته :
(لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ..
والمنافع التي
يشهدها الحجيج كثير. فالحج موسم ومؤتمر. الحج موسم تجارة وموسم عبادة. والحج مؤتمر
اجتماع وتعارف ، ومؤتمر تنسيق وتعاون. وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة
كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة .. أصحاب السلع والتجارة يجدون في
موسم الحج سوقا رائجة ، حيث
تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء .. من أطراف الأرض ؛ ويقدم الحجيج من
كل فج ومن كل قطر ، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم.
يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد. فهو موسم تجارة ومعرض نتاج ؛ وسوق عالمية
تقام في كل عام.
وهو موسم عبادة
تصفو فيه الأرواح ، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام. وهي ترف حول هذا
البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد ..
طيف إبراهيم
الخليل ـ عليهالسلام ـ وهو يودع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمه ، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى
ربه : (رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ..
وطيف هاجر ،
وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة المتلهبة حول البيت ، وهي
تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش ، وهدها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل
.. ثم ترجع في الجولة السابعة وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع
الوضيء. وإذا هي زمزم. ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.
وطيف إبراهيم ـ
عليهالسلام ـ وهو يرى الرؤيا ، فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده ، ويمضي في الطاعة
المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد : (قالَ : يا بُنَيَّ
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟) فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل ـ عليهالسلام ـ : (قالَ : يا أَبَتِ
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) .. وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ..
وطيف إبراهيم
وإسماعيل ـ عليهماالسلام ـ يرفعان القواعد من البيت ، في إنابة وخشوع : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا ،
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ..
وتظل هذه
الأطياف وتلك الذكريات ترف وتتتابع ، حتى يلوح طيف عبد المطلب ، وهو ينذر دم ابنه
العاشر إن رزقه الله عشرة أبناء. وإذا هو عبد الله. وإذا عبد المطلب حريصا على
الوفاء بالنذر. وإذا قومه من حوله يعرضون عليه فكرة الفداء وإذا هو يدير القداح
حول الكعبة ويضاعف الفداء ، والقدح يخرج في كل مرة على عبد الله ، حتى يبلغ الفداء
مائة ناقة بعد عشر هي الدية المعروفة. فيقبل منه الفداء ، فينحر مائة وينجو عبد
الله. ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة وأكرم خلق الله على الله ـ محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ ثم يموت! فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير!
ثم تتواكب
الأطياف والذكريات. من محمد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى ، حول هذا البيت .. وهو يرفع
الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفىء الفتنة التي كادت تنشب بين
القبائل .. وهو يصلي .. وهو يطوف .. وهو يخطب .. وهو يعتكف .. وإن خطواته ـ عليه
الصلاة والسلام ـ لتنبض حية في الخاطر ، وتتمثل شاخصة في الضمير ، يكاد الحاج هناك
يلمحها وهو مستغرق في تلك الذكريات .. وخطوات الحشد من صحابته الكرام وأطيافهم ترف
وتدف فوق هذا الثرى ، حول ذلك البيت ، تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار!
والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة. مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق
الضارب في أعماق
الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) .. ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعا إليه : هذه القبلة
التي يتوجهون إليها جميعا ويلتقون عليها جميعا .. ويجدون رايتهم التي يفيئون
إليها. راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان
.. ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا. قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم
الملايين. الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد
.. راية العقيدة والتوحيد وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى ،
وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب. وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد
الكامل المتكامل مرة في كل عام. في ظل الله. بالقرب من بيت الله. وفي ظلال الطاعات
البعيدة والقريبة ، والذكريات الغائبة والحاضرة. في أنسب مكان ، وأنسب جو ، وأنسب
زمان ..
فذلك إذ يقول
الله سبحانه : (لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ) .. كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته.
وذلك بعض ما
أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين ، وأمر إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أن يؤذن به في الناس.
ويمضي السياق
يشير إلى بعض مناسك الحج وشعائره وأهدافها :
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ..
وهذه كناية عن
نحر الذبائح في أيام العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده. والقرآن يقدم ذكر اسم الله
المصاحب لنحر الذبائح ، لأن الجو جو عبادة ولأن المقصود من النحر هو التقرب إلى
الله. ومن ثم فإن أظهر ما يبرز في عملية النحر هو ذكر اسم الله على الذبيحة.
وكأنما هو الهدف المقصود من النحر لا النحر ذاته ..
والنحر ذكرى
لفداء إسماعيل ـ عليهالسلام ـ فهو ذكرى لآية من آيات الله وطاعة من طاعات عبديه إبراهيم وإسماعيل ـ عليهماالسلام ـ فوق ما هو صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء. وبهيمة الأنعام هي الإبل
والبقر والغنم والمعز.
(فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) ..
والأمر بالأكل
من الذبيحة يوم النحر هو أمر للإباحة أو الاستحباب. أما الأمر بإطعام البائس
الفقير منها فهو أمر للوجوب. ولعل المقصود من أكل صاحبها منها أن يشعر الفقراء
أنها طيبة كريمة.
وبالنحر ينتهي
الإحرام فيحل للحاج حلق شعره أو تقصيره ، ونتف شعر الإبط ، وقص الأظافر
والاستحمام. مما كان ممنوعا عليه في فترة الإحرام. وهو الذي يقول عنه : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ،
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) التي نذروها من الذبائح غير الهدي الذي هو من أركان
الحج. (وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .. طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات ، وبه تنتهي شعائر
الحج. وهو غير طواف الوداع.
والبيت العتيق
هو المسجد الحرام أعفاه الله فلم يغلب عليه جبار. وأعفاه الله من البلى والدثور ،
فما يزال معمورا منذ إبراهيم عليهالسلام ولن يزال.
* * *
تلك قصة بناء
البيت الحرام ، وذلك أساسه الذي قام عليه .. بيت أمر الله خليله إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بإقامته على التوحيد ، وتطهيره من الشرك ، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج
إليه. ليذكروا اسم الله ـ لا أسماء
الآلهة المدعاة ـ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. ويأكلوا منها ويطعموا
البائس الفقير على اسم الله دون سواه .. فهو بيت حرام حرمات الله فيه مصونة ـ وأولها
عقيدة التوحيد ، وفتح أبوابه للطائفين والقائمين والركع السجود ـ إلى جانب حرمة
الدماء ، وحرمة العهود والمواثيق. وحرمة الهدنة والسلام.
(ذلِكَ. وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ ـ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ـ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ، حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ
بِهِ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) ..
وتعظيم حرمات
الله يتبعه التحرج من المساس بها. وذلك خير عند الله. خير في عالم الضمير والمشاعر
، وخير في عالم الحياة والواقع. فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر والحياة
التي ترعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء ،
ويجدون فيها متابة أمن ، وواحة سلام ، ومنطقة اطمئنان ..
ولما كان
المشركون يحرمون بعض الأنعام ـ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ـ فيجعلون لها
حرمة ، وهي ليست من حرمات الله بينما هم يعتدون على حرمات الله ـ فإن النص يتحدث
عن حل الأنعام إلا ما حرم الله منها ـ كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). وذلك كي لا تكون هنالك حرمات إلا لله ؛ وألا يشرع أحد
إلا بإذن الله ؛ ولا يحكم إلا بشريعة الله.
وبمناسبة حل
الأنعام يأمر باجتناب الرجس من الأوثان. وقد كان المشركون يذبحون عليها وهي رجس ـ والرجس
دنس النفس ـ والشرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب ، ويشوب نقاءها وطهارتها
كما تشوب النجاسة الثوب والمكان.
ولأن الشرك
افتراء على الله وزور ، فإنه يحذر من قول الزور كافة : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ..
ويغلظ النص من
جريمة قول الزور إذ يقرنها إلى الشرك .. وهكذا روى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن
فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الصبح. فلما انصرف قام قائما فقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عزوجل» ثم تلا هذه الآية ...
إنما يريد الله
من الناس أن يميلوا عن الشرك كله ، وأن يجتنبوا الزور كله ، وأن يستقيموا على
التوحيد الصادق الخالص : (حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) .. ثم يرسم النص مشهدا عنيفا يصور حال من تزل قدماه عن
أفق التوحيد ، فيهوي إلى درك الشرك. فإذا هو ضائع ذاهب بددا كأن لم يكن من قبل
أبدا :
(وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي
بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) ..
إنه مشهد
الهويّ من شاهق (فَكَأَنَّما خَرَّ
مِنَ السَّماءِ). وفي مثل لمح البصر يتمزق (فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ) أو تقذف به الريح بعيدا عن الأنظار : (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ
سَحِيقٍ) في هوة ليس لها قرار!
والملحوظ هو
سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ «بالفاء» وفي المنظر بسرعة الاختفاء
.. على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير.
وهي صورة صادقة
لحال من يشرك بالله ، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء. إذ
يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها. قاعدة التوحيد. ويفقد المستقر الآمن الذي
يثوب إليه ؛ فتتخطفه
الأهواء تخطف الجوارح ، وتتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح. وهو لا يمسك
بالعروة الوثقى ، ولا يستقر على القاعدة الثابتة ، التي تربطه بهذا الوجود الذي
يعيش فيه.
* * *
ثم يعود السياق
من تعظيم حرمات الله باتقائها والتحرج من المساس بها .. إلى تعظيم شعائر الله ـ وهي
ذبائح الحج ـ باستسمانها وغلاء أثمانها :
(ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
ويربط بين
الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب ؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج
وشعائره. وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت
وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة ، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه
الأمة المسلمة. فهي والدعاء والصلاة سواء.
وهذه الأنعام
التي تتخذ هديا ينحر في نهاية أيام الإحرام يجوز لصاحبها الانتفاع بها. إن كان في
حاجة إليها يركبها ، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها ، حتى تبلغ محلها ـ أي مكان
حلها ـ وهو البيت العتيق. ثم تنحر هناك ليأكل منها. ويطعم البائس الفقير.
«وقد كان
المسلمون على عهد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يغالون في الهدي ، يختارونه سمينا غالي الثمن ، يعلنون بها عن تعظيمهم
لشعائر الله ، مدفوعين بتقوى الله. روى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : أهدي
عمر نجيبا فأعطى بها ثلاث مائة دينار ، فأتى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا رسول الله إني أهديت نجيبا ، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار. أفأبيعها
وأشتري بثمنها بدنا ؟ قال : «لا. أنحرها إياها».
والناقة النجيب
التي جاءت هدية لعمر ـ رضي الله عنه ـ وقوّمت بثلاث مائة دينار لم يكن عمر ـ رضي
الله عنه ـ يريد أن يضنّ بقيمتها ، بل كان يريد أن يبيعها فيشتري بها نوقا أو بقرا
للذبح. فشاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يضحي بالنجيب ذاتها لنفاستها وعظم قيمتها ، ولا يستبدل بها نوقا كثيرة
، قد تعطي لحما أكثر ، ولكنها من ناحية القيمة الشعورية أقل. والقيمة الشعورية
مقصودة (فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ). وهذا هو المعنى الذي لحظه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يقول لعمر ـ رضي الله عنه ـ «أنحرها إياها» هي بذاتها لا سواها! هذه
الذبائح يذكر القرآن الكريم أنها شعيرة معروفة في شتى الأمم ؛ إنما يوجهها الإسلام
وجهتها الصحيحة حين يتوجه بها إلى الله وحده دون سواه :
* * *
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ. فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ،
وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ، وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ..
__________________
والإسلام يوحد
المشاعر والاتجاهات ، ويتوجه بها كلها إلى الله. ومن ثم يعنى بتوجيه الشعور والعمل
، والنشاط والعبادة ، والحركة والعادة ؛ إلى تلك الوجهة الواحدة. وبذلك تصطبغ
الحياة كلها بصبغة العقيدة.
وعلى هذا
الأساس حرم من الذبائح ما أهل لغير الله به ؛ وحتم ذكر اسم الله عليها ، حتى ليجعل
ذكر اسم الله هو الغرض البارز ، وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ..
ويعقب بتقرير
الوحدانية : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) .. وبالأمر بالإسلام له وحده : (فَلَهُ أَسْلِمُوا) .. وليس هو إسلام الإجبار والاضطرار ، إنما هو إسلام
التسليم والاطمئنان : (وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فبمجرد ذكر اسم الله يحرك الوجل في ضمائرهم ومشاعرهم. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) فلا اعتراض لهم على قضاء الله فيهم. (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ). فهم يعبدون الله حق عبادته. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فهم لا يضنون على الله بما في أيديهم ..
وهكذا يربط بين
العقيدة والشعائر. فهي منبثقة من العقيدة وقائمة عليها. والشعائر تعبير عن هذه
العقيدة ورمز لها. والمهم أن تصطبغ الحياة كلها ويصطبغ نشاطها كله بتلك الصبغة ،
فتتوحد الطاقة ويتوحد الاتجاه ، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات .
ويستطرد السياق
في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن :
(وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ..
لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ
، كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ، وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ) ..
ويخص البدن
بالذكر لأنها أعظم الهدي ، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم ، فجعل فيها خيرا وهي
حية تركب وتحلب ، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيرا لهم أن يذكروا
اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها
صَوافَّ). والإبل تنحر قائمة على ثلاث معقولة الرجل الرابعة ـ (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) واطمأنت على الأرض بموتها أكل منها أصحابها استحبابا ،
وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال. فلهذا
سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) ..
وهم حين يؤمرون
بنحرها باسم الله (لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها) فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه. إنما تصل
إليه تقوى القلوب وتوجهاتها ـ لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء
الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة!
(كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) .. فقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه وإدراك حقيقة
الصلة بين الرب والعباد ، وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه.
(وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ) .. الذين يحسنون التصور ، ويحسنون الشعور ، ويحسنون
العبادة ، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة.
وهكذا لا يخطو
المسلم في حياته خطوة ، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة ، إلا وهو ينظر فيها إلى
الله.
__________________
ويجيش قلبه فيها بتقواه ، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه. فإذا الحياة كلها
عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد ، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة
السبب بالسماء.
* * *
تلك الشعائر
والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من
الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة ، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر ،
وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة ،
المتصل بالله ، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة.
ومن ثم أذن
الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء
المعتدين ، بعد أن بلغ أقصاه ، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية
العبادة في ظل دين الله ، ووعدهم النصر والتمكين ، على شرط أن ينهضوا بتكاليف
عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات :
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ، أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ. وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ
كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلِلَّهِ
عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ..
إن قوى الشر
والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال ؛
والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان.
والشر جامح
والباطل مسلح. وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع ؛ ويملك أن يفتن الناس عن
الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له. فلا بد للإيمان والخير والحق
من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم.
ولم يشأ الله
أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتمادا على
قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر ، وعمق الخير في القلوب. فالقوة
المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر. وللصبر حد
وللاحتمال أمد ، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه. والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم.
ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيأون
للدفاع ، ويتمكنون من وسائل الجهاد .. وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان.
وقبل أن يأذن
لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا) ..
وأنه يكره أعداءهم
لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتما : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) ..
وأنه حكم لهم
بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلومون غير معتدين ولا
متبطرين : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ..
وأن لهم أن
يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم : (وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ..
وأن لهم ما
يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة ، لا يعود خيرها عليهم وحدهم
، إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها ؛ وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة
وذلك فوق أنهم مظلمون أخرجوا من ديارهم بغير حق : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ) .. وهي أصدق كلمة
أن تقال ، وأحق كلمة بأن تقال. ومن أجل هذه الكلمة وحدها كان إخراجهم. فهو
البغي المطلق الذي لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين. وهو التجرد من كل هدف
شخصي من ناحية المعتدى عليهم ، إنما هي العقيدة وحدها من أجلها يخرجون ، لا الصراع
على عرض من أعراض هذه الأرض ، التي تشتجر فيها الأطماع ؛ وتتعارض فيها المصالح ؛
وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع!
ووراء هذا كله
تلك القاعدة العامة .. حاجة العقيدة إلى الدفع عنها : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) ..
والصوامع أماكن
العبادة المنعزلة للرهبان ، والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع ، والصلوات
أماكن العبادة لليهود. والمساجد أماكن العبادة للمسلمين.
وهي كلها معرضة
للهدم ـ على قداستها وتخصيصها لعبادة الله ـ لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم
الله يذكر فيها ، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض. أي دفع حماة العقيدة
لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ، ويعتدون على أهلها. فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف
عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول. ولا يكفي الحق أنه الحق
ليقف عدوان الباطل عليه ، بل لا بد من القوة تحميه وتدفع عنه. وهي قاعدة كلية لا
تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان!
ولا بد من وقفة
أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة ، وما وراءها من أسرار في عالم
النفس وعالم الحياة.
إن الله يبدأ
الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن
الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين :
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) ..
فقد ضمن
للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم. ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه
، ظاهر حتما على عدوه .. ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟
وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام ...
والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية
ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال؟
والجواب أن حكمة
الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة .. والذي ندركه نحن البشر من تلك
الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون
حملة دعوته وحماتها من «التنابلة» الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل
عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن
ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!
نعم إنهم يجب
أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء
والضراء. ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ؛ إنما هي
الزاد الذي يتزودونه للمعركة. والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي
يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان
والاتصال بالله.
لقد شاء الله
تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في
أثناء المعركة. فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ
وهي تواجه الخطر ؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة
.. عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من
استعداد لتؤدي دورها ؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة ؛
ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه ؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها
وما هي مهيأة له من الكمال.
والأمة التي
تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفز كل
استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل
الأمانة الضخمة والقيام عليها.
والنصر السريع
الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك
الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.
وذلك فوق أن النصر
السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه. أولا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات
عزيزة. وثانيا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم
وتحشد لكسبه. فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.
وهناك التربية
الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ،
والقوة والضعف والتقدم والتقهقر. ومن المشاعر المصاحبة لها .. من الأمل والألم.
ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق. ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة ..
ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا
المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور في جميع الحالات
.. وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس.
من أجل هذا كله
، ومن أجل غيره مما يعلمه الله .. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم
أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد
يبطىء على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله.
فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله.
قد يبطىء النصر
لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد
طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات.
فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا!
وقد يبطىء
النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ،
فلا تستبقي عزيزا ولا غاليا ، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله.
وقد يبطىء
النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من
الله
__________________
لا تكفل النصر. إنما يتنزل النصر من عند الله عند ما تبذل آخر ما في طوقها
ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطىء
النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل ؛ ولا تجد لها
سندا إلا الله ، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء. وهذه الصلة هي الضمانة
الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عند ما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف
عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
وقد يبطىء
النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي
تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله
يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه.
وقد سئل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى. فأيها في سبيل
الله. فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
كما قد يبطىء
النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد
الشر منها ليتمحض خالصا ، ويذهب وحده هالكا ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في
الغمار!
وقد يبطىء
النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفة للناس تماما. فلو غلبه
المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده
وضرورة زواله ؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء
الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
وقد يبطىء
النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة
المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل
الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه!
من أجل هذا كله
، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطىء النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف
الآلام. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
وللنصر تكاليفه
وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله
لاستقباله واستبقائه :
(وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوُا الزَّكاةَ ،
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ؛ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) ..
فوعد الله
المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره .. فمن هم هؤلاء الذين
ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم
هؤلاء :
(الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) .. فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر .. (أَقامُوا الصَّلاةَ) .. فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين
خاضعين مستسلمين .. (وَآتَوُا الزَّكاةَ) .. فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا
من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها
والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي ـ كما قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» .. (وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ) .. فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس .. (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) .. فقاوموا
__________________
الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر
وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه ..
هؤلاء هم الذين
ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون
سواه. وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين.
فهو النصر
القائم على أسبابه ومقتضياته. المشروط بتكاليفه وأعبائه .. والأمر بعد ذلك لله ،
يصرفه كيف يشاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة ، عند ما تختل القوائم ، أو
تهمل التكاليف : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) ..
إنه النصر الذي
يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة. من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة
إلى الخير والصلاح. المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص
والذوات ، والمطامع والشهوات ..
وهو نصر له
سببه. وله ثمنه. وله تكاليفه. وله شروطه. فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى
لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه ..
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ
إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ
وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا
فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ
يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ
لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(٥٤)
وَلا
يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)
(٥٧)
انتهى الدرس
السابق عند الإذن بالقتال لحماية العقائد والشعائر ؛ ووعد الله بالنصر لمن ينهضون
بتكاليف العقيدة ، ويحققون النهج الإلهي في حياة الجماعة.
وإذ انتهى من
بيان تكاليف الأمة المؤمنة أنشأ يطمئن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى تدخل يد القدرة الإلهية لنصره ؛ ولخذلان أعدائه ، كما تدخلت من قبل
لنصرة إخوانه الرسل ـ عليهمالسلام ـ وأخذ المكذبين على مدار الأجيال. وأخذ يوجه المشركين إلى تأمل مصارع
الغابرين إن كانت لهم قلوب للتأمل والتدبر ، فإنها لا تعمي الأبصار ، ولكن تعمي
القلوب التي في الصدور.
ثم يطمئن
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى أن الله يحمي رسله من كيد الشيطان كما يحميهم من كيد المكذبين. ويبطل
ما يحاوله الشيطان ويحكم آياته ويجلوها للقلوب السليمة. فأما القلوب المريضة
والقلوب الكافرة فتظل الريبة فيها حتى تنتهي بها إلى شر مصير ..
فالدرس كله
بيان لآثار يد القدرة وهي تتدخل في سير الدعوة ، بعد أن يؤدي أصحابها واجبهم ،
وينهضوا بتكاليفهم التي سبق بها الدرس الماضي في السياق.
* * *
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ ، وَقَوْمُ
إِبْراهِيمَ ، وَقَوْمُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ مَدْيَنَ ، وَكُذِّبَ مُوسى ،
فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..
فهي سنة مطردة
في الرسالات كلها ، قبل الرسالة الأخيرة ، أن يجيء الرسل بالآيات فيكذب بها
المكذبون. فليس الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بدعا من الرسل حين يكذبه المشركون. والعاقبة معروفة ، والسنة مطردة (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ) .. ويفرد موسى بفقرة خاصة : (وَكُذِّبَ مُوسى) أولا. لأنه لم يكذب من قومه كما كذب هؤلاء من قومهم ،
إنما كذب من فرعون وملئه. وثانيا لوضوح الآيات التي جاء بها موسى وتعددها وضخامة
الأحداث التي صاحبتها .. وفي جميع تلك الحالات أملى الله للكافرين حينا من الزمان ـ
كما يملي لقريش ـ ثم أخذهم أخذا شديدا .. وهنا سؤال للتهويل والتعجيب : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) .. والنكير هو الإنكار العنيف المصحوب بالتغيير.
والجواب معروف. فهو نكير مخيف! نكير الطوفان والخسف والتدمير والهلاك والزلازل
والعواصف والترويع ..
وبعد الاستعراض
السريع لمصارع أولئك الأقوام يعمم في عرض مصارع الغابرين :
(فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ؛
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).
فهي كثيرة تلك
القرى المهلكة بظلهما. والتعبير يعرض مصارعها في مشهد شاخص مؤثر : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) .. والعروش السقوف ، وتكون قائمة على الجدران عند قيام
البناء. فإذا تهدم خرت العروش
وسقطت فوقها البنيان ، وكان منظرها هكذا موحشا كئيبا مؤثرا. داعيا إلى
التأمل في صورتها الخالية وصورتها البادية. والربوع الخربة أوحش شيء للنفس وأشدها
استجاشة للذكرى والعبرة والخشوع.
وإلى جوار
القرى الخاوية على عروشها .. الآبار المعطلة المهجورة تذكر بالورد والورّاد ؛
وتتزاحم حولها الأخيلة وهي مهجورة خواء.
ثم إلى جوارها
القصور المشيدة وهي خالية من السكان موحشة من الأحياء ، تطوف بها الرؤى والأشباح ،
والذكريات والأطياف!
يعرض السياق
هذه المشاهد ثم يسأل في استنكار عن آثارها في نفوس المشركين الكفار :
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها؟ أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ
بِها؟ فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ)!
إن مصارع
الغابرين حيالهم شاخصة موحية ، تتحدث بالعبر ، وتنطق بالعظات .. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فيروها فتوحي لهم بالعبرة؟ وتنطق لهم بلسانها البليغ؟
وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر؟ (فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا
تتبدل. (أَوْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها) فتسمع أحاديث الأحياء عن تلك الدور المهدمة والآبار
المعطلة والقصور الموحشة؟.
أفلم تكن لهم
قلوب؟ فإنهم يرون ولا يدركون ، ويسمعون ولا يعتبرون (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)!
ويمعن في تحديد
مواضع القلوب : (الَّتِي فِي
الصُّدُورِ) زيادة في التوكيد ، وزيادة في إثبات العمى لتلك القلوب
على وجه التحديد!
ولو كانت هذه
القلوب مبصرة لجاشت بالذكرى ، وجاشت بالعبرة ، وجنحت إلى الإيمان خشية العاقبة
الماثلة في مصارع الغابرين ، وهي حولهم كثير.
ولكنهم بدلا من
التأمل في تلك المصارع ، والجنوح إلى الإيمان ، والتقوى من العذاب .. راحوا
يستعجلون بالعذاب الذي أخره الله عنهم إلى أجل معلوم :
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ. وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ..
وذلك دأب
الظالمين في كل حين. يرون مصارع الظالمين ، ويقرأون أخبارهم ويعلمون مصائرهم. ثم
إذا هم يسلكون طريقهم غير ناظرين إلى نهاية الطريق! فإذا ذكروا بما نال أسلافهم
استبعدوا أن يصيبهم ما أصابهم .. ثم يطغى بهم الغرور والاستهتار إذا أملى لهم الله
على سبيل الاختبار. فإذا هم يسخرون ممن يخوفهم ذلك المصير. وإذا هم ـ من السخرية ـ
يستعجلون ما يوعدون! (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ) فهو آت في موعده الذي أراده الله وقدره وفق حكمته.
واستعجال الناس به لا يعجله كي لا تبطل الحكمة المقصودة من تأجيله. وتقدير الزمن
في حساب الله غيره في حساب البشر : (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ..
ولقد أملى الله
للكثير من تلك القرى الهالكة ؛ فلم يكن هذا الإملاء منجيا لها من المصير المحتوم
والسنة المطردة في هلاك الظالمين :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ، ثُمَّ أَخَذْتُها ، وَإِلَيَّ
الْمَصِيرُ) ..
فما بال هؤلاء
المشركين يستعجلون بالعذاب ، ويهزأون بالوعيد ، بسبب إملاء الله لهم حينا من
الزمان إلى أجل معلوم؟.
* * *
وعند هذا الحد
من عرض مصارع الغابرين ، وبيان سنة الله في المكذبين .. يلتفت السياق بالخطاب إلى
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لينذر الناس ويبين لهم ما ينتظرهم من مصير :
(قُلْ : يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ..
ويمحض السياق
وظيفة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في هذا المقام للإنذار : (إِنَّما أَنَا لَكُمْ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. لما يقتضيه التكذيب والاستهزاء واستعجال العذاب من
إبراز الإنذار. ثم يأخذ في تفصيل المصير :
فأما الذين
آمنوا وأتبعوا إيمانهم بثمرته التي تدل على تحققه : (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) فجزاؤهم «مغفرة من ربهم ، لما سلف من ذنوبهم أو تقصيرهم
، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) غير متهم ولا مهين!
وأما الذين
بذلوا غاية جهدهم في تعطيل آيات الله عن أن تبلغ القلوب ، وتتحقق في حياة الناس ـ وآيات
الله هي دلائله على الحق وهي شريعته كذلك للخلق ـ فأما هؤلاء فقد جعلهم مالكين
للجحيم ـ ويا لسوئها من ملكية ـ في مقابل ذلك الرزق الكريم!
* * *
والله الذي
يحفظ دعوته من تكذيب المكذبين ، وتعطيل المعوقين ، ومعاجزة المعاجزين .. يحفظها
كذلك من كيد الشيطان ، ومن محاولته أن ينفذ إليها من خلال أمنيات الرسل النابعة من
طبيعتهم البشرية. وهم معصومون من الشيطان ولكنهم بشر تمتد نفوسهم إلى أمانيّ تتعلق
بسرعة نشر دعوتهم وانتصارها وإزالة العقبات من طريقها. فيحاول الشيطان أن ينفذ من
خلال أمانيهم هذه فيحول الدعوة عن أصولها وعن موازينها .. فيبطل الله كيد الشيطان
، ويصون دعوته ، ويبين للرسول أصولها وموازينها ، فيحكم آياته ، ويزيل كل شبهة في
قيم الدعوة ووسائلها :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ ، فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ،
وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..
لقد رويت في
سبب نزول هذه الآيات روايات كثيرة ذكرها كثير من المفسرين. قال ابن كثير في تفسيره
: «ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. والله أعلم».
وأكثر هذه
الروايات تفصيلا رواية ابن أبي حاتم. قال : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا
محمد بن إسحاق الشيبي ، حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال
: أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير
أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر
آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ؛ فكان
يتمنى هداهم. فلما أنزل
الله سورة النجم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنْثى؟) ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال :
وإنهن لهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى .. وكان ذلك من سجع
الشيطان وفتنته .. فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، وزلت بها ألسنتهم ،
وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه .. فلما بلغ
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ آخر النجم سجد ، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن
المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من
جماعتهم في السجود لسجود رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين. ولم
يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين ، فاطمأنت أنفسهم ـ أي
المشركون ـ لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحدثهم به الشيطان أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس ؛
وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين : عثمان بن مظعون
وأصحابه ؛ وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله ؛ وبلغهم سجود
الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ؛ وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة ،
فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه من
الفرية ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ ، فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ. ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ. وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) .. فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان انقلب
المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين ، واشتدوا عليهم» ..
