السيد هاشم معروف الحسني

سيرة نقيّة ، وفكر نقيّ.

نقاء سيرته ، ونقاء فكره حقيقتان تواكبان اسمه : حيا وميتا ، حاضرا وغائبا.

ولد السيد هاشم معروف الحسني عام ١٩١٩ في قرية جناتا (قضاء صور ـ لبنان الجنوبي) وفي بيت من بيوت الصلاح والتقوى في جبل عامل ، وفي رعاية والده السيد معروف ، ذلك الرجل الوقور وقار المؤمن ، الوديع وداعة الناس البسطاء ، الطيب كطيبة الأرض التي كانت تعطيه من خيرها الوفير بقدر ما يعطيها من جهده الجاهد ، وصبره المحتسب ، وبركة يديه الخيّرتين. في ظل هذه المزايا الكريمة لوالده السيد معروف ، نشأ السيد هاشم نشأة كريمة اكسبته منذ الفتوّة وقار الرجال ، ووداعة المؤمنين ، وطيبة الناس الطيّبين كأرضهم جبل عامل. في ظل هذه المزايا بالذات تمرّس السيد هاشم بأخلاق التواضع والصدق وعفّة اليد واللسان والضمير وببساطة العيش رغم انه عاش فتوّته وشبابه في بيت ميسور الحال موفور النعمة.

ويشهد الذين عايشوه أو عاصروه في النجف الأشرف وهو يطلب علم الدين والشريعة هناك ، ان هذه الأخلاق نفسها ، وهذه العفة نفسها ، وهذه البساطة الطيبة نفسها ، ظلت من مميزاته المرموقة التي كانت تكسبه احترام أساتذته وزملائه وأصدقائه وتلامذته ، بل كانت تمنحه حبهم جميعا.

ونستطيع القول جازمين بأن هذه المميزات التي كانت تزداد ترسّخا في شخصية السيد هاشم ، طول أعوام الدراسة في النجف الأشرف ، هي أساس ما عرف به أيام طلب العلم هناك من مثابرة مدهشة على الدرس والمدارسة ، ومن انكباب نادر المثال على الكتاب لا تلهيه عنه مغريات المجالس العامرة ، يعقدها أيام العطل الاسبوعية ، زملاؤه واصدقاؤه ترفيها لنفوسهم من عناء الدرس والتدريس. هذا لا يعني ان السيد هاشم كان زميتا ، أو انطوائيا ، أو متحرّجا من مجالس الانس البريئة ، أو كان كزّ المزاج لا تطيب له مؤانسة الأصدقاء والزّملاء. بل كان أمره على عكس ذلك : كان ألوفا سريع الألفة طيب المؤالفة ، تطرب نفسه للقاء الأصدقاء ، يهتزّ جسده كله سرورا ومرحا للفكاهة اللاذعة الناقدة ويضحك لها ملء صدره ، بل كثيرا ما كان هو يبادر بها ويرسلها عفوية ضاحكة محببة. غير انه لم يدع لنفسه ان تسترسل في الاستمتاع بهذا كله ، كيلا يطغى على استمتاعه الروحي بتحصيل المعرفة والعلم. لذا كان حريصا على ان يقيم التوازن بين هذا وذاك في حياته اليومية ، وكان ناجحا جدّا في إقامة هذا التوازن بالفعل.

السيد هاشم ، طالب العلم ، كان نموذجا محترما للطالب المنظّم التفكير والعمل. كان تنظيم عمله اليومي يتناسب مع نسق تفكيره الدقيق التنظيم. فإنه بالرغم من تعدّد عمله اليومي ، كميا ونوعيا ، كان يبدو صافي الذهن ، هادئ الأعصاب ، متهلّل الوجه ، فكأنه يعمل عملا واحدا سهلا. مرجع هذه الظاهرة فيه هو قدرته الفائقة على تنظيم فكره وعمله. هذه القدرة كانت له عونا على إنجاز اعماله اليومية كاملة ومتقنة دون أن ترهقه ذهنيا ولا جسديا. بهذا القدر من حسن تصريفه الأمور كانت له الطاقة المدهشة في أن يحضر في اليوم الواحد أكثر من حلقة دراسية ، وأكثر من حلقة مذاكرة ، وأن يمارس التدريس لأكثر من حلقة وكتاب. غير أن الأهم من كل ذلك انه كان يتعامل مع زملائه وتلامذته كأنه هو المستفيد دائما منهم في حين كان هو يفيد أكثر مما يستفيد. من هنا كان السيد هاشم نموذجا في التواضع بقدر ما كان نموذجا في تنظيم عمله وتفكيره.

كل أخلاقه ومزاياه هذه سواء ما اكتسبه في نشأته برعاية والده السيد معروف ، أم ما ترسّخ فيه منها خلال طلبه العلم بالنّجف الأشرف ، هي جميعا أخذت تبرز وتتوهّج ، أكثر فأكثر ، منذ انتهت مرحلة طلب العلم ، وعاد الى جبل عامل ليمارس مهمّته كرجل دين. في مرحلته الجديدة تغيرت كل الظروف السابقة ، وجاءت ظروف مختلفة جدا. وتبدلت شروط الحياة وشروط العمل ، بل تبدّلت حتى شروط التفكير. بمعنى ان شخصيته الإنسانية أصبحت عرضة لأن تتكوّن من جديد بصيغة جديدة. وصار من الممكن والمحتمل أن تهتزّ شخصية طالب العلم حين ينتقل فورا إلى مرحلة عليه أن يواجه فيها الحياة والناس والأشياء والقضايا بوجه جديد ، بشخصية جديدة ، بمواقف جديدة ، بعادات جديدة ، بمزاج جديد إلخ ، إلخ.

وهنا الامتحان الكبير ، العسير ، الشاق. هنا التحوّل من شخصية طالب العلم إلى شخصية رجل الدين بكل ما تحتمل شخصية رجل الدين من صفات وصيغ عيش وتفكير ، ومن اشكال تعامل ، مع الناس ، مع الواقع الجديد. إنه التحول الصعب. فكيف إذن واجه السيد هاشم ظروفه الجديدة ، واقعه الجديد. هل اهتزت شخصيته الطالبية النموذجية امام شخصية رجل الدين التي كان عليه ان يتقمّصها بسرعة دون اختلال؟

أسئله كثيرة من هذا النوع تحتشد في الذهن. مع أن سيرة السيد هاشم النقية ، وفكره النقي ، يقدمان لنا الجواب عن كل هذه الأسئلة بارتياح دون مشقة. فقد بقيا على نقائهما دون انكسار. وبقي السيد هاشم الطالب النموذجي ، هو نفسه السيد هاشم العالم رجل الدين المرتجى. بل أصبح أكثر نموذجية ، أي أكثر توهجا ، أي أكثر حضورا في ظروفه الجديدة منه في ظروفه السابقة كطالب علم.

كل المزايا التي عرفناها في السيد هاشم طالب العلم في النجف الأشرف ، أثبتت حضورها الابهى في العلامة السيد هاشم رجل الدين في جبل عامل :

أخلاق التواضع والصدق وعفة اليد واللسان والضمير وبساطة العيش

رغم وفرة أسباب العيش لديه. كل هذه الأخلاق والصفات فيه ، برزت عنده بصيغتها الجديدة منذ بدأ حياته الجديدة كرجل دين.

لكن هذه الأخلاق والصفات ذاتها اتخذت صيغتها الجديدة مسيّجة بسياج حصين منيع من الورع بأعمق معانيه وأكثرها شمولية ، إنه الورع الذي يصون صاحبه لا من مقاربة المحرّمات الدينية التعبّدية وحدها ، بل يصونه ـ أولا وآخرا ـ من مقاربة المحرّمات التعامليّة بخاصة : دينية ، واجتماعية ، وإنسانية ووطنية. إن هذا النوع التعاملي من الورع ، هو ما يضع الفارق الحاسم بين الورع العادي والاستثنائي ، أو بين الورع السطحي والعمقي ، أو بين الورع الزائف والحقيقي.

ورع العلّامة السيد هاشم معروف كان ورعا ذا طبيعة شمولية ، أولا ، وكان ـ الى ذلك ـ ورعا استثنائيا وعمقيا وحقيقيا. نقول هذا لا اعتباطا ولا امتداحا. وإنما نقوله اعتقادا واستنادا الى الواقع والشاهد والملموس من سيرته النقية. فنحن نعرف من سيرته هذه أنه :

أولا : كان له من صدق إيمانه الديني حصانة قوية وراسخة تمنع عنه الوقوع في شرك المغريات الآثمة مهما تكن عليه من قوة الإغراء وسحره. وهذا هو الورع الديني.

ثانيا : كان له من إدراكه السليم وحدسه الصائب ما يعصمه من كلا الشّرّين : شر العزلة المطلقة عن الناس دون تمييز بعضهم من بعض ، وشر الاندماج المطلق بالناس دون الحيطة والحذر من بعضهم دون بعض. بفضل هذه العصمة أمكنه اجتناب أهل الشر منهم ، مع الإفادة من صلته بالخيّرين فيهم. وهذا الورع الاجتماعي.

ثالثا : كان من سماحة القلب ونبل العاطفة ما يضعه قريبا من الناس الضعفاء والبؤساء والمعذّبين. بفضل هذا القرب الحميم استطاع أن يبلسم بعض الجراح قدر ما لديه من الممكنات. وهذا هو الورع الإنساني.

رابعا : كان له من شرف العقل ونزاهة الضمير ما يبعده عن أهل

الشبهات الذين لا يتورّعون عن بيع الوطن والمواطنين لقاء مكاسب شخصية بفضل هذا الشرف والنزاهة فيه كان قادرا ان يمتنع عن الانزلاق الى المنحدرات الموبوءة. وهذا هو الورع الوطني.

دخل العلّامة السيد هاشم معروف الحسني عالم الوظيفة كقاض في المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان. لما ذا فعل ذلك؟

نقول واثقين إنه لم يدخل عالم الوظيفة هذه إلا عن ضرورة دفعته الى ذلك. هذه الضرورة لا يستطيع ان يدركها ويدرك قدرها إلا من عرف ظروف العيش التي يعانيها رجال الدين في جبل عامل ، خصوصا منهم أهل العفّة والتواضع وصدق القول والعمل. هؤلاء يعزّ عليهم أن تضطرهم ظروف العيش أحيانا إلى الخروج ـ ولو مقدار شعرة ـ عن اخلاقية العفة والتواضع والصدق. من هذا الوجه المشروع اضطر السيد هاشم ان يتجنّب حالة الخروج عن أخلاقيته الاصيلة فدخل عالم الوظيفة كارها لا مختارا. لكنه فعل حسنا. لقد أثبت ان الوظيفة ليست شرّا بذاتها ، وإنما هي تتشرّف بمن يصاحبها بشرفه ، ويلطّخها بالدنس من يلصق بها دنس يده وضميره. لقد شرّفها السيد هاشم بالفعل : شرّفها بنزاهة يده وشرّف ضميره ، وشرّفها بورعه الصارم. وبسيرته النقية.

ولقد اثبت السيد هاشم ايضا خطأ الزعم أن الغرق في حياة الناس أو حياة الوظيفة يلغي فرص النشاط الفكري. أي يلغي ممكنات العمل في مجالات الفكر والعلم.

إن سيرة السيد هاشم وفكره يقولان : لا. بل إن الاتصال بالناس ، مهما يكن واسعا وعميقا يكن باعثا لنشاط العقل ، ومصدرا لاغتناء الفكر ، وملهما للعمل والإبداع. فقد برهن السيد هاشم ، عمليا ، أن فرص الإنتاج العقلي أكثر ما تكون توفّرا حين يكون العالم والمفكّر بين الناس يتعامل معهم ويتعرف احتياجات عقولهم ، ويتفهّم قضاياهم ومشكلات حياتهم. برهن على ذلك بنشاطه الخصب منذ أخذت تتعدّد وتتشابك علاقاته بالناس ، ثم منذ أخذت

مهمات القضاء الشرعي تزدحم وتتكاثر عليه في المحكمة وفي البيت على حد سواء.

وبعد ، فليس أقوى دلالة على السيد هاشم معروف الحسني من مؤلفاته العلمية والفكرية. مؤلفاته وحدها تقول لكم آية سيرة نقيّة ، وأي فكر نقيّ ، ترك لنا فقيدنا الكبير السيد هاشم معروف الحسني.

صديق المؤلف

تقديم

بقلم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية

أن مدلول لفظ الفقه في مصطلح أهله وعلمائه هو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، كالوجوب والحظر والاستحباب والكراهة والإباحة ، وكون هذه المعاملة صحيحة أو فاسدة ، وهذه العبادة تامة أو ناقصة ، وهذا القريب يرث دون ذاك ، وهذا الزواج شرعي أو غير شرعي ، وما الى ذاك ، اما مدلول لفظ الشريعة فإنه يشمل كل ما شرعه الله لعباده من أفعال وأقوال واعتقادات ، أي أن الشريعة الإسلامية تعم الأصول والفروع ، ويختص الفقه بالفروع لا غير ، وهذا معلوم عند طلاب علم الفقه ، ولكن ما ذا يعني تاريخ الفقه؟ وما هو مدلول هذا اللفظ المركب؟

والجواب ان الفرق بين الفقه وتاريخه كالفرق بين الإنسان وتاريخ الإنسان ، فإذا بحثت عن طبيعة الإنسان وغرائزه وامكاناته كان بحثك عن الإنسان بالذات ، وإذا بحثت عن نشأته والأدوار التي مر بها ، والآثار التي تركها على تعاقب الأزمان كان البحث عن تاريخ الإنسان وهكذا إذا تكلمت عن الأحكام الشرعية ، وإرجاعها إلى مصادرها كان الحديث عن الفقه بالذات ، وإذا تكلمت عن آراء الأقدمين : كيف

نشأت؟ ومتى دونت وعن الأثر الذي تركه التدوين يكون الكلام عن تاريخ الفقه.

وليس من شك أن تاريخ الفقه نافع ومفيد ، لأن الاطلاع على جهود العلماء ، وعلى تدرج عقولهم النيرة في طريق النمو والرقي يمهد السبيل للوصول إلى الحقيقة ، كما أنه من الواضح أن لكل عصر من عصور التاريخ طابعه وظواهره الخاصة ، ومحال على آية فئة من الفئات ، أو أي فرد من الأفراد أن يفعل شيئا أو يرى رأيا يرجع الى ذاته مجردة عن ظروفها الطبيعية والاجتماعية ، بل لا بد أن تنعكس هذه الظواهر في أقواله وأفعاله ، أراد ذلك أو لم يرد.

والنتيجة الطبيعية لهذه الحقيقة أن دراسة تاريخ الفقه تهيئ لنا الوسيلة والأدوات التي نحلل بها آراء الفقهاء وأقوال الرواة تحليلا يردها إلى أسبابها الواقعية ، ويميز صحيحها من سقيمها ، والدخيل من الأصيل.

ثم إن العهد بتاريخ الفقه الإسلامي حديث جدا ، فلقد أهمله السلف الى أوائل هذا القرن ، حيث وضع الشيخ محمد الخضري فيه كتابا مختصرا ، وقد استوحى فكرة تأليفه من الغربيين ، فإنهم أول من تنبه الى تاريخ الأديان والعلوم والفنون (١) ثم حذا حذو الخضري الشيخ السبكي بالاشتراك مع بعض شيوخ الأزهر ، ثم الدكتور محمد يوسف موسى ، ولا رابع ـ فيما أعلم.

ولكن هؤلاء المؤلفين لم يكتبوا للتاريخ الذي هو للجميع ، وانما كتبوا

__________________

(١) الف السابقون في طبقات الفقهاء والنحاة والأدباء وغيرهم ، ولكن الطبقات والمراتب شيء ، وتاريخ الفن شيء آخر.

لهم ولطائفتهم ، كتبوا في فقه السنة لا في الفقه الإسلامي ، ولم يتعرضوا لفقه الشيعة ، حتى كأن الشيعة لا وجود لهم أو لا فقه لهم ، أو أنهم ليسوا بمسلمين ، هذا مع العلم بأن مذهبهم من أقدم المذاهب في الفقه بشهادة التاريخ ، وقد سبقوا الجميع الى تدوينه.

وإذا كان لكل شيء سبب فإن السبب الأول الذي دعا فضيلة الأخ العلامة السيد هاشم معروف إلى تأليف هذا السفر النفيس هو ظلم من سبقه إلى التأليف في هذا الموضوع ، ظلم مسخ تاريخ الفقه الإسلامي بتضييقه وقصره على فئات معينة ، حتى كأنهم يكتبون لأهل القبور لا لذوي العقول ، وقد يكونون مرغمين على ذلك بحكم نشأتهم وبيئتهم ، وإذا ظلمنا الغير فهل يجوز ان نظلم أنفسنا ، ونحن نملك العدة والقوة (١) فلقد كنا وما زلنا في طليعة الطوائف في شتى العلوم الإسلامية ، وبخاصة التشريع وأصوله ، فلقد شهد علماء الغرب على أن الشيعة باجتهاداتهم أمدوا الفقه بالحياة والنمو ، وصانوه من التحجر والجمود ، فمن هؤلاء الغربيين المستشرق المجري «جولد تسهير» ، قال في كتاب العقيدة والشريعة : «كان للشيعة فضل ملحوظ في إغناء المضمون الروحي للإسلام ، فإن بمثل حركاتهم الجامحة تأمن الأديان

__________________

(١) لاحظت هذا الإجحاف بحق الشيعة ، فأسفت وتألمت ، وددت أن أوفق لسد هذا النقص ، ولكني كلما حاولت أحسست بصارف من الداخل ، والميل الى موضوع غيره ، حتى كأن الله سبحانه قد ادخره الى سواي ، فرغبت الى أخي «المعروف» أن يقوم بهذه المهمة ، فتردد بادئ الأمر ، وبعد الإلحاح والترغيب في شتى الأساليب أقدم وباشر في العمل نجزه على أكمل الوجوه ـ فعلمت أن الله جل وعز قد خصه بهذه المنقبة والفضيلة دوني ، أقول هذا ، وأنا ، مثلج الصدر مغتبط بسبقه وتوفيقه ، وبعناية الله بأخ لي ، أقل ما عرفت من صفاته طوال ثلاثين عاما أو أكثر أنه رجل الوفاء والإخلاص والهمم.

التحجر في قوالب جامدة».

وهذا ما أثبته السيد المؤلف بأرقام لا تقبل الريب والتشكيك ، بالإضافة إلى بيان المراحل والأدوار التي مر بها الفقه ، فقد ذكر رواة أحاديث الأحكام عند الشيعة من عهد الامام علي (ع) الى عهد حفيده الصادق (ع) حسب تعاقب أزمانهم ومراتب عصورهم ، وبحث كيفية استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها بحثا مستفيضا وافيا ، يعتمد على الوثائق الصحيحة ، والحجج الدامغة.

ولا بدع إذا أوفى المؤلف على الغاية فإنه الضليع المحيط بالمصادر والأقوال ، والأمين في النقل والحديث ، والقوي في الفقه وأصوله ، يحاكم ويفصل بنظره الرشيد السديد ، وإذا لاقى من الصعوبات ما أجهده وأعياه فلأن كتابه هذا أول كتاب في تاريخ الفقه الجعفري ، فلقد استخرج تاريخ الفقه من نفس الفقه ، ولم يستعن بكتاب في هذا الموضوع لأن قومه لم يؤلفوا فيه ، وحسبه هذا عذرا وجوابا لمن أراد أن يلاحظ وينتقد ان وجد ملاحظ ومنتقد.

ومهما يكن ، فاني على علم اليقين من رواج هذا السفر اليتيم ، وأنه سيترك أثرا ذا بال بين العلماء والقراء لأنه ـ كما قدمت ـ الكتاب الأول في فنه ، والسابق الى تاريخ هذا «الفقه» مع التحقيق والتدقيق. فجزى الله المؤلف عن الإسلام والأئمة الكرام جزاء العلماء العاملين

مقدمة الكتاب

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسلام على محمد أشرف الخلق وأطهرهم نسبا وعنصرا ذاتا ، وعلى آله الذين قال فيهم وفي كتاب الله : «اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا».

والسلام على أصحابه الطيبين الذين عملوا بسنته ، ونهجوا على سيرته ، وعلى من جاء بعدهم من العاملين في سبيل الله والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم لتدعيم هذا الدين ونشر تعاليمه ورحمة الله وبركاته.

لقد فكرت قبل مدة من الزمن في الكتابة حول تاريخ التشريع الجعفري وقد أوحى الي بهذه الفكرة سماحة العلامة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية المجاهد في سبيل هذا الدين لدفع الأراجيف والافتراءات التي يلصقها به المرجفون والمضللون بدافع الكيد للشيعة وأئمتهم.

ولم يكتب في هذا الموضوع أحد على كثرة من كتب في مختلف المواضيع الإسلامية دينية كانت أم غيرها ، ولم تبرز هذه الناحية في كتبهم مع أن الشيعة منذ عهدهم الأول الذي يتصل بوفاة الرسول الأعظم ما زالوا في الطليعة في كل ما يخص الإسلام ويدعم من كيانه

وبرزوا على غيرهم في تفكيرهم وانتاجهم في جميع الأدوار التي مروا بها وقال عنهم الدكتور عبد الرحمن البدوي في مقدمة كتابه ـ دراسات إسلامية ـ للشيعة أكبر الفضل في إغناء المضمون الروحي للإسلام ، وإشاعة الحياة الخصبة القوية العنيفة التي وهبت هذا الدين البقاء قويا عنيدا قادرا على إشباع النوازع الروحية للنفوس حتى أشدها تمردا وقلقا ، ولولاها لتحجر في قوالب جامدة (١).

على أنه لم يحدث التاريخ عن أمة لاقت من العسف والجور والتنكيل كما حدث عن الشيعة ، ولكنهم كانوا مع كل ذلك حتى في أدق المراحل من تاريخهم أبرز الفرق الإسلامية وأغناها آثارا وتفكيرا ، وأكثرها جهادا في سبيل الله وخير الإنسانية.

وفي التاريخ وكتب الرجال ما لا يحصى عددا ممن نبغوا في الفقه والحديث والفلسفة والأدب وسائر الفنون إسلامية كانت أم غيرها ، على ان التاريخ كان يحابي الحكام في جميع العصور ويسير في اتجاه معاكس لهم ، لقد أنتج الفكر الشيعي ما أغنى المكتبة الإسلامية في جميع الفنون التي لا تزال من أخصب الموارد وأغناها بالكنوز ، بالرغم من أن حراب الأمويين والعباسيين في القرون الأولى والأيوبيين والأتراك في القرون المتأخرة كانت موجهة الى صدورهم ونحورهم.

لقد بقيت أكثر من سنتين مترددا في الكتابة حول هذا الموضوع تهيبا منه ، لأنه موضوع واسع متشابك الأطراف يحتاج الكاتب فيه الى وقت طويل ومكتبة غنية بالمصادر ، ولا بد له من استعراض ظروف الشيعة والملابسات التي أحاطت بهم وعرض عدد من مشاهير فقهائهم من عهد

__________________

(١) مع الشيعة الإمامية ص ٢٧١.

الصحابة حتى العصور المتأخرة ونظرياتهم في الفقه وما دونوه في العصر الذي فيه بدأ الرواة والفقهاء بالتدوين ، وكيف تطور وانتقل من دور يغلب فيه التقليد والتبعية إلى دور المحاكمة ، الى غير ذلك من المواضيع التي تتصل بهذا الموضوع مباشرة.

لذلك كنت اتهيب هذا الموضوع مخافة أن لا أوفيه حقه ، وفيما أنا أتقدم إليه تارة واتأخر عنه أخرى قرأت كتبا في تاريخ الفقه الإسلامي لجماعة من أعلام أهل السنة تناولوا فيها التشريع الإسلامي من بدايته الى مراحل نموه وتطوره والأصول التي كان يرتكز عليها في جميع أدواره ، وعدد من الفقهاء والرواة الذين تصدروا للإفتاء ونقل الحديث في عصري الصحابة والتابعين ، ولم يرد فيما كتبوه ما يستوحي منه القارئ عن الشيعة شيئا بالنسبة لغيرهم.

لقد ذهب الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي (ص ١٦٩) الى أن غلوهم في تأييد علي وأهل بيته جرهم إلى رواية كثير من الأحاديث لا يشك الجمهور انها مكذوبة على رسول الله ، ومن أجل ذلك توقفوا في أن يقبلوا رواية لكل متشيع أو داع الى التشيع ، وفي صفحة ٢٦٣ وما بعدها امتدح الزيدية وعاب على الشيعة بعض آرائهم الفقهية.

وقد ذكرهم الدكتور محمد يوسف في كتابه الفقه الإسلامي بصورة خاطفة وانتهى الى النتيجة التالية : (ان المؤلفين الثقات من أهل السنة الذين عنوا بالتراجم وأحوال الرجال أغفلوا الكثير من رجال الشيعة ، وكثير من هؤلاء الذين يذكرونهم يصفونهم بالكذب والوضع ونحو ذلك مما يوحى بعدم الثقة بهم).

لذلك وبعد ترجيح سماحة الشيخ أيده الله عزمت على الكتابة في هذا الموضوع متكلا على الله سبحانه ، راجيا منه أن يلهمني الصواب

والسداد فيما أكتب مستمدا منه العون والهداية ، وقد عزمت على إخراجه في حلقات متتالية تنتهي الحلقة الأولى حيث تبتدئ الثانية وها أنا أقدم منه الى القراء الكرام الحلقة الأولى وقد ابتدأتها بآيات الكتاب الكريم التي تناولت تشريع الأحكام وانتهيت منها في بداية عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ومنه سبحانه استمد العون لإخراج بقية الحلقات (وهو ولينا نعم المولى ونعم النصير)

الفصل الأول

الحاجة الى التشريع

مهما كان مصدر التشريع وأيا كان المشرع ، فالتشريع هو مجموعة من القوانين والقواعد العامة يضعها المشرع لتنظيم الروابط بين الناس ، وبيان ما لهم من الحقوق وما عليهم من واجبات. ولولاه لعمت الفوضى فأخذ القوي بقوته ما يريد وفقد الضعيف كل أسباب الحياة ومقوماتها ، وإذا كان التشريع لهذه الغاية فلا بد في المشرع ان يتجرد عن أهوائه ومصالحه وأن يكون مخلصا فيما يضعه من القوانين والمبادئ العامة التي يقصد منها حماية المجتمع من طغيان القوي الجامح والأثرة وحب الذات ، ومن الصعب أن تتحقق هذه في التشريع الذي يضعه الإنسان لأنه يستمد قوته وفعاليته من سلطة الدولة التي تشرف على وضعه في الغالب لتفرضه على الأمة وكثيرا ما تتحكم فيه الأهواء وتراعى فيه حالات خاصة وظروف معينة قد يتأثر فيها رجال التشريع اما بإيحاء ممن يملكون التوجيه أو بدوافع نفسية خاصة ، لذا فهو في معرض التغيير والتعديل في الغالب حسبما توحيه مصلحة الدولة وأهواء الحكام.

أما التشريع السماوي الذي يصدر من حكيم خبير محيط بجميع الأشياء لا يضل ولا ينسى فهو منزه عن الغرض والهوى ، وبعيد عن جميع المؤثرات والانفعالات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،

وفي الوقت نفسه يربي في النفس طهارة القلب ويقظة الضمير وقوة الإحساس بالواجب وكظم الغيظ ويعنى بتوثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه ، وبينه وبين ربه ويشجع على الطاعة ويبشر العاملين به أجرا عظيما وثوابا جزيلا.

قال الله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، فالعامل بما يفرضه التشريع السماوي لا يتخلص من مسؤولية العقاب فحسب بل يأخذ على عمله الأجر ، كما يلقى غير العامل بالشريعة السماوية جزاءه في الآخرة بالإضافة الى ما يلقاه في الدنيا من أنواع العقوبات التي فرضتها الشرائع السماوية أحيانا على الجرائم والجنايات ، ومن أجل ذلك كانت القوانين السماوية أقوى أثرا في نفس المؤمن بالله لا يجد مفرا من العمل بها ولا مجالا للتهرب من مسؤوليتها في الآخرة إذا استطاع أن يتهرب من العقاب المفروض على مخالفتها في الدنيا ، فليس باستطاعة الإنسان بالغا ما بلغ إذا لم يعمل بما أمر الله ان يتخلص من مسؤولية العصيان والتمرد عليه ، وإذا كان لا بد للبشر من تشريع يحدد لهم علاقتهم بالله سبحانه وبالمجتمع ويبين لهم حقوقهم وواجباتهم ويحد من كبريائهم وأنانيتهم وينظم لهم صلاتهم بالله وبالناس وجميع شؤونهم ، كان الإسلام أولى الشرائع بالاتباع لأنه جاء وافيا بحاجة الإنسان عادلا في قوانينه ومبادئه صالحا لكل زمان ومكان جمع في مبادئه بين الروح والمادة وربط بين الدنيا والدين فلكل إنسان أن يأخذ نصيبه من الدنيا ويساهم في بناء مجتمع صالح لا بغي فيه ولا عدوان على أحد من عباد الله وعليه أن يقوم بما عليه لله سبحانه ، ولغيره من الناس.

قال سبحانه (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ

الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ، وقال (ص) يوما لأصحابه «لأن يحتطب أحدكم على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» ويجد الباحث ولو قليلا في الإسلام وتشريعه الخالد ثروة تملأ يده بالكنوز ، وتهبه كثيرا من صنوف العطاء ترتكز على الإقناع بقوة ذلك التشريع وإحاطته بنواحي الحياة مهما امتد الزمن وتطورت أساليبها واتسعت أسبابها.

ومهما سما الفكر وتقدم في ميادين العلم فهو يقدر ويكبر تلك المخلفات الإسلامية الخالدة ذات الامدادات المتواصلة التي لا تنقطع ولا ينضب معينها ، ويراها من أوفر المناجم الضخمة عطاء وثروة وأغزرها قوة وأوسعها فكرة وخيالا وأقواها أساسا لبناء مجتمع صالح تسوده العدالة وتغمره المحبة لأنها ليست من صنع الإنسان الذي يخطئ ويصيب مهما تجرد عن النوازع وتمرد على العواطف والأهواء وأخلص في جميع أعماله.

لقد جاء التشريع الإسلامي فكان آخر تشريع جاء به آخر الأنبياء وأكرمهم على الله سبحانه فكان ولا بد أن يكون نظاما يكفل للإنسان جميع نواحي حياته ويفي بجميع ما يحتاج إليه ويضمن له كرامته وحريته ويرشده إلى أسباب الحياة الهنيئة الوادعة.

ان الإسلام يأمر بالعلم الذي يصقل العقول ويحررها من الأهواء والأوهام ويطهرها من الخرافات ويأمر بالعدل والإحسان والإخاء والمحبة ويرفض التفاضل بغير العمل الصالح وخدمة الإنسانية وينهى عن الدس والكذب والظلم وكل ما يدنس الحياة ويعيقها عن التقدم ، ويحارب الاستغلال والجشع والوثنية التي لا تؤمن إلا بالمادة إلى كثير من مبادئه التي تجاري الحياة وتسير معها جنبا الى جنب نعم ان الإسلام بمبادئه

العادلة التي توفر للإنسان العزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة يتنافى مع تلك الألوان البراقة المغرية التي طغت على الأخلاق والقيم الروحية وجرفت الكثير من فتياننا وفتياتنا الى التغني بتلك المدينة المزيفة ونبذ تلك المبادئ الإنسانية العادلة ، والنظم الصالحة لبناء أمة قادرة على أن تسهم في بعث العالم ونهضته ووحدته ، انها ليست من صنع الإنسان الذي يخطئ ويصيب ويندفع مع أهوائه ونزغاته مهما حاول ان يتحرر من الناحية العاطفية التي تسيطر على الإنسان في كثير من حالاته ، وإنما هي من صنع خالق الإنسان.

لذلك كانت من أفضل ما أنتجته العقول والمواهب ومن اغزرها مادة وأقواها فكرة وأوسعها خيالا انها مبادئ إنسانية عالمية ترتكز على أساس العقيدة بالله سبحانه بشتى الأساليب والبراهين التي لا تدع مجالا في نفس الباحث إذا كان مجردا لطلب الحق ، ان الإسلام كغيره من الشرائع السماوية يحرص أول ما يحرص على محاربة الإلحاد والوثنية ، ويعطي المئات من الأدلة والبراهين التي تسد على الملحدين والجاحدين طرق الضلال والتشكيك ، ويقيم العشرات من البراهين التي لا تقبل الجدل ، على أن الإنسان مدين في كل نواحيه لقوة تسير هذا الكون تمده بالقوة والتفكير وينتج ويكافح ويجاهد ويسرت له كل ما يمكن أن تصل إليه أفكاره وينتجه عقله ، فهي السبب في كل شيء وإليها تنتهي جميع الأسباب ، وهي الطاقة الخيرة التي أمدت المخلوقات بما فيها من طاقات وامكانيات على اكتشاف الحقائق وأسرار الطبيعة ، وكلما تقدم الفكر واتسع العلم أدرك الإنسان جهله وعجزه عن الإحاطة بنظام هذا الكون وأحس أنه لا يزال في بداية الطريق وسيبقى في البداية لأنه كلما تقدم واتسعت آفاقه يلمس ان ما وصل إليه لا يعد شيئا بالنسبة لما بقي

مستورا عنه ويبقى في بداية الطريق مهما تقدم وأبدع في الإنتاج وأفاد البشرية من خيرات الأرض وأسرار الفضاء.

قال الله سبحانه وتعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وقال كريسى موريسون رئيس المجمع العلمي في النيويورك : ان البشر لا يزالون في فجر عصر العلم وكلما ازداد ضياء العلم سطوعا جلا لنا شيئا فشيئا صنعه خالق مبدع.

ان الإسلام حريص على ان يرشد الإنسان إلى تلك القوة المدبرة لهذا النظام ويفرض عليه الايمان ، بأنها هي المدبرة لكل شيء وسبب الأسباب ، ويجعل الايمان بالله والوحدانية الركيزة التي تقوم عليها دعائم الإسلام ، وأكثر ما جاء في آيات الكتاب الكريم بهذا الخصوص ورد في الآيات التي نزلت على الرسول (ص) في الأيام الأولى من بعثته ، بل ان معظم ما نزل عليه في مكة المكرمة قبل هجرته إلى المدينة يرجع الى توحيد الله سبحانه بأساليب مختلفة ، فمرة بالأدلة والبراهين ، واخرى بالأمثال والنظائر ، وثالثة بالتحذير والتخويف مما وراء هذه الدار من عذاب وأهوال أعدهما الله سبحانه للجاحدين والكافرين.

وقلما تخلو سورة من سوره من آية وآيات تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته بأساليب مختلفة حسب اختلاف الإنسان في تفكيره وفهمه ومبلغ إدراكه.

وبعد ان تناول القرآن هذه الناحية وأولاها المزيد من العناية ، انتقل إلى المرحلة الثانية ، مرحلة التشريع ، التي هي النظام الذي يجب على الأمة أن تسير على هداه ، فتناول القرآن الكريم قسما منه والقسم الآخر كان الرسول (ص) يتلقاه من الوحي حسب الحاجة وهو بدوره يبلغه المسلمين حسب حاجتهم.

وقد بلغت آيات الكتاب الكريم الواردة في مقام تشريع الأحكام سواء في ذلك ما كان منها في العبادات أو الأحوال المدنية أو الأحوال الشخصية والجنائية والقضائية ، بلغت هذه الآيات نحوا من خمسمائة آية.

والمسلمون طيلة حياتهم مع الرسول (ص) كانوا في الداخل يأخذون الأحكام عنه مباشرة وقد يرجعون الى الكتاب فيما كان نصا في حكم أو ظاهرا فيه ظهورا يحصل منه الاطمئنان بالمراد ، وأما من كان من المسلمين خارج العاصمة فكان الرسول يبلغهم الأحكام بواسطة البعثات التي كان يبعث بها الى خارج المدينة تارة ، وبواسطة القضاة والولاة الذين كان يرسلهم لإدارة شؤون تلك المناطق السياسية والدينية تارة أخرى.

ولما انتقل الى ربه الكريم وانتهت قيادة المسلمين الى الخلفاء من بعده كان الخليفة وأعوانه يشرفون على تنظيم الدولة وتطبيق الرسالة الإسلامية ، وفي المدينة الكثير من صحابة الرسول رافقوا الرسول منذ اليوم الأول من دعوته المباركة ، والبعض الآخر آمن بالإسلام ومبادئه على مراحل مرت من جهاد الرسول في سبيل تلك الدعوة ، ومما لا شك فيه ان بين هؤلاء وأولئك عددا ليس بالقليل قد أحاط بالأحكام وأدرك أسرار الكتاب نصه وظاهره ومجمله ومبينة وأخذ عن الرسول أحكاما كثيرة لم تتناولها النصوص القرآنية وآيات التشريع ، وهؤلاء هم المعنيون من بين صحابة الرسول بفقهاء الصحابة والذين قاموا بنشر رسالة الإسلام وتعاليمه المقدسة وكانوا المرجع في التشريع حتى عهد التابعين وتابعيهم ، وفي الفصول الآتية من هذا الكتاب سنشير الى الجهود التي بذلها المخلصون من الصحابة وغيرهم لنشر الشريعة وتعلم الأحكام.

ومهما يكن الحال فالمقصود في المقام أن التشريع لا بد منه لحفظ النظام وبناء مجتمع صالح ، وان التشريع الإسلامي جاء وافيا بحاجة الإنسان في دنياه وآخرته فقد أمر بالعمل والجهاد ونهى عن السؤال والتسول وسوى بين الناس فلا سيد ولا مسود ولا ظلم ولا عدوان ، الناس كلهم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لأحمر على اسود ولا لأسود على احمر الا بالتقوى ، وعالج نفس الإنسان وحرص على تصفيتها من الرذائل التي يؤدي الاستمرار عليها الى الجحود والشرك بالله ، كي لا تصبح مظلمة حالكة لا تبصر الحق ولا تدرك الواقع ويكون الشيطان لها بالمرصاد يمنيها حسن العاقبة وانها على صواب من الأمر. قال سبحانه في سورة الزخرف :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

الأسلوب القرآني في الدعوة الى التوحيد :

منذ أن بدأ الرسول (ص) دعوته المباركة ، افتتحها بالدعوة الى إله واحد أحد لا شريك له ولا ولد ، بعد ان أتم عليهم الحجة ، وغرس فيهم قابلية التفكر وإرجاع المسببات الى أسبابها بمقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فالطفل على سذاجته وطبيعته يدرك ان كل شيء لا بد له من سبب في وجوده وبصورة طبيعية يعترف بوجود خالقه وموجده منذ نعومة أظفاره.

ولذلك كان الإسلام دين الفطرة أي أن كل ما فيه فطري وضروري ، يعترف به العقل بصورة طبيعية ارتكازية ، وقد اشتمل

الكتاب الكريم على عدد ليس بالقليل من آياته البينات ، تضمنت إرشاد العبد وتوجيهه الى خالق الكون ، وانه هو المدبر والمبدئ والمعيد ، وكل آية من هذه الآيات على اختلاف أساليبها ، تكفي لاقناع الإنسان إذا استعمل عقله وتفكيره بوجود الله ووحدانيته ونعمة التي لا يحصيها العادون ، فمرة يوجهنا القرآن الى ما في الأرض من حيث تكوينها والنعم الجسام التي أعدها للإنسان في ظاهر الأرض وباطنها ، واخرى يصعد بالإنسان إلى الفضاء ، ليريه عظمة الخالق الذي زرع في هذا الفضاء الذي لا يدرك الإنسان نهايته من الكواكب والنجوم على اختلاف آثارها ومنافعها. وثالثة إلى النظر في خلقه وتكوينه ونشأته ومراحل حياته ومماته ، الى كثير من أمثال هذه الأساليب التي وردت في الكتاب الكريم ، ليبقي الإنسان على ما فطر عليه من الايمان بالله ووحدانيته كي لا يقول قائل إنا كنا عن الاعتراف بوجود الله ووحدانيته غافلين ، أو يعتذر المعتذر عن الإشراك أو الكفر بالله وبما أنزل : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فلا ينبغي ان نهلك ونعاقب بما فعل المبطلون.

(إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

نماذج من آيات التوحيد :

قال سبحانه مشيرا إلى الأرض والسماء وما فيهما من آيات بينات على وجوده.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) وقال سبحانه : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ

يَهْتَدُونَ)(١) وفي آية أخرى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال في آية أخرى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢). وقال سبحانه ، محاولا أن يثير شعور الإنسان بالمنافع ، وإحساسه بالجمال ، ويمنية بالملذات ، وجميع ما تصبو اليه النفوس :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ،. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وقال سبحانه مشيرا إلى المحسوس من آيات وجود الله لتكون لهم معالم تدلهم على الخالق العظيم :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ثم ارجع الإنسان إلى نفسه ليتخذ من تكوينها دليلا على وجود الخالق القدير الذي أوجد الإنسان في أحسن تقويم بهذا الشكل

__________________

(١) سورة الأنبياء.

(٢) سورة الغاشية.

الذي ادهش العقول وحير الألباب ، قال سبحانه : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(١) وهذا النوع من البرهان الحسي قد تكرر في الكتاب الكريم فقال سبحانه في توبيخ المشركين الذين أنكروا على الرسول (ص) حديث البعث والنشور : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٢) وقال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(٣).

وقال سبحانه مشيرا الى بعض نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى ، والتي تستوجب له الشكر والاعتراف بالجميل.

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)(٤).

واني اتجهت وأمعنت النظر في كتاب الله سبحانه ، تراه يغرس الايمان في نفوس الجاحدين ، والتصديق في قلوب المشككين ، ويسد

__________________

(١) سورة العلق.

(٢) سورة القيامة.

(٣) سورة الإنسان.

(٤) سورة الأعراف.

الطريق على المضللين ، قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(١). وفي السورة نفسها نراه سبحانه يمهد للجاحد الطريق الى الايمان عن طريق الحس والمشاهدة بأسلوب صريح واضح ، ويبعث في نفسه الدهشة والحيرة ، ويقوده الى الايمان بتلك القوة المدبرة لهذا النظام الحكيم العادل ، لقد سأل إبراهيم ربه كيف يحيي الموتى بعد الفناء وتبدد الأوصال ، لا لشبهة دخلت عليه ولكن ليقنع بذلك الجاحد الذي لا يؤمن الا بالمحسوسات ، لقد سأل إبراهيم ربه ان يريه كيف يحيي الموتى بعد الفناء ، قال سبحانه : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وأمثال ذلك كثير في القرآن الكريم فهو تارة يبتدئهم بالبراهين والأمثال حسبما تقبله عقولهم ويتفق مع نزعاتهم وتقاليدهم ، واخرى يسوق لهم الأدلة في مقام التنديد على المنكرين للتوحيد والمعاد ورسالات الأنبياء ، من غير ان يرتكز جحودهم على العلم والمنطق : قد سلكوا في ظلمات من الجهل والعناد واتبعوا أهواءهم وكل شيطان أضلهم عن سبيل الله وقد وصفهم الله سبحانه في كتابه فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ).

أدلة البعث والمعاد في القرآن :

وبعد ان أقام لهم البراهين التي لا تدع مجالا لمرتاب ولا لجاحد ،

__________________

(١) سورة البقرة.

توعدهم بالخزي والهوان في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، ان هم أصروا على الضلال ، واتبعوا سبيل الشيطان ، فقال سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١). وقد جاء في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى شَهِدْنا ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(٢) ، لقد جاء في تفسيرها ان الله تعالى قد أحضر في عالم الذر كل انسان ذكرا أو أنثى وجعلهم شهودا على أنفسهم وأخذ منهم الاعتراف على وجوده ووحدانيته : بقوله ألست بربكم. قالوا بلى شهدنا.

أي أنه أخرجهم الله من أصلابهم على نحو توالدهم نسلا بعد نسل الى يوم القيامة ، فخرجوا كالذر فعرفهم نفسه وأراهم صنعه ، وانما فعل ذلك كي لا يقولوا انا كنا عن الاعتراف بوجود الله ووحدانيته غافلين ، أو يعتذر المعتذر عن الإشراك أو الكفر بالله وبما أنزل : انما أشرك اباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، فلا ينبغي أن نعاقب ونهلك (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(٣).

لقد اشتمل القرآن الكريم على عدد من الآيات لا يقل عن آيات التشريع ان لم تكن أكثر منها كلها حول الوحدانية والمعاد ، الأصلين

__________________

(١) سورة الجاثية آية ٧.

(٢) سورة الأعراف.

(٣) التكامل في الإسلام لأحد أمين الايراني.

الوحيدين اللذين عليهما ترتكز رسالة الإسلام وجميع تعاليمه المقدسة ، فكان مما لا بد منه ان تتكرر تلك الآيات حول هذين الأصلين بعد ان طغت على البشر موجة الشرك والإلحاد ، لا سيما والبلاد العربية التي خرجت منها رسالة الإسلام الخالدة ، كان الغالب على أهلها عبادة الأوثان والأصنام من دون الله منذ عشرات السنين ، فكان من الصعب عليهم ان يتقبلوها طائعين ، وهي أول ما تهدف اليه اقتلاع ما تركز في نفوسهم من عهد الآباء والأجداد الغابرين ، وإيجاد نظام جديد لم يعرفوا عنه القليل أو الكثير.

لذلك كان تأكيد مبدأ التوحيد في القرآن الكريم والاهتمام به امرا لا مفر منه ، بتلك الأساليب المختلفة حسب اختلاف العقول والأفهام والنزعات ، ولقد اقتنع بها الكثير من الجاحدين فدخلوا الإسلام مؤمنين بأصوله وفروعه نتيجة لتلك الآيات البينات.

وأكثر آيات التوحيد وغيره من أصول الإسلام ، نزلت على الرسول وهو في مكة قبل هجرته إلى المدينة ، وفي المدينة بعد هجرته إليها نزلت أكثر آيات التشريع بعد ان وجد الايمان بالله والرسول طريقه واضحا الى قلوب الألوف من البشر ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، بفضل جهاد الرسول وتضحياته في سبيل تلك الدعوة.

ولا بد لنا قبل الحديث عن آيات التشريع ، من بيان أمرين يرجع أحدهما إلى بيان نوع المكلف به حسب الاصطلاح الفقهي ، والثاني إلى الأسلوب الذي اتبعه القرآن في مقام التشريع. أما فيما يتعلق بالأمر الأول ، فالأحكام التي شرعها الإسلام عن طريق القرآن أو السنة الكريمة ، منها ما يرجع الى صلة الإنسان بربه وهي العبادات التي لا تصح من المكلف إلا بعد القصد إليها والإتيان بها امتثالا للأمر المتعلق

بها ، ومن هذه ما يسمى في عرفهم بالعبادات البدنية كالصوم والصلاة ، بمعنى أنها تقوم بعمل المكلف نفسه وان كان لها آثار اخلاقية واجتماعية تعود على فاعلها وعلى المجتمع بالخير إذا اتى بها المسلم مخلصا في إتيانها مقرا لله وحده ، بالعبودية وبنعمة التي لا يحصيها العادون ، قال سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ومن العبادات التي لا تصح إلا بالنية ، الزكاة التي فرضها الإسلام في مال الأغنياء كضريبة عليهم لسد حاجة الفقراء وهي التي تشكل الجزء الأكبر من ميزانية الدولة الإسلامية يوم ذاك.

وفي تشريع هذا النوع من العبادة مصالح كثيرة ، وأهمها سدّ حاجة الفقراء والمعوزين ، لو قام المسلمون بآدائها وصرفها في جهاتها الخاصة.

قال رسول الله (ص) ان الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم.

وقال أبو عبد الله الصادق (ع) (أيما مؤمن حبس مؤمنا عن ماله وهو محتاج اليه ، لم يذقه الله من طعام الجنة ولا يشرب من الرحيق المختوم). ومن الأمور التي شرعها الإسلام ولا تصح إلا بالنية ، الحج وهو في عرفهم من العبادات بالإضافة إلى كونه عملا يشتمل على أفعال واعمال يقوم بها المكلف ، ويحتاج الى بذل مقدار من المال ليستطيع العبد أداءه ، ولكن المشرع لم يلاحظ المال بذاته بالنسبة إلى الحج ، ولذلك كان شرطا في وجوبه فلا يجب على المكلف تحصيله كما هو الحال في جميع شرائط الوجوب (المعبر عنها في عرف الأصوليين بمقدمات الوجوب) ، وفي هذه العبادة ما يعود على المجتمع بالخير ، لو أحسن المسلمون استغلال هذا الموسم الذي يجمع مئات الألوف من مختلف الأقطار لما فيه خير العرب والمسلمين هذا بالإضافة إلى الناحية الروحية

التي تتجسد في أكثر مراحل تلك الفريضة.

ومن الآيات التي وردت في مقام تشريع الأحكام ، الآيات التي وردت لتحديد معاملة العباد بعضهم مع بعض ، سواء منها ما يتعلق بتكوين الأسرة كالزواج والنسب وما يتبعهما كالطلاق والمواريث والوصايا وغير ذلك ، أو الآيات الواردة في تشريع المعاملات بين الناس وشروطها ، كالبيع والإجارة والصلح مما يسمى معاملة في عرف الفقهاء ، أو الآيات التي وردت لتشريع العقوبات على الجرائم والمخالفات وما يتصل بذلك مما ورد له ذكر في الكتاب الكريم.

أو الآيات التي نصت على أحكام الصيد والذبيحة ، وهذه العناوين التي شرع الإسلام لها أحكامها الخاصة ، سواء كان ذلك عن طريق الكتاب ، أو عن طريق الرسول (ص) كالزواج وتوابعه ، والبيع وغيره من المعاملات ، وأحكام الجرائم والمخالفات وغير ذلك مما ذكرناه ، لا تدخل في عنوان العبادات ، حسب اصطلاح الفقهاء ولا تتوقف صحتها على الإتيان بها بداعي الأمر ، وما كان منها واجبا لا يقصد من وجوبه إلا إيجاده في الخارج بأي داع كان يسمى واجبا توصليا ، وقد يسمى معاملة ، قال الشهيد الثاني في كتابه المسمى بالقواعد : كل حكم شرعي يكون الغرض منه الآخرة ، اما لجلب نفع فيها ، أو لدفع ضرر يسمى عبادة ثم قال وكل حكم شرعي يكون الغرض الأهم منه الدنيا سواء كان لجلب النفع أو لدفع الضرر يسمى معاملة ، سواء كان جلب النفع أو دفع الضرر مقصودين بالأصالة أو التبعية.

الأساليب التي أتبعها القرآن في التشريع :

الأمر الثاني ان القرآن الكريم لم يلتزم أسلوبا واحدا في الطلب

والإباحة ، ولا في التحريم والكراهة ، فقد جاء الطلب بصيغة الأمر كما ورد في الآية من سورة النحل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، وفي سورة النساء : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، واخرى بالأخبار بأن الشيء مكتوب عليكم ، وقد جاء من هذا النوع في سورة البقرة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) ، و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلى كثير من أمثال ذلك. ومرة يكون الطلب بصيغة الأخبار ، ومن ذلك قوله سبحانه في آية الحج : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وقد ورد الطلب بحمل الفعل المطلوب على المطلوب منه كما في الآية (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وقد ورد هذا الأسلوب من الطلب متبوعا بما يفيد عدم كونه حتميا كما في آية الرضاع (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وآخر الآية كما يدل على ان هذا النوع من الطلب ليس إلزاميا ، يدل على ان أقصى مدة الرضاع هي الحولان.

وقد يكون التكليف بصيغة الطلب ، أو بالجملة الخبرية المقرونة بلام الطلب كما جاء في الآية من سورة البقرة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فقد نصت الآية على المحافظة على الصلاة بصيغة حافظوا التي تدل على الطلب ، وقد يكون طلب الشيء بواسطة وقوعه جزاء للشرط ، كما في الآية من سورة البقرة : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ـ (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقد تدل الآية على الطلب لأنها مقرونة بما يرغب العبد بالإتيان بالمطلوب كما في قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي

يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) أو لوصف العمل بصفة محبوبة للمكلف ، كما في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الى غير ذلك من الأساليب المختلفة حسب المناسبات والدواعي ، ومقتضيات الأحوال.

وكما اختلفت صيغ الطلب واساليبه ، كذلك اختلفت الصيغ التي وردت لغرض ترك الأفعال بعد ان رأى الشارع الخير في تركها لأنها لا تعود على الفرد والجماعة بالمصلحة في دينهم ودنياهم ، فقد ورد طلب الكف عن الفعل بصريح النهي ، كما في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١) وقوله : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) فالنهي في هاتين الآيتين جاء بمادته ولكن كان بلسان الأخبار في مقام الطلب.

وجاء بلسان التحريم في قوله سبحانه : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) ، وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(٣) كما جاءت في القرآن الكريم آيات ، لسانها عدم أحلية الفعل ، والمقصود منها التحريم من إطلاق اللازم وارادة الملزوم لأن عدم حلية الشيء تلازم حرمته.

قال سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ،

__________________

(١) سورة النحل.

(٢) سورة الأعراف.

(٣) سورة الأنعام.

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(١) ، وقد ورد الترك بصيغة المضارع المسبوق بلا الناهية.

وذلك قوله سبحانه (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٢) ، وورد بصيغة الطلب كما في قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) وبنفي البر والخير عن العمل أو بنفيه من أساسه في مقام التشريع ، فمن الأول قوله ، (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، ومن الثاني الآية ، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٣) ، ونفي هذه الأمور خارجا يرجع الى طلب تركها تشريعا بمعنى ان الله سبحانه لا يريد وقوعها من العبد وورد أيضا بما يفيد كون العمل مبغوضا لله سبحانه بلسان التهديد والوعيد عليه بالعذاب الأليم ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٤) ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)(٥).

ومجمل القول في ذلك ان القرآن الكريم لم يلتزم أسلوبا وصيغة خاصة للتعبير عن المطلوب من فعل أو ترك ، بل سلك في ذلك ما تعارف عند الناس في استعمال الطرق التي تكشف عن المراد ، والتي تختلف حسب اختلاف الدواعي والأغراض بالأساليب المتعارفة في تفهيم

__________________

(١) سورة البقرة.

(٢) سورة الأنعام.

(٣) سورة البقرة.

(٤) سورة التوبة.

(٥) سورة آل عمران.

مراد المتكلم وخطاباته ، والطريقة التي استعملها في تشريع الوجوب والتحريم وردت بالنسبة إلى إباحة الفعل التي ترجع الى ترك أمره الى المكلف ، فمرة وردت الإباحة بصيغة الحل ، وأخرى بنفي الإثم ، وثالثة بنفي الجناح حسب المناسبات ، وأسباب النزول ، وعلى كل حال ليس للقرآن الكريم صيغة خاصة في تفهيم الأحكام الشرعية ، إلزامية كانت أم غيرها. كما يبدو للمتتبع في آيات التشريع على اختلاف أساليبها وأسباب نزولها.

عناية القرآن بالصلاة :

ولقد سبق منا أن الأحكام التي شرعها الإسلام عن طريق القرآن ، منها ما يرجع صلة العبد بربه وذلك كالعبادة التي لا تصلح إلا بالنية ، ومن أظهر أفراد هذا النوع الصلاة ، والظاهر ان هذا اللفظ ليس من مخترعات الإسلام ، لوروده على لسان العرب ، قبل ظهور الإسلام بمعنى الدعاء والاستغفار ، وقد ورد في شعر الأعشى وهو يصف الخمرة :

وصهباء طاف يهوديها

وأبرزها وعليها ختم

وقابلها الريح في دنها

وصلى على دنها وارتسم

والمقصود من ذلك الدعاء لها بأن لا تفسد ، وقال الأعشى :

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نوما فأن لجنب المرء مضطجعا

يريد منها أن تدعو له بمثل ما كانت تدعو له ، أي تكرر الدعاء (١).

وفي القرآن الكريم ورد ذكرها بمعان مختلفة ، ففي قوله سبحانه :

__________________

(١) من تاريخ التشريع الجعفري للحضري.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ)(١) ، وهي من صلوتا في العبرية موضع الصلاة فيكون استعمال العرب لها بمعنى الدعاء من إطلاق اسم المحل على الحال تجوزا ، ووردت في آيات الكتاب بمعناها العربي وهو الدعاء والرحمة قال سبحانه : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(٢) ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ولا معنى لها في هذين الموردين إلا ذلك ، وكانت صلاة العرب قبل الإسلام ، هي الدعاء عند تلبية الحج ، وقال ابن عباس كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون ، وحكى الله حالهم بقوله ، (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(٣) والمكاء هو الصفير والتصدية هي التصفيق ، فيكون المكاء والتصدية نوعا من العبادة عندهم ، وقد سميت هذه العبادة بالصلاة ، وعن مجاهد وقتادة ان النبي (ص) ، كان إذا صلى في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفيق والتصفير ، ليخلطوا عليه صلاته ، وهذه الرواية تفيد انهما ليسا من نوع العبادة ، بل كانوا يستعملونهما إيذاء للرسول ولكن ظاهر الآية يؤيد ما قاله ابن عباس من أن عبادتهم كانت على هذا النوع وذكر بعض المفسرين ان العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، لأنهم لا يناجون الله بثيابهم التي أذنبوا فيها ، ولما جاء الإسلام أمرهم أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد وفي مقام العبادة قال سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(٤).

__________________

(١) سورة الحج.

(٢) سورة النور.

(٣) سورة الأنفال.

(٤) سورة الأعراف.

ومهما كان معناها قبل الإسلام فهي في الإسلام ، وفي القرآن الكريم بمعناها المعروف لها عند المسلمين ، وبهذا المعنى فرضها الله سبحانه عليهم ، وهي حقيقة فيه اما لأنها منقولة من معناها اللغوي اليه ، لمناسبة بين المعنيين واما لأنها استعملت في المعنى الثاني مجازا لقرائن كانت حين الاستعمال ولكثرة استعمالها فيه ، أصبح يفهم منها عند إطلاقها ، فتكون حقيقة فيه بالوضع التعييني ، وأما لأن المشرع وضعها لمعناها الشرعي بدون ان ينقلها من المعنى الأول أو يستعملها في الثاني على سبيل التجوز ، وبناء على ذلك تكون حقيقة منه بالوضع التعييني ، فتكون مشتركة بينه وبين الأول ، أي من الألفاظ المشتركة ذات المعنيين ، وليس لشيء مما نص عليه القرآن وفرضه الإسلام ، عبادة كان أو غيرها تلك العناية التي للصلاة. فلقد ذكرها في موارد متعددة صريحة لا تحتاج الى التفسير والتأويل ، بالنص الصريح تارة والتهديد والذم لتاركها اخرى ، وبالترغيب لفاعلها والثناء عليه ثالثة ، الى غير ذلك مما يدعو الى الحرص عليها والاهتمام بشأنها ، وقد جاءت السنة مؤكدة عناية القرآن الكريم وحرصه على تأديتها ، وفي الحديث انها ان قبلت قبل ما سواها من الأعمال التي فرضها الإسلام ، وان ردت رد ما سواها ، فلا يقبل للإنسان أي عمل إذا لم تكن صلاته مقبولة لله سبحانه ، وورد أنها أول ما يسأل عنه العبد يوم يقف الناس للحساب بين يدي الله ، وانها معراج المؤمن وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقد نصت على ذلك الآية الكريمة ، ومع عناية القرآن بها وحرصه عليها ، لم يبين عدد المفروض فيها ولا كيفيتها بصراحة تامة ، والآيات التي نصت عليها كان قسم منها لبيان أصل تشريعها ، وقسم كان بصدد التأكيد والحث والترغيب على فعلها وفي بعض الآيات أشار الى كيفيتها إجمالا ، كما أشار في بعضها الآخر إلى أوقاتها بنحو الإجمال

ومن أجل ذلك كان الخلاف بين علماء المسلمين في وقت الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وسنشير إلى آرائهم حول هذه الناحية ، والكتاب الكريم قد وضع مبادئ التشريع في كل ما فرضه الإسلام ، وترك تفاصيل تلك المبادئ وكيفيتها وكميتها الى الرسول (ص) ، قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١) ، وكما فرض القرآن على الرسول ان يبين للناس ما نزل إليهم ، فرض عليهم ان لا يفرقوا بين ما يجيء به الرسول وما جاء به القرآن لأنه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، فقال موجها خطابه الى جميع المسلمين ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) فكل ما جاء به الرسول من أوامر ونواهي لا يفرق بينها وبين أوامر الكتاب ونواهيه ، وقد بين الرسول الى الناس ما أجمله القرآن أي ما ورد مجملا في آياته من الواجبات والمحرمات والمباحث ، فتمت بذلك الحجة وانقطعت المعذرة ، فليس لأحد ان يقول بعد ذاك (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى).

ولا يهمنا الآن أن نتوسع في هذه الناحية ، وانما الذي لا بد منه هو الإشارة الى بعض الآيات التي تنص على انها مفروضة على المسلمين في جميع حالاتهم وان اختلفت كيفيتها باختلاف حالات المكلفين.

الآيات التي تنص على تشريع الصلاة :

قال سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ

__________________

(١) سورة النحل.

(٢) سورة الحشر.

الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(١) ، وقال : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(٢) ، (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٣) ، الى كثير من الآيات الكريمة التي تنص على انها من أعظم دعائم الإسلام وأركانه ، وقد نصت بعض الآيات القرآنية على بعض أجزائها كالركوع والسجود والطهور وغير ذلك مما هو شرط في صحتها أو جزء محقق لماهيتها بصورة إجمالية ، وترك بيان الباقي من اجزائها وشرائطها ، وتفصيل ما أجملته الآيات التي تعرضت لبعض اجزائها وأوقاتها إلى الرسول (ص) ، وقد قام الرسول بأداء مهمته طيلة حياته ، وأودع ذريته وبعض الطيبين من صحابته جميع ما تحتاجه الأمة لدينها ودنياها وأرشد أمته الى اتباع الطريق الواضح الذي لو سلكوه لن يضلوا من بعده ابدا فقال اني مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ، ولكن الأهواء والأطماع انحرفت ببعضهم عن سنته ، وسلكت بهم غير طريقه فكان الخلاف بين المسلمين في كثير من فروع الإسلام ، وأصول المذاهب ، ولا تزال آثار هذا الخلاف حية حتى اليوم ، يجد فيها من يريدون الكيد للإسلام ، ما يحقق لهم اطماعهم وأغراضهم.

ولا بد لنا ونحن نتحدث عن التشريع الجعفري أن نشير إلى جهة الخلاف بين الشيعة وغيرهم في بعض المواد الفقهية التي شرعها الإسلام عن طريق القرآن أو الرسول (ص) كل مادة في محلها ، وفيما سبق قد ذكرنا ان القرآن الكريم الذي نص على تشريع الصلاة في بعض آياته لم

__________________

(١) سورة الإسراء.

(٢) سورة هود.

(٣) سورة البقرة.

يحدد لها وقتها بصراحة لا تقبل الجدل والتأويل ، لذلك كان الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البيت في وقتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

فذهب الشيعة تبعا لأئمتهم بجواز الجمع سفرا وحضرا لعذر ولغيره في عرفات وغيرها وذهب غيرهم الى عدم جوازه إلا في حالات خاصة ، على خلاف بينهم في ذلك ، فالاحناف لا يجيزونه إلا في عرفات والمزدلفة ، والمذاهب الثلاثة الباقية اتفقوا على جوازه في السفر ، واختلفوا في غيره من الأعذار كالمطر والطين والخوف والمرض (١) ، وقد احتج الشيعة لما ذهبوا إليه بالأحاديث الصحيحة المروية عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام الصريحة في جواز الجمع مطلقا ، ويمكن ان يستدل لجوازه أيضا بالصحاح المروية عن طريق أهل السنة ، فقد ذكر مسلم في صحيحة في باب الجمع بين الصلوتين في الحضر عن يحيى بن يحيى ، قال قرأت على مالك عن ابي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صلى الرسول (ص) الظهر والعصر جمعا ، والمغرب والعشاء جمعا ، من غير خوف ولا سفر.

وفي صحيح مسلم ، قال حدثنا أبو الربيع الزهراني ، عن حماد بن زيد عن عمر بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس ، ان رسول الله صلى بالمدينة ثماني وسبعا ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وفي رواية ابن مسعود ان النبي (ص) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة ، فقيل له في ذلك : فقال صنعت هذا لئلا تخرج أمتي (٢).

وبمضمون هذه الرواية أحاديث كثيرة تنص على ان النبي جمع بين

__________________

(١) مسائل فقهية للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين صفحة ٤.

(٢) المصدر نفسه صفحة ١٠.

الصلاتين في المدينة لا لعذر بل من باب التوسعة على أمته ولما كانت هذه الرواية صحيحة عندهم اضطروا إلى تأويلها كل بما يوافق مذهبه.