قال ابن كثير :
وقد ساق البغوي في تفسيره روايات مجموعة من كلام ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي
وغيرهما بنحو من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة
من الله تعالى لرسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثم حكى أجوبة عن الناس ، من
ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك. فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ والله أعلم.
وقال البخاري :
قال ابن عباس : (فِي أُمْنِيَّتِهِ) إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. فيبطل الله ما يلقي
الشيطان (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ).
وقال مجاهد : (إِذا تَمَنَّى) يعني إذا قال ؛ ويقال أمنيته : قراءته.
وقال البغوي :
وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : (تَمَنَّى) أي تلا وقرأ كتاب الله (أَلْقَى الشَّيْطانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في تلاوته.
وقال ابن جرير
عن تفسير (تَمَنَّى) بمعنى تلا : هذا القول أشبه بتأويل الكلام!
هذه خلاصة تلك
الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق .. وهو من ناحية السند واهي
الأصل. قال علماء الحديث : إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه بسند سليم
متصل ثقة. وقال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بإسناد متصل يجوز ذكره. وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة
وهو عصمة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالته.
وقد أولع
المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث ، وأذاعوا به ، وأثاروا حوله عجاجة
من القول. والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة ، بل لا يصح أن يكون موضوعا
للمناقشة.
وهناك من النص
ذاته ما يستبعد معه أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا ، وأن يكون مدلوله حادثا
مفردا وقع للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
، فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) .. فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في
الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا ، بوصفهم من البشر ، مما لا يخالف العصمة المقررة
للرسل.
وهذا ما نحاول
بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده ، إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري ..
إن الرسل عند
ما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس ، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على
الدعوة ، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه .. ولكن العقبات في
طريق الدعوات كثيرة. والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو
يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق .. يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على
الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن
يفيئوا إلى الهدى ، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودون
مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة ، على أمل
أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة!
ويودون.
ويودون. من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها ..
ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة ، وفق موازينها الدقيقة
، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي
الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم .. هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك
الموازين ، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول
الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية
المطاف ، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش ، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء ..
ويجد الشيطان
في تلك الرغبات البشرية ، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات ، فرصة للكيد
للدعوة ، وتحويلها عن قواعدها ، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس .. ولكن الله يحول
دون كيد الشيطان ، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات ، ويكلف الرسل
أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل ، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم
للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفي بعض اتجاهاته ، مما بين الله فيه بيانا في القرآن ..
بذلك يبطل الله
كيد الشيطان ، ويحكم الله آياته ، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب :
(وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) .. فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف ،
والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين ؛ فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل
واللجاج والشقاق : (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى
بيان الله وحكمه الفاصل : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..
وفي حياة النبي
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا ، تغنينا عن تأويل الكلام ،
الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمهالله.
نجد من ذلك
مثالا في قصة ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ الأعمى الفقير الذي جاء إلى رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله. ويكرر هذا القول
والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش
، وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مشغول بهذا الأمر. حتى كره ، رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلحاحه فعبس وأعرض عنه .. فأنزل الله في هذا قرآنا يعاتب فيه الرسول
عتابا شديدا :
(عَبَسَ وَتَوَلَّى.
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى! أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما
عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ
عَنْهُ تَلَهَّى؟ كَلَّا! إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ...).
وبهذا رد الله
للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة. وصحح تصرف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الذي دفعته إليه ، رغبته في هداية صناديد قريش ، طمعا في إسلام من وراءهم
وهم كثيرون. فبين الله له : أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام
أولئك الصناديد. وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة ، وأحكم
الله آياته. واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين.
ولقد كان رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ذلك يكرم ابن أم مكتوم. ويقول إذا رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي»
ويقول له : «هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين.
كذلك وقع ما
رواه مسلم في صحيحه قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله
الأسدي ، عن إسرائيل ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن سعد ـ هو ابن أبي وقاص ـ
قال : كنا مع النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ستة نفر. فقال المشركون للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من
هذيل ، وبلال ، ورجلان نسيت اسميهما. فوقع في نفس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ؛ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
وهكذا رد الله
للدعوة قيمها المجردة ، وموازينها الدقيقة. ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من
تلك الثغرة. ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا
يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء ، وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف
معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم ـ كما كان يتمنى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والله أعلم بمصدر القوة الحقيقة ، وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيا
ولا عرفا جاريا!
ولعله مما يلحق
بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقد زوجها من زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ وكان قد تبناه قبل النبوة ،
فكان يقال له : زيد بن محمد. فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال
تعالى : (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) وقال : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ) .. وكان زيد ـ رضي الله عنه ـ أحب الناس إلى رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ فلم تستقم بينهما
الحياة .. وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه. فأراد الله
سبحانه إبطال هذه العادة ، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه. فأخبر رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد ـ لتكون هذه السنة مبطلة لتلك
العادة ـ ولكن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أخفى في نفسه ما أخبره به الله. وكان كلما
شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ) مراعيا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها
زيد. وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد .. فأنزل الله في هذا قرآنا ،
يكشف عما جال في خاطر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها :
(وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ، وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً. وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ..
ولقد صدقت
عائشة ـ رضي الله عنها وهي تقول : لو كتم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ
مُبْدِيهِ ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ..
وهكذا أنفذ
الله شريعته وأحكمها ، وكشف ما خالج خاطر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه. ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه
الثغرة. وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة ، مادة
للشقاق والجدال ما تزال!!!
* * *
هذا هو ما
نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات. والله الهادي إلى الصواب.
ولقد تدفع
الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات ـ بعد الرسل ـ والرغبة الملحة في انتشار الدعوات
وانتصارها .. تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول
الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها ، ومجاراتهم في بعض
أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها! ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل
وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة ، ولا مع منهج الدعوة المستقيم. وذلك
حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها. واجتهادا في تحقيق «مصلحة الدعوة» ومصلحة
الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير. أما النتائج فهي
غيب لا يعلمه إلا الله. فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج ؛ إنما يجب
أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق ، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة
لله. ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف.
وها هو ذا
القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم
الدعوة. وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال
رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم. فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه
الناحية ، والتحرج البالغ ، خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة
الدعوة والحرص على ما يسمونه «مصلحة الدعوة» .. إن كلمة «مصلحة الدعوة» يجب أن
ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات ، لأنها مزلة ، ومدخل للشيطان يأتيهم منه ، حين يعز
عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص! ولقد تتحول «مصلحة الدعوة» إلى صنم يتعبده
أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل! .. إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا
على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح
لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر
الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب ، سواء كان هذا الانحراف كثيرا
أو قليلا. والله أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلفين. إنما هم مكلفون
بأمر واحد. ألا ينحرفوا عن المنهج ، وألا يحيدوا عن الطريق ..
* * *
ويعقب السياق
على تلك الآيات وما فيها من صيانة لدعوة الله من كيد الشيطان بأن الذين يكفرون بها
مدحورون ينتظرهم العذاب المهين :
(وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).
ذلك شأن الذين
كفروا مع القرآن كله ، يذكره السياق بعد بيان موقفهم مما يلقي الشيطان في أمنيات
الأنبياء والرسل ، لما بين الشأنين من تشابه واتصال. فهم لا يزالون في ريبة من
القرآن وشك. منشأ هذه الريبة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشته فتدرك ما فيه من حقيقة
وصدق. ويظل هذا حالهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) بعد قيام الساعة. ووصف هذا اليوم بالعقيم وصف يلقي ظلا
خاصا. فهو يوم لا يعقب .. إنه اليوم الأخير ..
في هذا اليوم
الملك لله وحده. فلا ملك لأحد ، حتى الملك الظاهري الذي كان يظنه الناس في الأرض
ملكا. والحكم يومئذ لله وحده ، وهو يقضي لكل فريق بجزائه المقسوم : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) .. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) .. جزاء الكيد لدين الله ، وجزاء التكذيب بآياته
البينات. وجزاء الاستكبار عن الطاعة لله والتسليم ..
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً
حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً
إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣)
لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
لِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ
وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧)
وَإِنْ
جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨)
اللهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي
كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠)
وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي
مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
وَجاهِدُوا
فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ
هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)
(٧٨)
انتهى الدرس
الماضي ببيان عاقبة المؤمنين والمكذبين يوم يكون الملك لله وحده. وذلك في سياق
نصرة الله لرسله ، وصيانته لدعوته ، وثوابه لمن يؤمن بها ، وعقابه لمن يكذبها.
فالآن يبدأ هذا
الدرس بالحديث عن المهاجرين ، بعد ما سبق الإذن لهم بالقتال ، دفاعا عن عقيدتهم ،
وعن عبادتهم ، ودفعا للظلم عن أنفسهم ، وقد أخرجوا من ديارهم بغير حق ، ولم
تكن جريرتهم إلا أن يقولوا : ربنا الله ، ويبين ما أعده لهم من عوض عما تركوا من ديار
وأموال ..
ثم يتحدث بصفة
عامة في صورة حكم عام عمن يقع عليهم الاعتداء فيردون عليه بمثله ، ثم يقع عليهم
البغي والعدوان ، فيعدهم نصر الله في صيغة التوكيد.
ويعقب على هذا
الوعد الوثيق باستعراض دلائل القدرة التي تضمن تحقيق ذلك الوعد الوثيق .. وهي
دلائل كونية تتجلى في صفحات الكون ونواميس الوجود ؛ وتوحي بأن نصر الله للمظلومين
الذين يدفعون عن أنفسهم ، ويعاقبون بمثل ما وقع عليهم ، ثم يقع عليهم البغي .. سنة
كونية ترتبط بنواميس الوجود الكبرى ..
وعندئذ يتوجه
الخطاب إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن لكل أمة منهجا هي مأمورة به ومهيأة لنهجه ، كل يشغل نفسه بجدال
المشركين ، ولا يدع لهم فرصة لينازعوه في منهجه. فإن جادلوه فليكل أمرهم إلى الله
، الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ، فهو أعلم بحقيقة ما هم
عليه ، وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض.
ويعرّض بعبادتهم
ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم ؛ وبقسوة قلوبهم ونفورهم من سماع كلمة
الحق ، حتى ليكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آيات الله. ويهددهم إزاء همهم
بالسطو على دعاة الحق بالنار التي جعلها الله مصيرهم ووعدهم بها وعدا لا بد آت!
ثم يعلن في
صورة بيان عام شامل للخليقة عن ضعف من يدعونهم من دون الله. ويصور ضعفهم في صورة
زرية لا مبالغة فيها. ولكنها بطريقة عرضها تجسم الضعف المزري. فهي صورة من لا
يقدرون على منازلة الذباب ، ولا على استنقاذ ما يسلبهم إياه الذباب .. وهم آلهة
كما يدعي لهم المشركون!
وينتهي الدرس
وتنتهي السورة معه بتوجيه الخطاب إلى الأمة المؤمنة لتنهض بتكاليفها. وهي تكاليف
الوصاية على البشرية. مستعدة لها بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير ، مستعينة
عليها بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله ..
* * *
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا ، لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ
رِزْقاً حَسَناً ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ، وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) ..
والهجرة في
سبيل الله تجرد من كل ما تهفو له النفس ، ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه : الأهل
والديار والوطن والذكريات ، والمال وسائر أعراض الحياة. وإيثار العقيدة على هذا
كله ابتغاء رضوان الله ، وتطلعا إلى ما عنده وهو خير مما في الأرض جميعا.
والهجرة كانت
قبل فتح مكة وقيام الدولة الإسلامية. أما بعد الفتح فلم تعد هجرة. ولكن جهاد وعمل ـ
كما قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فمن جاهد في سبيل الله وعمل كان له حكم الهجرة ، وكان له ثوابها .. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) .. سواء لاقوا الله شهداء بالقتل ، أو لا قوه على
فراشهم بالموت. فلقد خرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيله مستعدين لكل مصير ،
واستروحوا الشهادة في هجرتهم عن أي طريق ، وضحوا بكل عرض الحياة وتجردوا بهذا لله.
فتكفل الله لهم بالعوض الكريم عما فقدوه : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) .. وهو رزق أكرم وأجزل
من كل ما تركوا : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) فقد خرجوا مخرجا يرضي الله ، فتعهد لهم الله بأن يدخلهم
مدخلا يرضونه. وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن يتوخى ما يرضونه فيحققه لهم ، وهم
عباده ، وهو خالقهم سبحانه. (وَإِنَّ اللهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) .. عليم بما وقع عليهم من ظلم وأذى ، وبما يرضي نفوسهم
ويعوضها. حليم يمهل. ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى ..
فأما الذين يقع
عليهم العدوان من البشر فقد لا يحلمون ولا يصبرون ، فيردون العدوان ، ويعاقبون
بمثل ما وقع عليهم من الأذى. فإن لم يكف المعتدون ، وعاودوا البغي على المظلومين
تكفل الله عندئذ بنصر المظلومين على المعتدين :
(ذلِكَ. وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ. إِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) وشرط هذا النصر أن يكون العقاب قصاصا على اعتداء لا
عدوانا ولا تبطرا ؛ وألا يتجاوز العقاب مثل ما وقع من العدوان دون مغالاة.
ويعقب على رد
الاعتداء بمثله بأن الله عفو غفور. فهو الذي يملك العفو والمغفرة. أما البشر فقد
لا يعفون ولا يغفرون ، وقد يؤثرون القصاص ورد العدوان. وهذا لهم بحكم بشريتهم ولهم
النصر من الله.
بعد ذلك يربط
السياق بين وعد الله بالنصر لمن يعاقب بمثل ما عوقب به ثم يقع عليه البغي .. يربط
بين هذا الوعد وسنن الله الكونية الكبرى ، التي تشهد بقدرة الله على تحقيق وعده ،
كما تشهد بدقة السنن الكونية المطردة مما يوحي بأن ذلك النصر هو إحدى هذه السنن
التي لا تتخلف.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَأَنَّ
اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ..
وهي ظاهرة
طبيعية تمر بالبشر صباحا ومساء ، وصيفا وشتاء. الليل يدخل في النهار عند المغيب ،
والنهار يدخل في الليل عند الشروق. والليل يدخل في النهار وهو يطول في مدخل الشتاء
، والنهار يدخل في الليل وهو يمتد عند مطلع الصيف .. ويرى البشر هذه الظاهرة وتلك
من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل فينسيهم طول رؤيتها وطول ألفتها
ما وراءها من دقة النواميس واطرادها. فلا تختل مرة ، ولا تتوقف مرة. وهي تشهد
بالقدرة الحكيمة التي تصرف هذا الكون وفق تلك النواميس.
والسياق يوجه
النظر إلى تلك الظاهرة الكونية المكرورة التي يمر عليها الناس غافلين. ليفتح
بصائرهم ومشاعرهم على يد القدرة ، وهي تطوي النهار من جانب وتسدل الليل من جانب.
وهي تطوي الليل من جانب وتنشر النهار من جانب. في دقة عجيبة لا تختل ، وفي اطراد
عجيب لا يتخلف .. وكذلك نصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يدفع عن نفسه العدوان ..
إنه سنة مطردة كسنة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل. فكذلك يزوي
الله سلطان المتجبرين وينشر سلطان العادلين. فهي سنة كونية كتلك السنة ، يمر عليها
الناس غافلين ، كما يمرون على دلائل القدرة في صفحة الكون وهم لا يشعرون!
ذلك مرتبط بأن
الله هو الحق. فالحق هو المسيطر على نظام هذا الكون. وكل ما دون الله باطل يختل
ويتخلف ولا يطرد أو يستقيم.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ
هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ..
وذلك تعليل كاف
وضمان كاف لانتصار الحق والعدل ، وهزيمة الباطل والبغي. وهو كذلك ضمان لاطراد سنن
الكون وثباتها ، وعدم تخلخلها أو تخلفها. ومن هذه السنن انتصار الحق وهزيمة البغي.
والله أعلى من
الطغاة ، وأكبر من الجبارين : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) .. فلن يدع البغي يستعلي والظلم يستطيل.
* * *
ويستطرد السياق
في استعراض دلائل القدرة في مشاهد الكون المعروضة للناس في كل حين :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ إِنَّ
اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).
ونزول الماء من
السماء ، ورؤية الأرض بعده مخضرة بين عشية وصباح .. ظاهرة واقعة مكرورة. قد تذهب
الألفة بجدتها في النفوس. فأما حين يتفتح الحس الشاعر ، فإن هذا المشهد في الأرض
يستجيش في القلب شتى المشاعر والأحاسيس. وإن القلب ليحس أحيانا أن هذا النبت
الصغير الطالع من سواد الطين ، بخضرته وغضارته ، أطفال صغار تبسم في غرارة لهذا
الوجود الشائق البهيج ، وتكاد من فرحتها بالنور تطير!
والذي يحس على
هذا النحو يستطيع أن يدرك ما في التعقيب بقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ) .. من لطف وعمق ومشاكلة للون هذا الإحساس ، ولحقيقة ذلك
المشهد وطبيعته. فمن اللطف الإلهي ذلك الدبيب اللطيف. دبيب النبتة الصغيرة من جوف
الثرى ، وهي نحيلة ضئيلة ، ويد القدرة تمدها في الهواء ، وتمدها بالشوق إلى
الارتفاع على جاذبية الأرض وثقلة الطين .. وبالخبرة الإلهية يتم تدبير الأمر في
إنزال الماء بقدر في الوقت المناسب وبالقدر المطلوب ويتم امتزاج الماء بالتربة ،
وبخلايا النبات الحية المتطلعة إلى الانطلاق والنور!
والماء ينزل من
سماء الله إلى أرضه ، فينشىء فيها الحياة ، ويوفر فيها الغذاء والثراء .. والله
المالك لما في السماء والأرض ، غني عما في السماء والأرض. وهو يرزق الأحياء بالماء
والنبات ، وهو الغني عنهم وعما يرزقون :
(وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
فما به سبحانه
من حاجة إلى من في السماء والأرض ، أو ما في السماء والأرض فهو الغني عن الجميع ..
وهو المحمود على آلائه ، المشكور على نعمائه ، المستحق للحمد من الجميع.
* * *
ويستطرد السياق
مرة أخرى إلى استعراض دلائل القدرة المعروضة للناس في كل حين :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ. وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ..
وفي هذه الأرض
كم من قوة وكم من ثروة سخرها الله لهذا الإنسان ؛ وهو غافل عن يد الله ونعمته التي
يتقلب فيها بالليل والنهار!
لقد سخر الله
ما في الأرض لهذا الإنسان ، فجعل نواميسها موافقة لفطرته وطاقاته. ولو اختلفت فطرة
الإنسان وتركيبه عن نواميس هذه الأرض ما استطاع الحياة عليها ، فضلا على الانتفاع
بها وبما فيها .. لو اختلف تركيبه الجسدي عن الدرجة التي يحتمل فيها جو هذه الأرض
، واستنشاق هوائها ، والتغذي بطعامها والارتواء بمائها لما عاش لحظة. ولو اختلفت
كثافة بدنه أو كثافة الأرض عما هي عليه ما استقرت قدماه على الأرض ، ولطار في
الهواء أو غاص في الثرى .. ولو خلا وجه هذه الأرض من الهواء أو كان هذا الهواء
أكثف مما هو أو أخف لاختنق هذا الإنسان أو لعجز عن استنشاق الهواء مادة الحياة!
فتوافق نواميس هذه الأرض وفطرة هذا
الإنسان هو الذي سخر الأرض وما فيها لهذا الإنسان. وهو من أمر الله.
ولقد سخر الله
له ما في الأرض مما وهبه من طاقات وإدراكات صالحة لاستغلال ثروات هذه الأرض ، وما
أودعه الله إياها من ثروات وطاقات ظاهرة وكامنة ؛ يكشف منها الإنسان واحدة بعد
واحدة ـ وكلما احتاج إلى ثروة جديدة فض كنوزا جديدة. وكلما خشي أن ينفذ رصيده من
تلك الكنوز تكشف له منها رصيد جديد .. وها هو ذا اليوم لم يستنفد بعد ثروة البترول
وسائر الفلزات ثم فتح له كنز الطاقة الذرية والطاقة الإيدروجينية. وإن يكن بعد
كالطفل يعبث بالنار فيحرق نفسه بها ويحرق سواه ، إلا حين يهتدي بمنهج الله في
الحياة ، فيوجه طاقاتها وثرواتها إلى العمران والبناء ، ويقوم بالخلافة في الأرض
كما أرادها الله! (وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) .. فهو الذي خلق النواميس التي تسمح بجريان الفلك في
البحر. وعلم الإنسان كيف يهتدي إلى هذه النواميس ، فيسخرها لمصلحته وينتفع بها هذا
الانتفاع. ولو اختلفت طبيعة البحر أو طبيعة الفلك. أو لو اختلفت مدارك هذا الإنسان
.. ما كان شيء من هذا الذي كان!
(وَيُمْسِكُ السَّماءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .. وهو الذي خلق الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له ؛
وحكم فيه تلك النواميس التي تظل بها النجوم والكواكب مرفوعة متباعدة ، لا تسقط ولا
يصدم بعضها بعضا .. وكل تفسير فلكي للنظام الكوني ما يزيد على أنه محاولة لتفسير
الناموس المنظم للوضع القائم الذي أنشأه خالق هذا النظام. وإن كان بعضهم ينسى هذه
الحقيقة الواضحة ، فيخيل إليه أنه حين يفسر النظام الكوني ينفي يد القدرة عن هذا
الكون ويستبعد آثارها! وهذا وهم عجيب وانحراف في التفكير غريب. فإن الاهتداء إلى
تفسير القانون ـ على فرض صحته والنظريات الفلكية ليست سوى فروض مدروسة لتفسير
الظواهر الكونية تصح أو لا تصح ، وتثبت اليوم وتبطل غدا بفرض جديد ـ لا ينفي وجود
واضع القانون. وأثره في إعمال هذا القانون ..
والله سبحانه (يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ) بفعل ذلك الناموس الذي يعمل فيها وهو من صنعه. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) وذلك يوم يعطل الناموس الذي يعمله لحكمة ويعطله كذلك
لحكمة.
* * *
وينتهي السياق
في استعراض دلائل القدرة ودقة الناموس بالانتقال من الكون إلى النفس ؛ وعرض سنن
الحياة والموت في عالم الإنسان :
(وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ) ..
والحياة الأولى
معجزة ، تتجدد في كل حياة تنشأ آناء الليل وأطراف النهار. وسرها اللطيف ما يزال
غيبا يحار العقل البشري في تصور كنهه .. وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر ..
والموت سر آخر
يعجز العقل البشري عن تصور كنهه ، وهو يتم في لحظة خاطفة ، والمسافة بين طبيعة
الموت وطبيعة الحياة مسافة عريضة ضخمة .. وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر ..
والحياة بعد
الموت ـ وهي غيب من الغيب ، ولكن دليله حاضر من النشأة الأولى .. وفيه مجال كذلك
للتأمل والتدبر ..
ولكن هذا
الإنسان لا يتأمل ولا يتدبر هذه الدلائل والأسرار : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ) ..
والسياق يستعرض
هذه الدلائل كلها ، ويوجه القلوب إليها في معرض التوكيد لنصرة الله لمن يقع عليه
البغي وهو يرد عن نفسه العدوان. وذلك على طريقة القرآن في استخدام المشاهد
الكونية لاستجاشة القلوب ، وفي ربط سنن الحق والعدل في الخلق بسنن الكون ونواميس
الوجود ..
* * *
وحين يصل
السياق إلى هذا المقطع الفاصل من عرض دلائل القدرة في مشاهد الكون الكبرى يتوجه
بالخطاب إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليمضي في طريقه ، غير ملتفت إلى المشركين وجدالهم له ؛ فلا يمكنهم من
نزاعه في منهجه الذي اختاره الله له ، وكلفه تبليغه وسلوكه.
(لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ، فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ، وَادْعُ
إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ. وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ : اللهُ
أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ. اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ..
إن لكل أمة
منهجا وطريقة في الحياة والتفكير والسلوك والاعتقاد. هذا المنهج خاضع لسنن الله في
تصريف الطبائع والقلوب وفق المؤثرات والاستجابات. وهي سنن ثابتة مطردة دقيقة.
فالأمة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله في الكون والنفس هي أمة مهتدية إلى
الله بالاهتداء إلى نواميسه المؤدية إلى معرفته وطاعته. والأمة التي تغلق قلوبها
دون تلك الدواعي والدلائل أمة ضالة تزداد ضلالا كلما زادت إعراضا عن الهدى ودواعيه
..
وهكذا جعل الله
لكل أمة منسكا هم ناسكوه ، ومنهجا هم سالكوه .. فلا داعي إذن لأن يشغل الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نفسه بمجادلة المشركين ، وهم يصدون أنفسهم عن منسك الهدى ، ويمعنون في
منسك الضلال. والله يأمره ألا يدع لهم فرصة لينازعوه أمره ، ويجادلوه في منهجه.
كما يأمره أن يمضي على منهجه لا يتلفت ولا ينشغل بجدل المجادلين. فهو منهج مستقيم
: (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ
إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) ..
فليطمئن إذن
على استقامة منهجه. واستقامته هو على الهدى في الطريق .. فإن تعرض القوم لجداله
فليختصر القول. فلا ضرورة لإضاعة الوقت والجهد :
(وَإِنْ جادَلُوكَ
فَقُلِ : اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ..
فإنما يجدي
الجدل مع القلوب المستعدة للهدى التي تطلب المعرفة وتبحث حقيقة عن الدليل. لا مع
القلوب المصرة على الضلال المكابرة التي لا تحفل كل هذا الحشد من الدواعي والدلائل
في الأنفس والآفاق وهي كثيرة معروضة للأنظار والقلوب .. فليكلهم إلى الله. فهو
الذي يحكم بين المناسك والمناهج وأتباعها الحكم الفاصل الأخير :
(اللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ..
وهو الحكم الذي
لا يجادل فيه أحد ، لأنه لا جدال في ذلك اليوم ، ولا نزاع في الحكم الأخير!
والله يحكم
بعلم كامل ، لا يند عنه سبب ولا دليل ، ولا تخفى عليه خافية في العمل والشعور. وهو
الذي يعلم ما في السماء والأرض كله ؛ ومن ضمنه عملهم ونياتهم وهو بها محيط :
(أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ. إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ.
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). وعلم الله الكامل الدقيق لا يخفى عليه شيء في السماء
ولا في الأرض ، ولا يتأثر بالمؤثرات التي تنسى وتمحو. فهو كتاب يضم علم كل شيء
ويحتويه.
وإن العقل
البشري ليصيبه الكلال ، وهو يتأمل ـ مجرد تأمل ـ بعض ما في السماء والأرض ، ويتصور
إحاطة علم الله بكل هذا الحشد من الأشياء والأشخاص ، والأعمال والنيات والخواطر
والحركات ، في عالم المنظور وعالم الضمير. ولكن هذا كله ، بالقياس إلى قدرة الله
وعلمه شيء يسير : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرٌ) .. وبعد أن يأمر الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ألا يدع للمشركين فرصة لمنازعته في منهجه المستقيم ، يكشف عما في منهج
المشركين من عوج ، وعما فيه من ضعف ، وعما فيه من جهل وظلم للحق ؛ ويقرر أنهم
محرومون من عونه تعالى ونصرته. وهم بذلك محرومون من النصير :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
وما لوضع ولا
لشرع من قوة إلا أن يستمد قوته من الله. فما لم ينزل به الله من عنده قوة ، هو
ضعيف هزيل ، خلو من عنصر القوة الأصيل.
وهؤلاء إنما
يعبدون آلهة من الأصنام والأوثان ، أو من الناس أو الشيطان .. وهذه كلها لم ينزل
الله بها قوة من عنده ، فهي محرومة من القوة. وهم لا يعبدونها عن علم ولا دليل
يقتنعون به ، إنما هو الوهم والخرافة. وما لهم من نصير يلجأون إليه وقد حرموا من
نصرة الله العزيز القدير.
وأعجب شيء أنهم
وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ، وما ليس لهم به علم. لا يستمعون
لدعوة الحق ، ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول. إنما تأخذهم العزة بالإثم ، ويكادون
يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله : (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ ، يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) ..
إنهم لا
يناهضون الحجة بالحجة ، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجأون إلى العنف
والبطش عند ما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل. وذلك شأن الطغاة دائما يشتجر في
نفوسهم العتو ، وتهيج فيهم روح البطش ، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن
ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ! ومن ثم يواجههم القرآن الكريم
بالتهديد والوعيد : (قُلْ :
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ؟) بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوون عليه ، ومن ذلك البطش
الذي تهمون به .. (النَّارُ) .. وهي الرد المناسب للبطش والمنكر (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ..
* * *
ثم يعلن في
الآفاق ، على الناس جميعا ، إعلانا مدويا عاما .. يعلن عن ضعف الآلهة المدعاة ؛
الآلهة كلها التي يتخذها الناس من دون الله. ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها
أولئك الظالمون ، ويركن إليها أولئك الغاشمون. يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل
معروض للأسماع والأبصار ، مصور في مشهد شاخص متحرك ، تتملاه العيون والقلوب ..
مشهد يرسم الضعف المزري ويمثله أبرع تمثيل :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ..
إنه النداء
العام ، والنفير البعيد الصدى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) .. فإذا تجمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل
عام يضرب ، لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة : (ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ) .. هذا المثل يضع قاعدة ، ويقرر حقيقة. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) .. كل من تدعون
من دون الله من آلهة مدعاة. من أصنام وأوثان ، ومن أشخاص وقيم وأوضاع ،
تستنصرون بها من دون الله ، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه .. كلهم (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ) .. والذباب صغير حقير ؛ ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة
لا يقدرون ـ ولو اجتمعوا وتساندوا ـ على خلق هذا الذباب الصغير الحقير!
وخلق الذباب
مستحيل كخلق الجمل والفيل. لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة. فيستوي
في استحالة خلقه مع الجمل والفيل .. ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب
الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن
خلق الجمل والفيل! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير. وهذا من بدائع الأسلوب
القرآني العجيب!
ثم يخطو خطوة
أوسع في إبراز الضعف المزري : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) .. والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين
يسلبها إياه ، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا! وكم من عزيز يسلبه الذباب من
الناس فلا يملكون رده. وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير. وهو في الوقت ذاته
يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس : يسلب العيون والجوارح ، وقد يسلب الحياة
والأرواح .. إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد .. ويسلب ما لا
سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير!.
وهذه حقيقة
أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز .. ولو قال : وإن تسلبهم السباع شيئا
لا يستنقذوه منها ... لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف. والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما
يسلبه الذباب! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب!
ويختم ذلك
المثل المصور الموحي بهذا التعقيب : (ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ). ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال ، وما أوحى به إلى
المشاعر والقلوب!
وفي أنسب
الظروف .. والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة يندد بسوء
تقديرهم لله ، ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله :
(ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ..
ما قدروا الله
حق قدره ، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذبابا ولو تجمعت
له. بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه!
ما قدروا الله حق
قدره ، وهم يرون آثار قدرته ، وبدائع مخلوقاته ، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق
الذباب الحقير!
ما قدروا الله
حق قدره ، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه
الذباب ، ويدعون الله القوي العزيز ..
إنه تقرير
وتقريع في أشد المواقف مناسبة للخشوع والخضوع!
وهنا يذكر أن
الله القوي العزيز يختار رسله من الملائكة إلى الأنبياء. ويختار رسله من البشر إلى
الناس. وذلك عن علم وخبرة وقدرة :
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ. إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. يَعْلَمُ ما
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
فعن صاحب القوة
العزيز الجناب يصدر الاختيار للملائكة والرسل. ومن لدن القوي العزيز جاء محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ جاء بسلطان من عند القوي العزيز الذي اختاره واصطفاه. فأنّى يقف له من يركنون
إلى تلك الآلهة العاجزة الضعيفة المزدراة؟!
(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ) .. فهو يسمع ويرى فيعلم (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) علما شاملا كاملا ، لا يند عنه حاضر ولا غائب ، ولا
قريب ولا بعيد.
(وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) .. فهو الحكم الأخير ، وله السيطرة والتدبير.
* * *
والآن وقد كشف
عما في منسك المشركين من سخف وضعف ؛ وعما في عبادتهم من قصور وجهل .. الآن يتوجه
بالخطاب إلى الأمة المسلمة ، لتنهض بتكاليف دعوتها ، وتستقيم على نهجها العريق
القويم :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ، وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ
اجْتَباكُمْ ؛ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ. هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ
، فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ..
وفي هاتين
الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة ، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها
، ويقرر مكانها الذي قدره لها ، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل ، متى
استقامت على النهج الذي أراده لها الله.
إنه يبدأ بأمر
الذين آمنوا بالركوع والسجود. وهما ركنا الصلاة البارزان. ويكني عن الصلاة بالركوع
والسجود ليمنحها صورة بارزة ، وحركة ظاهرة في التعبير ، ترسمها مشهدا شاخصا ،
وهيئة منظورة. لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور.
ويثني بالأمر
العام بالعبادة. وهي أشمل من الصلاة. فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها
كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله. فكل نشاط الإنسان في
الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله. حتى لذائذه التي
ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات. وما عليه إلا
أن يذكر الله الذي أنعم بها ، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي
عبادات وحسنات ، ولم يتحول في طبيعتها شيء ، ولكن تحول القصد منها والاتجاه!
ويختم بفعل
الخير عامة ، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة ..
يأمر الأمة
المسلمة بهذا رجاء أن تفلح. فهذه هي أسباب الفلاح .. العبادة تصلها بالله فتقوم
حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل. وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة ،
الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه.
فإذا استعدت
الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها
واستقامت حياتها .. نهضت بالتبعة الشاقة :
__________________
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) .. وهو تعبير شامل جامع دقيق ، يصور تكليفا ضخما ،
يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد ..
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) .. والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد
النفس ، وجهاد الشر والفساد .. كلها سواء ..
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) .. فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من
بين عباده : (هُوَ اجْتَباكُمْ) .. وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك
مجالا للتخلي عنها أو الفرار! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها
بالشكر وحسن الأداء!
وهو تكليف
محفوف برحمة الله : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .. وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه
فطرة الإنسان وطاقته. ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة. وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه
بها إلى البناء والاستعلاء. فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم. ولا تنطلق انطلاق
الحيوان الغشيم! وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم ـ عليهالسلام ـ فلم تنقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة
كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليهالسلام.
وقد سمى الله
هذه الأمة الموحدة بالمسلمين. سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هذا) ..
والإسلام إسلام
الوجه والقلب لله وحده بلا شريك. فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع
الأجيال والرسل والرسالات. حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية. فاتصل
ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) .. فالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها. وهي
تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها ؛ وهي الوصية على
الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة. ولن تكون كذلك إلا
وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله.
ولقد ظلت هذه
الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها
الواقعية. حتى إذا انحرفت عنه ، وتخلت عن تكاليفه ، ردها الله عن مكان القيادة إلى
مكان التابع في ذيل القافلة. وما تزال. ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي
اجتباها له الله.
هذا الأمر
يقتضي الاحتشاد له والاستعداد .. ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة والاعتصام بالله :
(فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ. هُوَ مَوْلاكُمْ. فَنِعْمَ
الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ..
فالصلاة صلة
الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد. والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين
من الحاجة والفساد. والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود
والعباد.
بهذه العدة
تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله.
وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة
في الأرض. والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها ، بل يدعو إلى إعدادها. ولكن مع حشد
القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله.
فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء.
إن قيمة المنهج
الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ؛ ولا يكتفي
بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام.
وإن القيم
الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية ، ولكنها لا تقف عند هذه
المدارج الأولى. وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة ، المستقيمة على
منهج الله في ظل الله ..
انتهى الجزء السابع عشر
ويليه الجزء الثامن عشر
مبدوءا بسورة المؤمنون
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورتا
المؤمنون والنور
الجزء الثّامن عشر
(٢٣) سورة المؤمنون مكيّة
وآياتها ثماني عشرة ومائة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ
هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
ثُمَّ
جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ
بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)
وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ
بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها
تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ
فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
(٢٢)
هذه سورة «المؤمنون»
.. اسمها يدل عليها. ويحدد موضوعها .. فهي تبدأ بصفة المؤمنين ، ثم يستطرد السياق
فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل
الله ـ صلوات الله عليهم ـ من لدن نوح ـ عليهالسلام ـ إلى محمد خاتم الرسل والنبيين ؛ وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة
واعتراضاتهم عليها ، ووقوفهم في وجهها ، حتى يستنصر الرسل بربهم ، فيهلك المكذبين
، وينجي المؤمنين .. ثم يستطرد إلى اختلاف الناس ـ بعد الرسل ـ في تلك الحقيقة
الواحدة التي لا تتعدد .. ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر .. وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد
القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب ، ويؤنبون على ذلك الموقف المريب ، يختم بتعقيب
يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران ..
فهي سورة «المؤمنون»
أو هي سورة الإيمان ، بكل قضاياه ودلائله وصفاته. وهو موضوع السورة ومحورها
الأصيل.
* * *
ويمضي سياق
السورة في أربعة أشواط :
يبدأ الشوط
الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) .. ويبين صفات المؤمنين هؤلاء الذين كتب لهم الفلاح ..
ويثني بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ، فيعرض أطوار الحياة الإنسانية منذ
نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض أطوار الجنين ، مجملا
في عرض المراحل الأخرى .. ثم يتابع خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة ..
وبعد ذلك ينتقل من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية : في خلق السماء ، وفي
إنزال الماء ، وفي إنبات الزرع والثمار. ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان ؛ والفلك
التي يحمل عليها وعلى الحيوان.
فأما الشوط
الثاني فينتقل من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق إلى حقيقة الإيمان. حقيقته
الواحدة التي توافق عليها الرسل دون استثناء : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) .. قالها نوح ـ عليهالسلام ـ وقالها كل من جاء بعده من الرسل ، حتى انتهت إلى محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكان اعتراض المكذبين دائما : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ!) .. (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) .. وكان اعتراضهم كذلك : (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ؟) .. وكانت العاقبة دائما أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون
نصره ، وأن يستجيب الله لرسله ، فيهلك المكذبين .. وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعا
: (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
والشوط الثالث
يتحدث عن تفرق الناس ـ بعد الرسل ـ وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة. التي جاءوا
بها : (فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). وعن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة ، واغترارهم
بما هم فيه من متاع. بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم ، يعبدونه ولا يشركون به
، وهم مع ذلك دائموا الخوف والحذر (وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) .. وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين يوم
يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون ؛ فيأخذهم التوبيخ والتأنيب : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً
تَهْجُرُونَ) .. ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم الأمين ،
وهم يعرفونه ولا ينكرونه ؛ وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا. فماذا ينكرون منه
ومن
الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض ،
وربوبيته للسماوات والأرض ، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض. وبعد هذا
التسليم هم ينكرون البعث ، ويزعمون لله ولدا سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
والشوط الأخير
يدعهم وشركهم وزعمهم ؛ ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن ، وأن يستعيذ بالله من الشياطين ، فلا يغضب ولا يضيق
صدره بما يقولون .. وإلى جوار هذا مشهد من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من
عذاب ومهانة وتأنيب .. وتختم السورة بتنزيه الله سبحانه : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ). وبنفي الفلاح عن الكافرين في مقابل تقرير الفلاح في
أول السورة للمؤمنين : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ،
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ). وبالتوجه إلى الله طلبا للرحمة والغفران : (وَقُلْ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).
* * *
جو السورة كلها
هو جو البيان والتقرير ، وجو الجدل الهادئ ، والمنطق الوجداني ، واللمسات الموحية
للفكر والضمير. والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها .. الإيمان ..
ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة : (الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). وفي صفات المؤمنين في وسطها : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) .. وفي اللمسات الوجدانية : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).
وكلها مظلّلة
بذلك الظل الإيماني اللطيف.
* * *
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ،
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
راعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ .. أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
إنه الوعد
الصادق ، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين. وعد الله لا يخلف الله وعده ؛ وقرار
الله لا يملك أحد رده. الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. فلاح الفرد المؤمن
وفلاح الجماعة المؤمنة. الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته
؛ والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح ، وما لا يعرفونه مما يدخره الله
لعباده المؤمنين.
فمن هم
المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة ، ووعدهم هذا الوعد ، وأعلن عن فلاحهم
هذا الإعلان؟
من هم المؤمنون
المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم
الفوز والنجاة ، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في
الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟
__________________
من هم
المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟
إنهم هؤلاء
الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح :
(الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ).
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ... إلخ.
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ).
فما قيمة هذه
الصفات؟
قيمتها أنها
ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى. أفق محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رسول الله ، وخير خلق الله ، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه ، والذي شهد له
في كتابه بعظمة خلقه : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. فلقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالت : كان خلقه القرآن. ثم قرأت. (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) حتى (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ). وقالت. هكذا كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ .
ومرة أخرى ..
ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد ، وفي حياة الجماعة ، وفي
حياة النوع الإنساني؟
(الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) .. تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله ،
فتسكن وتخشع ، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات. ويغشى أرواحهم
جلال الله في حضرته ، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل ، ولا تشتغل بسواه وهم
مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل
ما حولهم وكل ما بهم ، فلا يشهدون إلا الله ، ولا يحسون إلا إياه ، ولا يتذوقون
إلا معناه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس ، وينفضون عنهم كل شائبة ؛ فما يضمون جوانحهم
على شيء من هذا مع جلال الله .. عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها ، وتجد الروح
الحائرة طريقها ، ويعرف القلب الموحش مثواه. وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء
والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله.
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) .. لغو القول ، ولغو الفعل ، ولغو الاهتمام والشعور. إن
للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر .. له ما يشغله من ذكر الله ، وتصور
جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب ،
ويشغل الفكر ، ويحرك الوجدان .. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة : تكاليفها في
تطهير القلب ، وتزكية النفس وتنقية الضمير. وتكاليفها في السلوك ، ومحاولة الثبات
على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها
ونصرتها وعزتها ، والسهر عليها من كيد الأعداء .. وهي تكاليف لا تنتهي ، ولا يغفل
عنها المؤمن ، ولا يعفي نفسه منها ، وهي مفروضة عليه فرض عين أو
__________________
فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة
البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها ؛ وإما
أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء
والتعمير والإصلاح.
ولا ينفي هذا
أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو
والفراغ ..
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) .. بعد إقبالهم على الله ، وانصرافهم عن اللغو في
الحياة .. والزكاة طهارة للقلب والمال : طهارة للقلب من الشح ، واستعلاء على حب
الذات ، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر ، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء.
وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيبا حلالا ، لا يتعلق به حق ـ إلا في حالات
الضرورة ـ ولا تحوم حوله شبهة. وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في
جانب والترف في جانب ، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعا ، وهي ضمان اجتماعي
للعاجزين ، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك والانحلال.
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ). وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة. ووقاية النفس
والأسرة والمجتمع. بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال ، وحفظ القلوب من
التطلع إلى غير حلال ؛ وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب ، ومن فساد
البيوت فيها والأنساب.
والجماعة التي
تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد. لأنه لا أمن فيها للبيت
، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة ، إذ هو المحضن
الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج ؛ ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة ، ليصلح
محضنا ومدرجا ، وليعيش فيه الوالدان مطمئنا كلاهما للآخر ، وهما يرعيان ذلك
المحضن. ومن فيه من فراخ!
والجماعة التي
تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية ، فالمقياس الذي لا
يخطىء للارتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها. وتنظيم الدوافع الفطرية
في صورة مثمرة نظيفة ، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا
العالم ، لأنها طريقة نظيفة معروفة ، يعرف فيها كل طفل أباه. لا كالحيوان الهابط
الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح ، وبدافع اللقاح ، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء
ولا من أين جاء!.
والقرآن هنا
يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) .. ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلا. فهي
النظام المشروع المعروف. أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئا من البيان.
ولقد فصلت
القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال ، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي.
واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي. فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه
الواقفين بالقوة المادية في طريقة أن يلغي هذا النظام من جانب واحد ، فيصبح أسارى
المسلمين رقيقا عند أعدائه ، بينما هو يحرر أسارى الأعداء .. فجفف الإسلام كل
منابع الرق ـ عدا أسرى الحرب ـ إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل
في مسألة الأسرى.
__________________
ومن هنا كان
يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات. تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن
مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح. فأباح الإسلام حينئذ
الاستمتاع بهن بالستري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحرّرن لسبب من الأسباب الكثيرة
التي جعلها الإسلام سبلا لتحرير الرقيق.
ولعل هذا
الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن ، كي لا يشبعنها عن
طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب
بعد معاهدات تحريم الرقيق ـ هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله
فيرتفعن إلى مرتبة الحرية. والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة .. إذا ولدت
لسيدها ثم مات عنها. وإذا أعتقها هو تطوعا أو في كفارة. وإذا طلبت أن تكاتبه على
مبلغ من المال فافتدت به رقبتها. وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها .. إلخ .
وعلى أية حال
فقد كان الاسترقاق في الحرب ضرورة وقتية ، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله
يسترق الأسرى ، ولم يكن جزءا من النظام الاجتماعي في الإسلام.
(فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) .. وراء الزوجات وملك اليمين ، ولا زيادة بطريقة من
الطرق. فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة ، ووقع في الحرمات ، واعتدى
على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد. وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى
في كلأ غير مباح ، ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان ؛ وتفسد الجماعة لأن
ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك : وهذا كله هو الذي يتوقاه الإسلام.
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) راعون لأماناتهم وعهدهم أفرادا ؛ وراعون لأماناتهم
وعهدهم جماعة ..
والأمانات
كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة ؛ وفي أولها أمانة الفطرة ؛ وقد فطرها الله
مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته
، بحكم إحساسها الداخلي بوحدة الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود ، ووحدة الإرادة
المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود .. والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى
فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها ، فتظل قائمة بأمانتها شاهدة بوجود الخالق
ووحدانيته. ثم تأتي سائر الأمانات تبعا لتلك الأمانة الكبرى.
والعهد الأول
هو عهد الفطرة كذلك. هو العهد الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان بوجوده
وبتوحيده. وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق. فكل عهد يقطعه المؤمن
يجعل الله شهيدا عليه فيه ، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته.
والجماعة
المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة ، مسؤولة عن عهدها مع الله تعالى ، وما يترتب
على هذا العهد من تبعات. والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد. ويصف
المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون. فهي صفة دائمة لهم في كل حين. وما تستقيم
حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات ؛ وترعى فيها العهود ؛ ويطمئن كل من فيها
إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة ، الضرورية لتوفير الثقة والأمن
والاطمئنان.
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) .. فلا يفوّتونها كسلا ، ولا يضيعونها إهمالا ؛ ولا
يقصرون في
__________________
إقامتها كما ينبغي أن تقام ؛ إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن
، مستوفية الأركان والآداب ، حية يستغرق فيها القلب ، وينفعل بها الوجدان. والصلاة
صلة ما بين القلب والرب ، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه
وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير .. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة
وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان ، بوصفها أكمل صورة من
صور العبادة والتوجه إلى الله.
تلك الخصائص
تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلاح. وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد خصائص
الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها. الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي
كرمه الله ؛ وأراد له التدرج في مدارج الكمال. ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان ، يستمتع
فيها ويأكل كما تأكل الأنعام.
ولما كانت
الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان ، فقد شاء الله أن يصل
المؤمنون الذين ساروا في الطريق ، إلى الغاية المقدرة لهم ، هنالك في الفردوس ،
دار الخلود بلا فناء ، والأمن بلا خوف ، والاستقرار بلا زوال :
(أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
وتلك غاية
الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين. وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال ..
* * *
ومن صفات
المؤمنين ينتقل إلى دلائل الإيمان في حياة الإنسان ذاته ، وفي أطوار وجوده ونموه ،
مبتدئا بأصل النشأة الإنسانية ، منتهيا إلى البعث في الآخرة مع الربط بين الحياتين
في السياق :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً.
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ. فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ..
وفي أطوار هذه
النشأة ، وتتابعها بهذا النظام ، وبهذا الاطراد ، ما يشهد بوجود المنشئ أولا ، وما
يشهد بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها أخيرا. فما يمكن أن يكون الأمر
مصادفة عابرة ، ولا خبط عشواء بدون قصد ولا تدبير ؛ ثم تسير هذه السيرة التي لا
تنحرف ، ولا تخطئ ، ولا تتخلف ؛ ولا تسير في طريق آخر من شتى الطرق التي يمكن عقلا
وتصورا أن تسير فيها. إنما تسير النشأة الإنسانية في هذا الطريق دون سواه من شتى
الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الإرادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود.
كما أن في عرض
تلك الأطوار بهذا التتابع الدقيق المطرد ، ما يشير إلى أن الإيمان بالخالق المدبر
، والسير على نهج المؤمنين الذي بينه في المقطع السابق .. هو وحده الطريق إلى بلوغ
الكمال المقدر لتلك النشأة ؛ في الحياتين : الدنيا والآخرة. وهذا هو المحور الذي
يجمع بين المقطعين في سياق السورة.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) .. وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة الإنسانية ولا
يحددها. فيفيد أن الإنسان مر بأطوار مسلسلة ، من الطين إلى الإنسان. فالطين هو
المصدر الأول ، أو الطور الأول. والإنسان هو الطور الأخير .. وهي حقيقة نعرفها من
القرآن ، ولا نطلب لها مصداقا من النظريات العلمية التي تبحث عن نشأة الإنسان ، أو
نشأة الأحياء.
إن القرآن يقرر
هذه الحقيقة ليتخذها مجالا للتدبر في صنع الله ، ولتأمل النقلة البعيدة بين الطين
وهذا الإنسان
المتسلسل في نشأته من ذلك الطين. ولا يتعرض لتفصيل هذا التسلسل لأنه لا
يعنيه في أهدافه الكبيرة. أما النظريات العلمية فتحاول إثبات سلم معين للنشوء
والارتقاء ، لوصل حلقات السلسلة بين الطين والإنسان. وهي تخطئ وتصيب في هذه
المحاولة ـ التي سكت القرآن عن تفصيلها ـ وليس لنا أن نخلط بين الحقيقة الثابتة
التي يقررها القرآن .. حقيقة التسلسل .. وبين المحاولات العلمية في البحث عن حلقات
هذا التسلسل وهي المحاولات التي تخطئ وتصيب ، وتثبت اليوم وتنقض غدا ، كلما تقدمت
وسائل البحث وطرائقة في يد الإنسان.
والقرآن يعبر
أحيانا عن تلك الحقيقة باختصار فيقول : (... بَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) .. دون إشارة إلى الأطوار التي مر بها. والمرجع في هذا
الأمر إلى النص الأكثر تفصيلا ، وهو الذي يشير إلى أنه (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) فالنص الآخر يختصر هذه الأطوار لمناسبة خاصة في السياق
هناك.
أما كيف تسلسل
الإنسان من الطين فمسكوت عنه كما قلنا لأنه غير داخل في الأهداف القرآنية. وقد
تكون حلقاته على النحو الذي تقول به النظريات العلمية وقد لا تكون ؛ وتكون الأطوار
قد تمت بطريق آخر لم يعرف بعد ، وبسبب عوامل وعلل أخرى لم يكشف عنها الإنسان ..
ولكن مفرق الطريق بين نظرة القرآن إلى الإنسان ونظرة تلك النظريات أن القرآن يكرم
هذا الإنسان ؛ ويقرر أن فيه نفخة من روح الله هي التي جعلت من سلالة الطين إنسانا
، ومنحته تلك الخصائص التي بها صار إنسانا وافترق بها عن الحيوان. وهنا تفترق نظرة
الإسلام افتراقا كليا عن نظرة الماديين. والله أصدق القائلين .
ذلك أصل نشأة
الجنس الإنساني .. من سلالة من طين .. فأما نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك ، فتمضي
في طريق آخر معروف :
(ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) .. لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين. فأما تكرار
أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب
رجل ، فتستقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف
من الخلايا الكامنة في تلك النقطة. تستقر : (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) .. ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض ، المحمية
بها من التأثر باهتزازات الجسم ، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات
، ورجات وتأثرات!
والتعبير
القرآني يجعل النطفة طورا من أطوار النشأة الإنسانية ، تاليا في وجوده لوجود
الإنسان .. وهي حقيقة. ولكنها حقيقة عجيبة تدعو إلى التأمل ، فهذا الإنسان الضخم
يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة ، كما يعاد من جديد في الجنين
وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التلخيص العجيب.
ومن النطفة إلى
العلقة. حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى ، وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة
في أول الأمر ، تتغذى بدم الأم ..
ومن العلقة إلى
المضغة ، حينما تكبر تلك النقطة العالقة ، وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط ..
وتمضي هذه
الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول ، ولا تتوانى حركته المنظمة
الرتيبة.
__________________
وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين
التدبير والتقدير .. حتى تجيء مرحلة العظام .. (فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً) فمرحلة كسوة العظام باللحم : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) .. وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من
حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة
التشريحي. ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي
تتكون أولا في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام
، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ،
فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) .. فسبحان العليم الخبير!
(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) .. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان
يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر ، ويتحول
إلى تلك الخليقة المتميزة ، المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة
الحيوان ، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال ، التي يمتاز بها جنين الإنسان.
إن الجنين
الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ (خَلْقاً آخَرَ) في آخر أطواره الجنينية ؛ بينما يقف الجنين الحيواني
عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز
الحيوان مرتبته الحيوانية ، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا ـ كما تقول
النظريات المادية ـ فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت
سلالة الطين إنسانا. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة
والتي ينشأ بها الجنين الإنساني (خَلْقاً آخَرَ). إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ؛
ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو
مهيأ له من الكمال. بواسطة خصائص مميزة ، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق
تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
(فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل
، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله.
(فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه
الأطوار ، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف ، حتى تبلغ بالإنسان ما هو
مقدر له من مراتب الكمال الإنساني ، على أدق ما يكون النظام!
وإن الناس
ليقفون دهشين أمام ما يسمونه «معجزات العلم» حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا
خاصا في تحركه ، دون تدخل مباشر من الإنسان .. فأين هذا من سير الجنين في مراحله
تلك وأطواره وتحولاته ،
__________________
وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها. وتحولات كاملة في ماهيتها؟
غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون ، مغلقي القلوب ، لأن طول الألفة
أنساهم أمرها الخارق العجيب .. وإن مجرد التفكر في أن الإنسان ـ هذا الكائن المعقد
ـ كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها
العين المجردة ؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في
مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عند ما ينشأ خلقا آخر. فإذا هي ناطقة بارزة
في الطفل مرة أخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة.
هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة .. إن مجرد التفكر في
هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير
العجيب الغريب ..
ثم يتابع
السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة ، وأطوار النشأة. فالحياة الإنسانية التي نشأت
من الأرض لا تنتهي في الأرض ، لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها ، وتدخل في خط
سيرها ؛ ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني ،
ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة ؛ وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض
، ولا في هذه الحياة الدنيا ؛ إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ
لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ..
فهو الموت
نهاية الحياة الأرضية ، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة. وهو إذن طور من أطوار النشأة
الإنسانية وليس نهاية الأطوار.
ثم هو البعث
المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة. وبعده تبدأ الحياة الكاملة ، المبرأة
من النقائص الأرضية ، ومن ضرورات اللحم والدم ، ومن الخوف والقلق ، ومن التحول
والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان. ذلك لمن يسلك طريق الكمال.
الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة. طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة
الحياة الدنيا إلى درك الحيوان ، فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس.
حيث تهدر آدميته ، ويستحيل حصبا من حصب جهنم ، وقودا للنار ، التي وقودها الناس
والحجارة. والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء!
* * *
ومن دلائل
الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق. مما يشهده الناس ويعرفونه ،
ثم يمرون عليه غافلين :
(وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ، وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ. وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ؛ وَإِنَّا عَلى
ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ. فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ ، لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ،
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ..
إن السياق يمضي
في استعراض هذه الدلائل ، وهو يربط بينها جميعا. يربط بينها بوصفها من دلائل
القدرة ؛ ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير ؛ فهي متناسقة في تكوينها ،
ممتناسقة في وظائفها ، متناسقة في اتجاهها. كلها محكومة بناموس واحد ؛ وكلها
تتعاون في وظائفها ؛ وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب.
ومن ثم يربط
بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) ..
والطرائق هي
الطبقات بعضها فوق بعض. أو وراء بعض. وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية. أو
سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية. أو سبع كتل سديمية. والسدم ـ كما يقول
الفلكيون ـ هي التي تكون منها المجموعات النجمية .. وعلى أية حال فهي سبع خلائق
فلكية فوق البشر ـ أي إن مستواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء ـ خلقها الله
بتدبير وحكمة ، وحفظها بناموس ملحوظ : (وَما كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ غافِلِينَ) ..
(وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ؛ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ) ..
وهنا تتصل تلك
الطرائق السبع بالأرض. فالماء نازل من السماء ؛ وله علاقة بتلك الأفلاك. فتكوين
الكون على نظامه هذا ، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء ، ويسمح كذلك بإسكانه
في الأرض.
ونظرية أن
المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر ؛ وأنها تتسرب إلى باطن
الأرض فتحفظ هناك .. نظرية حديثة. فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين
المياه الجوفية والمياه السطحية. ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة
قبل ألف وثلاث مائة عام.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) .. بحكمة وتدبير ، لا أكثر فيغرق ويفسد ؛ ولا أقل فيكون
الجدب والمحل ؛ ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة ..
(فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ) .. وما أشبهه وهو مستكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر
في الرحم.
(فِي قَرارٍ مَكِينٍ) .. كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة ..
وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير ..
(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ) .. فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات
الصخرية التي استقر عليها فحفظته. أو بغير هذا من الأسباب. فالذي أمسكه بقدرته
قادر على تبديده وإضاعته. إنما هو فضل الله على الناس ونعمته.
ومن الماء تنشأ
الحياة :
(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ
بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ
وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ..
والنخيل
والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات ـ كما ينشأ الناس من
ماء النطفة في عالم الإنسان ـ نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن ،
يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء.
ويخصص من
الأنواع الأخرى شجرة الزيتون :
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) ..
وهي من أكثر
الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها. وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء. عند
الوادي المقدس المذكور في القرآن. لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص. وهي تنبت هناك
من الماء الذي
__________________
أسكن في الأرض وعليه تعيش.
ويعرج من عالم
النبات إلى عالم الحيوان :
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ، وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) ..
فهذه المخلوقات
المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره ، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون
الكبير .. فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير ؛ ويتدبر ما
وراءها من حكمة ومن تقدير ؛ ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها
خارج من بطونها ؛ فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله ؛ فتحوله غدد اللبن إلى
هذا السائل السائغ اللطيف.
(وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) .. يجملها أولا ، ثم يخصص منها منفعتين : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) .. وقد أحل للإنسان أكل الأنعام ، وهي الإبل والبقر
والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها ، لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية
في نظام الحياة. فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب ، وفساد الفطرة. وليس
وراءهما فائدة للأحياء.