أوقات الصلاة :

ولا بد لنا من الرجوع إلى الآية الكريمة التي حددت أوقات الصلوات الخمس تحديدا إجماليا ، قال سبحانه :

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) وقد اختلف المفسرون في الدلوك والغسق ، لتعدد المعاني المنقولة عن اللغويين لهاتين الكلمتين ، فالإمام الرازي في الجزء الخامس من تفسيره الكبير قال فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر ، وعلى هذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلوتين ، وان يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء ، فيكون هذا الوقت مشتركا بينهما ، ومقتضى ذلك جواز الجمع بينهما مطلقا (١) ، وبعد أن ذكر ذلك قال إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب ان يكون الجمع جائزا لعذر في السفر والمطر وغيرهما (٢).

هذا على تقدير ان يكون المراد بالغسق أول الظلمة ، أما إذا فسرناه بتراكم الظلمة وشدتها عند منتصف الليل كما نقله الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله الصادق (ع) (٣) فوقت الفرائض الأربع الظهر

__________________

(١) مسائل فقهية للعلامة شرف الدين صفحة ١٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) مجمع البيان المجلد الثالث طبع العرفان صفحة ٣٤٣.

والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال الى نصف الليل ، فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلى المغرب والمغرب والعشاء يشتركان بالوقت من المغرب الى نصف الليل ، وفريضة الصبح تختص بوقتها أول الفجر. كما تدل على ذلك الآية الكريمة : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ، وقيل في تفسير الآية إن الدلوك هو الغروب والغسق هو اختلاط الظلام ، وعلى هذا فالآية لم تتعرض إلّا لوقت المغرب والعشاء والفجر (١) والذي يميل إليه في مجمع البيان أن الله سبحانه جعل من دلوك الشمس الى غسق الليل وقتا للصلوات الأربع إلّا أن الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى المغرب ، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من المغرب الى الغسق ، وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ولازم ذلك أن المراد بغسق الليل في الآية الكريمة هو نصف الليل حين اشتداد الظلمة ، فتكون الآية بمنطوقها قد تناولت الحدين الأول والأخير ابتداء وانتهاء ، اما نهاية وقت الظهر والعصر ، وأول وقت المغرب والعشاء فقد اهملتهما الآية ، وتركت تفصيل ذلك إلى الرسول ، وقد أيد الطبرسي رأيه برواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله الصادق (ع) في تفسير الآية بما يرجع إلى هذا المعنى ، والإنصاف أنه بعد التأمل في الآية ، وما قيل حولها من الآراء والتفاسير ، لا يجد الباحث مجالا لترجيح أحد الآراء على الآخر رجحانا يحصل منه الاطمئنان بالمراد ، فكل ما قيل فيها ليس ببعيد عن مفاد الآية بمجموع صيغتها ، فليس لأحد الفريقين ان يعتمد عليها وحدها لإثبات ما ذهب اليه ، بعد أن كانت جميع الاحتمالات متساوية بالنسبة إليها ، أما ناحية الجمع بين الصلوتين أو

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الثالث صفحة ٤٣٤.

تفريقهما ، فالآية ظاهرة في ان مجموع الوقت يبتدئ بالدلوك وينتهي بالغسق بأي معنى أريد من هاتين الكلمتين يصلح لأداء الفرائض الأربع ، ولا نظر فيها الى تفريقهما بالمعنى الذي يراه أصحاب المذاهب الأربعة أو الجمع الذي يدعيه الإمامية ، وعلى كل حال فالذي ذهب إليه الشيعة تبعا لأئمتهم (ع) ليس ببعيد عن ظاهر الآية لا سيما بعد ان وردت الأحاديث الصحيحة المؤيدة لإرادته منها.

أنواع الصلاة المفروضة :

من جملة أفراد الصلوات التي شرعها الإسلام صلاة الجمعة ، وقد اهتم بها القرآن الكريم وأكد على المسلمين المحافظة عليها. بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١) ، وورد في السنة الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد هذه الفريضة وترغب فيها ، وكان المسلمون يحرصون على أدائها في أيام الرسول وبعده ، ولا زالت الى اليوم تؤدي في كثير من الأقطار الإسلامية.

ولا خلاف بين المسلمين في رجحانها غير أن الشيعة الإمامية يختلفون عن بقية إخوانهم المسلمين في كيفية رجحانها ، فلا يرون وجوبها التعييني إلا في عهد الحاكم العادل ، أما إذا كان الحاكم جائرا فهم بين من يرى وجوبها تخييرا بينها وبين صلاة الظهر ، وبين من يرى استحبابها ، قال الشهيد الثاني ان وجوب الجمعة حال غيبة الإمام (ع) ظاهر عند أكثر العلماء. ولو لا دعوى الإجماع على عدم الوجوب التعييني لكان القول به في غاية القوة. فلا أقل من التخيير بينها وبين

__________________

(١) سورة الجمعة آية ٩.

الظهر مع رجحان الجمعة (١). وهناك من يرى عدم مشروعيتها بعد غيبة الإمام (ع).

والآية الكريمة التي نصت على تشريعها حيث إنها لم تتعرض لشروطها وكيفيتها كانت محلا لاختلاف علماء المسلمين ، في وجوبها بقول مطلق أو ان وجوبها مشروط بوجود الامام العادل أو نائبه الخاص ، كما حصل الاختلاف بينهم في شروطها ، وقد أشرنا الى ما يراه الإمامية من حيث وجوبها أو استحبابها.

أما عند غيرهم فالأحناف يتفقون مع الإمامية في أن وجود السلطان أو نائبه شرط في وجوبها غير ان الإمامية يعتبرون عدالة السلطان أو نائبه ، وإلا كان وجوده كعدمه ، والأحناف يكتفون بوجوده ولو لم يكن عادلا.

وأما الشافعية والمالكية والحنابلة ، فلا يرون وجود السلطان شرطا في وجوبها (٢) ، ومع أنهم اتفقوا على أنه يشترط فيها ما يشترط في غيرها من الصلاة المفروضة كالطهارة والستر والقبلة والوقت والمكان وأنها تجب على الرجال دون النساء وعلى المبصر دون الأعمى وأنها لا تصح إلا جماعة وتكفي عن صلاة الظهر ، فمع اتفاقهم على هذه النواحي ، فقد اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجماعة في صلاة الجمعة فالإمامية بين قائل لا بد من خمسة غير الامام ، وقائل لا بد من سبعة غيره ، بينما يرى المالكية ان أقل ما تنعقد به اثنا عشر رجلا غير الإمام ، ويرى

__________________

(١) في كتاب اللمعة باب الصلاة نقل عنه ذلك العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كتاب الفقه على المذاهب الخمسة صفحة ١٥٠.

(٢) الفقه على المذاهب الخمسة للعلامة مغنية صفحة ١٥٠.

الشافعية والحنابلة أنها لا تنعقد بأقل من أربعين معهم الامام.

وقال الأحناف بجواز السفر لمن وجبت عليه بعد الزوال بعد استكمال شروطها ، بينما ترى بقية المذاهب ومن بينهم الشيعة عدم جواز السفر في مثل هذا الفرض (١).

وجميع المذاهب متفقون على أن الخطبتين شرط في انعقاد الجمعة قبل الصلاة وبعد دخول الوقت ، غير انهم اختلفوا في وجوب القيام حال الخطبتين ، فيرى الشيعة ومعهم الشافعية والمالكية وجوبه كما يرى الأحناف والحنابلة عدمه (٢).

وقال الإمامية ان الواجب في الخطبتين حمد الله والثناء عليه بما يليق بشأنه والصلاة على النبي وآله ، ووعظ الحاضرين في مجلس الخطبة ، وقراءة شيء من القرآن الكريم بزيادة الاستغفار والدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الخطبة الثانية ، وأن يفصل الخطيب بين الخطبتين بجلسة قصيرة.

واختلفت المذاهب الأربعة في كيفية الخطبتين ، ومنشأ الاختلاف في جميع ما ذكرناه ، هو إجمال الآية التي نصت على تشريعها من هذه الجهات ، فقال كل منهم برأيه وبما صح عنده من سنة الرسول ، ولم يرجعوا الى أهل البيت الذين أودعهم الرسول (ص) علمه وعرفهم أسرار الكتاب وغوامضه ، وجعلهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعملون.

ولقد فرض الإسلام الصلاة على المسلمين في جميع حالاتهم ، في السفر والحضر والأمن والخوف والصحة والمرض والضعف والقوة ،

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

وراعى في تشريعها جميع هذه الحالات ، توسعة منه على عباده وتسهيلا عليهم في امتثال أوامره ونواهيه.

ففي حالة السفر فرض عليهم قصر الصلاة ، والإتيان بها ركعتين بدلا من أربع ركعات ، قال سبحانه : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) فقد نفى في هذه الآية عن الإنسان أي جناح ان قصر من صلاته إذا ضرب في الأرض ، ولكن الآية الكريمة ليس فيها ما يشير إلى كمية المسافة وكيفيتها ، وفي مثل ذلك يكون المرجع في حكمها ، وتحديد موضوعها وبيان ما أجملته الآية الكريمة هو الرسول (ص) وقد بين جميع ما هو متروك اليه قولا وعملا ، ورواه عنه الأمناء الحريصون على سنته وسيرته ، ونتج من إجمال الآية واختلاف الرواة فيما نقلوه عن الرسول (ص) ، واختلافهم في فهم الحديث ، نتج من جميع ذلك الخلاف الواقع بين علماء المسلمين في مقدار المسافة وكيفيتها وان هذا النوع من التشريع هو ترخيص للمسافر بقصر الصلاة أو إلزام له بذلك ، فالشيعة الإمامية يرون ان قصر الصلاة حكم إلزامي ويوافقهم في ذلك جماعة من أهل السنة الأحناف اتباع أبي حنيفة ، ولكن الإمامية يرون أن المسافة التي يجب فيها القصر هي ثمانية فراسخ ذهابا ، أو ملفقة من الذهاب والإياب ، بينما يرى الأحناف أنها أربعة وعشرون فرسخا ذهابا ولا يشرع القصر في أقل من ذلك. والقائلون بأن تشريع القصر في السفر ليس إلزاميا كما يرى ذلك ائمة المذاهب الثلاثة ، ما عدا الأحناف. يرون أن المسافة التي يباح فيها للمسافر ان يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين بدلا من أربع ركعات لكل فريضة ، هي ستة عشر فرسخا ذهابا ولا يضر النقصان اليسير عن ذلك. هذه هي الخطوط الرئيسية للخلاف بين الشيعة الإمامية وغيرهم

في الصلاة التي شرعها القرآن على المسافر أما غير ذلك من الفروع التي ظهر فيها الخلاف وتباينت فيها آراؤهم ، فلا يعدو أن يكون كالخلاف الواقع في المسألة الواحدة بين علماء المذهب الواحد (١) ، ولذا نرى الكثير منها واقعا بين ائمة المذاهب الأربعة أنفسهم ، ونجد منهم من يوافق الإمامية في بعض الفروع.

ومهما يكن الحال فالاكتفاء بركعتين في السفر بدلا عن أربع ركعات في الفرائض الثلاثة ، متفق عليه في جميع المذاهب الإسلامية. ولكن الآية الكريمة ليست صريحة في حكم السفر الذي أشرنا إلى موضوعه وحكمه وبعض نواحي الخلاف فيه ، لأنها تنص على نفي الجناح عند الخوف من العدو فهي أقرب الى الدلالة على حكم صلاة الخوف من صلاة المسافر. وقد قيل في تفسيرها ، كما عن مجاهد وجابر ان المراد منها قصر الصلاة من ركعتين إلى ركعة واحدة عند الخوف وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، منهم جابر بن عبد الله وحذيفة اليماني وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم ، القول بأن الله سبحانه عنى بالقصر في الآية قصر صلاة الخوف عن صلاة السفر. لا عن صلاة الإقامة ، لأن صلاة السفر عندهم ركعتان تماما ، وليست مقصورة من صلاة التمام ، بمعنى أنها شرعت ابتداء ركعتين ، كما شرعت صلاة الحاضر أربع ركعات ، وهذا المعنى يساعد عليه ظاهر الآية ، فيكون المراد بقصرها هو الإتيان بها ركعة عند الخوف بدلا من ركعتين ، ولكن المروي عند جماعة تبعا لأهل البيت (ع) هو قصرها في السفر من أربع ركعات الى ركعتين بدلالة الآية على ذلك وتعليق ذلك على الخوف كما

__________________

(١) ومن أراد ان يتوسع في معرفة آراء الفريقين فعليه أن يرجع الى الفقه على المذاهب الخمسة. للعلامة مغنية.

جاء في الآية الكريمة ، ينزل على الأعم الأغلب لأن الخوف كان يغلب على العرب في أسفارهم.

ويؤيد ذلك أن الامام الباقر (ع) قد استدل بالآية الكريمة على وجوب قصر الصلاة في السفر ، كما جاء في رواية زرارة ومحمد بن مسلم ، قالا ـ قلنا ـ لأبي جعفر (ع) ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ، قال ان الله يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار القصر واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر ، ثم قالا له انه قال فليس عليكم جناح ، ولم يقل افعل فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟ أجابهما (ع) بما حاصله ان نفي الجناح في المقام كنفيه في آية الصفا والمروة حيث جاء فيها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ومن هذه الآية استفدنا وجوب الطواف ، وفي كل منهما كان بلسان نفي الجناح.

وكما نص القرآن على حكم الصلاة في حال السفر ، نص على حكمها وكيفيتها في حالتي الحرب والخوف قال سبحانه : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ).

فقد نصت الآية على وجوب الصلاة حتى في مثل هذه الحالة ، وحددت لهم الطريقة التي تحفظ لهم سلامتهم من عدوهم بالتوجيه التالي ، فقسم يبقى مع العدو وجها لوجه وآخر يحافظ على الامام والمسلمين وهم في صلاتهم ، وكلما صلت طائفة وقفت موقف من لم تصلّ وجاءت تلك للصلاة وهكذا الى أن يصلي الجيش بأجمعه ، وأما

مقدارها فليس في آيات الكتاب ما يشير إليه ، وقد بين الرسول (ص) كميتها وكيفيتها كما هو الحال في جميع مواد التشريع التي تعرض القرآن لأصل تشريعها وترك بيان ماهيتها وشرائط وجوبها الى الرسول. وقد وقع الخلاف في كيفيتها وكميتها عند أصحاب المذاهب واتباعهم كما وقع لغيرها من المسائل الفقهية ومن المعلوم أن الخلاف الواقع بينهم في كثير من المسائل لم يكن في الفترة التي تلت وفاة الرسول بتلك الكثرة التي حصلت في عصر التابعين وأتباعهم ، فلقد ظهر بعد عهد الصحابة حينما انتقل المسلمون من طور التقليد والتبعية لآراء الصحابة إلى طور الاستقلال والتنقيب عن الحديث ورواته. وعند ما أصبح الفقيه لا يرى نفسه ملزما بكل ما أتى به هؤلاء وبكل ما نقلوه من الأحاديث ، فقد صح عند التابعين من حديث الرواة ، ما فسد عند الصحابة ، وقد يرى المتأخر عدم جواز العمل بما عمل فيه المتقدم ، لذلك كان الخلاف وبدأت الآراء تتشعب في بعض مسائل الفقه.

ولقد أشار في مجمع البيان في تفسير هذه الآية (١) الى أن الشيعة الإمامية يرون أن صلاة الخوف ركعتان تصلي الطائفة الأولى ركعة مع الامام وتقوم إلى الثانية فتصليها والامام قائم ، وبعد الفراغ منها ، تذهب هذه الطائفة إلى مواقف أصحابهم المرابطين في وجه العدو ، وتجيء تلك تستفتح الصلاة فيصلي بها الإمام الركعة الثانية ويطيل تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ويدركوا الامام قبل التسليم فيسلموا معه ، فتكون الطائفة الأولى قد أدركت معه افتتاح

__________________

(١) المجلد الثاني طبع صيدا ص ١٠٢ سورة المائدة.

الصلاة والثانية ختامها ونسب إلى الشافعي هذا الرأي أيضا وعند من يرى أن صلاة الخوف مقصورة من صلاة المسافر وأنها ركعة واحدة كما هو مذهب جابر ومجاهد وغيره من أصحاب هذا الرأي ، هؤلاء يرون أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة وتسلم عليها ، ثم تأتي الطائفة الثانية بعد أن تقف الأولى في موقفها ويصلي بهم الإمام ركعة أيضا ، وقيل ان الإمام يصلي بكل طائفة ركعتين فيصلي بهم جميعا مرتين.

والصلاة بجميع أنواعها المفروضة على المكلفين قد فرض لها الإسلام شروطا ليست من ماهيتها ، وإنما هي أعمال فرضت على المكلفين قبل الدخول بها ، بنحو لا تصح بدونها ولا يحصل الغرض الذي من اجله كان التشريع إلا إذا كانت الصلاة مستكملة لأجزائها وشرائطها ، وقد نص القرآن الكريم على تشريعها قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا). فقد تضمنت هذه الآية غسل الوجه وغسل اليدين الى المرافق ، ومسح الرأس ، والرجلين ، وهذا من غير فرق بين قرائتي النصب والجر ، أما على الجر فتكون نصا في وجوب مسحهما ، وعلى النصب بالعطف على محل رؤوسكم ومحلها النصب على أن تكون مفعولا لامسحوا ، وعطفها على وجوهكم كما يرى ذلك من يوجب غسل الأرجل ، يؤدي الى الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) والقاعدة ، أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن جملة ولم يعهد عن العرب مثل ذلك ، كما وان عطفها على الوجوه حتى على تقدير قراء الجر على أن يكون جرها للمجاورة ، كما قولهم : حجر خب خرب ، لم يعهد له نظير في كلام العرب وكل ما ورد من هذا النوع على قلته فيما إذا كان المجرور بالمجاورة نعتا

كما في المثال المتقدم ، أو كان تأكيدا كما في قول القائل :

يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم

ان ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب

يجر كلهم لمجاورتها للزوجات ، والقياس فيها النصب لأنها تأكيد للمفعول المنصوب ـ وأما في عطف الغسل فوجود العاطف يمنع المجاورة (١). وقد عرف القول بوجوب المسح عن الشيعة الإمامية تبعا لأئمتهم (ع) وجماعة من أعيان الصحابة ، كما عرف القول بالغسل عن غيرهم استنادا الى قراءة النصب بعطفها على وجوهكم في الآية بالإضافة الى بعض الأحاديث الحاكية لوضوء النبي (ص) الذي اشتمل على غسلهما بعد مسح الرأس وقد اتخذ بعضهم من الاستحسان مؤيدا لوجوب الغسل ، لأنه أشد مناسبة للقدمين كما وأن المسح انسب للرأس من الغسل لأن القدمين يعرض عليهما من الأوساخ ما لا يعرض على الرأس ، والمصالح المعقولة يمكن أن تكون عللا للعبادات وملحوظة عند المشرع كغيرها ، وهذا النوع من الاستحسان لا يعدو أن يكون من نوع الحدس الذي لا يجوز أن يتخذ دليلا في أحكام الله.

وأما الغسل من الجنابة فقد نصت عليه الآية من سورة المائدة ، وقد جاء فيها : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، وأما كيفية الطهارة من الجنابة فلم تتعرض لبيانها الآية كما هو الحال في أكثر مواد الفقه الإسلامي التي شرعها القرآن ، وقد بين أن للطهارة التي لا تصح الصلاة بدونها فردين طوليين لا يكون الفرد الثاني مصداقا للطهارة ، إلا إذا تعذر عليه الأول ، أو كان الإتيان به يؤدي الى الإضرار بالنفس أو المال بحسب حالته المادية ، وقد نصت الآية ، من سورة المائدة على بعض الأسباب

__________________

(١) مسائل فقهية للعلامة شرف الدين ص ٧٣.

الشرعية التي تسوغ للمكلف أن يلجأ إلى الفرد الثاني الذي اكتفى به المشرع عن الطهارة بالماء ، قال سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) وقد بين الرسول قولا وعملا كيفية المسح بالتراب وحدود الممسوح والآلة التي بها يكون المسح ، وقد وقع الخلاف في جميع ذلك بين علماء المسلمين ، فهم بين من يرى أن الحاضر الصحيح الذي لم يجد ماء ، لا يسوغ له التيمم وليس عليه صلاة ، لأن الآية أوجبت التيمم مع فقد الماء على خصوص المريض والمسافر (١) بينما ترى بقية المذاهب وجوب التيمم لفاقد الماء مريضا كان أو سليما مسافرا أو حاضرا ، ويرى بعضهم ان لمس المرأة الأجنبية (٢) ولو باليد من نواقض الوضوء ، تمسكا بإطلاق اللمس الذي ورد في الآية الكريمة ، بينما يرى الإمامية ان المراد به الجماع وبالصعيد ما يعم التراب والرمل والصخر ، وبالوجه بعضه ، وبالأيدي الكفان ، وللمذاهب الأربعة آراء مختلفة في المقام يتفق بعضها مع رأي الشيعة الإمامية في المراد من الصعيد ، ويختلف البعض الآخر معهم في الوجه والأيدي ، اختلافا شكليا أكثر منه جوهريا.

ولقد فرض الإسلام على المسلمين أن يتوجهوا في صلاتهم أينما كانوا إلى جهة الكعبة خاشعين مطمئنين ، تعظيما لشأنها وتأكيدا لقد استها وكانت قبلة المسلمين قبل هجرة النبي (ص) بيت المقدس ، فقال اليهود يخالفنا في ديننا ويصلي إلى قبلتنا ، وقيل انهم قالوا ما دري محمد وأصحابه قبلتهم حتى هديناهم إليها فشق ذلك على الرسول والمسلمين

__________________

(١) الأحناف الفقه على المذاهب الخمسة للعلامة مغنية ص ٩٢.

(٢) الشافعية.

وكان يتمنى لو يأمرهم الله سبحانه بالتوجه الى غير هذه الجهة ، فأنزل الله عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فنسخت هذه الآية ما كان مفروضا عليهم من التوجه إلى بيت المقدس ، وهو من باب نسخ السنة بالقرآن ، لأنه لم يرد في آيات الكتاب ما يشير إلى القبلة الأولى ، وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) يختص بالنوافل في حالة السفر كما روي ذلك في تفسيرها عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق (١) (ع).

الآيات التي شرعت الصيام :

ولقد فرض الله على المسلمين الصيام ، ونص عليه القرآن ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(٢). فالآية الكريمة كما نصت على تشريعه دلت على أنه ليس من مختصات الإسلام ، بل كتب على من كان قبلهم من الأمم. وفي بعض الروايات ان الصيام كانت تتعبد به قريش في جاهليتها ، روى البخاري عن عائشة زوجة النبي (ص) ان قريشا كانت تصوم يوم العاشر من المحرم في جاهليتها وأمر رسول الله بصيامه بدء دعوته. ولما فرض الله صيام شهر رمضان رخص النبي في إفطاره فقال : (من شاء صامه ومن شاء أفطره) وقد عنى الله

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الأول ص ٢٢٨ طبع صيدا.

(٢) سورة البقرة.

سبحانه بالأيام المعدودات شهر رمضان كما دل على ذلك قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقيل ان المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر ، والقائلون بذلك متفقون على أن هذا الحكم منسوخ بصوم شهر رمضان ، وقد أجملت الآية المراد من الصيام والزمان الذي يجب فيه الصوم ولم تبين ما يحل للصائم وما يحرم عليه حالة الصوم ، وقد بين الرسول حقيقة الصوم وزمانه وما يحل للصائم ويحرم ، وتعرضت الآية الكريمة لحكم المريض والمسافر فرخصت لهما في الإفطار على ان يعيدا صيام ما أفطراه ، وظاهرها وجوب الإفطار عند عروض احدى الحالتين على المكلف لأنه سبحانه قد أوجب القضاء لمجرد السفر والمرض ، وقد قال بذلك جماعة من الصحابة وغيرهم منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وابن عمر وعروة بن الزبير ، وعليه الشيعة الإمامية تبعا لأئمتهم (ع) ، وقال عبد الله بن عمر ، حينما سئل عن الصوم في السفر : أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك ، ألا تغضب فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم ، وقال عبد الرحمن بن عوف «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» وعن أبي عبد الله الصادق : «لو أن رجلا مات صائما في السفر ما صليت عليه». والمقصود بقوله سبحانه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أن من كان مستطيعا للصوم إذا لم يصم عليه أن يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين ، وهو بالخيار بين الصوم والفدية والصوم خير له وأفضل عند الله من الإطعام ، وعلى هذا المعنى يكون هذا الحكم منسوخا بما جاء في الآية الثانية من سورة البقرة : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وفي رواية علي بن إبراهيم عن الصادق (ع) ان المقصود بذلك أن من مرض في شهر رمضان ثم صحح فلم يقض ما فاته حتى دخل رمضان ، فعليه القضاء وإطعام مسكين لأنه

أخر القضاء بدون أن يكون له عذر في ذلك (١) ، وفي المذاهب الأربعة أن المسافر بعد أن تتوفر لديه شروط السفر ، هو بالخيار بين الإفطار والصيام ، استنادا الى بعض الأحاديث التي تنص على ان المسلمين كانوا في أسفارهم مع الرسول بين صائم ومفطر ، مضافا إلى أن الإفطار كان تسهيلا على المسافرين وتوسعة عليهم ، ويتحقق ذلك بمجرد الترخيص في الإفطار.

وقد تعرضت الآية الكريمة لبعض ما يحل للصائم وما يحرم عليه ، قال سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

لقد اشتملت هذه الآية على جملة من أحكام الصوم وحددت مبدأه ومنتهاه ويستفاد من صدر الآية أن استعمال النساء كان محرما في شهر رمضان ، ولما به من المشقة على الكثير من المكلفين اباحه القرآن في ليالي رمضان توسعة وتسهيلا منه على عباده.

تشريع الحج في القرآن :

ولقد فرض الله سبحانه على المسلمين حج بيته الحرام في أيام خصصها الله سبحانه لذلك ، يجتمع المسلمون فيها من كل فج عميق ، تلبية لنداء الله لتأدية هذه الفريضة ويتداولون فيها مصالحهم مجتمعين

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الأول طبع صيدا ص ٧٤.

متعاونين ، ومن كتب السير وآيات القرآن الكريم يظهر ان لجميع الأمم أوقات تجتمع فيها للعبادة ، وتقديم الطاعة لآلهتهم ، وقد جاء في سورة الحج (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ومما جاء في تفسيرها ، جعلنا متعبدا وموضع نسك يقصده الناس (١) ، وكان البيت الحرام لنسك العرب قبل الإسلام ، وهو الذي بناه إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما‌السلام ، كما نصت على ذلك الآية (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢) وفي آية أخرى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٣)(، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ومنذ أن بني البيت والعرب يجتمعون فيه في أيام معدودات من كل عام يعبدون الأصنام وينحرون الأنعام ، وقد غيروا الكثير مما كان عليه إبراهيم (ع) ، فعبدوا الأصنام والأوثان ، ووضعوها داخل البيت وفي جواره وعلى ظهره ، وزعموا أنها تقربهم من الله سبحانه ونحروا لها الأنعام وأدخلوا فيه من البدع والعادات ما لم يكن في عهد إبراهيم وإسماعيل. ولما جاء الإسلام حطم أصنامهم وغير الكثير مما كانوا عليه وفرض عليهم الحج الى البيت في أيام من كل عام (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، قال سبحانه : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وفرض عليهم الخضوع والخشوع والآداب ، بقوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ

__________________

(١) مجمع البيان طبع صيد المجلد الرابع ص ٤٨.

(٢) سورة الحج.

(٣) نفس السورة.

مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وقد تعرض القرآن الكريم لكثير من أفعاله وآدابه ، قال سبحانه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، وقال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وجاء ذكره مع بيان بعض شروطه وأفعاله في البقرة والمائدة وسورة الحج ، وقد فرضه الله سبحانه على المسلمين في السنة السادسة من هجرة النبي إلى المدينة ، وفيها توجه النبي (ص) بمن معه من المسلمين إلى مكة معتمرا فمنعه المشركون من دخولها فاعتمر في السنة السابعة ، وفي التاسعة حج الناس وفي العاشرة حج (ع) وكانت حجة الوداع ، فبين فيها مناسك الحج وشروطه ، وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم ، فكان للمسلمين في تشريع هذه الفريضة منافع وفوائد تختص مكة بقسم منها والقسم الآخر يعود نفعه على جميع المسلمين ، فأهل مكة يجنون منه المكاسب والمنافع عن طريق تلك الجموع الغفيرة التي تحتشد في أيام الحج من جميع الأقطار في ذلك الوادي الذي لا ينبت لأهله شيئا من أسباب العيش ومقومات الحياة.

وقد سأل إبراهيم (ع) ربه ، ان يجعل قلوب الخلق تحن الى ذلك الوادي لتأنس ذريته التي أسكنها فيه بمن يفد عليهم ، كما سأله ان يرزقهم من الثمرات قال سبحانه : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فاستجاب الله دعاءه ، وجعل تلك البقعة المباركة مهوى أفئدة الملايين من المسلمين ، ورمزا للقداسة يبذلون في سبيل الوصول إليها أموالهم ويتحملون المشاق فالكبير والصغير والسلطان والرعية والفقير والغني

والأسود والأبيض كلهم سواء في ذلك الوادي المقدس ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ولا ضغينة ولا خداع ولا شيء سوى الوداعة والطهارة والتجرد عن كل ما ينحدر بنفس الإنسان إلى درك الرذيلة والفحشاء ، يحشر الناس في كل عام مرة على اختلاف طبقاتهم وألوانهم (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ، ملبين نداء الله راجعين اليه ، كما يحشرون بين يديه يوم الجزاء للحساب نادمين على جحودهم راجين عفو الله ورضوانه.

ضريبة الزكاة في القرآن

وقد فرض الإسلام ضريبة على الأموال سماها بالزكاة وأكد تشريعها القرآن في عدد من آياته ، وقرنها بالصلاة في بعضها فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وقد حذرهم من تركها تارة ورغبهم بأدائها أخرى. ففي الآيتين ٥ و ٦ من سورة فصلت (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وفي الآية ٢٦١ من سورة البقرة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ولم يبين القرآن الكريم الأنواع التي تجب فيها الزكاة من الحيوان والحبوب ، كما لم يبين مقدارها فيما تجب فيه. وقد بين الرسول للمسلمين جميع ذلك بصورة مفصلة وفي رواية البخاري أن النبي (ص) أمر بعد هجرته إلى المدينة بكتابة أحكام الزكاة وما تجب فيه ومقادير ذلك فكتبت في صحيفتين وبقيتا محفوظتين في بيت أبي بكر الصديق وأبي بكر بن عمر بن حزم (١).

وقد حدد القرآن الجهات التي تصرف فيها هذه الضريبة مع أنها هي

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي صفحة ١٧٣ الدكتور محمد يوسف موسى.

المورد الوحيد للدولة الإسلامية في عهد الرسول ، إذا استثنينا ما كانت تدره عليهم بعض الغزوات من الغنائم أحيانا ، قال سبحانه مشيرا إلى الموارد التي تصرف فيها : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ)(١) ، وهي من أعظم ما فرضه الإسلام فائدة على المجتمع ، لأنها كما تهيئ للدولة الأموال اللازمة للدفاع والعمران والثقافة ، وتقوم بجميع شؤونها ، كذلك تخفف عن الفقراء والمحرومين ما يقاسونه من الآلام التي تبعث في نفوسهم الحقد على المنعمين والمترفين. فنظام الزكاة في الإسلام كغيره من النظم التي شرعها الإسلام ووضع فيها الخطوط الرئيسية للتوازن بين الطبقات كي لا تجوز إحداها على الأخرى ، فقد فرض على الأغنياء أن يقدموا من أموالهم قسما إلى الدولة ، وهي بدورها تتولى صرفه في المصالح العامة وعلى الفقراء. في الوقت نفسه تتلاشى تلك الثورة النفسية التي يحدثها الفقر على الأغنياء المنعمين.

وقد تناول التشريع الإسلامي كل ما يحتاجه الإنسان ، حتى ما يحل له أكله ، وما يحرم عليه من أنواع الحيوان وغيره ، وجاء في القرآن والحديث وصف الحلال بالطيب والحرام بالخبيث. قال سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وقد بين القرآن الكريم ما يحرم وما يحل كما في الآية ١٤٤ من سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والآية

__________________

(١) سورة التوبة آية ٦٠.

٣ من سورة المائدة : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ)(١)(وَالْمَوْقُوذَةُ)(٢)(وَالْمُتَرَدِّيَةُ)(٣)(وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)(٤) والآية الأولى حصرت المحرمات في ثلاثة أنواع والثانية أضافت الى ذلك أنواعا أخرى ، ولا منافاة في ذلك ، لأن الآية التي وردت في المائدة نزلت على الرسول في المدينة والأولى في مكة قبل هجرته ، والتشريع الإسلامي كان على مراحل متعددة من اليوم الأول للبعثة حتى الساعات الأخيرة من حياة الرسول (ص) ، ويمكن ان تكون الأصناف التي وردت في آية المائدة لبيان مصاديق الميتة التي ورد ذكرها في آية الأنعام ، فتكون الثانية مفصلة لما أجملته الآية.

وفي الآية ٤ من سورة المائدة (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) وهي صريحة في أن الله سبحانه قد أحل لعباده الطيبات من كل شيء ، ومن المعلوم أن الطيب في القرآن والحديث هو الذي لم يرد نص على تحريمه ، وقيل في سبب نزولها كما عن أبي حمزة والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين ، أتيا رسول الله (ص) فقالا : ان فينا رجلين لهما ستة اكلب ، تأخذ بقرة الوحش والظباء ، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت وقد حرم الله الميتة ، فما ذا يحل لنا من هذا؟ فأنزل الله على رسوله هذه

__________________

(١) هو خنق الحيوان بدلا عن ذبحه.

(٢) هي التي تموت من الضرب كما عن ابن عباس والسدي.

(٣) هي التي تقع من مكان مرتفع ولا تدرك حياتها.

(٤) هو ما ذبح تقربا للأوثان كما كان في الجاهلية.

الآية لبيان ما يحل من صيد الكلب وما يحرم. وقيل في سبب نزولها غير ذلك. ومهما تكن أسباب نزولها ، فهي تدل على حلية غير المحرمات التي ورد ذكرها في الآيتين السابقتين ، كما تدل على حلية صيد الكلاب وغيرها من ذوي الجوارح إذا كانت معلمة ولم يدرك الصياد حياتها ، والمراد بقوله مما أمسكن عليكم هو ان يمسك الكلب أو غيره من ذوي الجوارح لصاحبه لا لنفسه ، وعلى الصياد أن يذكر اسم الله حين إرسال الكلب وغيره ، والمراد بالمكلبين أصحاب الكلاب الذين يعلموهن الصيد ، وقد ذكر الفقهاء في أحكام الصيد للكلب الذي يستعمل في الصيد شروطا غير ذلك.

وبعد أن ذكرت الآية ١٤٤ من سورة الأنعام ما يحرم أكله ، أباحت للمضطر ان يتناول من المحرمات عند المجاعة الشديدة بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد وأن لا يكون مستحلا لها بقدر ما تندفع به الضرورة ، وتسد الحاجة. والى ذلك أشار بقوله غير باغ ولا عاد. وقوله سبحانه في آية أخرى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والمراد من المخمصة هو ما يحدث من شدة الجوع في البطن من طي وضمور. وفي الآية ١١٧ من سورة الأنعام : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ). وفي الآية ١١٨ من السورة المذكورة : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) وفي هاتين الآيتين ما يدل على أن الذابح ، عليه أن يذكر اسم الله عند الذبح ، وكل ذبيحة لم يذكر عليها اسمه تعالى أو وصفه المختص به تكون ميتة بنظر الإسلام لا يحل أكلها إلا عند الضرورة والحاجة الملحة.

وكما نصت الآيات الكريمة على حلية ما ذكر اسم الله عليه ، فقد

نصت على حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه ، قال سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١) والنهي ظاهر في التحريم كما هو مقرر في محله من كتب الأصول ، وقد جاء في سبب نزولها أن قوما من مجوسي فارس كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا من أوليائهم قبل الإسلام ، إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون ما أمر الله. ثم يزعمون ان ما ذبحوه حلالا وما قتله الله حراما ، فوقع ذلك في نفوسهم فنزلت الآية وسمى الله الطرفين بالشياطين كما أشار الى ما وقع في نفوسهم بقوله (لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) ، فنهى الله سبحانه عنه وأكد على المسلمين أن لا يسمعوا لقولهم ، ووصف عملهم بالفسق ، كما وصف اطاعة هؤلاء الذين يوسوسون لغيرهم ليتمردوا على أوامر القرآن ونواهيه بالشرك.

نظام الصدقات قبل الإسلام :

ويظهر من بعض الآيات الكريمة ان العرب كان لهم نظام خاص في الصدقات فرضوه في أموالهم من الزرع والأنعام ، ولما جاء الإسلام بتشريعه الخالد غيّر ما كانوا عليه من نظام الصدقات وفرض عليهم ضريبة الزكاة ، التي تؤمن للدولة ما تحتاجه من الأموال وللفقراء ما يسد حاجتهم من ضرورات الحياة ، وكان نظام العرب قبل الإسلام في الصدقات ، أنهم يجعلون في أموالهم جزءا لله وجزءا للأصنام فما كان للأصنام أنفقوه في سبيلها وما كان لله إذا احتاجته أوثانهم أنفقوه عليها ، وإذا زكا ما كان للأصنام ، ولم يزك ما جعلوه لله ، لم يصرفوا شيئا من

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٢١.

نصيب الأصنام في سبيل الله ، لأن الله غني عنه ، وقد أنكرت عليهم الآية الكريمة هذا النظام الذي يرتكز على الشرك بالله ، قال سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(١) والمراد من شركائهم الأوثان التي جعلوا لها نصيباً في أموالهم ، وفي آية أخرى أشار الى الجهة التي كانوا يصرفون فيها نصيب الأوثان ، (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢) فقد أشارت الآية الكريمة إلى الأنعام والزرع الذي جعلوه لآلهتهم وأوثانهم وهو لا يحل عندهم إلا لمن قام بخدمة الأوثان من الرجال ، كما أشارت إلى الأنعام التي حرموا على أنفسهم ركوبها وهي الأصناف الأربعة التي ذكرت في الآية الكريمة :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) والمراد من البحيرة هي الناقة التي أولدت خمس مرات وكان آخر ما أولدته ذكرا. وهذه يمتنعون عن ركوبها ونحرها ولا تطرد عن ماء ولا كلأ ولا يركبها أحد حتى ولو أعياه السير ، والمراد من السائبة هي التي ينذر صاحبها إذا رجع من سفر أو بريء من علة أن يخلي سبيلها ، وهذه تكون «كالبحيرة» لا تركب ولا تمنع من الماء والمرعى ، والوصيلة هي الشاة التي تلد ذكرا وأنثى في بطن واحد ، فإذا ولدت ذكرا واحدا ذبحوه لآلهتهم وإذا ولدت أنثى فهي

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٣٦.

(٢) سورة الأنعام آية ١٣٨.

لهم ، والحام هو الذكر من الإبل فإذا انجبت الإبل عشرا من صلب الفحل ، ففي مثل ذلك يصبح كالسائبة لا يركب ولا يمنع عن شيء ، وقيل في تفسير هذه الأربعة غير ذلك (١). وقد وصف القرآن عقيدتهم هذه بأنها افتراء عليه لأنهم نسبوا ذلك الى الله سبحانه ، وأبطل الإسلام ما كان عليه بعضهم من تخصيص ما تلده الأنعام حيا بالذكور وما تلده ميتا بالذكور والإناث ، وتوعدهم على ذلك. وقد حكي عنهم ذلك في الآية ١٣٨ من سورة الأنعام : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) وقد احتج القرآن على هؤلاء ووصفهم بالافتراء والكذب والتضليل ، قال سبحانه : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢).

وعلى كل حال فقد أحل الكتاب الكريم كل شيء عدا ما نصت على حرمته بعض الآيات التي تقدم ذكرها ، وقد توعد المشركين وأنذرهم بالخزي والعذاب الأليم ، ان لم يرجعوا عن النظام الذي اتخذوه في الصدقات التي جعلوها لأصنامهم وأوثانهم ، وأحل لهم ما حرموه على أنفسهم ووبخهم على تخصيص ذكورهم بما تلده الأنعام حيا ، فالقرآن أحل للإنسان الطيب وحرم عليه الخبيث ، ومعلوم أن المراد

__________________

(١) مجمع البيان جلد ٢ صفحة ٢٥٢.

(٢) سورة الأنعام الآيتان ١٤٣ و ١٤٤.

بالطيب هو الذي لم يمنع عنه القرآن أو السنة الكريمة ، والخبيث هو الذي نهى عنه الكتاب والحديث ، وقد تعرضت السنة لكل ما يحل وما يحرم من أنواع الحيوان ، مرة بالتنصيص على بعض أنواع الحيوان ، وأخرى بوضع مبادئ عامة لتشخيص ما يحل وما يحرم من أنواع الحيوان.

الدفاع عن النفس والدين بنظر القرآن :

وقد تناول التشريع الإسلامي ناحية الدفاع عن النفس والدين ، وتعرضت جملة من الآيات الكريمة لهذه الناحية ، وقد بقي الرسول (ص) نحوا من ثلاث عشرة سنة بمكة بعد بعثته يدعو إلى الإسلام بالبراهين والآيات البينات ، ويتحمل من مشركي قومه صنوفا وألوانا من الأذى والعذاب والتنكيل بأصحابه الذين آمنوا برسالته ، حتى اضطر أن يأمرهم بالهجرة إلى الحبشة خوفا عليهم من قريش ، ولم يكن يملك من القوة ما يدفع عدوانهم عن نفسه وأصحابه ، وبقي في نفر قليل يقاسي في سبيل دعوته المصاعب والآلام ، ولما أيقنت قريش أن تلك الأساليب التي كانت تستعملها ضد دعوته المباركة لم تغنها شيئا وان الإسلام يزداد اتساعا والإيمان بمبادئه رسوخا وثباتا ، بعد أن لمسوا ذلك ، لم يبق لديهم من الوسائل ما يجديهم نفعا سوى التخلص منه ، فاتفقوا على قتله. ولكن ارادة الله التي قضت بأن يرسل محمدا الى البشر هاديا ونذيرا بالهدي ودين الحق ، وان يظهره على الدين كله ولو كره المشركون حالت بينهم وبين ما يريدون ، فلم تشأ إرادته سبحانه أن يصبح رسوله فريسة لأولئك الطغاة ، فأوحى اليه ان يخرج من مكة ليتم رسالته ، فخرج منها بعد أن استجاب له ابن عمه المقرب الى نفسه وقلبه علي (ع) ووطن نفسه ان ينام على الفراش الذي قررت قريش أن تغتال محمدا

عليه ، فنام ليلته غير هياب من سيوف قريش المسلولة ورماحها المشرعة مستهينا بنفسه ليسلم سيده القائد الحكيم. لقد أقدم علي (ع) على الموت وهو يراه بعينه ولم يتجاوز العشرين عاما من عمره ، يستقبل حياة حافلة بالأماني والأحلام ، ولكنه في تلك اللحظة يستقبل الموت الذي هو أعز أمانيه وأحلامه السعيدة في تلك الساعات التي يراها من أحرج ساعات الحياة. إنه لا يتصور إلا سلامة محمد (ص) ونجاته من أعدائه ليؤدي رسالة ربه كاملة غير منقوصة وينشر بين مئات الملايين من البشر تلك المبادئ التي تأمر بالعدل والإحسان والمساواة ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وهذه كل آماله واحلامه يوم كان طفلا وشابا وكهلا ويوم حاربه ابن هند والزبير وطلحة ويوم تجمعت قوى البغي ضده ويوم قال : والله لو أعطيت الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت. لقد هيأ الله سبحانه عليا (ع) ليفدي محمدا ودعوته بنفسه ، وهيأ من بين العرب أهل يثرب ، فرحبوا بمحمد ودعوته وآمنوا بها وبايعوه على أن يمنعوا عنه كيد قريش وغدرها ويبذلوا في سبيله الغالي والرخيص ، وفي المدينة ، نزلت الآيات التي أباحت له القتال دفاعا عن النفس وعن تلك الدعوة المباركة وأول الآيات التي شرعت الجهاد قوله سبحانه : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(١) وقد استمر المشركون على إيذاء المسلمين والتنكيل بهم ، فكانوا يأتون الرسول ما بين مضروب ومشجوج ولكنه كان يأمرهم بالصبر لأنه لم يؤمر بقتالهم ، ولما هاجر نزلت عليه هذه الآية ، وهي كالصريحة في أنه سبحانه انما أذن لهم بقتال المشركين لدفع الظلم والعدوان ، لأنهم أخرجوهم من ديارهم بلا

__________________

(١) سورة الحج الآية ٣٩.

سبب إلا قولهم ربنا الله وحده (١) ، ثم تتابع نزول الآيات التي أباحت للرسول القتال دفاعا عن الدين والنفس ، قال سبحانه : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(٢).

وقد روى عبد الله بن عباس في سبب نزول هذه الآية ان النبي لما خرج مع أصحابه يريدون العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة ، فلما نزلوا الحديبية ، صدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي في الحديبية ، ثم صالحهم المشركون على أن يرجع النبي من عامه ويعود في العام المقبل ، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام ليطوف بالبيت ويفعل ما يريد فرجع النبي. ولما كان العام المقبل تجهز النبي (ص) لعمرة القضاء وخاف أن لا تفي له قريش بما عاهدت عليه وكان يكره قتالهم في الحرم وفي الشهر الحرام إذا أرادوا قتاله ، فنزلت هذه الآية وفيها أمر الله سبحانه بقتال المشركين إذا أرادوا قتاله ، وان كان في الأشهر الحرم (٣) ، وقيل كما عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه أول آية نزلت في القتال وبعد نزولها كان الرسول يقاتل من أراد قتاله ويكف عمن كف عنه. وجاء في آية أخرى (٤) : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) وفي هذه الآية أمر بقتال المشركين أينما وجدهم المسلمون ولكنها نهت عن قتالهم عند المسجد الحرام إلا إذا أراد المشركون قتالهم

__________________

(١) مجمع البيان جلد ٤ صفحة ٨٧.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٠.

(٣) مجمع البيان وغيره من كتب التفسير.

(٤) سورة البقرة الآية ١٩١.

عنده ، كما نصت على ذلك الآية السابقة ، فتكون الآيات المتقدمة والفقرة الأخيرة من هذه الآية مخصصة للعموم المستفاد من صدرها الظاهر في وجوب قتالهم أينما كانوا وفي أي زمان كان ، وقد دلت الآية الكريمة على أن الفتنة التي تحصل من شركهم وبقائهم على الكفر أعظم من قتالهم في الأشهر الحرم ، لأن الشرك بالله فتنة لا يمكن التغاضي عنها. وقد تطغى مفاسده على جميع القيم الإنسانية التي نادى بها الإسلام واكدها القرآن.

وقد جاء في الآية ١٩٣ : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). أي حتى لا يكون الشرك ويظهر الإسلام على الأديان كلها وتضعف دولة الكافرين والمشركين كما عن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد الصادق (ع).

أما إذا دخل المشركون في الإسلام ، وآمنوا بالله ورسوله ، فقتالهم عدوان لا يقره الإسلام بحال ابدا ، ومن مجموع ما ورد في الكتاب الكريم من الآيات حول الجهاد والقتال ، نستطيع أن نقول إن الإسلام لم يتخذ القتال والجهاد كمبدأ عام لا بد منه على المسلمين ، بل كل ما يمكن القول به هو أنه أباحه أو فرضه على الرسول لرد عدوان المشركين (، حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، ان المبدأ العام الذي اتخذه الرسول أساسا لدعوته هي الحكمة والموعظة الحسنة قال سبحانه : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولم يخرج عن هذا المبدأ إلا لظروف خاصة فرضت عليه لرد كيدهم وعدوانهم وحتى لا يطغى الشرك على التوحيد ، والكفر على الإسلام

المرأة قبل الإسلام

لقد تناول القرآن الكريم فيما تناول مما تحتاجه البشرية في جميع أدوارها نظام الأسرة ، وعالج مشاكل المرأة لأنها نصف هذا المجتمع الكادح المكافح في سبيل اعداد البنات والأبناء ليعد من هؤلاء وأولئك آباء وأمهات صالحات ، ولما كان للمرأة تاريخها وجهادها وصبرها على بناء الأسرة وإعداد الجيل الصاعد ، أولاها الإسلام من عنايته ورعايته ، وساوى بينها وبين الرجل في كثير من الأحيان ، بعد أن مرت عليها اجيال وأحقاب انحرفت فيها أمم وأجيال عن واجبها وحقها واتخذت منها سلعة تباع وتشرى وازورت عن إنصافها وانصرفت عن الأخذ بيدها والاعتراف بما لها من حق ووجود ، والتاريخ مليء بما نالها من ضيق وما لحقها على يد الأمم قبل الإسلام وبعده من ضيم ، فكانت تنتقل زوجة الأب بين وراثه كما تنتقل بقية متروكاته ، وقد يشترك جماعة في زوجة واحدة وبعض العرب (١) كانوا يشتركون في كل شيء حتى في الزوجة ، والأخوة جميعا يشتركون في زوجة واحدة وتكون الرئاسة للأخ الأكبر. وإذا أراد الاتصال بها وضع عصاه على باب خيمتها لتكون

__________________

(١) تاريخ العرب قبل الإسلام.

علامة للآخرين فلا يدخلون عليهما (١) ، وكان للزواج عندهم أنواع كثيرة منها انه قد يتفق على امرأة واحدة ما دون العشرة فيشتركون بها فإذا حملت وأولدت ذكرا دعتهم إليها بعد أيام من ولادتها وألحقته بمن تشاء منهم ، وليس لأحد منهم رأي في ذلك ، بل الرأي لها وحدها ، وإذا وضعت بنتا أخفت أمرها عنهم. ومنها نكاح الاستبضاع وهو أن يسلم الرجل زوجته رجلا آخر من أهل الشجاعة والكرم والصحة ، ثم يعتزلها الى أن يبين حملها من ذلك الرجل (٢) ، وربما كان يطلب منها أن تفتش عن أهل الشجاعة والكرم لتلد له منهم ولدا يجمع تلك الصفات (٣) الى كثير من تلك الأخبار التي رواها الأخباريون عن العرب في جاهليتهم. وقد نص القرآن الكريم على مقدار امتهانهم للمرأة واحتقارهم لها لا سيما إذا ولدت أنثى قال سبحانه : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وفي آية أخرى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وهذه الآية تؤكد لنا ما روته الأحاديث عن قسوة العرب على المرأة ومدى احتقارهم لها ، وقد ساءهم نزول الوحي حينما جاء ينصف المرأة ويجعل لها نصيبا من المال كغيرها من الوراث ، فعاتب بعض العرب الرسول في ذلك محتجا عليه بأنها لا تركب الفرس ولا تقابل العدو ، وكان يحق لابن الزوج أن يتزوج بزوجة أبيه إذا لم تكن اما له ، فحرم عليهم الإسلام هذا الزواج ونهت عنه الآية الكريمة من سورة النساء قال سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) بلوغ الارب في أحوال العرب.

عناية الإسلام بالمرأة (١) :

ولا أريد أن أبحث في كتابي هذا عن المرأة وتاريخها قبل الإسلام وبعده ، ولكن الذي أريده أن الإسلام منذ فجره الأول قد ساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق والواجبات وحفظ لها حقها وكرامتها وصان لها عفافها وشرفها كي لا تكون فريسة للرجل لا ينظر إليها إلا من الناحية الجنسية والشهوات الجامحة ، أردت أن أشير الى هذه الناحية بصورة مجملة في خلال حديثي عن آيات التشريع التي تناولت نظام البيت والأسرة ، وكنت قد كتبت فصولا من كتاب اسميته (حقوق المرأة في الإسلام) قارنت فيها بين نظر الإسلام إلى المرأة ونظر غيره من الشعوب التي تصف نفسها بالتمدن ، وأثبت فيها أن الإسلام وحده هو الذي أخذ بيدها الى مصاف الرجال في جميع الميادين وفضلها على الرجل أحيانا ، بينما هي بنظر الغربيين والبعيدين عن الإسلام في العصور المتأخرة عن عصر التشريع الإسلامي أسوأ حالا منها بنظر العرب قبل الإسلام ، ففي العصور المتأخرة قد استبد بها الرجل ، وبالغ في احتقارها ، وكان يتصرف بها كما يتصرف في بقية أملاكه ، وذكر عالم فرنسي كبير أن مجمعا علميا في فرنسا بحث أن المرأة لها نفس كالرجل أم لا ، ولم يستطع أن يتوصل في ابحاثه الى نتيجة إيجابية إلا بالنسبة إلى السيدة مريم والدة المسيح (٢). قال الأستاذ قاسم أمين (٣) : «وترتب على دخول المرأة في العائلة حرمانها من استقلالها ، لذلك كان

__________________

(١) لقد اعتمدنا في هذا الفصل وما بعده من النواحي المتعلقة بالإرث والطلاق وتعدد الزوجات على كتاب المرأة في الإسلام للأستاذ احمد كمال عون.

(٢) المرأة في الإسلام للأستاذ أحمد كمال عون.

(٣) في كتابه المرأة الجديدة.

رئيس العائلة عند اليونان والرومان والجرمانيين والهنود والعرب مالكا لزوجته كما يملك الرقيق بطريق البيع والشراء ، وكان عقد الزواج عليها يحصل على صورة بيع وشراء. يشتري الرجل زوجته من أبيها فينتقل اليه جميع ما كان للأب من حق عليها ، ويجوز له أن يتصرف فيها بالبيع لشخص آخر» وأكثر الذين كتبوا عن المرأة قبل الإسلام وبعده تعرضوا لما كانت تلاقيه من القسوة والامتهان حتى عند الغربيين الذين ينادون اليوم بمساواتها للرجل ومنحها حريتها المطلقة مهما نتج عن ذلك من فساد في المجتمع وتنكر للقيم والأخلاق.

وسواء صحت الحوادث التي نقلها الكتاب عن قسوة الأمم عليها أو لم تصح فمما لا شك فيه أن المرأة المسلمة قد استقبلت حياة جديدة حافلة بالعزة والكرامة ، لم تعهد منذ تاريخها حياة أفضل من حياتها في ظل الإسلام ، ولم تر من العناية والتقدير من أي امة سبقت الإسلام أو تأخرت عنه ما لاقته من الإسلام ، فقد وضعها في مكانها وأعطاها كل ما لها وكلفها بما عليها وخاطبها كما خاطب الرجل ورعاها كما رعاه.

وعلى كل حال فقضية الرجل والمرأة قضية خالدة ما خلدت الإنسانية ، باقية ما بقي الدهر.

فالحياة لم تقم بالرجل وحده ولا بالمرأة وحدها ، بل بهما معا تنتظم الحياة لأنهما من نفس واحدة (خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) فأصبح الزوجان أزواجا والنفسان عالما ضخما يموج بالأنفس ويزخر بالحياة. يسير ما قدر له السير ، ويمضي إلى غايته وأهدافه يعين بعضه بعضا ويكمل كل من شطريه الشطر الآخر ، وتلك سنة الله في جميع الحيوانات بل في جميع الأحياء على السواء.

قال سبحانه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فلم يكن اثر المرأة في هذه الحياة بأقل من أثر الرجل ، ولم تكن فيها عاملا ثانويا ولا مجرد شهوة وموضع متعة ، وإنما هي عامل له من الأثر ما للرجال ، وإذا عرف كل منهما مكانه وقام برعاية واجبه ، استقام أمر الأسرة ومن وراء ذلك يستقيم أمر الجماعة ، وان الباحث في تعاليم الإسلام وسيرة رسوله الكريم يرى مقدار عنايته بها ورعايته لحقها ومساواتها للرجال في كل شيء حتى في المسجد والجمعة والجماعة ومجالس الوعظ والإرشاد ، ولم يكن يبخل عليها بنصائحه وإرشاداته إذا طلبت منه ذلك ، فوق ما يتاح لها أن تشهده مع الرجال ، وكثيرا ما كان يردد على مسامع أصحابه ما لها من آثار مجيدة في تكوين الأسرة وسعادة البيت.

أما من الناحية السياسية والاجتماعية ، فالتاريخ غني بالشواهد على ما سجلته من صفحات ناصعة وبطولات وتضحيات في سبيل الإسلام. ومنذ اللحظة الأولى كانت المرأة عاملا إيجابيا له أثره البالغ في تاريخ الإسلام ، فأول قلب غزاة هذا الدين المجيد بعد قلب علي (ع) هو قلب خديجة زوجة النبي (ص) وان الموقف الذي وقفته تلك السيدة الجليلة سيدة المسلمات الأولى من زوجها صاحب الدعوة ، والإسلام لم ينبلج نوره ولم يستبن بعد ضياؤه والعرب كلهم يتواثبون للنقمة منه ، هذا الموقف لم يقفه أحد من المسلمين ولا من بني عمه الأقربين إلا إذا استثنينا عليا (ع) غير هذه السيدة الجليلة لقد دخل عليها وقلبه يرتجف حينما أتاه الوحي لأول مرة في أول آية أنزلت عليه من القرآن المجيد : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، ولما قص عليها هذا النبإ ومدى خشيته من ذلك ، قالت له ببشاشتها التي اعتادت أن تقابله بها : «والله ، لا يحزنك الله أبدا ، إنك تصل الرحم وتحمل الكل وتقرئ

الضيف وتعين عند النوائب ، أبشر يا ابن عم واثبت». ولما خافت ان لا تكون في حديثها معه قد بلغت ما تريد ، من راحة زوجها العظيم واطمئنانه بالمصير الذي سيكون أخذت بيده تريد ابن عمها ورقة بن نوفل وكان جليلا وكبيرا مجربا للأمور ، وما أن وصلت اليه حتى بدأت تقص عليه ما جرى لزوجها ولما انتهت من حديثها معه ، بشره بالنبوة التي كان ينتظرها العارفون والقارئون لكتب الله المنزلة على أنبيائه. وتمنى ورقة بن نوفل أن تمتد حياته لينال نصيبه من الإسلام ويقوم بنصرة محمد (ص) ومضت خديجة التي كانت أول من آمن برسالة محمد (ص) بعد علي (ع) تبذل مالها وجاهها في سبيل هذا الدين ، وترعى له بيته وولده. حتى قال فيها الرسول بعد أن قوي أمر الإسلام كلمته الخالدة «قام الإسلام بسيف علي ومال خديجة» وكانت قدوة لغيرها من المسلمات في الجهاد والدفاع عن هذا الدين اللواتي تحملن في سبيله الأذى وصبرن على العذاب ، حتى أمرهن الرسول بالهجرة إلى الحبشة وكن ثماني عشرة امرأة. ولما فرض الله على الرسول ان يجاهد الكفار والمنافقين كانت المرأة بجانب الرجل المسلم تدافع وتناضل. وحدث لبعضهن ان تركت زوجها وولدها وانضمت الى صفوف المسلمين ، فلم تغب المرأة عن مشهد من مشاهد الرسول مع أعدائه فقامت بأوفر نصيب في خدمة الدين تضمد الجروح وتهيئ الطعام وتحمل السيف والرمح وتقف في مصاف الأبطال والشجعان وقد سجل التاريخ لأم عمارة موقفها البارز بين إبطال المشركين حتى قال فيها الرسول ، ما التفت يمينا وشمالا إلا ورأيت أم عمارة. وقال مخاطبا ولدها ، أمك خير من مقام فلان وفلان ، ولقد خرجت المرأة المسلمة إلى الجهاد بعد وفاة الرسول لقتال المرتدين. وكانت نهاية مسيلمة زعيم المرتدين على يد أم عمارة التي أقسمت أن لا ترجع الا بعد قتل الدعي مسيلمة الكذاب. وهكذا

بقيت المرأة المسلمة تناضل وتجاهد عن دين الله في صفوف الأبطال والشجعان حتى قضى الإسلام على جمع مناوئيه ، وانتظم عقده البلاد العربية واندفع نوره يسري بين الأحياء ويغمر الإرجاء ويدحر الظلمات وتأذن الله لنور الحق بالغلب ، وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دينه أفواجا.

أتراه بعد ذلك ينقصها شيئا من حقها ، أو يكرم الرجل أو يحابيه على حسابها.

ان كل ما تمسك به الحاقدون على مبادئ الإسلام وعلى الأديان أن الإسلام جعل للرجل سلطانا على المرأة ، وأباح له أن يجمع بين أربع وضاعف نصيبه من الميراث ولم يقبل شهادتها في بعض الأمور ، وفي البعض الذي تقبل فيه لا بد من امرأتين لتعادل شهادة الرجل ، إلى غير ذلك من الفوارق التي اتخذ منها أعداء الدين الذين جرفتهم إباحية الغرب ، وسيلة للتشنيع والدس على الإسلام. ونحن لا ننكر على هؤلاء ان التشريع قد اشتمل على هذه المواد ، ولكن لم يصنع ذلك انتقاصا لها وامتهانا لحقها وتكريما للرجل وإيثارا له عليها ، حاشا الإسلام السمح الذي حفظ للجماعة والفرد حقهما ، والغى جميع الامتيازات والفوارق بين الطبقات ولم ير لأي إنسان ميزة على أخيه الإنسان إلا بالعمل الطيب ، وأكد ذلك في كثير من آيات الكتاب الكريم ، فقال : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) بل (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى).

وقال سبحانه : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

فقد ساوت الآية بينهما في العمل والجزاء ورسمت لكل منهما طريق السعادة والفوز برضوان الله ونعمه. وبعد ذلك لا بد وأن يكون التفاوت بين الجنسين في بعض مواد التشريع مستمدا من الأعباء والتبعات الملقاة على عاتقها وقد يكون لمصلحة أدركها المشرع ، وعلى أساسها كان هذا التعاون بين الرجل والمرأة. وليس بوسعنا الآن ، ونحن نتحدث عن آيات التشريع في القرآن الكريم بصورة إجمالية ، تمهيدا لموضوع الكتاب ، ان نستقصي كل ما يمكن ان يكون أساسا لهذه الأحكام ، التي اتخذها المهوشون وسيلة لحملاتهم ضد الإسلام ، لأن ذلك يؤدي بنا الى الخروج عن موضوع الكتاب.

ولعلنا سننشر في أثناء حديثنا عن آيات التشريع ، التي تعرضت لميراث المرأة وقبول شهادتها وتعدد الزوجات ، الى بعض الجهات التي يمكن ان تكون الأساس في هذا التفاوت بين الجنسين لهذه المواد.

نظام الزواج في الإسلام :

لقد شرع القرآن الزواج واعتنى بنظام الأسرة وصيانتها ، وحث الرجل ان يختار زوجة صالحة تكون قرة عين له ، ليسكن إليها ويجد في جوارها راحته ومن قلبها مودة له ورحمة ، لأنها أقرب شيء إلى نفسه وألصق ما يكون بقلبه وحسه. قال سبحانه مشيرا الى ما يجب أن يحدثه الزواج بين الزوجين (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) فهي شريكته في

حياته وصاحبة بيته وأم أولاده ، تدبر أمرهم وتقوم بتربيتهم ورعايتهم ، ليتفرغ هو لواجبه ساعيا في طلب رزقهم متحملا في سبيل ذلك أشق الأعباء والأهوال ، حتى إذا أوى إلى بيته سكنت اليه نفسه ، ووجد فيه القلب الحاني عليه ولقي من هدوئه وطمأنينته ما ينسيه آلامه ومتاعب أيامه ومشاق سعيه في طلب القوت له ولعياله. ولقد أوصى الإسلام بالمرأة وعظم حقها على الرجل ، أوصاه بحسن عشرتها والتلطف في رعايتها ، وبلغ من عناية الإسلام بها أن قال الرسول (ص) خير الرجال خيرهم لنسائهم. وجاء في الحديث أن النفقة على الزوجة والعيال من أفضل موارد المعروف وأحبها الى الله سبحانه ، وفي حديث آخر ما أكرم النساء إلا كريم ولا اهانهن إلا لئيم.

وكما عظم الإسلام حق المرأة على الرجل وأوصى بإكرامها ، جعل للرجل حقا عليها وفرض عليها ان تطيعه وقدمه على أقرب المقربين إليها. وقد جاء في الحديث : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها» وفي حديث آخر : «ان رضا الزوج من رضا الله».

على هذا النحو من العلاقة الكريمة يفرض الإسلام صلة كل من الزوجين بالآخر وحق كل منهما على صاحبه. وقد نص القرآن الكريم على ذلك بقوله : (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وكلمة (المعروف) تدلنا أن حق كل من الزوجين على الآخر ليس مبادلة تجارية جافة ، تقوم على التدقيق والحساب العسير ، حتى إذا ما فرط أحدهما في شيء منها ، كان للآخر أن يقتص بمقدار ما فرط له الطرف الآخر ، وانما هي ، هي المعروف ، والرفق واليسر من الجانبين.