ويربط السياق
بين حمل الإنسان على الأنعام وحمله على الفلك. بوصفهما مسخرين بنظام الله الكوني ،
الذي ينظم وظائف الخلائق جميعا ، كما ينسق بين وجودها جميعا. فهذا التكوين الخاص
للماء ، والتكوين الخاص للسفن ، والتكوين الخاص لطبيعة الهواء فوق الماء والسفن ..
هو الذي يسمح للفلك أن تطفو فوق سطح الماء. ولو اختل تركيب واحد من الثلاثة أو
اختلف أدنى اختلاف ما أمكن أن تتم الملاحة التي عرفتها البشرية قديما ، وما تزال
تعتمد عليها جل الاعتماد.
وكل هذا من
دلائل الإيمان الكونية ، لمن يتدبرها تدبر الفهم والإدراك. وكلها ذات صلة بالمقطع
الأول في السورة والمقطع الثاني ، متناسقة معهما في السياق ..
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣)
فَقالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما
سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا
وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ
أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣)
وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ
لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)
إِنْ
هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩)
قالَ
عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
ثُمَّ
أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى
وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦)
فَقالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما
فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
وَجَعَلْنَا
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ
وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)
(٥٢)
ينتقل في هذا
الدرس من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ، إلى حقيقة الإيمان التي جاء بها الرسل
جميعا ؛ ويبين كيف كان استقبال الناس لهذه الحقيقة الواحدة التي لا تتبدل على مدار
الزمان ، وتعدد الرسالات ،
وتتابع الرسل ، من لدن نوح ـ عليهالسلام ـ فإذا نحن نشهد موكب الرسل ، أو أمة الرسل ، وهم يلقون إلى البشرية
بالكلمة الواحدة ، ذات المدلول الواحد ، والاتجاه الواحد ، حتى ليوحد ترجمتها في
العربية ـ وقد قيلت بشتى اللغات التي أرسل بها الرسل إلى أقوامهم ـ فإذا الكلمة
التي قالها نوح ـ عليهالسلام ـ هي ذاتها بنصها يقولها كل من جاء بعده من المرسلين ، فتجيب البشرية جوابا
واحدا ، تكاد ألفاظه تتحد على مر القرون!
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ. أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ، وَلَوْ
شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ، ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ.
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) ..
(يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) .. كلمة الحق التي لا تتبدل ، يقوم عليها الوجود ،
ويشهد بها كل ما في الوجود (أَفَلا تَتَّقُونَ؟) وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها
الحقائق جميعا؟ وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر ، وما يعقب التجني
من استحقاق للعذاب الأليم؟
ولكن كبراء
قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة ؛ ولا يتدبرون شواهدها ، ولا يستطيعون
التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم ، ولا يرتفعون
إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص
والذوات .. فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود ، ويشهد بها كل
ما في الوجود ، ليتحدثوا عن شخص نوح :
(فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)!
من هذه الزاوية
الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة ، فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها
ولا ليروا حقيقتها ؛ وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها ، وتعمي عليهم
عنصرها ، وتقف حائلا بين قلوبهم وبينها ؛ فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم
لا يفترق في شيء عنهم ، يريد أن يتفضل عليهم ، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم!
وهم في
اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون أنه يعمل لها ، ويتوسل إليها
بدعوى الرسالة .. في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده ، بل يردون فضل
الإنسانية التي هم منها ؛ ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس ؛ ويستكثرون أن يرسل الله
رسولا من البشر ، إن يكن لا بد مرسلا :
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ..
ذلك أنهم لا
يجدون في أرواحهم تلك النفحة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى ؛ وتجعل
المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه ، ويحملونه إلى إخوانهم من
البشر ، فيهدونهم إلى مصدره الوضيء.
وهم يحيلون
الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر :
(ما سَمِعْنا بِهذا
فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ..
ومثل هذا يقع
دائما عند ما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب. فلا يتدبر الناس ما هو بين
أيديهم من القضايا ، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها. إنما هم يبحثون
في ركام الماضي عن «سابقة» يستندون إليها ؛ فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية
وطرحوها!
وعند هذه
الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن أن يكون ثانية. فأما الذي لم يكن
فإنه لا يمكن أن يكون! وهكذا تجمد الحياة ، وتقف حركتها ، وتتسمر خطاها ، عند جيل
معين من (آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ)! ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون ، إنما هم
يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون. وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر ، والتخلية
بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود. فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح
والاتهام :
(إِنْ هُوَ إِلَّا
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) ..
أي إلى أن
يأخذه الموت ، ويريحكم منه ، ومن دعوته ، ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد!
عندئذ لم يجد
نوح ـ عليهالسلام ـ منفذا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة ؛ ولم يجد له موئلا من السخرية
والأذى ، إلا أن يتوجه إلى ربه وحده ، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر
بسبب هذا التكذيب :
(قالَ : رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ..
وعند ما يتجمد
الأحياء على هذا النحو ، وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام ، في طريق الكمال المرسوم
، فتجدهم عقبة في الطريق .. عندئذ إما إن تتحطم هذه المتحجرات ؛ وإما أن تدعها
الحياة في مكانها وتمضي .. والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح. ذلك أنهم كانوا في
فجر البشرية وفي أول الطريق ؛ فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من الطريق :
(فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، فَإِذا جاءَ أَمْرُنا
وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَأَهْلَكَ
ـ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ـ وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ..
وهكذا مضت سنة
الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم. ولما
كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو
فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود .. كان العلاج هو الطوفان ، الذي يجتبّ كل شيء ،
ويجرف كل شيء. ويغسل التربة ، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد ، فتنشأ على
نظافة ، فتمتد وتكبر حتى حين :
(فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) .. والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ، ولحفظ بذور الحياة
السليمة كما يعاد بذرها من جديد. وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده. لأنه لا بد
للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ، وبذل آخر ما في طوقه ، ليستحق المدد من ربه.
فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين ، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا
على الانتظار! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ؛ فدفع به إلى الأخذ
بالأسباب ؛ مع رعاية الله له ، وتعليمه صناعة الفلك ، ليتم أمر الله ، وتتحقق
مشيئته عن هذا الطريق.
وجعل الله له
علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ
التَّنُّورُ) ، وانبجس منه الماء ، فتلك هي العلامة ليسارع نوح ،
فيحمل في السفينة بذور الحياة : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) .. من أنواع الحيوان والطيور والنبات المعروفة لنوح في
ذلك الزمان ، الميسرة كذلك لبني
__________________
الإنسان (وَأَهْلَكَ إِلَّا
مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) وهم الذين كفروا وكذبوا ، فاستحقوا كلمة الله السابقة ،
وسنته النافذة ، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله.
وصدر الأمر
الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد ، ولا يحاول إنقاذ أحد ـ ولو كان أقرب الأقربين
إليه ـ ممن سبق عليهم القول.
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).
فسنة الله لا
تحابي ، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ، من أجل خاطر ولي ولا قريب!
ولا يفصل هنا
ما حدث للقوم بعد هذا الأمر. فقد قضي الأمر ، وتقرر : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ولكنه يمضي في تعليم نوح ـ عليهالسلام ـ كيف يشكر نعمة ربه ، وكيف يحمد فضله ، وكيف يستهديه طريقه :
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ، فَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقُلْ : رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً
مُبارَكاً ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ..
فهكذا يحمد
الله ، وهكذا يتوجه إليه ، وهكذا يوصف ـ سبحانه ـ بصفاته ، ويعترف له بآياته.
وهكذا يتأدب في حقه العباد ، وفي طليعتهم النبيون ، ليكونوا أسوة للآخرين.
ثم يعقب على
القصة كلها ، وما تتضمنه خطواتها من دلائل القدرة والحكمة :
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) ..
والابتلاء
ألوان. ابتلاء للصبر. وابتلاء للشكر. وابتلاء للأجر. وابتلاء للتوجيه. وابتلاء
للتأديب. وابتلاء للتمحيص. وابتلاء للتقويم .. وفي قصة نوح ألوان من الابتلاء له ولقومه
ولأبنائه القادمين ..
* * *
ويمضي السياق
يعرض مشهدا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور :
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. أَفَلا تَتَّقُونَ؟ وَقالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ،
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا : ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ،
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ. أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ؟
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ! إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ
وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً ، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ. قالَ : رَبِّ انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ. قالَ : عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً. فَبُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) ..
إن استعراض قصص
الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل ؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي
جاء بها الجميع ، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع. ومن ثم بدأ بذكر نوح ـ عليهالسلام ـ ليحدد نقطة البدء ؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة
الأخيرة. ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة ، كي يدل على تشابه حلقاتها بين
البدء والنهاية. إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد ، لأن هذا
هو المقصود.
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) .. لم يحدد من هم. وهم على الأرجح عاد قوم هود ..
(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. أَفَلا
تَتَّقُونَ؟) .. ذات الكلمة الواحدة
التي قالها من قبله نوح. يحكيها بالألفاظ ذاتها ، مع اختلاف اللغات التي
كانت تتخاطب بها القرون!
فماذا كان
الجواب؟
إنه الجواب
ذاته على وجه التقريب :
(وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ،
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا : ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ..
فالاعتراض
المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول. وهو الاعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين
قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه
الكريم.
والترف يفسد
الفطرة ، ويغلظ المشاعر ، ويسد المنافذ ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي
تتلقى وتتأثر وتستجيب. ومن هنا يحارب الإسلام الترف ؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على
أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة ، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله ،
حتى لينخر فيه السوس ، ويسبح فيه الدود! ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد
الموت والبلى ؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب.
(أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ؟
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ،
نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ..
ومثل هؤلاء لا
يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى ؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى
غايتها البعيدة. هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض. فالخير لا يلقى
جزاءه الكامل في الحياة الدنيا. والشر كذلك. إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك ، حيث
يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا
تحول فيها ولا زوال ـ إلا أن يشاء الله ـ ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة
السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجارا ، أو كالأحجار!
مثل هؤلاء لا
يدركون هذه المعاني ؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى ـ التي سبقت في السورة ـ
على أطوارها الأخيرة ؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف
بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون .. لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك
الذي يعدهم أنهم مخرجون ؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون ؛ ويجزمون في تبجح بأن
ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد. يموت جيل ويحيا بعده جيل. فأما الذين ماتوا ،
وصاروا ترابا وعظاما ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب!
وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به ، وقد صاروا عظاما ورفاتا!
ثم إنهم لا
يقفون عند هذه الجهالة ، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها
الأولى .. لا يقفون عند هذه الجهالة ، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله.
ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة ، ولهذا الغرض من اتهام الرسول :
(إِنْ هُوَ إِلَّا
رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ..
عندئذ لم يجد
الرسول إلا أن يستنصر ربه كما استنصره من قبله نوح. وبالعبارة ذاتها التي توجه بها
إلى ربه نوح :
(قالَ : رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ..
وعندئذ وقعت
الاستجابة ، بعد أن استوفى القوم أجلهم ؛ ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد
والغفلة والتكذيب :
(قالَ : عَمَّا
قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ..
ولكن حيث لا
ينفع الندم ، ولا يجدي المتاب :
(فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) ..
والغثاء ما
يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة ، لا خير فيها ، ولا قيمة لها ، ولا
رابط بينها .. وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها ، وغفلوا عن حكمة
وجودهم في الحياة الدنيا ، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى .. لم يبق فيهم ما
يستحق التكريم ؛ فإذا هم غثاء كغثاء السيل ، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من
فرائد التعبير القرآني الدقيق.
ويزيدهم على
هذه المهانة ، الطرد من رحمة الله ، والبعد عن اهتمام الناس :
(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) ..
بعدا في الحياة
وفي الذكرى. في عالم الواقع وفي عالم الضمير ..
* * *
ويمضي السياق
بعد ذلك في استعراض القرون :
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً
رَسُولُها كَذَّبُوهُ. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ، وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ..
هكذا في إجمال
، يلخص تاريخ الدعوة ، ويقرر سنة الله الجارية ، في الأمد الطويل بين نوح وهود في
أول السلسلة ، وموسى وعيسى في أواخرها .. كل قرن يستوفي أجله ويمضي : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ). وكلهم يكذبون : (كُلَّ ما جاءَ
أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ). وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً). وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) تتناقلها القرون.
ويختم هذا
الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).
* * *
ثم يجمل قصة
موسى في الرسالة والتكذيب لتتمشى مع نسق العرض وهدفه المقصود :
(ثُمَّ أَرْسَلْنا
مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ، إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ. فَقالُوا : أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ).
ويبرز في هذا
الاستعراض الاعتراض ذاته على بشرية الرسل : (فَقالُوا : أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا). ويريد عليه تلك الملابسة الخاصة بوضع بني إسرائيل في
مصر : (وَقَوْمُهُما لَنا
عابِدُونَ) مسخرون خاضعون. وهي ادعى ـ في اعتبار فرعون وملئه ـ إلى
الاستهانة بموسى وهارون!
فأما آيات الله
التي معهما ، وسلطانه الذي بأيديهما ، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب
المطموسة ،
المستغرقة في ملابسات هذه الأرض ، وأوضاعها الباطلة ، وقيمها الرخيصة.
* * *
وإشارة مجملة
إلى عيسى ابن مريم وأمه. والآية البارزة في خلقه. وهي كآيات موسى كذب بها
المكذبون.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً ، وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) ..
وتختلف
الروايات في تحديد الربوة المشار إليها في هذا النص .. أين هي؟ أكانت في مصر ، أم
في دمشق ، أم في بيت المقدس .. وهي الأماكن التي ذهبت إليها مريم بابنها في طفولته
وصباه ـ كما تذكر كتبهم ـ وليس المهم تحديد موضعها ، إنما المقصود هو الإشارة إلى
إيواء الله لهما في مكان طيب ، ينضر فيه النبت ، ويسيل فيه الماء ، ويجدان فيه
الرعاية والإيواء.
* * *
وعند ما يصل
إلى هذه الحلقة من سلسلة الرسالات ، يتوجه بالخطاب إلى أمة الرسل ؛ وكأنما هم
متجمعون في صعيد واحد ، في وقت واحد ، فهذه الفوارق الزمانية والمكانية لا اعتبار
لها أمام وحدة الحقيقة التي تربط بينهم جميعا :
(يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ. وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ) ..
إنه نداء للرسل
ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) .. فالأكل من مقتضيات البشرية عامة ، أما الأكل من
الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى.
ونداء لهم
ليصلحوا في هذه الأرض : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) .. فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك. أما العمل
الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ؛ فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا ، وغاية
موصولة بالملأ الأعلى.
وليس المطلوب
من الرسول أن يتجرد من بشريته. إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها
الكريم الوضيء ، الذي أراده الله لها ، وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا
أعلى. والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
وتتلاشى آماد
الزمان ، وأبعاد المكان ، أمام وحدة الحقيقة التي جاء بها الرسل. ووحدة الطبيعة
التي تميزهم. ووحدة الخالق الذي أرسلهم. ووحدة الاتجاه الذي يتجهونه أجمعين :
(وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ..
(فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)
وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
حَتَّى
إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥)
قَدْ
كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
أَمْ
لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ
بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
أَمْ
تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ
لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ
(٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)
وَهُوَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ
ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ
السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)
عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣)
رَبِّ
فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ
نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)
وَقُلْ
رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)
(٩٨)
هذا الدرس
الثالث في السورة يبدأ بتصوير حال الناس بعد أمة الرسل. تلك الحال التي جاء الرسول
الأخير فوجدهم عليها. مختلفين متنازعين حول الحقيقة الواحدة التي جاءهم بها الرسل
من قبل جميعا.
ويصور غفلتهم
عن الحق الذي جاءهم به خاتم المرسلين ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والغمرة التي تذهلهم عن عاقبة ما هم فيه. بينما المؤمنون يعبدون الله ،
ويعملون الصالحات ، وهم مع هذا خائفون من العاقبة ، وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم
راجعون .. فتتقابل صورة اليقظة والحذر في النفس المؤمنة ، وصورة الغمرة والغفلة في
النفس الكافرة.
ثم يجول معهم
جولات شتى : يستنكر موقفهم مرة ، ويستعرض شبهاتهم مرة ، ويلمس وجدانهم بدلائل
الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق مرة ، ويأخذهم بمسلماتهم فيجعلها حجة عليهم مرة.
وينتهي بعد هذه
الجولات بتركهم إلى مصيرهم المحتوم. ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يمضي في طريقة ، لا يغضب لعنادهم ، وأن يدفع السيئة
بالحسنى ، وأن يستعيذ بالله من الشياطين التي تقودهم إلى الضلال المبين.
* * *
(فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)!
لقد مضى الرسل ـ
صلوات الله عليهم ـ أمة واحدة ، ذات كلمة واحدة ، وعبادة واحدة ، ووجهة واحدة ،
فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق.
ويخرج التعبير
القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة. لقد تنازعوا الأمر حتى مزقوه
بينهم مزقا ،
وقطعوه في أيديهم قطعا. ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده. مضى فرحا
لا يفكر في شيء ، ولا يلتفت إلى شيء! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه
منها أية نسمة طليقة ، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء! وعاش الجميع في هذه الغمرة
مذهولين مشغولين بما هم فيه ، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير.
وحين يرسم لهم
هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) ..
ذرهم في هذه
الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه ، حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم.
ويأخذ في
التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم ، إذ يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت ، وإمدادهم
بالأموال والبنين في فترة الاختبار ، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم
بالنعمة والعطاء :
(أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟)
وإنما هي
الفتنة ، وإنما هو الابتلاء :
(بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ..
لا يشعرون بما
وراء المال والبنين من مصير قاتم ومن شر مستطير!
* * *
وإلى جانب صورة
الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة :
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).
ومن هنا يبدو
أثر الإيمان في القلب ، من الحساسية والإرهاف والتحرج ، والتطلع إلى الكمال. وحساب
العواقب. مهما ينهض بالواجبات والتكاليف.
فهؤلاء
المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى ؛ وهم يؤمنون بآياته ، ولا يشركون به. وهم
ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم. وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا .. ولكنهم بعد هذا
كله : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) لإحساسهم بالتقصير في جانب الله ، بعد أن بذلوا ما في
طوقهم ، وهو في نظرهم قليل.
عن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ أنها قالت : يا رسول الله. (الَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عزوجل؟ قال : «لا يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم
ويتصدق ، وهو يخاف الله عزوجل»
إن قلب المؤمن
يستشعر يد الله عليه. ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة .. ومن ثم يستصغر كل عباداته
، ويستقل كل طاعاته ، إلى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه
جلال الله وعظمته ؛ ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله .. ومن ثم يشعر
بالهيبة ، ويشعر بالوجل ، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه ، لم يوفه حقه عبادة
وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا.
__________________
وهؤلاء هم
الذين يسارعون في الخيرات ، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة ، بهذه
اليقظة ، وبهذا التطلع ، وبهذا العمل ، وبهذه الطاعة. لا أولئك الذين يعيشون في
غمرة ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة ، مرادون بالخير ، كالصيد الغافل
يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري. ومثل هذا الطير في الناس كثير ، يغمرهم الرخاء ،
وتشغلهم النعمة ، ويطغيهم الغنى ، ويلهيهم الغرور ، حتى يلاقوا المصير!
* * *
تلك اليقظة
التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم. والتي يستجيشها الإيمان بمجرد استقراره في
القلوب .. ليست أمرا فوق الطاقة ، وليست تكليفا فوق الاستطاعة. إنما هي الحساسية
الناشئة من الشعور بالله والاتصال به ؛ ومراقبته في السر والعلن ؛ وهي في حدود
الطاقة الإنسانية ، حين يشرق فيها ذلك النور الوضيء :
(وَلا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) ..
ولقد شرع الله
التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس ؛ وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود
الطاقة ، لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون ؛ ولا ببخسهم شيئا مما يعملون ، وكل ما
يعملونه محسوب في سجل (يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) ويبرزه ظاهرا غير منقوص. والله خير الحاسبين.
إنما يغفل
الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق ، لم يمسسها نوره المحيي ، لانشغالها عنه ،
واندفاعها في التيه ؛ حتى تفيق على الهول ، لتلقى العذاب الأليم ، وتلقى معه
التوبيخ والتحقير :
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا ، وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ.
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ. لا
تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى
عَلَيْكُمْ ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سامِراً تَهْجُرُونَ) ..
فعلة اندفاعهم
فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة ؛ إنما العلة أن قلوبهم في غمرة ،
لا ترى الحق الذي جاء به القرآن ، وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء
به : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ
مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) ..
ثم يرسم مشهد
انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا
مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) .. والمتفرون أشد الناس استغراقا في المتاع والانحراف
والذهول عن المصير. وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذا ، فإذا هم
يرفعون أصواتهم بالجؤار ، مستغيثين مسترحمين (وذلك في مقابل الترف والغفلة
والاستكبار والغرور) ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ
مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) .. وإذا المشهد حاضر ، وهم يتلقون الزجر والتأنيب ،
والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير ، والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون
: (قَدْ كانَتْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه
، أو مكروه تجانبونه ، مستكبرين عن الإذعان للحق. ثم تزيدون على هذا سوء القول
وهجره في سمركم ، حيث تتناولون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما جاء به بكلمات السوء.
ولقد كانوا
يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم ؛ وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم
بالكعبة. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه ؛ وهم يجأرون
طالبين الغوث ، فيذكرهم بسمرهم الفاحش ، وهجرهم القبيح. وكأنما هو واقع اللحظة ،
وهم يشهدونه ويعيشون فيه! وذلك على
طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كأنها واقع مشهود .
والمشركون في
تهجمهم على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة ، التي لا
تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء ، فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء
والاتهام. ومثل هؤلاء في كل زمان. وليست جاهلية العرب إلا نموذجا لجاهليات كثيرة
خلت في الزمان ؛ وما تزال تظهر الآن بعد الآن!
* * *
وينتقل بهم من
مشهد التأنيب في الآخرة ، فيعود بهم إلى الدنيا من جديد! يعود بهم ليسأل ويعجب من
موقفهم ذاك الغريب .. ما الذي يصدهم عن الإيمان بما جاءهم به رسولهم الأمين؟ ما
الشبهات التي تحيك في صدورهم فتصدهم عن الهدى؟ ما حجتهم في الإعراض عنه ، والسمر
في مجالسهم بقالة السوء فيه؟ وهو الحق الخالص والطريق المستقيم :
(أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ؟ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ؟ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ! وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهِنَّ. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً؟ فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) ..
إن مثل ما جاء
به محمد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يملك من يتدبره أن يظل معرضا عنه ، ففيه من الجمال ، وفيه من الكمال ،
وفيه من التناسق ، وفيه من الجاذبية ، وفيه من موافقة الفطرة ، وفيه من الإيحاءات
الوجدانية ، وفيه من غذاء القلب ، وفيه من زاد الفكر ، وفيه من عظمة الاتجاهات ،
وفيه من قويم المناهج ، وفيه من محكم التشريع .. وفيه من كل شيء ما يستجيش كل
عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها (أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) إذن؟ فهذا سر إعراضهم عنه لأنهم لم يتدبروه ..
(أَمْ جاءَهُمْ ما
لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟) .. فكان بدعا في مألوفهم ومألوف آبائهم أن يجيئهم رسول!
أو أن يجيئهم بكلمة التوحيد! وذلك تاريخ الرسالات كلها يثبت أن الرسل جاءوا قومهم
تترى ، وكلهم جاء بالكلمة الواحدة التي يدعوهم إليها هذا الرسول!
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟) .. ويكون هذا هو سر الإعراض والتكذيب! ولكنهم يعرفون
رسولهم حق المعرفة. يعرفون شخصه ويعرفون نسبه ، ويعرفون أكثر من أي أحد صفاته :
يعرفون صدقه وأمانته حتى لقد لقبوه قبل الرسالة بالأمين!
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ؟) كما كان بعض سفهائهم يقولون ؛ وهم على ثقة أنه العاقل
الكامل ، الذي لا يعرفون عنه زلة في تاريخه الطويل؟
إنه ما من شبهة
من هذه الشبهات يمكن أن يكون لها أصل. إنما هي كراهية أكثرهم للحق ، لأنه يسلبهم
القيم الباطلة التي بها يعيشون ، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون :
(بَلْ جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ..
__________________
والحق لا يمكن
أن يدور مع الهوى ؛ وبالحق تقوم السماوات والأرض ، وبالحق يستقيم الناموس ، وتجري
السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه :
(وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) ..
فالحق واحد
ثابت ، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يدبر الكون كله ، فلا ينحرف ناموسه
لهوى عارض ، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة ،
والرغبات الطارئة لفسد كله ، ولفسد الناس معه ، ولفسدت القيم والأوضاع ، واختلت
الموازين والمقاييس ؛ وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى ، والكره والبغض ، والرغبة
والرهبة ، والنشاط والخمول .. وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات
والتأثرات .. وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات
والاستقرار والاطراد ، على قاعدة ثابتة ، ونهج مرسوم ، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا
يحيد.
ومن هذه
القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره ، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءا
من الناموس الكوني ، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعا. والبشر
جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير ؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون
كله ، ويدبره في تناسق عجيب. بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) إنما يخضع للحق الكلي ، ولتدبير صاحب التدبير.
وهذه الأمة
التي جاء لها الإسلام كانت أولى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه. ففوق أنه الحق
هو كذلك مجد لها وذكر. وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين :
(بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) ..
وقد ظلت أمة
العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام. وقد ظل ذكرها يدوي في آذان
القرون طالما كانت به مستمسكة. وقد تضاءل ذكرها عند ما تخلت عنه ، فلم تعد في
العير ولا في النفير. ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير ...!
وبعد هذا
الاستطراد بمناسبة دعواهم على الحق الذي جاءهم فأعرضوا عنه واتهموه .. يعود السياق
إلى استنكار موقفهم ، وإلى مناقشة الشبهات التي يمكن أن تصدهم عما جاءهم به الرسول
الأمين :
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً؟) فهم يفرون مما تسألهم من أجر على الهداية والتعليم؟!
فإنك لا تطلب إليهم شيئا ، فما عند ربك خير مما عندهم : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) .. وما ذا يطمع نبي أن ينال من البشر الضعاف الفقراء
المحاويج وهو متصل بالفيض اللدني الذي لا ينضب ولا يغيض ؛ بل ماذا يطمع أتباع نبي
أن ينالوا من عرض هذه الأرض وهم معلقو الأنظار والقلوب بما عند الله الذي يرزق
بالكثير وبالقليل؟ ألا إنه يوم يتصل القلب بالله يتضاءل هذا الكون كله ، بما فيه
وكل من فيه!
ألا إنما تطلب
هدايتهم إلى المنهج القويم : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يصلهم بالناموس الذي يحكم فطرتهم ، ويصلهم بالوجود كله
، ويقودهم في قافلة الوجود ، إلى الخالق الوجود ، في استقامة لا تحيد.
ألا وإنهم ـ ككل
من لا يؤمنون بالآخرة ـ حائدون عن النهج ضالون عن الطريق : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) .. فلو كانوا مهتدين لتابعوا بقلوبهم وعقولهم أطوار
النشأة التي تحتم الإيمان
بالآخرة ، وبالعالم الذي يسمح ببلوغ الكمال الممكن ، وتحقيق العدل المرسوم.
فليست الآخرة إلا حلقة من حلقات الناموس الشامل الذي ارتضاه الله لتدبير هذا
الوجود.
* * *
هؤلاء الذين لا
يؤمنون بالآخرة ، والذين تنكبوا الطريق ، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ، ولا
الابتلاء بالنقمة. فإن أصابتهم النعمة حسبوا : (أَنَّما نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ، ولم تستيقظ ضمائرهم
، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ، ويظلون كذلك حتى يأتيهم
العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما
يَتَضَرَّعُونَ. حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا
هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) ..
وهذه صفة عامة
لذلك الصنف من الناس ، القاسية قلوبهم ، الغافلين عن الله ، المكذبين بالآخرة ،
ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم.
والاستكانة
والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله ، والشعور بأنه الملجأ والملاذ.
والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان ، واستيقظ وتذكر ، وكانت هذه
الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل ، وأفاد من المحنة وانتفع بالبلاء.
فأما حين يسدر في غيه ، ويعمه في ضلاله ، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح ، وهو
متروك لعذاب الآخرة ، الذي يفاجئه ، فيسقط في يده ، ويبلس ويحتار ، وييأس من
الخلاص.
* * *
ثم يجول معهم
جولة أخرى علها توقظ وجدانهم إلى دلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم :
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ. قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. أَفَلا
تَعْقِلُونَ؟) ..
ولو تدبر
الإنسان خلقه وهيئته ، وما زود به من الحواس والجوارح ، وما وهبه من الطاقات
والمدارك لوجد الله ، ولاهتدى إليه بهذه الخوارق الدالة على أنه الخالق الواحد.
فما أحد غير الله بقادر على إبداع هذه الخلقة المعجزة في الصغير منها وفي الكبير.
هذا السمع وحده
وكيف يعمل؟ كيف يلتقط الأصوات ويكيفها؟ وهذا البصر وحده وكيف يبصر؟ وكيف يلتقط
الأضواء والأشكال؟ وهذا الفؤاد ما هو؟ وكيف يدرك؟ وكيف يقدر الأشياء والأشكال ،
والمعاني والقيم والمشاعر والمدركات؟
إن مجرد معرفة
طبيعة هذه الحواس والقوى وطريقة عملها ، يعد كشفا معجزا في عالم البشر. فكيف
بخلقها وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه الإنسان ؛
ذلك التناسق الملحوظ الذي لو اختلت نسبة واحدة من نسبه في طبيعة الكون أو طبيعة
الإنسان لفقد الاتصال ، فما استطاعت أذن أن تلتقط صوتا ، ولا استطاعت عين أن تلتقط
ضوءا. ولكن القدرة المدبرة نسقت بين طبيعة الإنسان وطبيعة الكون الذي يعيش فيه ،
فتم هذا الاتصال. غير أن الإنسان لا يشكر على النعمة : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) .. والشكر يبدأ بمعرفة واهب النعمة ، وتمجيده بصفاته ،
ثم عبادته وحده ؛ وهو الواحد الذي تشهد بوحدانيته آثاره
في صنعته. ويتبعه استخدام هذه الحواس والطاقات في تذوق الحياة والمتاع بها
، بحس العابد لله في كل نشاط وكل متاع.
(وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) .. فاستخلفكم فيها ، بعد ما زودكم بالسمع والأبصار
والأفئدة ؛ وأمدكم بالاستعدادات والطاقات الضرورية لهذه الخلافة .. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .. فيحاسبكم على ما أحدثتم في هذه الخلافة من خير وشر ،
ومن صلاح وفساد ، ومن هدى وضلال. فلستم بمخلوقين عبثا ، ولا متروكين سدى ؛ إنما هي
الحكمة والتدبير والتقدير.
(وَهُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) .. والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة ، وليس إلا
الله يملك الموت والحياة ؛ فالبشر ـ أرقى الخلائق ـ أعجز من بث الحياة في خلية
واحدة ، وأعجز كذلك من سلب الحياة سلبا حقيقيا عن حي من الأحياء. فالذي يهب الحياة
هو الذي يعرف سرها ، ويملك أن يهبها ويستردها. والبشر قد يكونون سببا وأداة لإزهاق
الحياة ، ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة. إنما الله
هو الذي يحيي ويميت ، وحده دون سواه.
(وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) .. فهو الذي يملكه ويصرفه ـ كاختلاف الموت والحياة ـ وهو
سنة كونية كسنة الموت والحياة. هذه في النفوس والأجساد ، وهذه في الكون والأفلاك.
وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم جسده ويهمد ، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم
وتسكن. ثم تكون حياة ويكون ضياء ، يختلف هذا على ذاك ، بلا فتور ولا انقطاع إلا أن
يشاء الله .. (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) وتدركون ما في هذا كله من دلائل على الخالق المدبر ،
المالك وحده لتصريف الكون والحياة؟
* * *
وهنا يعدل عن
خطابهم وجدالهم ، ليحكي مقولاتهم عن البعث والحساب ، بعد كل هذه الدلائل والآيات :
(بَلْ قالُوا مِثْلَ
ما قالَ الْأَوَّلُونَ. قالُوا : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ؟ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هذا
إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ..
وتبدو هذه
القولة مستنكرة غريبة بعد تلك الآيات والدلائل الناطقة بتدبير الله ، وحكمته في
الخلق ، فقد وهب الإنسان السمع والبصر والفؤاد ليكون مسؤولا عن نشاطه وعمله ،
مجزيا على صلاحه وفساده ؛ والحساب والجزاء يكونان على حقيقتها في الآخرة ،
فالمشهود في هذه الأرض أن الجزاء قد لا يقع ، لأنه متروك إلى موعده هناك.
والله يحيي
ويميت ؛ فليس شيء من أمر البعث بعسير ، والحياة تدب في كل لحظة ، وتنشأ من حيث لا
يدري إلا الله.
ولم يكف هؤلاء
أن تقصر مداركهم عن إدراك حكمة الله ، وقدرته على البعث ، فإذا هم يسخرون مما
يوعدون من البعث والجزاء. أن كان هذا الوعد قد قيل لهم ولآبائهم من قبل ، ولم يقع
بعد!
(لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ..
والبعث متروك
لموعده الذي ضربه الله له ، وفق تدبيره وحكمته ، لا يستقدم ولا يستأخر ، تلبية
لطلب جيل من أجيال الناس ، أو استهزاء جماعة من الغافلين المحجوبين!
* * *
ولقد كان مشركو
العرب مضطربي العقيدة ، لا ينكرون الله ، ولا ينكرون أنه مالك السماوات والأرض ،
مدبر السماوات والأرض ، المسيطر على السماوات والأرض .. ولكنهم مع ذلك يشركون معه
آلهة مدعاة ، يقولون : إنهم يعبدونها لتقربهم من الله ، وينسبون له البنات. سبحانه
وتعالى عما يصفون :
فهو هنا يأخذهم
بمسلماتهم التي يقرون بها ، ليصحح ذلك الاضطراب في العقيدة ، ويردهم إلى التوحيد
الخالص الذي تقود إليه مسلماتهم ، لو كانوا يستقيمون على الفطرة ولا ينحرفون :
(قُلْ : لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ. قُلْ
: أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ. قُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ؟ قُلْ :
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ،
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ. قُلْ : فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟) ..
وهذا الجدال
يكشف عن مدى الاضطراب الذي لا يفيء إلى منطق ، ولا يرتكن إلى عقل ؛ ويكشف عن مدى
الفساد الذي كانت عقائد المشركين قد وصلت إليه في الجزيرة عند مولد الإسلام.
(قُلْ : لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟) .. فهو سؤال عن ملكية الأرض ومن فيها : (سَيَقُولُونَ :
لِلَّهِ) .. ولكنهم مع ذلك لا يذكرون هذه الحقيقة وهم يتوجهون
بالعبادة لغير الله : (قُلْ : أَفَلا
تَذَكَّرُونَ؟).
(قُلْ : مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) .. فهو سؤال عن الربوبية المدبرة ، المصرفة للسماوات
السبع والعرش العظيم. والسماوات السبع قد تكون أفلاكا سبعة ، أو مجموعات نجمية
سبعة ، أو سدما سبعة ، أو عوالم سبعة ، أو أية خلائق فلكية سبعة. والعرش رمز
للاستعلاء والهيمنة على الوجود .. فمن هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ (سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ) ولكنهم مع ذلك لا يخافون صاحب العرش ، ولا يتقون رب
السماوات السبع ، وهم يشركون معه أصناما مهينة ، ملقاة على الأرض لا تريم .. (قُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ) ..
(قُلْ : مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ؟) .. فهو سؤال عن السيطرة والسطوة والسلطان. سؤال عمن
بيده ملكية كل شيء ملكية استعلاء وسيطرة. ومن هو الذي يجير بقوته من يشاء فلا
يناله أحد ؛ ولا يملك أحد أن يجير عليه ، وأن ينقذ من يريده بسوء من عباده .. من؟ (سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ) فما لهم يصرفون عن عبادة الله؟ وما لعقولهم تنحرف
وتتخبط كالذي مسه السحر : (قُلْ : فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ؟).
ألا إنه
الاضطراب والتخبط الذي يصاب به المسحورون!
* * *
وفي اللحظة
المناسبة لتقرير حقيقة ما جاءهم به الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من التوحيد ، وبطلان ما يدعونه من الولد والشريك .. في اللحظة المناسبة
بعد ذلك الجدل يجيء هذا التقرير :
(بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما كانَ
مَعَهُ مِنْ إِلهٍ. إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ. سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
يجيء هذا التقرير
في أساليب شتى .. بالإضراب عن الجدل معهم ، وتقرير كذبهم الأكيد : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). ثم يفصل فيما هم كاذبون : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما
كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) .. ثم يأتي بالدليل الذي ينفي دعواهم ، ويصور ما في
عقيدة الشرك من سخف واستحالة : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ) مستقلا بما خلقه ، يصرفه حسب ناموس خاص ؛ فيصبح لكل جزء
من الكون ، أو لكل فريق
من المخلوقات ناموس خاص لا يلتقي فيه بناموس عام يصرف الجميع. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) بغلبة سيطرته وتصريفه على الكون الذي لا يبقى ولا ينتظم
إلا بناموس واحد ، وتصريف واحد ، وتدبير واحد.
وكل هذه الصور
لا وجود لها في الكون ، الذي تشهد وحدة تكوينه بوحدة خالقه ، وتشهد وحدة ناموسه
بوحدة مدبره. وكل جزء فيه وكل شيء يبدو متناسقا مع الأجزاء الأخرى بلا تصادم ولا
تنازع ولا اضطراب .. (سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ) ..
(عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) فليس لغيره من خلق يستقل به ، ويعلم من دون الله أمره. (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
* * *
وعند هذا الحد
يلتفت عن خطابهم وجدلهم وحكاية حالهم ، إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يأمره أن يتوجه إلى ربه مستعيذا به أن يجعله مع هؤلاء القوم ـ إن كان قد
قدر له أن يرى تحقيق ما وعدهم به من العذاب. وأن يستعيذ به كذلك من الشياطين ، فلا
تثور نفسه ، ولا يضيق صدره بما يقولون :
(قُلْ : رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ : رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ..
ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في منجاة من أن يجعله الله مع القوم الظالمين حين يحل بهم العذاب الأليم
، ويتحقق ما يوعدون ، ولكن هذا الدعاء زيادة في التوقي ؛ وتعليم لمن بعده ألا
يأمنوا مكر الله ، وأن يظلوا أبدا أيقاظا ، وأن يلوذوا دائما بحماه.
والله قادر على
أن يحقق ما وعد به الظالمين في حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(وَإِنَّا عَلى أَنْ
نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) ..
ولقد أراه بعض
ما وعدهم في غزوة بدر. ثم في الفتح العظيم.
فأما حين نزول
هذه السورة ـ وهي مكية ـ فكان منهج الدعوة دفع السيئة بالتي هي أحسن ؛ والصبر حتى
يأتي أمر الله ؛ وتفويض الأمر لله :
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ).
واستعاذة
الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من همزات الشياطين ودفعاتهم ـ وهو معصوم منها ـ زيادة كذلك في التوقي ،
وزيادة في الالتجاء إلى الله ، وتعليم لأمته وهو قدوتها وأسوتها ، أن يتحصنوا
بالله من همزات الشياطين في كل حين. بل إن الرسول ليوجه إلى الاستعاذة بالله من
مجرد قرب الشياطين ، لا من همزاتهم ودفعاتهم :
(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ
أَنْ يَحْضُرُونِ) ..
ويحتمل أن تكون
الاستعاذة من حضورهم إياه ساعة الوفاة. ويرشح لهذا المعنى ما يتلوه في السياق : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
...) على طريقة القرآن في تناسق المعاني وتداعيها ..
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها
وَمِنْ
وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
أَلَمْ
تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها
وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ
فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ
لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)
(١١٨)
في هذا الدرس
الأخير في السورة يستطرد في الحديث عن نهاية المشركين ؛ فيبرزها في مشهد من مشاهد
القيامة. يبدأ بمشهد الاحتضار في الدنيا ، وينتهي هنالك بعد النفخ في الصور. ثم
تنتهي السورة بتقرير الألوهية الواحدة ، وتحذير من يدعون مع الله إلها آخر
وتخويفهم من مثل تلك النهاية.
وتختم السورة
بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى ربه ليطلب غفرانه ورحمته ؛ والله خير الراحمين.
* * *
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما
تَرَكْتُ) ..
إنه مشهد
الاحتضار ، وإعلان التوبة عند مواجهة الموت ، وطلب الرجعة إلى الحياة ، لتدارك ما
فات ، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال .. وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار
، مشهود كالعيان! فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء ،
إنما يعلن على رؤوس الأشهاد :
(كَلَّا. إِنَّها
كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ...)
كلمة لا معنى
لها ، ولا مدلول وراءها ، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها. إنها كلمة الموقف
الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب. كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من
رصيد!
وبها ينتهي
مشهد الاحتضار. وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا. فلقد قضي
الأمر ، وانقطعت الصلات ، وأغلقت الأبواب ، وأسدلت الأستار :
(وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ..
فلا هم من أهل
الدنيا ، ولا هم من أهل الآخرة. إنما هم في ذلك البرزخ بين بين ، إلى يوم يبعثون.
ثم يستطرد
السياق إلى ذلك اليوم ، يصوره ويعرضه للأنظار.
(فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ..
إنما تقطعت
الروابط ، وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ). وشملهم الهول بالصمت ، فهم ساكنون لا يتحدثون (وَلا يَتَساءَلُونَ).
ويعرض ميزان
الحساب وعملية الوزن في سرعة واختصار.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ
فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ. تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) ..
وعملية الوزن
بالميزان تجري على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير ، وتجسيم المعاني في صور حسية
، ومشاهد ذات حركة .
ومشهد لفح
النار للوجوه حتى تكلح ، وتشوه هيئتها ، ويكدر لونها .. مشهد مؤذ أليم.
وهؤلاء الذين
خفت موازينهم خسروا كل شيء. فقد خسروا أنفسهم. وحين يخسر الإنسان نفسه فماذا يملك
إذن؟ وما الذي يتبقى له. وقد خسر نفسه التي بين جنبيه ، وخسر ذاته التي تميزه ، فكأنما
لم يكن له وجود.
وهنا يعدل عن
أسلوب الحكاية إلى أسلوب الخطاب والمواجهة ، فإذا العذاب الحسي ـ على فظاعته ـ أهون
من التأنيب والخزي الذي يصاحبه. وكأنما نحن نراه اللحظة ونشهده في حوار ممض طويل :
(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ!) ..
وكأنما يخيل
إليهم ـ وقد سمعوا هذا السؤال ـ أنهم مأذونون في الكلام ، مسموح لهم بالرجاء. وأن
الاعتراف بالذنب قد يجدي في قبول الرجاء :
(قالُوا : رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ. رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) ..
وهو اعتراف
تتجلى فيه المرارة والشقوة ... ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم ، فلم
يكن مأذونا لهم في غير الإجابة على قدر السؤال. بل لعله كان سؤالا للتبكيت لا يطلب
عليه منهم جواب. فهم يزجرون زجرا عنيفا قاسيا :
(قالَ : اخْسَؤُا
فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ..
اخرسوا واسكتوا
سكوت الأذلاء المهينين ، فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الأليم والشقاء
المهين :
(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ
مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ : رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ
ذِكْرِي ، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) ..
__________________
وكذلك لم يكن
جرمكم أنكم كفرتم فحسب ، واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم ؛ إنما بلغ بكم
السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا ، وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته ؛ وأن تضحكوا
منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله ، ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في
دلائل الإيمان المبثوثة في صفحات الوجود .. فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك
الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون :
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) ..
وبعد هذا الرد
القاسي المهين ، وبيان أسبابه ، وما في هذا البيان من ترذيل وتبكيت .. يبدأ
استجواب جديد :
(قالَ : كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) ..
وإن الله ـ سبحانه
ـ ليعلم. ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض ، واستقصار أيامهم فيها. وقد باعوا بها
حياة الخلود .. وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها. وإنهم ليائسون ضيقو
الصدر ، لا يعنيهم حسابها وعدتها :
(قالُوا : لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَسْئَلِ الْعادِّينَ) ..
وهي إجابة
الضيق واليأس والأسى والقنوط!
والرد : إنكم
لم تلبثوا إلا قليلا بالقياس إلى ما أنتم عليه مقبلون لو كنتم تحسنون التقدير :
(قالَ : إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ..
ثم عودة إلى
الترذيل والتعنيف على تكذيبهم بالآخرة ، مع التبصير بحكمة البعث المكنونة منذ أول
الخلق :
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ؛ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ؟) ..
فحكمة البعث من
حكمة الخلق. محسوب حسابها ، ومقدر وقوعها ، ومدبر غايتها. وما البعث إلا حلقة في
سلسلة النشأة ، تبلغ بها كمالها ، ويتم فيها تمامها. ولا يغفل عن ذلك إلا
المحجوبون المطموسون ، الذين لا يتدبرون حكمة الله الكبرى ؛ وهي متجلية في صفحات
الكون ، مبثوثة في أطواء الوجود ..
* * *
وتنتهي سورة
الإيمان بتقرير القاعدة الأولى للإيمان .. التوحيد .. وإعلان الخسارة الكبرى لمن
يشركون بالله ، في مقابل الفلاح في أول السورة للمؤمنين. وبالتوجه إلى الله في طلب
الرحمة والغفران وهو أرحم الراحمين :
(فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ. وَقُلْ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ..
هذا التعقيب
يجيء بعد مشهد القيامة السابق ؛ وبعد ما حوته السورة قبل هذا المشهد من جدل وحجج
ودلائل وبينات .. يجيء نتيجة طبيعية منطقية لكل محتويات السورة. وهو يشهد بتنزيه
الله ـ سبحانه ـ عما يقولون ويصفون. ويشهد بأنه الملك الحق ، والمسيطر الحق ، الذي
لا إله إلا هو. صاحب السلطان والسيطرة والاستعلاء : (رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ).
وكل دعوى
بألوهية أحد مع الله ، فهي دعوى ليس معها برهان. لا من الدلائل الكونية ، ولا من
منطق
الفطرة ، ولا من حجة العقل. وحساب مدعيها عند ربه ، والعاقبة معروفة : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) .. سنة نافذة لا تتخلف ، كما أن الفلاح للمؤمنين طرف من
الناموس الكبير.
وكل ما يراه
الناس على الكافرين من نعمة ومتاع ، وقوة وسلطان ، في بعض الأحيان ، فليس فلاحا في
ميزان القيم الحقيقة. إنما هو فتنة واستدراج ، ينتهي بالوبال في الدنيا. فإن ذهب
بعضهم ناجين في الدنيا ، فهناك في الآخرة يتم الحساب. والآخرة هي الشوط الأخير في
مراحل النشأة ، وليست شيئا منفصلا في تقدير الله وتدبيره. ومن ثم هي ضرورة لا بد
منها في النظرة البعيدة.
* * *
وآخر آية في
سورة «المؤمنون» هي اتجاه إلى الله في طلب الرحمة والغفران :
(وَقُلْ : رَبِّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ..
وهنا يلتقي
مطلع السورة وختامها في تقرير الفلاح للمؤمنين والخسران للكافرين. وفي تقرير صفة
الخشوع في الصلاة في مطلعها والتوجه إلى الله بالخشوع في ختامها .. فيتناسق المطلع
والختام في ظلال الإيمان ...
* * *
(٢٤) سورة النّور
مدنيّة وآياتها أربع وستّون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ
لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ
غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ
جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
لَوْ
لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ
خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)
لَوْ
لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ
فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ
هُمُ
الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤)
إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا
بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً
وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
وَلا
يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)
يَوْمَ
تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)
(٢٦)
هذه سورة النور
.. يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ؛
ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة. وهي آداب
وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية ، تنير القلب ، وتنير الحياة ؛ ويربطها بذلك النور
الكوني الشامل أنها نور في الأرواح ، وإشراق في القلوب ، وشفافية في الضمائر ،
مستمدة كلها من ذلك النور الكبير.
وهي تبدأ
بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف ، ومن
آداب
وأخلاق : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها ، وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .. فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن
بالعنصر الأخلاقي في الحياة ، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية ،
وفى فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية ..
والمحور الذي
تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود.
وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة ، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة
في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين. هو تربية الضمائر ،
واستجاشة المشاعر ؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة ، حتى تشف وترف ، وتتصل بنور
الله .. وتتداخل الآداب النفسية الفردية ، وآداب البيت والأسرة ، وآداب الجماعة
والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله ، متصلة كلها بنور
واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية ، وإشراق وطهارة. تربية عناصرها من
مصدر النور الأول في السماوات والأرض. نور الله الذي أشرقت به الظلمات. في
السماوات والأرض ، والقلوب والضمائر ، والنفوس والأرواح.
* * *
ويجري سياق
السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط :
الأول يتضمن
الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ؛ ويليه حد الزنا ، وتفظيع هذه الفعلة ، وتقطيع ما
بين الزناة والجماعة المسلمة ، فلا هي منهم ولا هم منها. ثم بيان حد القذف وعلة
التشديد فيه ؛ واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة. ثم
حديث الإفك وقصته .. وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات ، ومشاكلة
الطيبين للطيبات. وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء.
ويتناول الشوط
الثاني وسائل الوقاية من الجريمة ، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية. فيبدأ
بآداب البيوت والاستئذان على أهلها ، والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة
للمحارم. والحض على إنكاح الأيامى. والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء .. وكلها
أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور ، ودفع المؤثرات التي
تهيج الميول الحيوانية ، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين ، وهم يقاومون عوامل
الإغراء والغواية.
والشوط الثالث
يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة ، فيربطها بنور الله. ويتحدث عن أطهر
البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله .. وفي الجانب المقابل الذين كفروا
وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ؛ أو كظلمات بعضها فوق بعض. ثم يكشف عن فيوض من
نور الله في الآفاق : في تسبيح الخلائق كلها لله. وفي إزجاء السحاب. وفي تقليب
الليل والنهار. وفي خلق كل دابة من ماء ، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها
وأجناسها ، مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار ..
والشوط الرابع
يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في الطاعة والتحاكم. ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم. ويعدهم ، على
هذا ، الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين ، والنصر على الكافرين.
ثم يعود الشوط
الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء. وإلى
آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة ، مع رئيسها ومربيها ـ رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وتتم السورة
بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض ، وعلمه بواقع الناس ، وما تنطوي عليه
حناياهم ، ورجعتهم إليه ، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم. وهو بكل شيء عليم.
والآن نأخذ في
التفصيل.
* * *
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ..
مطلع فريد في
القرآن كله. الجديد فيه كلمة (فَرَضْناها) والمقصود بها ـ فيما نعلم ـ توكيد الأخذ بكل ما في
السورة على درجة سواء. ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات. هذه
الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة ، والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات
والانحرافات ، فتذكرهم بها تلك الآيات البينات ، وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح
المبين.
* * *
ويتبع هذا
المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ؛ وتفظيع هذه الفعلة ، التي تقطع ما
بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات :
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ؛ وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ـ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ـ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ،
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ؛ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) ..
كان حد
الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء : (وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) .. فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير.
وكان حد الرجل الأذى بالتعبير.
ثم أنزل الله
حد الزنا في سورة النور. فكان هذا هو «السبيل» الذي أشارت إليه من قبل آية النساء.
والجلد هو حد
البكر من الرجال والنساء. وهو الذي لم يحصن بالزواج. ويوقع عليه متى كان مسلما
بالغا عاقلا حرا. فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ
فحده الرجم.
وقد ثبت الرجم
بالسنة. وثبت الجلد بالقرآن. ولما كان النص القرآني مجملا وعاما. وكان رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ قد رجم الزانيين المحصنين ، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن.
وهناك خلاف
فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن. والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد
والرجم. كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده. وحول حد
الزاني غير الحر .. وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا ، يطلب في موضعه من كتب
الفقه .. إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع. فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد ،
وعقوبة المحصن هي الرجم. ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح ـ وهو مسلم حر
بالغ ـ قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه ، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته
وانحرافها ، فهو جدير بتشديد العقوبة ، بخلاف البكر الغفل الغر ، الذي قد يندفع
تحت ضغط الميل وهو غرير .. وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل. فالمحصن ذو تجربة فيه
تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر. فهو حري بعقوبة كذلك أشد.
والقرآن يذكر
هنا حد البكر وحده ـ كما سلف ـ فيشدد في الأخذ به ، دون تسامح ولا هوادة :
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
فهي الصرامة في
إقامة الحد ؛ وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما ، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في
إقامته ، تراخيا في دين الله وحقه. وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين ،
فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين.
ثم يزيد في
تفظيع الفعلة وتبشيعها ، فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة :
(الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ..
وإذن فالذين
يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون. إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن
الإيمان وعن مشاعر الإيمان. وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في
نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ؛ لأنها تنفر من هذا الرباط
وتشمئز. حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة ، وبين
عفيف وزانية ؛ إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر. وعلى أية حال
فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية ، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني
؛ واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) .. وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من
الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة.
ورد في سبب
نزول هذه الآية أن رجلا يقال له : مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى
يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها : عناق. وكانت صديقة
له. وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله. قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من
حوئط مكة في ليلة مقمرة. قال : فجاءت عناق ، فأبصرت سواد ظل تحت الحائط. فلما
انتهت إليّ عرفتني. فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد! فقالت : مرحبا وأهلا. هلم فبت
عندنا الليلة : قال : فقلت : يا عناق حرم الله الزنا. فقالت : يا أهل الخيام هذا
الرجل يحمل أسراكم. قال : فتبعني ثمانية ، ودخلت الحديقة. فانتهيت إلى غار أو كهف
، فدخلت ، فجاءوا حتى قاموا على رأسي ، فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم
الله عني. قال : ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ؛ وكان رجلا ثقيلا ؛ حتى انتهيت
إلى الإذخر ؛ ففككت عنه أحبله ، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ؛ فأتيت
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقلت : يا رسول الله أنكح عناقا؟ ـ مرتين ـ فأمسك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يا مرثد. (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها) .
فهذه الرواية
تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب ، ونكاح المؤمنة للزاني كذلك. وهو ما
أخذ به الإمام أحمد. ورأى غيره غير رأيه. والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه. وعلى
أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ؛ وتقطع ما بينه وبينها من
روابط. وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا!
__________________
والإسلام وهو
يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع
الفطرية أو يحاربها. فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول ، ولا خير
لهم في كبتها أو قتلها. ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله
في كيانهم ، وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر ، يؤدي إلى غايته من امتداد
الحياة ، وعمارة الأرض ، التي استخلف فيها هذا الإنسان.
إنما أراد
الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد ، أو لا تهدف إلى إقامة بيت ،
وبناء عش ، وإنشاء حياة مشتركة ، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن
يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من
التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين ، وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما
حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية
المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان
حارسين لا يفترقان.
من هنا شدد
الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية ، تذهب بكل هذه المعاني ، وتطيح بكل
هذه الأهداف ؛ وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا ، لا يفرق بين أنثى وأنثى ، ولا
بين ذكر وذكر. مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة. فإن فرق وميز
فليس وراء اللذة بناء في الحياة ، وليس وراءها عمارة في الأرض ، وليس وراءها نتاج
ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية ، لأن العاطفة تحمل طابع
الاستمرار. وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع ، الذي يحسبه الكثيرون
عاطفة يتغنون بها ، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض
الأحيان!
إن الإسلام لا
يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ؛ إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوي
الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية
والاجتماعية. فأما الزنا ـ وبخاصة البغاء ـ فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات
الروحية ، والأشواق العلوية ؛ ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ
البشرية الطويل ؛ ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان ، بل أشد غلظا من
الحيوان. ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة ، في حياة زوجية
منظمة ، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا ـ وبخاصة البغاء ـ في بعض
بيئات الإنسان!
دفع هذه النكسة
عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا .. ذلك إلى
الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة ،
من اختلاط الأنساب ، وإثارة الأحقاد ، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة .. وكل واحد
من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة. ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية
عن الفطرة البشرية ، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس ، والمحافظة
على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام
والامتداد .. هذا السبب هو الأهم في اعتقادي. وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية
الأخرى.
على أن الإسلام
لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع
الفعل ، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام
منهج حياة متكامل ، لا يقوم على العقوبة ؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة
النظيفة. ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل
طائعا غير مضطر.
وفي هذه السورة
نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق ..
فإذا وقعت
الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
«ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن
الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة » لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل. أو
اعترافا لا شبهة في صحته.
وقد يظن أن
العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا ، لأنها غير قابلة للتطبيق. ولكن الإسلام ـ كما
ذكرنا ـ لا يقيم بناءه على العقوبة ، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى
الجريمة ؛ وعلى تهذيب النفوس ، وتطهير الضمائر ؛ وعلى الحساسية التي يثيرها في
القلوب ، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من
وشيجة. ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة ، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة
فيراها الشهود. أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لما عز
ولصاحبته الغامدية. وقد جاء كل منهما يطلب من النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يطهره بالحد ، ويلح في ذلك ، على الرغم من إعراض النبي مرارا ؛ حتى
بلغ الإقرار أربع مرات. ولم يعد بد من إقامة الحد ، لأنه بلغ إلى الرسول بصفة
مستيقنة لا شبهة فيها. والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» فإذا وقع اليقين ، وبلغ الأمر إلى الحاكم ، فقد وجب
الحد ولا هوادة ، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على
الجماعة ، وعلى الآداب الإنسانية ، وعلى الضمير البشري. وهي رأفة مصطنعة. فالله
أرأف بعباده. وقد اختار لهم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن
تكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد ، وأعرف بطبائعهم ، فليس
لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية ؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع
فيها الزنا ، وتفسد فيها الفطرة ، وترتكس في الحمأة ، وتنتكس إلى درك البهيمة
الأولى ..
والتشديد في
عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة ، وتطهير الجو الذي تعيش فيه.
والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة ـ كما قلنا ـ إنما يعتمد
على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة.
لذلك يعقب على
حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة. ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في
استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل
أكيد :
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً.
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ..
إن ترك الألسنة
تلقي التهم على المحصنات ـ وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا ـ بدون دليل قاطع
، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ؛ ثم
يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي ، وإذا أعراضها مجرحة ، وسمعتها ملوثة ؛ وإذا كل
فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه ، وكل رجل فيها
شاك في أصله ، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار .. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا
تطاق.
ذلك إلى أن
اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله
ملوث ؛
__________________
وأن الفعلة فيها شائعة ؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها ، وتهون في حسه
بشاعتها بكثرة تردادها ، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!
ومن ثم لا تجدي
عقوبة الزنا في منع وقوعه ؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث
الموحي بارتكاب الفحشاء.
لهذا ، وصيانة
للأعراض من التهجم ، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم .. شدد
القرآن الكريم في عقوبة القذف ، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا .. ثمانين جلدة .. مع
إسقاط الشهادة ، والوصم بالفسق .. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط
الجماعة ؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة ، وأن يسقط اعتباره بين
الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان
خارج عن طريقه المستقيم .. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل ، أو
بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحا. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.