لقد سمى القرآن الكريم عقدة النكاح ميثاقا غليظا كما في الآية التي

قررت استحقاق الزوجة لجميع مهرها بالغا ما بلغ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(١) وقد أكد علقة الزوجية ، وارتباط كل من الزوجين بالآخر ارتباطا وثيقا في عدد من آياته البينات ، قال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(٢) وفي آية أخرى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)(٣) والمراد باللباس هو سكن النفس ومحل راحتها واطمئنانها ، ويؤيد ذلك الآية الكريمة :

(جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي جعل لكم الليل محلا تسكنون فيه وترتاحون به ، كما جعل لكم النهار لتطلبوا فيه معاشكم وتدبروا فيه شؤونكم. ومن لطفه سبحانه بعباده أن وضع في قلبيهما الرحمة والمودة وجعلهما جزءين من نفس واحدة ، لا يقوم المجتمع إلا بهما ولا يصلح الا بصلاحهما ، وإذا فسد أحدهما كان الفساد في المجتمع بأسره ، فأحدهما بمنزلة القلب النابض والثاني بمنزلة العقل الذي يقود الى الخير والصلاح. ولا يمكن ان يعيش أحد بدون قلب ينبض ، كما لا يصلح انسان بدون عقل يقوده إلى الهدي والرشاد. لهذا ينظر القرآن الكريم حين يقول : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ، وحين يقول : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) ، وحين يجعل لكل منهما مثل الذي للآخر عليه ، (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

ولقد رغب القرآن في الزواج وحث عليه وأكدت السنة الكريمة

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢١.

(٢) سورة الروم الآية ٢١.

(٣) سورة البقرة الآية ١٨٧.

رجحانه في الآية : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١).

وقال (ص) : من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الآخر ، وقال : الزواج سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تؤكد رجحانه.

ولم يكن للعرب حد في عدد الزوجات فقد يتزوج أحدهم العشرة أو يزيد على ذلك ، ولم يكن ذلك مستهجنا عندهم. وكان لكل من نوفل بن معاوية وعمرة الأسدي وغيلان الثقفي أكثر من أربع نسوة حينما دخلوا في الإسلام ، فأمرهم الرسول ان يمسكوا أربعا ويتركوا الباقين. ولما جاء الإسلام وضع حدا وسطا ، فأباح التعدد مبدئيا وفرض فيه من القيود ما قد يؤدي الى تعسر القيام بها أحيانا ، وعند ما يكون تعدد الزوجات موجبا لترك ما هو مفروض على المكلف يكون محرما بنظر الإسلام ، ولا يمنع ذلك كونه مباحا بنظر الإسلام إباحة مجردة عن الرجحان أو الإلزام إذا لم يؤد الى الجور والظلم.

ولقد جاء تشريع هذا الحكم في القرآن الكريم في معرض البر باليتامى ورعايتهم وحفظ أموالهم. قال سبحانه : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ، (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) لقد وضعت هذه حدا وسطا بين الواحدة وما يزيد عن الأربع النحو كان متعارفا قبل الإسلام فإباحته مبدئيا بالشروط التي تحفظ للمرأة حقها وكرامتها.

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٢.

تعدد الزوجات :

ولقد حاول بعض الكتاب انتصارا للحاقدين على الإسلام أن يتأول هذه الآية بما يتفق مع نزعاتهم وأهوائهم ، وانتهى به تفكيره إلى حرمة التعدد بنص القرآن ، محتجا لذلك بأن الآية التي أباحت التعدد ليس فيها ما يدل على الإباحة المطلقة ، وإنما الذي جاء فيها هو الإباحة على أن يعدل بين زوجاته. والآية التي وردت بعدها نصت على أن العدل غير مستطاع لأحد من الناس. قال سبحانه : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ، وَلَوْ حَرَصْتُمْ). ونتيجة ذلك عدم جوز التعدد لانتفاء شرطه. ولكن هؤلاء تضليلا منهم أو جهلا بما أريد من العدل الذي نصت الآية على أنه غير مستطاع لأحد من الناس هؤلاء قد أيدوا أعداء الإسلام بحجة انهم يغارون على حقوق المرأة وحريتها. وقد فاتهم أن العدل الذي اعتبره القرآن شرطا اساسيا لإباحة التعدد ليس هو المساواة من جميع الجهات ، حتى في ميل القلب واتجاه النفس ، وانما هو المساواة في الإنفاق والرعاية وغير ذلك مما تحتاجه الزوجة. وأما ميل القلب واتجاه النفس فليسا مما يملكهما الإنسان ، فلا يتعلق بهما التكليف لأنه لا يتعلق إلا بما هو مقدور ومستطاع ، والعدل الذي نفته الآية الثانية فهو بمعناه العام الشامل لهذه الحالة ، وهو بهذا المعنى ليس شرطا لإباحة التعدد. وإنما الذي وقع شرطا فيها هو المساواة في الإنفاق والرعاية وغيرهما مما تحتاج إليه الزوجة مع زوجها ، وكونه بجميع مراحله غير مستطاع لا ينافي أن يكون مستطاعا ببعض مراتبه.

والذي يدل على ان المراد من العدل الذي لا بد منه هو بعض مراتبه قوله سبحانه في آخر الآية (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ). وكان النبي (ص) بصفته أحد المكلفين يسوي بين نسائه في القسم

والإنفاق والرعاية وجميع ما يحتجن اليه ، ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ، ويعني بذلك ميل القلب.

والآية الكريمة وإن وردت في معرض الرفق باليتامى والإحسان إليهم والرعاية لهم ، إلا أن ذلك لا يمنع من إفادتها لهذا التشريع الخالد الذي هو ضرورة من ضرورات المجتمع. وقد جاء في تفسير هذه الآية أن اليتيمة تكون في بيت المسلم ، فإذا بلغت مبالغ النساء قد يعجبه مالها وجمالها ، فيطمع في زواجها بدون ان يدفع لها من الصداق ما يدفعه غيره. ففي مثل ذلك نصت الآية بأن على أولياء اليتامى ان يدفعوا إليهم أموالهم ، بعد ان يبلغوا مبالغ النساء. ونهت عن الزواج بهن بدون ان يدفعوا لهن الصداق الذي يدفعه الغير ، وفي نفس الوقت رخصت نكاح غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فيكون المعنى المقصود منها هو انه ما دام يباح لكم ان تتزوجوا بمن شئتم فاتركوا اليتامى إذا لم تقسطوا إليهن في الصداق ، وإن أعجبكم جمالهن واغرتكم أموالهن.

فلم يشأ الإسلام في هذا التشريع الخالد ، الذي كان عماده الأول القرآن الكريم ان يخلق للمرأة مشكلة اجتماعية أو يجحف بحقها كما يدعي الغربيون والمتخلقون بأخلاقهم ، لا سيما وقد نظم علاقة كل من الزوجين بالآخر ، وجعل كلا منهما مكملا للآخر وسكنا له ، وجعل بينهما مودة ورحمة ، ودعي إلى الطهر والعفاف وغض الأبصار وحفظ الفروج ، وصيانة الأغراض والأنساب ، وأوجب على المسلمين ان يكونوا محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ، وراعى في جميع الحالات ما تمليه المصلحة ، وما يحفظ الأخلاق من التدهور والانحطاط. وحينما أباح التعدد شرط على الزوج ان لا يجوز وان يكون عادلا بين

نسائه وإذا خاف ان يتعذر عليه القسط بينهما لم يكن له ان يتزوج بأكثر من واحدة. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وليس ببعيد ان يكون الإسلام أباح للرجل ان يتزوج بأكثر من واحدة ، أما لضرورة شخصية تنشأ من حاجة الرجل أحيانا الى أكثر من واحدة ، أو لضرورة اجتماعية نشأت من زيادة عدد النساء على الرجال ، في أكثر بلدان العالم. ويطرد ذلك بشكل هائل أيام الحروب العامة ومن تتبع الاحصاءات التي تطالعنا بها الصحف عن عدد النساء في جميع بلدان العالم ، يظهر لنا أن عددهن يزيد عن عدد الرجال بنسبة لا تقل عن الثلثين ، ان لم تكن أكثر من ذلك. ومع هذا التفاوت بينهما في العدد ، ومع العلم بأن حاجة المرأة الى الرجل لا تقل عن حاجة الرجل إليها من الناحية الجنسية ان لم تكن أكثر منها ، فلا بد لنا من أحد أمرين ، لو اهملنا هذا التشريع : اما ان نفرض على المرأة حياة الرهبنة والتجرد عن انسانيتها ، أو تترك وشأنها تعيش في جو من الفوضى ، وفي كليهما تزداد مشكلتها تعقيدا ، فلا بد من الأخذ بهذا التشريع وتطبيقه عمليا ، صونا للرجل والمرأة وما يجيء منهما من النسل في ضمن العدالة التي فرضها الإسلام والقرآن. ومما لا شك فيه أن العمل بهذا التشريع هو الذي يحول بين ما يعانيه المجتمع من التدهور الخلقي ويحفظ للمرأة كرامتها ان تداس وشرفها ان ينحط لو أصبحت فريسة لذوي الشهوات والأطماع.

وفي نفس الوقت تنحل بهذا التشريع مشكلة من لا يكتفي بواحدة من النساء ، لكثرة ما يعرض على المرأة من المتاعب التي تمنعها من سد حاجة الزوج أحيانا ، وبذلك تصان كرامة الملايين من النساء اللواتي يزدن على عدد الرجال في أكثر بلدان العالم.

النساء اللواتي يباح التزويج بهن :

لقد نص القرآن على من يحل التزويج بها ومن يحرم فقال في الآية من سورة النساء :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً).

وينبه على هذا النوع بخصوصه لأنه كان شائعا قبل الإسلام حيث كانت منكوحة الأب يرثها أولاد الميت كما يرثون بقية أمواله. ثم عدد أصنافا من النساء غيرها ممن لا تحقق بينهن وبين الرجال رابطة الزوجية فقال :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وفيما عدا هذه العناوين التي ورد ذكرها في الآية يمكن ان تحصل رابطة الزوجية بين الرجل والمرأة إذا وقع عقد الزواج بينهما بالطرق التي اعتبرها الإسلام ، وقد نبه في الآية على أن حليلة الولد انما تحرم على أبيه إذا كان ولدا شرعيا من صلب الرجل ، أما إذا لم يكن من صلبه فلا تحرم عليه زوجته إذا طلقها ولده الادعائي. وكان المعروف عند العرب قبل الإسلام والشائع بينهم تحريم زوجة الولد سواء كان حقيقيا أو ادعائيا. فأبطلت هذه الآية ما كانوا عليه ونصت على حرمة زوجة الولد على أبيه فيما إذا كان من صلبه اما إذا لم يكن من صلبه فلا

يكون ولدا. قال سبحانه : (ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) وعن عطاء ان هذه الآية نزلت حينما تزوج النبي (ص) مطلقة زيد بن حارثة ، فقال المشركون أن محمدا تزوج من زوجة ولده ، لأنه كان قد أحب زيدا ونزله منزلة أولاده ، فكانت هذه الآية ردا عليهم ودحضا لمفترياتهم.

وقد منع الإسلام من زواج المسلم بالمشركة والمشرك بالمسلمة كما نصت على ذلك الآية الكريمة :

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ، وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) ولا خلاف بين المسلمين في هذين الحكمين.

أما الزواج من أهل الكتاب ، فذهب أكثر علماء الشيعة الإمامية الى عدم جواز الزواج من الكتابيات استنادا الى هذه الآية ، لأن الكفر بالله ورسوله يرجع الى الشرك ، ولقوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

ولا يتنافى ذلك مع ظاهر الآية : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)(١) لأن القائلين بعدم الجواز ، يرون ان المراد بالمحصنات في هذه الآية اللواتي أسلمن منهن ، فتكون الآية الأولى على عمومها للكتابي وغيرها من أصناف الكفار.

ولا بد للقائل بحصول الرابطة الزوجية بين المسلمة والكتابية من أحد أمور : إما القول بالنسخ أو التخصيص بناء على عموم المشركات

__________________

(١) سورة المائدة من الآية ٥.

لكل من لم يؤمن بالله ورسوله ، أو القول ان المشرك غير الكتابي من أصناف الكفار بدليل عطف كل منهما على الآخر في بعض الآيات ، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال تعالى :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) وقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ). وعلى ذلك لا يكون موضوع الحكم في آية لا تنكحوا المشركات ، شاملا للكتابيات ، فيجوز العقد على الكتابية بمقتضى أدلة الإباحة العامة ، بالإضافة الى ما جاء في آية المائدة ، من حلية المحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، ويبقى على هؤلاء أن يلتزموا بنسخ الحكم المستفاد من قوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أو تخصيصها بآية والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، بناء على عموم الكافر للكتابي وغيره في آية (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

وقد أباح القرآن ان يتزوج الرجل بالأمة إذا لم يكن قادرا على الزواج بالحرة ، وجاء في الآية التي تضمنت هذا التشريع : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)(١).

وتدل هذه الآية على انه لا يجوز للرجل ان يتزوج بالأمة إلا مع عدم القدرة على مهر الحرة ونفقتها ، كما يظهر من وصفها بالأيمان ان الأمة المؤمنة هي الموضوع لهذا الحكم ، ومع هذين الشرطين لا بد من إذن وليها في ذلك.

__________________

(١) من سورة النساء أول الآية ٢٥.

وقد نصت الآية بأن عليها من العقوبة نصف ما على الحرة لو أتت بفاحشة ، (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ). وهو خمسون جلدة نصف ما على الحرائر.

ولم يشرع الإسلام الزواج جزافا بل فرض على الرجل إذا أراد أن يتزوج أن يدفع للمرأة ما يتفقان عليه من المال. قال سبحانه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)(١).

وقد جاءت هذه الآية بعد الآية التي عددت من يحرم نكاحهن على الرجل ، وظاهرها يدل على أن ما عدا المحرمات التي نصت عليها الآية يحل لكم بأموالكم ، ومقتضى ذلك انه لا يحل الا بالمال وما يقع عليه الاتفاق بين الزوجين لا بد من تسليمه الى الزوجة ، كما يدل على ذلك قوله في آخر الآية :

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً). (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

ويرى الشيعة الإمامية هذه الآية من أدلة جواز العقد إلى أجل معين ، الذي أباحه الإسلام ومنعه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وبذلك فسرها ابن عباس والسدي وابن سعيد وجماعة من التابعين (٢). ويدعون ان لفظة الاستمتاع والتمتع وإن كان يصدق على الانتفاع ومطلق التلذذ ، الا انه في عرف الشرع مخصوص بهذا العقد المعين ، فيكون المعنى المتحصل للآية إذا عقدتم عليهن إلى أجل آتوهن أجورهن. والذي يؤيد إرادة هذا المعنى أن الآية جعلت وجوب إعطاء

__________________

(١) سورة النساء آخر الآية ٢٥.

(٢) مجمع البيان جلد ٢ طبع صيدا.

الأجرة مترتبا على الاستمتاع ، وفي العقد الدائم يثبت المهر بالعقد ولا دخل للاستمتاع في ذلك. وعن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وابن مسعود فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. ولو صح ذلك فلا بد وأن تكون الزيادة تفسيرا لبيان المراد من الآية لا جزءا منها ، والآية كما هي في جميع المصاحف بدون زيادة ولا نقصان.

وهذه الضميمة اما عن اجتهاد منهم في تفسيرها واما لأنهم سمعوه من الرسول (ص) كما نزل به الوحي. وعلى ذلك تحمل جميع الأخبار التي نعت على ان القرآن الذي جمعه علي (ع) يزيد على غيره من المصاحف ، فتكون الزيادة على تقدير صحة الأحاديث في تفسير بعض الآيات لا في أصل آياته

نظام الطلاق في الإسلام

لقد ظهر من الآيات التي شرعت الزواج ونظمت علاقة كل من الزوجين بالآخر ، وأشادت بما لتلك العلاقة من فعالية في بناء المجتمع وسعادة الإنسان ، ان الإسلام يرى ان الزواج هو مادة الوجود ، والسبيل الوحيد لعمران الكون لأنه ليس من مختصات الإنسان. قال سبحانه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

لذا فقد أوصى في بنائه على أساس الرضا من الطرفين والاختيار الكامل ، فلكل منهما ان يبحث عن شريكة ، فإذا وجد الدين والخلق الجميل فقد وجد الخير كله ، وكانا على بصيرة من أمرهما واطمئنان لمستقبلهما ، حتى إذا ما تم الزواج دعاهما الإسلام إلى حفظ هذا البناء الجديد وصيانته ، وأرشدهما الى ما يقويه ويدعم أركانه ويشد أواصره ، وجعل لكل منهما من الحقوق والواجبات ما يقوي أواصر تلك العلقة فقال للرجال : خيركم عند الله خيركم لأهله ، وللنساء : إن رضا الزوج من رضا الله ودعاهم الى الرفق واللطف والبشاشة والى كل ما يثبت محبة كل منهما في قلب الآخر ، وفي الحديث : «ان الرجل إذا وضع اللقمة في فم زوجته كان له أجر ذلك عند الله». والإسلام مع حرصه الأكيد على تدعيم هذا البناء وتذليل الصعوبات التي قد

تعترض سعادة الزوجين وهناءهما لا يخفى ما فيه من تبعات وأعباء جسام ، لا بد وأن يتحملها الزوج في سبيل الغرض الاسمي من الزواج ، فيقول الرسول في معرض التأكيد والحث على إكرامها والتغاضي عن هفواتها المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمه كسرته ويقول الله سبحانه : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

ومع كل هذه العناية والحيطة التي اتخذها الإسلام لاستقرار الحياة الزوجية وازدهارها ، فقد جاء الإسلام بعلاج تأديبي للمرأة ان بدا منها نشوز أو تمرد عليه مع قيامه برعايتها والإحسان إليها ، وأباح له ان يقف منها موقف المربي الحكيم كي ترجع الى صوابها ، فان لم يغنه التوجيه والإرشاد رخص له الإسلام في ضربها بقدر الحاجة ، فإن أطاعت واستقامت سيرتها معه ، عاد الى حسن صنيعه بها. قال سبحانه : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).

لقد تعرضت هذه الآية للعلاج الذي ينبغي استعماله مع الزوجة إذا بدا منها تقصير بواجبها وتمرد على زوجها مع قيامه بالمفروض عليه من حقها. وليست المراتب الثلاثة التي نصت عليها الآية ، إلا لارجاعها الى الطريق القويم الذي كانت عليه أولا ، فإن رجعت بالموعظة ليس له ان يعالج نشوزها بالهجر أو الضرب ، حتى إذا لم تغنه عظتها سلك الطريق الثاني. وهكذا حين تعود حياتهما الى سابق عهدها من الهدوء والاستقرار. وكما أرشد القرآن الكريم الى العلاج الذي ينبغي للزوج ان يستعمله مع زوجته أرشدنا ايضا الى ما يجب على الزوجة ان تقوم به إذا بدا من الزوج نشوز أو ظهر لها فتور في مودته ، فعليها في مثل هذه

الحالة إن تحاول إصلاحه وإرجاعه إلى سابق عهده معها ، بما أوتيت من لطف وكياسة وتتغاضى عن شيء من حقوقها ، والى ذلك تشير الآية الكريمة :

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١).

كما جاء في تفسيرها عن جماعة من الصحابة والتابعين (٢) ، أما إذا لم تجد هذه المحاولات مع كل من الزوجين وبقيا على خلافهما ونفورهما ، فليس لأحدهما أن يتعدى ، ما رسمه القرآن ، باستعمال الأساليب التي قد تؤدي الى اليأس من عودة الحياة الزوجية إلى سابق عهدها الزاهر ، بل يعود الأمر في هذا الحال إلى أولياء الزوجين ليعالجا ما حصل بينهما من خلاف وشقاق ، وعلى ذلك تنص الآية الكريمة : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)(٣).

ولا بد في الحكمين أن يكونا صالحين بعيدين عن الهوى والغرض ليعملا بإخلاص وتجرد ، في العودة بالحياة الزوجية الى ما كانت عليه ، وقد جاء في تفسيرها عن ابن عباس رحمه‌الله (٤) ان الله أمر أن يبعثوا رجلا صالحا من أهله ورجلا صالحا من أهلها فينظران أيهما المسيء. فإن كان الرجل المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٢٨.

(٢) مجمع البيان جلد ٢ صفحة ١٢٠.

(٣) سورة النساء الآية ٣٥.

(٤) مجمع البيان نفس المصدر.

كانت المرأة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. وليس للحكمين صلاحية الطلاق الا ان يكونا وكيلين في إيقاعه لو فشلا في التوفيق بينهما. لقد أوصت الآيات الكريمة بعلاج مشاكل الزوجين بهذا النحو الذي ذكرناه ، حتى لا تكون جحيما يسوقهما الى الطلاق لأقل سبب يحدث بينهما ، أما إذا فشلت جميع المحاولات وأخفقت جميع المساعي التي بذلها الزوجان والحكمان وكانت حياتهما لا محالة جحيما ، تجر من ورائها أنواعا من الجرائم والمفاسد على البيت والأسرة ، كان ولا بد في مثل ذلك ان يضع الإسلام علاجا آخر لانقاذها من ذلك البيت المظلم ، ولا شيء أجدى من تلك المرحلة الأخيرة التي هي من أبغض أنواع الحلال الى الله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) في هذه المرحلة الحاسمة من حياة الزوجين شرع الإسلام الطلاق ، حيث لا علاج غيره ، تخلصا مما يحيط بهما من إخطار قد تؤدي بحياة الأسرة بكاملها ، لو بقي الزوجان في بيت قد انحرف صاحباه عن انسانيتهما السامية التي حددتها الآية الكريمة من سورة الروم :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

ومع ان هذا التشريع من ضرورات المجتمع ، إذا كانت حياة الزوجين على هذا النحو ، فقد فسح الإسلام لهما المجال للتراجع عنه ، لأنه لم يقره على كل حال في جميع الحالات بل أباحه بشروط قد يتعسر اجتماعها أحيانا ، فلا يقع في حالة الحيض وفي الطهر الذي واقعها فيه ، وبعد وجود هذين الشرطين لا يقع الا بمحضر اثنين من عدول المسلمين. وقد لا يتيسر للزوج في كثير من الأحيان اجتماع الشروط

الثلاثة ليصح منه الطلاق فلا بد من تأخيره وقد يترتب على ذلك رجوع الزوج عن عزمه وعودة الصفاء بين الزوجين الى ما كان عليه.

أما إذا وقع الطلاق وشهد على وقوعه العدلان ، فليس للزوجة أن تتزوج من غير الزوج الأول إلا بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الطلاق ، وعليها ان تبقى في البيت الذي كانت فيه قبل الطلاق وعلى المطلق ان يقوم بكل ما تحتاج إليه الزوجة في ضمن هذه المدة ، وله ان يرجع عن طلاقها قبل مضي الأشهر الثلاثة ، اما بعد مضيها فليس له أن يرجع إليها إلا بعقد جديد. وقد أشارت الآية الكريمة إلى جملة من أحكام هذا النوع من الطلاق. قال سبحانه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ، لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(١).

وقد بين القرآن الكريم أحكام المطلقة في جملة من آياته. قال سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ).

فقد حددت الآية مقدار الزمان الذي تعتد فيه المرأة إذا كانت ممن

__________________

(١) الآية الأولى وأول الآية الثانية من سورة الطلاق.

تأتيها عادة النساء ، ولا يحل بها الزواج بغيره الا بعد مضي ثلاثة قروء من تاريخ الطلاق. والقرء من الألفاظ التي يستعمل في الحيض وفي الطهر ، وأيهما أريد منه فالمطلقة تبقى بحكم الزوجة ما دامت في عدتها ، وعليها أن تبقى في البيت الذي كانت فيه قبل الطلاق وليس لها الاختيار إذا أراد مراجعتها ، وعليه ان يقوم بالإنفاق عليها في ضمن هذه المدة. وفي الآية دلالة على أنه لا يسوغ لهن ان يكتمن ما في أرحامهن من الحمل أو الحيض لتمنعه عن الرجوع بالطلاق ، لأنها ما دامت في الحمل فهي في عدته ، وله الرجوع في طلاقها قبل الحيضة الثالثة.

وأما إذا كانت المرأة حاملا حين طلاقها فعدتها لا تنتهي إلا بوضع الحمل والى ذلك تشير الآية : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وعليه ان ينفق عليها حتى تضع حملها ، وإذا كانت مرضعة فليس عليها ان ترضع ولدها بدون عوض ، لأن نفقة الولد لا تجب عليها مع وجود وليه.

قال سبحانه : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى). وقد فرض الإسلام على الزوج ان يرفق بزوجته المطلقة ويعاملها بالإحسان والمعروف ، قال سبحانه : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ)(١). أما إذا كان الفراق قبل الاتصال فيها فتحل لغيره من حين الطلاق. والى ذلك تشير الآية : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ

__________________

(١) سورة الطلاق الآية ٦.

طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها)(١).

وإذا طلق الرجل امرأته فعليه ان يدفع لها المهر بالغا ما بلغ ولا يحل له ان يأخذ منه شيئا ، إلا أن تكون كارهة له ، فلها أن تفتدي نفسها منه حين لا يكون عقد الزواج وسيلة لاقتناص مال الرجل والاستمتاع بخيراته وهباته. اما إذا كان ظالما لها وطلبت الطلاق للتخلص من ظلمه بعد ان نفذ صبرها ولم تجدها محاولات استجلابه ، فليس له ان يأخذ من مهرها شيئا ، قال سبحانه : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(٢) وفي آية أخرى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

وقد جاء في تفسير هذه الآية ان المرأة إذا بدا منها النشوز وسوء الخلق بغضا بالزوج ، وخاف من عدم إجابتها للطلاق إن تعصي الله سبحانه بارتكاب محرم أو إخلال بواجب ، فإذا فدت نفسها في مثل هذه الحالة جاز له ان يخلعها ، ويحل له ما بذلته له من الفدية إذا لم يكن هو الذي حملها على طلب الطلاق لسوء معاملته لها.

التراجع في الطلاق :

ومهما تكن أسباب الطلاق ودوافعه فقد فسح الإسلام المجال أمام الزوجين كي يتراجعا بعد إيقاع الطلاق مرتين فإذا كان الطلاق ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما جاء في الآية : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٤٩.

(٢) سورة النساء الآية ٢٠ والآية ٢١.

فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)(١).

والمقصود من ذلك ان الطلاق الذي للزوج حق الرجوع فيه هو مرتان ، فإذا رجع في الثاني وطلقها الثالثة ، فلا يحل له ان يراجعها في العدة ، حتى تتزوج من غيره بعد انتهاء عدتها منه ، فإذا طلقها الثاني بعد الدخول بها وخرجت من عدتها منه كان للزوج الأول ان يتزوج بها ثانيا ، قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

أي رجيا ان يرجعا الى ما كانا عليه من حسن الصحبة والمعاشرة ، ولعل هذه التجربة المريرة عليهما تردهما الى الصواب والاعتدال والمحافظة على الواجبات ورعاية الحقوق المتبادلة بينهما ، وتخفف من كبرياء الرجل إذا رأى امرأته وقد صارت خليلة لرجل آخر ، يملك من أمرها ما إضاعة هو بحمقه وجهله ، فلا يعود بعد ذلك في معاملتها الى شطط وإسراف.

وتشير الآية الى ان الطلاق الذي لا يجوز الرجوع فيه هو الطلاق الثالث وان الذي يملك الرجوع فيه هو مرتان ، ولا تصدق المرتان إلا إذا وقع مرة بعد أخرى ، أما إذا وقعت الثلاث بلفظ واحد ، كما إذا قال الزوج لزوجته أنت طالق ثلاثا فلم يتكرر الطلاق ، لأنه لا يكون طلاقا إلا بعد فرض الزوجية ولا زوجية إلا بالرجوع.

الطلاق الثلاث بلفظ واحد :

والمسلمون في ذلك على أقوال ثلاثة ، بين من يقول ببطلانه لمخالفته

__________________

(١) سورة البقرة من الآية ٢٣٠.

نص القرآن الكريم وهو قول جماعة من فقهاء الإمامية ، وبين من يقول بوقوعه واحدة وهم أكثر الفقهاء من الإمامية وبعض المتأخرين من فقهاء أهل السنة ، لأن صيغة الطلاق بعد ان وقعت من الزوج لا تكون الضميمة موجبة لبطلانها ، بل تكون مؤكدة لها أو لغوا من القول. وقد وردت الروايات عن أهل البيت بذلك ، ففي صحيحة جميل بن دراج عن أحدهما انه سئل عن الذي طلق في حال الطهر في مجلس ثلاثا قال (ع) هي واحدة ، وفي صحيح الحلبي وعمر بن حنظلة عن الصادق ، (ع) قال : الطلاق ثلاثا في غير عدة ، فان كانت على طهر فليس بشيء.

وقال أهل السنة ، عدا نفر من إعلامهم المتأخرين انه يقع ثلاثا وتحصل به البينونة إلزاما للزوج بما ألزم به نفسه ، وهذا القول لا يتفق مع النص القرآني ، الصريح في ان الطلاق الذي يملك الزوج فيه الرجوع مرتان ، وإلزام الزوج بما ألزم به نفسه على حد زعمهم اجتهاد في مقابل النص ، وقوله سبحانه في آخر الآية : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). كالصريح في ان الطلاق الذي يمنع عن الرجوع هو الثالث الواقع بعد المرتين اللتين كان الزوج فيهما مخيرا بين الإمساك والتسريح بإحسان ، أي تركها وشأنها مع الإحسان إليها حتى في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل حياتهما الزوجية.

وقد ذكر القرآن أمورا كانت قبل الإسلام تبين بها الزوجة. ولما جاء الإسلام أقر شيئا منها كما أقر بعض ما كانوا عليه في معاملاتهم وعقودهم ، فكانت المرأة تبين من زوجها عند ما يحلف على ترك وطئها ، وفي التشريع الإسلامي إذا حلف ان لا يطأها أبدا أو أكثر من أربعة أشهر ، بالله سبحانه صح منه هذا اليمين ، فإذا صبرت المرأة على ترك

الوطء كان ذلك من حقها ، وان لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم ، وهو بدوره ينذره بعد أربعة أشهر من تاريخ الإيلاء أما بالرجوع عن إيلائه وأما بطلاقها ، فإذا طلقها بائنا وعقد عليها زال حكم الإيلاء ، اما إذا كان رجعيا ورجع في العدة كان حكم الإيلاء باقيا ، فلها المطالبة بحقها من الوطء بعد أربعة أشهر من تاريخ الإيلاء والرجوع الى الحاكم ، كما كان لها أولا قبل الطلاق. وأما الحالف فله ان يرجع قبل الأربعة أشهر وبعدها ولا يترتب على مخالفة اليمين عقوبة غير الكفارة ـ بخلاف سائر ايمانه فان في مخالفتها معصية لله سبحانه ، فتكون فائدة الإيلاء انعقاد اليمين من حيث تترتب الكفارة عليه لا غير ، اما في غير هذا اليمين فلا بد فيه ، بالإضافة الى ان مخالفته معصية لله من رجحان مورده.

وقد ورد حكم هذا اليمين في الآية من قوله سبحانه : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

ومما يوجب تحريم المرأة على الزوج تحريما مؤبدا قبل الإسلام ، ما لو قال لها أنت عليّ كظهر أمي مثلا. وقد أقر الإسلام تحريمها في مثل ذلك مبدئيا ولكنه راعى في ذلك الشروط التي اعتبرها في الطلاق ، وأباح للمظاهر الرجوع إليها إذا كفر بالعتق أو الصيام أو الإطعام ، ولا يحل له وطأها إلا بعد التكفير. فان لم يكفر كان الخيار للزوجة بين ان تصبر وبين ان ترفع أمرها إلى الحاكم ، وهو بدوره يترك للزوج الخيار بين التكفير والرجوع وبين الطلاق ، فإن بقي مصرا أنذره الحاكم ثلاثة أشهر ، فإذا لم يختر أحد الأمرين حبسه وضيق عليه ولا يجبره على

__________________

(١) سورة البقرة الآيتان ٢٢٦ و ٢٢٧.

أحدهما بخصوصه ، وان اختار الطلاق وأوقعه بائنا ، كان لها ان تتزوج من غيره ويبطل اثر الظهار. وان أوقعه رجعيا ورجع إليها فليس له وطؤها في العدة الا ان يكفر عن ظهاره. وقد أشار الى بعض أحكام الظهار في الآية من قوله سبحانه : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

وقد فرض الإسلام على الزوجة فيما لو مات زوجها ان تعتد لموته بأربعة أشهر وعشرة أيام وقد نصت على ذلك الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(٢).

وكان عليها قبل نزول هذه الآية ان تقيم في بيتها عاما كاملا حدادا عليه وعلى الزوج ان يوصي لها من ماله ما يكفيها في تلك السنة ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) والظاهر من هذه الآية ان الإنفاق عليها من ماله بقدر ما يكفيها الى تمام الحول هو كل ما تستحقه في مال الزوج ، ولكن هذا الحكم منسوخ بآية المواريث التي فرضت لها الربع أو الثمن ، ومع ذلك

__________________

(١) سورة المجادلة الآيات ٢ ، ٣ ، ٤.

(٢) سورة البقرة من الآية ٢٣٤.

فلا منافاة بين الاثنين لأن تلك فيما يجب عليها من العدة والثانية فيما يجب لها من حق في مال الزوج.

ولا فرق في وجوب الاعتداد على المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرة أيام بين الحامل وغيرها ولا بين الحرة والمملوكة عند الإمامية ، وعند غيرهم ، ان عدة الأمة شهران وخمسة أيام وعدة الحامل تنتهي بوضع الحمل ، للآية الكريمة.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وظاهرها يؤيد ما عليه الشيعة الإمامية.

وقد تعرض الكتاب لحكم الأولاد ومقدار حقهم في الرضاع وحق مرضعتهم في مدة الرضاع وما يجب لهم في تلك المدة من النفقة لهم ولمرضعتهم قال سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

فقد تضمنت هذه الآية حق الولد في الرضاع وحق المرضعة على أبيه من الإنفاق حسب طاقته ومقدرته ، كما تدل على أن الحولين الكاملين غير مفروضين عليها وانما هما مقدار حقه الكامل في الرضاع. وتدل الآية على أن الأم لا تضار بولدها ، وليس للأب ان ينتزعه منها

إذا بذلت نفسها لارضاعه أو رضيت بما يرضى به غيرها ، كما تعرضت لحال الإباء إذا أرادوا مراضع لأبنائهم غير أمهاتهم إذا لم يكن ذلك بقصد الإضرار بالأمهات ، بأن كان ذلك لامتناع أمهاتهم عن ارضاعهم.

لقد وضع القرآن الكريم المبادئ العامة للشريعة الإسلامية ، وقلما نجد في الشريعة شيئا لم يتعرض له القرآن ، ومن ذلك الوصية فقد أمر بها واكدتها السنة الكريمة. وقد جاء فيها عن الرسول (ص) من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية ، وقال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) والمقصود بالخير هو ما تركه الميت من المال. أما مقدار المال الذي يجب فيه الإيصاء فلم تتعرض له الآية ، لذلك اختلفت به أقوال المفسرين ، فعن جماعة هو ما يصدق عليه هذا اللفظ قل أو كثر ، وعن آخرين ان أقله خمسمائة درهم. وعن علي (ع) أنه دخل على مولى له في مرضه وله ستمائة أو تسعمائة درهم فقال : الا أوصى؟ فقال علي (ع) لا! ان الله سبحانه قال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال (١). والآية الكريمة صريحة في صحتها للوالدين والأقربين ، فلا مجال للقول بأنها لا تصح لوارث عملا بالحديث المروي «لا وصية لوارث» ولازم هذا القول ان الآية قد نسخت بالحديث ولا يصلح الدليل الظني لنسخ الآية التي هي نص في المورد ، ومهما يكن الحال فقد شرع القرآن الوصية وأكدت رجحانها السنة وليس في الآية ولا في السنة الصحيحة ما يدل على اختصاصها بفريق دون فريق.

__________________

(١) مجمع البيان.

موقف الإسلام من الحجاب :

ومن الأمور التي فرضها الإسلام الحجاب على المرأة ، والآيات الكريمة التي نصت على وجوبه ، بعضها موجه لنساء المؤمنين والبعض الآخر لنساء النبي. وقد أراد الإسلام بهذا التشريع أن يحفظ للمرأة حياءها وشرفها من أن تعبث به العيون الشرهة والنفوس المريضة وصيانتها من التبذل والاختلاط المشين الذي يعرضها لأن تكون مهدورة الكرامة فريسة لأصحاب الشهوات والأهواء وان لا تحوم حولها الشبهات وتمتد إليها السنة المنافقين والمرجفين.

وقد بلغ من حرصه على ان لا تمسها ألسنة أهل السوء ان جعل النيل من كرامتها والتحدي لشرفها من الموبقات وجعله بمنزلة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق ، وسجل القرآن على الذين يرمون المحصنات اللعنة في الدنيا والآخرة وفرض على الحاكم جلدهم ثمانين جلدة تأديبا لهم كي لا يعودوا لمثل ذلك ولم يقبل لهم شهادة أبدا ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال في آية اخرى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١).

فمن الآيات التي وجهها القرآن لنساء النبي ، قوله سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)(٢) وهي صريحة

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب ، من الآية ٣٣.

في النهي عن التبرج والخروج كما كن يخرجن قبل الإسلام. وكما نصت هذه الآية على عدم جواز التبرج ، فقد نصت بعض الآيات على أن على المؤمنين إذا أرادوا أن يسألوهن شيئا أن يكون ذلك من وراء حجاب صونا للفريقين عن الوساوس والشهوات.

قال سبحانه بعد بيان جملة من الآداب التي يجب على المؤمنين التزامها مع الرسول : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ).

وكما خاطب القرآن نساء النبي وكلفهم بالحجاب خاطب المؤمنين ونساءهم بمثل ذلك كما ذكرنا وأمرهم بغض الأبصار وحفظ الفروج وعدم التبرج لغير أزواجهن. قال سبحانه : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) ، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ)(١). وأول ما خاطب الرجال بغض الأبصار وحفظ الفروج عما لا يجوز النظر إليه ، وبعد أن بين تكليف الرجل من حيث جواز النظر وعدمه توجه إليها بالخطاب يأمرها بغض بصرها عما لا يجوز النظر اليه وحفظ فرجها عن كل أحد إلا عن زوجها ، ونهاها أن تبدي زينتها لأي كان من الناس إلا عن الأخ والابن والأب وما يتفرع عن هؤلاء.

وعند جميع المسلمين لا يجوز النظر الى جسد المرأة وشعرها

__________________

(١) سورة النور ، من الآية ٣١.

ومحاسنها ، فما عليه الكثيرات من النساء يخالف التشريع الإسلامي ولا يتفق مع تعاليمه وآدابه ولا يقره الدين بحال من الأحوال ، ولا مصدر له إلا تدهور الأخلاق وتجاهل القيم الإنسانية والمبادئ الإسلامية العالية.

لقد أدرك الاستعمار بأن العقيدة الإسلامية ومبادئ الإسلام يشكلان خطرا على نفوذه وسيطرته. فيما لو قدر للمسلمين ان يطبقوا نصوص الإسلام وتعاليمه ، فاتجه هو ودعاته إلى محاربة العقيدة الإسلامية وتوجيه المسلمين توجيها يصرفهم عن واقع دينهم ، ليبقي له نفوذه وسلطانه ما يسهل له طرق الاستغلال والاستثمار والسيطرة عليهم. لقد نادى بحرية المرأة ونادى بها الإسلام من قبل ، ولكن الإسلام نادى بها في حدود الصون والكرامة والعزة وأعطاها حقها كاملا غير منقوص وأمدها بكل أسباب القوة التي تهيئها لأداء مهمتها في الحياة. ونادى بها أعداء الإسلام في حدود الأزياء والألوان والشواطئ التي تجمع الرجال والنساء عراة من كل شيء إلا من الشهوات الجامحة والنفوس المريضة ، وعلى كل حال فالنصوص القرآنية فرضت على المرأة أن تلتزم جانب الحشمة ولا تجعل من نفسها فريسة لذوي الشهوات والغرائز الشرهة وسلكت بها الطريق الذي لا جور فيه ولا عدوان عليها ، فنهتها عن إبداء زينتها الا ما ظهر منها. وقد جاء في تفسيرها ان المراد بما ظهر منها هو الوجه والكفان وإليه ذهب جماعة من علمائنا (١) ، وصرحت بذلك بعض الروايات الصحيحة كصحيحة مسعدة بن زياد ، قال : سمعت أبا جعفر (ع) وقد سئل عما تظهر المرأة من زينتها قال : الوجه والكفان ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى

__________________

(١) قال في الجواهر : لأنهما المراد مما ظهر منها كما اعترف به غير واحد.

جُيُوبِهِنَ) والخمار ثوب تغطي به المرأة رأسها وترسل الباقي منه على ظهرها (١) ، وقال جماعة من علماء الشيعة : يجب ستر الوجه والكفين عملا بإطلاق الآية ، فيكون المراد من المستثنى وهو ما ظهر منها الملابس والثياب الظاهرة. وفي بعض التفاسير أن المراد بما ظهر هو ما أظهرته الريح بدون قصد منها ، ومهما كان المراد فالحجاب مفروض في الإسلام ونص عليه الكتاب والسنة والقدر المتبقي منه ما عدا الوجه والكفين.

نظام الإرث في القرآن :

لقد وضع الإسلام للتوارث مبدءا عاما لا حيف فيه على أحد من أولياء الميت ، وعلى أساسه تعددت مراتب الوارث. قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال سبحانه : الأقربون أولى بالمعروف.

والمعروف عند العرب قبل الإسلام اختصاص الإرث بالذكور من أولاد الميت ، لأنهم الذين يحملون السيف ويقرون الضيف ، ولما جاء الإسلام ساوى بين الأولاد في أصل الإرث ذكورا كانوا أو اناثا. قال سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). وكما ساوى بينهما في كل ما شرعه الإسلام سوى ما تقتضيه طبيعة كل من الجنسين ساوى بينهما في أصل الميراث ولم يحرمها مما تركه أبواها ، غير انه جعل لها نصف ما للرجل من مال المورث ، ولا حيف عليها في هذا التفاوت ، لأن جميع ما يصل إليها من المال موفر عليها ، فلها في بيت أبيها عليه النفقة ، وإذا تزوجت كان لها على زوجها حق الإنفاق ، ومهما

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الرابع صفحة ١٣٨.

كان عندها من مال لا تكلف في الإنفاق منه ولا تتحمل شيئا من تكاليف الحياة وشؤون البيت ، أما الرجل فيبقى في رعاية أبويه وعالة على أبيه حتى إذا ما تزوج تحمل أعباء الزوجة ونفقات بيته وأسرته ، وعليه أن يقوم بنفقات أبويه أحيانا عند ما تدعوه الحاجة لذلك : فكل ما يدخل على المرأة من إرث وصداق وغيرهما تدخره لنفسها ، وليس عليها أن تنفق منه شيئا على أسرتها ما دامت تعيش مع زوجها. فالإسلام في هذا التشريع قد وفر لها أسباب الراحة وأعطاها من المال أكثر مما أعطى الرجل ووفر عليها كل ما فرضه لها من إرث وغيره.

لذلك كان نظام الإسلام في الإرث يحفظ للمرأة حقها ويتفق مع ما يعانيه الرجل من أعباء الأسرة وتكاليفها.

قال سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)(١) وهذه الآية تعرضت لنصيب البنت الواحدة وما يزيد عنها ، فإن كانت واحدة فلها من مال المورث النصف بالفرض ، فإذا لم يكن معها وارث آخر كان لها تمام المال عند الشيعة الإمامية ، وعند غيرهم يكون النصف الثاني للعصبة ، للأخوة أو الأعمام. وإن ترك الميت أكثر من بنت واحدة كان لهن الثلثان والثلث الباقي من المال يرد عليهن ايضا. وعند غير الشيعة يكون للإخوة أو الأعمام. وقد فرض القرآن للأبوين الثلث لكل واحد منهما السدس مع الولد للميت ومع عدمه ترث الأم الثلث والباقي للأب ، وإذا كان للميت اخوة كان نصيب الأم السدس والباقي للأب. قال سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا

__________________

(١) سورة النساء من الآية ١١.

السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(١).

كما فرض القرآن للزوج من زوجته النصف مع عدم الولد والربع مع وجوده والباقي الى الأقرب إليها ، وفرض لها الربع من ماله إذا لم يكن له ولد ، فإن كان له ولد فلها الثمن. وما بقي من المال يكون لأقاربها الأقرب فالأقرب. قال سبحانه : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ)(٢) وفي ميراث الكلالة وهم من يتقربون الى الميت بالأم كالإخوة والأخوات من الأم فللواحد منهم السدس فان زادوا عن الواحد فهم شركاء في الثلث بالغا عددهم ما بلغ. قال سبحانه : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ)(٣) ، وفي ميراث الأخوة ترث الأخت الواحدة من أخيها النصف وما زاد على الواحدة فلهن الثلثان وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين. قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(٤).

__________________

(١) سورة النساء من الآية ١١.

(٢) سورة النساء من الآية ١٢.

(٣) سورة النساء من الآية ١٢.

(٤) نفس السورة من الآية ١٧٦.

لقد اشتملت هذه الآيات وغيرها على الخطوط العامة لقواعد الإرث وأصول التوارث في الإسلام. ومع انها تستوعب جميع فروعه ومراتب الوارث ، ولكن بعد ان تبين أن الأقربية إلى المورث لا بدّ من مراعاتها في توزيع السهام ، وبعد بيان سهام الأولاد والأخوة والإباء والأمهات والبنات والأخوات ، يصبح من السهل التوصل لمعرفة نصيب الفروع لهذه العناوين ، هذا بالإضافة الى ما تضمنته السنة من الإيضاح والتفصيل لكثير من مسائل الإرث ومقادير السهام بالنسبة الى جميع مراتب الوارث.

أحكام العقود والمعاملات في القرآن :

لقد تعرضت بعض الآيات القرآنية الكريمة بصورة إجمالية لحكم العقود والمعاملات التي لا بد منها في تعامل الناس بعضهم مع بعض ، سواء كان التعامل بطريق البيع أو بغيره من العقود وبصورة خاصة تعرضت لحكم البيع وحالاته لكثرة تداوله واستعماله وحددت حلية الأموال التي تنتقل من شخص لآخر بالمعاملات الجارية بين الناس كالعقود والهبات. وجعلت الميزان العام لحلية الأموال هو التجارة عن تراض منهما ولم تستثن الآيات الكريمة من حلية الأموال المتداولة بين الناس إلا ما كان عن طريق الربا ، فقد أكد القرآن حرمته في عدد من آياته لأنه كان بيعا بنظرهم قبل التشريع. قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ، والعقد يشمل جميع أنواع المعاملات التي تعارف استعمالها بين الناس.

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ

__________________

(١) سورة المائدة الآية الأولى.

بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١) وقال سبحانه بالنسبة إلى الربا وحكمة : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢). وقد ورد ذكر الربا مكررا في الآيات الكريمة وامتثل بعضها على التهديد والوعيد على استعمال هذه التجارة وأكل المال المأخوذ بهذا العنوان.

وقد جعل القرآن للدين المؤجل حدودا وشروطا حتى لا يقع بين المتداينين ما يؤدي الى ضياع الحق والتنازع ويحفظ لكل منهما حقه. قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

العقوبات التي نص عليها القرآن :

وقد تحدث القرآن الكريم عن العقوبات الأخروية في كثير من سوره وآياته وتوعد المجرمين بأسوإ أنواع العقاب والعذاب ، أما العقوبات الدنيوية التي لا بد منها لحفظ النظام ومحاربة الفساد في الأرض فقد فرض قسما منها على بعض المخالفات كالقتل والقذف والزنا والسرقة والفساد في الأرض وحدد العقوبة على كل منها وبين نوعها ، وترك الأمر

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٩.

(٢) سورة البقرة آية ٢٧٥.

في غير هذه المخالفات الى السلطان وترك له ان يعمل بما توحيه اليه المصلحة لحمل الناس على الجادة القويمة والطريق الواضح.

وقد كان للعرب قبل الإسلام نظام خاص في مقام القصاص ، وفي الغالب تتحمل قبيلة الجاني مسؤولية الجناية إذا كان المجني عليه شريفا في قومه وعشيرته ، فينتج منها قتل العشرات والمئات ونهب الأموال وإباحة الأعراض. ولما جاء الإسلام أقر عقوبة القصاص ولكنه جعل المسؤولية فيها على الجاني وحده ولم يأخذ البريء بجرم السقيم ، وجعل لولي الدم سلطانا في ذلك على ان يستعمل حقه ان شاء مع غريمه. قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى)(١) وقيل في سبب نزولها ان حيين من العرب لأحدهما قوة على الآخر أقسموا ان يقتلوا الحر بالعبد والرجل بالمرأة والرجلين بالرجل الواحد ، فنزلت هذه الآية لتحد من كبريائهم وعنصريتهم ، وفي نفس الوقت تحفظ لأولياء المقتول حق المطالبة بدمه ، فالحر بمثله والعبد بمثله والأنثى بمثلها ، والتجاوز عن هذا المبدأ عدوان لا يقره الإسلام.

أما في قتل الخطأ وشبهه فالذي فرضه الإسلام هو الدية ، ولا قصاص فيه. وولي المقتول في قتل العمد إذا عفا عن الدم واختار الدية ، فعلى القاتل ان يدفعها اليه. وقد أقر الإسلام نظام الديات عند العرب فجعل على من قتل مؤمنا خطأ عتق عبد مؤمن ، ودية يسلمها إلى ورثة المقتول. أما إذا كان المقتول مؤمنا وأولياؤه على غير الإسلام ، فليس على القاتل إلا العتق ، لأن أولياءه لا يرثون منه شيئا. وقد نصت الاية الكريمة على ذلك. قال سبحانه : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٧٨.

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)(١).

والمقصود من ذلك ما أشرنا إليه من أن القاتل إذا لم يعلم ايمان المقتول ، بأن ظنه مشركا مهدور الدم كما هو الحال في قتل الخطأ وشبهه يأتي فيه التفصيل الذي ذكرناه (٢).

ومن الأحكام التي شرعها الإسلام ونص عليها القرآن عقوبة الزاني كما جاء في الآية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) الآية (٣).

كما فرض على من يرمون المحصنات بالزنى ان يثبتوا دعواهم بأربعة شهود ، فإن لم يثبتوا ذلك فعلى الحاكم أن يجلدهم ثمانين جلدة ، ولا يقبل لهم شهادة أبدا وعلى ذلك نصت الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(٤).

كما وأن هناك أنواعا من العقوبات والتأديب للعصاة فرضها القرآن قطعا لمادة الفساد. ولم يتعرض القرآن الكريم لبعض ما شرعه الإسلام اتكالا على الرسول الكريم (ص) الذي بين كل ما أوحي اليه ، وقد أوصى القرآن بالرجوع الى الرسول والأخذ عنه بقوله : (ما آتاكُمُ

__________________

(١) سورة النساء آية ٩٢.

(٢) كما في مجمع البيان عن ابن عباس وغيره.

(٣) سورة النور من الآية ٢.

(٤) سورة النور من الآية ٤.

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وفي آية أخرى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). فلم يبق بعد ذلك من فرق بين ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة

الفصل الثاني

في الوضع السياسي بعد وفاة الرسول

هذه لمحة عن آيات التشريع الإسلامي ، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. وليس بوسعنا ان نستقصي جميع ما شرعه الإسلام. ولكننا أردنا بذلك ان نلمح الى بعض الآيات الكريمة ، تمهيدا لما نحن بصدده من تاريخ التشريع الإسلامي ومدى مساهمة التشيع فيه.

والذي لا بد من الإشارة إليه هو ان التشريع قد انتهى بموت الرسول (ص) ولم يكن للمسلمين بعد وفاته ان يشرعوا من قبل أنفسهم. كما وانه لم يكن للاجتهاد مجال في عهد الرسول. ففي عاصمة الإسلام كان المسلمون يأخذون أحكامهم منه مباشرة ، وأما في خارجها فقد كان (ع) يرسل الصفوة من أصحابه لتعليم الأحكام ، والقضاء بين الناس فيما يختلفون فيه. ولقد وجه اهتمامه لتركيز دعوته وغرس مبادئ الإسلام في النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة ، معتمدا على

ايمانه وإخلاصه لتلك الدعوة مهما كلفته من متاعب وآلام ، لذلك فقد قاسى وتحمل من قومه ما لم يتحمله نبي من قبله ، وبعد ان تهيأ له من الأنصار والأعوان ما يكفيه لأن ينتقم بهم لنفسه وللمعذبين ، لم يفكر في ذلك ، لو لا ان الله سبحانه أمره بقتالهم ورد عدوانهم.

وفي جميع المراحل التي مر بها قبل هجرته وبعدها ، لم ينقطع عنه الوحي حتى في أيام حروبه مع المنافقين والمشركين ، الى ان أكمل الله دينه وبلغه الرسول (ص) للحاضر والغائب وكانت لله بذلك الحجة البالغة على خلقه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

ولم يرحل الى جوار ربه إلا بعد ان عبد لهم الطريق وسهل لهم السبيل ، فأقام عليا (ع) من بعده إماما وهاديا بأمر من الله رب العالمين ، حتى لا تكون أمورهم فوضى تتقاذفهم الأهواء والميول وأرشدهم القرآن اليه بقوله :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) حيث لم تكن هذه الصفات لغيره وهو وحده الذي تصدق في صلاته.

ومن إشارة النبي إليه بالخلافة ، منذ بعث نبيا ، حتى كانت حجة الوداع. وكان موقفه الذي لا يختلف فيه اثنان من المسلمين حينما خطب في ذلك الحشد الذي رافقه بعد أداء فريضة الحج ، مصرحا بخلافة علي ، بالأسلوب المتبع يومذاك ، الذي فهمه المسلمون ولم يترددوا في المقصود منه.

فمن جميع ذلك وتلميحاته وإشاراته ، التي لا يخلو منها موقف من مواقفه الكريمة ـ آمن الكثير بحق علي في الخلافة. وإذا أضفنا الى ذلك ما ورد على لسان الرسول في مدحه والثناء على شيعته ، وما كان يحيطه

به من عناية واشادة ببطولاته وخدماته في سبيل هذا الدين ، يتبين لنا ان فكرة التشيع التي برزت في عهد الرسول قد غذاها الرسول نفسه بالقول والعمل في كثير من المناسبات ، حتى احتلت مركزها الاسمي في نفوس الكثير منهم. وأصبحوا يرون عليا وأبناءه الطاهرين دعامة للحق وترجمانا للكتاب ، ومرجعا لهم في أمور الدين والدنيا. كما كان أكثرهم يراه صاحب الحق الشرعي في الخلافة ، حتى هو نفسه كان مطمئنا لحقه فيها.

ولما فوجئ بنبإ السقيفة استغرب ان يستغل جماعة من الصحابة انصرافه الى تجهيز الرسول ، بعد ان لحق بالرفيق الأعلى ، وأن يتنكروا لما سمعوه منه ولمسوه من حرصه على استخلافه من بعده.

فولاء أهل البيت والتشيع لهم ولد بعد مولد الإسلام بقليل ونما بنمو الإسلام وتركز في النفوس ، حتى أصبح عقيدة يوم كانت بيعة الغدير حيث استجاب الرسول (ص) لنداء ربه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وفي الآية إشارة الى ان قوما من ذوي الأطماع ، كانوا يعملون جهدهم لإقصاء علي عن حقه ويعارضون فكرة الخلافة ، وكان الرسول يعرفهم بأسمائهم ويتخوف خلافهم عليه وكيدهم للإسلام ، لو عقد له البيعة العامة في أيام الموسم لينتشر نبأها في أنحاء الجزيرة بين الملايين من المسلمين. ولما نزلت الآية لم ير بدا من موقفه الذي وقفه ، ليؤدي إلى الملإ الذي احتشد حوله رسالة السماء. وكما أشرنا فيما مضى ان أهل الأطماع تكتلوا لاقصائه عن حقه ، حتى كانت الفرصة المواتية ، وكانت السقيفة ، التي اجتمع فيها الأنصار حول زعيمهم سعد بن عبادة

الأنصاري ، للمطالبة بحقهم في الخلافة. وليس من البعيد أن تكون هذه الوثبة من الأنصار لاضعاف جانب المهاجرين بعد ان لمسوا منهم أنهم يعملون لاقصاء علي عن الخلافة.

ونتيجة لذلك كان الحزب الثالث الذي شكله الأنصار ، فكانت الحجة للمهاجرين على الأنصار ، ما جاء على لسان عمر بن الخطاب : من ذا ينازعنا سلطان محمد (ص) وامارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ، فكان لهذه الكلمات أثر بالغ في نفوس البعض من المسلمين. وبها استعان المهاجرون على انتزاع الخلافة من أيدي الأنصار ، ونادى بها من الأنصار بشير بن سعد ، بدافع الحسد لابن عمه سعد ، مرشح الأنصار الأول. ولكي يضعف جانبه انشق عن قومه ونادى : ألا ان محمدا أيها الناس ـ من قريش ، وان قومه أحق به وأولى ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا.

ولما أنكر عليه الحباب قوله متهما إياه بالحسد قال : لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله فيهم ، فكان لهذا الانقسام بين زعماء الأنصار أثره البالغ ، في أضعاف جبهتهم وقوة الجبهة الثانية ، التي تنادي بأحقية المهاجرين ، لأن قوم محمد اولى بميراثه. كما كانت هذه الحجة هي السلاح للمتحمسين من المهاجرين ، لمصلحة علي (ع). وقالوا ان الخلافة لو كانت بالقرابة كما يدعون ، لم يكن لهم فيها من نصيب ، لأن بني هاشم وعلى رأسهم علي (ع) أقرب الناس من الرسول وأولاهم بميراثه.

ولكن المهاجرين لم يجدوا سلاحا يقاومون به الأنصار ، الذين جاهدوا في سبيل هذه الدعوة المباركة ، إلا هذا النوع من التهويش

الذي أثر على بعض السذج والبسطاء من ضعاف النفوس.

أما العارفون وأصحاب البصائر النافذة النيرة من المهاجرين والأنصار ، حتى الذين تسلحوا بهذا المنطق أنفسهم ، يعلمون انه لا يمت للواقع بأية صلة ، لأن الإسلام ألغى جميع الامتيازات وجعل الميزان الوحيد هو العمل الطيب وخدمة الإسلام ، ولم تغب عن أذهانهم مواقف الرسول (ص) ونصوصه ، منذ أن بدأ دعوته حتى يومه الأخير ، ومع انه سلاح مفلول الحد فقد خدمهم في حينه ، واستطاعوا التهويش به وتضليل بعض الفئات من الناس.

أما شيعة علي (ع) فقد آثروا التريث بالأمر والاعتصام بالصبر ما دام صاحبهم الذي بايعوه بالأمس ـ منصرفا بكليته عن دنياهم ومشغولا حتى عن نفسه ، لمصابه الأليم بفقد الرسول الأعظم (ص).

ولما أودع الرسول في مقره وقف يطالب بحقه في الخلافة ومعه عدد ليس بالقليل من أعيانهم وذوي السابقة فيهم. ولم ير بدا من الاحتجاج عليهم بالحجة التي تغلبوا فيها على الأنصار فقال : «تركتم الثمرة وتعلقتم بالشجرة».

ولما لجأوا إلى الإجماع الذي أعدوه ـ نقض عليهم بتخلف جماعة من المسلمين عن السقيفة لا يجوز ان تحل عقدة أو تبرم اخرى بدون أن يكون لهم رأي فيها.

فحجة القرابة كانت لمصلحته والاجتماع لم تستكمل عناصره ليكون في جانبهم ، وأحاديث الرسول لا يزال صداها يرن في أعماق نفوسهم ، ولكن حسد قريش لهاشم ولعبد المطلب ، وريثه الأول في زعامته ، ولمحمد الذي حملهم على الإسلام ولعلي (ع) الذي سما على

هام الناس في علمه وشجاعته وخدماته في سبيل تثبيت دعائم الدين ، كل ذلك كان له أبلغ الأثر في وقوفهم هذا الموقف من استخلافه ، فاحتشدوا حول منافسة صفوفا متراصة ، حتى تم لهم الانتصار وانتزعوا الخلافة منه انتزاعا.

وكانت الجماعة المحيطة بعلي من صحابة الرسول ، من خيرة صحبه وأقربهم إلى نفسه وأحبهم إلى قلبه الكبير ـ كانوا أشرف المسلمين قلوبا وأرواحا وأولهم سابقة لدين الله ، كسلمان الفارسي وأبي ذر والبراء بن عازب وحذيفة اليماني وعبادة بن الصامت وأبي الهيثم ، وأمثالهم كثيرون لم يحضروا بيعة السقيفة ، ولو حضروها لما ألقوا قيادهم لشيخ تميم ، ولم يمسحوا بأكفهم على يده ، لأنهم كانوا يعلمون تمام العلم أي الناس أحق بهذا الأمر ، وأولى بأن تمسح أكفهم على يده ويلقوا زمامهم اليه طائعين. فاجتمعوا ومعهم الكثرة من المهاجرين والأنصار في جوف الليل يدبرون ويتشاورون. وانطلقوا من مكمنهم بعد ان انتهى بهم التفكير إلى إعادة الأمر للمهاجرين والأنصار ، ليختاروا من هو جدير بولاية أمر الأمة.

ولما تطاير نبأ هذا التذمر من هذا الحادث المفاجئ استجاب له الكثيرون ممن بايعوا لأبي بكر وأدركوا أن الإنصاف كان يحتم عليه التريث في الأمر ، حتى تتم مواراة جثمان الرسول (ص). وكان عليهم أن يلتزموا جانب التدبر والحكمة قبل الإقدام على ما أقدموا عليه ، وأن يستجيبوا لما يحيط بالإسلام من إخطار على يد عصابة المرتدين وأنصار الكذبة من المتنبئين ، لو وقع بينهم وبين الأنصار قتال على الخلافة. كل ذلك لم يفكروا فيه ولم يفكروا حتى بالرسول وجثمانه لا يزال في بيته. وقد نسي عمر بن الخطاب نفسه قبل ساعة ،

وهو كالمدهوش ، حينما سمع نبأ وفاة الرسول (ص) يقول : إن محمدا لم يمت وسيرجع ليقطع ايدي اناس وارجلهم ، وبقي ساعة يهدد بهذه الكلمات حتى تلا عليه بعض المسلمين : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ). كل ذلك لم يفكروا فيه ولم ينظروا الى الأحداث المنتظرة ممن دخلوا في الإسلام ، ولما يستحكم في نفوسهم ، لا سيما اذا استحكم الخلاف بين صحابة الرسول على الخلافة.

ولكن عليا (ع) الحريص على رسالة الاسلام ومقدساته ، يرى أن مصلحة الاسلام قبل كل شيء. وإذا كان يطالب بحقه الشرعي فذاك لكي يعمل على بعث الدين ونشر تعاليمه وتطبيق مبادئه وغرسها في النفوس ، والخلافة لا تساوي في حسابه شيئا اذا لم تؤد الى هذه الغاية.

ولقد قال لابن عمه عبد الله بن عباس ، وهو يخصف نعله : إن إمرتكم لأهون من هذه النعل إلا أن احق حقا وأبطل باطلا.

وبعد أن توالت الأحداث وانتشرت دعوة المرتدين والمتنبئين ، والدين جديد لم يكن له تلك القداسة عند الكثير من الاعراب وسكان البادية ، لا سيما وقد بلغهم ما حدث من نزاع على الخلافة في حاضرة الإسلام بين المهاجرين والأنصار والهاشميين ، مما أدى الى نشاط حركة الردة عند بعض القبائل العربية. لهذه الأخطار التي احدقت بالاسلام ، وهو لا يزال في فجره الأول ، آثر علي (ع) أن يتغاضى عن حقه ، ويعمل معهم صفا واحدا لدفع تلك الأخطار المخيفة ، بعد أن صارح القوم بما في نفسه بلا مواربة ولا اخفاء ، فقال مخاطبا لأبي بكر : لم يمنعنا عن بيعتك انا ننافسك على خير ساقه الله اليك ، ولكنا نرى ان هذا الأمر هو حقنا ، وقد استبددتم به علينا ، وقال في موقف آخر : أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب

من الرحى. لقد صارح أبا بكر بذلك ليكشف له وللملأ من حوله أنه إن طالب بحقه فذاك لمصلحة الاسلام وإن تغاضى فلمصلحة الاسلام ايضا وعليهم أن يتحملوا مسؤولية ذلك عند الله سبحانه.

لقد مضى معهم حيطة منه على الاسلام ، وانصرف عن دنيا الخلافة يشرح لهم غوامض الاسلام ويحل مشكلاته ويرسي قواعده في نفوسهم. وقد غاب بانيه بالأمس ، وأحكامه ومبادئه لم تزل بعيدة عن أذهان الكثير منهم. وبعد ان وجدوا فيه وهو سليل الهاشميين وتلميذ الرسول الأعظم مشعلا من ذلك النور وتراث الاسلام الروحي كاملا في شخصه الكريم ، التفوا حوله يضيء لهم انحاء حياتهم الروحية والمدنية ويحل لهم مشاكلهم كلما تشعبت او اصابها تعقيد والقى على التشريع الاسلامي وجميع مشاكل الحياة وأصول القضاء أضواء لامعة حتى قال فيه عمر بن الخطاب : «لا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن».