والجماعة
المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه ،
وعدم التحرج من الإذاعة به ، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي
كانوا يستقذرونها ، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة
التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في
حياة الناس وطمأنينة البيوت.
وتظل العقوبات
التي توقع على القاذف ، بعد الحد ، مصلتة فوق رأسه ، إلا أن يتوب :
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
وقد اختلف
الفقهاء في هذا الاستثناء : هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها ، فيرفع عنه وصف
الفسق ، ويظل مردود الشهادة؟ أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة .. فذهب الأئمة مالك
وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته ، وارتفع عنه حكم الفسق. وقال الإمام
أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ، فيرتفع الفسق بالتوبة ،
ويبقى مردود الشهادة. وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته ، وإن تاب ، إلا أن
يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ؛ فحينئذ تقبل شهادته.
وأنا أختار هذا
الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف. وبذلك
يمحي آخر أثر للقذف. ولا يقال : إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة!
ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا ؛ ولكن القاذف لم يجد
بقية الشهود .. بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما ، ويرد له اعتباره من الوجهة
الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ؛ فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف
المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان.
ذلك حكم القذف
العام. ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته. فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء
فيه إرهاق له وإعنات. والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من
التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه. لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص :
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ.
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ،
وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ
لَمِنَ الْكاذِبِينَ ، وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ. وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ
تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ..
وفي هذه النصوص
تيسير على الأزواج ، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف. ذلك حين يطلع الزوج على فعلة
زوجته ؛ وليس له من شاهد إلا نفسه. فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في
دعواه عليها بالزنا ، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
وتسمى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد. فإذا فعل أعطاها قدر مهرها ، وطلقت منه طلقة
بائنة ، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم .. ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها
عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ؛ وتحلف يمينا خامسة بأن
غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة .. بذلك يدرأ عنها الحد ، وتبين من زوجها
بالملاعنة ؛ ولا ينسب ولدها ـ إن كانت حاملا ـ إليه بل إليها. ولا يقذف الولد ومن
يقذفه يحد ..
وقد عقب على
هذا التخفيف والتيسير ، ومراعاة الأحوال والظروف بقوله :
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ..
ولم يبين ما
الذي كان يكون لو لا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات ، وبالتوبة بعد مقارفة
الذنوب .. لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا ، يتقيه المتقون. والنص يوحي بأنه شر عظيم.
وقد وردت
روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم :
روى الامام
أحمد ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار ـ رضي الله عنه ـ : أهكذا
أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟» فقالوا
: يا رسول الله لا تلمه ، فإنه رجل غيور. والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، وما طلق
امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته .. فقال سعد : والله يا رسول
الله إني لأعلم أنها لحق ، وأنها من الله ؛ ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد
تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء. فو الله إني لا
آتي بهم حتى يقضي حاجته .. قال : فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية ، فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا ، فرأى
بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء ، فوجدت عندها رجلا ، فرأيت بعيني
وسمعت بأذني .. فكره رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما جاء به ؛ واشتد عليه ؛ واجتمعت عليه الأنصار وقالوا : قد ابتلينا بما
قال سعد بن عبادة ، إلا أن يضرب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هلال بن أمية ، ويبطل شهادته في الناس. فقال هلال : والله إني لأرجو أن
يجعل الله منها مخرجا. وقال هلال : يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت
به ، والله يعلم إني لصادق .. فو الله إن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الوحي. وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه. (يعني فأمسكوا
عنه حتى فرغ من الوحي) فنزلت : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ ...) الآية» فسري عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا» .. فقال هلال : قد
كنت أرجو ذلك من ربي عزوجل. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أرسلوا إليها» فأرسلوا إليها فجاءت ؛ فتلاها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عليهما ، فذكرهما ، وأخبرهما أن
__________________
عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا. فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت
عليها. فقالت : كذب. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لاعنوا بينهما» .. فقيل لهلال : اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن
الصادقين. فلما كانت الخامسة قيل له. يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من
عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. فقال : والله لا يعذبني
الله عليها كما لم يجلدني عليها. فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين .. ثم قيل للمرأة. اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. وقيل لها
عند الخامسة : اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. وإن هذه الموجبة
التي توجب عليك العذاب. فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف. ثم قالت : والله لا أفضح
قومي. فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .. ففرق رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ بينهما ؛ وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ؛ ولا يرمى ولدها ؛ ومن رمى ولدها
فعليه الحد ؛ وقضى أن لا بيت لها عليه ، ولا قوت لها ، من أجل أنهما يفترقان من
غير طلاق ولا متوفى عنها. وقال : «إن جاءت به ، أصيهب أريسح حمش الساقين فهو لهلال .. وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به» .. فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج
الساقين سابغ الأليتين. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن» ..
وهكذا جاء هذا
التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل ، وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين ؛ قد
اشتد على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يجد منه مخرجا ، حتى طفق يقول لهلال بن أمية ـ كما ورد في رواية
البخاري ـ «البينة أو حد في ظهرك» وهلال يقول : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على
امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟
ولقد يقول قائل
: أليس الله ـ سبحانه ـ يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ؛ فلما
ذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج؟
والجواب : بلى
إنه سبحانه ليعلم. ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه ،
فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه ، وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة. ومن ثم عقب عليه
بقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).
ونقف قليلا
أمام هذه الواقعة ، لنرى كيف صنع الإسلام ، وكيف صنعت تربية رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للناس بهذا القرآن .. كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة
الانفعال ، المتحمسة التي لا تفكر
__________________
طويلا قبل الاندفاع. فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف ، فيشق على هذه النفوس.
يشق عليها حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت.
ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في
حالة معينة في فراشه. وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله : والله يا رسول الله
إني لأعلم أنها لحق ، وأنها من الله ؛ ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها
رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فو الله إني لا آتي بهم
حتى يكون قد قضى حاجته!
وما يلبث هذا
التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله .. ما يلبث أن يتحقق .. فهذا
رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ، ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ؛ فيغلب مشاعره
، ويغلب وراثاته ، ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ؛ ويكبح غليان دمه ،
وفوران شعوره ، واندفاع أعصابه .. ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو جهد شاق مرهق ؛ ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا
يكون حكم إلا لله ، في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة.
كيف أمكن أن
يحدث هذا؟ لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم ، وأنهم في كنف الله ، وأن الله
يرعاهم ، ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا ، ولا يتركهم عند ما يتجاوز الأمر طاقتهم ، ولا
يظلمهم أبدا. كانوا يعيشون دائما في ظل الله ، يتنفسون من روح الله ، ويتطلعون
إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم .. فها هو ذا هلال بن أمية
يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ، وهو وحده ؛ فيشكو إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلا يجد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مناصا من تنفيذ حد الله ، وهو يقول له : «البينة. أو حد في ظهرك» ولكن
هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد ، وهو صادق في دعواه. فإذا الله ينزل
ذلك الاستثناء في حالة الأزواج ؛ فيبشر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هلالا به ؛ فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن : قد كنت أرجو ذلك من ربي عزوجل .. فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله. والاطمئنان
أكثر إلى أنه معهم ، وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم ؛ إنما هم في حضرته ، وفي كفالته
.. وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله.
* * *
وبعد الانتهاء
من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف ، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ؛ وهو
يتناول بيت النبوة الطاهر الكريم ، وعرض رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أكرم إنسان على الله ، وعرض صديقه الصديق أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أكرم
إنسان على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعرض رجل من الصحابة ـ صفوان بن المعطل رضي الله عنه ـ يشهد رسول الله
أنه لم يعرف عليه إلا خيرا .. وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان ..
ذلك هو حديث
الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع :
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ، وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ، وَقالُوا : هذا
إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ! فَإِذْ لَمْ
يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ
فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ،
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ؛ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ :
ما يَكُونُ
لَنا
أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا. سُبْحانَكَ! هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ
تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ
فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ؛ وَلكِنَّ اللهَ
يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ. وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ. الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ،
وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ، أُولئِكَ
مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ..)
هذا الحادث.
حادث الإفك. قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ؛ وكلف الأمة
المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ؛ وعلق قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقلب زوجه عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ، وقلب صفوان بن
المعطل .. شهرا كاملا. علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.
فلندع عائشة ـ رضي
الله عنها ـ تروي قصة هذا الألم ، وتكشف عن سر هذه الآيات :
عن الزهري عن
عروة وغيره عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
كان رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ وإنه
أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي ، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل
في هودج ، وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ؛ فقمت حين
آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري
، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل
الرهط الذين كانوا يرحلونني ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أني
فيه ؛ وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام ؛
فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فحملوه ؛ وكنت جارية حديثة السن ؛ فبعثوا
الجمل وساروا ، فوجدت عقدي ، بعد ما استمر الجيش ، فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد
منهم ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ؛ فبينما
أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي. ثم الذكواني. قد عرس
وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ؛ فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين
رآني. وكان يراني قبل الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي
؛ والله ما يكلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ؛ وهوى حتى أناخ راحلته
، فوطئ على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش ، بعد ما
نزلوا معرسين. قالت : فهلك في شأني من هلك. وكان الذي تولى كبر
__________________
الإثم عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فقدمنا المدينة ، فاشتكيت بها شهرا ؛
والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من
النبي صلىاللهعليهوسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم
يقول : كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر حتى نقهت ،
فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك
قبل أن نتخذ الكنف ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط. فأقبلت أنا وأم
مسطح ـ وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي
بكر الصديق رضي الله عنه ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ـ حين فرغنا من
شأننا نمشي. فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح! فقلت لها : بئسما قلت. أتسبين
رجلا شهد بدرا؟ فقالت : يا هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول
أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : كيف تيكم؟ فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي. وأنا حينئذ أريد أن أستيقن
الخبر من قبلهما. فأذن لي ، فأتيت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس
به؟ فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند
رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. فقلت : سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟
قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي.
فدعا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ حين استلبث الوحي
يستشيرهما في فراق أهله. قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ،
وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم
والله إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ،
والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تخبرك. قالت : فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بريرة فقال لها : أي بريرة. هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت :
لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين
أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله. قالت : فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم من يومه ، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال
وهو على المنبر : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فو الله ما علمت على أهلي
إلا خيرا. ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا
معي. قالت : فقام سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا رسول الله أنا والله أعذرك منه. إن كان من
الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام
سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ولكن أخذته
الحمية. فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام
أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ـ لعمر
الله ـ لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان ـ الأوس
__________________
والخزرج ـ حتى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي
دمع ، ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم.
فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما
هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي
معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم جلس ، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها
، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد حين جلس ، ثم قال : «أما بعد
فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب
فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله
تعالى عليه». فلما قضى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة. فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما قال. قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ. قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن. فقلت : إني
والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ، واستقر في نفوسكم ، وصدقتم به. فلئن
قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه
بريئة ، لتصدقنني. فو الله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ
عَلى ما تَصِفُونَ). ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم
أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله
تعالى في شأني وحيا يتلى ؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ
بأمر يتلى ؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فو الله ما رام مجلسه ، ولا خرج
أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، فسري عنه ، وهو يضحك ، فكان أول كلمة
تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك. فقالت لي أمي :
قومي إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل
براءتي. فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) ... العشر الآيات» فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي
قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه
وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ فأنزل
الله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ..) إلى قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بلى والله إني لأحب أن
يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ، وقال : والله لا أنزعها
منه أبدا. قالت عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقال : «يا زينب. ما علمت وما رأيت؟» فقالت :
يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا. وهي التي كانت
تساميني من أزواج النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فعصمها الله تعالى بالورع. قالت : فطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت
فيمن هلك من أصحاب الإفك .
__________________
وهكذا عاش رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأهل بيته. وعاش أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وأهل بيته. وعاش صفوان بن
المعطل. وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق ، وفي ظل تلك
الآلام الهائلة ، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات.
وإن الإنسان
ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة. وهي فتاة صغيرة
في نحو السادسة عشرة. تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيفة.
فها هي ذي
عائشة الطيبة الطاهرة. ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها ، ونظافة تصوراتها. ها
هي ذي ترمى في أعز ما تعتز به. ترمى في شرفها. وهي ابنة الصديق الناشئة في العش
الطاهر الرفيع. وترمى في أمانتها. وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم.
وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير .. ثم ترمى في
إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام ، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على
الحياة. وهي زوج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم.
ها هي ذي ترمى
، وهي بريئة غارة غافلة ، لا تحتاط لشيء ، ولا تتوقع شيئا ؛ فلا تجد ما يبرئها إلا
أن ترجو في جناب الله ، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا ، تبرئها مما رميت به. ولكن
الوحي يتلبث ، لحكمة يريدها الله ، شهرا كاملا ؛ وهي في مثل هذا العذاب.
ويا لله لها
وهي تفاجأ بالنبإ من أم مسطح. وهي مهدودة من المرض ، فتعاودها الحمى ؛ وهي تقول
لأمها في أسى : سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل : وقد علم
به أبي؟ فتجيب أمها : نعم! فتقول : ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ؟ ـ فتجيبها أمها كذلك : نعم!
ويا لله لها
ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه ، يقول لها : «أما بعد فإنه بلغني عنك
كذا وكذا ؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله
تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» .. فتعلم أنه
شاك فيها ، لا يستيقن من طهارتها ، ولا يقضي في تهمتها. وربه لم يخبره بعد ، ولم
يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ؛ فتمسي وتصبح وهي متهمة في
ذلك القلب الكبير الذي أحبها ، وأحلها في سويدائه!
وها هو ذا أبو
بكر الصديق ـ في وقاره وحساسيته وطيب نفسه ـ يلذعه الألم ، وهو يرمى في عرضه. في
ابنته زوج محمد ـ صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه ، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق
القلب المتصل ، لا يطلب دليلا من خارجه .. وإذا الألم يفيض على لسانه ، وهو الصابر
المحتسب القوي على الألم ، فيقول : والله ما رمينا بهذا في جاهلية. أفنرضى به في
الإسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل. حتى إذا قالت له ابنته المريضة
المعذبة : أجب عني رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال في مرارة هامدة : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم!
وأم رومان ـ زوج
الصديق رضي الله عنهما ـ وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء. المريضة التي
تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها. فتقول لها : يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فو
الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها .. ولكن
هذا التماسك يتزايل وعائشة تقول لها : أجيبي عني رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فتقول كما قال زوجها من قبل : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلىاللهعليهوسلم!
والرجل المسلم
الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل. وهو يرمى بخيانة نبيه في
زوجه. فيرمى بذلك في إسلامه ، وفي أمانته ، وفي شرفه ، وفي حميته. وفي كل ما يعتز
به صحابي ، وهو من ذلك كله بريء. وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره ،
فيقول : سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا
الإفك عنه ، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به. ودافعه
إلى رفع سيفه على امرئ مسلم ، وهو منهي عنه ، أن الألم قد تجاوز طاقته ، فلم يملك
زمام نفسه الجريح!
ثم ها هو ذا
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو رسول الله ، وهو في الذروة من بني هاشم .. ها هو ذا يرمى في بيته.
وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجة والحبيبة. وها هو ذا
يرمى في طهارة فراشه ، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة. وها هو ذا يرمى في صيانة
حرمته ، وهو القائم على الحرمات في أمته. وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له ، وهو
الرسول المعصوم من كل سوء.
ها هو ذا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة ـ رضي الله عنها ـ يرمى في فراشه وعرضه
، وقلبه ورسالته. يرمى في كل ما يعتز به عربي ، وكل ما يعتز به نبي .. ها هو ذا
يرمى في هذا كله ؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا ، فلا يملك أن يضع لهذا
كله حدا. والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا.
ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم. يعاني من العار ،
ويعاني فجيعة القلب ؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة. الوحشة من نور الله الذي
اعتاد أن ينير له الطريق .. والشك يعمل في قلبه ـ مع وجود القرائن الكثيرة على
براءة أهله ، ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن ـ والفرية تفوح في المدينة ،
وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ؛ فلا يملك أن يطرد الشك. لأنه في
النهاية بشر ، ينفعل في هذا انفعالات البشر. وزوج لا يطيق أن يمس فراشه. ورجل
تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت ، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.
وها هو ذا يثقل
عليه العبء وحده ، فيبعث إلى أسامة بن زيد. حبه القريب إلى قلبه .. ويبعث إلى علي
ابن أبي طالب. ابن عمه وسنده. يستشيرهما في خاصة أمره. فأما علي فهو من عصب محمد ،
وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب. ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران
قلب محمد ، ابن عمه وكافله. فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه. ويشير مع هذا بالتثبت
من الجارية ليطمئن قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويستقر على قرار. وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الود لأهله ، والتعب لخاطر الفراق ، فيشير بما يعلمه من طهارة أم
المؤمنين ، وكذب المفترين الأفاكين.
ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في لهفة الإنسان ، وفي قلق الإنسان ، يستمد من حديث أسامة ، ومن شهادة
الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد ، فيستعذر ممن نالوا عرضه ، ورموا
أهله ، ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء .. فيقع بين الأوس
والخزرج ما يقع من تناور ـ وهم في مسجد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفي حضرة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة
، وقد خدشت قداسة القيادة ، ويحز هذا في نفس الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة
نفسها يصارحها بما يقول الناس ؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!
وعند ما تصل
الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه ، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة
الصديقة
الطاهرة ؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا
هذا الإفك ، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن
العظيم.
ولقد قالت
عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل : «وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة ، وأن الله
تعالى مبرئي ببراءتي. ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا
يتلى. ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن
يرى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها» ..
ولكن الأمر ـ كما
يبدو من ذلك الاستعراض ـ لم يكن أمر عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولا قاصرا على شخصها.
فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ووظيفته في الجماعة يومها. بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها. وما
كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها ، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها
.. من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة ، ويرد المكيدة المدبرة
، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام ؛ ويكشف عن الحكمة العليا وراء
ذلك كله ؛ وما يعلمها إلا الله :
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ. وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ).
فهم ليسوا فردا
ولا أفرادا ؛ إنما هم «عصبة» متجمعة ذات هدف واحد. ولم يكن عبد الله بن أبي بن
سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود
أو المنافقين ، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة ؛ فتواروا وراء ستار الإسلام
ليكيدوا للإسلام خفية. وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خدع فيها
المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ؛ وحسان بن ثابت ، ومسطح
بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة ، وعلى رأسها ابن سلول ، الحذر
الماكر ، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة. ولم يقل علانية ما يؤخذ به ، فيقاد إلى
الحد. إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم ، ولا يشهدون عليه. وكان
التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا ، وأن تتداوله
الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!
وقد بدأ السياق
ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ، وعمق جذوره ، وما وراءه من عصبة تكيد
للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم.
ثم سارع بتطمين
المسلمين من عاقبة هذا الكيد :
(لا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ ؛ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ..
خير. فهو يكشف
عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأهل بيته. وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين
بالحد الذي فرضه الله ؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها
الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. فهي عندئذ لا تقف عند حد. إنما تمضي
صعدا إلى أشرف المقامات ، وتتطاول إلى أعلى الهامات ، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل
تحرج وكل حياء.
وهو خير أن
يكشف الله للجماعة المسلمة ـ بهذه المناسبة ـ عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا
الأمر العظيم.
أما الآلام
التي عاناها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأهل بيته ، والجماعة المسلمة كلها ، فهي ثمن
التجربة ، وضريبة الابتلاء ، الواجبة الأداء!
أما الذين
خاضوا في الإفك ، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ
مِنَ الْإِثْمِ) .. ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. وبئس ما
اكتسبوه ، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.
والذي تولى
كبره ، وقاد حملته ، واضطلع منه بالنصيب الأوفى ، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول.
رأس النفاق ، وحامل لواء الكيد. ولقد عرف كيف يختار مقتلا ، لو لا أن الله كان من
ورائه محيطا ، وكان لدينه حافظا ، ولرسوله عاصما ، وللجماعة المسلمة راعيا .. ولقد
روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال :
من هذه؟ فقالوا : عائشة رضي الله عنها .. فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها.
وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ؛ ثم جاء يقودها!
وهي قولة خبيثة
راح يذيعها ـ عن طريق عصبة النفاق ـ بوسائل ملتوية. بلغ من خبثها أن تموج المدينة
بالفرية التي لا تصدق ، والتي تكذبها القرائن كلها. وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير
متحرجين. وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا. وهي الفرية الجديرة بأن تنفى
وتستبعد للوهلة الأولى.
وإن الإنسان
ليدهش ـ حتى اليوم ـ كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة
حينذاك. وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة ، وتسبب هذه الآلام القاسية
لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق.
لقد كانت معركة
خاضها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك. وخاضها الإسلام. معركة ضخمة لعلها أضخم
المعارك التي خاضها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار ، محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه
وجميل صبره. فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله. والآلام
التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته. والخطر على الإسلام من تلك
الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه.
ولو استشار كل
مسلم قلبه يومها لأفتاه ؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه. والقرآن الكريم يوجه
المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور ، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها :
(لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ،
وَقالُوا : هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) ..
نعم كان هذا هو
الأولى .. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في
مثل هذه الحمأة .. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم.
فظن الخير بهما أولى. فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا .. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن
زيد الأنصاري وامرأته ـ رضي الله عنهما ـ كما روى الإمام محمد ابن إسحاق : أن أبا
أيوب قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ـ رضي
الله عنها؟ ـ قال : نعم. وذلك الكذب. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله
ما كنت لأفعله. قال : فعائشة والله خير منك .. ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري
في تفسيره : «الكشاف» أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال؟
فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سوءا؟ قال : لا. قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ـ رضي الله عنها ـ
ما خنت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك ..
وكلتا
الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه ، فاستبعد أن يقع
ما نسب إلى عائشة ، وما نسب إلى رجل من المسلمين : من معصية لله وخيانة لرسوله ،
وارتكاس في حمأة الفاحشة ، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!
هذه هي الخطوة
الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور. خطوة الدليل الباطني
الوجداني. فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي :
(لَوْ لا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ! فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ
عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) .. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات ،
وأطهر الأعراض ، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة ؛ وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا
بينة ؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَداءَ!) وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن. كاذبون عند الله الذي لا
يبدل القول لديه ، والذي لا يتغير حكمه ، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة
الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها ، ولا نجاة لهم من عقباها.
هاتان الخطوتان
: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير. وخطوة التثبت بالبينة والدليل .. غفل
عنهما المؤمنون في حادث الإفك ؛ وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو أمر عظيم لو لا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم. فالله
يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم :
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ..
لقد احتسبها
الله للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا. فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه
وعذابه. فهي فعلة تستحق العذاب العظيم. العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه
للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرا. والعذاب الذي يتناسب مع
الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع ؛ ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة
الجماعة. والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة
لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل ، حافل
بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة ، ورحمته
شملت المخطئين ، بعد الدرس الأليم.
والقرآن يرسم
صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ؛ واختلت فيها المقاييس ، واضطربت فيها
القيم ، وضاعت فيها الأصول :
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
، وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ، وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً ، وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) ..
وهي صورة فيها
الخفة والاستهتار وقلة التحرج ، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام
:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) .. لسان يتلقى عن لسان ، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا
إنعام نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان ، ولا تتملاه الرؤوس ، ولا تتدبره
القلوب! (وَتَقُولُونَ
بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم. إنما هي
كلمات تقذف بها الأفواه ، قبل أن تستقر في المدارك ، وقبل أن تتلقاها العقول .. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أن تقذفوا عرض رسول الله ، وأن تدعوا الألم
يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في
الجاهلية ؛ وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله. وأن تمسوا عصمة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وصلته بربه ، ورعاية الله له .. (وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً) .. (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ
عَظِيمٌ) .. وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له
الرواسي ، وتضج منه الأرض والسماء.
ولقد كان ينبغي
أن تجفل القلوب من مجرد سماعه ، وأن تتحرج من مجرد النطق به ، وأن تنكر أن يكون
هذا موضوعا للحديث ؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا ؛ وأن تقذف
بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم :
(وَلَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ : ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا. سُبْحانَكَ!
هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) ..
وعند ما تصل
هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزا ؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما
عملت .. عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم :
(يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ..
(يَعِظُكُمُ) .. في أسلوب التربية المؤثر. في أنسب الظروف للسمع
والطاعة والاعتبار. مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَداً) .. ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .. فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا
الكشف ، وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير ، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون :
(وَيُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ) .. على مثال ما بين في حديث الإفك ، وكشف عما وراءه من
كيد ؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء : (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف ؛ ويعلم مداخل
القلوب ، ومسارب النفوس. وهو حكيم في علاجها ، وتدبير أمرها ، ووضع النظم والحدود
التي تصلح بها ..
* * *
ثم يمضي في
التعقيب على حديث الإفك ؛ وما تخلف عنه من آثار ؛ مكررا التحذير من مثله ، مذكرا
بفضل الله ورحمته ، متوعدا من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في
الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة ؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض ،
وإعادة الصفاء إليها والإشراق .. كما تتمثل في موقف أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من
قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ..
والذين يرمون
المحصنات ـ وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم ـ إنما يعملون
على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة ؛ وعلى إزالة التحرج من
ارتكاب الفاحشة ، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها .. بذلك تشيع
الفاحشة في النفوس ، لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا وصف
الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وتوعدهم
بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
وذلك جانب من
منهج التربية ، وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم على خبرة بالنفس البشرية ، ومعرفة
بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها .. ومن ثم يعقب بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) .. ومن ذا الذي
يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية
إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن ، ولا يخفى على علمه شيء إلا
العليم الخبير؟
ومرة أخرى يذكر
المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته :
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ..
إن الحديث
لعظيم ، وإن الخطأ لجسيم ، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة
كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته ، ورأفته ورعايته .. ذلك ما وقاهم السوء .. ومن
ثم يذكرهم به المرة بعد المرة ؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة
المسلمين.
فإذا تمثلوا أن
ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا ، لو لا فضل الله ورحمته ، صور لهم
عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان. وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم
من قديم. وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ؛ وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ؛
وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..
وإنها لصورة
مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه ، وهم أجدر الناس أن ينفروا من
الشيطان وأن يسلكوا طريقا غير طريقة المشئوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن ،
ويرتجف لها وجدانه ، ويقشعر لها خياله! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير
في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية : (وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) .. وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه
المؤمنين الذين خاضوا فيه. وهو نموذج منفر شنيع.
وإن الإنسان
لضعيف ، معرض للنزعات ، عرضة للتلوث. إلا أن يدركه فضل الله ورحمته. حين يتجه إلى
الله ، ويسير على نهجه.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً. وَلكِنَّ
اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ..
فنور الله الذي
يشرق في القلب يطهره ويزكيه. ولو لا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر.
والله يسمع ويعلم ، فيزكي من يستحق التزكية ، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..
وعلى ذكر
التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض ـ كما
يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب ـ :
(وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ؛ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ؟ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ..
نزلت في أبي
بكر ـ رضي الله عنه ـ بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة. وقد عرف أن مسطح بن أثاثة
كان ممن خاضوا فيه. وهو قريبه. وهو من فقراء المهاجرين. وكان أبو بكر ـ رضي الله
عنه ـ ينفق عليه. فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا.
نزلت هذه الآية
تذكر أبا بكر ، وتذكر المؤمنين ، بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا
أنفسهم ـ بعضهم مع بعض ـ بهذا الذي يحبونه ، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه
، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا ..
وهنا نطلع على
أفق عال من آفاق النفوس الزكية ، التي تطهرت بنور الله. أفق يشرق في نفس أبي بكر
الصديق ـ رضي الله عنه ـ أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه ، والذي احتمل
مرارة الاتهام لبيته وعرضه. فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ؛ وما يكاد يلمس
وجدانه ذلك السؤال الموحي : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ؟) حتى يرتفع على الآلام ، ويرتفع على مشاعر الإنسان ،
ويرتفع على منطق البيئة. وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله. فإذا هو يلبي داعي
الله في طمأنينة وصدق يقول : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح
النفقة التي كان ينفق عليه ، ويحلف : والله لا أنزعها منه أبدا. ذلك في مقابل ما
حلف : والله لا أنفعه بنافعة أبدا.
بذلك يمسح الله
على آلام ذلك القلب الكبير ، ويغسله من أوضار المعركة ، ليبقى أبدا نظيفا طاهرا
زكيا مشرقا بالنور ..
* * *
ذلك الغفران
الذي يذكر الله المؤمنين به. إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة
الفاحشة في الذين آمنوا. فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار ، كأمثال ابن
أبيّ فلا سماحة ولا عفو. ولو أفلتوا من الحد في الدنيا ، لأن الشهود لم يشهدوا فإن
عذاب الله ينتظرهم في الآخرة. ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ) ..
ويجسم التعبير
جريمة هؤلاء ويبشعها ؛ وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارّات ، غير
آخذات حذرهن من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا ، لأنهن لم
يأتين شيئا يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم
يعاجل مقتر فيها باللعنة. لعنة الله لهم ، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة. ثم
يرسم ذلك المشهد الأخاذ : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) .. فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق ، إذ كانوا يتهمون
المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة ، على طريقة
التناسق الفني في التصوير القرآني.
(يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) .. ويجزيهم جزاءهم العدل ، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق.
ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ
اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) ..
* * *
ويختم الحديث
عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة ، وحققه في واقع
الناس. وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة ، وأن تمتزج النفس الطيبة
بالنفس الطيبة. وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج. وما كان يمكن أن تكون عائشة ـ
رضي الله عنها ـ كما رموها ، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض :
(الْخَبِيثاتُ
لِلْخَبِيثِينَ ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ. وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ،
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ. أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ، لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ..