اختصاص اسم الشيعة بالموالين لعلي وبدء التشيع :

لقد سبق منا أن الرسول هو الذي بذر التشيع لعلي (ع) وكان حريصا على نمو تلك البذرة. ففي كثير من مواقفه ولمناسبات كثيرة كان يلمح تارة ويصرح اخرى بما لعلي من المكانة الرفيعة والمواقف التي ساعدت في بناء هذا الدين وتركيز دعائمه. ولم يزل على ذلك حتى لفظ نفسه الأخير ، وقد سمى أولياءه بالشيعة ووعدهم بحسن المصير يوم القيامة ، كما جاء في كثير من الأحاديث. ففي ربيع الأبرار (١) عن النبي (ص) أنه قال : «يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله وأخذت انت بحجزتي وأخذ ولدك بحجزتك وأخذ شيعة ولدك بحجزتهم ،

__________________

(١) للزمخشري.

فترى أين يؤمر؟» وقال ابن حجر (١) : «اخرج الطبراني عن علي (ع) ان خليلي رسول الله قال : يا علي إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه اعداؤك غضابى مقمحين» وجاء في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ان النبي قال لعلي (ع) هم أنت وشيعتك (٢) ، وبمضمون ذلك روايات كثيرة تتضمن مدح الشيعة والثناء عليهم نقلها اهل الحديث عن الرسول منذ قام يدعو الناس الى الاسلام.

ومن مجموع ذلك تبين أن تسمية الموالين لعلي وبنيه بالشيعة كان في أيام الرسول وورد على لسانه ، ولا شك بأن لأحاديث الرسول فيه وفي شيعته اثره البالغ في تعلق فئة كبيرة من المسلمين بعلي (ع) وإيمانها بحقه في الخلافة الاسلامية. ففي خطط الشام قال : عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول الله (ص) ، مثل سلمان الفارسي القائل : بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له ، ومثل أبي سعيد الخدري الذي قال : أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع قال : الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل له فما الواحدة؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب. قيل له وانها لمفروضة معهن؟ قال : نعم هي مفروضة معهن؟ ومثل أبي ذر وعمار بن ياسر وحذيفة اليماني وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي ايوب الأنصاري (٣) ، وقد أدرك هذه الحقيقة جماعة من الكتاب العرب وغيرهم من المستشرقين ، وأنكروا

__________________

(١) كما في الصواعق.

(٢) ذكره ابن حجر عن الحافظ جمال الدين الرواندي عن ابن عباس.

(٣) محمد كرد علي في خطط الشام.

على من قال بأن التشيع نشأ من تأثير مذاهب الفرس في الاسلام ، وانه لم يكن قبل الفتح الاسلامي. قال المستشرق فلهوزن في بحثه عن التشيع : ان حركة التشيع نشأت على تربة عربية خالصة ولم تنتشر بين غير الساميين الا بعد ظهور المختار.

وقال : (جولد تشيهر) فيما كتبه عن الشيعة ، في جملة فصوله من كتابه المترجم الى العربية : ان من الحقائق الأولية ان مسألة الخلافة قسمت المسلمين الى فرقتين : أهل السنة والشيعة. وكان لأهل البيت فريق يعترف سرا بحقوقهم حتى في عهد الخلفاء الثلاثة الأولين ، ولكن هذا الفريق لم يكن يجاهر بالخصام ، وبعد عصر هؤلاء الخلفاء صار يعارض كل من حكم من غير أبناء علي (١). لقد انتهى الكاتب في بحثه عن تاريخ التشيع الى حقيقة لا بد للباحث المجرد أن ينتهي اليها. ولو لا الخلافة الاسلامية لم يكن هذا الصراع بين المسلمين منذ اليوم الأول لوفاة الرسول حتى اليوم. وإن كنا لا نوافقه في رأيه بأن المؤمنين بحق علي لم يجاهروا بذلك. ان هؤلاء وقفوا الى جانب علي ، ولم يبايعوا احدا إلا بعد أن بايع علي (ع) ، حرصا منه على مصلحة الاسلام العليا. وكانوا يجاهرون برأيهم في كل مناسبة تدعو لذلك. ووقفوا من الخلفاء موقف الناقد لتصرفاتهم كلما لمسوا منهم ضعفا او استئثارا بحقوق الآخرين. وقد وقف ابوذر وعمار بن ياسر وغيرهما من زعماء الشيعة البارزين موقف المعارض لسياسة عثمان بن عفان وسيرته بعد أن نهج على غير الخطة التي رسمها الرسول لنفسه وللولاة من بعده ، ووقف الى جانبهم بعض الوجوه من صحابة الرسول ، واتسعت حركة المعارضة حتى شملت العواصم الاسلامية الكبرى. وأخيرا لقي

__________________

(١) العقيدة والشريعة في الاسلام.

مصيره الذي رسمه له الموجهون لسياسته على يد الثائرين من مختلف البلاد. فالتشيع في جميع أدواره لم يختلف فيما تعنيه هذه الكلمة ، وإنما الشيء الذي برز فيه هو الموقف السلبي الذي وقفه الشيعة من الدولتين الأموية والعباسية ، لخروجهما عن النهج الذي رسمه الإسلام للحاكم واستبدادهما بالأمة ومقدراتها ، وحملهم الناس على الخضوع والاعتراف لهم بالملكية المطلقة. ولو كانت سيرة أبي بكر وعمر كسيرة غيرهما من الأمويين والعباسيين لوقف الشيعة منهما عين الموقف الذي وقفوه مع الأمويين غير مهادنين ولا مسالمين ، مهما كانت النتيجة ، لأن الحكم عندهم وسيلة لإحقاق الحق وتطبيق العدالة والمساواة بين افراد الأمة وإن اختلفت العناصر وتباينت الألوان.

فما ذكره بعض الكتاب من أن المعنى المصطلح عليه في التشيع وهو الفرقة المتميزة بعقائدها وعاداتها الخاصة ، المعروفة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق وغير ذلك مما يقصدون من كلمة التشيع ، هذا المعنى للتشيع لم يكن له في عهد الامام عين ولا اثر ، وانما كان للإمام في عهده أنصار واتباع وكانت كثرة المسلمين كلها انصارا له واتباعا.

وينتهي الكاتب في بحثه عن التشيع في العصور المتأخرة عن عصر الامام (ع) الى ان فرقة التشيع بالمعنى المعروف نشأت وتكونت وأصبحت حزبا سياسيا منظما لعلي وبنيه بعد أن وقع الصلح بين الحسن (ع) ومعاوية على شروط ، لم يف له بشيء منها (١).

ولكن الباحث الخبير والمتتبع لسير الحوادث ، التي رافقت النزاع على

__________________

(١) الدكتور طه حسين في المجلد الثاني من كتابه الفتنة الكبرى ، علي وبنوه.

الخلافة وموقف رجال الشيعة من السقيفة ونتائجها ، لا بد وأن ينتهي الى ما ذكرناه من ان التشيع منذ يومه الأول لم يختلف عن بقية الأيام التي أعقبت مولده ، وهو في جميع أدواره بمعنى واحد. وإنما الذي حدث ان الشيعة ، بدأوا في عهد معاوية ، حينما سلك في سيرته وسياسته غير ما ألفوه في عهد من تقدم عليه ، ينظمون صفوفهم ويهاجمون الحكام لأنهم أمعنوا في الجور والظلم والعدوان ، باسم الخلافة الإسلامية وتحت شعارات الدين. لذا فقد أعلن ائمة الشيعة وشيعتهم موقفهم تجاه معاوية ومن جاء من بعده من ملوك الأسرة الأموية ، تمشيا مع المبدإ الذي رسمه الإسلام والقرآن ، ليسير على نهجه كل من يتولى أمر الأمة : وهذا لا يعني أن التشيع من عهد الرسول الى زمن معاوية يختلف عن معناه في عصر الأمويين وغيره من العصور.

نعم الشيء الذي برز في خلافة علي (ع) وبعدها هو انتشار التشيع واتساعه بشكل لم يعهد قبل ذلك لأسباب ، يمكن ان يكون أهمها جور معاوية واستئثاره بمقدرات الأمة بعد عدل علي (ع) وإيثاره لأضعف الناس على نفسه. لا سيما وان البقية الصالحة من صحابة الرسول كانت الى جانب علي (ع) في أيام خلافته ، وكانت تعرف له حقه في الخلافة وتعمل من أجل إشاعة ذلك وانتشاره بين المسلمين ، حتى ان عليا نفسه كان حريصا على إشاعة أحاديث استخلاف الرسول له بين صفوف المسلمين. وفي جملة من خطبة التي كان يلقيها في المسجد الأعظم أو غيره على الجماهير المحتشدة حوله ، كان يصرح بحقه في الخلافة منذ وفاة الرسول الأعظم (ص). وقد استنطق في بعض مواقفه جماعة من الصحابة الذين حضروا بيعة الغدير ليقولوا ما سمعوه من الرسول بشأن استخلافه ، فقام جماعة ، منهم البدري وغيره ، وألقوا على مسامع ذلك الحشد حديث الخلافة ، كما سمعوه من الرسول في

غدير خم وغيره من المواقف (١).

وقد حصل نتيجة لذلك ولجور الأمويين وطغيانهم ان اتسعت الجبهة التي تعارض الأمويين وكان لها صبغة التشيع في الغالب ، لأن زعماءها كانوا من الشيعة المؤمنين بحق أهل البيت ، والتف حولهم الناقمون على سياسة الأمويين. بعد التجربة المريرة التي مروا بها أيام معاوية وولده المستهتر بمقدسات الإسلام وكرامة الملايين من المسلمين. فمن الطبيعي اذن ان يرى المسلمون في ولاية أهل البيت امتدادا لولاية علي (ع) بعد ان ذاقوا الأمرين من معاوية وولاته.

ولو لا ان الحسن (ع) قد التزم جانب الحكمة والتريث ورفض جميع المحاولات التي قام بها الشيعة لإقناعه بإعلان العصيان والثورة على معاوية ، لوقعت سلسلة من المجازر في جميع البلاد الإسلامية ، بين الشيعة ومن التف حولهم من الناقمين ، لجور الأمويين من جهة ، وبين أنصار معاوية من جهة أخرى ، وكانت المؤتمرات تعقد في الكوفة وغيرها من مدن العراق للدعاية لأهل البيت ، والوفود بين آونة وأخرى تفد على الحسن والحسين لاعلامهما بتكتل مختلف الطبقات من الشعب ، والنقمة العارمة على معاوية وولاته. ونتيجة لتلك المؤتمرات التي كانت تعقد لهذه الغاية توسل أهل الكوفة بزعيمين من زعماء الشيعة وهما قيس بن سعد الأنصاري وسليمان بن صرد الخزاعي لاقناع الحسن (ع) بالرجوع عن مهادنة معاوية بعد ان تبين للعالم الإسلامي ان معاوية لم يف له بشيء مما عاهد الله عليه (٢). ومع أن هذين من خلص أعيان الشيعة وذوي المكانة بين المسلمين لم يستجب الحسن (ع)

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد.

لرأيهما ، وأمرهما بالصبر والتريث حقنا للدماء وحرصا على مصلحة الإسلام العليا.

كما وانه من الثابت ان البعض من الانتهازيين الذين كانوا يعلنون العصيان في الكوفة وغيرها من مدن العراق ، كانوا يستغلون صبغة التشيع لحركتهم الثورية ، لاستجلاب عطف الجماهير الشعبية والحصول على تأييدها لمقاومة الحكام الأمويين ، لأنهم كانوا أكثر الفرق في العراق ، وكانوا ينضمون الى كل ثائر في وجه الظلم والطغيان ، ولو لم يكن بواقعة يتشيع لعلي وبنيه. وليس أدل على ذلك من وقوفهم بجانب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، بعد أن سمى نفسه بناصر المؤمنين وتأييدهم له في ثورته على الأمويين (١).

كما وان ثورة الخراساني ، أبي مسلم ، قامت على سواعدهم ، لأنه ظهر فيها بمظهر الدعوة لأهل البيت والتظلم لما لحقهم من الأذى والقتل والتشريد ، متخذا هذا الشعار ستارا لنجاح دعوته.

ومهما يكن الحال فالتاريخ مليء بالشواهد على أن التشيع لا يختلف فيما تعنيه هذه الكلمة ، في جميع الأدوار والمراحل التي مر بها. فما ذكره بعض الكتاب من ان التشيع بمعناه المعروف عن أهل الفرق والذي أصبح مذهبا وعقيدة بالمعنى المعروف عند الفقهاء والمتكلمين ، هذا المعنى للتشيع قد حدث بعد عصر الإمام (ع) ، هذه الدعوى لا تؤيدها الوقائع التاريخية ، لأن المعروفين بالتشيع لعلي (ع) من أعيان الصحابة في عهد الرسول وبعد وفاته لا يختلفون عن غيرهم ممن تأخر عنهم في مفهوم التشيع بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء والمتكلمين في العصور المتأخرة عن عصر الرسول والصحابة.

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي للدكتور علي حسين الخرطبولي.

الفصل الثالث

في

أدوار التشريع وأصوله بعد وفاة الرسول (ص)

لقد بزغ فجر الإسلام والعالم أحوج من أي وقت مضى إلى نظام شامل لجميع نواحي الحياة يجمع الناس على الحق ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات ويوحد بينهم في عبادة إله واحد لا شريك له ولا نظير ، ويدعوهم الى العمل بجد وإخلاص لبناء مجتمع صالح تسوده العدالة ويسيطر فيه الخير والهدى على الشر والطغيان فجاء محمد (ص) بشريعته الخالدة البعيدة في أصولها عن الأوهام والخرافات ، والتي هي في فروعها اداة طبيعية لحل المشاكل وتذليل مشاكل الحياة في كل زمان ومكان. وطبيعي أن يتم التشريع على مراحل مختلفة وان يبلغ ما قدر له من نضج وكمال بعد انتقال الرسول الى الرفيق الأعلى.

والتشريع في مرحلته الأولى ، كان عماده القرآن والسنة على اختلافها من قول الرسول ، أو فعله وتقريره ونحوا من اثنين وعشرين عاما تكامل فيها التشريع بواسطة الوحي ، وبلغ الرسول بدوره كل ما أوحي إليه من تشريعات وخلافها بنفسه وبواسطة من كان يختارهم

للتبليغ خارج المدينة التي اتخذها المقر الرئيسي لدولته الفتية الناشئة ، وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب صورا عن التشريع الإسلامي كما نص عليه الكتاب والسنة ، وأوردنا نماذج من التشريعات التي وضع أصولها ومبادئها القرآن الكريم ، وأتمها الرسول (ص) بأقواله وأفعاله كما أوحى إليه من ربه. وبوفاته انتهت المرحلة الأولى من مراحل التشريع ، وانقطعت بوفاته اخبار السماء ، ولكنه خلف للبشرية تشريعا كاملا وافيا بحاجاتهم مهما طال الزمان وتطورت الحياة ، ولم يبق على المسلمين من بعده الا الرجوع الى الكتاب الكريم والسنة النبوية والتفريع والتطبيق واستلهامهما لإعطاء الحوادث المتجددة حكمها في كل زمان ومكان بالطرق المألوفة في مقام التفاهم.

المرحلة الثانية من مراحل التشريع :

هذه المرحلة تبتدئ بعد وفاة الرسول (ص) حيث انقطع الوحي بوفاته ، ولم يعد من سبيل الى المسلمين إلا الرجوع إلى نصوص القرآن وظواهره ، والى السنة المروية عن الرسول (ص) سواء منها ما كان في مقام التشريع ، وما ورد عنه في أحكام الحوادث ، وحل الخصومات ونحو ذلك. ومما لا شك فيه أن المهمة الملقاة على عاتق الصحابة في هذا الدور تتطلب جهدا منهم في تفريع الأحكام وتطبيق الأصول والقواعد العامة على الجزئيات والموارد المختلفة ، ذلك لأن أكثر آيات التشريع قد وضعت المبادئ العامة ، وتركت تفصيلها وبيان ماهيتها وكيفيتها الى الرسول (ص) ، وبعضها لم يكن صريحا في المراد بنحو يمتنع عن التأويل ولا يتسع لأكثر من معنى ، وما هو نص في مورده من آيات الكتاب الكريم ينحصر في موارد محدودة ، والسنة لم تكن مدونة في كتاب مستقل ، بل كانت في صدور الحفاظ المتفرقين ، وقد أكلت

حروب الردة جماعة منهم ، على ان السنة الصحيحة لم تتعرض لأحكام الجزئيات ما كان منها وما هو كائن ، لا سيما وقد انتشر الإسلام انتشارا عظيما سريعا في سنوات معدودات ، ونال المسلمون من الغنى في المال وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل ، بعد استيلائهم على بلاد الفرس والرومان ، تلك البلاد الغنية بحضاراتها وعلومها المتمدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر ، فواجه المسلمون بعد وفاة الرسول مسائل كثيرة ، ومشاكل في كل شأن من شؤون الحياة نتجت عن اتصال العرب بغيرهم وتطور الحياة في مختلف الميادين وكل هذه الحوادث تحتاج الى تشريعات لم يكونوا يحتاجون إليها من قبل ولم ترد نصوص في الكتاب والسنة تتعرض لأحكامها ، فنتج من كل ذلك أصلان من أصول التشريع وهما الإجماع والقياس. وأصبحت أصول التشريع أربعة بعد وفاة الرسول (ص) ، ويبدو ان الإجماع في المرحلة الأولى من مراحل تطوره كان قوامه اتفاق جماعة من الفقهاء على رأي واحد في المسألة الواحدة.

قال الدكتور محمد يوسف موسى : كان أبو بكر إذا سئل عن شيء أو جاءه خصم في قضية من القضايا نظر أولا إلى القرآن ، فإن وجد فيه حكم الواقعة المطلوب معرفة حكم الله فيها قضى به ، فان لم يجد ما يريد لجأ الى ما يعرفه من أحاديث الرسول فإن وجد طلبه قضى به ، فان لم يجد لا في الكتاب ولا في السنة لجأ إلى الصحابة ، فإن وجد عند أحدهم في ذلك شيئا عن الرسول قضى به. وحمد الله على ان في الأمة من يحفظ علم رسوله وان أعياه الأمر جمع من يرى من خيار الناس وأهل الرأي والعلم فاستشارهم ، ثم يقضي بما يجتمعون عليه.

وأضاف الى ذلك : ان عمر بن الخطاب بعد ان آلت اليه خلافة المسلمين ، إذا لم يجد ما يبغي في القرآن والحديث ، فإن لم يجد لأبي بكر

قضاء في المسألة ، أخذ بما يجمع عليه أهل العلم والرأي من الصحابة (١).

وقد تضاعفت الحاجة الى الخروج من تلك الأزمة التي أحس بها المسلمون بعد وفاة الرسول وهي فقرهم في المصادر التي تحل مشاكلهم وتؤمن لها الحلول الصحيحة عند ما أخذ الكثيرون من الصحابة ينزحون عن المدينة إلى تلك البلاد التي فتحها المسلمون ، وما نتج عن ذلك من شيوع الحديث والكذب فيه ، وتعمق المسلمين في دراسة القرآن والسنة ، فكان من الطبيعي أن تضعف الثقة ببعض المرويات عن الرسول (ص) وان يصح الحديث عند شخص ولا يصح عند غيره ، وان يصبح استفادة الحكم من الكتاب منوطا بالاجتهاد في الغالب ، ولذا كثر الاختلاف بين الصحابة في فهم آيات التشريع وفي الفتوى واعتماد كل منهم على أحاديث ينسبها الى الرسول مؤيدة لادعائه وعلى بعض الآيات القرآنية.

ومهما كان الحال فالإجماع قد وضع نواته الشيخان أبو بكر وعمر عند ما كانت الحوادث تعرض عليهما ولا يجدان لها حلا في الكتاب والسنة ، ويؤيد ذلك ما جاء في تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري : ان أبا بكر كان إذا لم يجد في الكتاب نصا ، ولا عند الناس سنة يجمع الناس ويستشيرهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.

وأضاف الى ذلك : كان الشيخان إذا استشارا جماعة في حكم فأشاروا فيه برأي تبعه الناس ، ولا يسوغ لأحد ان يخالفه ، وسمي

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة نظام المعاملات للدكتور محمد يوسف مرسي ص ٢٩ وانظر اعلام الموقعين لابن القيم ج ١ ص ٥١ و ٧٠.

إبداء الرأي بهذا الشكل إجماعا (١).

وجاء عن المبسوط للسرخسي : ان عمر كان يستشير الصحابة مع فقهه ، حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا عليا وادعوا لي زيدا. فكان يستشيرهما ثم يفصل بما اتفقا عليه.

وقال الشعبي : كانت القضية ترفع الى عمر بن الخطاب فربما تأمل في ذلك ويستشير أصحابه.

ورووا عن سعيد بن الحسيب ان عليا (ع) قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا ما لم ينزل فيه القرآن ، ولم تمض فيه منك سنة قال أجمعوا له العالمين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد (٢).

الى غير ذلك من الوثائق التي تنص على ان الصحابة كانوا يقدسون رأي الجماعة إذا اتفقوا على شيء واحد وكان ذلك منهم البذرة الأولى للإجماع الذي تتطور أخيرا وأصبح موضع جدل بين العلماء في بعض نواحيه كما سنعرض بعض الآراء فيه في الفصول الآتية :

وقد غالى بعض أنصار الإجماع فادعوا بأن الرسول (ص) هو الذي وضع لهم نواته ورووا عنه أنه قال : ما اجتمعت أمتي على ضلال ، ويد الله مع الجماعة ، وانه أمرهم بأن يجمعوا العالمين ويعملوا برأيهم فيما إذا عرضت عليهم مشكلة ولم يجدوا حكمها في الكتاب والسنة (٣).

كما استدلوا أيضا بالآية من سورة النساء : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ

__________________

(١) تاريخ التشريع للخضري ص ١١٤ و ١١٥.

(٢) انظر فجر الإسلام لأحمد أمين ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

(٣) كما جاء ذلك في مروية سعيد بن الحسيب عن علي (ع) التي أوردناها من قبل.

مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

وبالآية من سورة البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وبالآية من سورة آل عمران : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) الى غير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها أنصار هذا النوع من الإجماع (١).

القياس :

الأصل الرابع الذي التجأ إليه المسلمون بعد وفاة الرسول لحل مشاكلهم القياس ، وقد وجدوا فيه منفسا لهم في الخروج من تلك الأزمة التي أحاطت بهم نتيجة لكثرة الحوادث التي واجهتهم بعد ان اتصلوا بغيرهم من الأمم المتحضرة.

والقياس المصطلح عند العاملين به ، تسوية واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة ذلك الحكم (٢) ، ولعل عمر بن الخطاب كان من أكثر الصحابة عملا به وتحمسا له واوصى القضاة والولاة الذين كان يرسلهم الى مختلف الأقطار بالرجوع اليه والاعتماد عليه في القضاء والإفتاء ، فقد أمر شريح القاضي حينما أرسله إلى الكوفة ليقضي بين أهلها ان يجتهد

__________________

(١) انظر العدة للشيخ الطوسي ، والأحوال العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم ص ٢٥٧ وما بعدها حيث أورد مجموعة في أدلتهم عن سلم الوصول ورسالة الطوفي وغيرهما.

(٢) انظر مصادر التشريع فيما لا نص فيه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص ١٦.

برأيه في الحوادث التي لم يجد عليها نصا في الكتاب والسنة.

وكتب الى ابي موسى الأشعري أحد قاضته. القضاء فريضة محكمة أو سنة متبعة وأضاف الى ذلك : الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ، اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها الى الله وأشبهها بالحق (١).

وقد راج القياس بعد عصر الصحابة وتلقاه أكثر الفقهاء بالقبول ولا سيما بين فقهاء العراق وبخاصة الأحناف وعند ما بدأ العلماء في التدوين وتعليل الحوادث كان للقياس النصيب الوافر من الأدلة على جواز الرجوع إليه في استخراج الأحكام عند القياسيين ، فقد استدلوا على اعتباره بالكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وجاء في بعض أدلتهم ان الرسول نفسه كان يرجع الى القياس في كثير من الوقائع التي كانت تعرض عليه ولم يوح اليه بحكمها.

وبأنه حينما أرسل معاذ بن جبلة إلى اليمن ليقضي بين أهلها ، قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال : اقضي بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله ، فإن لم أجد اجتهد رأيي ولا آلو ، فضرب رسول الله صدره بيده وقال : الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله ، حيث أقرّه ودعا له على العمل بالرأي الشامل للقياس (٢).

وقد تحدثنا عن القياس والإجماع مفصلا وعن المراحل التي مرا بها

__________________

(١) انظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري ص ١٥١ ومصادر التشريع للشيخ عبد الوهاب ص ٢٨.

(٢) انظر مصادر التشريع ص ٢٧ وتاريخ التشريع للخضري.

منذ نشأتهما في فجر الإسلام إلى المرحلة الأخيرة من المراحل التي استقرأ عليها.

ومع ان الحاجة الملحة لمعرفة أحكام الحوادث المتجددة هي التي اضطرتهم الى الاعتماد على الإجماع والقياس واعتبارهما أصلين من أصول التشريع من حيث عدم توفر النصوص الكافية بأحكام الحوادث المتجددة على حد زعمهم ، مع كل ذلك فإنهم كما يتراءى من سيرتهم كانوا يتشددون في قبول المرويات عن الرسول (ص) ولا يقبلون الحديث الا بعد تحليف الراوي أو تقديم البينة.

وجاء في بعض المرويات ان عمر بن الخطاب كان يضرب المكثرين من الرواية بدرته ، وقيل لأبي هريرة لم أكثرت من الحديث ، أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ قال : لو كنت أحدث في زمن عمر بمثل ما أحدثكم ضربني بمخفقته (١).

وعن الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ : ان الصديق جمع الناس بعد وفاة الرسول (ص) لما رآهم يحدثون عنه فقال : انكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. وأضاف الى ذلك في الكتاب المذكور : ان قرضة بن كعب قال : لما سيرنا عمر بن الخطاب الى العراق مشى معنا وقال لنا : أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا مكرمة لنا قال : ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي في القرآن كدوي النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا الحديث وأقلوا من

__________________

(١) انظر تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص ١٠٨.

الرواية عن رسول الله وانا شريككم ، فلما قدم قرضة قالوا حدثنا : فقال لهم لقد نهانا عمر عن الحديث.

ولما حدث ابي بن كعب عن بناء بيت المقدس انتهره عمر بن الخطاب وهم يضربه ، فاستشهد ابي بن كعب بجماعة من الأنصار ، ولما شهدوا بأنهم سمعوا الحديث من رسول الله (ص) تركه ، فقال له ابي ا تتهمني على حديث رسول الله قال : يا أبا المنذر ، والله ما اتهمتك عليه ، ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله (ص) ظاهرا (١). الى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد انهم مع حاجتهم الملحة الى حديث الرسول (ص) كانوا يتشددن في قبول الرواية ، وينهون عن التحدث بسنته ، ويبدو أن الخليفة الثاني كان من أشدهم تحمسا واندفاعا لمنع الصحابة من إظهار الحديث ، ويؤيد ذلك قوله لأبي بن كعب : كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله (ص) ظاهرا.

ولكن الذين قاموا بهذه المحاولة من الصحابة قد تذرعوا بالسببين التاليين :

١ ـ مخافة الكذب على الرسول (ص) كما يظهر ذلك من بعض النصوص.

٢ ـ التخوف من اتجاه المسلمين نحو الحديث وهجر القرآن كما جاء في حديث عمر بن الخطاب مع قرضة الأنصاري. وقال محمد عجاج الخطيب في كتابه السنة قبل التدوين : وقد كان تشدد عمر بن الخطاب

__________________

(١) انظر السنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب ص ٩٧ و ١١٥ ، وتاريخ التشريع للخضري ص ١٠٨.

للمحافظة على القرآن بجانب المحافظة على السنة ، فقد خشي ان يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم ، وأراد ان يحفظ المسلمون القرآن جيدا ثم يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دون كله في عهد الرسول (١).

ومهما كان الحال فالذي تؤيده النصوص التاريخية أن الخليفة الثاني هو الذي حمل لواء التشدد في الرواية والتضييق على السنة ومعاقبة المكثرين من المحدثين ، وأنه كان يحاول صرف الانظار عنها بدليل قوله لأبي بن كعب : كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله (ص) ظاهرا ، هذا القول يبعث على التساؤل ويثير الشكوك حول هذه المحاولة لا سيما والمسلمون بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول ، وبعد ان تضاعفت حاجتهم الى النصوص الشرعية بسبب الحوادث المتجددة والتبدل الذي طرأ على حياتهم قد أصبحوا في أمس الحاجة الى سنته وسيرته لاستلهام الحلول لمشاكلهم من أي وقت مضى وليس من المستبعد ان تكون المصلحة السياسية هي التي فرضت عليهم التشدد في الرواية والتضييق على الرواة ، مخافة ان ينتشر بين المسلمين ما حدث به النبي (ص) في فضل اخصامهم السياسيين الذين ابعدوا بالأمس القريب عن الخلافة بحجة ان الرسول (ص) لم يوص بها لأحد من الناس ، وترك أمرها إلى الأمة لتختار لنفسها من تراه صالحا لهذه المهمة.

ومجمل القول لقد كان من نتائج الموقف الذي وقفه الصحابة بعد الرسول من الاعتماد على اجتهاداتهم والتشدد في الحديث ، ان وقع اختلاف بينهم في كثير من الأحكام ، وعلى سبيل المثال نذكر موردا من

__________________

(١) انظر ص ٩٦ من الكتاب المذكور.

تلك الموارد التي كانت محلا للخلاف بين ائمة التشريع من الصحابة.

لقد افتى علي (ع) بأن الحامل المتوفى عنها زوجها عليها ان تعتد بأبعد الأجلين ، بمعنى انها إذا ولدت قبل ان تمضي على وفاته أربعة أشهر وعشرا عليها ان تنتظر الى تمام هذه المدة ، وان انتهت المدة المذكورة قبل ان تضع حملها تمتد عدتها الى وضع الحمل ، ويمكن ان يكون هذا الحكم منه (ع) مستمدا من الآيتين الواردتين لبيان حكم الحامل إذا طلقها الزوج أو توفي عنها.

قال سبحانه في سورة الطلاق : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وقال في الآية ٢٣٤ في سورة البقرة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

فهاتان الآيتان تتعارضان في الحامل المتوفى عنها زوجها إذا أولدته قبل مضي أربعة أشهر وعشر ، فالآية الأولى تقضي بانتهاء عدتها بوضع الحمل كما تقضي الثانية بعدم انتهاء عدتها الا بعد مضي أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة ، ومقتضى القواعد المقررة في مباحث الأصول للجمع بين الأدلة المتعارضة ، هو الأخذ بما افتى به علي (ع).

وقد افتى عمر بن الخطاب : بأن عدتها تنتهي بوضع الحمل ، واعتمد في ذلك على ما روي من أمر سبيقة بنت الحارث الاسلمية. فإنها بعد ان أولدت لخمسة وعشرين يوما من وفاة زوجها أفتاها النبي (ص) بانقضاء عدتها وقال الشيخ الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي : ان عليا (ع) في فتواه قد عمل بالآيتين جميعا (١).

__________________

(١) انظر تاريخ التشريع للخضري ص ١١٩ ولا يخفى ان حكم علي (ع) في هذه المسألة يستلزم التصرف في آية وأولات الأحمال وليس عملا بالآيتين كما يدعي

ومن أمثلة الخلاف بين الصحابة ، ما جاء في بعض المرويات ان رجلا تزوج من امرأة ولم يفرض لها صداقا ومات قبل ان يدخل بها ، فأفتاهم عبد الله ابن مسعود بأن لها صداق أمثالها من النساء ، وكان ابن مسعود متخوفا من هذا القضاء ، ولما حدثه معقل بن سنان الأشجعي أحد الصحابة ان رسول الله قضى بمثل ذلك ارتاحت نفسه ، ولكن عليا (ع) قد خالفه في ذلك وأفتاهم بأن عليها ان تعتد وترث من ماله ولا صداق لها (١) الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي أوردها المؤلفون في تاريخ التشريع وتدوين السنة ، ويبدو من تلك الأمثلة ان عليا (ع) كان طرفا في أكثر الخلافات التي كانت تحدث بين الصحابة في تشريع الأحكام بعد وفاة الرسول (ص) ، وأن أحكامهم لا تنسجم مع النصوص القرآنية ، ولا مع المبادئ العامة للتشريع ، ولا بد لهم من الوقوع في هذه الفوضى بعد ان تشددوا في قبول الأحاديث ، وفتحوا باب الاجتهاد والعمل بالرأي ، وقاسوا الأشياء بالأشياء والنظائر بمثلها.

فأعطوا الأمور المشتركة في العلة المستنبطة أو في المصلحة حكما واحدا ، ونتيجة ذلك ان الشارع قد ساوى في الأحكام بين المتماثلات ، وخالف بينها في غير مورد التماثل والتشابه ، مع العلم بأنه قد فرق بين المتماثلات أحيانا في الحكم ، وساوى بين المختلفات في بعض الأحيان (٢) ولذا فإن جماعة من فقهاء الصدر الأول كانوا ينهون عن

__________________

الخضري والمسوغ لهذا التصرف هو قوة الظهور الموجود في الآية رقم ٢٣٤ من سورة البقرة.

(١) المصدر السابق ص ١١٧.

(٢) وقد مثل الفقهاء لاختلاف الحكم في الأمور المتماثلة بقطع يد السارق للمال

القياس ، لأنه يؤدي أحيانا إلى تحريم الحلال ، وتحليل الحرام.

وكان الشعبي يقول للعاملين بالقياس : انما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس (١).

وكذلك الحال بالنسبة إلى الإجماع الذي نسبه الخضري وغيره إلى الصحابة ، فإن الإجماع بهذا المعنى لا يمنع من الخلاف في المسألة الواحدة ، ولا من الإجماع المعارض له ، لأنه كما يدعون يحصل من اتفاق جماعة من الصحابة على رأي واحد ، ولا يشترط فيه اتفاق الصحابة كلهم على ذلك الرأي كما قدمنا.

ولو ان الحكام بعد الرسول تركوا أمر التشريع الى علي (ع) واكتفوا بالخلافة ، وانصرفوا إلى إدارة شؤون الأمة ، لأغناهم ذلك عما وقع المسلمون فيه من الاختلاف في الحديث والأحكام ، ولما احتاجوا الى القياس الذي يؤدي أحيانا إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام ، كما نص على ذلك ابن مسعود والشعبي وغيرهما ، ولا إلى الإجماع الذي يحصل من اتفاق جماعة مهما قل عددهم ، ولكن على ما يبدو انهم كانوا يحاولون ان لا يبرز علي (ع) والصفوة من اتباعه على غيرهم من المسلمين في التشريع بعد الرسول (ص) ، كما برز هو وشيعته في تدعيم دعوة الرسول وتثبيت أركانها ، ولكن عليا (ع) رأى من واجبه بعد أن انصرف عن الشؤون السياسية وقام أبو بكر وغيره بأمر الخلافة ، ان

__________________

القليل ، وعدم ثبوته بالنسبة لغاصب المال الكثير ، ولتساوي الحكم في الأمور المختلفة بإيجاب الكفارة على من قتل إنسانا وعلى من أفطر في رمضان متعمدا ، أو ظاهر زوجته. ومقتضى القياس التساوي في الأول وعدمه في الثاني.

(١) انظار إبطال القياس لابن حزم ص ٧٠ وما بعدها وتاريخ الفقه الإسلامي ص ٢٤٦.

يتجه الى نشر رسالة الإسلام وتعليم الأحكام والإفتاء بين الناس ، فالتف حوله المسلمون يأخذون عنه دينهم وتعاليم كتابهم ، حتى ان الخليفة نفسه لم ير بدا من الإشادة بعلمه وقضائه ، فقال فيه كلماته المأثورة :

«لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر» ، «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» ، «لو لا علي لهلك عمر».

ولم ينس أحد من المسلمين قول النبي فيه : (أقضاكم علي) ولا دعاءه له حينما بعثه على قضاء اليمن : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه.

وحينما نزلت الآية الكريمة : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) بأن تكون اذن علي (ع).

أجل انهم جميعا يعلمون ذلك ويؤمنون بأن هذه الدعوات المباركات خير ضامن لعلي (ع) بما يند عن شفتيه من آراء وأحكام وقضاء بين الناس ، حتى ان عليا نفسه قد زودته الدعوات ثقة في حكمه وقضائه فقال بعدها :

«ما شككت في قضاء بين اثنين».

وإذا تجاهل بعض المسلمين أحاديث الوصية والخلافة لمصالح سياسية فليس بوسعهم ان يتجاهلوا قول الرسول فيه : انا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ، ولا بوسعهم ان ينكروا مكانته من الرسول وعلمه الغزير الواسع وصدقه في كل ما يحدث به عن نفسه ، وهو القائل علمني رسول الله الف باب من العلم ينفتح لي في كل باب الف باب.

ليس في وسعهم ان يترددوا في شيء من ذلك بعد ان عرفوا صلته

بالرسول وإيثاره له على جميع المسلمين ، وإحاطته بجميع أحكام الإسلام وأسرار الكتاب ، لذلك كان مما لا بد وان يرجعوا اليه وينظروا الى آرائه بعين الاعتبار ، ولا بد له من ان يستغل الظروف المناسبة لتفقيه الناس وتعليم الأحكام ونشر رسالة الإسلام ، وتدوين الحديث والفقه فأول ما قام به ان جمع القرآن الكريم وفسر غوامضه وبين مجملاته وأوضح المتشابه منه. وكان في أيام الرسول يكتب في الألواح والرقاع ، بواسطة كتاب الوحي ، ولم يكن على عهده قد جمع في كتاب واحد.

قال ابن شهرآشوب (١) : «أول من صنف في الإسلام أمير المؤمنين علي (ع) ، جمع كتاب الله جل جلاله».

وقال ابن النديم : «ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ونقل عن ابن المنادي انه قال : حدثني الحسن بن العباس عن عبد الرحمن بن ابي حماد عن الحكم بن ظهير السدوسي عن عبد خير عن علي (ع) انه رأى من الناس طيرة بعد وفاة النبي (ص) فأقسم ان لا يضع على ظهره رداءه ، حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام ، حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه وكان عند أهل جعفر» (٢).

وفي المجلد الأول من أعيان الشيعة (٣) عن السيوطي في الإتقان ، قال ابن حجر : «وقد ورد عن علي (ع) انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقيب موت النبي (ص) ، أخرجه أبو داود. وقال محمد بن

__________________

(١) المجلد الأول من أعيان الشيعة للعلامة الأمين.

(٢) الفهرست لابن النديم.

(٣) للعلامة الأمين.

سيرين : لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم. وفي مناقب شهرآشوب قال : وفي اخبار أهل البيت عليهم‌السلام انه آلى ان لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة. وفي أعيان الشيعة عن الشيرازي إمام أهل السنة في الحديث والتفسير ، وأبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عباس في قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ).

قال : ضمّن الله محمدا ان يجمع القرآن بعد رسول الله علي بن أبي طالب ، فجمع الله القرآن في قلب علي ، وجمعه علي بعد موت الرسول بستة أشهر. ثم قال : وفي اخبار أبي رافع ان النبي (ص) قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي (ع) : يا علي ، هذا كتاب الله ، خذه إليك. فجمعه علي في ثوب إلى منزله فلما قبض النبي (ص) جلس علي (ع) فألفه كما أنزل الله ، وكان به عالما.

وقال العلامة شرف الدين : ان عليا جمع القرآن مرتبا على حسب النزول ، وأشار الى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وسننه وآدابه ، ونبّه على أسباب النزول في آياته البينات. املى ستين نوعا من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكل نوع مثالا يخصه (١). وفي أعيان الشيعة ان عليا نوع القرآن الى ستين نوعا. ثم ذكر تلك الأنواع وأمثلتها من كتاب الله كما وردت عن علي (ع).

ثم قال : وحينما سئل (ع) عن الناسخ والمنسوخ قال : ان الله سبحانه بعث رسوله بالرأفة والرحمة ، فكان من رأفته ورحمته انه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عاداتهم ، حتى استحكم الإسلام في قلوبهم

__________________

(١) المراجعات للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

وحلت الشريعة في صدورهم ، وكانت شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت وأقيم بأودها حتى يأتيها الموت. وإذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم وشتموه وآذوه وعيّروه ، ولم يكونوا يعرفون غير هذا.

قال الله سبحانه : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ، وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

فلما كثر المسلمون وقوي الإسلام واستوحشوا أمور الجاهلية أنزل الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ). فكانت هذه الآية ناسخة لآية الحبس والأذى. وقد اشتمل الحديث على موارد النسخ في القرآن الكريم ، كما اشتمل على كل واحد من الأنواع الستين (١).

وفي أحاديث أهل البيت الكثيرة ما يؤكد ان أول من جمع القرآن مرتبا حسب نزوله علي (ع). وفي بعضها انه قد فسر آياته وأوضح مشكلاته.

وقد روى جماعة من محدثي أهل السنة انه أول من جمع القرآن بعد وفاة الرسول ، كما ذكر جماعة من محدثي أهل السنة ان الذي تولى جمعه بعد وفاة الرسول زيد بن ثابت. قال الشيخ محمد الخضري : ان عمر بن الخطاب أشار على ابي بكر بجمع القرآن مخافة ضياعه ، لأن

__________________

(١) الأعيان للعلامة الأمين ، وفيها ان الحديث بتمامه موجود في الجزء التاسع عشر من البحار للمجلسي.

حفاظ القرآن من المهاجرين والأنصار قتل منهم جماعة في حرب اليمامة ، ويوشك أن تأتي الحروب على البقية الباقية.

فأشار أبو بكر على زيد بن ثابت بجمع القرآن ، فشق عليه ذلك ، وأخيرا جمعه في صحف وربط بعضها الى بعض ، وبقيت هذه الصحف عند حفصة بنت عمر. ولما انتشر الحفاظ والقراء في الأمصار ، يقرئون الناس القرآن ، وبينهم شيء من الاختلاف في بعض أحرف القرآن ، تبعا لاختلاف لغاتهم ، قدم حذيفة اليمان على الخليفة عثمان ، وكان مع الجيش الذي تولى غزو ارمينية وأذربيجان ، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة ، فقال لعثمان : أدرك الأمة ، قبل ان يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة ان ارسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف الى حفصة ، وأرسل الى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف ان يحرق. وكان ذلك سنة خمس وعشرين للهجرة (١).

ومن هذه الرواية يظهر ان العمل الذي قام به زيد بأمر أبي بكر وعمر ، على تقدير وقوعه ، هو جمع الألواح التي كتب عليها القرآن في

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ، من رواية البخاري عن أنس بن مالك.

أوقات نزوله على الرسول ، لأنهما تخوفا ضياعها وذهاب حفاظ القرآن ، بسبب الغزوات والحروب. أما كتابته في مصحف واحد ، فرواية البخاري تنص على انها لم تكن قبل خمس وعشرين من الهجرة بإشارة حذيفة ، بعد ان رأى ان اختلاف القراء في القراءة ربما يؤدي الى اختلاف المسلمين في كتابهم ، كما اختلف اليهود والنصارى في كتبهم ، فكان من نتيجة ما أشار به حذيفة أن انتخب عثمان أربعة ، فكتبوه حسب اجتهادهم وبلغة قريش ، وأحرق جميع الصحف التي كتبت عليها آيات القرآن في عهد الرسول وبعده. وهذا يدل على مخالفة ما كتبه هؤلاء الأربعة للصحف التي كانت بين أيدي المسلمين. ولو لا ذلك لم يكن لاحراقها أي فائدة.

ولا بد لنا من الوقوف ، ولو قليلا مع هذا الحديث ، للتنبيه على ان الخليفة لم يكن موفقا في هذا التدبير ، مع العلم بأن الحديث موثوق بصحته عند المحدثين من أهل السنة. لقد أوكل عثمان بن عفان تدوين القرآن ونقله من الصحف التي جمعها زيد بن ثابت ، بأمر من أبي بكر إلى أربعة من المسلمين ، منهم : زيد بن ثابت ، والثلاثة الباقون من فتيان المسلمين ، الذين لم يكونوا في عصر نزوله وبعده من ذوي المؤهلات ، التي تؤهلهم لتحمل هذه المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم. وفي المسلمين من أعيان الصحابة الذين رافقوا نزوله منذ اليوم الأول ، وفيهم علي بن ابي طالب (ع) وعمار بن ياسر وأبو ذر ، وغيرهم من القراء وحفظة القرآن ، العارفين بأسراره وأسباب نزوله.

ومع انه كلفهم بنقله من الصحف التي جمعها زيد بن ثابت ووضعها الشيخان عند السيدة حفصة ، فقد أمرهم أن يكتبوه بلغة قريش ، إذا اختلف الثلاثة مع زيد بن ثابت ، في اللغة التي نزل بها.

مع ان زيدا المذكور قد اعتمده الشيخان لجمع الصحف التي كتبت عليها آيات القرآن عند ما كان الوحي ينزل به على الرسول بين حين وآخر. والذي في الرواية ، ان الخليفة لم يكلفهم بأكثر من نقله من الصحف التي كانت عند السيدة حفصة ، كما جاء في رواية البخاري ، الى المصاحف ، فالمفروض في مثل ذلك ان ينقلوه الى الصحف ، باللغة التي كتبت فيها تلك الصحف أيام الرسول (ص). وطبيعي أن تكون قد قرئت عليه أي على الرسول كما كتبت ، فليس لعثمان ولغيره حق الاختيار لأي لغة من اللغات في مثل هذه الحالة.

على ان اختياره للغة قريش دون سواها ، رجوع الى الروح القبلية التي حاربها الإسلام والقرآن منذ فجرها الأول ، حتى الأيام الأخيرة من حياة الرسول. وليس في القرآن ما يشير إلى أنه نزل بلدة قبيلة دون اخرى. وانما الشيء الثابت انه نزل بلغة العرب كما تنص على ذلك الآية الكريمة : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا). وجاء عن الرسول من طريق أهل السنة أنه نزل على سبعة أحرف. وقد فسرت الأحرف السبعة بلغات العرب ، ولازم ذلك انه نزل بلغة جميع العرب. وقد ذهب الى ذلك كثير من المحققين ، ومنهم الشيخ الطبرسي في مقدمة تفسيره الكبير (١).

وقيل في تفسير الحديث ان المراد فيها سبعة أوجه من القراءات. أما عند الإمامية فإنه نزل بحرف واحد (٢). وفي «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» نقل بعض الروايات عن الباقر والصادق تؤيد ما ذهب إليه الشيعة ، منها ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله الصادق

__________________

(١) مقدمة مجمع البيان طبع صيدا بقلم الشيخ احمد رضا.

(٢) نفس المصدر.

(ع) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة أحرف فقال : كذبوا! انه نزل على حرف واحد من عند الواحد (١).

ومهما كان الحال فقد أجمع الشيعة على جواز القراءة بكل ما هو متداول بين القراء ، وان القرآن المتداول بين المسلمين هو المنزل من عند الله ، بلا زيادة أو نقصان ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما تنص على ذلك كتبهم وكلمات علمائهم وأحاديث أئمتهم الصحيحة.

على ان أمر الخليفة بإحراق ما كان بين أيدي المسلمين من المصاحف ، كما جاء في رواية البخاري ، لا يتفق مع ما هو المجمع عليه بين المسلمين. ودلت عليه حتى نصوص القرآن وأحاديث الرسول ، من وجوب تعظيمه وتقديسة ، وحفظه من كل ما هو مشين بنظر الناس ، ولا شك ان إحراقه يتنافى مع تعظيمه على ان تلك المصاحف التي أمر بإحراقها ، كانت على عهد الرسول والشيخين ابي بكر وعمر مدة حياتهما ، وهما أحوط للدين وللإسلام من هذا الشيخ الذي انحرف عن سيرتهما في كثير من تصرفاته.

ولو فرض وجود اختلاف بين ما كتبه الأربعة الذين اختارهم الخليفة لجمع القرآن وكتابته ، وبين ما كان بين أيدي المسلمين قبل أن يقوم الخليفة بهذا العمل ، كما يمكن ان يكون ذلك من أحد الأسباب عند الخليفة وعند المؤيدين لهذا التصرف ، لكان على المسلمين ان ينكروا عليه هذا التصرف ، كما أنكروا عليه الكثير من تصرفاته ، لأن الصحف الأولى التي أحرقت بأمره ، قد جمعها زيد بن ثابت ، كما كتبت أيام الرسول ، وتداولها المسلمون في عهده فترة طويلة من حياته وأقرهم

__________________

(١) آلاء الرحمن في تفسير القرآن للمرحوم الشيخ جواد البلاغي (ص ٣١).

عليها ، ولو لا انها هي المنزلة من عند الله ، لا يمكن ان يسكت عنها النبي (ص) لحظة واحدة. مع العلم بأن القرآن الذي كتبه الأربعة المختارون ، لو كان مخالفا للصحف الأولى لارتفعت الأصوات في وجه عثمان ، ولكانت كتب الحديث والتفسير ، قد ذكرت موارد الاختلاف بينهما ، ولم تنقل الآثار شيئا من ذلك ، فلا بد وان يكون هذا التصرف منه لينتشر قرآنه بين الناس ويضطرهم إلى القراءة به. وفي نفس الوقت لا يبقى مجال لانتشار غيره مما جمعه المسلمون ، لا سيما الذي كتبه علي (ع) بخط يده كما انزل ، وشرح فيه بعض الآيات كما جاء تفسيرها عن الرسول (ص) وأسباب نزولها.

ومهما كان الحال ، فالحديث من الصحاح ، بنظر المحدثين من أهل السنة ، ومروي في كتبهم المعتبرة. والتاريخ يؤكد قيام الخليفة بهذا العمل. وقد نصت الأحاديث المروية من طريق أهل السنة ان القرآن لم يدون في مصحف واحد قبل سنة خمس وعشرين من هجرة النبي (ص) الى المدينة.

والثابت من طريق أهل البيت وشيعتهم ، وبعض المحدثين من أهل السنة ، ان عليا (ع) قد جمع القرآن في كتاب واحد بخط يده ، قبل هذا التاريخ بما يزيد عن خمسة عشر عاما ، وذلك بعد فراغه من دفن الرسول ، وانصرافه عن شؤون الخلافة.

ولا بد ان يكون (ع) قد جمعه ورتب آياته وسوره ، كما أنزله الله على رسوله ، لأنه نزل في بيته وعلى أستاذه الأعظم ومربيه ، ومن لقنه أنواع العلوم وفنونها. لقد ذكرنا في أول هذا الفصل نقلا عن المصادر الموثوق بها عند المحدثين من أهل السنة ، ان الصحابة بعد موت الرسول كان كل همهم ، كما يزعمون ، جمع الصحف والألواح التي

كتبت عليها آيات القرآن في عهد الرسول. وأخذ ما لم يجدوه في الألواح من صدور الحفاظ. ولقد قال زيد ابن ثابت المكلف بهذه المهمة من قبل ابي بكر : لقد تتبعت القرآن أجمعه من العسب واللحاف وصدور الرجال ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره (١). ومن المعلوم ان الكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان للأحكام ولجميع المبادئ التي بني عليها الإسلام. وكل ما صدر منهم انهم اهتموا بجمع القرآن خوفا من ضياعه. أما بالنسبة إلى السنة ، فمع انها ليست بأقل أثر في التشريع من القرآن الكريم ولولاها لم يتم التشريع ولم تظهر معالمه ، فلم يقوموا بأي عمل إيجابي يحفظها من التلاعب والدس والكذب ، كما حدث من بعض المأجورين في عهد الصحابة والتابعين ، وكان الأحرى بهم ، وقد ظهروا بمظهر الحريص على القرآن من الضياع والتلاعب ، وجمعوا الألواح والصحف ، التي كتبت عليها آياته ان يقوموا بمثل هذا العمل بالنسبة إلى السنة الكريمة ، فيجمعوا آثار الرسول وحديثه ، لسدّ الباب في وجه المرجفين والمأجورين ، لا سيما وهم يعلمون ان القرآن لم يف بجميع مراحل التشريع ، وأنه وضع المبادئ العامة وترك تفصيلها واجزاءها وشرائطها إلى الرسول الأعظم (ص). ويعلمون أيضا أن لقوله من القداسة ما للقرآن ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وان ضياع حديثه أو التلاعب فيه يحدث أثرا سيئا في تشريع الأحكام وفهم نصوص القرآن.

يعرفون كل ذلك ولا يجهلون منه شيئا ، وبدلا من أن يقوموا بدافع من الدين ، الذي ظهروا بمظهر الحرص عليه ، بعمل بنّاء يبقي على السنة النبوية جلالها وقداستها وجمال أسلوبها واضوائها اللامعة ، وما

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي صفحة ١٠٦.

تقدمه إلى البشرية ، من توجيه صحيح وأفكار علمية تكفي لمعالجة كل مشكلة من مشاكل الحياة ، بدلا من ان يقوموا بعمل من هذا النوع ، منع الخليفة ، وهو القائم على أمور المسلمين والأمين على دينهم ودنياهم من تدوينها ، بعد أن أشار عليه عامة المسلمين بكتابة السنن والأحاديث التي تلقوها عن الرسول ، فيما يتعلق بالتشريع وغيره. وبقي شهرا كاملا مترددا في رجحان هذا الأمر وعدمه ، وأخيرا تبين له ان الخير في تركه فنهى المسلمين عنه ، لأن أناسا من أهل الكتاب قد كتبوا مع كتاب الله كتبا ، فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله سبحانه. وخشي ان يكون مصيرهم كمصير من تقدمهم من اليهود والنصارى (١).

وجاء في تذكرة الحفاظ : عن القاسم بن محمد ان عائشة قالت : جمع ابي الحديث عن رسول الله (ص) ، وكان خمسمائة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا ، فلما أصبح قال أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها (٢).

وفي جامع بيان العلم وفضله : ان عمر بن الخطاب أنكر إنكارا شديدا على من نسخ كتب دانيال وضربه ، ثم أمره بمحوها ، ونهاه أن يقرأها أو يخبر أحدا بها ، وقال له : فلئن بلغني عنك انك قرأته أو اقرأته أحدا لأنهكنك عقوبة.

وخطب في الناس ، فقال : ايها الناس ، انه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها الى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد

__________________

(١) تاريخ التشريع للخضري ، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور محمد يوسف ، واضواء على هامش السنة للأستاذ محمود أبو ريه.

(٢) انظر السنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب ص ٣٠٩.

عنده كتابا الا أتاني به ، فأرى فيه رأيي ، قال الراوي : فظنوا انه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال أمنية كأمنية أهل الكتاب ، ثم انه كتب الى الأمصار من كان عنده منها شيء فليمحه (١).

على ان الدكتور محمد يوسف يضيف الى هذا السبب سببين آخرين ، لم يذكرهما الخليفة عمر بن الخطاب أساسا لرأيه حينما منع من تدوين الحديث والفقه ، كما جاء في الرواية التي نقلها المحدثون عنه :

أحدهم ما روي عن الرسول انه قال : «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ، فمن كتب عني شيئا سواه فليمحه».

ثانيهما ان الخليفة ومن معه من المسلمين قد خافوا خطأ الرواة فيما ينقلونه عن الرسول ، أو كذب بعضهم عليه. فكل ما سيدون يبقى مأثورا عنه ، ما دام قد سجل في كتاب خاص (٢). لهذه الأسباب الثلاثة حسبما يدعي المؤلف منع الخليفة منعا باتا من تدوين أحاديث الرسول.

ومع ان الدكتور محمد يوسف وغيره من المؤلفين في تاريخ التشريع لا يعارضون فيما نسب إلى الخليفة من منعه لتدوين الأحاديث يدعون ان الباحث في تاريخ الفترة الأولى من حياة الإسلام والمسلمين ، يعثر هنا وهناك على ما يدل على ان شيئا من التدوين كان في هذا العهد المبكر ، بل على ما يدل على ان شيئا من التدوين كان في عهد الرسول نفسه ، لأنه أمر عليه الصلاة والسلام بكتابة خطبه يوم فتح مكة ، رجلا من

__________________

(١) نفس المصدر ص ٣١٠ و ٣١١.

(٢) الدكتور محمد يوسف ، في كتابه : تاريخ الفقه الإسلامي صفحة ١٧٢.

اليمن ، حين سأله ذلك ، على رواية البخاري في صحيحة ، باب كتابة العلم.

كما يروون ان عبد الله بن عمرو بن العاص كان عنده صحيفة يسميها الصادقة ، يدعى بأنه لم يكتب فيها الا ما سمعته أذناه من رسول الله (ص). ثم نقلوا عن صحيح البخاري ان الرسول (ص) بعد هجرته إلى المدينة أمر بكتابة أحكام الزكاة وما يجب فيها ومقادير ذلك ، فكتبت في صفحتين وبقيتا محفوظتين في بيت ابي بكر الصديق وابي بكر بن عمر بن حزم (١).

وقد أيد الدكتور محمد يوسف رأيه بما كتبه السيد سلمان النووي ، الذي وصفه بكبير علماء الهند ، في بحثه عن كتابة الحديث في عهد الرسول وما كان من ذلك بعد العهد النبوي (٢). حيث جعل المؤلف المذكور لتدوين الحديث أطوارا ثلاثة : الطور الأول ، هو الذي جمع فيه الرجال ما عندهم من العلم. والطور الثاني ، هو الذي قام فيه أهل كل مصر من الأمصار الإسلامية بجمع ما عند علماء ذلك المصر من العلم في كتب خاصة بأهل مصرهم والطور الثالث ، هو الذي جمعت فيه علوم الدين الإسلامي كلها من جميع الأمصار ودوّنت في الدواوين الكبرى والمصنفات الجليلة ، وهي التي صارت إلينا ولا تزال بين أيدينا.

وقد استمر الطور الأول إلى سنة ١٠٠ ، وامتد الطور الثاني إلى سنة ١٥٠ وبدأ الطور الثالث من سنة (١٥٠) الى القرن الثالث الهجري. وقد انتهى المؤلف من هذا البحث إلى النتيجة التالية ، وهي ان ما جمع

__________________

(١) الدكتور محمد يوسف ، في كتابه تاريخ الفقه الإسلامي صفحة ١٧٣.

(٢) نقلا عن كتابه الرسالة المحمدية صفحة ٦٠.

في الطور الأول دوّن في الثاني ، وما دوّن في الثاني جمع ووزع على الأبواب والعناوين في الدور الثالث.

ولا شك ان الطور الأول ، حسب تعبير المؤلف ، يبتدئ بعد وفاة الرسول وينتهي بانتهاء عصر الصحابة. ولم يقم المسلمون في هذا العصر بتدوين شيء من الأحكام أو الحديث ، حسبما يزعمه المؤلف النووي ويقره الأستاذ محمد يوسف موسى ، وانما كان التدوين في خلال المدة من سنة ١٠٠ الى سنة ١٥٠ ويتفق في ذلك مع ما ذكره الخضري (١).

قال : اما السنة فمع كثرة روايتها في هذا الدور (ويعني به دور التابعين) وانقطاع فريق من علماء التابعين لروايتها ، لم يكن لها حظ من التدوين ، الا انه لم يكن من المعقول ان يستمر هذا الأمر طويلا مع اعتبار الجمهور للسنة انها مكملة للتشريع ببيانها للكتاب ، ولم يكن ظهر بين الجمهور من يخالف هذا الرأي. وأول من تنبه لهذا النقص الامام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية للهجرة ، فقد كتب الى عامله بالمدينة أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ان انظر ما كان من حديث رسول الله (ص) فاكتبه ، فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. ثم قال : وامتاز من رجال هذا الدور محمد بن مسلم بن شهاب الزهري بكتابة السنة (٢).

وقد ذكرنا في ما مضى ان الدكتور محمد يوسف لا يؤيد النظرية القائلة بأن عصر الصحابة كان خلوا من التدوين ، لأنه أقر نبأ الصحيفة

__________________

(١) في كتابه : تاريخ التشريع الإسلامي صفحة ١٤٧.

(٢) تاريخ التشريع الإسلامي.

الصادقة المزعومة ، التي ادعاها ابن العاص. وأضاف الى ذلك : ان الخليفة الرابع ، الامام علي بن أبي طالب (ع) ، كان لديه صحيفة فيها بعض الأحكام. ويروي ذلك عن البخاري ، بسنده الى ابي جحفة انه قال لعلي (ع) : هل عندك كتاب؟ قال لا ، الا كتاب الله ، أو فهم أعطيه ، أو ما في هذه الصحيفة! وذكر ان ابن عباس كان عنده كتاب فيه قضاء علي (ع) (١). وسنعود الى هذا الموضوع بصورة أوسع ، عند الكلام على ما أحدثه المنع من تدوين الحديث من الآثار السيئة على التشريع الإسلامي.

ومهما كان الحال ، فالشيء الثابت ان الخليفة منع من تدوين الحديث ، بعد أن بقي شهرا يستعرض ما سينجم عن تدوينه من آثار سيئة وحسنة ، كما ذكر ذلك المحدثون من أهل السنة وغيرهم. وان المسلمين قد انصرفوا عن تدوينه ، بعد أن أصدر الخليفة أمره بذلك ، واكتفوا بروايته وحفظه ، واستمر ذلك الى ما بعد المائة الأولى من تاريخ هجرة الرسول (ص). وكانوا يفتون الناس بما سمعوه عن الرسول وبما أجمعوا عليه ، بالإجماع المصطلح عليه في ذلك العصر. ولأجل ذلك عمت الفوضى وكثرت الأحاديث المكذوبة ، بدافع الكيد للإسلام وإرضاء بعض الحكام الذين كانوا يحاولون تدعيم عروشهم عن طريق الأحاديث المكذوبة.

ومن المؤكد أن الخليفة مع انه كان حريصا على منع التدوين ، وكان يتتبع من يبلغه عنه انه يجمع الكتب أو يدون شيئا بالتقريع والتهديد ، كما تؤكد ذلك أكثر المصادر ، ومع ذلك فإن مساعيه لم

__________________

(١) في كتابه : تاريخ الفقه الإسلامي صفحة ١٨٤.

تنجح نجاحا كليا ، ولم يوفق لسد هذا الباب كما يريد ، فلقد ظهرت بعض المدونات في زمانه وبعده ، قال ابن النديم في كتابه الفهرست :

انه كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين جماعة للكتب ، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة ، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب ، والكتب القديمة ، فلقيت هذا الرجل دفعات فانس بي ، وكان نفورا ضنينا بما عنده ، خائفا من بني حمدان ، فاخرج لي قمطرا كبيرا فيه نحو من ثلاثمائة رطل من جلود وحكاك وقراطيس ، وورق صيني وورق تهامي ، وجلود أدم فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم ، وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأسماء والأنساب ، وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم ، فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا ، الا ان الزمان قد اخلقها واحرفها ، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرّج توقيع بخطوط العلماء واحدا اثر واحد ، ورأيت في جملتها مصحفا بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي (ع) ، ورأيت فيها بخط الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) ، وبخط غيره من كتاب النبي (ص) ، ورأيت ما يدل على ان النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته. وهي أربعة أوراق احسبها من ورق الصين : ترجمتها هذه فيها كلام الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمه‌الله.

ثم لما مات الرجل فقدنا القمطر وما كان فيه فما سمعنا له خبرا ، ولا رأيت منه غير المصحف على كثرة بحثي عنه (١).

ويؤكد محمد عجاج الخطيب في كتابه السنة قبل التدوين بأن

__________________

(١) انظر فجر الإسلام لأحمد رامي ص ١٦٧ والسنة قبل التدوين ص ٣١٦ وما بعدها.

الصحابة أنفسهم لم يمتنعوا عن التدوين وأورد أمثلة على ذلك من المرويات عن جماعة من أعيان الصحابة منهم علي والحسن عليهما‌السلام وعبد الله بن مسعود وعائشة وعبد الله بن عباس وغيرهم ، وكلها تنص على رجحان الكتابة وتحث عليها ، وأورد عن عائشة انها قالت لابن أختها عروة بن الزبير : يا بني بلغني أنك تكتب عن الحديث ثم تعود فتكتبه ولم تنهه عن ذلك ، وان ابن عباس كان يقول :

«قيدوا العلم بالكتابة» الى غير ذلك من المرويات.

ومهما كان الحال فالثابت عن طريق أهل البيت وشيعتهم وبعض المحدثين من أهل السنة ان عليا (ع) وبعض الصحابة من أعيان الشيعة قد دوّنوا الكثير من أبواب الفقه. وقد أوردت الروايات ، الكثير في كتب المحدثين من الشيعة عن طريق أهل البيت (ع) أن عليا قد كتب الفقه بخط يده وإملاء رسول الله (ص).

وفي أعيان الشيعة (١) والمراجعات (٢) نقلا عن مصادر شيعية موثوق بها ، ان من مؤلفات علي (ع) كتابا طوله سبعون ذراعا أملاه عليه رسول الله (ص) ، كتبه على الجلد المسمى بالرق ، وكان يستعمل للكتابة في الغالب. ولا بد ان يكون قد جمع هذا الكتاب جميع أبواب الفقه ، وسمي في اخبار أهل البيت ، بالجامعة تارة ، وبكتاب علي اخرى ، وبالكتاب الذي أملاه رسول الله على علي ثالثة.

وقد رآه عند الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام بعض الثقات من أصحابهما ، كسويد بن أيوب وأبي بصير وغيرهما ، كما ذكر ذلك

__________________

(١) للعلامة السيد محسن الأمين ، المجلد الأول.

(٢) للسيد عبد الحسين شرف الدين.

محمد بن الحسن الصفار في كتابه بصائر الدرجات.

فلقد روي عن علي بن إسماعيل عن علي بن القطان عن سويد بن أيوب قال : كنت عند أبي جعفر (ع) فدعا بالجامعة ، فنظر فيها أبو جعفر (ع).

وفي البصائر عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن علي بن أبي حمزة عن ابي نصر قال : اخرج إلينا أبو جعفر (ع) صحيفة فيها الحلال والحرام والفرائض ، قلت ما هذا؟ قال : هذه بإملاء رسول الله وخط علي بيده. ثم قال : هي الجامعة. وفي البصائر ، عن علي بن الحسين ، عن الحسن بن الحسين السخال ، عن محمد بن إبراهيم عن أبي مريم قال : قال أبو جعفر (ع) : عندنا الجامعة وهي سبعون ذراعا ، فيها كل شيء ، حتى أرش الخدش. إملاء رسول الله (ص) وخط علي (ع).

وروي في البصائر أيضا ، عن محمد بن الحسن عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب عن ابي عبيدة ، عن ابي عبد الله (ع) ، انه سئل عن الجامعة ، فقال : تلك صحيفة ، سبعون ذراعا في عرض الأديم ، مثل فخذ الفالج (١) ، فيها كل ما يحتاج اليه الناس ، وليس من قضية إلا وهي فيها ، حتى أرش الخدش.

وفي الكتاب المذكور عن ابي بصير قال : دخلت على ابي عبد الله الصادق (ع) فقال : يا أبا محمد ، أن عندنا الجامعة ، وما يدريهم ما الجامعة ، قلت : جعلت فداك وما الجامعة؟ قال : صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله ، بإملائه وخط علي (ع) بيمينه ، فيها

__________________

(١) الفالج : الجمل الضخم ، ذو السنامين ، يحمل من بلاد السند.

كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه ، حتى الأرش في الخدش.

وعن مجالس المفيد ، كان الصادق (ع) يقول : عندنا الجامعة ، كتاب طوله سبعون ذراعا ، أملاه رسول الله وخطّه علي بيده ، فيه والله ، جميع ما يحتاج إليه الناس الى يوم القيامة. ان فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة. وفي جملة من الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت ، ورد التعبير بكتاب علي بدلا عن الجامعة.

فمنها ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي ، عن أبي أيوب ، عن ابي عبد الله (ع) ، قال : في كتاب علي ان العمة بمنزلة الأب.

وفي حديث الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج ، ان عبد الرحمن سأل الإمام الصادق عن بعض الأحكام ، وبعد أن أجابه قال : كذلك هو في كتاب علي (ع).

وفي حديث الصدوق عن خالد بن جرير ، أنه سأل الإمام أبا عبد الله الصادق (ع) عن ميراث الاخوة من الأم مع الجد ، قال الصادق (ع) : ان في كتاب علي ان الأخوة من الأم مع الجد يرثون الثلث.

وفي بعض الروايات ان الامام الباقر دعا بكتاب علي ، فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويا ، ثم قال أبو جعفر الباقر : هذا ، والله ، خط علي بيده ، وإملاء رسول الله (ص).

وفي حديث آخر عن ابي جعفر الباقر انه قال : عندنا صحيفة من كتب علي (ع) طولها سبعون ذراعا ، فنحن نتتبع ما فيها ، لا نعدوها. إن عليا (ع) كتب العلم كله ، القضاء والفرائض والحديث.

فقوله ان عندنا صحيفة من كتب علي (ع) ، وانه كتب العلم كله : القضاء والفرائض والحديث ، كما ورد على لسان الامام الباقر (ع). ولا يبعد ان تكون الجامعة هي أوسع كتبه. وسميت بذلك لأنها جمعت الفقه كله حتى أرش الخدش ، كما جاء في بعض الأحاديث السابقة ، اما كتاب علي الذي ورد ذكره على لسان الإمامين الباقر والصادق ، فلا يبعد ان يكون في الإرث خاصة ، بدليل انهما ذكراه في مقام الجواب عن بعض فروض الإرث.

ورواية البخاري السابقة تؤيد انه (ع) قد كتب القضاء في كتاب خاص ، وان هذا الكتاب كان عند عبد الله بن عباس.

وفي أعيان الشيعة (١) ان من مؤلفات أمير المؤمنين كتاب الجفر.

وذكره ابن خلدون في مقدمته ، وورد ذكره في كشف الظنون ومفتاح السعادة لأحمد بن مصطفى المعروف بسطا. وقال فيه المعري :

لقد عجبوا لأهل البيت لما

اروهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل عامرة وقفر

وأضاف إلى ذلك من أعيان الشيعة مما اتفق عليه السنة والشيعة ، وفي مجمع البحرين : أملى رسول الله (ص) على أمير المؤمنين الجفر والجامعة وفسرا في الحديث بإهاب ما عز وإهاب كبش ، فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة. ثم نقل عن المحقق الشريف في شرح المواقف (٢) ان الجفر والجامعة كتابان لعلي (ع).

وفي القاموس : الجفر من أولاد الماعز ما عظم واستكرش ، وكذا في

__________________

(١) للعلامة الأمين الجزء الأول.

(٢) في الجزء الأول من أعيان الشيعة.

الصحاح. وفي بعض الأحاديث المروية عن طريق أهل البيت ، ان الجفر وعاء من الجلد المدبوغ كالجراب ، جمعت فيه كتب علي (ع) ومواريث النبوة ، وقد روى ذلك محمد بن الحسن الصفار ، عن علي بن سعيد ، قال : كنت عند ابي عبد الله الصادق (ع) فقال محمد بن عبد الله بن علي : العجب لعبد الله بن الحسن أنه يهزأ ويقول : هذا في جفركم الذي تدعون. فغضب أبو عبد الله (ع) وقال : إنه جلد مدبوغ كالجراب ، فيه كتب وعلم ما يحتاج اليه الناس الى يوم القيامة ، من حلال وحرام ، إملاء رسول الله وخط علي (ع) بيده.

وقد جاء في بعض الأحاديث المروية عن أئمة الشيعة أنه جلد ثور ، وفي بعضها الآخر أنه جلد ماعز ، الى غير ذلك من الأحاديث التي تعرضت لنوعه. ومهما كان نوعه ، فقد تحدث عنه أئمة أهل البيت وشاهده البعض من ثقات أصحابهم. وروى الثقات من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام عن الصحيفة التي ألفها علي في الفرائض وان الباقر وولده الصادق كانا يفتيان بما فيها.

روى محمد بن يعقوب الكليني عن زرارة بن أعين أنه قال : أمر أبو جعفر أبا عبد الله فأقرأني صحيفة الفرائض ، فرأيت جل ما فيها على أربعة أسهم.

وروي عن محمد بن مسلم أنه قال : أقرأني أبو جعفر صحيفة كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول الله وخط علي بيده ، فإذا فيها ان السهام لا تعول.

وبهذا المضمون روايات كثيرة ، رواها الصدوق والكليني والطوسي وغيرهم. وقد ذكر المحدثون من الشيعة ان لعلي كتبا غير ما ذكرنا.

قال في المراجعات (١) : أنه ألف كتابا في الديات وسماه الصحيفة (٢) وقد أورده ابن سعد في الطبقات في آخر كتابه ، مسندا الى أمير المؤمنين (ع) ، ورأيت البخاري ومسلما يذكران هذه الصحيفة ويرويان عنها في عدة مواضع من صحيحهما. ومما روياه عنهما ، ما أخرجاه عن الأعمش ، عن إبراهيم التميمي ، عن أبيه ، ان عليا قال : ما عندنا كتاب نقرؤه ، الا كتاب الله ، غير هذه الصحيفة. فأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل. وقد أكثر الإمام احمد بن حنبل من الرواية عن هذه الصحيفة في مسنده عن طارق ابن شهاب.

ولا نريد ان نستوعب جميع ما ذكره المحدثون وعلماء الرجال حول ما كتبه علي في الحديث والفقه ، وانما ذكرنا هذه النبذة اليسيرة ، لبيان ان التشيع منذ فجر الإسلام الأول كان السابق الى تدعيم أصول الإسلام وفروعه وان عليا وشيعته كانوا أبرز المسلمين في ميدان التشريع ، فدوّنوا الحديث والأحكام ونشروا تعاليم الإسلام ، بعد ان قام بالخلافة وشؤونها السياسية غيره من المسلمين. هذا بالرغم من ان القائمين على ادارة شؤون الأمة ، قد منعوا من تدوين الأحكام والحديث.

ولكن عليا الحريص على مصلحة الإسلام وتعاليمه والذي جاهد من أجلها ، منذ بعث الله نبيه وعرض نفسه في سبيلها لأشق الحالات وأشدها خطرا ، لا يمكن ان يقف مكتوف اليدين ، لمجرد أن الخليفة لا

__________________

(١) للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

(٢) يمكن ان تكون هي التي أخبر عنها الامام الباقر حيث قال : «ان عندنا صحيفة من كتب علي ، طولها سبعون ذراعا ، فنحن نتتبع ما فيها ، لا نعدوها».

يرى ذلك منسجما مع المصلحة ، وهو يعلم ما ينتج عن رأي الخليفة من آثار سيئة على الفقه والحديث ، لا تزال الأجيال من بعده تتجرع مرارتها حتى اليوم.

لقد دون علي (ع) الفقه كله ، حتى أرش الخدش ، ودون الحديث كما سمعه من الرسول الذي كان يؤثره على كل أصحابه وأعوانه. ولم يستجب هو وأصحابه لرأي الخليفة ، بل نظر الى هذا الأمر من الزاوية التي اعتاد ان ينظر منها والتي ينسى نفسه في سبيلها ، وهي الحرص على الدين والمبادئ التي نادى بها القرآن وجاءت بها السنة الكريمة. ونظر غيره من زاوية أخرى ، فاستجاب له أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين جيلا كاملا ، يفتون ويروون عن الرسول ما يشاؤون ، من غير ان يدونوا ، حتى ما عندهم من أحاديث وأحكام. ونتج من هاتين النظريتين ، اختلاف بين الصحابة في كتابة الفقه والحديث ، فمنعها جماعة وأباحها آخرون. قال السيوطي في تدريب الراوي : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثير منهم ، وأباحها جماعة وفعلوها ، منهم علي وابنه الحسن عليهما‌السلام. والصواب رجحانها ، وكفى دليلا عليه ، فعل علي وابنه الحسن. وطبيعي أن يرى شيعة علي من الصحابة رأيه في ذلك ، ولم يكونوا بأقل شأنا من غيرهم ممن شاءت السياسة ان ترفعهم على هام الناس. ولم ينقل الرواة عن الرسول في حق أحد من المسلمين أصح مما نقلوه في سلمان وعمار وابي ذر وحبر الأمة ، عبد الله بن عباس ، وغيرهم ممن كانوا يرون رأي علي ويترسمون خطاه ، لا بد وان يكونوا قد قاموا بنصيبهم من التشريع وتدوين الحديث. وفي كتب الرجال والحديث ما يؤيد هذا الرأي.

قال النجاشي : كان أبو رافع ممن أسلم قديما بمكة وهاجر مع النبي

إلى المدينة وشهد معه جميع مشاهده ، ولازم عليا أمير المؤمنين من بعده ، وكان من خيار الشيعة. ثم قال : ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا ، وقد اشتمل كتابه على الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا.

وبعد ان انتهى الى هذا الحد ، قال : وعلي بن ابي رافع تابعي ومن خيار الشيعة ، كانت له من أمير المؤمنين صحبة ، وكان كاتبا له ، وقد جمع كتابا في فنون من الفقه والوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

ثم نقل عن موسى بن عبد الله بن الحسن (ع) أنه قال : سأل رجل ابي عن التشهد فقال : هات كتاب ابن ابي رافع ، فأخرجه وأملاه علينا (١). وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين ان عبيد الله بن ابي رافع ، كاتب علي ووليه ، سمع النبي وروى عنه قوله لجعفر بن ابي طالب : أشبهت خلقي وخلقي. كما ذكر ذلك احمد بن حنبل في مسنده.

وألف عبيد الله كتابا فيمن حضر صفين مع علي (ع) من الصحابة ، ونقل عنه ابن حجر كثيرا في اصابته (٢).

وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي (٣) والنجاشي (٤) وابن شهرآشوب وغيرهم ممن كتب من الشيعة وألف في صدر الإسلام ، وان سلمان الفارسي صنف كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم.

__________________

(١) في كتابه الرجال ، المسمى رجال النجاشي.

(٢) المراجعات للعلامة شرف الدين.

(٣) في الفهرست ،

(٤) في رجاله.

وألف أبو ذر كتابا سماه الخطبة ، يشرح فيها الأمور بعد النبي (ص). وألف الأصبغ بن نباتة كتابين : مقتل الحسين وكتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين. وروى عن علي (ع) عهدة للأشتر على مصر ، ووصيّته لولده محمد بن الحنفّية.

وألف سليم بن قيس كتابا في الإمامة ، يرويه عن علي (ع) وجماعة من كبار الصحابة. وليس بين الشيعة خلاف في ان هذا الكتاب من تأليف سليم بن قيس.

والف ميثم التمار في الحديث ، وروى عنه الطوسي في أماليه والكشي في رجاله والطبري في بشارة المصطفى (١).

ومحمد بن قيس البجليّ صاحب أمير المؤمنين ، له كتاب رواه عن علي (ع). وفي الفهرست (٢) ان كتاب محمد بن قيس البجليّ لما عرض على ابي جعفر الباقر (ع) ، قال : هذا قول أمير المؤمنين (ع).

وغير هؤلاء كثير ممن ورد ذكرهم في كتب الرجال والحديث مع المؤلفين ، في الفترة التي تلي وفاة الرسول إلى نهاية ملك معاوية بن ابي سفيان. ولا نريد ان نستقصي جميع أسمائهم ومصنفاتهم. ويكفينا هذا العدد اليسير لإثبات ان التشيع قد ساهم بنصيب وافر في التشريع الإسلامي وتدوين آثار الرسول وحديثه. ولو لم يسجل التاريخ لأحد شيئا من ذلك ، لكان ما كتبه علي (ع) بخط يده وما قام به من جهود

__________________

(١) قال العلامة الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة أنه ألف كتابا في الحديث ، وروى عنه جماعة ، منهم الطوسي والكشي والطبري. قتل سنة ٦٠ من هجرة الرسول إلى المدينة.

(٢) للشيخ الطوسي.

في تشريع الأحكام والقضاء والإفتاء كافيا لنسبة التشريع الإسلامي بعد الرسول اليه وحده.

فقد كتب الفقه وقواعده العامة ، وكل ما شرعه القرآن وجاءت به السنة ، وبقيت كتبه من أعظم المصادر بعد كتاب الله عند الأئمة من أبنائه ، ولما انتهت الى حفيديه الباقر والصادق عليهما‌السلام ، كانت مصدرهما في نشر تعاليم الإسلام والفقه ، وإليها كانا يرجعان ، كما ذكر ذلك الكثير من رواة حديثهم وأصحابهم ، وجاء في بعض المرويات عن الامام الباقر انه قال : عندنا صحيفة من كتب علي (ع) طولها سبعون ذراعا فنحن نتتبع ما فيها لا نعدوها.

وليس من السهل انتشارها قبل الزمن الذي عاش فيه الإمامان الباقر والصادق ، ففي عهد الخلفاء الثلاثة لم يكن بوسعه ان ينشرها بين المسلمين بعد ان منع عمر بن الخطاب من تدوين الفقه والحديث ، ودان المسلمون برأيه ، حتى أصبح سنة من سنن الإسلام. وبعد عصرهم جاءت الدولة الأموية فسخرت كل امكانياتها للقضاء على التشيع وآثاره ، وأصبح الحديث عنه يجر من ورائه أقصى العقوبات ، فكان ولا بد لتلك الآثار ان لا تظهر في تلك الظروف العصيبة من تاريخ الشيعة وقد بلغ الحال بمن كان يريد ان ينقل عن علي (ع) شيئا من الآثار ان يقول : حدثني أبو زينب. ومع ان عليا وبنيه وشيعتهم لم يكن بوسعهم ان ينشروا تلك الآثار الكريمة ، التي استمدها علي من الكتاب والرسول ، كانوا يأتون أحيانا ويحدثون بما فيها من أحكام وأحاديث تختلف عما يفتي به الجمهور أو يحدث به عن الرسول ، كما سيتبين ذلك من حديثنا عن أثر التشيع في الفقه والحديث في عصر الصحابة ، في الفصول الآتية

اثر المنع من تدوين الحديث والفقه

على التشريع الإسلامي

ذكرنا في الفصل السابق ان جماعة من وجوه الصحابة أشاروا على الخليفة بتدوين الحديث وجمعه في كتاب خاص ، كما جمعوا الألواح والرقاع التي كتب عليها آيات القرآن. ولكن الخليفة الثاني رأى ان ذلك قد يؤدي بالمسلمين الى التشاغل بالحديث وهجر القرآن ، كما فعل اليهود والنصارى ، فمنع من تدوينه. واستمر المسلمون زمنا طويلا يعتمدون في نقل الحديث على ما سمعوه من الرسول أو صحابته ، من غير ان يدونوا منه شيئا ما ، حسب ما يزعم المحدثون من أهل السنة. مع ان الحاجة اليه لم تكن بأقل من الحاجة الى الكتاب الكريم من ناحية التشريع ، لأنه الأصل الثاني للأحكام ومرجعه الوحيد بعد كتاب الله. والمسلمون لم يكونوا طرازا واحدا في الفقه والعلم والحفظ ولا نمطا متشابها في الفهم والتفكير ، بل كانوا في ذلك على طبقات ودرجات من حيث عملهم وضبطهم ودينهم ، شأن الناس في جميع الأدوار.

وقد اتسعت حاجة الناس الى حملة العلم وحفاظ الحديث باتساع الدولة الإسلامية ، بعد ان غزا الإسلام جزءا كبيرا من العالم ، وبعد ان انتقل المسلمون من دور تغلب عليه البداوة ، الى دور تغلب عليه الحضارة والنعيم والعمران ، بسبب اتصالهم بالأمم التي غزاها الإسلام وامتزاجهم بها. فكان من الطبيعي ، وقد انتقلوا من حياتهم الأولى ، حياة البداوة والبساطة ، أن تتضاعف حاجتهم الى الفقه ومعرفة الحلال والحرام وأحاديث الرسول ، وتفهم آيات القرآن لتطبيق تصرفاتهم على قواعد الدين وأصوله ، لا سيما وان الدين هو قانون الدولة ، وفي ضمن حدوده يجب ان تعمل الأمة في جميع نواحي الحياة ومراحل تطورها.

وقد وجد المسلمون ، ومن بينهم الفقهاء والمحدثون ، منفسا للخروج من الحجاز ، بسبب الفتوحات الإسلامية والغزوات والحروب ، فانتشر حملة الفقه والحديث في جميع الأقطار التي غزاها الإسلام ، والتي لا تزال في بداية عهدها بالدين الجديد ، ليعلموا الناس أصول الدين وفروعه. ووجد المسلمون الجدد أنفسهم مضطرين إلى معرفة أحكام الإسلام ، لأنها نظام الدولة ، وعلى أساسها يجب أن يسير الناس في كل شؤونهم ، فرجعوا الى من هاجر إليهم من عاصمة الإسلام ، فكان من آثار ذلك ان كثر المحدثون عن الرسول وانتشر الحديث المنسوب اليه ، واستغل فريق ممن سكن المدينة ورأى الرسول تقدير الجماهير له وتقديسهم لحديثه ، فرووا عنه ما أرادوا ، بدافع الكيد للإسلام والتشويه لأصوله وتعاليمه ، فكانت الفوضى التي لا بدّ منها في مثل هذه الظروف ، بعد ان كان أمر الحديث موكولا الى الحفاظ وحدهم ، وليس عليهم من رقيب سوى دينهم وضمائرهم.

ولم يكن أحد من فقهاء الصحابة ورواه السنة يحسبون ما سيؤول

إليه أمر الحديث ، بعد فترة قصيرة على وفاة الرسول. حتى ان الخليفة نفسه الذي منع من تدوينه ، لم يكن يحسب ان يصل الأمر بأبي هريرة وزمرته الى ما وصلوا اليه. وبالأمس القريب ضربه بدرته لأنه روى عن الرسول ما لم يحدث به. وحبس عبد الله بن مسعود وأبا الدرداء وأبي بن كعب ، لأنهم أكثروا الحديث عن الرسول ، مع ان هؤلاء الثلاثة من خيرة الصحابة وأعيانهم (١).

لقد منع عمر بن الخطاب من تدوين الحديث والفقه بعد تفكير طويل دام شهرا كاملا ، لأنه تخوف الكذب على الرسول.

وبالأمس القريب قال في علي كلماته الخالدات : «لو لا علي لهلك عمر ، لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو حسن».

وفي مسجد النبي على حشد من فقهاء الصحابة وجملة الحديث : «لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر».

ان ذلك ليدعو الى التساؤل ويترك في نفس الباحث ألوانا من الشكوك حول هذا التصرف. لما ذا لم يكلفه بجمع الحديث وتدوينه ، وهو يعلم أنه أعرفهم بالحديث وأقربهم كان من الرسول. ولم يغب عنه شيء بما حدث به وشرعه ، منذ بعثه الله حتى الساعات الأخيرة من حياته. ولو كلفه بذلك ، كما كلف زيد بن ثابت بجمع الرقاع والألواح ، التي كتب عليها آيات القرآن ، لوفر على المسلمين جهودا استغرقت العشرات من السنين ، وسهل على من بعده الوصول إلى أحكام الله وفهم آي القرآن المجيد. ولما ابتليت الأمة بمثل أبي هريرة

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري والسنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب.

وكعب الأحبار وعبد الله بن وهب ، وأمثال هؤلاء المأجورين الذين شوهوا الحديث وادخلوا فيه من البدع ، التي تشوه تعاليم الإسلام وتطمس من اضوائه. وأعانهم على ذلك بعض الحكام المنحرفين عن جادة الإسلام ، فسهلوا لهم طريق الدس والكذب وسخروا الدين للسياسة ، التي انحرفوا بها عن تعاليم القرآن ومبادئ الإسلام.

ومهما بلغ ايمان الباحث بتصرفات الصحابة وقد استها فلن يجد سبيلا إلى إزاحة ما يعترضه من الشكوك في هذا التصرف.

لقد تخوف الكذب على الرسول ، ان هو أباح لهم ان يدونوا حديثه وأحكام الإسلام ، مع علمه ان بين حملة الحديث من صحابة الرسول جماعة شهد لهم الرسول بالصدق والورع ، كأبي ذر وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وحذيفة اليمان وأبيّ بن كعب وخزيمة بن ثابت وعبد الله بن العباس ، وأمثال هذه الطبقة الصالحة. وفي المسلمين عترة الرسول ، التي أمر المسلمين بالرجوع إليها بعد كتاب الله كما نص على ذلك حديث الثقلين الذي رواه أكثر المحدثين من السنة والشيعة.

لقد كان الأجدر بأبي حفص رحمه‌الله ، وهو المعروف بحكمته وبعد نظره ان يترك المسلمين وشأنهم ، بعد ان أجمعت كلمتهم على ضرورة تدوين آثار الإسلام وأحاديث الرسول ويسهل لهم تحقيق هذا الأمر بكل الوسائل.

ولو وفق لذلك لعصم الأمة والسنة مما وقعت فيه ولأرتج على الكاذبين باب الوضع ، ولما لعبت في الحديث أيدي الأمويين ، تلك العصابات المجرمة التي حكمت الأمة باسم الدين والإسلام وسهلت لفئة من المأجورين أساليب الدس والكذب على الرسول ، بدافع الكيد للإسلام وتثبيت عروشهم. ومهما كان الحال فالقائمون على أمر الأمة قد

سهلوا لهؤلاء ، بقصد أو بدون قصد ، تشويش الحديث وتشويه السنة الكريمة ، ولكن الحريصين على كتاب الله وسنة نبيه العظيم ، وعلى رأسهم علي (ع) ، قد بذلوا أقصى ما لديهم من جهد لتثبيت دعائم الدين ونشر تعاليمه ، فدونوا الحديث والفقه وجميع ما جاء به الإسلام ، حتى أرش الخدش ، كما دلت على ذلك كتب الحديث وأخبار أهل البيت الصحيحة.

قال الأستاذ محمود أبو رية (١) : كان من آثار تأخير تدوين الحديث وربط ألفاظه بالكتاب ، الى ما بعد المائة الأولى للهجرة وصدر كبير من المائة الثانية ، ان اتسعت أبواب الرواية وفاضت انهار الوضع ، بغير ما ضابط ولا قيد ، حتى بلغ ما روي من الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف ، لا يزال أكثرها مثبتا في الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

ووضع الحديث على رسول الله ، كان أشد خطرا على الدين وأنكى ضررا بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين ، وان تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضة وخوارج ونصيرية ، لهو أثر من آثار الوضع في الدين.

ثم نقل عن السيد رشيد رضا (٢) : إن أهم أسباب الوضع هو ما وضعه الزنادقة ، اللابسون لباس الإسلام غشا ونفاقا. وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في الإسلام. قال حميد بن زيد : وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث ، وهذا بحسب ما وصل اليه علمه

__________________

(١) في كتابه : أضواء على السنة المحمدية ، تحت عنوان : الوضع في الحديث وأسبابه صفحة ٨٠.

(٢) من المجلد الثالث من مجلة المنار صفحة (٥٤٥).

واختباره في كشف كذبها ، وإلا فقد نقل المحدثون ان زنديقا واحدا وضع هذا المقدار! قالوا : لما أخذ ابن ابي العوجاء لتضرب عنقه قال : وضعت فيكم أربعة آلاف حديث ، أحرم فيها الحلال وأحل الحرام.

وقد ذكر الأستاذ أبو ريّه قسما كبيرا من الأحاديث الموضوعة بواسطة أبي هريرة وكعب الأحبار وغيرهما في فضل معاوية وبلاد الشام ، كما جاء في كتابه الاضواء (١). ثم قال : لم يكن الوضع على رسول الله مقصورا على أعداء الدين وأصحاب الأهواء ، وإنما كان الصالحون من المسلمين يضعون كذلك أحاديث على رسول الله ويجعلون ذلك حسبة لله بزعمهم. ويحسبون أنهم بعملهم هذا يحسنون صنعا. وإذا سألهم سائل ، كيف تكذبون على رسول الله؟ قالوا : نكذب له لا عليه. وذكر أن عبد الله النهاوندي ، سأل غلام أحمد ، من أين لك هذه الأحاديث ، التي تحدث بها في الرقائق؟ قال : وضعناها لنرقق بها قلوب العامة (٢).

وبلغ بهؤلاء الحال انهم كانوا إذا استحسنوا شيئا صيرورة حديثا ، كما نقل في الاضواء عن ابن عساكر في تاريخه.

وقد وضع أبو هريرة نواة هذا الأسلوب من الوضع في جملة الأحاديث التي رواها المحدثون من السنة عنه. فقد أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال : إذا حدثتم حديثا تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، قلته أم لم أقله. فإني أقول ما يعرف ولا ينكر.

__________________

(١) ص ٩١ ـ ٩٨.

(٢) الاضواء ص ١٠٢ و ١٠٣.

وأورد عنه ابن حزم في الأحكام انه قال ، إن رسول الله (ص) قال.

«ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله ، فأنا قلته» (١).

لم يكتف أبو هريرة بما وضعه من الأحاديث التي نسبها الى الرسول بدافع الكيد للإسلام وإرضاء لسيده معاوية بن أبي سفيان ، بل هيأ لغيره أسباب الوضع ومناسباته ، فنسب الى رسول الله هذا النوع من الحديث ، ليكون أساسا لكل من يحاول الدس والكذب والتشويش على الإسلام ومبادئه ، بحجة انهم يكذبون للرسول لا عليه ، كما ذكر بعض الرواة.

وبعد ان ذكر الأستاذ أبو ريّة أقسام الوضع في الحديث وأسبابه وكيف شاع وانتشر بعد عصر الصحابة ، تعرض لجماعة ممن اشتهروا بالوضع في عصر الصحابة وكانوا المرجع الأول لمن جاء بعدهم من الوضاعين.

قال تحت عنوان الاسرائيليات في الحديث (٢) :

ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار ، فلا يعترفون لأحد غيرهم بفضل ، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة ، فإن رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بدا ، وبخاصة بعد ان غلبوا على أمرهم وأخرجوا من ديارهم ، من أن يستعينوا بالمكر ويتوسلوا بالدهاء ، لكي يصلوا الى ما يبتغون ، فهداهم المكر اليهودي الى ان يتظاهروا بالإسلام ويطووا أنفسهم على دينهم ، حتى يخفى

__________________

(١) الاضواء ص ١٠١.

(٢) صفحة ١٠٨.

كيدهم ، ويجوز على المسلمين مكرهم ، قد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكرا ، كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ.

ولما وجدوا ان حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى ، وان المسلمين قد سكنوا إليهم واغتروا بهم ، جعلوا أول همهم ان يضربوا المسلمين في صميم دينهم ، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام وترهات.

ولما عجزوا عن ان ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالتدوين واستظهره الآلاف من المسلمين ، وانه قد أصبح بذلك في منعة من ان يزاد فيه كلمة ، أو يندس فيه حرف ـ اتجهوا الى الحديث عن النبي ، فافتروا ما شاءوا ان يفتروا عليه من الأحاديث التي لم تصدر عنه. وأعانهم على ذلك ان ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم ، ولا محفوظ الأصول ، لأنه لم يدون في عهده كما دون القرآن ، ولا كتبه صحابته من بعده ، وان باستطاعة كل ذي هوي أو دخيلة سوء ان يتدسس اليه بالافتراء ويسطو عليه بالكذب. ويسر لهم كيدهم ان وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون من أمور العالم الماضية.

فالكاتب المذكور يرى ان عدم تدوين الأحاديث في حياة الرسول وبعده ، قد هيأ لهؤلاء سبيل الكذب على الرسول والكيد للإسلام. وهؤلاء هم الذين يسروا لمن جاء بعدهم أن يروي عن الرسول ما يمليه عليه الهوى ، وان يتزلف الى الحكم بالافتراء على الله ورسوله ، للتمويه على الناس بشرعية خلافتهم ، وتبرير ما يقومون به من اجرام وعدوان وتحكم في الأمة ومقدراتها.

ولو ترك المسلمون ، بعد وفاة الرسول وشأنهم ، يدونون الحديث

والأحكام التي شرعها الإسلام ، لم يكن شيء مما وقع في عصر الصحابة والتابعين وغيره من العصور. ولو وقع لما كان بتلك الكثرة التي طغت على السنة الصحيحة ، وبدّدت اضواءها ، ولكان من السهل اليسير على الباحث تصفية المكذوب من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ، بعد ان كانت أصول الحديث مدونة في كتاب واحد.

والنتيجة التي لا بدّ للباحث أن ينتهي إليها ان المسؤول الأول عن كل ما صدر من أبي هريرة وغيره من الوضاعين هو الذي منع من تدوين السنة وأحكام الإسلام. ولولاه لم يكن لهؤلاء ذلك المجال الذي اتسع لهم ، بسبب رأي الخليفة عمر بن الخطاب ، ولما استطاع ابن أبي العوجاء ان يدس أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحلل الحرام ، كما أخبر عن نفسه حينما أحس بالموت.

وقد ذكر الأستاذ أبو ريّة في كتابه الاضواء ، سيلا من الأحاديث التي دسها كعب الأحبار وأبو هريرة ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام في السنة النبوية وأصبحت بين الأحاديث المروية في صحاح أهل السنة.

ويبدو ان معاوية بن أبي سفيان كان يقرّب اليه كعبا وأمثاله ، ولذا نراهم ينسبون الى الرسول أحاديث في فضل الشام وحمص ومن يسكنهما من المسلمين. فقد روى لمعاوية ان الرسول قال : أهل الشام سيف من سيوف الله ، ينتقم الله بهم من العصاة. ومعلوم ان العصاة بنظر كعب الأحبار وسيده معاوية هم علي ومن معه من المسلمين ، في العراق وغيرها من بلاد الإسلام ، لأنهم لا يرون ابن هند أهلا للخلافة.

ثم يعود الى الحديث عن الشام وغيرها من المدن التي استطاع معاوية أن يبسط نفوذه فيها ، فيقول : «الشام صفوة الله من بلاده ، إليها يجتبي صفوته من عباده. فمن خرج من الشام الى غيرها فبسخطه

ومن دخلها فبرحمته. طوبى للشام ، ان الرحمن لباسط رحمته عليه ، ويبعث الله من مدينة بالشام يقال لها حمص سبعين ألفا يوم القيامة لا حساب عليهم ولا عذاب» (١).

ليس من الغريب ان يبسط الله سبحانه رحمته على الشام لأن بها معاوية وولده يزيد وأتباعهما الطغاة ، ويقبضها عن مدينة الرسول (ص) وان ضمت إليها جسده الطاهر وأجساد الصفوة من المسلمين ، الذين جاهدوا الكفار والمنافقين ، أمثال معاوية وابي سفيان وغيرهما من مشركي قريش.

ويجب ان يكون لمدينة حمص هذا الشأن العظيم عند الله سبحانه ، بعد ان سكنها كعب الأحبار وضمت رفاته بعد موته ، ورفات أنصار معاوية وأعوانه الذين عاثوا في الأرض فسادا وقتلوا الصلحاء والأبرياء.

وبعد ان تكلم الأستاذ أبو ريّة عن طائفة من الوضاع ، الذين استغلوا عدم تدوين الحديث في الفترة التي تلي وفاة الرسول ـ بتجرد وإخلاص ، مستعملا دينه ومنطقه السليم ، في جميع ابحاثه حول هذه المواضيع ـ انتقل الى شيخ الوضاع ، عميل الأمويين أبي هريرة الذي دخل في الإسلام قبل وفاة الرسول بثلاث سنين ، وترك من الحديث عنه أكثر من ستة آلاف حديث ، مع العلم بان جميع صحابة الرسول الذين عاشروه طيلة حياته وفي جميع أوقاته ، ومن بينهم علي بن أبي طالب (ع) ، باب مدينة العلم ، لم تسجل لهم كتب الحديث ، مجتمعين ، ما سجلته لأبي هريرة ، الذي دخل الإسلام في الأيام الأخيرة من حياة الرسول (ص).

__________________

(١) الاضواء صفحة ١٣١.

لقد تحدث عن المؤلف صغيرا وكبيرا ، واستعرض شطرا من حياته ، ليضع بين يدي القارئ اضواء نيرة على كذب أحاديثه التي ملأ بها بطون الكتب وصحاح إخواننا أهل السنة.

واحتلت أحاديثه الصادرة في الكتب المعدة لتدوين الحديث الصحيح عندهم ، وفاز هو بإعجابهم وتقديسهم له ولحديثه ، على ما في أحاديثه من مشكلات وخرافات وترهات ، أصح ما يقال فيها انها مطاعن على الدين ومعول هدام لتعاليم الإسلام والقرآن. تلك التعاليم المقدسة ، التي تحرر العقول من الأوهام والخرافات ، وتحث على العلم ، الذي يصقل العقول ويهذب النفوس ويفيد الإنسانية ويحارب الإلحاد والوثنية. لقد تحدث الأستاذ أبو ريّة عن الاسم الصحيح لأبي هريرة ، وخرج من بحثه بدون أن يهتدى لاسمه ، بعد ان نقل عن القطب الحلبي أنه اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا ، وان النووي استخلص له اسم عبد الرحمن بن صخر من ثلاثين قولا. ولما لم يجد بين تلك الأقوال التي بلغت أربعة وأربعين على رواية القطب الحلبي ، قولا تطمئن إليه النفس ، لم ير بدأ أن يتحدث عنه بكنيته ، التي اشتهر عنها في كتب الحديث ، والتي كان من أسبابها ، كما تحدث هو عن نفسه ، انه حينما كان يرعى الغنم لأهله كان يصحب هرة ويلاعبها في أكثر أوقاته ، فكني بها لأنها كانت تصحبه أينما ذهب.

كما وانه هو المصدر الوحيد لكل من تحدث عن نشأته وتاريخه قبل ان يدخل الإسلام ، ولم يعرف عنه أحد شيئا ، الا من خلال حديثه عن نفسه.

لقد أخبر عن نفسه انه نشأ فقيرا معدما ، يخدم الناس بطعام بطنه. وكان منذ صباه أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطنه ، يخدمها

أينما ذهبت ويجدو لركبها إذا ركبت. وفي رواية ابن قتيبة : كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وانه أسلم في غزوة خيبر ، بعد ان تخطى الثلاثين من عمره ، وصحب النبي (ص) ليشبع بطنه. كما جاء في حديث رواه احمد والشيخان ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن الأعرج. قال ، سمعت أبا هريرة يقول : اني كنت امرءا مسكينا ، اصحب رسول الله على ملء بطني.

وكان يفضل جعفر بن أبي طالب على جميع الصحابة ، حتى على أخيه علي (ع) ، لأنه كان كثير الإحسان إلى الفقراء ، والإطعام للمساكين. ومن ألقابه المحببة الى نفسه (شيخ المضيرة) وهي نوع خاص من الطعام الذي كان يعده له معاوية ، ومن أطايب طعامه ، وجاء عنه أنه قال : مضيرة معاوية أدسم وأطيب ، والصلاة خلف علي أفضل. وقد مضى الأستاذ أبو ريّة في حديثه عن جشع هذا الشيخ وشرهه ، وأنه لم يكن يتصور من الدنيا إلا ان يشبع بطنه مهما كلفه ذلك من ثمن. وبلغ به الحال أنه قال ، كما نقل عنه الثعالبي : ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخير ، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر (١).

قال الأستاذ أبو ريّة : ولكثرة ما رواه من الأحاديث عن الرسول استخف به الناس وبأحاديثه. فعن ابي رافع : ان رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها ، فقال : يا أبا هريرة ، إنك تكثر الحديث عن رسول الله ، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا ، فقال ، سمعت أبا القاسم يقول : ان رجلا ممن كان قبلكم ، بينما هو يتبختر في

__________________

(١) الاضواء صفحة ١٥٨ نقلا عن خاص الخاص للثعالبي صفحة ١١٢ جلد ٢.

حلة ، إذ خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة ، فوالله ، ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك! (١).

وعلى ما يبدو ان أبا هريرة مستعد لأن يروي عن الرسول كل شيء وأصبح الكذب على رسول الله أيسر عليه من أي شيء آخر ، ولذلك أدناه معاوية إليه وجعله من أقرب المقربين وأوفرهم عطاء ، لأنه وجد عنده موردا خصبا يمكنه ان يستغله لتدعيم ملكه والطعن على علي (ع). بشرط ان يهيئ له معاوية المضيرة ، تلك الأكلة الشهية المحببة الى نفسه. ومعاوية مستعد لها ولأكثر منها من ألوان الطعام وآلاف الدنانير التي كان يغدقها عليه من أموال المسلمين ، حتى تغير حاله من ضيق الى سعة ، ومن فقر الى ثراء ، وأصبح يلبس الخز والساج المزرور بالديباج (٢) ، بعد ان كان يستر جسمه بخرقة بالية ، يجمعها بيده ، ليستر عورته ، والقمل يدب عليها. وبعد ان كان يخر مغشيا عليه في مسجد رسول الله من الجوع ، فيجيء الجائي ، فيضع رجله على عاتقه ويظنه مجنونا ، وما به سوى الجوع (٣) كما أخبر عن نفسه.

لقد نشأ أبو هريرة فقيرا معدما ، يخدم الناس بطعام بطنه ، ولم تتغير حالته حتى بعد دخوله الإسلام. ولم يجد من الخليفتين ، ابي بكر وعمر ، ما كان يصبو اليه من النعيم والثراء. ويدل على ذلك ان عمر بن الخطاب ، لما عزله عن ولاية البحرين ، قال له : هل علمت من حين استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ، وكان ذلك سنة

__________________

(١) الاضواء ص ١٦٢ عن البداية والنهاية.

(٢) كما جاء في طبقات ابن سعد وغيرها من كتب التراجم.

(٣) كما جاء في رواية البخاري ، الاضواء صفحة ١٨٦. وانظر السنة قبل التدوين ترجمه أبي هريرة ص ٤١٣ وما بعدها.

احدى وعشرين للهجرة.

ومن كانت هذه حالته ، ليس من المستغرب عليه ، ان يبتعد عن علي ، الذي كان أكثر طعامه خبز الشعير والخل ، ويميل إلى دولة بني أمية ذات الأطعمة الناعمة والعطاء الجزيل.

إن عليا أحمي حديدة لأخيه عقيل المكفوف وأعطاه إياها ، لما طلب منه أكثر من عطائه ، ليسد جوعه وجوع أولاده. فما ذا يأمل منه أبو هريرة ، وقد رأى منه هذا الصنيع مع أخيه ، أقرب الناس اليه؟ وبالأمس القريب أعطاه سليل أمية (عثمان) عشرة آلاف دينار حينما روى له ان الرسول قال : ستلقون بعدي فتنة واختلافا ، فقال له قائل من الناس ، فمن لنا يا رسول الله. أو ما تأمرنا؟ فقال : عليكم بالأمين وأصحابه ، وهو يشير إلى عثمان (١).

وحينما روى عن الرسول أنه قال : ان أشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ، يعملون بما جاء في الورق المعلق ، يعني بذلك المصاحف التي كتبها عثمان (٢).

لقد اتجه أبو هريرة الى الأمويين على عهد عثمان ، وكان في ذلك مسيرا لما فطر عليه وبرز في حياته منذ صباه ، وكان من أغلى أمانيه ، وهو إشباع بطنه.

واتجه إليه الأمويون ، فكان يعطيه عثمان ويدنيه ، وبعده اعتزل عليا ومال مع معاوية ، ومعاوية كان أحوج له ولأمثاله من عثمان ، فأغدق عليه العطاء ووفر له أسباب النعيم ، وبنى له قصرا في العقيق ، واقطعه

__________________

(١) نقله في الاضواء عن مسند احمد.

(٢) نفس المصدر ، عن البداية والنهاية لابن كثير.

أرضا واسعة في العقيق وذي الحليفة ، وزوجه بسرة بنت غزوان ، أخت الأمير عتبة بن غزوان ، التي كان يخدمها ويحدو لركبها ، أيام عرية وفقره ، بطعام بطنه (١). وقد اخرج عنه ابن سعد انه قال : أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي. فكانت تكلفني أن أركب قائما وأورد حافيا ، فلما كان بعد ذلك ، زوجنيها الله ، فكلفتها ان تركب قائمة وان تورد حافية (٢).

ولم يرو أحد من الرواة ان أبا هريرة حمل السيف مع من حمله من أنصار الأمويين. ويؤيد ذلك ما جاء عن جماعة من المحدثين ان أبا هريرة كان في صفين يصلي أحيانا في جماعة علي (ع) ويأكل في جماعة معاوية ، وإذا حمي الوطيس لحق بالجبل. فإذا سئل ، قال : علي أعلم ومعاوية أدسم والجبل أسلم (٣).

ليس بالبعيد ان يكون معاوية هو الذي أشار عليه ان يعتزل الحرب عند ما يحمي وطيسها ، ويكون على مقربة منها ، ليغري من استطاع من أصحاب علي ، بدسائسه وأحاديثه المكذوبة ، لأن المادة التي وجدها عنده ، لم يجدها مع أحد من اتباعه ، حتى مع ابن العاص ، ساعده الأيمن. ولم يكن في حاجة الى سيفه ، بعد ان وجد من أهل الشام تحمسا واندفاعا لا مثيل له.

ان أنصار معاوية لا يعرفون له منقبة في الإسلام ، ولا فضيلة يتحدث بها الرواة عن الرسول ، في حين انهم يعرفون لخصمه آلاف

__________________

(١) الاضواء ص ١٨٧.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ، طبع بيروت.

(٣) أبو هريرة.

الفضائل والمناقب ، لذا فهو يشعر بأنه في أمس الحاجة لأبي هريرة وأمثاله ، ممن يخلقون الحديث في فضله والطعن على علي وتخذيل الناس عن حقه. ان هذا النوع من السلاح يغنيه عن جهاد العشرات ممن حملوا السلاح واقتحموا المعركة.

ان معاوية يتمنى ان يكون لديه العشرات من أمثال (شيخ المضيرة) ، ليضعوا له من الأحاديث عن الرسول في الثناء عليه والطعن في علي (ع) ومهما كان الثمن فهو سخي في بذله.

لهذه الأسباب كان الأمويون يقربون إليهم هذا الشيخ وأمثاله ، ويجزلون له العطاء. وكان هو يضع لهم من الحديث ما يريدون.

وروى عنه الخطيب أنه قال : ناول رسول الله (ص) معاوية سهما وقال له : خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة.

وروى عنه ابن عساكر وابن عدي والخطيب والبغدادي أنه قال : سمعت رسول الله يقول : ان الله ائتمن على وحيه ثلاثة : انا وجبريل ومعاوية (١).

ونظر يوما إلى عائشة بنت طلحة فقال : سبحان الله ، ما أحسن ما غذاك أهلك والله ما رأيت وجها أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله (٢).

وروى الأعمش عنه ان أبا هريرة لما قدم مع معاوية العراق ، عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس ، جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق ،

__________________

(١) الاضواء ص ١٨٩ ـ عن البداية والنهاية لابن كثير.

(٢) العقد الفريد ص ١٠٩ ج ٦.

أتزعمون اني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار؟! والله لقد سمعت رسول الله يقول : لكل نبي حرما وان حرمي بالمدينة ما بين عير الى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها. ولما بلغ معاوية قوله ، أجازه وأكرمه وولاه امارة المدينة (١).

وقد ذكر الأستاذ أبو ريّة ، بعنوان تشيّع أبي هريرة لبني أميّة انه لم يصاحب النبي الا على ملء بطنه ، كما ذكر هو مرارا عن نفسه. وانه قد اتخذ الصفة ملاذا لفقرة ، يأكل فيها كما يأكل سائر أهلها ، ويأكل عند النبي وأصحابه. ومن كان هذا شأنه لا يكون ولا جرم الا مهينا لا شأن له ولا خطر. وقد ظل على هذه المهانة زمن النبي (ص) وأبي بكر وعمر. ثم أخذ يظهر في زمن عثمان ، بعد انزوائه ، ويبدو للناس بعد خفائه.

ولما شبت نار الحرب بين علي ومعاوية ـ وان شئت فقل لما انبعث الصراع بين الأموية والهاشمية ، بعد ان توارى ، فرقا من القوة ، في زمن النبي وخليفتيه ابي بكر وعمر ، وانقسم المسلمون فرقا ـ اتجه أبو هريرة إلى الناحية التي يميل إليها طبعه وتتفق مع هوى نفسه ، وهي ناحية معاوية ، إذ كانت تملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لم تملك ناحية علي (ع) التي ليس فيها الا الفقر والجوع والزهد.

وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش عيشته ان يتنكب الطريق التي تؤدي الى علي ، وان يتخذ سبيله إلى معاوية ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ص ٣٥٨ ـ ج ١.

(٢) الاضواء ص ١٨٥.

واستطرد الأستاذ أبو ريّة في حديثه عن أبي هريرة ، مستعرضا اساليبه في نقل الحديث عن الرسول ليغري بها أهل الشام وغيرهم من الأقطار الإسلامية ، وفاء منه لموائد معاوية ، التي حوت أطايب الطعام ، وعطاياه السنية ، التي أصبح بواسطتها من الأثرياء.

وبعد ان استعرض أبو ريّة المراحل التي مرّ بها أبو هريرة ، وموقفه الأخير من الدولة الأموية وقسما وافرا من أحاديثه ، التي رواها المحدثون من أهل السنة عنه في الأصول والفروع ، وفي الأمويين وغيرهم. بعد ان استعرض جميع ذلك ، وكشف للقارئ عن واقع أبي هريرة ، بكل تجرد وإخلاص ، للدين والعلم والحق ـ قال : وما بيناه من تاريخ أبي هريرة ، لقد سقناه على حقيقته ، وأظهرنا شخصيته كما خلقها الله. ولم نأت فيها بشيء من عند أنفسنا ، بل أتينا بالروايات الصحيحة فيها ، ورجعنا الى مصادر ثابتة ، لا يرقى إليها الشك ، ولا يدنو منها الريب.

على اننا قد طوينا كثيرا مما أثبته التاريخ الصحيح ، لأن شيوخ الدين عندنا لا يزالون يخشون سطوة الحق ، ولا يحتملون قوة البرهان.

ومع ان جميع ما جاء في حديث الأستاذ محمود أبو ريّة ، عن أبي هريرة ، يمليه الواقع وتؤيده الأرقام والحوادث ، فأكثر الشيوخ ما زالوا يقدسونه ، ويثبتون أكثر رواياته عن الرسول ، لأنه من الصحابة بزعمهم ، وكل صحابي عادل.

وإذا جاءت الرواية عن غيره من رواة الشيعة الإمامية ، لا بد من طرحها ، لأن راويها يتشيع لأهل البيت (١). فالتشيع جريمة توجب

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ، في مقام تضعيف الروايات التي تنص على القائم ، وقد ضعف قسما منها لمجرد ان رواتها من الشيعة ، أو متهمون بالتشيع. ص ٢١٩ وما بعدها ، الى ٢٢٩.

الفسق ، وصحبة الرسول ، ولو أياما قليلة ، تحول بين الإنسان وجميع المعاصي (١). فكأنه لم يكن في الصحابة منافقون ، ولم يرتكب أحدهم صغيرة ولا كبيرة ، ولا ارتد أحد منهم بعد موت الرسول ، ولا غير أحد منهم من سنته وسيرته شيئا ، وكأنه لم يكن شيء مما أجمعت عليه كتب التاريخ الصحيحة.

قال الشيخ محمد الخضري في حديثه عن أبي هريرة ، متجاهلا تلك الحقائق ، التي حملتها كتب التاريخ والحديث والرجال : ان أبا هريرة ، لازم الرسول ، حتى لحق بربه ، وكان من أوعية العلم ، ومن كبار ائمة الفتوى ، مع الجلالة في العبادة والتواضع ، وكان من احفظ الصحابة. وان ابن عمر قال له : كنت لا لزمنا برسول الله واعملنا بحديثه (٢).

وقال هو عن نفسه : رب كيس عند أبي هريرة من العلم لم يفتحه ، وكان يقول : حفظت من رسول الله (ص) دعاءين ، أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ، وجاء عنه انه قال : لو أنبأتكم بكل ما أعلم لرماني الناس بالخرف ، وقالوا : أبو هريرة مجنون (٣).

وقال محمد عجاج الخطيب : ومن هنا يتأكد أن الدعاء الثاني لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ، ولا بالآداب والأخلاق ، ويرجح أن يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة ، أو بعض ما يقع للأمة من فتن ، ومن

__________________

(١) الاضواء على السنة. قال : لقد اعتبروهم جميعا عدولا ، لا يجوز عليهم نقد ولا يتجه إليهم تجريح ص ٣١٠.

(٢) تاريخ التشريع الإسلام ص ١٥٠.

(٣) السنة قبل التدوين ص ٤٢٦ عن طبقات بن سعد ، وفتح الباري وحلية الأولياء.

يلونها من أمراء السوء ، وأضاف الى ذلك : أن أبا هريرة كان يكني عن بعض ذلك ولا يصرح به خوفا على نفسه ممن يسيئه ما يقوله ، كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وامارة الصبيان.

والذي يبعث على الاستغراب ان هؤلاء بينما يؤكدون بأن أبا هريرة اسلم قبل وفاة الرسول بثلاثة أعوام ، وأنه كان معدما يهمه أكثر من أي شيء أن يملأ بطنه يروون بأنه حفظ دعاءين من علم الرسول ، ولم يحدث بالدعاء الثاني خوفا على نفسه ، فكأن الرسول (ص) لم يجد بين المسلمين من يأتمنهم على تلك المغيبات التي اختصه بها الله سبحانه مع العلم بأن فيهم من رافقه منذ أن بعثه الله الى ان اختاره اليه وكان اقرب الى قلبه من جميع الناس.

فأبو هريرة لازم الرسول ، حتى لحق بربه ، وكان من كبار أئمة الفتوى ، كما يزعم الشيخ الخضري ، مع انه اسلم في السنة السابعة من هجرة الرسول ، اي قبل وفاة الرسول بثلاث سنين. ومع ذلك عنده دعاء ان من العلم بث احدهما وخاف ان تضل الأمة ان هو بث الآخر. ولم ينقل احد من الرواة ان اسلامه سبق هذا التاريخ. ولم يكن له اي شأن ، في زمن النبي ولا في عهد الخليفتين ابي بكر وعمر ، ولم يقبل احد حديثه الا في عهد عثمان. وكان كل همه في الأيام التي ادرك فيها الرسول ان يشبع بطنه ، كما اخبر عن نفسه. وبعد وفاة الرسول ، قال عنه جماعة من اعيان الصحابة انه اكذب الناس ، وضربه عمر بدرته وهدده بالنفي الى الأراضي التي كان يرعى فيها الغنم قبل اسلامه (١).

لقد اعطاه الخضري هذه الأوصاف والألقاب ، ولم يعط مثلها لأحد

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي ، واضواء على السنة المحمدية.

من صحابة الرسول الذين رافقوه منذ اليوم الأول لدعوته. حتى لعلي (ع) الذي صحبه قبل ان يبلغ الحلم ولم يفارقه في جميع حالاته. مع العلم بأن الخضري لا يجهل سيرته مع معاوية وتخذيله الناس عن الخليفة الشرعي. وانه دسّ في احاديث الرسول آلاف الأحاديث ، بقصد الدس على الاسلام ، والتشويه لمعالم السنة الكريمة. بالاضافة الى تلك الطائفة من الأحاديث ، التي وضعها لمصلحة معاوية ، لقاء طعامه الطيب وعطائه الجزيل.

ولا يعنينا ان نتوسع في هذه النواحي اكثر من ذلك. والذي اردناه بما سقناه من الأمثلة والشواهد التاريخية وكلمات المحدثين ، عن المصادر الموثوق بها ان المنع من تدوين الحديث ، بعد وفاة الرسول ، سهل لهؤلاء طريق الدس في الحديث والتلاعب في الأحكام والكذب على الرسول. ولولاه لم يكن لكعب الأحبار وأبي هريرة ، وأمثالهما من المرتزقة ، مجال لإدخال تلك الأحاديث في السنة الصحيحة ، ولما كان هذا الخلاف الواسع بين علماء المسلمين في الحديث والفقه ، ولما استطاع ابن أبي العوجا أن يدس اربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحلل الحرام.

قال الأستاذ أبو ريّة : ولو ان الصحابة كانوا قد عنوا بتدوين الحديث ، كما عنوا بتدوين القرآن ، لجاءت احاديث الرسول كلها متواترة ، في لفظها ومعناها ، ليس شيء فيها اسمه صحيح ولا شيء اسمه حسن ، ولا شيء اسمه ضعيف ، مما لم يكن معروفا زمن النبي وصحابته. وبذلك كان يذهب الخلاف في حقيقته ، وينحط عن كاهل العلماء اعباء البحث عن صحته ، ووضع المؤلفات الكثيرة ، التي وضعت في علوم الحديث وبيان احوال الرواة ، من حيث العدالة

والضبط والجرح والتعديل ، وغير ذلك ، وكان فقهاء الدين ، يسيرون على نهج واحد ، لا اختلاف بينهم فيه ولا تباين ، اذ تكون ادلتهم كلها متواترة ، فلا يأخذون بما سموه الظن الغالب ، الذي فتح ابواب الخلاف ومزق حقوق الأمة ، وجعلها مذاهب وفرقا ، مما لا يزال اثره الى اليوم ، وسيبقى الى ما بعد اليوم.

ونعود الى ما ذكرناه سابقا أن الخليفة لو ارجع الناس الى علي (ع) الذي قال فيه ابن حنبل والنسائي والنيسابوري وغيرهم : لم يرد في حق احد من الصحابة بالأسانيد الجياد ، أكثر مما جاء فيه. وقال فيه الجاحظ : لا يعلم رجل في الأرض ـ متى ذكر السبق في الاسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، كان مذكورا في هذه الخلال كلها الا علي رضي الله عنه وأرضاه. والذي قال فيه احمد بن حنبل : ما بلغنا عن أحد من الصحابة ، ما بلغنا عن علي (ع). والذي عاش مع الرسول رشيدا أكثر من ثلث قرن تقريبا ، لم يفارقه ، لا في سفر ولا في حضر ، إلا في غزوة تبوك. ولما عزّ عليه أن يفوته أجر الجهاد مع الرسول في تلك الغزوة ، قال له الرسول : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لا نبي بعدي».

لو أرجعهم اليه وكلفه بجمع الحديث وتدوينه ، لارتج باب الكذب في الحديث ونهج الفقهاء والرواة منهجا واحدا ، لا اختلاف فيه ولا تباين.

دور التشيع في الفقه الاسلامي بعد وفاة الرسول (ص):

لقد تبيّن مما سبق أن دور التشيّع في التشريع الاسلامي ، في الفترة التي تقع بعد وفاة الرسول (ص) كان بارزا في عهد الصحابة. فقد

دوّن علي (ع) الفقه والحديث ، فجمعهما في حياة الرسول وبعدها ، في كتب خاصة. حتى أن من ادعى بأن نشاط المسلمين في هذه الناحية ، قد اقتصر على الإفتاء ونقل الأحاديث لا غير ، بسبب ما ارتآه الخليفة من عدم تدوين الفقه والحديث ، قد اعترف بأن عليا كانت له صحيفة جمعت قسما من أبواب الحلال والحرام ، دونها بخط يده.

كما وأن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ، من طريق أهل البيت عليهم‌السلام ، التي رواها المحدثون من الشيعة ، تنص على أنه كتب كتابا في القضاء ، وكتابا في الفرائض ، وكتابا في الفقه كله. وبعض هذه الكتب كان باملاء رسول الله (ص). وكان هو وشيعته يفتون أحيانا بما فيها من أحكام الإسلام. وبعد وفاته بقيت عند بنيه. ولم يكن باستطاعتهم في ذلك الدور القاسي على أهل البيت وشيعتهم ، ان يجاهروا بآرائهم وبما حملته من أحكام الإسلام ، ولا أن يتصدروا للقضاء والإفتاء بين الناس. ولما جاء دور الإمامين الباقر وولده الصادق عليهما‌السلام ، وتهيأ لهما أن يقوما بنشر رسالة جدهما الرسول الأعظم ، بما حوته تلك الكتب ، من أبواب الفقه وأنواع الحلال والحرام ، شاع أمرها بين الشيعة ، ومن تخرج من مدرستهما في الحجاز والعراق ، وسائر الأقطار الإسلامية ، ورآها جماعة من أعيان أصحابهما.

ولم يكن أثر التشيع في التشريع الإسلامي مقصورا على التدوين والتأليف ، بل كان بارزا في القضاء وافتاء الناس. فلقد برز علي (ع) على غيره من صحابة الرسول ، وكان قوله الفصل اذا تعقدت الأمور ، وتباينت الآراء ، ولم يستطع أحد أن يصرف الأنظار عنه أو يحد من نشاطه في الإفتاء والقضاء. حتى أن من كانت بيدهم السلطة لم يجدوا بدا من الرجوع الى رأيه ، في اكثر المشاكل ، التي كانت تعترضهم.

وقال عمر بن الخطاب ، مخاطبا اولئك الذين تصدروا للافتاء في مسجد الرسول : «لا يفتينّ أحدكم في المسجد وعليّ حاضر».

ولأكثر من مناسبة قال : «لا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن ، ولو لا علي لهلك عمر».

ولم يكن عمر بن الخطاب مجاملا لعلي (ع) ، حينما قال هذه الكلمات ، ولكنه الواقع الذي أحسه هو وجميع المسلمين ، فرض عليه ان ينطق بها. ولأنه لم يجد بين صحابة الرسول غيره إذا تعقدت الأمور عليه ، وإذا استطاع أخصامه ان يصرفوا الخلافة عنه ، بحجة ان النبي لم ينص عليه كما يزعمون ، فلن يستطيعوا ان يصرفوا الأنظار عن علمه وفقهه ، ولا ان يحدوا من نشاطه في الافتاء والقضاء.

والمسلمون بعد وفاة الرسول ، أحوج ما يكونون اليه ، من أي زمان مضى ، لإنه لسان الرسول وترجمان القرآن ، وباب مدينة العلم. وجميع الصحابة يعلمون بأن الرسول لم يثن على أحد من أصحابه ، بمثل ما اثنى به عليه ، كما قال ابن حنبل والنسائي والنيسابوري وغيرهم من المحدثين.

ومهما تكن الدوافع التي من أجلها نطق الخليفة بهذه الكلمات ، فهي تعبير صادق عن جهاد علي المتواصل في بناء هذا الدين ونشر تعاليمه ، معتمدا في ذلك على كتاب الله وسنّة رسوله.

ولا بد لنا من عرض موجز لبعض آرائه وآراء غيره من الشيعة ، في الفترة الأولى من تاريخ الإسلام ، بعد وفاة الرسول (ص).

قال في تذكرة الخواص ، عن احمد بن حنبل ، في فضائله ، بسنده عن ابي ظبيان : ان عمر بن الخطاب اتى بامرأة قد زنت فأمر برجمها. ولما

عرف علي حالها امرهم بإخلاء سبيلها ، وقال للخليفة : انها معتوهة آل فلان ، وقد قال رسول الله (ص) : رفع العلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يحتلم ، والمجنون حتى يفيق (١). واتي بإمرأة أخرى وضعت حملها لستة أشهر من تاريخ زواجها فأمر عمر بن الخطاب برجمها ، فأنكر عليه علي حكمه وارجعه الى كتاب الله الكريم حيث يقول : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ويقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.) يتبين من هاتين الآيتين أن أقل الحمل ستة أشهر ، بعد استثناء مدة الرضاع ، التي نصت عليها الآية الأولى. فقال عمر بن الخطاب : «اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن ابي طالب».

وفي الارشاد (٢) : ان رجلا رفع إلى أبي بكر ، وقد شرب الخمر ، ولما أراد أن يقيم عليه الحدّ ادعى أنه لم يعلم بتحريمها ، لأنه نشأ بين قوم يستحلونها فارتج على أبي بكر ، ولم يعلم وجه القضاء في ذلك ، فأشار عليه جلساؤه ان يستعلم الحكم في مثل ذلك من علي (ع). فارسل اليه من سأله عنه ، فقال : يطوف به رجلان من المسلمين على مجالس المهاجرين والأنصار ، فإن تبيّن ان أحدا تلا عليه آية التحريم او اخبره بحرمتها ، اقيم عليه الحدّ ، وان لم يتبين ذلك ، فلا شيء عليه فاستصوب الخليفة رأي علي (ع) وارسله مع رجلين من ثقاة المسلمين الى مجالس المهاجرين والأنصار فلم يشهد احد أنه تلا عليه الآية ، أو أخبره بتحريمها ، فاستتابه أبو بكر وخلّى سبيله.

وقد سئل ابو بكر عن الكلالة ، التي ورد ذكرها في آية المواريث ،

__________________

(١) النص والاجتهاد ، عن البخاري في صحيحه ، الجزء الرابع ص ١٧٧.

(٢) للشيخ المفيد.

فقال : أقول فيها برأيي ، فإن اصبت فمن الله وان اخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. ولما بلغ عليا (ع) قوله ، قال : «ما أغناه عن الرأي في هذا المكان ، اما علم ان الكلالة هم الاخوة والأخوات من قبل الأب والأم ، ومن قبل الأب على انفراده ، ومن قبل الأم وحدها؟» قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ.) وقال عز من قائل : «وان كان رجل يورث كلالة او امرأة وله أخ أو اخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا اكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث» (١). وذكر في الارشاد ان قدامة بن مظعون شرب الخمر ، فلما أراد عمر بن الخطاب ان يقيم عليه الحد ، احتج عليه بالآية الكريمة : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ،) فامتنع من اقامة الحد عليه. ولما بلغ ذلك عليا (ع) قال له : لم تركت اقامة الحدّ على قدامة ، وقد شرب الخمر؟ فقال : لأن الآية تنص على ان المؤمنين ليس عليهم جناح فيما طعموا ، إذا اتقوا وعملوا الصالحات. فقال : ان الذين اتقوا وعملوا الصالحات ، لا يستحلون حراما ، فاردد قدامة واستتبه ، فان تاب فأقم عليه الحد ، وإن لم يتب فاقتله ، فقد خرج عن الملة. ولما عرف قدامة ان الاسلام لا يعفيه من العقوبة ، أظهر توبته ، وجلده ثمانين جلدة ، بعد ان أخبره علي بمقدار هذه العقوبة ، وكان ابو بكر يرى أنها أربعون جلدة (٢).