ولقد أحبت نفس
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عائشة حبا عظيما. فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه
المعصوم ، إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم.
أولئك الطيبون
والطيبات (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا
يَقُولُونَ) بفطرتهم وطبيعتهم ، لا يلتبس بهم شيء مما قيل.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) .. مغفرة عما يقع منهم من أخطاء. ورزق كريم. دلالة على
كرامتهم عند ربهم الكريم.
بذلك ينتهي
حديث الإفك. ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة. إذ كانت محنة
الثقة في طهارة بيت الرسول ، وفي عصمة الله لنبيه أن يجعل في بيته إلا العنصر
الطاهر الكريم. وقد جعلها الله معرضا لتربية الجماعة المسلمة ، حتى تشف وترف ؛
وترتفع إلى آفاق النور .. في سورة النور ..
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ
أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)
وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا
تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ
عَلَى
الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٣٣) وَلَقَدْ
أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)
(٣٤)
إن الإسلام ـ كما
أسلفنا ـ لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف ، إنما يعتمد قبل كل شيء
على الوقاية. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية. ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف
الخالي من المثيرات المصطنعة.
والفكرة
السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية ، هي تضييق فرص الغواية ،
وإبعاد عوامل الفتنة ؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة. مع إزالة العوائق
دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة ..
ومن هنا يجعل
للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها ؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم
إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول ، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت ، وعلى
عورات أهلها وهم غافلون .. ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء ، وعدم التبرج
بالزينة لإثارة الشهوات.
ومن هنا كذلك
ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء. فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء .. وينهى
عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة ، فتغري بيسرها وسهولتها
بالفحشاء.
فلننظر نظرة
تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ : ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ
، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ. وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ
وَما تَكْتُمُونَ) ..
لقد جعل الله
البيوت سكنا ، يفيء إليها الناس ؛ فتسكن أرواحهم ؛ وتطمئن نفوسهم ؛ ويأمنون على
عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب!
والبيوت لا
تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم. وفي الوقت
الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.
ذلك إلى أن
استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، يجعل أعينهم تقع على عورات ، وتلتقي
بمفاتن تثير الشهوات ، وتهيّئ الفرصة للغواية ، الناشئة من اللقاءات العابرة
والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي
أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد
بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في
الجاهلية يهجمون هجوما ، فيدخل الزائر البيت ، ثم يقول : لقد دخلت! وكان يقع أن
يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد. وكان يقع أن
تكون المرأة عارية
أو مكشوفة العورة ، هي أو الرجل. وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويحرم البيوت أمنها
وسكينتها ؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ، حين تقع العين على ما يثير.
من أجل هذا
وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي. أدب الاستئذان على البيوت. والسلام على
أهلها لإيناسهم ، وإزالة الوحشة من نفوسهم ، قبل الدخول :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ..
ويعبر عن
الاستئذان بالاستئناس ـ وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ، ولطف الطريقة التي يجيء
بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسابه ، واستعدادا لاستقباله. وهي لفتة
دقيقة لطيفة ، لرعاية أحوال النفوس ، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ، وما يلابسها
من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار.
وبعد الاستئذان
إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون. فإن لم يكن فيها أحد فلا يجوز
اقتحامها بعد الاستئذان ، لأنه لا دخول بغير إذن :
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ..
وإن كان فيها
أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول ؛ فإنما هو طلب للإذن. فإن لم
يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك. ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار :
(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
: ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) ..
ارجعوا دون أن
تجدوا في أنفسكم غضاضة. ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم ، أو النفرة
منكم. فللناس أسرارهم وأعذارهم. ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم
في كل حين.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) .. فهو المطلع على خفايا القلوب ؛ وعلى ما فيها من
دوافع ومثيرات.
فأما البيوت
العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن ، فلا حرج في
الدخول إليها بغير استئذان ، دفعا للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية :
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) ..
(وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) .. فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم ؛
ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم. وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب ، وامتثالها
لذلك الأدب العالي ، الذي يأخذها الله به في كتابه ، الذي يرسم للبشرية نهجها
الكامل في كل اتجاه.
إن القرآن
منهاج حياة. فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية ، ويمنحها هذه العناية ،
لأنه يعالج الحياة كليا وجزئيا ، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا
بهذا العلاج. فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة
وسكنا. ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة ، والضيق بالمباغتة ، والتأذي بانكشاف
العورات .. وهي عورات كثيرة ، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة ..
إنها ليست عورات البدن وحدها. إنما تضاف إليها عورات الطعام ، وعورات اللباس ،
وعورات الأثاث ، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل
وإعداد. وهي عورات المشاعر والحالات النفسية ،
فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر ، أو يغضب
لشأن مثير ، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟!
وكل هذه
الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع ، أدب الاستئذان ؛ ويرعى معها
تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة ، التي طالما أيقظت في النفوس كامن
الشهوات والرغبات ؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات ، يدبرها الشيطان ، ويوجهها
في غفلة عن العيون الراعية ، والقلوب الناصحة ، هنا أو هناك!
ولقد وعاها
الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات. وبدأ بها رسول الله ـ عليه
الصلاة والسلام.
أخرج أبو داود
والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي ـ بإسناده ـ عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال :
زارنا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في منزلنا فقال : «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد ردا خفيا. قال قيس :
فقلت : ألا تأذن لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ؟ فقال : دعه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «السلام عليكم ورحمة الله». فرد سعد ردا خفيا. ثم قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «السلام عليكم ورحمة الله». ثم رجع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأتبعه سعد فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا
لتكثر علينا من السلام ـ فقال : فانصرف معه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمر له سعد بغسل فاغتسل ؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس ، فاشتمل بها ، ثم رفع رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يديه ، وهو يقول : «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» ...
إلخ الحديث.
وأخرج أبو داود
ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن بشر قال : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ؛ ولكن من ركنه الأيمن أو
الأيسر ، ويقول : «السلام عليكم. السلام عليكم». ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها
ستور.
وروى أبو داود
كذلك ـ بإسناده ـ عن هذيل قال : جاء رجل ـ قال عثمان : سعد ـ فوقف على باب النبي ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ يستأذن. فقام على الباب ـ قال عثمان : مستقبل الباب ـ فقال له النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر».
وفي الصحيحين
عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما
كان عليك من جناح».
وروى أبو داود ـ
بإسناده ـ عن ربعي قال : أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو في بيته فقال : أألج؟ فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لخادمه : «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم. أأدخل؟»
فسمعها الرجل فقال : السلام عليكم. أأدخل؟ فأذن له النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فدخل.
وقال هشيم :
قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة ، وقد آذاه الرمضاء ؛ فأتى فسطاط
امرأة
__________________
من قريش ، فقال : السلام عليكم. أأدخل؟ قالت : ادخل بسلام. فأعاد. فأعادت.
وهو يراوح بين قدميه. قال : قولي : ادخل. قالت : ادخل. فدخل!
وروى عطاء بن
رباح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ، قال : قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري
معي في بيت واحد؟ قال : نعم. فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها
عريانة؟ قلت : لا. قال : فاستأذن. قال : فراجعته أيضا. فقال : أتحب أن تطيع الله؟
قال : قلت : نعم. قال : فاستأذن.
وجاء في الصحيح
عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا .. وفي رواية : ليلا يتخونهم.
وفي حديث آخر
أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قدم المدينة نهارا ، فأناخ بظاهرها وقال : «انتظروا حتى ندخل عشاء ـ يعني
آخر النهار ـ حتى تمتشط الشعثة ، وتستحد المغيبة».
إلى هذا الحد
من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وصحابته ، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء ، المشرق بنور
الله.
ونحن اليوم مسلمون
، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت. وإن الرجل ليهجم على أخيه في
بيته ، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار ، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبدا
حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له. وقد يكون في البيت هاتف «تليفون» يملك أن يستأذن
عن طريقه ، قبل أن يجيء ، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب ؛ ولكنه يهمل هذا
الطريق ليهجم في غير أوان ، وعلى غير موعد. ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت ـ وقد
جاء ـ مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار! ونحن اليوم مسلمون ،
ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام. فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في
أنفسنا من ذلك شيئا! ونطرقهم في الليل المتأخر ، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم
وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك!
ذلك أننا لا
نتأدب بأدب الإسلام ؛ ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنما نحن عبيد لعرف خاطئ ، ما أنزل الله به من سلطان!
ونرى غيرنا ممن
لم يعتنقوا الإسلام ، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون
أدبا لنا في النفس ، وتقليدا من تقاليدنا في السلوك. فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا
؛ ونتندر به أحيانا. ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل ، فنفيء إليه مطمئنين.
* * *
وبعد الانتهاء
من أدب الاستئذان على البيوت ـ وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء
أسباب الفتنة العابرة ـ يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها ، بدافع
النظر لمواضع الفتنة المثيرة ، وبدافع الحركة المعبرة ، الداعية إلى الغواية :
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ.
إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ).
__________________
(وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ : يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ،
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ؛ وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ آبائِهِنَّ ، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ
أَبْنائِهِنَّ ، أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ إِخْوانِهِنَّ ، أَوْ بَنِي
إِخْوانِهِنَّ ، أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ ، أَوْ نِسائِهِنَّ ، أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ،
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ. وَلا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. وَتُوبُوا
إِلَى اللهِ جَمِيعاً ـ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ـ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ..)
إن الإسلام
يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ، ولا تستثار فيه
دفعات اللحم والدم في كل حين. فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني
لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة ، والحركة المثيرة ، والزينة المتبرجة ،
والجسم العاري ... كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون!
وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد
وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن
تكون عملية تعذيب!!! وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون
هذه الاستثارة ، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين ، سليما ، وبقوته
الطبيعية ، دون استثارة مصطنعة ، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع في
وقت من الأوقات أن النظرة المباحة ، والحديث الطليق ، والاختلاط الميسور ،
والدعابة المرحة بين الجنسين ، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة .. شاع أن كل
هذا تنفيس وترويح ، وإطلاق للرغبات الحبيسة ، ووقاية من الكبت ، ومن العقد النفسية
، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي ، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... إلخ.
شاع هذا على
إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه
من الحيوان ، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! ـ وبخاصة نظرية
فرويد ـ ولكن هذا لم
يكن سوى فروض نظرية ، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود
الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية ، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم. شاهدت في
البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي ، والاختلاط الجنسي ، بكل صوره
وأشكاله ، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى
سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض
النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان ، وإلا من التلهف على
الجنس الآخر المحجوب ، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه .. ثمرة
مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد ؛ وللصداقات بين الجنسين
تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق ، وللحركات المثيرة
والنظرات الجاهرة ، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث
والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع
المشهود.
إن الميل
الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ؛ لأن الله قد ناط به امتداد
الحياة على هذه الأرض ؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم يسكن فترة
ثم يعود. وإثارته في كل حين تزيد من عرامته ؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول
على الراحة. فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة.
__________________
وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير. والحركة تثير. والضحكة
تثير. والدعابة تثير. والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير. والطريق المأمون هو
تقليل هذه الميثرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية. ثم يلبى تلبية طبيعية
.. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام. مع تهذيب الطبع ، وشغل الطاقة البشرية
بهموم أخرى في الحياة ، غير تلبية دافع اللحم والدم ، فلا تكون هذه التلبية هي
المنفذ الوحيد!
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من
تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين :
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ. ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ.
إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) ..
وغض البصر من
جانب الرجال أدب نفسي ، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن
والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة
والغواية. ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
وحفظ الفرج هو
الثمرة الطبيعية لغض البصر. أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة ، ويقظة الرقابة
، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى. ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة ؛
بوصفهما سببا ونتيجة ؛ أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم
الواقع. كلتاهما قريب من قريب.
(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) .. فهو أطهر لمشاعرهم ؛ وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات
الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف ، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط.
وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها ، وجوها الذي تتنفس فيه.
والله هو الذي
يأخذهم بهذه الوقاية ؛ وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري ، الخبير
بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما يَصْنَعُونَ) ..
(وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ : يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) ..
فلا يرسلن
بنظراتهن الجائعة المتلصصة ، أو الهاتفة المثيرة ، تستثير كوامن الفتنة في صدور
الرجال. ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب ، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ، لا يخجل
الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!
(وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) ..
والزينة حلال
للمرأة ، تلبية لفطرتها. فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة. والزينة
تختلف من عصر إلى عصر ؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال
أو استكماله ، وتجليته للرجال.
والإسلام لا
يقاوم هذه الرغبة الفطرية ؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها
إلى رجل واحد ـ هو شريك الحياة ـ يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه. ويشترك معه
في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم
ذلك الاطلاع.
فأما ما ظهر من
الزينة في الوجه واليدين ، فيجوز كشفه. لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأسماء بنت أبي بكر : «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن
يرى منها إلا هذا ـ
__________________
وأشار إلى وجهه وكفيه»
(وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) ..
والجيب فتحة
الصدر في الثوب. والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر. ليداري مفاتنهن ، فلا يعرضها
للعيون الجائعة ؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة ، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو
يعاودوها ، ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت
مكشوفة!
إن الله لا
يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء!
والمؤمنات
اللواتي تلقين هذا النهي. وقلوبهن مشرقة بنور الله ، لم يتلكأن في الطاعة ، على
الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية ـ
كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة! ـ تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء.
وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ، وأقرطة أذنيها. فلما أمر الله النساء أن يضربن
بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، كن كما قالت عائشة رضي
الله عنها ـ : «يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها » .. وعن صفية ـ بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة.
قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ إن لنساء قريش
لفضلا. وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقا لكتاب الله ، ولا
إيمانا بالتنزيل. لما نزلت في سورة النور : (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم
فيها ؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته. فما منهن امرأة
إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه.
فأصبحن وراء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ». لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي ، وطهر إحساسه
بالجمال ؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب ، بل الطابع الإنساني المهذب
.. وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ؛ مهما يكن من
التناسق والاكتمال. فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ، الذي يرفع الذوق الجمالي
، ويجعله لائقا بالإنسان ، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
وكذلك يصنع
الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات. على الرغم من هبوط الذوق العام ، وغلبة الطابع
الحيواني عليه ؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة! فإذا هن
يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات ، في مجتمع يتكشف ويتبرج ، وتهتف الأنثى فيه للذكور
حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان!
هذا التحشم
وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة .. ومن ثم يبيح القرآن تركه عند ما يأمن
الفتنة. فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم :
الآباء
والأبناء ، وآباء الأزواج وأبناؤهم ، والإخوة وأبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات ..
كما يستثني النساء المؤمنات : (أَوْ نِسائِهِنَّ) فأما غير المسلمات فلا. لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن
، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها. وفي الصحيحين : «لا
تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها» .. أما المسلمات فهن أمينات ،
يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها .. ويستثني
__________________
كذلك (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ) قيل من الإناث فقط ، وقيل : ومن الذكور كذلك. لأن
الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته. والأول أولى ، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة
الإنسان ، مهما يكن له من وضع خاص ؛ في فترة من الزمان .. ويستثني (التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) .. وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب
والعنة والبلاهة والجنون .. وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة. لأنه لا
فتنة هنا ولا إغراء .. ويستثني (الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) .. وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور
بالجنس. فإذا ميزوا ، وثار فيهم هذا الشعور ـ ولو كانوا دون البلوغ ـ فهم غير
داخلين في هذا الاستثناء.
وهؤلاء كلهم ـ عدا
الأزواج ـ ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها ، إلا ما تحت السرة إلى تحت
الركبة. لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء. فأما الزوج فله رؤية كل
جسدها بلا استثناء.
ولما كانت
الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء. فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي
تعلن عن الزينة المستورة ، وتهيج الشهوات الكامنة ، وتوقظ المشاعر النائمة. ولو لم
يكشفن فعلا عن الزينة :
(وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ..
وإنها لمعرفة
عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها. فإن الخيال ليكون أحيانا
أقوى في إثارة الشهوات من العيان. وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها
، أو حليها ، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته. كما أن كثيرين يثيرهم طيف
المرأة يخطر في خيالهم ، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم ـ وهي حالات
معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم ـ وسماع وسوسة الحلي أو شمام شذى العطر من
بعيد ، قد يثير حواس رجال كثيرين ، ويهيج أعصابهم ، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون
لها ردا.
والقرآن يأخذ
الطريق على هذا كله. لأن منزله هو الذي خلق ، وهو الذي يعلم من خلق. وهو اللطيف
الخبير.
وفي النهاية
يرد القلوب كلها إلى الله ؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن
:
(وَتُوبُوا إِلَى
اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
بذلك يثير
الحساسية برقابة الله ، وعطفه ورعايته ، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل
الفطري العميق ، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله ، وبتقواه ..
* * *
وإلى هنا كان
علاج المسألة علاجا نفسيا وقائيا. ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة ، لا بد من مواجهتها
بحلول واقعية إيجابية .. هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج ، والمعاونة عليه ؛
مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائيا :
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. إِنْ
يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ
ـ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ـ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ
؛ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ـ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ـ لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
إن الزواج هو
الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول
العميقة.
فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج ، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها.
والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت ، وتحصين النفوس. والإسلام
نظام متكامل ، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها ، وجعلها ميسورة للأفراد
الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور
عامدا غير مضطر.
لذلك يأمر الله
الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال :
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. إِنْ
يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ..
والأيامى هم
الذين لا أزواج لهم من الجنسين .. والمقصود هنا الأحرار. وقد أفرد الرقيق بالذكر
بعد ذلك : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ).
وكلهم ينقصهم
المال كما يفهم من قوله بعد ذلك : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ..
وهذا أمر
للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب. ودليلهم أنه قد وجد أيامى على
عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يزوجوا. ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم. ونحن نرى أن الأمر للوجوب ، لا
بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج ؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين
منهم في الزواج ، وتمكينهم من الإحصان ، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية ،
وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة. وهو واجب. ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع
في حسابنا ـ مع هذا ـ أن الإسلام ـ بوصفه نظاما متكاملا ـ يعالج الأوضاع
الاقتصادية. علاجا أساسيا ؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب ، وتحصيل
الرزق ، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال. ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت
المال ببعض الإعانات .. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد
بدخله. وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد. أما
الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في
الإسلام.
فإذا وجد في
المجتمع الإسلامي ـ بعد ذلك ـ أيامى فقراء وفقيرات ، تعجز مواردهم الخاصة عن
الزواج ، فعلى الجماعة أن تزوجهم. وكذلك العبيد والإماء. غير أن هؤلاء يلتزم
أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.
ولا يجوز أن
يقوم الفقر عائقا عن التزويج ـ متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء ـ فالرزق
بيد الله. وقد تكفل الله بإغنائهم ، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وقال رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد
الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ».
وفي انتظار
قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) .. (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) .. لا يضيق على من يبتغي العفة ، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه
الإسلام المشكلة مواجهة عملية ؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ؛ ولو كان
عاجزا من ناحية المال. والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان.
ولما كان وجود
الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوي الخلقي ، وأن يعين على
الترخص
__________________
والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية. وكان وجود الرقيق
ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان
الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما وأتت الفرصة. حتى تتهيأ
الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله ، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على
حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته :
(وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ. إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ..
وآراء الفقهاء
مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى ؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في
الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ، وأجر عمله له ،
ليوفي منه ما كاتب عليه ؛ ويجب له نصيب في الزكاة : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ). ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا. والخير هو
الإسلام أولا. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره. وقد
يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش ، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك
نظام واقع. فليس المهم أن يقال : إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي
تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد
عتقه ؛ فلم يكن كلا على الناس ؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها ، ويبيع فيها
ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من
جديد ؛ بما هو أشد وأنكى .
وأخطر من وجود
الرقيق في الجماعة ، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم
أمة أرسلها تزني ؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها ـ وهذا هو البغاء في صورته التي
ما تزال معروفة حتى اليوم ـ فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا
بصفة عامة ؛ وخص هذه الحالة بنص خاص :
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ. إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً. لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا. وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فنهى الذين
يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا
الوجه الخبيث. ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة. بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال السدي :
أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول ، رأس المنافقين ، وكانت له
جارية تدعى معاذة. وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه.
والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فشكت إليه ذلك ؛ فذكره
أبو بكر للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي : من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على
مملوكتنا! فأنزل الله فيهم هذا.
هذا النهي عن
إكراه الفتيات على البغاء ـ وهن يردن العفة ـ ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة
القرآن في تطهير البيئة الإسلامية. وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي. ذلك أن
وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في
محلها الكريم النظيف.
ولا عبرة بما
يقال من أن البغاء صمام أمن ، يحمي البيوت الشريفة ؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة
الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج. أو تهجم الذئاب المسعورة على
الأعراض المصونة ، إن لم تجد هذا الكلأ المباح!
__________________
إن في التفكير
على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج. فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها
إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة. وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث
يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج. فإن وجدت بعد ذلك
حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا .. وبذلك لا تحتاج إلى البغاء ، وإلى
إقامة مقاذر إنسانية ، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس ، فيلقي فيها
بالفضلات ، تحت سمع الجماعة وبصرها!
إن النظم
الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج ، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن. ولا يكون فسادها
حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة ، في صور آدمية ذليلة.
وهذا ما يصنعه
الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف ، الذي يصل الأرض بالسماء ، ويرفع البشرية
إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله.
* * *
ويعقب على هذا
الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه :
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ، وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) ..
فهو آيات
مبينات ، لا تدع مجالا للغموض والتأويل ، والانحراف عن النهج القويم.
وهو عرض لمصائر
الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله فكان مصيرهم النكال.
وهو موعظة
للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم.
والأحكام التي
تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب ، الذي يربط القلوب بالله ، الذي نزل هذا
القرآن ..
(اللهُ نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ
الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ
زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ
اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ
يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ
اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا
جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ
وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ
ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ
يَراها
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ
رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ
يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
يُقَلِّبُ
اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ
كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما
يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(٤٥)
في الدرسين
الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري. ليرققه ويطهره ويرتفع
به إلى آفاق النور. عالج عرامة اللحم والدم ، وشهوة العين والفرج ، ورغبة التجريح
والتشهير ، ودفعة الغضب والغيظ. وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في
الحياة ، وأن تشيع في القول. عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف. وعالجها بعرض
نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات. وعالجها بالوسائل الواقية :
بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة ، والنهي عن مثيرات الفتنة ،
وموقظات الشهوة. ثم بالإحصان ، ومنع البغاء ، وتحرير الرقيق .. كل أولئك ليأخذ
الطريق على دفعات اللحم والدم ، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية
والإشراق.
وفي أعقاب حديث
الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ ، ومن اضطراب في المقاييس ، وقلق في النفوس.
فإذا نفس محمد ـ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ مطمئنة هادئة. وإذا نفس عائشة ـ رضي الله عنها ـ قريرة راضية. وإذا نفس
أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ سمحة صافية. وإذا نفس صفوان بن المعطل ـ رضي الله عنه ـ قانعة
بشهادة الله وتبرئته. وإذا نفوس المسلمين آئبة تائبة. وقد تكشف لها ما كانت تخبط
فيه من التيه. فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته ...
بهذا التعليم.
وهذا التهذيب. وهذا التوجيه. عالج الكيان البشري ، حتى أشرق بالنور ؛ وتطلع إلى
الأفق الوضيء ؛ واستشرف النور الكبير في آفاق السماوات والأرض ، وهو على استعداد
لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق ، كله نور :
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ..
وما يكاد النص
العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء ، فيغمر الكون كله ، ويفيض على المشاعر
والجوارح ، وينسكب في الحنايا والجوانح ؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر
؛ وحتى تعانقه
وترشفه العيون والبصائر ؛ وحتى تنزاح الحجب ، وتشف القلوب ، وترف الأرواح.
ويسبح كل شيء في الفيض الغامر ، ويتطهر كل شيء في بحر النور ، ويتجرد كل شيء من
كثافته وثقله ، فإذا هو انطلاق ورفرفة ، ولقاء ومعرفة ، وامتزاج وألفة ، وفرح
وحبور. وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود ، تتصل فيه
السماوات بالأرض ، والأحياء بالجماد ، والبعيد بالقريب ؛ وتلتقي فيه الشعاب
والدروب ، والطوايا والظواهر ، والحواس والقلوب ..
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ..
النور الذي منه
قوامها ومنه نظامها .. فهو الذي يهبها جوهر وجودها ، ويودعها ناموسها .. ولقد
استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى ، عند ما استحال
في أيديهم ما كان يسمى بالمادة ـ بعد تحطيم الذرة ـ إلى إشعاعات منطلقة لا قوام
لها إلا النور! ولا «مادة» لها إلا النور! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات
، تنطلق ـ عند تحطيمها ـ في هيئة إشعاع قوامه هو النور! فأما القلب البشري فكان
يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون. كان يدركها كلما شف ورف ، وانطلق إلى
آفاق النور. ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ففاض بها وهو عائد من الطائف ، نافض كفيه من الناس ، عائذ بوجه ربه يقول
: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة». وفاض
بها في رحلة الإسراء والمعراج. فلما سألته عائشة : هل رأيت ربك؟ قال. «نور. أنى
أراه».
ولكن الكيان
البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما ، ولا يستشرف طويلا ذلك
الأفق البعيد. فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي ، عاد يقارب مداه ، ويقربه إلى
الإدراك البشري المحدود ، في مثل قريب محسوس :
(مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. نُورٌ
عَلى نُورٍ) ..
وهو مثل يقرب
للإدراك المحدود صورة غير المحدود ؛ ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس ، حين
يقصر عن تملي الأصل. وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه
وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير.
ومن عرض
السماوات والأرض إلى المشكاة. وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة ، يوضع فيها
المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه ، فيبدو قويا متألقا : (كَمِشْكاةٍ فِيها
مِصْباحٌ) .. (الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ) .. تقيه الريح ، وتصفي نوره ، فيتألق ويزداد .. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ) .. فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة .. هنا يصل بين
المثل والحقيقة. بين النموذج والأصل. حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب
الكبير ، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير ، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل
الكبير .. وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج. إلى المصباح :
(يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون. ولكن
ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل. إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها
الشجرة المباركة. ظلال الوادي المقدس في الطور ، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة
العرب. وفي القرآن إشارة لها وظلال حولها : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ). وهي شجرة معمرة ، وكل ما فيها مما ينفع الناس. زيتها
وخشبها
وورقها وثمرها .. ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير.
فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة. إنما هي مثل مجرد
للتقريب : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ) .. وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود ، إنما هو
زيت آخر عجيب : (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) .. فهو من الشفافية بذاته ، ومن الإشراق بذاته ، حتى
ليكاد يضيء بغير احتراق ؛ (وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نارٌ) .. (نُورٌ عَلى نُورٍ) .. وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف!
إنه نور الله
الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض. النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه.
إنما هي محاولة لوصل القلوب به ، والتطلع إلى رؤياه : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) .. ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه. فهو شائع في
السماوات والأرض ، فائض في السماوات والأرض. دائم في السموات والأرض. لا ينقطع ،
ولا يحتبس ، ولا يخبو. فحيثما توجه إليه القلب رآه. وحيثما تطلع إليه الحائر هداه.
وحيثما اتصل به وجد الله.
إنما المثل
الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك ، وهو العليم بطاقة البشر :
(وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..
ذلك النور
الطليق ، الشائع في السماوات والأرض ، الفائض في السماوات والأرض ، يتجلى ويتبلور
في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله ، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه ، وتتجرد له
وتؤثره على كل مغريات الحياة :
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ ، وَإِقامِ الصَّلاةِ ، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ. يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ
فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ..
وهناك صلة
تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا ، على طريقة التناسق القرآنية في
عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب. وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق
بالنور في المشكاة ، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله.
تلك البيوت (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) ـ وإذن الله هو أمر للنفاذ ـ فهي مرفوعة قائمة ، وهي مطهرة رفيعة. يتناسق
مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض. وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع
طبيعة النور السني الوضيء. وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة ، المسبحة الواجفة
، المصلية الواهبة. قلوب الرجال الذين (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) .. والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء. ولكنهم مع
شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة ، وأداء حق العباد في الزكاة : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) .. تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب.
وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وهم مع هذا
الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله :
(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ..
ورجاؤهم لن
يخيب في فضل الله : (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) من فضله الذي لا حدود له ولا قيود.
* * *
في مقابل ذلك
النور المتجلي في السماوات والأرض ، المتبلور في بيوت الله ، المشرق في قلوب أهل
الإيمان .. يعرض السياق مجالا آخر. مجالا مظلما لا نور فيه. مخيفا لا أمن فيه.
ضائعا لا خير فيه. ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا
جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.
وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ. أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ، يَغْشاهُ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ. ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ
بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ
لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ..
والتعبير يرسم
لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين ، حافلين بالحركة والحياة.
في المشهد الأول
يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة ، يلتمع التماعا كاذبا ، فيتبعه صاحبه
الظامئ ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك .. وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة.
فهذا السائر وراء السراب ، الظامئ الذي يتوقع الشراب ، الغافل عما ينتظره هناك ..
يصل. فلا يجد ماء يرويه ، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال ،
المرعبة التي تقطع الأوصال ، وتورث الخبال : (وَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ)! الله الذي كفر به وجحده ، وخاصمه وعاداه. وجده هنالك
ينتظره! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروّعه ، وهو ذاهل غافل على
غير استعداد. فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار؟
(فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) .. هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة ، (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) .. تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع!