وقد زنت امرأة حامل ، فأمر عمر بن الخطاب برجمها ، فقال له علي (ع) : هب ان لك عليها سبيلا ، فأي سبيل لك على ما في

__________________

(١) الارشاد المفيد.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي ص ٧٣.

بطنها ، والله سبحانه يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.)

فقال عمر : «لا عشت لمعضلة لا يكون لها ابو الحسن». ولما استشاره في أمرها ، قال : احتفظ بها حتى تلد ، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد (١).

وجاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب وأقرت على نفسها بالزنا ، فأمر برجمها فاستمهله علي (ع) لعل لها عذرا يدرأ عنها الحد. فقال لها : ما حملك على الزنى؟ قالت : كان لي خليط ، وفي ابله ماء ولبن ، ولم يكن في ابلي شيء من ذلك ، فظمئت فاستسقيته ، فأبى ان يسقيني حتى اعطيه نفسي ، فأبيت عليه ثلاثا. ولما ظمئت وظننت ان نفسي ستخرج ، أعطيته الذي أراد ، فسقاني. فقال علي ، الله اكبر! «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم» (٢).

وجيء إليه بامرأة أخرى قد زنت ، فأقرت لديه بذلك ، وكررت اقرارها وايدت ما فعلته من فجورها. وكان علي (ع) حاضرا ، فقال : انها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام ، فدرأ الحد عنها ، عملا بالحديث : «الحدود تدرأ بالشبهات» (٣).

وروى سعيد بن المسيب ان رجلا من أهل الشام يقال له ابن جبيري وجد مع امرأته رجلا فقتلهما ، فأشكل على معاوية القضاء

__________________

(١) الارشاد للمفيد ، والنص والاجتهاد للعلامة المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين عن الحاكم في الجزء الرابع من مستدركه وعن الذهبي في التلخيص.

(٢) النص والاجتهاد ، عن ابن القيم في كتابه : الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية.

(٣) نفس المصدر.

فيه ، فكتب الى ابي موسى الأشعري ان يسأل علي بن أبي طالب عن ذلك ، فسأل أبو موسى عليا (ع) فقال له : ان هذا الشيء ما هو بأرضي ، عزمت عليك لتخبرني ، فقال له ابو موسى : كتب إلي معاوية ان أسألك عن ذلك ، فقال علي : أنا ابو حسن ، ان لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته (١).

ولما افتى عمر بن الخطاب بأن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها ، تنتهي بوضع الحمل ، وسئل علي (ع) عن ذلك اجاب : ان عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل. ومضي أربعة أشهر وعشرة أيام ، عملا بعموم الآية الكريمة (٢) : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وكان يرى ان الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، يقع طلاقا واحدا ، وقد أمضاه عمر بن الخطاب ثلاثا ، وجعله موجبا لتحريم الزوجة حتى تنكح زوجا غيره ومع اعترافه بأن الرسول (ص) اعتبره طلقة واحدة ، امضاه ثلاثا ، إلزاما للزوج بما ألزم به نفسه (٣).

وكتب يعلى بن امية ، وكان واليا لعمر بن الخطاب على اليمن : ان امرأة قتلت هي وخليلها ابن زوجها ، فهل القصاص على الاثنين او على أحدهما؟ فتوقف عن الجواب واستشار عليا في حكم هذا الحادث وامثاله ، فقال : أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور ، فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم؟ قال نعم! فقال علي (ع) :

__________________

(١) موطأ مالك ص ٢١٢.

(٢) النص والاجتهاد عن الزمخشري في تفسير الآية ، وفي تاريخ التشريع الاسلامي للخضري.

(٣) نفس المصدر.

وكذلك الحال هنا. ونتيجة لذلك ، كتب عمر بن الخطاب في جواب السائل : اقتلهما معا ، فلو اشترك اهل صنعاء كلهم لقتلتهم (١).

قال الشهيد الثاني : إذا قتل الجماعة واحدا قتلوا به ، وهو قول اكثر العامة ، ومذهب الأصحاب : ان الولي إذا اختار الدية فتوزع على القاتلين ، وان اختار القصاص فله قتل الجميع ، ومستندهم في ذلك الأخبار الكثيرة. منها رواية الفضيل بن يسار ، قال : قلت لأبي جعفر (ع) : عشرة قتلوا رجلا ، فقال : ان شاء أولياؤه قتلوهم جميعا ، وغرموا تسع ديات. وهذه الديات التسع التي يغرمها أولياء المقتول توزع على أولياء المقتولين العشرة (٢)..

وقد افتى علي (ع) بأن شارب الخمر يجلد ثمانين جلدة ، ففي موطأ مالك ان عمر بن الخطاب استشار عليا في حدّ شارب الخمر ، فقال : ارى ان تجلده ثمانين جلدة ، فجلده عمر ثمانين.

وفي تاريخ الفقه الاسلامي ، ان عمر بن الخطاب قد اتبع تعليل علي بن ابي طالب ، فجعلها ثمانين جلدة ، بقيت مشروعة حتى اليوم ، اذ قبل ذلك الصحابة في ذاك العهد ، وصار شرعا لنا دائما (٣).

وفي المسالك ان عمر بن الخطاب ، بعد أن استشار عليا في حد شارب الخمر ، أشار عليه ان يضربه ثمانين وبأنه إذا شرب سكر وإذا

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي ص ٧٦ والنص والاجتهاد ص ٢١١ عن فجر الاسلام ، نقلا عن اعلام الموقعين.

(٢) مسالك الأحكام للشهيد الثاني.

(٣) تاريخ الفقه الاسلامي ، للدكتور محمد يوسف ، وفيه عن الروض النضير ان عثمان في أيام خلافته ، نقض ما اتفق عليه المسلمون على عهد عمر بن الخطاب ، وجلده اربعين جلدة ،

سكر يهذي وإذا هذى افترى ، فجلده عمر ثمانين وعمل به اكثر العامة. وقال بعضهم بأربعين ، ونقل اتفاق الإمامية على الثمانين.

وفي تاريخ الفقه الإسلامي ، ما ملخصه ، ان عمر بن الخطاب وجماعة من اعيان الصحابة قد التبس عليهم الأمر في ميراث الجد مع الأخوة اذا ترك الميت جده واخوته ، فاستشاروا عليا وزيد بن ثابت في ذلك ، فأفتى علي بأن الجد يشارك الأخوة في هذه الحالة. وقد ضرب له مثلا على ذلك ليرفع ما في نفسه من الحيرة والتردد ، بسيل سال ، فانشعبت منه شعبة ، ثم انشعبت منه شعبتان ، ثم قال : «أرأيت لو ان ماء هذه الشعبة الوسطى رجع ، اليس الى الشعبتين جميعا؟» ووافقه على ذلك زيد بن ثابت ، بعد أن كان يرى ان الجد لا يزال معهم ، فانتهى عمر بن الخطاب الى رأيه ، وجعل الجد والأخوة في مرتبة واحدة ، وعمل بذلك المسلمون. وارتضاه الشافعية والمالكية والحنابلة ، أما الأحناف فيرون أن الجد بمنزلة الأب ، يحجب الأخوة عن الميراث ، وذلك رأي أبي بكر وبعض الصحابة (١).

وكان عمر بن الخطاب يتأسف ، وهو على المنبر ، لأن رسول الله (ص) فارق المسلمين ، ولم يعهد اليهم عهدا ينتهون إليه في امور ثلاثة : الكلالة والجد وأبواب من الربا ، ونقل له الباحثون في التشريع الاسلامي بعض الآراء المخالفة لما عليه اهل البيت وشيعتهم. منها انه كان يرى ان ضالة الإبل وغيرها من انواع الحيوان الذي لا يخاف عليه من السباع ، يجب التقاطها والاحتفاظ بها حتى يظهر صاحبها. ويذهب اهل البيت في مثل هذا النوع من الضالة ، عدم جواز اخذها ، بل تترك وشأنها ، إذا كانت في

__________________

(١) صفحة ٦٠ و ٦١ من تاريخ الفقه للدكتور محمد يوسف.

كلأ وماء ، ومن أخذها يكون ضامنا لتلفها ونتاجها. ويتفق رأيهم فيها مع الحديث المروي عن الرسول حيث قال : في جواب من سأله عن حكم اللقيطة. اما ضالة الإبل ما لك ولها ، معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء والشجر حتى يلقاها ربها (١).

ولعل ما نقل عنه (ع) في ذلك ، فيما إذا كانت الضالة في معرض التلف ، او كانت في محل لا ماء فيه ولا كلاء. ومذهب الشيعة في مثل ذلك وجوب حفظها.

ومنها انه كان يرى تضمين الأجير والصباغ والصانع ، اذا تلفت العين عندهم. وروى البيهقي جملة من الآثار التي تثبت انه كان يضمن الأجير ما يتلف تحت يده ، وانه يقول : «لا يصلح الناس إلا ذلك» (٢).

ويروي البيهقي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، انه كان يضمن الصياغ والصانع. ومذهب اهل البيت في ذلك ان العين التي بيد الأجير امانة غير مضمونة إلا بالتعدي او التفريط بها ، وذلك فيما اذا تلفت بسبب لا يرجع اليه. أما إذا اتلفها الأجير فإنه يكون ضامنا لها ، سواء قصد اتلافها او لم يقصد ، وسواء كان ماهرا في صنعته او لم يكن. وكذا الحال في كل من اجر نفسه لعمل في مال المستأجر ، فإن تلف بسبب لا يرجع اليه ، لا يكون ضامنا له ، عملا بالنص القائل : «لا ضمان على مؤتمن». وان تلف بسببه او فعله ، كان ضامنا له ، قصد ذلك او لم يقصد. والمبدأ العام المتبع في مثل ذلك :

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٨٦).

(٢) نفس المصدر.

«من اتلف مال غيره فهو له ضامن» (١).

والحكم بالضمان المنسوب الى علي (ع) ، يمكن ان يكون في مورد التعدي ، من الصباغ والصانع والأجير ، او التفريط والتهاون. ويؤيد ذلك ما روي عنه انه قال : «لا يصلح الناس إلا ذلك». وهي ظاهرة بأن تضمين الأجير لما يتلف في يده ، عقوبة له يقصد بها اصلاحه ، ليكون حريصا على ما تحت يده فلا يتعدى عليه او يفرط فيه. كما يمكن ان يكون حكمه بالضمان مقصورا على صورة ما اذا اتلفه في اثناء العمل الذي استؤجر عليه. ومنها انه كان يرى فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها ، ان له ان يتزوج بها بعد التفريق بينهم ان شاء ، اذا استكملت عدتها من الأول ، واعتدت منه عدة مستقلة ، كما روى عنه ذلك ابراهيم النخعي. وكان عمر بن الخطاب يرى حرمتها عليه ابدا (٢).

ومذهب اهل البيت في هذه المسألة ، انه اذا كان عالما بالحكم والموضوع لا تحل له ابدا ، دخل بها او لم يدخل ، وان كان جاهلا بهما أو بأحدهما ، وعقد عليها ولم يدخل بها يبطل العقد. وبعد ان تستكمل عدتها ، له ان يتزوجها بعقد جديد. اما اذا دخل بها في هذه الصورة حرمت عليه ايضا. وقد نصت على ذلك الاخبار الصحيحة المروية عنهم. فقد روى زرارة وداود ابن سرحان عن الصادق (ع) انه قال : «الذي يتزوج المرأة في عدتها ، وهو يعلم لا تحل له ابدا».

وروى محمد بن مسلم عن ابي جعفر الباقر (ع) : اذا تزوج الرجل

__________________

(١) وسيلة النجاة للمرحوم السيد أبو الحسن ، كتاب الأجرة.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٩٠).

امرأة في عدتها ، يفرق بينهما ، وان كان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا تحل له ابدا ، وان لم يدخل بها فلا شيء لها من المهر.

واذا صحت النسبة الى علي (ع) فلا بد أن يكون حكمه بأن له ان يتزوجها بعد ان تستكمل عدتها ، فيما اذا كان جاهلا بالحرمة ، او بأصل العدة ، ولم يكن قد دخل بها. ويؤيد ذلك أن الرأي المنسوب الى علي (ع) كان في حادثة وقعت على عهد عمر بن الخطاب وهي ان (طليحة الأسدية) كانت متزوجة برشيد الثقفي ، فلما طلقها تزوجها رجل قبل ان تستكمل عدتها ، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات وفرق بينهما (١).

وليس فيها ما يشير الى دخوله بها او علمهما بالحكم والموضوع. وليس ببعيد جهلهما في هذا الحكم وامثاله ، مما لم تكثر الحاجة اليه ، لا سيما والمسلمون في بداية عهدهم بتعاليم الاسلام واحكامه.

ومهما كان الحال فهو اعلم بما يفتي وبما يحكم ، ولم يكن احد من المسلمين يماري في احكامه ويتردد بها ، لأنهم يعلمون مقدار صلته بالرسول ، وانه كان يؤثره على كل اصحابه ، ولم يفارقه في سفر ولا حضر ، إلا في غزوة تبوك. وبهذه المناسبة قال له : «اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي» كما روى ذلك الترمذي والبخاري وغيرهما من محدثي اهل السنّة.

وقد ذكر جميع المحدثين آراءه في الفقه والحديث. وليس بوسعنا ان نستقصي جميع ما ذكروه ، ولكن المتتبع للآثار الاسلامية ومخلفات

__________________

(١) الجزء الثاني من تنوير الحوالك على موطأ مالك (ص ٧٠).

الصحابة يراه من اكبر المشرعين بعد الرسول ، واعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله.

وقد عدّه الدكتور محمد يوسف في كتابه تاريخ الفقه الاسلامي من شيوخ التشريع واعلامه ، مع جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابو موسى الأشعري وغيرهم (١) ومع انه يدعي التحرر في ابحاثه والانطلاق من مخلفات العصور الماضية التي سخرت الأفكار والأقلام لمصالح الحكام واهوائهم ، يبدو في بعض الأحيان مسيّرا في فكره وقلمه لتلك المخالفات ، التي فرضتها السياسة ، فقد ذكره في عداد عبد الله وابي موسى الأشعري وغيرهما. مع ان عمر بن الخطاب نفسه كان يكرر : «لو لا علي لهلك عمر ، ولا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن» ، ولا يبيح لأحد من فقهاء الصحابة ان يفتي في مجلس فيه علي (ع) : «لا يفتين احدكم وعلي حاضر».

وهو الذي قال في ولده عبد الله ، حينما اشار عليه بعض المسلمين ان يستخلفه : «كيف اولي امر المسلمين من لا يحسن طلاق زوجته؟!» (٢) ومن لا يحسن امر الطلاق ، بشهادة والده فيه ، هل يجوز لمن يدعي التحرر في ابحاثه والتمرد على مخلفات الماضين ، ان يجعله الى جانب علي (ع) في التشريع الإسلامي؟! وفي طبقات ابن سعد : «أنه كان جيد الحديث ، غير جيد الفقه».

ومهما يكن الحال فالذي اردناه من ايراد هذه النبذة اليسيرة من أقضيته وفتاويه ، ان دور التشيع في الفقه الاسلامي كان بارزا منذ الأيام

__________________

(١) صفحة ٤٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي المجلد الثاني (ص ١٣٨) وشرح النهج المجلد الأول (ص ٦٤).

الأولى لوفاة الرسول (ص). وقد قام شيعة علي بنصيبهم في ذلك ، فساهموا في حفظ هذا التراث الإسلامي ، بنقل الحديث ونشر الأحكام. وذكرنا فيما سبق ان ابا رافع ، مولى رسول الله ، لازم عليا بعد وفاة الرسول وشهد معه حروبه وان ابنيه عبيد الله وعليا كان يكتبان لعلي (ع) أيام خلافته. وقد الف ابو رافع كتاب السنن والأحكام وكتاب القضايا وهو اول من جمع الحديث من الشيعة والف في الأحكام ، وكان يفتي الناس ويعلمهم الحلال والحرام.

ومنهم سلمان الفارسي ، وكان من اعيان الشيعة وأجلاء الصحابة وحواري الرسول ، وقد بلغت صلته بالرسول وايمانه به الى حدّ قال فيه الرسول : «سلمان منا اهل البيت». وأعطاه الرسول لقب المحمدي ، بدل الفارسي ، وبعد الرسول لازم عليا وأخذ العلم عنه. وروى الفضل بن يسار ، عن أبي جعفر الباقر انه قال له : ترى ما يروي الناس ، أن عليا (ع) قال في سلمان انه ادرك علم الأول وعلم الآخر ، قلت نعم! قال : فهل تدري ما عنى؟ قلت : يعني علم بني اسرائيل وعلم النبي. فقال ليس هكذا يعني ، ولكن علم النبي وعلم علي (ع) وأمر النبي وأمر علي (١).

وقد نهى سلمان الفارسي أبا الدرداء أن يجهد نفسه في العبادة ، وقال له : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، صم يوما وافطر يوما ، وصل ونم وادّ لجسمك حقه. ولما بلغ قوله الرسول (ص) قال : لقد اشبع سلمان علما جما (٢).

__________________

(١) رجال الكشي (ص ١١).

(٢) المجلد الرابع من طبقات ابن سعد (ص ٨٥).

وقال فيه علي (ع) : ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ، علم العلم الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحرا لا ينزف؟ (١).

وقال فيه الفضل بن شاذان : ما نشأ في الإسلام رجل من كافة الناس كان أفقه من سلمان الفارسي (٢).

وقد ولاه عمر بن الخطاب على المدائن ، ولم تكن مهمة الوالي مقصورة على الشؤون الإدارية والسياسية فحسب ، بل كان بالإضافة الى هاتين يتولى أكثر الشؤون الدينية كالإفتاء وتعليم الأحكام ، لا سيما اذا كان الولاة كسلمان الذي جاء في احاديث الرسول (ص) عنه : «لقد اشبع سلمان علما جما».

ومن فقهاء الشيعة وحملة الحديث وأوعية العلم في عصر الصحابة ، عمار بن ياسر ، وقد بلغ من اخلاصه لدعوة الرسول المباركة أن قال فيه الرسول : «عمار مع الحق والحق مع عمار ، يدور معه كيفما دار».

وأخبره بأنه سيكون قتيلا على يد الفئة الباغية ، في حديث مشهور في كتب الحديث عند السنة والشيعة. وبقي عمار ينتظر ذلك المصير الذي آمن به ، وأيقن بوقوعه حتى كانت صفين ، وكان من أمره أن قتله أتباع معاوية ابن أبي سفيان ، وقد ولاه عمر بن الخطاب الكوفة ، فكان مرجعهم في جميع شؤونهم. وكانت الشؤون الدينية تشغل جانبا كبيرا من حياة الولاة والحكام ، لأنها قانون الدولة ، وعلى الحكام ان يعملوا على انتشارها بين افراد الشعب ، وتطبيقه على الجميع بنصه وروحه.

__________________

(١) المصدر السابق (ص ٨٦).

(٢) رجال الكشي (ص ١١).

وقد بلغ به الإيمان بدعوة الرسول والإخلاص لمبادئها ان اصبح من حواري الرسول والمقربين اليه. ولازم عليا ، حتى كانت نهايته بصفين. وهو القائل : «والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا اننا على الحق وهم على الباطل».

ومما لا بد منه ، بعد أن تهيأ له الجو المناسب ، وأصبح حاكما في بلد دخل في الإسلام بقوة السيف ، لا يعرف عن عقائد الاسلام وأحكامه شيئا ، ان ينصرف الى تعليم الناس الحلال والحرام ، ويغرس في نفوسهم مباديء الاسلام وأصوله ، كما نص عليها الكتاب والحديث.

وقال الاستاذ مصطفى عبد الرزاق : ان أبي بن كعب وعمارا بن ياسر وحذيفة اليمان وأبا الدرداء وسلمان الفارسي ، كانوا يفتون الناس في حياة الرسول (١).

ومن فقهاء الشيعة وأعيان الصحابة أبي بن كعب ، وهو من أعيان الشيعة ، كما نص عليه السيد علي بن صدر الدين المدني (٢). وقال السيد حسن الصدر : لقد أكثر السيد علي المدني من الأدلة على تشيعه وموالاته لأهل البيت عليهم‌السلام ، وذكره ابن سحنة في تاريخه ، فيمن تخلف عن البيعة مع علي (ع) وانه من الطليعة الأولى من المفسرين (٣).

وروى ثقة الاسلام الكليني عن الصادق جعفر بن محمد انه قال : أما نحن فنقرأ بقراءة ابي بن كعب. وفي أمالي الشيخ ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه ، وخلاصة العلامة في الرجال ، ما يدل على جلالته

__________________

(١) تمهيد لتاريخ الفلسفة (ص ١٣٥).

(٢) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة.

(٣) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام.

وإخلاصه لأهل البيت عليهم‌السلام.

وقال السيد المرتضى في التعليق على ما ذكره المحدثون من أن عليا قال ، في عمر بن الخطاب وهو محتضر : وددت ان القى الله بصحيفة هذا المسجى. نقلا عن الشيخ المفيد ، إن المراد بالصحيفة ، هي التي اتفقوا فيها على اقصاء علي عن حقه في الخلافة.

واستدل على ذلك بما روته العامة كما جاء في كلامه ، عن ابي بن كعب ، انه كان يقول في مسجد الرسول ، بعد أن انتهى أمر الخلافة الى أبي بكر ، بصوت يسمعه اهل المسجد : ألا هلك اهل العقدة ، والله ما آسي عليهم ، وإنما آسى على من يضلون من الناس.

فقيل له : يا صاحب رسول الله ، ومن هؤلاء اهل العقدة ، وما عقدتهم؟ فقال : قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا احدا من اهل بيته ولا ولوهم مقامه ، أما والله لو عشت الى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما ابين فيه للناس امرهم (١).

وقد ذكره السيد الأمين من قراء الشيعة ، ونقل عن محمد بن سعد في الطبقات أن النبي (ص) قال : اقرأ أمتي ابيّ بن كعب ، وانه قال له : إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك (٢).

وعده الشيخ محمد الخضري من مشاهير المتصدرين للفتوى في عهد الصحابة قال : وأشهر المتصدرين للفتوى في هذا العصر الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب (٣).

__________________

(١) الفصول المختارة من كتاب الشيخ المفيد المسمى بالعيون والمجالس.

(٢) المجلد الأول من أعيان الشيعة (ص ٢١٦).

(٣) تاريخ التشريع الاسلامي (ص ١٢٧).

وقال عنه الدكتور محمد يوسف انه كان من شيوخ التشريع واعلامه في المدينة ، وان كثيرا من التابعين ، وأشهرهم الفقهاء السبعة ، اخذوا عنه وعن الخلفاء الأربعة (١).

ومن فقهاء الشيعة وأعيانهم ابو سعيد الخدري. وقال عنه القمي انه كان من السابقين ، الذين رجعوا الى أمير المؤمنين ، وأنه لم يكن بين احداث الصحابة أفقه منه.

ونقل عن ابن عبد البر ، انه كان من الحفاظ المكثرين والعلماء العظماء العقلاء. وقد روى الكثير من الأحاديث عن الرسول ، وانه احتجز في بيته في واقعة الحرة ، على رواية ابن قتيبة ، فدخل عليه اهل الشام ، فنهبوا متاعه ونتفوا لحيته ، بعد أن عرفهم بنفسه وصحبته للرسول (٢).

وقد وصفه الشخ محمد طه نجف بالاستقامة ، وانه من اصحاب أمير المؤمنين الأصفياء (٣).

وقال عنه الأستاذ مصطفى عبد الرزاق انه كان من المفتين في عصر الصحابة ، وكان من متوسطي الصحابة في الإفتاء (٤).

وفي كتب الرجال والحديث العشرات من وجوه الصحابة ، الذين عرفوا لعلي حقه في الخلافة ، وكانوا من اوعية العلم وحملة الآثار الإسلامية ومن مراجع المسلمين في الحلال والحرام ، كأبي أيوب

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٤١).

(٢) الكنى والألقاب (ص ١٥٣).

(٣) اتقان المقال (ص ١٩٢).

(٤) تمهيد لتاريخ الفلسفة (١٥٣).

الأنصاري وحذيفة اليمان وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله الأنصاري ، الذي ادرك الإمام الباقر (ع) وقال له : «بأبي أنت وأمي ، ان رسول الله يقرئك السلام» (١).

ولم يكن غيرهم ممن اشتهر في الفقه والحديث في كتب اخواننا اهل السنة ، كابن مسعود وابن عمر والأشعري ومعاذ بن جبلة وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيرهم من الأحداث البارزين في هاتين الناحيتين ، وأصبحوا مصدرا لمن جاء بعدهم ، وعلى آرائهم وأقوالهم يعتمد التابعون وأكثر من كتب في عصر التدوين ، في المائة الثانية للهجرة وما بعدها.

لم يكن هؤلاء بأكثر بروزا في عهد الرسول ممن ذكرناهم ، بل لم يدرك اكثرهم من عهده إلا السنين الأخيرة. ولم يكن أحد منهم في سيرته واتصاله الوثيق بالرسول يشبه احدا ممن تحدثنا عنهم من اعلام الشيعة ، وليس لذلك من سبب غير السياسة التي انتهجها الحكام في الفترات التي اعقبت وفاة الرسول ، والتي كانت تستهدف إقصاء الشيعة عن هذا المسرح واضعاف اصواتهم ، لأنهم يعلمون جيدا ما لتلك الأحاديث الكثيرة عن الرسول ، وعلى الأخص ما يتعلق منها باستخلاف علي (ع) وفضائل أهل البيت ، من الآثار في نفوس المسلمين.

ولو اتيح لهؤلاء أن يحدثوا الناس بكل ما وعته صدورهم من الآثار الإسلامية في مختلف المواضيع لكانت آثارهم من أبرز ما تركه المسلمون في ذلك العصر ، ومع ذلك فإن ما صدر منهم في الفترة التي تلت وفاة الرسول ، كان من المتعذر على التابعين وتابعيهم روايته عنهم ، وتدوينه في العصر الذي هب العلماء فيه لتدوين الحديث والفقه ، لأن ما وصل من أحاديث الشيعة في الفقه والآثار الاسلامية الى العلماء في العصر

__________________

(١) رجال الكشي (ص ٢٨).

الذي بدأوا فيه بتنويع الحديث وتصنيفه ، كان نصيبه السقوط وعدم الاعتبار ، إما لأن فيه رائحة التشيع ، او لأن راويه من الشيعة. ويكفي ذلك في وهنه مهما بلغ راويه من العلم والورع والضبط.

ومهما يكن الحال فمع ان المجال لم يتسع لهم كما اتسع لغيرهم ، فقد ساهموا في نشر تعاليم الإسلام ، وبيان الحلال والحرام ، وأوضحوا الكثير من اسرار الكتاب وغوامضه ، ودونت لهم المصادر الشيعية كثيرا من الآثار في الحديث والفقه والتفسير.

ولو لم يكن لأحد من رجال الشيعة أثر في التشريع الاسلامي ، لكان ما دونته كتب الحديث والفقه والتفسير لعبد الله بن العباس من الآثار الإسلامية الخالدة ، مصدرا غنيا بالشواهد والبراهين على ان التشيع قام بنصيب وافر في التشريع ونشر الآثار الإسلامية وتدوينها ، في عهدي الصحابة والتابعين الأولين.

قال العلامة المجلسي في رجاله : كان عبد الله تلميذا لعلي ومن المحبين له ، وحاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) أشهر من أن يخفى.

ومع ولائه لعلي (ع) وإيمانه بحقه في الخلافة الإسلامية كان الخليفة الثاني يقربه اليه ويدنيه ، ويناظره احيانا بشأن الخلافة الإسلامية ، التي يراها ابن عباس وغيره من الشيعة ، حقا لعلي بن أبي طالب (ع).

وقد قال له الخليفة يوما : اما والله ان صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد الرسول ، إلا أننا خفناه على اثنتين.

وهنا استغل ابن عباس الفرصة التي فسحها له الخليفة ليدلي برأيه بكل صراحة وبدون مواربة ، ويدفع عن صاحبه ما تخوفه الخليفة وغيره

من استخلافه على حد زعمه.

ولما سأله ابن عباس عنهما ، قال : خفناه على حداثة سنه وحبه لبني عبد المطلب. ثم قال : ان قريشا كرهت ان تجمع لكم الخلافة والنبوة ، فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت لنفسها فاختارت وأصابت.

فأجابه ابن عباس ، غير متهيب لامارته : اما قولك بأن قريشا كرهت فإن الله سبحانه قال في حق قوم كرهوا ما أراده الله لهم : «ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم». وأما قولك انا نجحف ، فلو جحفنا في الخلافة جحفنا بالقرابة ، ولكنا قوم اخلاقنا من خلق رسول الله ، الذي قال فيه ربه : «وانك لعلى خلق عظيم» ، (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.)

وأما قولك ان قريشا اختارت ، فإن الله سبحانه يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.)

ولقد علمت يا امير المؤمنين ان الله اختار من خلقه من اختار ، فلو نظرت قريش حيث نظر الله لوفقت وأصابت (١).

وعلى الرغم من صراحته مع عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الثلاثة ، فقد استطاع ان يفرض نفسه عليهم ويكون محل ثقتهم وتقديرهم.

وهو اول من ألف في تفسير القرآن. وقد تلمذ على علي (ع) وأصبح بنظر المسلمين ترجمان القرآن ورئيس المفسرين (٢).

__________________

(١) عبد الفتاح في كتابه : الامام علي ، الجزء الأول (صفحة ٢٦١ ـ ٢٦٢) وذكره ابن ابي الحديد.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام.

وقال عنه ابو الخير في طبقات المفسرين انه حبر الأمه ورئيس المفسرين ، دعا له رسول الله بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل.

وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة ، وقلما توجد آية في كتاب الله إلا وله رأي في تفسيرها.

وقال القمي في كتابه الكنى والألقاب ، ان له تفسيرا مطبوعا ، وروى الخطيب البغدادي عن عطاء انه قال : ما رأيت مجلسا قط كان اكرم من مجلس ابن عباس واكثر علما منه. إن اصحاب القرآن عنده يسألونه ، وأصحاب النحو يسألونه ، وأصحاب الشعر والفقه في مجلسه يسألونه ، وكلهم يصدرهم في واد فسيح.

وفي اعيان الشيعة ان ابن عباس اجاب نافع الأزرق الخارجي ، عن مائتي مسألة في تفسير القرآن ، وأتى على كل جواب بشاهد من الشعر.

وفي الفهرست لابن النديم : من جملة كتب التفسير كتاب ابن عباس في تفسير القرآن ، وكان يسمى البحر ، لسعة علمه.

وكما انتشرت آراؤه في التفسير ، واشتهر من بين الصحابة في هذه الناحية ، اشتهر في الفقه ايضا ، وانتشرت آراؤه فيه ، وكان فيه مصدرا من اوسع المصادر وأكثرها انتشارا. وقال ابن عيينة : العلماء ثلاثة : ابن عباس والشعبي وسفيان الثوري. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة كان ابرز اهل زمانه في الفقه والحديث. وقد اتخذ العلماء والمفتون ، المساجد في العواصم الاسلامية كمدارس لهم ، ينقلون فيها الحديث ، ويفتون الناس من ابواب الحلال والحرام. وكانت مدرسة المدينة تضم جماعة من فقهاء الصحابة ، وعلى رأسها علي بن أبي طالب (ع). وإلى من فيها من شيوخ الإفتاء والتدريس يقول عمر بن الخطاب : «لا يفتين

احد في المسجد وعلي حاضر» (١).

وفي مكة المكرمة مهبط الوحي قبل الهجرة ، كان مسجدها يجمع العشرات من التلاميذ ، وعلى رأسهم عبد الله بن العباس. ومن أشهر تلاميذه مولاه عكرمة ، وأبو محمد عطاء بن ابي رياح مولى قريش ، ومجاهد بن جبير مولى بني مخزوم.

أما عكرمة فإنه روى عن ابن عباس وأخذ عنه العلم ، وأفتى الناس بحياته. وكذلك كان عطاء مفتي اهل مكة ومحدثهم (٢). وقال ابن عباس ، مخاطبا اهل مكة ، وقد اجتمعوا عليه ، يسألونه احكام دينهم : يا اهل مكة ، تجتمعون علي وعندكم عطاء! وأما مجاهد بن جبير فقد اخذ عنه الفقه والتفسير.

وقال الأستاذ الشيخ محمد الخضري : ومن اهل مكة عبد الله بن العباس ، ولد قبل الهجرة بسنتين ودعا له رسول الله (ص) ان يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل. وقال فيه ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ، لو ادرك اسناننا ما عاشره منا احد. وروي عنه انه قال : كنت اسمع بالرجل عنده الحديث ، فآتيه ، فاجلس حتى يخرج فأسأله ، ولو شئت ان استخرجه لفعلت. وعلى ابن عباس يدور علم أهل مكة في الفقه والتفسير. وقال مجاهد بن جبير ، احد تلاميذه : لقد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات ، اقفه عند كل آية وأسأله فيم نزلت وكيف كانت (٣).

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (صفحة ٤٣).

(٢) الامام علي ، لعبد الفتاح عبد المقصود ، الجزء الأول.

(٣) تاريخ التشريع الاسلامي (صفحة ١٥٥).

وإذا استعرضنا البارزين من اعلام الفقه والحديث في جميع العواصم الإسلامية على عهد التابعين ، نجدهم بين من اخذ عن علي وابن عباس وبين من اخذ عن تلاميذهما. فسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء ومجاهد بن جبير ومسروق بن الأجدع وسعيد بن جبير والشعبي وحبيب بن ثابت وغيرهم من فقهاء التابعين في مختلف العواصم الإسلامية ، هؤلاء هم اقطاب الفقه عند اهل السنّة ، وهم بين من تلمذ على علي وابن عباس وبين من اخذ الفقه والحديث عمن اخذ عنهما ، كما يظهر ذلك من كتب الحديث والفقه والتفسير.

وليس بوسعنا ان نستقصي جميع آثار هذا الحبر الجليل ، الذي بلغ عمره اكثر من ثمانين عاما ، قضاه في نشر تعاليم الإسلام وبيان الحلال والحرام ، وملأت آراؤه في التفسير والفقه ، كتب الحديث والفقه وأصبح مصدرا لكل من جاء بعده من التابعين وتابعيهم (١).

ولا بد لنا في هذا الفصل من ذكر نبذ يسيرة من آرائه في الفقه ، لنعرف تماما الغرض الذي نهدف اليه في هذا الكتاب ، ونعني به دور التشيع في التشريع الإسلامي وأثره في ذلك. ومن ثم يتبين لنا ان الفقهاء من الشيعة مع اختلافهم مع غيرهم من فقهاء المسلمين أحيانا : اختلافا بينا ، لم يعتمدوا على غير الأصلين الكريمين : الكتاب والسنة ، منذ اليوم الأول لوفاة الرسول. وفي جميع مراحل نمو الفقه وتطوره ، مستلهمين في أجتهاداتهم وآرائهم مقاصد هذين الأصلين المقدسين عندهم وما يهدفان اليه من خير الانسان وسعادته كما يبدو ذلك من الأمثلة التالية :

__________________

(١) وذكر مصطفى عبد الرزاق في كتابه : (تمهيد لتاريخ الفلسفة). ان محمد بن موسى ابن يعقوب جمع فتيا عبد الله بن عباس ، فبلغت عشرين كتابا.

أولا : من المعروف عند الشيعة الامامية وجوب المسح على الرجلين في الوضوء بدلا من غسلهما عند غيرهم. والخلاف بين فقهاء المسلمين في هذه المسألة قائم منذ فجر التشريع في عهد الصحابة. فكان يرى ذلك علي وابن عباس وغيرهما من الشيعة. وروي عن ابن عباس في ذلك انه وصف وضوء رسول الله بأنه مسح على رجليه ، وانه قال : إن كتاب الله جل ثناؤه اتي بالمسح ، ويأبى الناس إلا الغسل.

وقد أشار ابن عباس رحمه‌الله في قوله : ان كتاب الله جل ثناؤه جاء بالمسح ويأبى الناس إلا الغسل ، الى الآية السابعة من سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.)

بلا فرق عنده بين قراءة المعطوف الأخير بالنصب او الجر. فالنصب على محل الرؤوس والجر على لفظها. والذي يؤيد العطف على الرؤوس ، ان الجملة الأولى ، التي أمرت بالغسل ، قد انتهت وبطل حكمها ، باستئناف الجملة الثانية التي اشتملت على حكم مخالف للأولى. وليس من المستحسن العطف على الأولى ، بعد انقطاع حكمها بالجملة الثانية المستأنفة ، لا سيما إذا كان الكلام مستقيما بعد انقطاع حكمها بالجملة الثانية المستأنفة ، لا سيما إذا كان الكلام مستقيما ومعناه ظاهرا. فإذا قال القائل مثلا : ضربت زيدا وعمرا ، وأكرمت خالدا وبكرا ، لا يجوز ارجاع بكر الى الجملة الأولى. على ان عمل القريب في المعطوف اولى من عمل البعيد فيه ، إذا لم يكن مرجح لعمل البعيد فيه (١). وقد سبق ان أشرنا الى ما يعتمده الفريقان فيما ذهبا اليه في

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الأول (ص ١٦٦) طبع صيدا.

الفصل الأول من فصول هذا الكتاب.

ثانيا : من المعروف عند الشيعة الإمامية تحديد الزواج بزمان خاص ، ويسمى ذلك في عرفهم (بالعقد المنقطع). ولا بد ان تتوفر فيه جميع الشروط التي لا بد منها في العقد الدائم ، غير ان هذا النوع من النكاح ، محدود بزمان يتراضى عليه الزوجان. والخلاف بين الشيعة وغيرهم في اباحة هذا الزواج يتصل بعصر الصحابة. وقد أجمع المسلمون على تشريع هذا النوع من النكاح. والقائلون بعدم إباحته بين من يقول بأن الخليفة الثاني منع عنه ، وبين قائل بان تشريعه كان في بعض الغزوات ، لمصلحة اقتضت تشريعه ، ونهى عنه الرسول بعد ذلك في حديث رواه يحيى عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن ابي طالب (ع) عن ابيهما محمد ، عن أبيه علي (ع) ان رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية (١).

وقد قال بإباحته جماعة من الصحابة ، منهم عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب والسدي وعبد الله بن العباس وعلي (ع) وجماعة من التابعين.

وروى حبيب بن ثابت عن ابي نصرة ، قال : سألت ابن عباس عن المتعة ، فقال : اما تقرأ سورة النساء؟ فقلت بلى! قال فما تقرأ : «فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى فآتوهن أجورهن»؟ قلت : لا أقرأها هكذا. قال ابن عباس : «والله هكذا أنزلها الله» ، ثلاث مرات (٢).

__________________

(١) موطأ مالك ، كتاب النكاح (ص ٧٤).

(٢) مجمع البيان ، المجلد الثاني (ص ٣٢).

وفي كتب التفسير ان ابي بن كعب وابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهم ان الآية : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) الى أجل مسمى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.)

وقد تقدم في الفصل الذي أشرنا فيه الى آيات التشريع ، ان الشيعة الامامية ، قد أجمعوا على أن القرآن الكريم هو المتداول بين الناس ، بدون زيادة ولا نقصان.

وبناء على صحة هذه الأحاديث ، تكون الزيادة المدعاة في بعض الآيات ملحقة بها تفسيرا للمراد من الآية ، إما من المسلمين في عهد الرسول ، او من الرسول نفسه. ومهما كان الحال ، فقد افتى ابن عباس وغيره ، بإباحة هذا النوع من النكاح.

وروى الحكم بن عيينة ان عليا قال : لو لا ان عمر نهى عن المتعة ، ما زنى إلا شقي. وقد اشتهر عنه في كتب الحديث انه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالا ، انا أنهى عنهما وأعاقب عليهما.

فقد أضاف النهي الى نفسه ، وليس له ولغيره رفع الأحكام او وضعها. نعم إذا كان الحكم مقيدا بزمان ، او كان تشريع الحكم لبعض المصالح ، بحيث كان من المستفاد من دليله ارتباط الحكم بتلك المصلحة وجودا وعدما ، فإذا تبدلت مصلحة التشريع وانتهى الزمان الذي اعتبره المشروع قيدا للحكم او لموضوعه ينتفي الحكم بدون حاجة الى دليل آخر. وهذا غير النسخ بمعناه المعروف عند الأصوليين والمتكلمين.

ولو ثبت عند الشيعة نهي الرسول عنها ، لم يقل احد منهم بإباحتها ، لا سيما وان الرواية المزعومة ، قد نسبت الى علي (ع) ، وهو نفسه من القائلين بإباحتها.

ثالثا : من المعروف عند الشيعة الامامية ان المرأة لها ان تزوج نفسها ممن تريد ، سواء كانت بكرا او ثيبا كما هو الشائع المعروف بين فقهائهم ، ومن المستحسن عندهم ان تستأذن وليها في ذلك ، إذا بلغت رشدها وكانت مالكة لأمرها. وبذلك كان يفتي عبد الله بن عباس. وروى عنه جبير بن مطعم انه قال : ان رسول الله قال : الأيم احق بنفسها والبكر تستأذن (١). والآية الكريمة مؤيدة لذلك ، قال سبحانه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ.) وعند غير الشيعة ان عقدها لا يصح بدون إذن وليها. وفصل بعضهم بين الثيب وغيرها وبين القبيحة والجميلة (٢).

وقال مالك : «إذا زوّج الولي البكر بغير إذنها لزمها ذلك» (٣).

رابعا : ومن المعروف عند الشيعة ان الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع الا طلقة واحدة ، وقال بعضهم ببطلانه. وقد افتى عبد الله بن العباس بصحة واحدة ، وقال انه كان على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وصدر من إمارة عمر بن الخطاب ، طلقة واحدة ، ثم جعله عمر ثلاثا (٤).

وروى عكرمة عنه انه قال : طلق ركابة بن يزيد امرأته ثلاثا ، في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول الله كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال : هي واحدة ، ان شئت فراجعها.

__________________

(١) موطأ مالك (صفحة ٦٢) كتاب النكاح.

(٢) الانتصار للشيخ المفيد.

(٣) الموطأ (صفحة ٦٣).

(٤) تاريخ التشريع الاسلامي للخضري.

والمشهور عند غير الشيعة انه يمضي ثلاثا ، وبذلك كان يفتي ابو حنيفة ومالك مع قولهما انه محرم ومخالف للسنة (١).

خامسا : من المعروف عند الشيعة ان من قال : ان ذهبت الى السوق مثلا او فعلت كذا فأمرأتي طالق او هي علي كظهر امي ، او عبدي حر ومالي صدقة ، لم يكن ذلك يمينا يلزم فيه الحنث والكفارة ، ولا يقع به طلاق ولا ظهار ولا صدقة. وقد افتى بذلك ابن عباس رحمه‌الله ، وقال : لا شيء عليه اذا حلف بذلك. وخالفه باقي الفقهاء ، فحكموا بالطلاق والظهار والعتق ، كما افتى ابن عباس رحمه‌الله بان من حلف لا يدخل دارا فدخله مكرها او ناسيا ، لا شيء عليه ولا تلزمه الكفارة ، لقول النبي (ص) : رفع عن امتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه وما اضطروا اليه وما لا يعلمون. ولقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ)(٢). والى ذلك يذهب الشيعة الامامية ، عملا بالأصلين الكريمين (٣).

سادسا : من المسائل التي اختلف فيها الشيعة عن غيرهم ، المسألة المعروفة بالتعصيب ، وهي ما لو ترك اختا وعما او عمة ، فالمبدأ العام الذي اعتمده الشيعة في التوارث بين الأرحام ، هو الأقرب لقوله سبحانه : الأقربون أولى بالمعروف ، (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ.)

فالمال عندهم للبنت والأخت ، إذا كان معهما زوج او زوجة كان له نصيبه ، وما بقي للأخوات او البنات. فالأخ لا يشارك البنت ، والعم

__________________

(١) الانتصار للشيخ المفيد (ص ٧٥).

(٢) الانتصار للمفيد.

(٣) نفس المصدر وغيره من كتب الفقه عند الامامية.

لا يشارك الأخت ، عملا بالنص القرآني ، والأخبار الكثيرة عن اهل البيت عليهم‌السلام.

وبذلك افتى علي (ع) وعبد الله بن العباس وجابر بن عبد الله وعبد الله ابن الزبير وابراهيم النخعي وداود الأصفهاني (١).

وغير الشيعة قالوا : إذا كان مع البنت اخ او ابن اخ ، وكان مع الأخت عم او ابن عم ، تأخذ البنت نصيبها المفروض لها والباقي لأخيها ، وكذا حال الأخت مع عمها. ومستندهم في ذلك حديث رواه ابن طوس عن ابيه ، عن ابن عباس ، عن النبي (ص) انه قال : يقسم المال على اهل الفرائض ، على كتاب الله. فما تركت فلأولى عصبة ذكرا. ورواه بعضهم : فالأولي عصبة اقرب.

والحديث المذكور ، بالإضافة الى ضعفه ، لأن عبد الله بن طاوس كان صنيعة لسليمان بن عبد الملك ، قد كذبه عبد الله بن عباس ، لما سأله قارية ابن مضرب في مكة ، قال له : يا ابن عباس ، حديث يرويه اهل العراق عنك ، رواه لهم مولاك طاوس : ما أبقيت الفرائض للأولي عصبة ذكرا ، فقال ابن عباس للسائل من اهل العراق : أنت! قال : نعم. قال : ابلغ من وراءك اني اقول : «آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون ايهم اقرب لكم نفعا فريضة من الله». وقوله : «وأولو الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله».

ما قلت هذا ، ولا طاوس يرويه علي! قال قارية : فلقيت طاوسا ، فقال : «لا والله ما رويت هذا على ابن عباس ، وإنما

__________________

(١) الانتصار للمفيد.

الشيطان ألقاه على ألسنتهم» (١).

ثم ان القائلين بالتعصيب ، عليهم ان يساووا بين الرجال والنساء فيما يبقى بعد سهام البنات والأخوات ، كما إذا ترك الميت بنتا وأخا وأختا ، او اختا وعما وعمة ، تمشيا مع ظاهر الآية : «للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه او كثر نصيبا مفروضا».

فقد جعلت لكل منهما نصيبا مما تركه الميت ، مع انهم يرون ان الباقي عن سهم البنت يعود الى الأخ ولا تشاركه فيه الأخت ، والى العم وحده ولا شيء للعمة. ومقتضى الأية إشراكهم في الباقي عن ذوي السهام.

والشيعة من عهد الصحابة حتى العصور المتأخرة ، يعتمدون في إبطال التعصيب على الآيتين المتقدمتين ، وعلى الآية الكريمة رقم ١٧٥ من سورة النساء : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ.)

حيث إنها نصت على سهم الأخت في الميراث ، فيما إذا لم يكن للميت وارث اقرب منها ، ذكرا كان او انثى. ونتيجة ذلك انها لا تستحق شيئا مع وجوده. والقائلون بالتعصيب ، يعطون الأخت ، إذا لم يكن معها ذكر ، ما يزيد عن سهم البنت. هذا بالإضافة الى قول الرسول : «فمن ترك بنتا واختا ، ان المال كله للبنت» ، والأحاديث الصحيحة عن ائمتهم (ع).

__________________

(١) الجواهر ، كتاب الفرائض. وفيها ان النبي (ص) لما قتل حمزة بن عبد المطلب أعطى كل ماله لابنته.

سابعا : من المسائل التي وقف الشيعة فيها في عصر الصحابة الى جانب ، ووقف غيرهم الى جانب آخر ، فيما إذا زادت سهام الوارث على مال الميت. وعلى سبيل المثال نذكر مثالا لذلك : كما إذا ترك الميت زوجا وبنتين ، فالمفروض للبنتين والأبوين ، بنص القرآن تمام المال ، ويبقى نصيب الزوج زائدا ، فالشيعة في هذا الفرض ونظائره ، يعطون الزوج والزوجة والأم وكلالة الأم تمام المفروض لهم وما يتبقى من المال للبنين وللأب ، وإذا زاد المال عن السهام المفروضة تعود الزيادة على من يدخل عليه النقص ، في صورة زيادة السهام عن المال. فإذا ترك الميت زوجا وبنتا ، كان للزوج نصيبه الأدنى وهو الربع ، وما يبقى من المال للبنت بالفرض والرد.

والمبدأ العام المتبع في مثل ذلك ، ان من كان له فرضان : أعلى وأدنى ، يأخذ سهمه بتمامه ، ومن كان له فرض واحد ، او لا فرض له ، ينقص نصيبه في الميراث ويزيد.

وهذه المسألة هي المعروفة عند الفقهاء بمسألة العول. وقد حدث على عهد عمر بن الخطاب ان ماتت امرأة في وفاته عن زوج واختين ، فالتبس عليه أمر توزيعها ، لأن السهام تزيد عن المال. فجمع الصحابة وقال لهم : لقد فرض الله سبحانه للزوج النصف وللبنتين الثلثين ، فإن أعطينا الزوج كامل سهمه نقص سهم البنتين ، وإن أعطينا البنين نصيبهما لم يبق سهم الزوج على حاله ، فاتفق رأي أكثرهم معه على إدخال النقص على البنتين والزوج كل بمقدار سهمه. ومضى على ذلك أكثر من جاء بعده من الفقهاء وأئمة المذاهب الأربعة.

وقد سأل زفر بن اوس البصري ابن عباس عن ذلك ، فقال : اول من عال عمر بن الخطاب ، لما التفت الفرائض عنده ودافع بعضها بعضا

قال : والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخّر ، وما أجد شيئا اوسع من أن اقسم عليكم هذا المال بالحصص. ثم قال ابن عباس : وايم الله ، لو قدم من قدّم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة.

فقال له زفر بن اوس : فايهما قدّم وأيها أخّر؟ فقال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا الى فريضة ، فتلك التي قدم الله ، أما ما أخر ، فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق منها الا ما بقي ، فتلك التي أخر الله. فأما الذي قدم : فالزوج له النصف ، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع الى الربع ، ولا يزيله عنه شيء ، والزوجة لها الربع ، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت الى الثمن ، لا يزيلها عنه شيء ، والأم لها الثلث ، فإذا زالت عنه صارت الى السدس ، ولا يزيلها عنه شيء. وأما التي أخّر الله : ففريضة البنات والأخوات ، للواحدة منهن النصف ، ولما زاد عليها الثلثان ، فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك ، لم يكن لهن إلا ما بقي ، فتلك التي أخر الله ، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر ، بدئ بما قدم الله ، فأعطي حقه كاملا ، فإن بقي شيء ، كان لمن أخر الله (١).

وقد نقل الإمام الصادق عن جده علي عليهما‌السلام كلاما يتضمن ما جاء في حديث ابن عباس رحمه‌الله (٢).

وروى ابو بصير عن الصادق (ع) انه قال : اربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث : الولدان والزوج والزوجة.

ويظهر أن الخليفة بعد أن استعصى عليه حل هذه المسألة عن

__________________

(١) كتاب الفرائض من الجواهر.

(٢) نفس المصدر.

طريق الكتاب والسنة ، قاسها على عدم وفاء المال بالديون التي على الميت ، فانهم في مثل ذلك يشتركون في المال ويوزع على الجميع بنسبة ما لكل واحد منهم. والنقص الباقي يدخل عليهم جميعا بنسبة سهامهم.

والجهة التي تجمع بين المسألتين ، عدم وفاء مال الميت بالسهام المطلوبة. ويتبين مما رواه زفر بن اوس البصري ، عن ابن عباس رحمه‌الله انه قد اعتمد في حكمه على كتاب الله. وقد سبقه الى ذلك علي (ع) فيما رواه الإمام الصادق (ع) عنه ، كما جاء في كتاب الفرائض من الجواهر. ولا إجحاف على احد من الوارث في ذلك ، وما يلحق البنات والأخوات من النقص على تقدير زيادة السهام على التركة ، معوض عليهن في صورة زيادتها على السهام.

والمتتبع لآرائه المنتشرة في الكتب التي دوّن العلماء فيها الفقه والحديث ، في أواخر المائة الثانية وما بعدها ، يجد انه في جميع آرائه في الفقه ، لا يعتمد على غير نصوص الكتاب والسنة ، ويعتمد على اجتهاده وتفكيره احيانا في فهم آيات الكتاب وأحاديث الرسول إذا لم تكن الآية او الحديث نصا على الحكم المطلوب.

وليس بوسعنا أن نستقصي جميع المفتين والمحدثين من الشيعة ، في العهد الأول للصحابة ، ونعني به عهد الخلفاء الراشدين ، الذي يبتديء من وفاة الرسول (ص) وينتهي بانتقال الملك الى معاوية بن ابي سفيان ، لا سيما والتاريخ قد حابى اناسا وظلم آخرين ، كانوا أوسع علما وأوثق صلة بالرسول ، واعرف بالحلال والحرام ممن حاباهم التاريخ ، على حساب الآخرين في هذا الدور. ونكتفي بهذه النبذة اليسيرة من آراء الشيعة في الفقه ، ومن هذه الأمثلة نستطيع أن نحدد موقف الشيعة من التشريع ومقدار مساهمتهم فيه.

أدلة الأحكام عند الشيعة في عهد الصحابة

ذكرنا في الفصول الماضية من هذا الكتاب ، ان المسلمين اعتمدوا أصلين آخرين بالإضافة الى الكتاب والسنة ، وهما الإجماع والقياس ، فاصبحت بذلك أدلة الأحكام اربعة. أما الكتاب والسنة فإليهما يرجع جميع المسلمين في الفقه الإسلامي منذ عهد الرسول (ص) حتى العصور المتأخرة. ولم تدع الحاجة الى غير الكتاب وأحاديث الرسول في عهده ، لأنه كان يتلقى مواد التشريع : اما بواسطة الآيات القرآنية ، او بما يوحى اليه من سنن وأحكام ، لم يأت القرآن على بيانها ، والطريق الى معرفة الأحكام كان ميسورا للجميع.

وكان المسلمون يرجعون اليه وإلى نصوص الكتاب فيما يتعلق بتكليفهم ، عبادة كان او غيرها ، مما تدعوهم الحاجة الى معرفته. أما سكان القرى والبوادي ممن دخلوا الإسلام ، فكان يرسل اليهم من يعلمهم الأحكام ، كما نص عليها القرآن. وما وعته صدورهم من اقوال الرسول وفتاويه. وأحيانا كان الرسول يكتب قسما من احكام الاسلام ويرسلها الى الأقطار والقرى وسكان البادية ، مع الأمراء والولاة والجباة. وقد اشتملت كتبه الى اليمن وهمدان وهجر على احكام الزكاة والصدقات وبعض احكام النكاح ، على أن المؤلفين في التشريع

يدعون بأن النبي كان يجتهد في الأحكام اذا عرضت عليه واقعة لم يوح اليه بحكمها قال الدكتور محمد يوسف : ان الرسول كان يجتهد في الحكم ثم يصدر رأيه ، وهنا لا يقره الله على هذا الرأي إلا إذا كان صوابا (١).

أما بعد وفاته فقد وقعت حوادث لم تكن في حياته ، واتسعت حياة المسلمين بسبب الغزوات واتصال المسلمين بالبلاد التي غزاها الاسلام ، فكان ولا بد من تضاعف الحاجة الى الفقه. وما تجددت الحاجة الى معرفة حكمه ، لم يكن باستطاعتهم ان يستخرجوا حكمه من نصوص الكتاب والسنة ، فكان الاجماع والقياس مرجعهما في مثل ذلك. ويرى ابن خلدون في مقدمته وغيره كما ذكرنا سابقا حدوث هذين الأصلين : الاجماع والقياس ، في عهد الصحابة.

وكانت الطريقة المتبعة في تحصيل الاجماع ، هي أن الخليفة إذا استشار جماعة من المسلمين في حكم وأشاروا فيه برأي أفتى به. وسمي هذا النوع من الاتفاق اجماعا (٢) ، وان لم يذكر المجمعون نصا عليه من كتاب او سنة. وفي كتاب عمر بن الخطاب الى شريح القاضي ، ما يدل على أن الاجماع كان اصلا من اصول الأحكام ، بعد كتاب الله وسنّة نبيّه ، كما يرويه عامر الشعبي عن شريح نفسه ، ان عمر كتب اليه : اذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنّه رسول الله (ص) ولم يتكلم فيه احد ، فان شئت أن تجتهد رأيك فتقدم.

__________________

(١) اليعقوبي المجلد ٢ (ص ٦٥ ـ ٦٦) طبع النجف الأشرف. وانظر المدخل لدارسة نظام المعاملات ص ٢١.

(٢) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري (ص ١١٥).

والإجماع الذي وضع نواته الشيخان ، كما يقول الخضري وابن خلدون وغيرهما ، عرض عليه بعض التطور ، فيما بعد زمن الصحابة ، ووقع خلاف شديد بين مالك وجماعته من جهة ، وبين الليث بن سعد ، فقيه مصر ، كما جاء في تعابير أهل السنة عنه ، ومعه جماعة من جهة اخرى ، مع اتفاقهما على اعتباره دليلا على الحكم. فبينما يرى مالك وجماعته ، ان الاجماع الذي هو دليل في الأحكام ، هو إجماع اهل المدينة ، يرى الطرف الآخر ان اهل المدينة وغيرهم سيان في ذلك. ومهما يكن الحال ، فقد استدل من يرى أن الاجماع دليل لا يجوز مخالفته ، بالآية (١١٤) من سورة النساء : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.)

وبالآية (١٤٣) من سورة البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

وبما رواه ابن مسعود عن الرسول انه قال : «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله تعالى ، ونصيحة المسلمين ، ولزوم جماعتهم».

وبما رواه عمر بن الخطاب عنه وهو يخطب الناس : «ألا من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، الشيطان مع الفرد ، وهو من الاثنين ابعد».

وبما رواه المحدثون من اهل السنة عنه انه قال : «لا تجتمع امتي على ضلال ، ويد الله مع الجماعة».

وبالاضافة الى هذه الأدلة ، يحتج مالك (١) فيما يذهب اليه من ان الاجماع الذي يجب اتباعه هو إجماع اهل المدينة ، بأن المدينة دار هجرته ، ومهبط الوحي الإلهي ، وبها استقر الإسلام وصارت له دولة ، وتوحدت فيها شريعته ، واجتمع فيها صحابته من المهاجرين والأنصار ، ولازموه دهرا طويلا ، فعرفوا أسرار التنزيل الذي شاهدوه وتشربوه وعملوا به ، وكانوا اعرف الناس بأحوال الرسول وما كان منه من قضاء وأحكام تشريعية ، وما الى ذلك مما يتعلق بالتشريع وأصوله. وينتهي من ذلك الى نتيجة حتمية بزعمه ، وهي ان الحق لا يخرج عما يذهبون اليه ، وان ما يجتمعون عليه يكون حجة شرعية ، لها قيمتها التي لا يجوز إنكارها وتجاهلها.

وأما الأصل الرابع الذي جاء التعبير عنه في كلماتهم ، بالرأي تارة ، وبالقياس اخرى ، فأول من وضع نواته عمر بن الخطاب ، كما يظهر من الأستاذ الخضري ، قال : كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصا من كتاب او سنة ، وإذ ذاك كانوا يلجأون فيها الى القياس. وأيد دعواه بكتاب عمر بن الخطاب الى ابي موسى الأشعري الذي يقول فيه : «أعرف الأشياء والأمثال وقس الأمور بعضها على بعض». ويرى هذا الرأي ابن خلدون حيث يقول : ان الإجماع والقياس حدثا ايام الصحابة انفسهم ، وبها صارت اصول الفقه اربعة.

ويذكر الدكتور محمد يوسف (٢) عن الإمام ابي بكر السرخسي ، ان مذهب الصحابة ومن بعدهم من التابعين والماضين من أئمة الدين ،

__________________

(١) كما يظهر من موطإه.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٤٢).

جواز القياس ، وهو مدرك من مدارك احكام الشرع. على ان محمد يوسف يميل الى ان الرسول نفسه ، هو الذي وضع مبدأ القياس. وذلك حينما بعث معاذا على قضاء اليمن ، وقد قال له يومذاك : كيف تصنع اذا عرض لك قضاء بين اثنين؟ قال : أقضي بما في كتاب الله. قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال : فبسنّة رسول الله. قال : فإن لم يكن في السنة شيء من ذلك؟ قال : اجتهد رأيي لا اكد. فضرب رسول الله بيده في صدر معاذ ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضاه رسول الله.

ثم نقل عن اعلام الموقعين لابن القيم ، ان محرز المدلجي الكناني ، قد استعمل القيافة والقياس أيام رسول الله ، وحكم عن طريق القياس ، ان اسامة ولد شرعي لزيد بن حارثة ، وان الرسول سر بذلك ، حتى برقت اسارير وجهه ، وكانت الشبهة قد وقعت على اسامة لأنه اسود اللون وزيد ابيض. ولكن تشابه اقدامهما اقتضى إلحاق الفرع بأصله ، وعدم تأثير الوصف في ذلك.

ونقل عنه ايضا ، ان حد القذف ورد في القرآن فيمن قذف المحصنات ، كما جاء في الآية الرابعة من سورة النور : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ، فقاس الصحابة من يرمي المحصنين على المحصنات.

وبعد أن ساق الدكتور يوسف (١) هذين وغيرهما عن ابن القيم ، نقل عنه ما ارتضاه من كلام المزني ، ان الفقهاء من عصر الرسول الى

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٤ ـ ٢٥).

يومنا هدا استعملوا المقاييس في الفقه وجميع الأحكام في امر دينهم ، وأجمعوا على ان نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل.

وذكر ابن حزم في كتابه ، ملخص ابطال القياس والرأي والاستحسان والتعليل والتقليد ، امثلة اخرى من الكتاب الكريم ، عمل الصحابة وغيرهم فيها بالقياس (١).

منها قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قالوا : فما عدا (الأف) من انواع الأذى مقيس عليه.

ومنها قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فما عدا خشية الإملاق مقيس عليها.

وقالوا : إن الله حرم لحم الخنزير في كتابه ، فحرم شحمه قياسا على لحمه ، والأثنى منه قياسا على الذكر.

وقالوا : إنما أجمعت الصحابة على تقديم ابي بكر في الخلافة ، قياسا على تقديم النبي له في الصلاة ، وإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة ، قياسا للزكاة على الصلاة.

وقد سرد ابن حزم الأندلسي أمثلة أخرى ، نسبها أنصار القياس الى الصحابة وغيرهم. ولا يعنينا ان نستقصي جميع ما ذكروه من موارد استعمال القياس في عصري الصحابة والتابعين.

وإن كان هو ممن لا يرون جواز العمل به ، في الأحكام وغيرها. ويرى ان الكتاب والسنة فيهما تبيان كل شيء ، ولا يتصور فقد النص ،

__________________

(١) ملخص إبطال القياس لابن حزم بتحقيق سعيد الأفغاني (ص ٢٥ ـ ٢٦) المطبوع في مطبعة جامعة دمشق (سنة ١٩٦٠).

ليسوغ لنا الرجوع الى القياس وأمثاله (١). وفي تعليقه على هامش الكتاب المذكور ان ذلك مذهب البخاري أيضا ، فقد قال : «لا أعلم شيئا يحتاج اليه ، في التشريع والآداب ونظام المجتمع ، إلا وهو في الكتاب والسنة».

ومهما يكن الحال فإن حدوث هذا الأصل في زمن الصحابة أمر لا يقبل الجدل والنقاش. وقد اشتهر بعد ذلك وكثر العمل به عند الأحناف وغيرهم ، وأصبح كغيره من أدلة الأحكام. أما اتصال ذلك بزمن الرسول ، فليس في الآثار التي وصلت الينا عنه ما يؤيد هذا الرأي. وحديث إقراره لمعاذ بن جبل على العمل برأيه ، فيما اذا لم يجد نصا من كتاب او سنة ، هذا الحديث ليس فيه ما يشير الى القياس بمعناه المعروف ، من قريب او بعيد وكل ما في الأمر انه أقرّ معاذا على بذلك جهده ، ليصل الى الواقع في مقام عدم النص. وهذا أمر مفروض على القضاة والمفتين ، بعد أن يكون فيهم من المؤهلات الكافية للبحث عن الحكم في مظان وجوده ، حتى لا تضيع الحقوق ، ولكي يعرف الحلال من الحرام.

وأما ما نقله ابن القيم عن محرز المدلجي ، والذي برقت له أسارير وجه النبي ، كما يزعم الراوي ، فليس فيه اكثر من موافقة القيافة او القياس ، كما يسميه ابن القيم ، للمبدأ الشرعي العام ، الذي وضعه الرسول في مثل ذلك ، وأصبح أصلا متبعا في كل مولود تولد من أبوين ، بعد تحقق النكاح بينهما. قال (ص) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، بدون ان يكون لتشابه الألوان والأقدام أي أثر في ذلك.

__________________

(١) (ص ٥) من ملخص ابطال القياس لابن حزم.