وفي المشهد
الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ؛ ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي. موج
من فوقه موج. من فوقه سحاب. وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض ، حتى ليخرج يده أمام
بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام!
إنه الكفر ظلمة
منقطعة عن نور الله الفائض في الكون. وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى. ومخافة
لا أمن فيها ولا قرار .. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) .. ونور الله هدى في القلب ؛ وتفتح في البصيرة ؛ واتصال
في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض ؛ والتقاء بها على الله نور السماوات
والأرض. فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها ، وفي مخالفة لا أمن
فيها ، وفي ضلال لا رجعة منه. ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب ؛
لأنه لا عمل بغير عقيدة ، ولا صلاح بغير إيمان. إن هدى الله هو الهدى. وإن نور
الله هو النور.
* * *
ذلك مشهد الكفر
والضلال والظلام في عالم الناس ، يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون
الفسيح. مشهد يتمثل فيه الوجود كله ، بمن فيه وما فيه ، شاخصا يسبح لله : إنسه
وجنه ، أملاكه وأفلاكه ، أحياؤه وجماده .. وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه
، في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ.
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) ..
إن الإنسان ليس
مفردا في هذا الكون الفسيح ؛ فإن من حوله ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن
تحته ؛ وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال .. إخوان له من خلق الله ، لهم
طبائع شتى ، وصور شتى ،
وأشكال شتى. ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله ، ويتوجهون إليه ، ويسبحون
بحمده : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما
يَفْعَلُونَ) ..
والقرآن يوجه
الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله ، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات
والأرض ، وهم يسبحون بحمده وتقواه ؛ ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم
يراه ، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه. ذلك مشهد الطير صافات أرجلها
وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) .. والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ؛ وهو أجدر
خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة.
وإن الكون
ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه ، مسبحا بحمده ، قائما بصلاته ؛
وإنه لكذلك في فطرته ، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه. وإن الإنسان
ليدرك ـ حين يشف ـ هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه ؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون
وإيقاعاته تسابيح لله. وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه .. كذلك
كان محمد بن عبد الله ـ صلاة الله وسلامه عليه ـ إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت
قدميه. وكذلك كان داود ـ عليهالسلام ـ يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ..
فلا اتجاه إلا
إليه ، ولا ملجأ من دونه ، ولا مفر من لقائه ، ولا عاصم من عقابه ، وإلى الله المصير.
* * *
ومشهد آخر من
مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ؛ وفيها متعة للنظر ، وعبرة للقلب ،
ومجال للتأمل في صنع الله وآياته ، وفي دلائل النور والهدى والإيمان :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً ،
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ
جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ
يَشاءُ ، يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ..
والمشهد يعرض
على مهل وفي إطالة ، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع. كل أولئك لتؤدي
الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه ، وبعثه إلى التأمل والعبرة ، وتدبر ما
وراءها من صنع الله.
إن يد الله
تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثم تؤلف بينه وتجمعه ، فإذا هو ركام بعضه
فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء ، والوبل الهاطل ، وهو في هيئة الجبال الضخمة
الكثيفة ، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة .. ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما
يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها ، فإذا المشهد مشهد الجبال
حقا ، بضخامتها ، ومساقطها ، وارتفاعاتها وانخفاضاتها. وإنه لتعبير مصور للحقيقة
التي لم يرها الناس ، إلا بعد ما ركبوا الطائرات.
وهذه الجبال
مسخرة بأمر الله ، وفق ناموسه الذي يحكم الكون ؛ ووفق هذا الناموس يصيب الله
بالمطر من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء .. وتكملة المشهد الضخم : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالْأَبْصارِ) ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض ،
على طريقة التناسق في التصوير.
* * *
ثم مشهد كوني
ثالث : مشهد الليل والنهار :
(يُقَلِّبُ اللهُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ..
والتأمل في تقلب
الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر
الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله. والقرآن يوجه القلب إلى هذه
المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير ؛ ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد
، وانفعال جديد. فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري ، وهو يتأملها أول
مرة. وهي هي لم تتغير ؛ ولم تفقد جمالها وروعتها. إنما القلب البشري هو الذي صدئ
وهمد ، فلم يعد يخفق لها. وكم ذا نفقد من حياتنا ، وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود
، حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسّنا وهي جديدة. أو وحسّنا هو الجديد!
والقرآن يجدد
حسّنا الخامد ، ويوقظ حواسنا الملول. ويلمس قلبنا البارد. ويثير وجداننا الكليل ؛
لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة. نقف أمام كل ظاهرة نتأملها ، ونسألها
عما وراءها من سر دفين ، ومن سحر مكنون. ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من
حولنا ، ونتدبر حكمته في صنعته ، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود.
إن الله ـ سبحانه
ـ يريد أن يمن علينا ، بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ؛
فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة. فنظل نجد الكون مرات لا تحصى.
وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ؛ ونستمتع به من جديد.
وإن هذا الوجود
لجميل وباهر ورائع. وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته ، مستمدة من النبع الذي يستمد
منه ، قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه. فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا
أنسا وطمأنينة ، وصلة ومعرفة ، وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب!
وإننا لنجد نور
الله هناك. فالله نور السماوات والأرض .. نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة
التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير ، والقلب المتفتح ، والتأمل الواصل إلى
حقيقة التدبير.
لهذا يوقظنا القرآن
المرة بعد المرة ، ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة ، كي لا نمر
عليها غافلين مغمضي الأعين ، فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد.
أو برصيد قليل هزيل ..
* * *
ويمضي السياق
في عرض مشاهد الكون ، واستثارة تطلعنا إليها ؛ فيعرض نشأة الحياة ، من أصل واحد ،
وطبيعة واحدة ، ثم تنوعها ، مع وحدة النشأة والطبيعة :
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ. يَخْلُقُ اللهُ
ما يَشاءُ. إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وهذه الحقيقة
الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعني
وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعني ما يحاول
العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء. ثم تنوعت
الأنواع ، وتفرعت الأجناس ..
ولكننا نحن على
طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة
للتعديل والتبديل .. لا نزيد على هذه الإشارة شيئا. مكتفين بإثبات الحقيقة
القرآنية. وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء. فهي ذات أصل واحد. ثم هي ـ كما
ترى العين ـ متنوعة الأشكال. منها الزواحف تمشي على بطنها ، ومنها الإنسان والطير
يمشي على قدمين. ومنها الحيوان يدب على أربع. كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته ، لا
عن فلتة ولا مصادفة : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) غير مقيد بشكل ولا هيئة. فالنواميس والسنن التي تعمل في
الكون
قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها : (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وإن تملي
الأحياء. وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام ، والأصول والأنواع ، والشيات
والألوان. وهي خارجة من أصل واحد ، ليوحي بالتدبير المقصود ، والمشيئة العامدة.
وينفي فكرة الفلتة والمصادفة. وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ؛ وأية
مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير؟ إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى
كل شيء خلقه ثم هدى ..
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ
مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
وَيَقُولُونَ
آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ
لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
وَمَنْ
يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ
(٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ
مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ
ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)
(٥٧)
بعد تلك الجولة
الضخمة في مجالي النور ، في مشاهد الكون الكبير .. يعود سياق السورة إلى موضوعها
الأصيل. موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة ، لتتطهر
قلوبها وتشرق ، وتتصل بنور الله في السماوات والأرض.
ولقد تناول في
الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام
الصلاة ، وإيتاء الزكاة. وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم ، وما هم فيه من ظلمات
بعضها فوق بعض.
فالآن في هذا
الدرس يتحدث عن المنافقين ، الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون. فهم
يظهرون الإسلام ، ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفي الرضى بحكمه ، والطمأنينة إليه. ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين
في إيمانهم. أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض ، والتمكين في الدين ،
والأمن في المقام ، جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله. وطاعتهم لله ورسوله. وذلك
على الرغم من عداء الكافرين. وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس
المصير ..
* * *
(لَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ مُبَيِّناتٍ. وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..
فآيات الله
مبينة كاشفة ؛ تجلو نور الله ، وتكشف عن ينابيع هداه. وتحدد الخير والشر ، والطيب
والخبيث. وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض ؛ وتحدد
أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام. فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون
إلى شريعة واضحة مضبوطة ، لا يخشى منها صاحب حق على حقه ؛ ولا يلتبس فيها حق بباطل
، ولا حلال بحرام.
(وَاللهُ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد. غير أن الله سبحانه
قد جعل للهدى طريقا ، من وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره ، فاتصل به ، وسار
على الدرب ، حتى يصل ـ بمشيئة الله ـ ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في
طريق الضلال. حسب مشيئة الله في الهدى والضلال.
ومع هذه الآيات
المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس. فريق المنافقين ، الذين كانوا يظهرون الإسلام
ولا يتأدبون بأدب الإسلام :
(وَيَقُولُونَ :
آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا. ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ
يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟
أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ
أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
إن الإيمان
الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك. والإسلام عقيدة متحركة ، لا تطيق
السلبية. فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ؛
ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع. ومنهج الإسلام الواضح في التربية
يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ؛
وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون. مع استحياء الدافع الشعوري الأول في
كل حركة ، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل.
وهؤلاء كانوا
يقولون : (آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) .. يقولونها بأفواههم ، ولكن مدلولها لا يتحقق في
سلوكهم. فيتولون ناكصين ؛ يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم. والإيمان ليس لعبة
يتلهى بها صاحبها ؛ ثم يدعها ويمضي. إنما هو تكيف في النفس ، وانطباع في القلب ،
وعمل في الواقع ، ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير ..
ولقد كان هؤلاء
الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على شريعة الله التي جاء بها :
(وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) ..
فلقد كانوا
يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق ، ولا ينحرف مع الهوى ، ولا يتأثر
بالمودة والشنآن. وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل. ومن ثم كانوا
يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويأبون أن يجيئوا إليه. فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى
تحكيم رسول الله ، راضين خاضعين ، لأنهم واثقون أنه سيقضي لهم بحقهم ، وفق شريعة
الله ، التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق.
هذا الفريق
الذي كان يدعي الإيمان ، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي ، إنما هو نموذج للمنافقين في
كل زمان ومكان. المنافقين الذي لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر ، فيتظاهرون
بالإسلام. ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله ، ولا أن يحكم فيهم قانونه ،
فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله. إلا أن تكون
لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه!
إن الرضى بحكم
الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق. وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان
في القلب. وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله. وما يرفض حكم الله وحكم رسوله
إلا سيّئ الأدب معتم ، لم يتأدب بأدب الإسلام ، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان.
ومن ثم يعقب
على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم ، وتتعجب من ريبتهم ، وتستنكر تصرفهم
الغريب :
(أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ؟) ..
والسؤال الأول
للإثبات. فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر. وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف
وهو سليم الفطرة. إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها ، فلا تتذوق
حقيقة الإيمان ، ولا تسير على نهجه القويم.
والسؤال الثاني
للتعجب. فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكون في مجيئه من
عند الله؟ أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل؟ على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق
المؤمنين! والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب. فهل هم يخافون أن
يحيف الله عليهم ورسوله؟ وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان. فالله
خالق الجميع ورب الجميع. فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه؟
إن حكم الله هو
الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف. لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا. وكل
خلقه أمامه سواء ، فلا يظلم أحدا منهم لمصلحة أحد. وكل حكم غير حكمه هو مظنة
الحيف. فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم. أفرادا
كانوا أم طبقة أم دولة.
وحين يشرع فرد
ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه. وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة
، وحين تشرع دولة لدولة. أو كتلة من الدول لكتلة .. فأما حين يشرع الله فلا حماية
ولا مصلحة.
إنما هي العدالة المطلقة ، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله ، ولا
يحققها حكم غير حكمه.
من أجل ذلك كان
الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون ، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر
؛ ولا يحبون للحق أن يسود. فهم لا يخشون في حكم الله حيفا ، ولا يرتابون في عدالته
أصلا (بَلْ أُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) ..
فأما المؤمنون
حقا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله. ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم ؛ هو القول الذي يليق بالمؤمنين ؛ وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور :
(إِنَّما كانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ..
فهو السمع
والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف. السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة
في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ؛ النابعان من التسليم المطلق لله
، واهب الحياة ، المتصرف فيها كيف يشاء ؛ ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله
للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم. فالله الذي خلق أعلم بمن خلق ..
(وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) .. المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم ، وينظم
علاقاتهم ، ويحكم بينهم بعلمه وعدله ؛ فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم ،
وينظم علاقاتهم ، ويحكم بينهم بشر مثلهم ، قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ..
والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد ، لا عوج فيه ولا التواء ، مطمئنون إلى
هذا المنهج ، ماضون فيه لا يتخبطون ، فلا تتوزع طاقاتهم ، ولا يمزقهم الهوى كل
ممزق ، ولا تقودهم الشهوات والأهواء. والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم.
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) ..
وقد كان الحديث
في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام. فالآن يتحدث عن الطاعة كافة في
كل أمر أو نهي ، مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه. والتقوى أعم من الخشية ،
فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة ؛ والتحرج من إتيان ما يكره
توقيرا لذاته سبحانه ، وإجلالا له ، وحياء منه ، إلى جانب الخوف والخشية.
ومن يطع الله
ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ، الناجون في دنياهم وأخراهم. وعد الله
ولن يخلف الله وعده. وهم للفوز أهل ، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم. فالطاعة لله
ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة ، وهو
بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة. وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل
الاستقامة على النهج ، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه ، فلا ينحرفون
ولا يلتفتون.
وأدب الطاعة
لله ورسوله ، مع خشية الله وتقواه ، أدب رفيع ، ينبئ عن مدى إشراق القلب بنور الله
، واتصاله به ، وشعوره بهيبته. كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه. فكل طاعة
لا ترتكن على طاعة الله ورسوله ، ولا تستمد منها ، هي ذلة يأباها الكريم ، وينفر
منها طبع المؤمن ، ويستعلي عليها ضميره. فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد
القهار.
وبعد هذه
المقابلة بين حسن أدب المؤمنين ، وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان ، وما هم
بمؤمنين ، بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين :
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ. قُلْ : لا تُقْسِمُوا.
طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ. إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. قُلْ : أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ
وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ. وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. وَما عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ..
ولقد كان
المنافقون يقسمون لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن. والله يعلم إنهم لكاذبون. فهو يرد
عليهم متهكما ، ساخرا من أيمانهم : (قُلْ : لا
تُقْسِمُوا. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) .. لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها ، مفروغ منها ، لا
تحتاج إلى حلف أو توكيد! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به : لا تحلف لي
على صدقك. فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل.
ويعقب على
التهكم الساخر بقوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما تَعْمَلُونَ) .. فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد ، وقد علم أنكم لا
تطيعون ولا تخرجون!
لهذا يعود
فيأمرهم بالطاعة. الطاعة الحقيقية. لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة!
(قُلْ : أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ..
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) وتعرضوا ، أو تنافقوا ولا تنفذوا (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) وهو أن تطيعوا وتخلصوا. وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) فليس مسؤولا عن إيمانكم ، وليس مقصرا إذا أنتم توليتم.
إنما أنتم المسئولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله
وأمر الرسول.
* * *
وبعد استعراض
أمر المنافقين ، والانتهاء منه على هذا النحو .. يدعهم السياق وشأنهم ، ويلتفت
عنهم إلى المؤمنين المطيعين ، يبين جزاء الطاعة المخلصة ، والإيمان العامل ، في
هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير :
(وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ؛ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً. يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ..
ذلك وعد الله
للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وأن يبدلهم من
بعد خوفهم أمنا .. ذلك وعد الله. ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله
وعده .. فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة
الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ؛ وتوجه
النشاط الإنساني كله. فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل
ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ؛ وهي
طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة ، لا يبقى معها هوى في النفس ، ولا
شهوة في القلب ، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من عند الله.
فهو الإيمان
الذي يستغرق الإنسان كله ، بخواطر نفسه ، وخلجات قلبه. وأشواق روحه ، وميول فطرته
، وحركات جسمه ، ولفتات جوارحه ، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا. ويتوجه
بهذا كله إلى الله .. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا
للاستخلاف والتمكين والأمن : (يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) والشرك مداخل وألوان ، والتوجه إلى غير الله بعمل أو
شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.
ذلك الإيمان
منهج حياة كامل ، يتضمن كل ما أمر الله به ، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب
، وإعداد العدة ، والأخذ بالوسائل ، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض ..
أمانة الاستخلاف ..
فما حقيقة
الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد
الملك والقهر والغلبة والحكم .. إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح
والتعمير والبناء ؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ؛ وتصل عن
طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض ، اللائق بخليقة أكرمها الله.
إن الاستخلاف
في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح ، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق
العدل والطمأنينة ، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية
والنظام البشري ، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وهذا الاستخلاف
هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. وعدهم الله أن يستخلفهم في
الأرض ـ كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ـ ليحققوا النهج الذي أراده الله ؛
ويقرروا العدل الذي أراده الله ؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر
لها يوم أنشأها الله .. فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض ، وينشرون فيها البغي
والجور ، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان .. فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض. إنما
هم مبتلون بما هم فيه ، أو مبتلى بهم غيرهم ، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله.
آية هذا الفهم
لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده : (وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) .. وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب ، كما يتم
بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض ، وأن
يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض. ودينهم يأمر بالإصلاح ، ويأمر
بالعدل ، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض. ويأمر بعمارة هذه الأرض ، والانتفاع
بكل ما أودعها الله من ثروة ، ومن رصيد ، ومن طاقة ، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى
الله.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) .. ولقد كانوا خائفين ، لا يأمنون ، ولا يضعون سلاحهم
أبدا حتى بعد هجرة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
قال الربيع بن
أنس عن أبي العالية في هذه الآية : كان النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده ، وإلى عبادته وحده
بلا شريك له ، سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى
المدينة ، فقدموها ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون في السلاح
ويصبحون في السلاح ؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا
رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عن السلاح؟
فقال رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ «لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في
الملأ العظيم ليست فيه حديدة». وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة
العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان. حتى وقعوا فيما وقعوا
فيه ، فأدخل الله عليهم الخوف ؛ فاتخذوا الحجزة والشرط ، وغيروا فغير بهم ..
(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) .. الخارجون على شرط الله. ووعد الله. وعهد الله ..
لقد تحقق وعد
الله مرة. وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً) .. لا من الآلهة ولا من الشهوات. ويؤمنون ـ من الإيمان ـ
ويعملون صالحا. ووعد الله مذخور
لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة. إنما يبطئ النصر
والاستخلاف والتمكين والأمن. لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ؛ أو في
تكليف من تكاليفه الضخمة ؛ حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء ، وجازت الابتلاء ، وخافت
فطلبت الأمن ، وذلت فطلبت العزة ، وتخلفت فطلبت الاستخلاف .. كل ذلك بوسائله التي
أرادها الله ، وبشروطه التي قررها الله .. تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ، ولا تقف
في طريقة قوة من قوى الأرض جميعا.
لذلك يعقب على
هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة ؛ وبألا يحسب الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى
لهم :
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. وَمَأْواهُمُ
النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ..
فهذه هي العدة
.. الاتصال بالله ، وتقويم القلب بإقامة الصلاة. والاستعلاء على الشح ، وتطهير
النفس والجماعة بإيتاء الزكاة. وطاعة الرسول والرضى بحكمه ، وتنفيذ شريعة الله في
الصغيرة والكبيرة ، وتحقيق النهج الذي أراده للحياة : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال ،
وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال.
فإذا استقمتم
على النهج ، فلا عليكم من قوة الكافرين. فما هم بمعجزين في الأرض ، وقوتهم الظاهرة
لن تقف لكم في طريق. وأنتم أقوياء بإيمانكم ، أقوياء بنظامكم ، أقوياء بعدتكم التي
تستطيعون. وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية. ولكن القلوب المؤمنة
التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب.
إن الإسلام
حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات.
ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية ، وهو يدرك شروطها على حقيقتها
، قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب ، أو يستبطئ وقوعها في حالة من الحالات.
إنه ما من مرة
سارت هذه الأمة على نهج الله ، وحكمت هذا النهج في الحياة ، وارتضته في كل أمورها
.. إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن. وما من مرة خالفت عن هذا النهج
إلا تخلفت في ذيل القافلة ، وذلت ، وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ؛ واستبد
بها الخوف ؛ وتخطفها الأعداء.
ألا وإن وعد
الله قائم. ألا وإن شرط الله معروف. فمن شاء الوعد فليقم بالشرط. ومن أوفى بعهده
من الله؟
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ
صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
وَإِذا
بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)
وَالْقَواعِدُ
مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ
خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً
طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا
دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ
يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ)
(٦٤)
إن الإسلام
منهاج حياة كامل ؛ فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها ، وفي كل علاقاتها
وارتباطاتها ، وفي كل حركاتها وسكناتها. ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة
، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة ؛ وينسق بينها جميعا ، ويتجه بها إلى
الله في النهاية.
وهذه السورة
نموذج من ذلك التنسيق. لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت. وإلى
جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود. ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في
التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين. إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين
بالاستخلاف والأمن والتمكين. وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في
داخل البيوت ؛ إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء ؛ إلى
جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه ... فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة
وتنتظم بها علاقاتها. والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على
السواء.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ : مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِنْ
بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ. ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا
عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ. طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..
لقد سبقت في
السورة أحكام الاستئذان على البيوت. وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت.
فالخدم من
الرقيق ، والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان. إلا في
ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة ، فهم يستأذنون فيها. هذه الأوقات هي : الوقت
قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب
الخروج. ووقت الظهيرة عند القيلولة ، حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب
النوم للراحة. وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل ..
وسماها «عورات»
لانكشاف العورات فيها. وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم ، وأن
يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم ، كي لا تقع أنظارهم على عورات
أهليهم. وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية ، مستهينين بآثاره النفسية
والعصبية والخلقية ، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة! وأن الصغار
قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر. بينما يقرر النفسيون اليوم ـ بعد تقدم العلوم
النفسية ـ أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في
حياتهم كلها ؛ وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها.
والعليم الخبير
يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ؛ وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب ، سليمة الصدور ،
مهذبة المشاعر ، طاهرة القلوب ، نظيفة التصورات.
ويخصص هذه
الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات. ولا يجعل استئذان الخدم
والصغار في كل حين منعا للحرج. فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم
أو قيامهم بالخدمة : (طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) .. وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات ،
وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار.
فأما حين يدرك
الصغار سن البلوغ ، فإنهم يدخلون في حكم الأجانب ، الذين يجب أن يستأذنوا في كل
وقت ، حسب النص العام ، الذي مضت به آية الاستئذان.
ويعقب على
الآية بقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر ، وما يصلحها من
الآداب ؛ ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب.
* * *
ولقد سبق الأمر
كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات. فعاد هنا يستثني من النساء
القواعد
اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال ؛ وفرغت أجسامهن من الفتنة
المثيرة للشهوات :
(وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ـ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ـ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ
خَيْرٌ لَهُنَّ ؛ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..
فهؤلاء القواعد
لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية ، على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن
زينة. وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة. وسمي هذا استعفافا. أي
طلبا للعفة وإيثارا لها ، لما بين التبرج والفتنة من صلة ؛ وبين التحجب والعفة من
صلة .. وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية ، والحيلولة
بين المثيرات وبين النفوس.
(وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) .. يسمع ويعلم ، ويطلع على ما يقوله اللسان ، وما يوسوس
في الجنان. والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير.
* * *
ثم يمضي في
تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء :
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
؛ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ
آبائِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ، أَوْ
بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ ،
أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ ؛ أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ ، أَوْ صَدِيقِكُمْ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا
جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى
أَنْفُسِكُمْ ، تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً. كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ..
روي أنهم كانوا
يأكلون من هذه البيوت المذكورة ـ دون استئذان ـ ويستصحبون معهم العمي والعرج
والمرضى ليطعموهم .. الفقراء منهم .. فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم
دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن. ذلك حين نزلت : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) فقد كانت حساسيتهم مرهفة. فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا
فيما نهى الله عنه ، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد. فأنزل الله هذه
الآية ، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج ، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبة.
وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج. وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا
يتضرر به. استنادا إلى القواعد العامة في أنه «لا ضرر ولا ضرار» وإلى أنه «لا يحل
مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس ».
ولأن الآية آية
تشريع ، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي ، والصياغة التي لا
تدع مجالا للشك والغموض. كما نلمح فيها ترتيب القرابات. فهي تبدأ ببيوت الأبناء
والأزواج ولا تذكرهم. بل تقول الآية : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج ، فبيت الابن بيت
لأبيه ، وبيت الزوج بيت لزوجته ، وتليها بيوت الآباء ، فبيوت الأمهات. فبيوت
الإخوة ، فبيوت الأخوات. فبيوت الأعمام ، فبيوت العمات. فبيوت الأخوال ، فبيوت
الخالات .. ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك
مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه. ويلحق بها بيوت الأصدقاء. ليلحق صلتهم
بصلة القرابة. عند عدم التأذي والضرر. فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من
طعامهم بدون استئذان.
فإذا انتهى من
بيان البيوت التي يجوز الأكل منها ، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
__________________
أَنْ
تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على
انفراد ، فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد
الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات.
فإذا انتهى من
بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) .. وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في
الآية. فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه. والتحية التي يلقيها
عليه هي تحية من عند الله. تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر. وتربط بينهم
بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ..
وهكذا ترتبط
قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .. وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير ..
* * *
وينتقل من
تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ، إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة .. أسرة
المسلمين .. ورئيسها وقائدها محمد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ. وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ؛ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ. فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ،
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَلا إِنَّ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ؛
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..
روى ابن إسحاق
في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق. فلما سمع
بهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ترغيبا للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب ودأبوا ، وأبطأ
عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ، وجعلوا يورّون بالضعيف من
العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا إذنه ؛ وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا
بد منها يذكر ذلك لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويستأذنه في اللحوق بحاجته ، فيأذن له. فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان
فيه من عمله ، رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ... الآية» ثم قال تعالى : يعني المنافقين الذين كانوا
يتسللون من العمل ، ويذهبون بغير إذن من النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) ... الآية» ..
وأيا ما كان
سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها. هذه
الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق
ضميرها. ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا. وإلا فهي الفوضى
التي لا حدود لها :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) .. لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم
، ولا يطيعون الله ورسوله.
(وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) .. والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك
الجماعة فيه ، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة. فلا يذهب المؤمنون حتى
يستأذنوا إمامهم. كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام.
وهؤلاء الذين
يؤمنون هذا الإيمان ، ويلتزمون هذا الأدب ، لا يستأذنون إلا وهم مضطرون ؛ فلهم من
إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة ،
ويستدعي تجمعها له .. ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رئيس الجماعة. بعد أن يبيح له حرية الإذن : (فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) .. (وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ! لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)) ... يدع له الرأي فإن شاء أذن ، وإن شاء لم يأذن ،
فيرفع الحرج عن عدم الإذن ، وقد تكون هناك ضرورة ملحة. ويستبقي حرية التقدير لقائد
الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف. ويترك له الكلمة
الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه.
ومع هذا يشير
إلى أن مغالبة الضرورة ، وعدم الانصراف هو الأولى ، وأن الاستئذان والذهاب فيهما
تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للمعتذرين : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ
اللهَ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .. وبذلك يقيد ضمير المؤمن. فلا يستأذن وله مندوحة لقهر
العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان.
ويلتفت إلى
ضرورة توقير الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عند الاستئذان ، وفي كل الأحوال. فلا يدعى باسمه : يا محمد. أو كنيته :
يا أبا القاسم. كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا. إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه :
يا نبي الله. يا رسول الله :
(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) ..
فلا بد من
امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه. وهي لفتة ضرورية. فلا بد للمربي
من وقار ، ولا بد للقائد من هيبة. وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ؛ وأن
ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض .. يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس
من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم ، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود
التبجيل والتوقير.
ثم يحذر
المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن ، يلوذ بعضهم ببعض ، ويتدارى بعضهم ببعض
.. فعين الله عليهم ، وإن كانت عين الرسول لا تراهم : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) .. وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس
؛ ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة ، وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس.
(فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) ..
وإنه لتحذير
مرهوب ، وتهديد رعيب .. فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، ويتبعون نهجا غير نهجه ،
ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة. ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها
المقاييس ، وتختل فيها الموازين ، وينتكث فيها النظام ، فيختلط الحق بالباطل ،
والطيب بالخبيث ، وتفسد أمور الجماعة وحياتها ؛ فلا يأمن على نفسه أحد ، ولا يقف
عند حده أحد ، ولا يتميز فيها خير من شر .. وهي فترة شقاء للجميع :
(أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا أو في الآخرة. جزاء المخالفة عن أمر الله ،
ونهجه الذي ارتضاه للحياة.
ويختم هذا
التحذير ، ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع
عليها ، رقيب على عملها ، عالم بما تنطوي عليه وتخفيه.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَيَوْمَ
يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ).
* * *
وهكذا تختم
السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله ؛ وتذكيرها بخشيته وتقواه. فهذا هو الضمان
الأخير. وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي ، وهذه الأخلاق والآداب ، التي
فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء ..
* * *
انتهى الجزء الثامن عشر
ويليه الجزء التاسع عشر
مبدوءا بسورة الفرقان
__________________
انتهی المجلد الرابع
ويليه المجلد الخامس
متضمناً الأجزاء من التاسع عشر
إلى الخامس والعشرين
|