فاتصال العمل بالقياس بزمن الرسول لا تؤيده الأحاديث الصحيحة ، ولا الوقائع التي تمسك بها أنصار هذا الرأي.

على انه لم يتحقق اجماع من الصحابة والتابعين ، على اعتباره اصلا من أصول الأحكام الشرعية. فروي عن علي (ع) انه قال : «لو كان الدين يؤخذ قياسا ، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره» (١).

وعن ابن مسعود انه قال : «ان عملتم في دينكم بالقياس ، احللتم كثيرا مما حرم الله ، وحرمتم كثيرا مما حل لكم» (٢).

وعن الشعبي انه كان يقول : «إذا سئلت عن مسألة ، فلا تقس شيئا بشيء ، فربما حللت حراما وحرمت حلالا ، وإنما هلكتم حيث تركتم الآثار واخذتم بالمقاييس» (٣).

ولم يتحقق اجماع من المسلمين على اعتباره دليلا على الأحكام في عصر من العصور ، حتى عند أهل السنة ، فقد رفض العمل به ابراهيم النظام ومن تبعه من المعتزلة (٤) وداود بن علي الأصفهاني الظاهري ، المتوفي سنة ٣٧٠ وجعفر ابن حرب وجعفر بن ميشة ومحمد بن عبد الله الاسكافي وغيرهم (٥). ولكل واحد من هؤلاء أدلة على عدم جواز العمل به ، ووجهات نظر يصدر عنها. وقد استعرض الشافعي ، في كتابه المسمى بالرسالة ، أدلة المانعين ووجهات نظرهم. ودافع عنه ، وانتهى به القول الى انه أداة أمينة لاستنباط الأحكام الشرعية.

__________________

(١) العدة للشيخ الطوسي.

(٢) نفس المصدر.

(٣) العدة للشيخ الطوسي.

(٤) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٤٧).

(٥) نفس المصدر.

ولا بد لنا من عودة الى هذا الأصل ، عند الكلام على اصول التشريع الجعفري ، في عهد الامام الصادق (ع). والذي أردناه في هذا الفصل ، ان تاريخ العمل بالقياس ، واعتباره دليلا على الأحكام الشرعية ، يتصل بعصر الصحابة ، وبه تكون اصول الأحكام اربعة ، من عصر الصحابة حتى العصور المتأخرة ، التي اشتهر العمل له فيها عند الأحناف بصورة خاصة.

ولا بدّ لنا ، وقد اثبتنا في الفصول السابقة ، ان التشيع لم يكن بأقل نصيبا من غيره في التشريع بعد وفاة الرسول ، بل إذا أضفنا جهود علي (ع) في هذه الناحية ، الى ما قام به الصحابة من الشيعة ، في نشر الأحكام وبيان الحلال والحرام ، لجاز لنا ان نعتبر التشيع اقوى دعامة قام عليها التشريع في عصر الصحابة ، من غير ان نكون قد حابيناه او تحيزنا له في هذه النسبة.

ومن تتبع الموارد التي أفتى بها الشيعة ، يتبين ان الكتاب والسنة مما المصدران الوحيدان للفقه الاسلامي ، من فجر الاسلام حتى العصور المتأخرة. وان الكتاب الذي تداوله المسلمون بينهم ، من عهد الرسول حتى اليوم ، هو المنزل على محمد بن عبد الله (ص) ، بدون تحريف او تبديل ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو مصدرهم الأول في كل ما جاء به الاسلام. وقد جمعت آياته الواردة في مقام التشريع ، سواء ما كان منها واردا في العبادات او المعاملات والأحوال الشخصية والجنائية ، فبلغت نحوا من خمسمائة آية ، جمعها ووزعها على ابواب الفقه ، وبين اسباب نزولها وتاريخه ، جماعة من اعلام الشيعة ، منهم الجزائري والمقدادي وغيرهما (١).

__________________

(١) كنز العرفان في فقه القرآن للمقدادي ، وقلائد الدور في بيان آيات الأحكام بالأثر للجزائري.

والذي لا شك فيه ان آيات التشريع لا تفي بكل ما يحتاجه الانسان من احكام الوقائع والحوادث ، لا سيما وقد تجددت مع الزمن واتساع الحياة اشياء كثيرة. ومن اجل ذلك كانت الحوادث غير متناهية. على ان الآيات قد وضعت المباديء العامة في الغالب وتركت تحديد الموضوعات وماهياتها ، من حيث العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ، والاجمال والتفصيل ، وغير ذلك مما لا بدّ من رعايته في مقام أخذ الحكم من الآيات التي وردت في مقام التشريع الى السنة.

لهذه الأسباب كانت الحاجة ماسة الى السنة ، لبيان ما أجملته آياته الكريمة ، وتوضيح مشكلاته ، وتحديد بعض الموضوعات التي تعلق الطلب بايجادها او تركها. وفي هذا يقول الله سبحانه في سورة النحل الآية ٤٤ : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.)

فالسنة متممة للكتاب وكلاهما من مصدر واحد : «لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى». والذي تعنيه هذه الكلمة أي كلمة السنة إذا وردت على لسان الفقهاء والمحدثين ، هو ما صدر عن المعصوم ، نبيا كان أو إماما ، من قول او فعل او تقرير فيما لو كان قوله او فعله او تقريره في مقام التشريع وبيان الواقع. ولم يخالف احد من الشيعة ، في ان السنة بمعناها المعروف بين الفقهاء والمحدثين ، اصل من أصول الأحكام. ووجوب العمل بما تقتضيه ، من غير فرق بين ما يؤخذ منها وما يؤخذ من كتاب الله. وتدل على ذلك الآية السابعة من سورة الحشر : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ،) والآية ٦٤ من سورة النساء : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.)

لهذين الأصلين وحدهما كان يرجع الشيعة ، في عهد الصحابة وما بعده من العصور. ويتبين ذلك مما ذكرناه في الفصول السابقة من آراء علي وبعض الصحابة من الشيعة في الفقه والتشريع. وعند ما يلجأ غيرهم الى الرأي والاجماع والاستحسان ، للأسباب التي يزعمون أنها تبيح لهم ذلك ، يقف الشيعة الى جانب هذين الأصلين وحدهما ، معلنين آرائهم في الفقه على أساسهما. ويدل على ذلك رأيهم في المتعة والمسح على القدمين والعول والتعصيب والطلاق ثلاثا بلفظ واحد ، وغير ذلك من موارد الخلاف مع غيرهم من الصحابة ، في المسائل التي بدأ الخلاف فيها من عهدهم واستمر حتى اليوم.

أما الاجماع ، سواء كان يرتكز على آراء جماعة من الصحابة ، كما يقول الخضري ، او آراء أهل المدينة ، لأنها مهبط الوحي ، وأهلها عاشوا مع النبي دهرا طويلا ، وعرفوا أسرار ما نزل عليه وعملوا به كما يدعي مالك وأتباعه ، او آراء غيرهم من المسلمين ، كما يرى الليث بن سعد ، فقيه مصر ، هذا الاجماع ، لا أثر له عند الشيعة. وآراء الفقهاء عندهم ، قلت او كثرت ، لا تكون دليلا على الحكم ، لأنها لا تفيد إلا الظن. وفيه يقول الله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.) وليس في الآثار التي رواها انصار الاجماع عن الرسول ، ولا في الكتاب ، ما يصلح لأن يكون دليلا على اعتبار الظن ، الذي يحصل من أقوال الجماعة في أمر من الأمور ، قلت او كثرت.

وقد ورد الاجماع على لسان الفقهاء والمحدثين من الشيعة ، في العصور المتأخرة عن عصر الصحابة وتابعي التابعين بل وحتى عن عصر الأئمة عليهم‌السلام. ويعنون به اتفاق جميع العلماء على الحكم ، بنحو يكون الامام (ع) معهم ، فحيث يعتبرونه من أصول الأحكام ، ذلك

لأن الامام مع المجمعين ، قل المجمعون او كثروا. وفائدته عندهم انه يكون كاشفا عن رأي الامام ، فيما إذا اتفق جميع العلماء على حكم ولم يتعين لهم قول المعصوم (ع) ، فيكون هذا الاتفاق كاشفا عن وجود رأيه بين آرائهم هذا الاجماع الذي تكرر استعماله والاستدلال به في كتب الفقه ، لا يعملون به ، إلا حيث يكون كاشفا عن السنة ، فيكون تعبيرا آخر عنها بلفظ الاجماع.

ومهما كان الحال ، فالشيعة منذ عهدهم الأول ، الذي اتصل بتاريخ الاسلام ، ومشى معه جنبا الى جنب ، لا يرجعون لغير الكتاب والسنة في أحكام دينهم. ولا يرون الاجماع دليلا ، إلا إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم ، لأنه موجود في كل زمان. على ان هناك شيء من الخلاف بينهم في طريقة استكشاف رأيه من الاجماع ، على تقدير وجوده.

أما القياس ، الذي يدعي أهل السنة انه من أصول الأحكام في عصر الصحابة ، والذي قال عنه الدواليبي في كتابه : (المدخل الى علم أصول الفقه) ، الحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي ، لاتحاد بينهما في العلة ، سواء كانت مصرحا بها في الدليل الشرعي او لم تكن. وقال عنه آخرون : «هو الحكم فيما لا نص فيه بمثل الحكم فيما فيه نص او اجماع ، لاتفاقهما في علة الحكم ، او لاتفاقهما في وجه الشبه» (١).

وأيا كان معناه ، فالشيعة يرونه بدعة في الدين ، ولا يعملون به في الأحكام وغيرها ، وأصبح ذلك معروفا من مذهبهم. وروي عن علي (ع) انه قال : «لو كان الذي يؤخذ قياسا لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره». وليس فيما نقل عن فقهائهم في عهد الصحابة من

__________________

(١) ملخص إبطال القياس ، لابن حزم الاندلسي (ص ٥).

الفتاوى والأحكام ، ما يشير الى أنهم يعتمدون عليها ، وقد تواترت الأحاديث عن أئمتهم بالمنع عن العمل فيه.

وقال الإمام الصادق (ع) لأبي حنيفة : اتق الله ولا تقس برأيك ، فسنقف غدا ومن خالفنا بين يدي الله ، فنقول قال رسول الله (ص) وقال الله ، وتقول انت وأصحابك رأينا وقسنا ، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. وقد ذكرنا سابقا ان اعتبار القياس من أصول الأحكام ، يؤدي بالنتيجة الى ان المشرع قد ساوى في الأحكام بين الأمور المتشابهة وخالف فيها بين غيرها. ومن التتبع فيما شرعه الاسلام ، يتبين لنا انه قد خالف بين المتماثلات في الحكم وساوى بين المختلفات احيانا.

أما إذا اشتمل دليل الحكم على علة ، ووجدنا تلك العلة في مورد آخر ولم يكن ذلك المورد من مصاديق موضوع الحكم ، كما إذا ورد في مقام التشريع مثلا ، حرمة الخمر لإسكارها ، او علمنا ان العلة في تحريمها هي الإسكار ولو لم ينص عليها الدليل بمنطوقه ، كانت النتيجة في مثل ذلك وجود الحكم اينما وجدت العلة ، لأن العلة في مثل ذلك بمنزلة الموضوع للحكم ، ومتى وجد الموضوع ، لا بدّ من وجود الحكم. فحرمة الشاي مثلا ، إذا كان مسكرا ليس من جهة القياس ، بل من جهة انه فرد آخر للموضوع الذي تعلق به التحريم.

الفصل الرابع

الوضع السياسي في عهد التابعين

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ، ان التشريع الإسلامي بعد وفاة الرسول ، كان في المرحلة الأولى يعتمد على الكتاب والسنة ، وفي عصر الخليفتين ابي بكر وعمر بن الخطاب ، حدث أصلان آخران ، هما الإجماع والقياس ، فكان أكثر المسلمين يعتمد على الإجماع فيما لا نصّ عليه من كتاب أو سنة. أما القياس ، فقد عمل به بعض الفقهاء من الصحابة ، واشتهر العمل به فيما بعد عصرهم ، وعلى الأخص في عصر أئمة المذاهب الأربعة. وذكرنا ان عليا (ع) والفقهاء من الشيعة في عصر الصحابة ، لم يرجعوا لغير الكتاب والسنة ، وعرضنا أمثلة من الفتاوى والأحكام التي صدرت عنهم لهذا الغرض. وانتهينا مما أوردناه من آثارهم في التشريع وتدوين الأحكام والحديث ، إلى انهم كانوا من اعلام التشريع البارزين في ذلك العصر ، بالرغم من ان السياسة كانت تسير باتجاه معاكس لهم. ولو لا ذلك لم يكن لغيرهم أثر يذكر بجانب ما

تركوه من الآثار ، لأنهم كانوا ألصق بالرسول (ص) من غيرهم وأطولهم صحبة له. ولم يرد عنه في الأحاديث الصحيحة من التقريظ والتقدير لأحد من صحابته كما ورد عنه فيهم. والذي يعنينا الآن بعد ان انتهينا من الحديث عن التشريع في عصر الصحابة من جميع نواحيه ، وما أحاط به من ظروف وملابسات ، حسب ما تيسر لنا من المصادر والآثار التي دونها الباحثون عن ذلك العصر ان نتحدث عن التشريع الذي انتقل من الصحابة إلى التابعين وتابعيهم ، وعن المناهج والأصول التي استمدوا منها آراءهم وأحكامهم الفقهية.

وقبل الدخول في الموضوع فلا بد لنا من الإشارة الخاطفة الى الوضع السياسي الذي انتهجه الحكام الأمويون بعد ان وصلوا الى الحكم ، ومدى تأثير سياستهم الرعناء وسيرتهم الجائرة التي رسموها لأنفسهم لغاية تدعيم سلطانهم وتثبيت عروشهم ، مهما كلفهم ذلك من ثمن ، على جميع الاتجاهات الإسلامية والنظم التي جاء بها الإسلام ومارسها المسلمون ولمسوها من أقوال الرسول (ص) وسيرته الفاضلة ، وسيرة من جاء بعده من الراشدين.

لقد اتجه الأمويون بكل ما لديهم من قوة ، منذ الأيام الأولى من عهدهم إلى سياسة البطش والمكر وتبذير الأموال ، والإسراف في إراقة الدماء وتسخير الضمائر لدس الأحاديث والكذب على الرسول ، لغرض التمويه والتضليل ، بشرعية اغتصابهم لأقدس حق من حقوق المسلمين ، وهو الخلافة الإسلامية ، التي تتصل بالنبوة اتصالا وثيقا ، وتستقي من فيضها كل ما تحتاج إليه الأمة من بعث وتوجيه وإصلاح في جميع الحقول والميادين.

أجل لقد اتجه ابن هند وعصابته المجرمة الى مطاردة العلماء

والصلحاء وقتل الأبرياء وشراء الذمم بالمال ، ليضعوا له الحديث في الطعن على علي (ع) فوضع له أبو هريرة ، ان الرسول قال : «المدينة حرمي ، فمن أحدث بها حدثا فعليه لعنة الله» واقسم إلى الناس يمينا كاذبا ان عليا أحدث فيها. ووضع له غيره المئات الأحاديث المكذوبة.

ومضى يتّبع الشيعة ، حتى أصبح التشريع لعلي بنظر معاوية وولاته جريمة تجر من ورائها القتل والحبس والتشريد. ولم يعد بإمكان أحد أن يعبر عن رأيه ، أو ينقل من أحاديث الرسول (ص) في فضل علي وأبنائه وشيعته من الصحابة الكرام ، أو يعارض أحدا من المأجورين فيما يضعونه من الأحاديث تمجيدا يبني أمية واتباعهم. وأحس أهل البيت والبقية الصالحة من الصحابة الكرام بالمستقبل المظلم الذي بدأت طلائعه منذ الصدمة الأولى التي أصيب بها الإسلام على يد عبد الرحمن الخارجي ، نتيجة لمؤامرة اشترك بها جماعة من الخوارج ، وأعانه عليها جماعة كانوا يرون ذلك ويطمعون في هبات معاوية وعطائه الجزيل.

ولقد كانت هذه أولى الأحداث التي واجهت الشيعة بصورة خاصة ، في العراق وغيره من البلاد الإسلامية. وأحس بمرارتها كل من لم يكن مأجورا لبني أمية من المسلمين. وشاع بينهم اليأس والأسف والخوف من تغلب الأمويين على الأقطار الإسلامية ، التي كانت تخضع لحكم علي (ع) ، لا سيما وقد اتسعت اطماع معاوية وتفتحت له أبواب جديدة للتغلب على خصمه ، وبدأ يعمل من جديد لاستجلاب العناصر التي يمكن إغراؤها بالمال ، من قادة الجيش ورؤساء القبائل. وانتشر دعاته في السر والعلانية في جميع المدن والأقطار الإسلامية التي لم تكن تخضع حينذاك لنفوذه. هذا والمسلمون بعد وفاة علي (ع) قد بايعوا الحسن بن علي بيعة شملت المدن والقرى ، وسكان البوادي من القبائل العربية وغيرها. وباشر (ع) جميع سلطاته الشرعية ، فرتب الولاة

وقادة الجيش ووزع ما وجده في بيت المال على المسلمين ، كل بمقدار نصيبه ، إلا المقاتلة (وهم أفراد الجيش وقادته) فإنه زاد في عطائهم مائة مائة. وقبل أن يمضي على استخلافه ثلاثة أشهر ، أشار عليه من حوله من القادة ورؤساء القبائل بالرجوع الى صفين ، تنفيذا للخطة التي كان والده (ع) قد رسمها وباشر في تنفيذها قبل اغتياله ، فلم ير (ع) بدا من تنفيذ هذه الخطة وتحقيق رغبات الملحين عليه في تنفيذها.

ثم خرج من الكوفة متجها لقتال معاوية في جيش لا يقل عن سبعين ألفا من المجاهدين ، وأرسل ابن عمه عبيد الله بن العباس على رأس فرقة من الجيش ، وأمره أن يعبر الفرات إلى قرية يقال لها (مسكن) ليمنع معاوية من دخول الحدود العراقية ، وأوصاه ان لا يبتدئ معاوية بالقتال ، حتى يكون هو البادئ فيه. وأرسل معه قائدين من قواد جيشه وخلص شيعته ، ليتعاون معهما في الرأي وتدبير الأمور حسبما تمليه المصلحة. وتخلف الحسن (ع) في المدائن بقصد التعبئة العامة واستكمال العدد الكافي لمجابهة العدو. ولما أحس بدسائس معاوية وتغلغلها بين صفوف جيشه وانحراف بعض قواد الجيش بواسطة المال والمناصب التي أغراهم بها معاوية ، وقف بينهم خطيبا ليعرف مدى ما تركته دسائس معاوية من آثار سيئة بين صفوف جيشه. وما ان قال : «ألا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة واني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا امري» ، حتى رموه بالكفر ونهبوا ما في خيمته من أمتعة وطعنه الجراح بن سنان الأسدي برمحه ، فأصاب فخذه. فعرف أن الجيش لا ينصاع لأوامره. واستغل ابن هند تلك الكلمات التي ألقاها الحسن (ع) بقصد استكشاف نوايا أتباعه ، كما استغل موقف جيشه منه ، فآثر عند ذلك ان يستعمل الحيل والمكر والمال ، لعله يربح المعركة بدون

قتال. فأرسل الى عبيد الله بن العباس ، الذي ولاه الحسن (ع) أمر القيادة ، كتابا يمنية فيه حسن صنيعه ، ان هو بادر الى طاعته ، ويغريه بالعطاء الجزيل ، فاستجاب له ابن عباس ودخل في طاعته ليلا.

وتولى قيادة الفرقة المرابطة على الحدود ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وأصر هو وجنوده التواصل على قتال معاوية. ولما يئس معاوية من استجلابهم بما لديه من الوسائل ، أرسل وفدا ليفاوض الحسن (ع) بالصلح وشروطه. وكان من نتيجة ذلك ، ان وافق الحسن على الصلح ، بعد ان لمس من أهل العراق التخاذل ، وعرف أن الرؤساء والقواد يعرضون على معاوية طاعتهم وتسليم الحسن مكتوفا (١).

لقد عرف الحسن كل ذلك ووصلت اليه جميع اخبارهم ، وبالأمس القريب كان يراهم مع أبيه متخاذلين ، لا يندفعون الى خير ولا يتباطأون عن شر. وسمع أباه مرارا من على منبر الكوفة يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. ومن يتتبع الحوادث التي مرت في تلك الفترة الوجيزة من أشهر خلافته والظروف التي أحاطت به ، يرى ان ما حدث من أمر الصلح مع معاوية كان لا بد منه. وقد أدرك بعض المستشرقين تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المسلمين والظروف العصيبة التي أحاطت الحسن (ع) وانتهى الى أن ما فعله كانت تمليه المصلحة العامة والحكمة (٢).

ويميل الى ذلك السيد مير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب (٣). ونظر أكثرهم إلى الصراع بين الحسن ومعاوية من الناحية السياسية التي تمثل المكر والدهاء واستباحة كل شيء في سبيل أغراض الساسة

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد.

(٢) روندلسن ، في كتاب عقيدة الشيعة في إيران والعراق.

(٣) كما نقل الدكتور علي الخرطبولي في كتابه : العراق في ظل العهد الأموي.

وأهوائهم ، فاتهموه بالضعف ، وانه غير جدير بأن يكون ابن علي (ع) ، أمثال : (بروكلمان) و (أوكلي) و (فلهوزن) و (ساكيس) (١).

والذي يؤخذ على هؤلاء ، أنهم ينظرون الى الحسن (ع) بصفته خصما لمعاوية بن أبي سفيان ، الذي يستبيح كل شيء في سبيل تدعيم عرشه والوصول إلى الخلافة ، التي هي الغاية الأولى والأخيرة بنظره. أما الحسن بن علي (ع) فإنه ينظر إليها كوسيلة لإحقاق الحق وانصاف المظلوم وإشاعة العدل والسلام بين الناس ، كما ينظر إليها القرآن والإسلام ، لذا فإنه لا يرى من الحق استعمال المكر والكذب والقتل للوصول إليها ، فالخليفة بنظر علي وأبنائه ، حامي القرآن وحافظ الشريعة والأمين على حقوق الناس وأموالهم ، والخليفة بنظر ابن هند يملك الرقاب والأموال ويحكم مما توحيه اليه شهواته وأهوائه ويستبيح كل شيء في سبيل توطيد ملكه وإشباع غرائزه.

لذلك لم ير الحسن مجالا من دينه ، ان يستعمل الأساليب التي كان يستعملها ابن ابي سفيان.

وقد عاب المستشرق (سيكس) على علي (ع) إصراره على الأمانة والشرف ، لأنهما لا يتفقان مع السياسة (٢).

لقد انتهى الحال بأهل العراق مع الحسن (ع) الى مرحلة لم يجد بدا معها من تسليم الخلافة لمعاوية. ولم يبق عليه إلا أن يأخذ على معاوية شروطا ، له ولأهل بيته وشيعة أبيه ، تحفظ لهم حقهم

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي (ص ٧٤).

(٢) نفس المصدر (ص ٥٢).

وكرامتهم. فأرسل لهم معاوية صحيفة بيضاء وذيّلها بخاتمه ، وأبدى استعداده للموافقة على جميع ما يشترط فيها ، فاشترط لنفسه ان تكون له الخلافة بعد موت معاوية ، وان يأخذ كل ما في بيت مال الكوفة ، وان يكون له خراج الأهواز في كل عام.

واشترط لأبيه ، ان لا يسبه معاوية على المنابر. وان يكون لأخيه الحسين عليهما‌السلام ألف ألف درهم في كل عام. وان يفضل بني هاشم في العطاء على غيرهم من بني أمية. وان يؤمن أهل العراق ويتجاوز عن هفواتهم (١).

وبهذا الصلح تحققت لمعاوية أطماعه السياسية ، التي كان يحلم بها من عهد طويل ، وتم له الاستيلاء على أمور المسلمين عامة. وقبل ان يدخل الكوفة صلى بالناس صلاة الجمعة بالنخيلة وهي القاعدة العسكرية التي كان يجتمع فيها الجيش ، لاستكمال عدده وعدته ، ومنها ينطلق نحو وجهته ـ وبعد الصلاة خطب في أهل العراق ومن معه من جند الشام. وأسفر عن نواياه السيئة ، التي كان يضمرها لأهل العراق ، وللعلويين وشيعتهم. وقد وضع في خطبته الخطوط العامة للنهج السياسي الذي سيحققه في العراق ، ومع الحسن (ع) وشيعته بصورة خاصة.

فقد روى الأعمش ، عن سعيد بن سويد قال : صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ، وبعد الصلاة قال : والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك وانما قاتلتكم

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي (ص ٧٠) عن الطبري وابن قتيبة وأبي الفداء وغيرهم من المؤرخين.

لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك ، وأنتم له كارهون. إلا وان كل شرط أعطيته للحسن بن علي ، تحت قدمي هاتين ، لا أفي له بشيء منه (١).

بهذه الكلمات القصار ، وضع الخطوط الرئيسية ، للسياسة التي سيطبقها في العراق وغيرها من الأقطار التي كانت تخضع لخلافة علي (ع). وأحس أهل العراق ، بصورة خاصة ، بأخطائهم وبنتيجة تخاذلهم عن علي (ع) يوم كان يدعوهم الى جهاد معاوية ويحذرهم غدرة وكيده للقرآن والإسلام. ورجعوا بذكرياتهم الى الماضي البعيد ، يوم كان علي (ع) يقول لهم : ملأتم قلبي قيحا. ويسأل ربه ان يخلصه منهم. وأحسّوا ان مسؤولية انتصار معاوية تقع عليهم وحدهم (٢).

وها هو اليوم يقول لهم : «إني قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك ، وأنتم له كارهون». ولم تغب عن ذاكرتهم ، كلمات علي ، بالأمس القريب ، لابن عمه عبد الله ، وهو يخصف له نعله : يا ابن عباس ، ان أمرتكم هذه لا تساوي قيمة هذا النعل إلا أن أحق حقا ، أو أبطل باطلا.

ان عليا ، يرى الخلافة ، وان جمعت الدنيا بأسرها تحت سلطانه ، لا تساوي نعلا بالية ، إذا لم تكن سبيلا إلى الحق والعدالة. ولكنها بنظر ابن هند ، الأمنية الغالية ، لأنها تحقق له اطماعه وشهواته ومجد آبائه الغابرين. وله ان يريق في سبيل الوصول إليها ، دماء الملايين من الأبرياء والآمنين ، فهو يقاتل ليتأمر على المسلمين ويتسلط على رقابهم

__________________

(١) شرح النهج (المجلد ٤ ـ ص ١٦).

(٢) العراق في ظل العهد الأموي ، للدكتور علي الخرطبولي.

وأموالهم وعلي (ع) انما يقاتل لإحقاق الحق وانصاف المظلوم من الظالم.

لقد بدأ معاوية في تطبيق بيانه ، الذي وضعه بالنخيلة ، فأول ما قام به هو اضطهاد الشيعة والتنكيل بهم ، بالحبس والقتل والتشريد ، وكتب نسخة واحدة الى جميع عماله ، ان برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل ابي تراب وأهل بيته. فقام الخطباء على المنابر ، يلعنون عليا ويبرأون منه ومن أهل بيته. وكان أشد الناس بلاء أهل الكوفة ، لكثرة من بها من الشيعة. واستعمل عليهم زياد بن سميّة وضم إليه البصرة ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل وشردهم عن العراق ، فلم يبق منهم فيها معروف. ثم تتبعهم في جميع الأقطار الإسلامية وكتب الى جميع عماله ان لا يجيزوا لأحد منهم شهادة. وأوصاهم بالإحسان الى شيعة عثمان. ومن يروي فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وادنوهم واكتبوا لي بكل ما يروونه ، ففعلوا ذلك. حتى أكثر الرواة في فضائل عثمان ومناقبه ، وتنافسوا في ذلك. ولما كثرت الروايات المكذوبة في عثمان ، كتب الى عماله ان الحديث في عثمان قد فشا بين الناس وانتشر في الآفاق ، فادعوا الناس الى الرواية في فضل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب الا وايتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب الي وأقرّ لعيني وادحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضائله.

وما ان أحسّ الرواة برغبة معاوية ، حتى أسرعوا إلى تحقيق رغبته ، فوضعوا له أحاديث كثيرة ، لم يحدث بها الرسول وجدّ الناس في رواية هذا النوع من الأحاديث وعلموا صبيانهم وغلمانهم منها الشيء

الكثير. ثم كتب الى عماله في جميع الأقطار الإسلامية ان يقطعوا العطاء عمن اتهم بالتشيع لعلي وأهل بيته ويهدموا عليه داره. فاشتد البلاء في العراق ، لا سيما الكوفة ، وبلغ حدا لا يطاق ، وبخاصة بعد موت الحسن وقتل الحسين عليهما‌السلام.

ومضى على سنة معاوية وسيرته كل من جاء بعده من الأمويين وعمالهم (١). فلم يعد باستطاعة أحد ان يتظاهر بالتشيع ، أو يسمي حسنا أو حسينا. وإذا أراد الرواة أن يحدثوا عن علي قالوا : حدثنا أبو زينب. ووقف عبد الملك بن قريب في طريق الحجاج فقال له : أيها الأمير ، ان أهلي عقوني ، فسموني عليا ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك الحجاج وقال : ما الطف ما توسلت به ، وليتك موضع كذا ، واغدق عليه من عطائه (٢).

وقد قتل زياد منهم الفقهاء والمحدثين ، أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وجويرية بن مسهر ، وأمثالهم من القراء وحملة الحديث. ولما أراد ان يقتل سعيد بن سرح ، استجار بالحسن (ع) فهدم داره وأخذ أمواله وحبس أخاه وامرأته. فكتب اليه الحسن (ع) : أما بعد ، فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره وأخذت ماله وحبست عياله ، فإن أتاك كتابي هذا ، فابن له داره واردد عليه عياله وماله وشفعني فيه ، فقد أجرته ، فكتب إليه زياد : من زياد بن ابي سفيان ، إلى الحسن بن فاطمة ، أما بعد ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك ، وأنت طالب حاجة ، وأنا سلطان وأنت رعية ، وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على

__________________

(١) شرح النهج (مجلد ٣ ص ١٦ و ١٧).

(٢) شرح النهج (م ٣ ص ١٦).

رعيته. كتبت إلي في فاسق أويته ، اقامة منك على سوء الرأي ورضا منك بذلك. وايم الله ، لا تسبقني به ، ولو كان بين جلدك ولحمك ، وان نلت بعضك غير رفيق بك ، فإن أحب لحم إليّ أن آكله ، للحم أنت منه ، فسلمه بجريرته إلى هو أولى به منك. فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه ، وإن قتلته ، لم اقتله إلا لحبّه لأبيك الفاسق (١).

ولقد قال الحسن البصري في معاوية : ثلاث كنّ في معاوية ، لو لم يكن إلا واحدة منهن لكانت موبقة : ابتزازه على هذه الأمة بالسفهاء حين ابتزها أمرها ، واستلحاقه زيادا ، وقد قال رسول الله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، وقتله لحجر بن عدي وأصحابه. فيا ويله من حجر وأصحاب حجر. ولما وصف بالحلم في مجلسه قال : وهل اغمد سيفه ، وفي نفسه على أحد شيء؟ (٢).

لقد أمعن الأمويون في التنكيل والتعذيب بأهل البيت وكل من يتهم بالولاء والتشيع لهم. ولم يضعوا سيوفهم في أغمادها ، ما دام بين المسلمين من يذكر عليا بالخير أو يسمي حسنا وحسينا. فليس من الغريب إذا خفت صوت التشيع في ميدان التشريع وغيره من الميادين. وتلك من النتائج المرتقبة لأي أمة تعيش في مثل هذا الجو المظلم ، ولو لا ان التشيع يرتكز على أساس متين من المبادئ والعقائد لكان كغيره من المذاهب والأحزاب البائدة ، وقد أبيدت فرق وأحزاب ، ولم يعد لها عين ولا أثر ، لمجرد أن السياسة كانت تسير في اتجاه معاكس لها ، ولم تلق من قسوة الحكام وجورهم شيئا ، بالنسبة لما لاقاه الشيعة ، منذ العهد

__________________

(١) شرح النهجر (جلد ٤ ص ٧٢).

(٢) العراق في ظل العهد الأموي ، للدكتور علي الخرطبولي (ص ٢٠٩).

الأموي حتى العصور الأخيرة من تاريخهم. لقد كانت أولى أهداف الأمويين في سياستهم ، القضاء على العلويين وشيعتهم وآثارهم ، بكل ما يملكون من الوسائل. وكان ذلك يشغل الجانب الأكبر من تفكيرهم وجهودهم ، لأنهم يرون فيه الخطر الذي يهدد سلطانهم وسلامة دولتهم. وتتضح هذه الآراء من سيرة معاوية وولده يزيد ، ومن جاء بعده منهم. وقد أشار هاشم بن عبد الملك ، في رسالته التي بعثها الى واليه في العراق ، يوسف بن عمر ، الى النوايا السيئة ، التي حملها الأمويون على الشيعة وأئمتهم ، قال : أما بعد ، فقد علمت بحال أهل الكوفة ، في حبهم أهل هذا البيت ، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم ، لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم ، ووظفوا عليه شرائع دينهم ، ونحلوهم ما هو كائن ، حتى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها على الخروج (١).

ولكنهم مع ذلك ، فما استطاعوا أن يطفئوا شعلة الحق من قلوب المؤمنين ، ولم يتم لهم ما أرادوه ، وان تم لهم ان يحولوا بينهم وبين ادارة شؤون الأمة والقيام بأمر الخلافة.

ومهما يكن الحال فلقد تنازل الحسن (ع) عن حقه في الخلافة لمصلحة الإسلام العليا ، بعد ان رأى أهل الكوفة لا يثق بهم إنسان إلا غلب ، وعاهده معاوية أن يحفظ لشيعته وللمسلمين حقهم وكرامتهم. ولكنه بحكم طبيعته ، التي لا تعرف الا المكر والغدر ، أبى أن يفي بشيء مما عاهد عليه. وكان مما لا بد منه ، ان يرحل الحسن عن الكوفة ، هو وأهل بيته ، الى العاصمة الأولى للإسلام ، فأقاما بها بين

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي ، للدكتور علي الخرطبولي (ص ٢٠٩).

من بقي من صحابة الرسول ، الذين سمعوا قوله فيه وفي أخيه الحسين (ع) : «هذان إمامان ، قاما أو قعدا». وقوله : «هما سيدا شباب أهل الجنة». والتف حولهما رواد العلم وبقية الصحابة الكرام ، فأخذوا عنهما العلم وأصول الإسلام وفروعه. وقد الف الحسن في الفقه ، كما يؤيد ذلك ما ذكره السيوطي في تدريب الراوي قال : كان بين السلف من الصحابة ، والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثير منهم وأباحها طائفة وفعلوها ، منهم علي وابنه الحسن عليهما‌السلام.

ولما التقى الفرزدق الشاعر مع الحسين (ع) وهو في طريقه لأداء فريضة الحاج ، والحسين (ع) في طريقه الى العراق قال : سألته عن أشياء من نذور ومناسك ، فأخبرني بها. ومما لا شك فيه انهما كانا من أوثق المراجع في نفوس المسلمين وأقدسها ، وأكثر من سكن المدينة على عهد الرسول رآه وهو يحملهما على كتفيه ويمص من لعابهما ، وسمعه وهو يقول لهما : «نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما».

وتولى أمرهما علي (ع) من بعده وعاشا معه أكثر من أربعين عاما ، كانت سيرتهما في هذه المدة سيرة ندية ، فواحة ، عطرة ، كسيرة جدهما وأبيهما ، سلسلة جهاد متواصل في سبيل الله وخير الإنسانية ، وثورة على أئمة الظلم والباطل ، الذين أجبروا الناس على الخضوع لهم والسير في ركابهم ، بما استعملوه من صور مخيفة تنذر المعارضين لسياستهم بالقتل والتشريد ، فلم يمنعهما كل ذلك من المضي في طريقهما الذي أعلناه للعالم الإسلامي بكل صراحة ، مهما كانت النتائج.

وأخيرا لم ير هند بدا من اغتيال الحسن ، فدسّ اليه السم ، بواسطة إحدى زوجاته ، جعدة بنت الأشعث بن قيس. وانتهى الأمر بأخيه الحسين (ع) ، أن قتله يزيد بن معاوية ، بعد ان استغاث به

ملايين المسلمين لينقذهم من سلطانه وسلطة ولاته الجائرين. ورأى نفسه بإزاء أمر لا مفر منه ، ولا محيد عنه ، فاستجاب لرغبة أهل العراق الملحة ، ولكتبهم التي بلغت ألفا أو تزيد. وقبل ان يدخل الكوفة فوجئ بغدرهم ، فلم يعد بإمكانه ان يرجع الى مدينة جده ، أو يلتجئ الى بلد عربي آخر. وأصبح بين أمرين : إما ان يستسلم ليزيد وأتباعه ، أو يقاتل القوم بتلك الحفنة القليلة من أصحابه وبنيه. اما الاستسلام ، ومن ورائه البيعة ليزيد ، فقد أعلن رأيه فيها صريحا في الأيام الأولى لولاية يزيد بن معاوية ، يوم استدعاه من أجلها حاكم المدينة ليلا ، وفي مناسبات اخرى ، فكان المحتم ان يرفضها اليوم ، كما رفضها بالأمس ، مهما كان مصيره ، ما دام في سبيل الحق والإنسانية فمات هو وأصحابه ميتة الكرام ، ولسانه يردد : «لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما وشقاء». وترك من ورائه دروسا في الإباء والتضحية والثورة على الظلم والظالمين والتفاني في سبيل العقيدة والمبدأ ، لا تزال الأجيال تستلهم منها العزيمة والإخلاص للحق والعقيدة ، والاستهانة بالحياة مع الظالمين. وستبقى هذه الذكرى الخالدة من أروع ما يقدمه الإنسان في هذه الحياة للبشرية من أعمال وآثار ودروس.

هذه لمحة خاطفة عن الوضع السياسي بعد انتقال الخلافة الإسلامية إلى الأمويين. وقد أوجزنا فيها سيرتهم مع أهل البيت وشيعتهم وما لا قوة من التعذيب والاضطهاد ، والأسباب التي أبعدتهم عن حقهم الشرعي في الخلافة الإسلامية وكان مما لا بد لنا من ذلك ، لنعرف مدى آثار هذا الوضع على حملة الفقه والحديث ، من رجال الشيعة وفقهائهم ، ممن بقي من الصحابة والتابعين. ومن ذلك نعرف ان الذي تصدوا للإفتاء ونقل الحديث من الشيعة في ذلك العصر ، كانوا يحرصون ان لا

تظهر عليهم صفة التشيّع ، حتى لا يكون مصيرهم مصير من عرفوا بالولاء لأهل البيت ، كحجر بن عدي وسعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل والعشرات من أمثالهم.

وقبل ان نستعرض فقهاء التابعين من الشيعة ، لا بد لنا من الإشارة الموجزة إلى الدور الذي قام به الامام زين العابدين في التشريع ونشر تعاليم الإسلام ، لأن فقهاء التابعين ، قد أخذ أكثرهم من الأئمة الثلاثة ، وروى عنهم الحديث.

لقد نشأ علي بن الحسين (ع) في بيت الله. بيت النبوة ، ذلك البيت ، الذي تحمل في سبيل الله ، من الألم والمحن أقصى ما يمكن ان يتصوره الإنسان. ففي السنين الأولى من طفوليته ، كانت محنة جده الأعظم في محرابه ، وبعدها محنة عمه الحسن ، وجاءت بعد ذلك محنة أبيه الكبرى ، التي لم يسلم منها من بنيه غيره. وبقيت آثارها تحزّ من نفسه ، حتى لحق بربّه. ومع تلك المصائب والمحن التي توالت عليه ، وفي ذلك الجو المظلم ، الذي عاشه بعد استشهاد أبيه وسبي نسائه وعياله ، كان منقطعا الى عبادة ربه ، ونشر تعاليم الإسلام وبيان أحكامه من حلال وحرام. وقال عنه ابن سعد في الطبقات الكبرى : «كان علي بن الحسين ثقة مأمونا ، كثير الحديث ، عاليا رفيعا ، ورعا عابدا خائفا».

وقال عنه ابن الجوزي في تذكرته : ان ابن عباس كان إذا رآه يقول : «مرحبا بالحبيب ابن الحبيب».

ونقل أبو نعيم في رسالته عن الزهري انه قال : «ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين (ع)». وقال فيه أبو حازم : «ما رأيت أفقه منه».

وقال الشيخ المفيد ، عن عبد الله بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن اجلس الى خالي علي بن الحسين (ع) ، فما جلست اليه قط ، الا قمت بخير قد أفدته : إما خشية الله تحدث في قلبي لما أراه من خشيته ، أو علم قد استفدته منه (١).

وفي الإرشاد ، عن سعيد بن كلثوم قال : كنت عند الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، فذكر عليا أمير المؤمنين ، فأطراه بما هو اهله ، ثم قال : «والله ما أكل علي بن أبي طالب من الدنيا حراما قط ، حتى مضى لسبيله ، وما عرض له أمران قط هما لله رضا ، إلا أخذ بأشقهما عليه ، وما نزلت برسول الله نازلة ، إلا دعاه ثقة به ، وما أطاق عمل رسول الله من هذه الأمة غيره. وانه كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار ، يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب الآخرة. ولقد أعتق من ماله الف مملوك في طلب رضا الله والنجاة من النار ، مما كدّ بيده ورشح منه جبينه. وما رأيت أحدا من ولده يشبهه في لباسه وقوته وعلمه وفقهه ، أكثر من ولده علي بن الحسين (ع)».

ولقد بلغ به الحرص على العلم واهله ، انه كان يستقبل طالب العلم ويعانقه ، ثم يقول له : «مرحبا بوصية رسول الله». وكان يقصد عبدا اسود ويجلس عنده ، فقال له بعضهم : أنت سيد الناس وأفضلهم ، تذهب الى هذا العبد وتجلس عنده؟ فقال : «العلم يتبع حيث كان».

وقال الشيخ محمد الخضري ، وهو يتحدث عن كبار التابعين

__________________

(١) الإرشاد المفيد.

وأشهرهم في الفقه والفتوى : «ان علي بن الحسين الهاشمي هو الامام الرابع من أئمة الشيعة الإمامية ، يعرف بزين العابدين ، روى عن أبيه وعمه الحسن وعائشة وابن عباس وغيرهم». ونقل عن الزهري انه قال : «ما رأيت أحدا كان أفقه من علي بن الحسين» وقال ابنه : «ما رأيت هاشميا أفضل منه» (١).

وليس غرضنا من ذكر هذه الطائفة من أقوال علماء عصره فيه ، ان نستقصي جميع ما قيل فيه من تقريض وثناء ، وانما المقصود مما ذكرناه من أقوال هؤلاء الإعلام انه كان مرجعا في الأحكام في عصره ، على الرغم من الرقابة الشديدة ، التي فرضتها سياسة الحكام عليه بصورة خاصة.

وقد تلمذ عليه جماعة من فقهاء التابعين ، منهم القاسم بن محمد بن ابي بكر وسعيد بن المسيب وابن جبير وأبو حمزة الثمالي وأبو خالد الكابلي وغيرهم. قال السيد حسن الصدر : ان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وأبا خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين وحواريه (٢).

لقد بقي الإمام زين العابدين (ع) ما يقرب من أربعين عاما بعد أبيه ، قضاها في ظل العهد الأموي ، وتحت الرقابة الشديدة من الأمويين وولاتهم ، كالحجاج الثقفي وأمثاله ، الذين كانوا يعملون جهدهم للقضاء على جميع الفئات ، التي لا تدين بالولاء الى الأمويين. وكان الشيعة في طليعة من لاقوا حتفهم على يد الحجاج وغيره من اتباع الأمويين.

وكانت تتبع موجة القتل والتشريد والتعذيب ، موجة اخرى من الأحاديث المكذوبة للقضاء على آثار أهل البيت ، ومحو التشيع من

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي ص ١٥١.

(٢) تأسيس الشيعة.

أساسه. ولكن جميع المحاولات التي قام بها معاوية وولاته والأمويون وأتباعهم ، لم تغنهم شيئا ، فلقد بقي التشيع ، وبقيت آثار أهل البيت : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها). وما ذلك إلا لأن قادة التشيع ، لم يكونوا في يوم من الأيام إلا صورة صادقة عن جدهم الرسول الأعظم ، في سيرتهم وإخلاصهم لمبادئ الإسلام وتعاليم القرآن ، وتفانيهم في سبيل الحق ومحاربة الباطل.

لقد بذل معاوية ، فيما بذله من الأموال الطائلة ، أربعمائة ألف درهم لسمرة ابن جندب ، أحد اتباعه ، ليروي إلى الناس ان قول الله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ، يشير الى ابن ملجم ، لأنه سبق في علم الله انه سيقتل عليا ، وان قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) ، يشير الى علي (ع). فروى سمرة ذلك وإشاعة بين الناس. ومع علمهم بكذبه ، ما استطاع أحد ان يجاهر بالخلاف ، خوفا من سيف معاوية المسلول على رقاب الأمنين. وجميع المسلمين يعرفون ويعلمون ان معاوية وأتباعه هم المعنيون في الآية الثانية ، وان عليا وأبناءه وشيعتهم الطيبون ، هم المعنيون بالآية الأولى. ولم يستطع ان يغير من الحق والواقع شيئا بكذبه وبهتانه وسيوفه المسلولة على الرقاب. وكان نصيبه الفشل والخسران ، في كل محاولاته التي بذلها للقضاء على التشيع وآثاره. وبقيت آثار أهل البيت حية خالدة ، ومعدنا خيرا ، يفيد الإنسانية في جميع ادوارها ومراحل حياتها. اما غيرهم فقد ذهب مع الزمن ، وأصبح مثالا للرذيلة والبغي والفحشاء.

ففي الدور الذي كان فيه أئمة الشيعة تحت الرقابة الشديدة ، والشيعة يقاسون ألوانا من التعذيب والتنكيل ، كان كبار الفقهاء والمفتين من الشيعة ، ولكن صبغة التشيع لم تكن بارزة في فقههم وحديثهم : ومرد ذلك الى الضغط السياسي الذي برز في سياسة الحكام الأمويين. الذين سخروا الدين والفقه وجميع الآثار الإسلامية لتدعيم عروشهم.

ولا بد لنا من عرض موجز لعدد من مشاهير شيوخ الفقه والتشريع من رجال الشيعة في العهد الأموي ، لنعرف مدى مساهمة التشيع في الفقه الإسلامي والتفسير والحديث ، من بداية العهد الأموي ، إلى العصر الذي ظهر فيه الإمام محمد الباقر. وقد استعرض الدكتور محمد يوسف في كتابه ، تاريخ الفقه الإسلامي ، المشاهير من شيوخ التشريع في عهد الصحابة ، ومن أخذ عنهم من الفقهاء الشيعة وتلامذتهم من التابعين.

وفي تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري ما يقرب مما ذكره محمد يوسف ، ومن بين هؤلاء من ثبت تشيعه وولاؤه لأهل البيت.

فمن فقهاء الشيعة سعيد بن المسيب ، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين تخرجوا من مدرسة الفقه في المدينة. ومن أشهر المفتين والمحدثين في زمانه. ولد لأربع سنوات من خلافة عمر الخطاب ولازم الأئمة من أهل البيت وأصبح من حواري علي بن الحسين (ع).

قال الفضل بن شاذان : لم يكن في زمن علي بن الحسين في آخر أمره الا خمسة نفر : سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن جبير بن مطعم ويحيى ابن أم الطويل وأبو خالد الكابلي (١).

__________________

(١) رجال العلامة ص ٣٩.

وروى إسحاق بن حريز عن الامام الصادق (ع) انه قال : كان سعيد ابن المسيب من ثقاة علي بن الحسين (ع). وروى محمد بن ابي نصر البزنطي انه ذكر في مجلس الامام علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، القاسم بن محمد ابن ابي بكر وسعيد بن المسيب ، فقال : «لقد كانا على هذا الأمر». وقد وردت بعض الروايات التي قد توهم انحرافه عن أهل البيت ، لأنه لم يحضر الصلاة على علي بن الحسين ، ولكن الشيخ محمد طه في رجاله ، بعد ان أورد ما يدل على تشيعه وولائه لأهل البيت قال : لم نجد ما يدل على ذمه سوى ما روي مرسلا انه لما مرّت جنازة علي بن الحسن (ع) انجفل الناس ولم يبق في المسجد الا سعيد بن المسيب فوقف عليه (خثرم) مولى أشجع ، قال : يا أبا محمد إلا تصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح؟ قال : أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي على الرجل الصالح في البيت الصالح. وهذه الكلمة ، كما يمكن ان تكون بدافع الجفاء والغلظة ، يمكن ان تكون تقية منه ، أو لإبعاد نفسه عن التهمة بالرفض ، في ذلك الظرف الذي كان الحجاج فيه يقتل الأبرياء لمجرد اتهامهم بالتشيع. وقد قتل سعيد بن جبير لهذا السبب. ولقد كان بعض أصحاب الإمام الصادق ، إذا رآه يصرف وجهه عنه ، حذرا من اشتهاره بالتشيع (١).

وفي رواية علي بن زيد : لقد اعتذر عن تركها ، بأنه سمع من علي بن الحسين ان صلاة ركعتين في المسجد إذا كان خاليا ، فيهما من الأجر ما لا يحصيه الا الله ، ولم يخل له المسجد الا حينما حملت جنازة الإمام زين العابدين (ع).

ومهما كان الحال ، فان تخلفه عن الصلاة عليه ، لا يدل على

__________________

(١) إتقان المقال ص ١٩١.

انحرافه وعدم تشيعه ، لا سيما بعد اشتهاره بالتشيع ووجود الأحاديث الكثيرة التي تنص على موالاته لأهل البيت. وقد قال فيه الامام زين العابدين ، انه اعلم الناس وأفهمهم في زمانه (١). وفي إتقان المقال انه أحد العلماء الإثبات. اتفق الفقهاء الكبار على ان مرسلاته أصح المراسيل ، وانه ليس في التابعين أوسع علما منه (٢). وعن الذهبي انه سيد التابعين وأحد الأعلام ، فقيه رفيع الذكر ، رأس في العلم والعمل.

وقال عنه الدكتور محمد يوسف : «انه كان واسع العلم ، وافر الحرمة ، متين الديانة ، قوالا بالحق ، فقيه النفس». ثم قال : «وقد جاء عن غير طريق انه أعلم الناس بقضاء الرسول ، كما يوصف بأنه أحد اعلام الدنيا وسيد التابعين ، لا أحد فيهم أوسع علما منه» (٣).

وقال عنه الشيخ محمد الخضري : «إنه سمع من كبار الصحابة ، وان قتادة قال فيه : ما رأيت أحدا أعلم من سعيد بن المسيب ، وان الحسن البصري كان إذا أشكل عليه شيء كتب الى سعيد بن المسيب يسأله عنه» (٤).

وقد ذكره الدكتور محمد يوسف في مواضع أخرى من كتابه ، ففي (صفحة ١٣٧) قال عنه بأنه الزعيم الأول لأهل الحديث ، وهو رأس علماء التابعين وأحد الفقهاء السبعة.

وفي صفحة ١٥٨ قال : «كان من الطراز الأول ، جمع بين الحديث

__________________

(١) رجال الكشي.

(٢) عن نهج المقال للاسترابادي.

(٣) تاريخ الفقه الإسلامي ، نقلا عن الذهبي وابن العماد وغيرهما.

(٤) تاريخ التشريع الإسلامي.

والفقه والعبادة والزهد والورع». ولأنه أبى أن يبايع الوليد وسليمان ابني عبد الملك بولاية العهد. عرضه الخليفة على السيف وجلده خمسين جلدة وشهر به في أسواق المدينة ومنع الناس ان يجالسوه. وقد رفض ان يزوج ابنته للوليد ، ولي عهده ، وآثر عليه أحد مريديه ومجالسيه من الفقراء (أبو وداعه). وكان يقول : «لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة ، إلا بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم».

وقد ذكر عنه الميرزا محمد (١) وغيره ممن كتب في الرجال ، ما يؤكد تشيعه وولاءه وانه من الأعلام في الفقه والحديث وأبرز أهل زمانه فيهما.

ومنهم القاسم بن محمد بن أبي بكر ، الفقيه الشيعي. قال المرحوم السيد حسن الصدر (٢) : انه أحد الفقهاء في المدينة. وعن أبي أيوب : ما رأيت أفضل منه ، من كبار الطبقة الثالثة ، ثم قال : كان جد مولانا الصادق (ع) ، لأن أم فروة والدة الامام الصادق هي بنت القاسم ، وكان قد تزوج بنت الامام زين العابدين (ع). وقد ذكر في مجلس الامام الرضا (ع) القاسم ابن محمد وسعيد بن المسيب ، فقال : كانا على هذا الأمر ويعني بذلك ولاية أهل البيت. وفي الكافي عن يحيى بن حريز قال : قال أبو عبد الله الصادق : كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبو خالد الكابلي ، من ثقات علي بن الحسين.

وفي حديث آخر ان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد من حواري علي بن الحسين.

__________________

(١) منهج المقال في أحوال الرجال.

(٢) في كتابه تأسيس الشيعة ، عن ابن حجر.

وقال الشيخ محمد طه : ان القاسم بن محمد من سادات التابعين وفقهاء الشيعة وأفضل أهل زمانه (١). وفي كثير من الأحاديث عن أهل البيت ، ما يدل على تشيعه ووثاقته وانه من حواري علي بن الحسين (ع).

وقال عنه الشيخ محمد الخضري : انه كان من فقهاء أهل المدينة ومن المراجع في الإفتاء والفقه الإسلامي. ونقل عن يحيى بن سعيد انه قال : ما وجدنا أحدا بالمدينة نفضله عليه. وعن ابي الزناد : ما رأيت فقيها أعلم من القاسم وما رأيت أحدا اعلم بالسنة منه.

وعن ابن عيينة : ان القاسم كان أعلم أهل زمانه (٢). وقال عنه ابن سعد : انه كان إماما ، فقيها ، ورعا ، كثير الحديث (٣).

وقال فيه عمر بن عبد العزيز : لو كان لي من الأمر شيء لاستخلفت اعيمش تميم (٤) يعني بذلك القاسم بن محمد.

وقال عنه الدكتور محمد يوسف : انه كان إماما في الفقه والعلم وثقة ورعا ، وانه أخذ العلم عن شيوخ المدينة ، عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب (٥).

وقد عدّه اليعقوبي من فقهاء المسلمين ، في عهد أربعة من ملوك

__________________

(١) إتقان المقال عن ابن خلكان.

(٢) تاريخ التشريع الإسلامي.

(٣) الطبقات الكبرى.

(٤) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري.

(٥) في كتابه : تاريخ الفقه الإسلامي ، عن الذهبي (ج ١ ص ٢٩١) وعن ابي العماد (ج ١ ص ١٣٥).

الأمويين : الوليد بن عبد الملك وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك.

ومن فقهاء الشيعة الذين تصدروا للفتوى ورواية الحديث علقمة بن قيس ، وقد أدرك أربعة من أئمة الشيعة وأخذ عنهم الحديث والفقه. وكان قد شهد مع أمير المؤمنين صفين وأصيبت بها إحدى رجليه وقتل بها أخوه (أبيّ ابن قيس).

قال الكشي (١) : كان علقمة بن قيس فقيها في دينه ، قارئا لكتاب الله ، عالما بالفرائض. وكان اخوه الحرث فقيها أيضا ، وقد عدّه الشهرستاني في الملل والنحل من رجال الشيعة. وفي المراجعات (٢) : انه كان من رؤوس المحدثين الذين ذكرهم أبو إسحاق الجوزجاني. وقال عنه وعن جماعة من محدثي الشيعة : كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم لتشيعهم ، هم رؤوس محدثي الكوفة. ثم قال عنه : أما عدالة علقمة وجلالته عند أهل السنة ، مع علمهم بتشيعه ، فمن المسلمات. وقد احتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. ودونك حديثه في صحيح البخاري ومسلم عن كل من ابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة. أما حديثه عن عثمان وابن مسعود ففي صحيح مسلم. وروى عنه في الصحيحين ابن أخيه إبراهيم النخعي. وروى عنه في صحيح مسلم عبد الرحمن بن زيد وإبراهيم بن زيد والسبيعي. وقد ذكره الشيخ القمي بنحو ذلك (٣).

وقال الشيخ محمد الخضري عنه : انه كان من فقهاء الكوفة الذين

__________________

(١) في كتابه المسمى اخبار الرجال.

(٢) للمرحوم العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

(٣) الكنى والألقاب (ص ٢٠٤).

نشروا الفقه الإسلامي ، وانه فقيه العراق. وكانت ولادته في حياة الرسول (ص). وسمع الحديث من عمر وعثمان وابن مسعود وعلي ، وتفقه علي ابن مسعود وكان أنبل أصحابه. وقال عنه ابن مسعود : لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه. ومضى الخضري في وصفه يقول : قال قابوس بن ابي ظبيان ، قلت لأبي : لأي شيء كنت تدع الصحابة وتأتي علقمة؟ قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله ، وهم يسألون علقمة ويستفتونه. ونقل عن الذهبي انه قال : كان فقيها ، إماما ، بارعا ، طيب الصوت بالقرآن ، ثبتا فيما ينقل ، صاحب خير وورع (١).

وذكره الدكتور محمد يوسف بأنه كان على رأس من تخرج من مدرسة الفقه في الكوفة ، التي كان على رأسها ابن مسعود ، وانه كان فقيه أهل العراق وأنبل أصحاب ابن مسعود. ثم نقل عنه ما أوردناه عن الخضري (٢).

وقد عدّه المرزا محمد من رؤساء التابعين الكبار وزهادهم ، ومن القارئين لكتاب الله والفقهاء (٣) ، وقد وصفه بالفقه والزهد والورع ، وانه من أنصار علي (ع) وتابعيه ، كل من كتب في الرجال.

ومن فقهاء التابعين وأعيانهم ، سعيد بن جبير. وروى هشام بن سالم عن الصادق (ع) انه قال : ان سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين (ع) وكان علي بن الحسين يثني عليه ، وما كان سبب قتل

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي ، نقلا عن الذهبي (ج ١ ص ٤٥) وعن الخزرجي (ص ٢٢٩) وعن ابن العماد (ص ٨٠).

(٣) منهج المقال.

الحجاج له ، إلا على هذا الأمر ، وكان مستقيما ، وقال الفضل بن شاذان : لم يكن في زمن علي بن الحسين في أول أمره ، إلا خمسة ، وعدّ منهم سعيد بن جبير.

وقال الكشي في كتابه اخبار الرجال : ان سعيد بن جبير لما دخل على الحجاج قال له : أنت شقي بن كسير ، قال : أمي كانت اعرف باسمي ، سمتني سعيد بن جبير.

قال له الحجاج : ما تقول في أبي بكر وعمر ، هما في الجنة أو النار؟ قال : لو دخلت الجنة ونظرت أهلها لعلمت من فيها. قال : ما تقول في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل. أيهم أحب إليك؟ قال : أرضاهم لخالقه. قال : أيهم أرضاهم لخالقه؟ قال : علم ذلك عند ربي ، الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال : أبيت أن تصدقني؟ قال : أبيت أن أكذبك. وعن تقريب ابن حجر ان سعيد بن جبير الكوفي ثقة ، ثبت ، فقيه من الثالثة ، قتله الحجاج صبرا.

وقد ذكره الدكتور محمد يوسف وعده من اعلام الفقه ، الذين تخرجوا من مدرسة الكوفة ، وانه أحد الفقهاء الأعلام وجهبذ العلماء ، وان ميمون بن مهران قال فيه بعد موته : مات سعيد بن جبير ، وما على وجه الأرض رجل ، إلا ويحتاج الى علمه ، وانه أخذ العلم عن ابن عباس وغيره من فقهاء الصحابة.

وفي تاريخ التشريع الإسلامي ، بعد ان قال عنه الخضري بأنه من أئمة التشريع في الكوفة ، قال : أن أهل الكوفة كانوا إذا ذهبوا لمكة لأداء فريضة الحج ، وسألوا ابن عباس عن شيء من أمور دينهم يقول لهم : أليس فيكم سعيد بن جبير؟.

وقد عده اليعقوبي في تاريخه من الفقهاء ، الذين كأنهما يفتون

الناس ، في عصري الوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان.

وهو من المعروفين بالتشيع والولاء لأهل البيت (ع). ولا يرتاب أحد من المحدثين ، ومن كتب في الرجال ، في ذلك.

ومن فقهاء التابعين حبيب بن أبي ثابت الأسدي. قال في المراجعات : وقد عده من الشيعة كل من ابن قتيبة في معارفه والشهرستاني في الملل والنحل ، وذكره الذهبي في ميزانه ، ووضع على اسمه رمزا يشعر ان الصحاح الستة تحتج بحديثه. وانما عده الدولابي من المضعفين لمجرد تشيعه. وقد جاء حديثه في صحيحي البخاري ومسلم ، عن سعيد بن جبير وابي وائل.

وفي تاريخ الفقه الإسلامي : أنه أحد الفقهاء الذين تخرجوا من مدرسة الكوفة ، ومن الفقهاء الحفاظ. روى فقهية عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وروى عنه سفيان الثوري وأبو بكر بن عباس وآخرون. ويقال عنه وعن حماد بن أبي سفيان انهما كانا فقيهي الكوفة.

وفي منهج المقال للمرزا محمد ، أنه فقيه الكوفة ، ولم يذكر عنه ما يشير إلى تشيعه وعدمه. ويكفينا لعده من فقهاء الشيعة التابعين ، ما ذكره ابن قتيبة والشهرستاني والدولابي ، كما جاء في المراجعات.

ومن الفقهاء المعروفين بالتشيع والموالاة لعلي (ع) الحرث بن عبد الله الهمداني ، وقد وصفه الذهبي بالتشيع وانه ممن روى عن علي بن مسعود ، وروى عنه عمرو بن مرّة والشعبي. وقال عنه ابن داود : كان أفقه الناس وافرض الناس ، ووصفه ابن حجر بأنه صاحب علي (ع). ورماه الشعبي بالكذب ، لأنه لم يكن يفضل أبا بكر وعمر وعثمان على علي (ع). وقد نفى عنه صفة الكذب كل من كتب عنه

كالترمذي وابن عمر بن عبد البر وغيرهما ، وقالا : لم يظهر منه كذب ، وانما الذي كان منه أنه من محبي علي ومفضليه على غيره (١).

وقال الشيخ عباس القمي : كان الحرث الأعور بن عبد الله من المقدمين في أصحاب علي ، بفقهه وعلمه بالسنن والفرائض والحساب ، وكان من أحسب الناس ، وقد تعلم منه الشعبي الفرائض والحساب (٢).

وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين : إنه كان من رجال الشيعة ومن كبار علماء التابعين ومن أفقه الناس وأعلمهم بالفرائض في عصره (٣). وقال عنه في المراجعات ، عن محمد بن سيرين : إنه كان من أوعية العلم ، وانه أدرك أربعة من أصحاب ابن مسعود وفاته الخامس ، وهو الحرث بن عبد الله ، أفضلهم وأحسنهم. وقد سلط الله على الشعبي من كذبه واستخف به من الثقات المتثبتين ، ومنهم إبراهيم النخعي. وقال عنه الشيخ محمد طه : انه من الأولياء وأصحاب أمير المؤمنين (ع) (٤).

ومن الفقهاء سليمان بن مهران الأسدي الكوفي (الملقب بالأعمش) ، وقد وصفه جماعة من أعلام أهل السنة بالفضل والوثاقة والاستقامة والتشيع ، وأنه كان عالما بالفقه. لقي كبار التابعين ، وروى عنه سفيان الثوري وحفص ابن غياث وغيرهما من التابعين.

وكان مزّاحا ، فلقد جاءه أصحاب الحديث يوما فخرج إليهم

__________________

(١) منهج المقال للمرزا محمد.

(٢) الكنى والألقاب عن ابي جعفر الطبري في ذيل المذيل.

(٣) في المراجعات ، عن ابن قتيبة في معارفه والذهبي في ميزانه.

(٤) إتقان المقال ، عن خلاصة العلامة والبرقي ونهج المقال للأسترابادي.

وقال : لو لا ان في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم ، يعني بذلك زوجته. وكان محدث أهل الكوفة في زمانه ، وقد ظهر له أربعة آلاف حديث ، ولم يكن في زمانه من طبقته من هو أكثر منه حديثا. وقيل فيه : لم يكن أحد في الكوفة أقرأ منه لكتاب الله ، ولا أجود حديثا وأسرع اجابة. وقال فيه عيسى بن يونس : ما رأيت السلاطين والأغنياء ، عند أحد أحقر منهم عند الأعمش ، مع فقره وحاجته. ولقب بالأعمش لسيلان دمعته وضعف بصره (١).

وقد وصفه المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين بالتشيع والوثاقة ، اعتمادا على كتب الحديث والرجال والفرق. وذكر ان هشام بن عبد الملك بعث إليه ان يكتب له مناقب عثمان ومساوئ علي (ع) ، فأخذ القرطاس ووضعه في فم شاة وقال للرسول : هذا جوابه. فقال له الرسول : لقد توعدني بالقتل ان لم آته بجوابك ، وتوسل اليه بمن حضر مجلسه ، ولما ألحوا عليه أن يكتب له الجواب ، أخذ القرطاس وكتب عليه : بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك ، ولو كان لعلي مساوئ أهل الأرض ما ضرتك ، فعليك بخويصة نفسك (٢).

ثم قال في المراجعات : ولقد احتج بحديثه أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. وروى عنه جماعة ، منهم أبو سفيان الثوري وابن عيينة وحفص بن غياث وآخرون.

__________________

(١) الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ، عن ابن خلكان ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

(٢) المراجعات عن ابن خلكان وفي وفيات الأعيان والذهبي وابن قتيبة والملل والنحل للشهرستاني.

وقال الشهيد الثاني : ان أصحابنا المصنفين في الرجال تركوا ذكره ، ولقد كان حريا لاستقامته وفضله. وقد ذكره العامة في كتبهم وأثنوا عليه ، مع اعترافهم بتشيعه ، رحمه‌الله (١).

ومن فقهاء الشيعة ومراجع المسلمين ، أبو الأسود الدؤلي. قال المرحوم السيد حسن الصدر عن الجاحظ : إن أبا الأسود الدؤلي معدود في طبقات الناس ، وهو في كلها مقدم مأثور عنه ، معدود في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف. وعن الراغب في المحاضرات : أنه كان من أكمل الرجال رأيا وعقلا ، وكان شيعيا ثقة في الحديث ، سريع الجواب. وعن ابي الفرج الأصفهاني : إنه كان من سادات التابعين وأعيانهم ، وقد وضع علم النحو بإرشاد علي (ع) إليه (٢).

وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين : لقد احتج بحديثه أصحاب الصحاح الستة ، وحديثه في صحيح البخاري ومسلم ، عن أبي ذر الغفاري وعمر بن الخطاب ، وله في بعض الصحاح عن غيرهما. وروى عنه جماعة في الصحيحين وفي صحيح البخاري (٣).

وقال الشيخ عباس القمي : ان معاوية أرسل إليه هدية من أنواع الحلواء ، بقصد استمالته وصرفه عن علي (ع) ، فأخذت ابنة له صغيرة لقمة منها ووضعتها في فمها ، فقال لها أبو الأسود : انها سم أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ، فألقتها الصبية من فمها وقالت : قبحها الله من هدية. وعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلته

__________________

(١) منهج المقال للمرزا محمد.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام.

(٣) في المراجعات.

منها. وكان مما اوصى ولده : «يا بني ، إذا وسع الله عليك فابسط ، وإذا أمسك عليك فأمسك ، ولا عز كالعلم. إن الملوك حكام الناس والعلماء حكام الملوك» (١).

ومن فقهائهم ورواتهم عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمر الليثي. ولقد عده ابن قتيبة ، في المعارف ، من رجال الشيعة. وقال ابن عبد البر في الكنى من الاستيعاب انه نزل الكوفة يوم كان علي بها ، وصحبه الى ان قتل ، وبعد ذلك رجع الى مكة. وكان فاضلا عاقلا وفصيحا حاضر الجواب.

ولما وفد على معاوية سأله كيف وجدك على خليلك ابي الحسن؟ قال : كوجد أم موسى على موسى ، وأشكو الى الله التقصير. قال له معاوية : لقد كنت فيمن حصر عثمان؟ قال : لا ، ولكني كنت فيمن حضره. قال فما منعك من نصره؟ قال : وأنت ما منعك من نصره ، إذ تربصت به ريب المنون ، وكنت في أهل الشام ، وكلهم تابع لك؟ فقال له معاوية : أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟ قال : انك لكما قال الشاعر :

لألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي

قال في المراجعات : روى عنه كل من الزهري والحريري وعبد الملك بن ابجر وقتادة والوليد بن جميع ومنصور بن حياة والقاسم بن ابي بردة وعمر بن دينار وعكرمة بن خالد وغيرهم. وحديثهم عنه موجود في صحيح مسلم وروى في الصلاة ودلائل النبوة عن معاذ بن جبل. وروى في القدر عن عبد الله بن مسعود. وروى عن كل من

__________________

(١) الكنى والألقاب.

علي (ع) وحذيفة بن أسيد وحذيفة ابن اليمان وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب ، كما يعلم متتبعو حديث مسلم ، والباحثون عن رجال الأسانيد في صحيحة.

ومنهم طاوس بن كيسان الخولاني اليماني. قال في المراجعات : وقد أرسل أهل السنة أنه من رجال الشيعة إرسال المسلمات. وعده من رجالهم كل من الشهرستاني وابن قتيبة في المعارف. واحتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم ، وحديثه عن ابن عباس وغيره.

وروى عنه في البخاري ، مجاهد وعمر بن دينار وابنه عبد الله وغيرهم.

وقال المرحوم السيد محسن الأمين : وطاوس اليماني تليد بن عباس ، تابعي. وقد عده ابن خشبة ، فيما حكي عنه ، من اعلم الناس بالتفسير. وعده ابن قتيبة في المعارف من الشيعة ، والشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب علي بن الحسين (ع) وكان منقطعا اليه (١).

وقال الشيخ محمد الخضري في حديثه عن الفقهاء اليمن : طاوس بن كيسان من الأبناء ، سمع زيد بن ثابت وعائشة وأبا هريرة وغيرهم ، وكان رأسا في العلم والعمل. وقال عنه عمر بن دينار : ما رأيت أحدا مثل طاوس. وقال قيس بن سعيد : كان طاوس فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة. وقال الذهبي : كان طاوس شيخ أهل اليمن وبركتهم وفقيههم ، له جلالة عظيمة (٢).

__________________

(١) المجلد الأول من أعيان الشيعة.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي.

وقال الشيخ كاظم الساعدي : ان هشام بن الحكم قال له عظني ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليا (ع) يقول : ان في جهنم حيّات كالتلال وعقارب كالبغال ، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. وفي تنقيح المقال : يستفاد من حديثه مع هشام انه كان شيعيا ، لأنه لقب عليا بأمير المؤمنين ، وليس ذلك من طريقة العامة. كما يستفاد منه انه متصلب في دينه. وأقل ما يستفاد كونه من الحسان ، والمعروف في تصنيف الأحاديث ان الخير الحسن ما كان راويه شيعيا (١).

ومنهم إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي ، وقد وصفه ابن قتيبة في معارفه بالتشيع ، وأرسل ذلك إرسال المسلمات ، ونقل حديثه البخاري ومسلم عن عم أمه علقمة بن قيس وغيره. وروى عنه في الصحيحين وفي صحيح مسلم جماعة كثيرون (٢).

وقال الأستاذ الخضري : إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق. روى عن علقمة ومسروق والأسود وغيرهم. وهو شيخ حماد أبي سلمة الفقيه المعروف. كان من العلماء ذوي الإخلاص. وقال عبد الملك بن أبي سليمان : سمعت سعيد ابن جبير يقول : تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي؟! (٣).

وقال عنه الدكتور محمد يوسف : كان إبراهيم بن يزيد النخعي زعيم أهل الرأي وشيخ حماد بن ابي سليمان ، شيخ الامام أبي حنيفة ، وكان فقيه العراق بالاتفاق. وممن أخذ عنهم الفقه علقمة بن النخعي.

__________________

(١) حياة الامام زين العابدين ، عن الكشكول وتنقيح المقال ، للمرحوم الشيخ عبد الله الممقاني.

(٢) كما جاء ذلك في المراجعات للمرحوم شرف الدين ص ٥٢.

(٣) تاريخ التشريع الإسلامي.

وقد ذهب هذا الامام الجليل الى ان أحكام الشريعة لها معان معقولة ، كما قامت على علل تفهم من الكتاب والسنة ، وان على الفقيه إدراك هذه العلل ليجعل الأحكام تدور معها. وكان على خلاف في ذلك مع سعيد بن المسيب ، الذي كان همه البحث عن النصوص والآثار أكثر من بحثه عن العلل (١).

وبمثل ذلك ذكره عباس القمي ، وزاد ان الشيخ الطوسي عدّه من أصحاب علي بن الحسين زين العابدين (٢).

وقد ذكره الممقاني واستقرب كونه إماميا من قسم الحسان ، وأيد ذلك بأن الشيخ في رحاله عده من أصحاب الإمامين أمير المؤمنين وحفيده الامام زين العابدين عليهما‌السلام (٣).

ومنهم إسماعيل بن عبد الرحمن المعروف بالسدي. قال القمي : كان نظير مجاهد وقتادة والشعبي ومقاتل ، ممن يفسرون القرآن بآرائهم. وعدّه الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام زين العابدين وولده الامام الباقر عليهما‌السلام. ونقل عن ابن حجر انه صدوق متهم ، رمي بالتشيع. وعن السيوطي انه قال في إتقان المقال : أمثل التفاسير ، تفسير إسماعيل السدي. روى عنه الأئمة ، مثل الثوري وشعبة ويحيى بن سعيد القطان (٤).

ونقل المرحوم العلامة شرف الدين ، عن الذهبي في الميزان ، انه

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي.

(٢) الكنى والألقاب (ص ٢٠٣).

(٣) كما جاء في حياة الإمام زين العابدين للشيخ كاظم الساعدي عن تنقيح المقال.

(٤) الكنى والألقاب (ص ٢٨٠).

رماه بالتشيع ، وقال : لقد أخذ عنه الثوري وأبو بكر بن عياش وخلق من تلك الطبقة. واحتج به مسلم وأصحاب السنن الأربعة ، ووثقه احمد ، وقال عنه ابن عدي انه صدوق. وقال يحيى بن سعيد : ما رأيت أحدا يذكر السدي إلا بخير. وقال فيه إبراهيم النخعي : أنه تفسير القرآن ، تفسير القوم (١).

وقال المرحوم السيد حسن الصدر : انه كان من أصحاب الإمام زين العابدين (ع). ونص على تشيعه ابن قتيبة ، في كتابه المعارف ، والحافظ العسقلاني في التهذيب (٢).

وذكره النجاشي وأبو جعفر الطريسي في المصنفين من الشيعة. وقد ذكره المرحوم العلامة الأمين بمثل ما نقلناه عن هؤلاء الاعلام. وزاد على ذلك ان إسماعيل بن ابي خالد كان يقول : السدي أعلم بالقرآن من الشعبي (٣).

ومنهم عمر بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي. قال في المراجعات : كان أبو إسحاق من رؤوس المحدثين ، الذين لا يحمد النواصب مذاهبهم في الفروع والأصول لأنهم نسجوا فيها على منوال أهل البيت ، وتقيدوا بهم في كل ما يرجع الى الدين.

ونقل عن الجوزجاني ، في ترجمة زبيد اليامي من الميزان ، انه قال : كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم ، وهم رؤوس محدثي أهل الكوفة ، مثل أبي إسحاق السبيعي ومنصور وزبيد والأعمش ،

__________________

(١) المراجعات.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام.

(٣) المجلد الأول من أعيان الشيعة.

وغيرهم من أقرانهم ، احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث. وكان أبو إسحاق من بحار العلم ، قواما بأمر الله ، احتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. وقد جاء حديثه في كل من الصحيحين عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم وسليمان ابن صرد وغيرهم (١).

وقال عنه الشيخ عباس القمي انه من أعيان التابعين. وقد صلى أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة. وكان يختم القرآن في كل ليلة. ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث ، عند الخاص والعام ، ومن ثقات علي ابن الحسين (ع). وقد رأى عليا وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة. وروى عنه الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم (٢).

وقال عنه الشيخ محمد طه نجف ، انه من أعيان التابعين ، ولد في الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (ع). وكان من ثقات علي بن الحسين ، ولم يكن في زمانه أعبد منه ، ولا أوثق في الحديث ، عند الخاص والعام (٣).

ومنهم شريك بن عبد الله بن سنان النخعي. وقد عدّه ابن قتيبة من رجال الشيعة ، وأرسل ذلك إرسال المسلمات في كتابه المعارف. وأقسم عبد الله ابن إدريس ، كما في أواخر ترجمة شريك من الميزان ، ان شريكا لشيعي. وروى أبو داود الرهاوي ، كما في الميزان ، انه سمع شريكا يقول : عليّ خير البشر ، ومن تتبع سيرته علم انه كان من موالي أهل البيت ، وقد روى عن أوليائهم علما جما. وقال ابنه عبد الرحمن ،

__________________

(١) المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين.

(٢) الكنى والألقاب.

(٣) إتقان المقال ، في علم الرجال ، عن ابن خلكان وغيره.

كما جاء في الميزان : كان عند أبي عشرة آلاف مسألة ، عن جابر الجعفي ، وعشرة آلاف غرائب. وقال عبد الله المبارك : كان شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان ، وكان عدوا لأعداء علي وسيء القول فيهم. وقد ذكر في مجلسه معاوية ، ووصف بالحلم ، فقال : ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب. وقد وصفه الذهبي بالحافظ الصادق وانه من أوعية العلم ، حمل عن إسحاق الأزرق تسعة آلاف حديث وقد احتج بشريك مسلم وأرباب السنن الأربعة (١). وقد وصفه الشيخ عباس القمي بمثل ذلك (٢).

وقد جاء ذكره في تاريخ الفقه الإسلامي ، مع جماعة من فقهاء الكوفة التابعين ، الذين تصدروا للإفتاء والتشريع في عصرهم (٣).

ومما ذكرنا ، يتبين ان الشيعة ، قد ساهموا في حقلي التشريع والإفتاء في عهد التابعين ، وكانوا فيه من مراجع المسلمين في عصرهم. وقد أخذ عنهم الفقهاء والمحدثون ممن عاصرهم وتأخر عنهم ، بالرغم من قسوة الحكام عليهم ، والرقابة الشديدة على جميع تصرفاتهم ، نظرية كانت أو عملية ، بدافع القضاء على التشيع والحد من نشاطه ، وتسخير جميع الطبقات لمصالحهم وأغراضهم السياسية. ولكن لم يكتب لهم النجاح الكلي ، فيما بذلوه من جهود في هذا السبيل ، فقد برز الشيعة من هنا وهناك في شتى الميادين الإسلامية ، العلمية منها وغيرها. غير ان الذي يبدو على فقهاء الشيعة في هذا العصر ، ان آراءهم في الفقه لم تظهر عليها صبغة التشيع ، كما ظهرت في عهد الصحابة وفي عصر

__________________

(١) المراجعات للمرحوم العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

(٢) الكنى والألقاب (ص ٢٠٥).

(٣) للدكتور محمد يوسف موسى (ص ١٥٠).

الامامين الباقر والصادق عليهما‌السلام. ولعل ذلك من الأسباب التي صرفت أنظار الحكام عنهم ، وترك لهم المجال للاتصال بالجماهير ، ونشر آرائهم في الفقه وأحاديثهم بين الناس. ويؤيد ذلك ما جاء في رواية محمد بن عمرو بن عبد العزيز الكشي ، ان يحيى بن ام الطويل طلبه الحجاج وعرض عليه النجاة ، ان هو لعن عليا (ع). ولما امتنع عن ذلك أمر بقطع يديه ورجليه وقتله. أما سعيد بن المسيب ، فنجا منه لأنه كان يفتي بقول العامة. وكان آخر اصحاب رسول الله ومن أشهر المفتين في زمانه.

وأما ابو خالد الكابلي ، فهرب الى مكة وأخفى نفسه بها. واستجار عامر بن وائلة ، الفقيه الشيعي ، بعبد الملك ، وكانت له يد عنده (١).

لقد كان التشيع يشغل الجانب الأكبر من تفكير الأمويين والطبقات الحاكمة منهم ، لأن المبدأ الذي ترتكز عليه نظرية التشيع ، يحمل في معناه روح الثورة على كل حاكم لا يتخذ المبادئ الاسلامية دستورا عمليا لحكومته ، ويقرر عدم الاعتراف بسلطانه ، لا سيما وان المسلمين قد نهجوا منهجا عقليا في تفكيرهم ، بعد اتصالهم بالشعوب التي غزاها الاسلام ، وتأثر الفكر العربي بالأقطار الأجنبية. وكان الشيعة من اكثر الفرق الاسلامية انطلاقا في تفكيرهم وإنتاجهم الموافق للأصول التي وضعها القرآن الكريم والحديث النبوي. فنظرية الاختيار مثلا ، التي تحمل في معناها ان الانسان هو الذي يصنع مصيره وأعماله ، وهو المسؤول عن كل تصرفاته ، من غير ان يكون مجبورا على شيء

__________________

(١) رجال الكشي (ص ٨٢).

منها ، هذه النظرية تجعل الحاكم مسؤولا عن جميع أعماله وتصرفاته. ونظرية العدل ، التي تقرر استحالة الظلم من الخالق ، ولازمها عدم مساواة المجرم بغيره في الجزاء ، وان : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، وإلا كان ظالما لعباده.

هاتان النظريتان ، كانتا مسرحا للجدل والنقاش ، بين فرق المسلمين. وقد سلك فيهما الشيعة مسلكا يتفق مع القرآن وأحاديث الرسول ، ويجعل الانسان ، حاكما كان أو لم يكن ، مسؤولا عن جميع تصرفاته وأعماله ، بينما سلك فيهما غير الشيعة ، مسلكا يتفق مع هوى الحكام ورغباتهم ، لأنهم يرون فيه المبررات لتصرفاتهم وعدوانهم على كل من لا يقر سياستهم الجائرة. لذا فإن الحكام ، من الأمويين وغيرهم ، قد أمعنوا في تسخير الأفكار وشراء الضمائر ، وتقتيل فريق من فقهاء الشيعة ومفكريهم ، كيحيى بن ام الطويل وسعيد بن جبير وغيرهما ، ومراقبة الباقين منهم مراقبة دقيقة ، تحصي عليهم حتى أنفاسهم ، ليتم لهم اخضاع الناس لدولتهم والاعتراف بشرعية خلافتهم.

وكان من نتيجة ذلك ، ان الذين سلموا من الحجاج وغيره من الولاة ، كابن المسيّب والقاسم بن محمد وغيرهما ، كانوا يفتون بما يوافق العامة احيانا ، ويروون حتى عن أبي هريرة ، عميل الأمويين الأكبر. وظلموا يمارسون الحياة العلمية والنشاط الفكري ، الذي بدت طلائعه في ذاك العهد من حياة المسلمين. ومن اجل ذلك ، كان للفقهاء من الشيعة في هذا الدور طابع خاص ، لم يكن في الدور الذي تقدمه وتأخر عنه. ففي الدور الذي تقدمه ، وهو دور الصحابة ، كان لكل واحد من الصحابة ان يفتي بما سمعه عن الرسول ويحدث بما رواه عنه. وكل ما في الأمر ان من بيدهم سلطة التنفيذ ، لم يسهلوا الطريق لجميع الرواة

والمفتين. لذا فان آراء الفقهاء والمفتين من الشيعة لم تظهر الا في بعض مسائل الفقه ، كما ظهر ذلك في الفصل الذي تحدثنا فيه عن دور التشيع في الفقه الاسلامي بعد وفاة الرسول (ص).

اما في الدور المتأخر عن عصر التابعين ، وهو الدور الذي يبتديء في الشطر الأخير من حياة الامام الباقر ويستمر الى نهاية عهد الامام الصادق عليهما‌السلام (١). فقد تيسر لهذين الامامين واصحابهما ، التعبير عن آرائهم في اصول الاسلام وفروعه ، وشاع الجدل والنقاش بينهم وبين غيرهم من الفقهاء والفلاسفة ، في مباحث الفقه والكلام وغيرهما من الشبه التي انتشرت بين المسلمين بواسطة اتصالهم بالبلاد التي غزاها الاسلام.

وجمعت مدرسة الامام الصادق آلاف الطلاب من مختلف الأقطار الاسلامية ، وانتشر فقهه وحديثه بين الملايين من الناس ، ومن أجل ذلك نسب اليه المذهب.

ومهما كان الحال ، فلقد كان الفقهاء ورواة الحديث من الشيعة ، يعدون بالمئات في عصر التابعين وتابعيهم ، وعليهم كانت تعتمد مدارس الفقه والحديث ، في مكة والمدينة والكوفة ، وبقية المدن الاسلامية الكبرى. وعن الذهبي في ميزان الاعتدال ، ان التشيع كثر في عهد التابعين كثرة مفرطة. وقال في ترجمة ابان بن تغلب ، بعد ما نقل توثيقه عن جماعة من الاعلام ، كابن حنبل وابن معين وابي حاتم ، لقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحد الثقة العدالة والاتقان؟ وجوابه ان البدعة ضربان : صغرى كغلو التشيع ، او

__________________

(١) حسب النهج الذي سلكناه في هذا الكتاب ، في الحديث عن الفقه الشيعي.

التشيع بلا غلو ولا تحرف ، وهذا كثر من التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بيّنة (١).

وان المتتبع في مجاميع الفقه ، التي دونت بعد عصر التابعين ، كموطأ مالك ، اول كتاب الف في الفقه ، باشارة من ابي جعفر المنصور (٢) ، يرى انه يعتمد في كثير من ابواب الفقه على فقهاء الشيعة ، كسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وابن جبير ، وهو في الغالب يذكر آراءهم في مختلف المسائل الفقهية ، ويجعل منها دليلا على ما يذهب اليه. واذا أردنا أن نستقصي آراءهم في الفقه ، كما دونها مالك في موطئه لبلغت كتابا مستقلا.

وإذا رجعنا الى غير الشيعة وتتبعنا ولو قليلا ، وجدنا ان كثيرا ممن اشتهروا في الفقه في عصر التابعين وما بعد ، قد أخذوه عن علي وابن عباس وابي بن كعب وابن المسيب وغيرهم ، او عن تلاميذ هؤلاء ، من الموالي والتابعين ، لا سيما عليّ (ع) وابن عمه حبر الأمة ، فقد أخذ عنهما المتقدم والمتأخر.

__________________

(١) المجلد الأول من اعيان الشيعة ، عن الذهبي في ميزان الاعتدال.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي للدكتور محمد يوسف ص ١٧٢.

أدلة الأحكام في عهد التابعين

لم تختلف أدلة الأحكام في عهد التابعين عن عهد الصحابة ، فالكتاب والسنة هما المرجعان الأولان في جميع العصور ، واليهما يرجع الفقيه لمعرفة الأحكام. وفيما سبق ، ذكرنا انه حدث في عصر الصحابة ، بعد وفاة الرسول ، اصلان آخران : هما الإجماع والقياس وفيما وصل الينا من آثارهم انهم لم يرجعوا الى هذين الأصلين ، الا اذا تعذر عليهم معرفة الحكم عن طريق الكتاب والسنة.

وفي ذلك يقول الخضري في تاريخ التشريع الاسلامي : كان الشيخان اذا استشارا جماعة في حكم ، واتفقت آراؤهم فيه ، افتي به وسمي ذلك إجماعا ، اما اذا لم تتفق الآراء ، كان الحكم بالرأي ، حسبما يستوحيه الفقيه من المناسبات والمصالح. وكان من نتيجة ذلك القياس ، الذي اعتمد عليه الصحابة ، وأصبح من أدلة الأحكام عندهم ، واشتهر به جماعة من التابعين ، وأصبح اداة طيعة امينة على الأحكام عند الأحناف.

وقد وضع نواته عمر بن الخطاب ، في كتابه الى أبي موسى الأشعرى : اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك ، فان إلحاق

امر بآخر لمجرد المشابهة والمماثلة ، كما جاء في هذه الوثيقة ، هو آخر مرحلة وصل اليها المتطرفون في العمل بالقياس. ولم يعهد ذلك في حياة الرسول ، ولا عن أحد من الصحابة قبله. ويبدو انه كان مستقلا في تفكيره وجازما في اموره ، اذا رأى المصلحة في شيء اقدم عليه ، وان خالف نصوص القرآن والسنة. فقد منع اعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة. وهذا مفروض بنص القرآن الكريم كما جاء في الآية ٦١ من سورة النور : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ.)

وقد جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، الى أبي بكر في خلافته فقالا : يا خليفة رسول الله ، ان عندنا ارضا سبخة ، ليس فيها كلأ ولا ماء ، فان رأيت ان تعطيناها ، فاقطعهما اياها وكتب لهما بها كتابا واشهد عليه ، فانطلقا الى عمر ، فلما سمع بما في الكتاب تناوله من ايديهما ، ثم تفل فيه ومحاه ، وقال ان رسول الله كان يتألفكما ، والاسلام قليل ضعيف (١).

ولما فتح المسلمون ارض العراق بالسيف ، ابقاها بيد اهلها وفرض عليهم حصة من الناتج ، واحتج بأنها لو قسمت على الفاتحين ، لم يبق للدولة من الموارد ما يكفيها لشؤون الجيش والعمران والتعليم ، وغير ذلك من المهمات ، وبقيت ملكا لهم ولأبنائهم من بعدهم ، فتنهار ميزانية الدولة ، لأنها تقوم على الفتوحات والغزو. مع أن النصوص الاسلامية تقضي بأن تكون غنيمة من الغنائم ، يأخذ الامام منها

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد المجلد الثالث ص ١٠٨ والنص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين ، عن العسقلاني في أحاديثه.

الخمس (١) والأربعة الأخماس الباقية يملكها الفاتحون ، كما جاء في تاريخي الفقه الاسلامي والتشريع الاسلامي

وقد منع من نكاح المتعة ، مع انه احد فردي النكاح في زمن الرسول وأبي بكر ، وأمضى الطلاق الثلاث إذا كان بلفظ واحد ، مع اعترافه ان الرسول اعتبره طلقة واحدة ، الى غير ذلك من الموارد التي كان يفتي فيها برأيه ، ولو خالف المنصوص عليه من كتاب او سنة. ولكنه يعتمد على ان المصالح التي كان التشريع من اجلها قد ذهبت او حدث ما هو اولى منها بالرعاية والعناية ، مع بقاء النص القرآني ثابتا غير منسوخ.

قال الأستاذ خالد محمد خالد : لقد ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة ، عند ما دعته المصلحة لذلك. فبينما يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظا من الزكاة ، ويؤيده الرسول وابو بكر ، يأتي عمر بن الخطاب فيقول : لا يعطي على الإسلام شيء ، وبينما يجيز الرسول (ص) وأبو بكر بيع امهات الأولاد ، يأتي عمر فيحرم بيعهن ، وبينما كان الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحدا بحكم السنة والإجماع ، جاء عمر وحطم السنة والاجماع (٢).

وهذا النوع من الاجتهاد مبني على تقييد الأحكام ، المنصوص عليها في الكتاب والسنة ، بالمصالح المستنبطة ، او تحديدها بزمان خاص. ولم يذهب اليه حتى القائلون بأن المصالح المرسلة والاستحسان من ادلة

__________________

(١) كما تنص على ذلك الآية : (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآية ٤١ من سورة الأنفال.

(٢) في كتابه الديمقراطية (ص ١٥٠).

الأحكام ، لأن الاستحسان هو العدول عن قياس الى آخر اقوى منه (١). والمصالح المرسلة التي يعبر عنها الغزالي بالاستصلاح ، هي المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما على طبقها ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها او إلغائها (٢). ولا يجوز الاعتماد عليهما في الأحكام عند القائلين بهما ، الا مع فقد النص ، من كتاب او سنة.

ومن الصعب ان نجد لهذا النوع من الاجتهاد ما يبرره ، بعد توفر الأدلة من الكتاب والسنة : أما بنصوصيتها ، او بإطلاقها وعمومها. وأما الاجتهاد الذي لا بد منه ، بعد أن كانت الحوادث غير متناهية ، فمن موارده ما إذا كان النصوص الواردة في الوقائع المختلفة ظنية الدلالة على نحو يكون المراد مرددا بين امرين او امور ، وكلها لا تتنافى واغراض المشرع. ففي مثل ذلك لا بد من الاجتهاد لتعيين مراد المتكلم. ولكنه اجتهاد في حدود فهم المراد من النص وترجيح احد معنييه او معانيه. وعلى المجتهد في مثل هذه الحالة ، ان يبذل جهده في هذا الترجيح بالرجوع الى الأصول اللغوية والقواعد المجعولة لتعيين المراد من ظواهر الكلام. أما الواقعة التي لا يشملها النص بعمومه او بإطلاقه ولم ينعقد عليها إجماع الفقهاء ، فلا بد فيها من الاجتهاد بالرأي في مقام الإفتاء والقضاء ، وذلك بالرجوع الى القواعد العامة والأصول التي لا بد من الرجوع اليها في مثل ذلك ، شرعية كانت أو عقلية.

وهذا النوع من القضاء والافتاء بالرأي ، هو الذي أقره الرسول في حديث معاذ بن جبل ، وامتدحه عليه ، وحمد الله الذي وفق رسول رسوله لما

__________________

(١) ملخص إبطال القياس والاستحسان لابن حزم (ص ٥٠).

(٢) مقدمة النص والاجتهاد للسيد محمد تقي الحكيم ، أستاذ أصول الفقه في كلية منتدى النشر ، نقلا عن خلاصة التشريع الإسلامي وعلم أصول الفقه.

يريده الله ورسوله على تقدير صحة الرواية وليس منه القياس والاستحسان كما القائلون بهما ، ومهما كان الحال فقد ظهر الاجتهاد بين فقهاء الصحابة وبرز في فتاويهم وأقضيتهم في تطبيق آيات الأحكام ونصوص السنة في موارد كثيرة وتعداهما الى القياس والاستحسان كما أشرنا الى بعض تلك الاجتهادات في الفصول السابقة. ولكن هذه النزعة لم تكن بارزة في احكامهم وأقضيتهم ، كما برزت في عهد التابعين وتابعيهم ، وعلى الأخص بين فقهاء العراق ، الذين اشتهروا بالرأي ، كما اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث ، لأسباب اهمها تلك الحياة المتجددة والمتغيرة بما عرض لها من تطورات سريعة ، بعد ان فتح الله على المسلمين بلاد الفرس والرومان وشمالي افريقيا ، وغيرها من الأقطار التي غزاها الاسلام.

ومما لا شك فيه ان لكل من هذه الأقطار حضارتها وعوائدها واعرافها التي تخصها. وكم يرى من الفرق بين الحياة التي كان يحياها الرسول وصحابته في دنياهم المحدودة يوم ذاك ، تلك الحياة البسيطة الهادئة ، وبين تلك الحياة التي عاش فيها الفقهاء بعد عصر الرسول وصحابته ، وانتشر فيها الاسلام في الشرق والغرب والشمال والجنوب ، فكان مما لا بد منه أن يتأثر العرب الغزاة ، بما في تلك البلاد ، من العادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والاجتماعية ، مما تتصل بحياة الانسان اتصالا مباشرا وتؤثر على تفكيرهم ، حتى في فهم نصوص القرآن وذلك من دواعي نمو التشريع وتضاعف جهود الفقهاء وحملة الحديث ، في تطبيق تلك القواعد العامة ، التي وردت في الكتاب والسنة ، على تلك الوقائع والحوادث التي تجددت مع الزمن ، لا سيما وان المأثور عن الرسول (ص) من قضاء واحكام ، في الموارد الخاصة وما طبقه من تلك القواعد الكلية التي وردت في الكتاب على الحوادث

والوقائع التي مرت في عصره تلك الموارد والموضوعات التي اعطاها الرسول احكامها لم تكن في الغالب تشبه ما تجدد مع الزمن من أوضاع وحوادث اقتضتها طبيعة الحياة الجديدة التي استقبلها المسلمون بما فيها من عادات واعراف تخصها.

واقتضى ذلك ان تتضاعف جهود العلماء والمفتين في البحث عن النصوص الاسلامية وفهم المراد منها ليستطيعوا ربطها بتلك الكليات التي وردت في الكتاب والسنة وتطبيقها على الجزئيات التي تتجدد مع الزمن. وهذا ما لم تدع اليه الحاجة في عصر التشريع وما بعده من عصر الصحابة ، لعدم التبدل المحسوس في الأوضاع ، في تلك الفترة من الزمن. ومن اجل ذلك ، كان لعصر التابعين ذلك الطابع الخاص ، واشتهر فيه العمل بالرأي والاجتهاد بين الفقهاء ، وعلى الأخص ما كان منهم خارج الحجاز ، كالعراق مثلا ، التي اشتهر فقاؤها بأهل الرأي (١).

وهذا النوع من الاجتهاد مما لا بد منه في مثل هذه الحالات ، لأن الاسلام بطبيعته لا يحجز في الرأي على أحد ، ما دام العلماء يسيرون في فلك القرآن وسنة الرسول ، الذي لا ينطق عن الهوى.

على انه قد يتعسر احيانا على القضاة والفقهاء ، ربط بعض الحوادث بتلك القواعد العامة ، التي وردت في الكتاب والسنة ، او تطبيقها على الجزئيات المتجددة وفي مثل ذلك لا مفر من الحكم بآرائهم ، بعد الفحص والتحري عن الواقع ، وقد اقر الرسول (ص) معاذا وامتدحه على قضائه في مثل هذه الحالات كما ذكرنا على تقدير صحة الحديث.

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٨).

ومحهما كان الحال ، فالاجتهاد الذي شاع بين فقهاء التابعين وامتازوا به عن فقهاء الصحابة ، لم يكن خارجا عن فلك القرآن والسنة ، وانما كان في فهمهما ، وتطبيق الكليات على ما تجدد من الحوادث التي لم يكن شيء منها في الغالب يشبه ما كان في عصر التشريع وما بعده من فجر عصر الصحابة وقد يتعداهما الى القياس وغيره. وليس السبب فيه ما يدعيه المستشرق (جولدشيهر) من ان الاسلام لم يأت الى العالم بطريقة كاملة ، وان القرآن نفسه لم يعط من الأحكام الا القليل ، ولا يمكن ان تكون احكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنتظرة كلها ، مما جاء عن الفتوح ، وانه كان مقصورا على حالات العرب الساذجة ومعنياتها ، بحيث لا يكفي لتلك الأوضاع الجديدة التي نجمت عن الفتوح (١).

ومن ذلك ينتهي الى ان الاجتهاد كان مما لا بد منه. وعلى أساسه تطور الفقه ، وشاع العمل بالرأي بين الفقهاء.

ولا بد لنا من الوقوف معه حول هذا الرأي وعلى الأخص عند قوله : احكام الاسلام كانت مقصورة على حالات العرب الساذجة.

فالناظر في أدلة التشريع ، سواء في ذلك ما ورد منها في العبادات ، أو المعاملات ، أو الأحوال الشخصية والجنائية وغيرها يرى القرآن لم يتوجه في تلك الخطابات الى طبقة خاصة ، أو صنف من أصناف الانسان ، في عصر من العصور ؛ بل توجه بما فيه من تشريع وغيره الى العالم كله بطريقة كاملة. جمعت بين الدنيا والدين ، وهو كغيره من بقية القوانين ، جاء بشكل نظام كلي شامل ، وترك التفاصيل للقائمين على

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي ، عن كتاب العقيدة والشريعة في الاسلام ، للمستشرق المذكور.

الدين والمشرفين على تنفيذه وتطبيقه. ومن ثم كان هذا القانون الإلهي قابلا للتطبيق في كل حال وزمان ، إذا عرف القائمون عليه كيف يستوحون أحكامه وأسراره. وهل يكون القرآن مقصورا على حياة العرب الساذجة ، على حد زعم المستشرق (جولد شيهر) ، مع أنه يؤكد في أكثر من آية أن الرسول كان الى الناس كافة ، من غير فرق بين العرب وغيرهم ، ولا بين الأبيض والأسود ، وأنه خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات المنزلة من السماء؟! وكيف يكون النبي رسولا الى الناس كافة ، كما جاء في آيات القرآن ، وشريعته مقصورة على الحياة البسيطة الساذجة ، التي كان يحياها عرب البادية في عصره. وما الفائدة من إرساله الى الناس كافة ، اذا لم تكن شريعته لجميع الناس ، ولم يعالج مشاكل الناس كافة.

ويبدو أن الكاتب في آرائه حول الشريعة الإسلامية يحاول الدس وتشويه الحقائق واظهار التشريع الإسلامي على غير واقعه.

ان الكاتب يريد أن يقول للمسلمين ، بوحي من أسياده المستعمرين ، ان شريعتكم لا تكفي لحل مشاكلكم ، فعليكم بغيرها من القوانين ، التي تضمن لكم السعادة والعيش الهنيئ ، في ظل الاسنعمار والصهيونية ؛ وان قرآنكم لم يعالج سوى مشاكل العرب الساذجة ، الذين كانوا في عصر نبيكم. أما مشاكل الحياة التي تتطور يوما بعد يوم ، والتي لا بد لها من حلول تضمن للانسان الخير والهدوء ، فاطلبوها من غير القرآن ـ واهجروه فانه لا يغني عنكم شيئا.

ومهما كان الحال ، فالاجتهاد في عصر التابعين ، مما تستدعيه الحاجة ، وتقتضيه طبيعة ذلك العصر. ومما لا شك فيه أن الدواعي اليه في بعض الأقطار الإسلامية ، كان أكثر منها في البعض الآخر.

ويمكن تلخيص الأسباب التي من أجلها شاع الاجتهاد والرأي بين فقهاء التابعين ، وامتازوا بها على من تقدم من فقهاء الصحابة ، بالأسباب التالية :

أولا : كثرة النوازل والحوادث الناتجة عن انبثاق فجر جديد للاسلام ، بعد أن تعدى حدود البلاد العربية ، التي انبثق فجره بها الى تلك البلاد التي تختلف أشد الاختلاف ، في عاداتها وتقاليدها وجميع شؤونها الاقتصادية والاجتماعية ، فأدى ذلك حتما الى الاختلاف في جميع أسباب الحياة وشؤونها ، وكان من آثار ذلك أن تجددت لسكان تلك البلاد حوادث لم تكن في الغالب تشبه ما كان في عصر الرسول وصحابته ، وكان من المفروض على الفقهاء أن يعلموا الناس الأحكام ، ويفقهوا الناس في الدين ، حسبما تقتضيه الحاجة. وفي مثل ذلك لا بد من الاجتهاد في فهم النصوص الاسلامية وتطبيقها على الحوادث التي تقتضيها أوضاع تلك البلاد واعرافها الخاصة. وقد تدعو الحاجة الى الحكم بالرأي أحيانا ، فيما اذا لم تتوفر النصوص ، أو كانت محاطة بما يوجب عدم الوثوق بها ، أو عدم الاطمئنان لدلالتها.

ثانيا : كثرة الكذب في الحديث ، بعد أن فسح الأمويون المجال لفئة من الدخلاء على الاسلام وقربوهم ، لأغراض سياسية ، حتى وضعوا آلاف الأحاديث في الحلال والحرام وغيرهما ، بين الأحاديث الصحيحة. فلم يعد بالإمكان تصديق كل ما يروى عن الرسول ، بعد أن وصل الحديث الى التابعين ، وفيه الصحيح والمكذوب. وكان من نتيجة ذلك أن كثيرا من الأحاديث ، كانت محلا للريب والشبهة بنظر الفقهاء المتفرقين في الأمصار. واقتضى ذلك عدم الأخذ بها والاعتماد على الاجتهاد والرأي أحيانا. ومجمل القول في ذلك أن كثرة الحديث

الموضوع ، وانتشاره بين الأحاديث الصحيحة ، دعى الكثير من الفقهاء في عصر التابعين ، الى ترك بعض الأحاديث لعدم الوثوق بصحتها ، والحكم بالرأي في بعض الحوادث ، عند من لا يثق بالحديث المروي في ذلك الحادث. وقد يكون الحديث الواحد ، موثوقا به عند فقيه ومتروكا عند آخر. ولذا فإن فقهاء الحجاز قد اشتهروا بالحديث ، لأنهم كانوا أعرف بالحديث الصحيح من غيرهم ، واشتهر غيرهم بالرأي ، لعدم وثوقهم بكل ما وصل إليهم من الأحاديث المروية عن الرسول.

وكان ممن اشتهر بذلك فقهاء الكوفة ، وأشهرهم بهذه الصفة ، إبراهيم بن يزيد النخعي ، وقد ذكرنا فيما سبق أنه من حواري علي بن الحسين ، على رواية الشيخ الطوسي في رجاله.

ثالثا : اتصال العرب الغزاة بغيرهم من العناصر الأجنبية ، التي دخلت الإسلام ، وكانت تعتمد على الفكر أكثر من اعتمادها على الحفظ الذي اعتمده العرب في الأدب والفقه والحديث وجميع شؤونهم. ومن بين هؤلاء الذين دخلوا الإسلام نبغ فريق منهم في الفقه والحديث ، عرفوا بالموالي ، كانوا قد أخذوه من الصحابة وتلامذتهم. وأصبح في كل حاضرة إسلامية فقيه منهم ، يرجع اليه الكثيرون من الناس في أحكام دينهم. قال مصطفى عبد الرزاق : «لقد انتقل الفقه ، بعد موت العبادلة في جميع البلدان إلى الموالي ، فكان فقيه مكة عطاء بن رياح ، وفقيه أهل اليمن طاوس ، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير ، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم ، وفقيه أهل البصرة الحسن ، وفقيه أهل الشام مكحول ، وفقيه أهل خراسان عطاء ، إلا المدينة ، فكان فقيهها سعيد بن المسيب» (١).

__________________

(١) وتمهيد لتأريخ الفلسفة ، عن اعلام الموقعين.

وكان لتلك البلاد التي خضعت لعلم الإسلام حظ من العلم والحضارة ، بينما كانت الأمية تغلب على العرب. ولذلك غلب على جماعة من الصحابة وصف (القراء) ، لأنهم كانوا يقرأون القرآن ، ويكتبون بين أمه أمية ، لا تقرأ ولا تكتب.

ونتج من اتساع الإسلام وانتقال الفقه الى التابعين ، من العرب وغيرهم ، الذين انتشروا في البلاد ، لتعليم الأحكام ، وألفوا حياتها وأساليبها ، في البحث والمحاكمة بين محتملات الأدلة ، ان نهجوا منهجا جديدا في التوصل إلى الأحكام ، فبحثوا عن العلل والأسباب والمصالح والمفاسد ، بطريقة لم تكن معروفة في زمن الصحابة ، ولم تدع الحاجة إليها. وقد أدى هذا الأسلوب إلى اختلاف آرائهم في الفقه ، وكثر الخلاف بينهم في الفروع ، فكان ذلك من أسباب اشتهارهم بالرأي ، بينما اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث ، لأن الجو الذي عاشوا فيه ، لم يفرض عليهم أن ينهجوا في البحث عن النصوص طريق التابعين. كما وأن قربهم من عصر الرسول واشتهار أحاديثه بينهم ومعرفتهم الكاملة بأحوال رواتها عنه ، سهل لهم معرفة الصحيح واستفادة الأحكام منها.

وفيما سبق أشرنا الى أن الرأي الذي شاع في عصر التابعين ليس هو غير الإفتاء بما يراه الفقيه ، بعد اليأس عن الدليل ، من كتاب أو سنة صحيحة ، وهو الذي أقرّه الرسول (ص) في حديث معاذ بن جبل وامتدحه عليه. وهذا غير القياس ، الذي وضع نواته عمر بن الخطاب ، في وثيقته الى أبي موسى الأشعري ، واشتهر به الأحناف وأيده المالكية وغيرهم. ولا نعني بذلك أنه لم يكن بين فقهاء التابعين من يتخذ القياس دليلا في الأحكام ، وانما المقصود ان العمل بالرأي أحيانا إذا تعذر على الفقيه أخذ الحكم من الكتاب والسنة ، قد أقرّه

الإسلام ما لم يتعارض مع النصوص القرآنية والنبوية ، وليس فيما أقرّه الإسلام إشارة الى القياس من قريب أو بعيد مع العلم بأنه قد شاع بين بعض الصحابة بعد وفاة الرسول. ومهما كان الحال فقد اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث وفقهاء العراق بالرأي ، ولكن ذلك لا يعني أن فقه الحجاز كله مستند الى الحديث ، وفقه العراق وغيرها مستند إلى الرأي. والشيء الثابت أنه كان حتى بين فقهاء الحجاز من يفتي برأيه أحيانا ، إذا لم تتوفر اليه النصوص من الكتاب أو السنة.

قال الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة : «والرأي كان مأخوذا به في المدينة وسائر مدن الحجاز. وقد رأينا الفقهاء السبعة الذين مثلوا الفقه المدني أصدق تمثيل ، كان كبيرهم ابن المسيب ، لا يهاب الفتيا ، حتى لقب بالجريء ، ولا يجرؤ على الإكثار من الإفتاء ، من لا يجرؤ على الرأي ، ولا يوصف بالجريء في الفتيا من يقف عند النص أو الأثر لا يعدوه. بل يوصف بالجريء من يسير في دائرة المأثور ، ويكثر من التخريج عليه والسير على منهاجه ، وليس ذلك إلا الرأي» (١).

وقال عنه في موضع آخر من كتابه : «وكان سعيد بن المسيب كثير الإفتاء بالرأي». وفيما سبق ، ذكرنا أن عمر بن الخطاب كان يفتي برأيه أحيانا ويعمل بالقياس ، تمشيا مع المصلحة التي يراها ، حتى ولو خالف النصوص القرآنية والنبوية. ولا شك بأن جماعة من الفقهاء في الحجاز ، قد أخذوا من قضائه وفقهه ونهجوا على طريقته في الفقه والقضاء.

ومهما يكن الحال ، فالافتاء بالرأي ، المرادف للاجتهاد ، لا بد منه للفقيه في فهم النصوص وفيما لا نص فيه ، بعد الفحص والاطمئنان إلى الواقع.

__________________

(١) الامام الصادق (ص ١٧٦).

ومجمل القول ان الإفتاء بالرأي ، فيما إذا لم يكن لدى المفتين دليل من كتاب أو سنة ، أو كان لديه ما يفيد الحكم منهما ، ولكنه لم يكن نصا فيه بأن كان يحتمله ويحتمل غيره ، فإعمال الرأي في مثل ذلك للتوصل الى الواقع ، ليس بالبعيد أن يكون نشأ في التشريع الإسلامي ، منذ بدأ المسلمون يأخذون الأحكام من الكتاب والحديث. وقد شاع ذلك بين الصحابة وفقهاء الحجاز ، الذين اشتهروا بعد ذلك بالحديث ، لوفرة حظهم منه ، كما اشتهر فقهاء العراق وغيرهم بالرأي للأسباب التي ذكرناها. والرأي بهذا المعنى ، لا بد للفقيه من اللجوء اليه ، بعد أن كان الفقه الإسلامي مستمدا من هذين الأصلين الكريمين.

أما الرأي الذي يرادف القياس ، والذي غالى به بعض أنصاره ، فعارض به السنة وخصص به القرآن ، فلم يكن شائعا بين فقهاء العراق ، وبالأخص فقهاء الشيعة منهم ، الذين تزعموا تدريس الفقه والإفتاء في عصرهم ، كإبراهيم بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس وأمثالهما.

فالافتاء بالرأي في مثل هذه الحالات ، في مقابل الإمساك عن الفتوى ، كما كان الحال بالنسبة الى بعض من عاصرهم من الفقهاء. ويؤيد ذلك ، ما ذكره الخضري في (تاريخ التشريع الإسلامي) ومصطفى عبد الرزاق في (تمهيد لتأريخ الفلسفة).

ان الفقيه الشعبي ، المعاصر لإبراهيم بن يزيد النخعي ، كان إذا عرضت له الفتيا ، ولم يجد فيها نصا ، انقبض عن الفتوى ، بينما كان إبراهيم وغيره يفتون حسب اجتهادهم

تدوين الحديث والفقه في عهد التابعين

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ، أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، قد منع من تدوين الحديث لأسباب ، أهمها بنظره ، انصراف المسلمين عن كتاب الله الى كتب الحديث كما حديث لأمم قد خلت من قبلهم. وقد ذكرنا أن هذا التدبير ، قد أحدث آثارا سيئة على الفقه والحديث وعلى المسلمين بصورة عامة. وقد فتح الباب في وجه جماعة ممن دخلوا الإسلام للكيد له بالدس في تعاليمه وأصوله ، وانتشروا في الأقطار الإسلامية يحدثون عن الرسول ، بما تمليه عليهم الأهواء ومصالح الساسة من الأمويين ، واختلط بسبب ذلك الصحيح بالفاسد.

وكان من أسباب الخلاف بين المسلمين عدم وثوق بعضهم بكل ما ينسب للرسول. ولو أنه نزل عند رغبة جمهور الصحابة ، الذين أشاروا عليه بتدوين الحديث وجمعه ، كما جمعت آيات الكتاب من الألواح وصدور الحفاظ ، لما اتسع المجال لأبي هريرة وأمثاله ، ولسمرة بن جندب والكثيرين ممن حذا حذوهما ، وباع دينه وضميره بدنانير الأمويين وموائدهم السخية بأنواع الطعام الشهي. وقد ذكرنا ما كان من هؤلاء بصورة مفصلة في الفصول السابقة ، كما أشرنا في فصل خاص ،

واعتمدنا على مصادر موثوق بها ، أن عليا قد دوّن الفقه في حياة الرسول وبعدها ، وكان هو وجماعة من المسلمين ، يرون جواز التدوين والكتابة ، بينما تمسك أكثر المسلمين برأي عمر بن الخطاب واعتبروه سنة ، لا يجوز بنظر الدين تجاوزها. وانصرفوا الى الحفظ ، معتمدين على ما ينقل إليهم من صدور الحفاظ عن الصحابة وغيرهم. على أن بعض المصادر تؤيد أن شيئا من التدوين قد كان ، ولكنه كان من أشخاص كانوا يدونون لأنفسهم ما عندهم من الأحاديث ، مخافة الضياع والنسيان.

أما التدوين الشامل ، فلم يحصل إلا في زمان متأخر ، لأسباب ثلاثة ، ذكرها محمد يوسف وغيره.

أولها : انتقال المسلمين من حال تغلب عليه البداوة ، الى حال كثر فيه العمران وعظمت فيه الحضارة وأخذوا ينعمون بالحياة المترفة ، الحافلة بأسباب النعيم والعمران ، فانصرفوا الى العلوم وموادها ، يعملون عقولهم في تحصيلها.

قال ابن خلدون في مقدمته : «ان العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران ونعم الحضارة». وقد ضرب لذلك أمثلة كثيرة.

ثانيها : انتشار الكتابة بين العرب والاعتماد عليها في تسجيل ما لديهم من المعارف المختلفة ، وفي ذلك ما يؤدي الى الانصراف عن الحفظ وضعف الذاكرة.

وفي مثل طرد هذه الحالات ، على الإنسان ، يضطر الى تسجيل ما لديه من المعارف ، خوفا من ضياعها. هذا بالإضافة الى أن بعض من دخلوا الإسلام ونبغوا في الفقه وعلوم القرآن والحديث ، وهم الكثرة في عهد التابعين كانوا من الموالي ، والكفرة الغالبة في هؤلاء كانت تحسن

الكتابة ، وقد اعتادوا على تدوين ما عندهم من آثار الفرس والرومان والأمم السابقة ، قبل أن يغزو الإسلام بلادهم.

وهؤلاء لم يرزقوا قوة الذاكرة وملكة الحفظ اللتين عرف بهما العرب وسكان البادية.

السبب الثالث : ظهور الخطأ والاختلاف في كثير من الأحاديث ، بسبب اعتماد الرواة ، الذين انتشروا في الأقطار الإسلامية ، لتعليم الأحكام ونقل الأحاديث ، اعتمادا على ما استقر في ذاكرتهم. والإنسان بطبيعته معرض لعوامل كثيرة : كالنسيان والخطأ وغيرهما. ونتيجة لذلك حصل الاختلاف في نقل الحديث بين الرواة. هذا بالإضافة إلى انتشار ما هو مكذوب على الرسول من بعض من دخلوا الإسلام مكرهين ، ولم يخالط الايمان به قلوبهم ، أو طائعين ، باعوا ضمائرهم للحكام الذين استباحوا كل شيء في سبيل عروشهم.

قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق : انه مما أكد الحاجة لتدوين السنة ، شيوع الحديث المكذوب ، وقلة الثقة ببعض الرواة ، وظهور الكذب في الحديث عن رسول الله ، لأسباب سياسية أو مذهبية (١).

وقد دخل على الإسلام بسبب ذلك شر ، كان المسلمون في غنى عنه ، لو أن الخليفة أباح إلى المسلمين أن يجمعوا الحديث ويدونوه ، كما جمعوا آيات الكتاب من هنا وهناك ودونوها في كتاب واحد.

هذه هي العوامل ، التي من أجلها بدأ المسلمون يشعرون بضرورة تدوين الحديث وتصنيفه على مراحل ، كما يرى الباحثون في التشريع الإسلامي والآثار التي تركها السابقون. ولكن المصادر الشيعية تؤكد أن

__________________

(١) تمهيد لتأريخ الفلسفة (ص ١٩٥).

التدوين قد حصل عن طريق أهل البيت وشيعتهم قبل ذلك بقرن تقريبا ، وفي غيرها ما يؤيد هذا الرأي. وقد نصت رواية البخاري ، التي نقلناها سابقا بأن عليا كتب صحيفة فيها بعض الأحكام ، كما أشرنا الى ما ذكره مسلم في مقدمة صحيحة ان ابن عباس دعا بقضاء علي (ع) وكتب منه أشياء ، الى غير ذلك مما ذكرناه في الفصول السابقة.

ومهما يكن الحال ، فقد ذكر المحدثون والرواة ، ان عمر بن عبد العزيز هو أول من دعا الى كتابة العلم وتصفيته من الدخيل. فقد كتب الى ابي بكر محمد بن عمر بن حزم (قاضي المدينة) يأمره أن ينظر ما كان من حديث الرسول أو سنته ، وأن يكتبه له. وقال في كتابه الى ابن حزم : اني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.

وفي موطإ مالك ، من رواية محمد بن الحسين ، أنه أوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الانصارية ، تلميذة عائشة والقاسم بن محمد (١).

وفي تاريخ أصبهان لأبي نعيم قال : كتب عمر الى الآفاق ، انظروا حديث رسول الله (ص) فاجمعوه. وفي الرواية المذكورة ان ابن حزم قد كتب كتبا في الحديث ، وتوفي عمر بن عبد العزيز ، قبل ان ترسل اليه (٢).

وهذه الفكرة من عمر بن عبد العزيز ، تعتبر حدثا هاما في تاريخ العلم والحديث. فهي بالإضافة إلى انها تدل على بعد نظره ، وحرصه

__________________

(١) تمهيد لتأريخ الفلسفة ، لمصطفى عبد الرزاق (ص ١٩٦).

(٢) نفس المصدر.

على مخلفات الرسول وآثار الإسلام ، لقد غير اتجاه العلماء وحفاظ الأحاديث ، الذين كانوا يعتمدون على الحفظ والأخذ ممن تقدمهم. وراجت فكرة التدوين بينهم ، فقام بعض العلماء بجمع السنّة وتدوينها ونشطوا الى ذلك في مختلف الأمصار.

وفي مختصر جامع بيان العلم أن أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب الزهري وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : كنا نكتب الحلال والحرام وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع (١).

وذكر الأستاذ أبو ريّه ، عن الزهري ، انه قال : كنا نكره كتابة العلم ، حتى أكرهنا عليه. وان هشاما الذي تولى الخلافة سنة ١٠٥ ه‍ واصل مساعيه لتنفيذ فكرة التدوين ، التي اتفق المؤرخون بأن أول من دعا إليها من الحكام عمر بن عبد العزيز ، وأكره الزهري عليها حتى الف الناس ذلك ، وأصبح سنة عندهم. ووضع العلماء في هذا الموضوع المجلدات الضخمة ، على مراحل ، كانت أولاها غير مرتبة على أبواب الفقه وفصوله ، والذي كان أولا على نمط ما كان يجري في مجالس العلماء ، تلك المجالس التي لم تكن مخصصة لعلم من العلوم. فكان المجلس الواحد يشتمل على علوم متعددة. وقد ورد عن عطاء ، في وصفه لمجلس ابن عباس ، انه لم ير مجلسا أكرم منه ، ولا أكثر فقها وأعظم هيبة في مجلسه ، أصحاب القرآن وأصحاب الشعر وأصحاب العربية يسألونه ، وكلهم يصدر من واد فسيح.

وقال محمد بن دينار في وصفه : ما رأيت مجلسا اجمع لكل خير من مجلسه.

__________________

(١) نفس المصدر (ص ٢٠٠).

وبقي التدوين يتطور ويتقدم ، كما هو الحال في كل عمل يبرز الى الوجود ، ثم ينمو على مرور الزمن ، حتى جاء دور العباسيين ، فقام العلماء بجمعه مرتبا على أبواب الفقه وفصوله. وكثر المؤلفون في ذلك الدور ، واتخذ التأليف شكلا لم يكن معروفا قبل ذلك العصر (١).

وقد هب العلماء في العصر العباسي ، الى تهذيب ما كتب في عصر التدوين الأول ، وتدوين ما بقي محفوظا في الصدور ، فرتبوه وبوّبوه ، وصنفوه كتبا. وقد بذل المنصور في هذا السبيل ، الأموال الطائلة ، وحث العلماء على بذل الجهد في ذلك ، وأشار على مالك أن يضع كتابه (الموطأ) ، فألفه (سنة ١٤٧ ه‍).

لقد بلغ المنصور في عنايته بتدوين الفقه والحديث وجميع السنن ، حدا لم يعرف عن أحد ممن سبقه أو جاء بعده. ولقد قيل له : هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال : بقيت خصلة واحدة ، أتمنى ان أصل إليها ، هي ان اقعد في مصطبة ، وحولي أصحاب الحديث (٢).

وتلك ظاهرة غريبة من أبي جعفر المنصور ، لا تنسجم مع سيرته وسياسته ، سياسة البطش وقتل الأبرياء وإراقة الدماء ، من العلويين والمتشيعين لهم ، تلك السياسة التي أنست الناس ظلم الأمويين واستهتارهم بالمقدسات الإسلامية.

لقد أراد المنصور أن يصرف أنظار العلماء ورجال الفكر عن سياسته

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية.

(٢) لقد اعتمدنا في عرض هذه المراحل لتدوين الحديث على : تاريخ الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي وأضواء على السنة وتمهيد لتأريخ الفلسفة والسنة قبل التدوين.

الجائرة ، ويشغلهم عن التفكير بالشؤون العامة بجمع الأحاديث وتدوينها وكتابة الفقه وممارسته ، حتى لا ترتفع أصواتهم بين ملايين البائسين والمحرومين والمشردين من جوره وتعذيبه ، أراد أن يحدد لهم صلاحياتهم ويحد من نشاطهم وتفكيرهم بشؤون الخلافة الإسلامية ، التي انتقلت إليهم من الأمويين ، بعد مجازر دامية ، باسم الحفاظ على المقدسات الإسلامية وانصاف المظلومين والثأر للعلويين.

ولم يقتصر التدوين في تلك المراحل التي مر بها ، منذ أن دعا اليه عمر بن عبد العزيز ، على تدوين الحديث ، بل هب العلماء الى تدوين الفقه وتبويبه ، مرتبا على أبواب الفقه ، من عبادات ومعاملات وغيرهما.

لقد تكلم الدكتور محمد يوسف في تاريخ الفقه الإسلامي والأستاذ محمد عجاج الخطيب وغيرهما عن تدوين الفقه ، ونقلوا عن بعض المصادر أنّ كل شيء من التدوين كان قد حصل في العهد المبكر من تاريخ الإسلام ، وأن الرسول أمر بكتابة بعض أحكام الزكاة وبعث بها الى أمراء البلاد والولاة ، وأعطى عمرو بن حزم ، لما ولاه على اليمن ، أحكاما مكتوبة من الفرائض والصدقات والديات ، كما أعطى عبد الله بن حكيم ووائل بن حجر كتبا فيها أحكام الحيوانات الميتة ، وأحكام الصلاة والصوم والربا والخمر. ونقل ذلك عن كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (ج ٣ ص ١٦٨) والمعجم الصغير للطبراني (ج ٣ ص ١١٧). كما ذكر أن أبا بكر كتب كتابا لأنس بن مالك ، حين بعثه على البحرين ، فيه أحكام السائمة من الإبل والغنم ومقدار النصاب في كل واحد من هذين النوعين. وكتب عمر بن الخطاب ، في الموضوع نفسه كتبا وأعطاها إلى عماله ، لجباية الزكاة ، ولم يبد آية ملاحظة حول

أنباء هذه الكتب ، مع ان عمر بن الخطاب نفسه هو الذي حارب فكرة التدوين ، كما أجمع على ذلك المحدثون.

الصحيفة الصادقة :

لقد استطرد الدكتور محمد يوسف في حديثه عن التدوين بصورة إفرادية ، منذ فجر الإسلام ، حتى انتهى الى نبأ الصحيفة الصادقة ، المنسوبة الى عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : ان عبد الله هذا قد استأذن النبي (ص) ان يكتب عنه في حال الرضا والغضب ، فأذن له. وأن مجاهدا دخل على عبد الله ، فتناول هذه الصحيفة فتمنع عليه ، فقال : أتمنعني عن كتبك؟ فقال : ان هذه الصحيفة الصادقة ، التي سمعتها من الرسول ، ليس بيني وبينه أحد ، فإذا سلم لي كتاب الله وسلمت لي هذه الصحيفة (والوهط) (١) ، لا أبالي ما صنعت الدنيا (٢).

وبعد أن نقل نبأ هذه الصحيفة التي كتبها عبد الله بإذن من النبي في حالتي الرضا والغضب ، انتهى الى أن هذه الصحيفة لا تختص بالفقه ، لأن صاحبها لا يبالي ما صنعت الدنيا ، إذا سلمت له الصحيفة وأرض كان يستغلها. فلا بد وأن يكون فيها كل ما يحتاجه من أمور الدين والدنيا. كما انتهى الى نتيجة أخرى ، هي أن هذه الصحيفة قد جمعت من الحلال والحرام مسائل كثيرة ، تكفيه مع كتاب الله في معرفة الحلال والحرام. وان عبد الله كان يرى أن الفقه من خير ما

__________________

(١) الوهط : أرض كان يزرعها.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي ، عن ابن عساكر في تاريخه ، كما نقل ذلك في الاضواء ، عن مصادر أهل السنة. والسنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب.

يعطاه الإنسان. ومن جميع ذلك ينتهي إلى القول انه كان في عصر الرسول شيء ، وربما كان كثيرا ، من مسائل الفقه وأحكامه ، قد كتب فعلا في فجر الإسلام (١).

وإذا أردنا أن نقارن بين ما ذكره هنا وما ذكره سابقا في حديثه عن عدم تدوين الحديث والفقه في عصر الصحابة ، والأسباب التي من أجلها امتنع المسلمون في فجر الإسلام من تدوين الحديث ، نرى أنه قد تراجع عن رأيه السابق.

ومهما كان الحال ، فنحن لا نمنع من أن التدوين كان منذ فجر الإسلام. ولدينا من المصادر الموثوق بها ، ما يؤيد هذا الرأي ، وإن كانت مصادر إخواننا أهل السنة لم تذكر للشيعة شيئا يذكر ، بالنسبة لما ذكرته المصادر الشيعية. وفيما سبق ، قد ذكرنا عند الكلام على تدوين السنة ، الأسباب التي منعت من طهور آثار علي وشيعته ، وما كتبوه في الفقه والحديث وما صدر عنهم من أحكام وفتاوى ، منذ الأيام الاولى لوفاة الرسول.

ونعود هنا لنؤكد ما ذكرناه سابقا ، بما قاله الأستاذ (محمد أبو زهرة) في كتابه الامام الصادق (ع) قال : وانه يجب علينا ان نقرر هنا ان فقه علي وفتاويه وأقضيته لم ترد في كتب السنة ، بالقدر الذي يتفق مع مدة خلافته ، ولا مع المدة التي كان منصرفا فيها الى الدرس والإفتاء في مدة الراشدين قبله.

وقد كانت حياته كلها للفقه وعلم الدين وكان أكثر الصحابة اتصالا برسول الله (ص) ، فقد رافق الرسول وهو صبي قبل أن

__________________

(١) تاريخ الفقه (ص ١٨٦).

يبعث ، واستمر معه الى أن قبض الله تعالى رسوله اليه. ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب السنة أضعاف ما هو مذكور له فيها.

وإذا كان لنا أن نتعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويات علي وفقهه ، فاننا نقول إنه لا بد أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار علي (ع) في القضاء والإفتاء ، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا عليا فوق المنابر وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه وينقلون فتاويه وأقواله للناس ، وخصوصا ما كان يتصل منها بأساس الحكم الإسلامي.

والعراق الذي عاش فيه علي ، وفيه انبثق علمه ، كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها ، حكام غلاظ شداد ، لا يمكن أن يتركوا آراء علي تتسرب في وسط الجماهير الإسلامية ، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله (١).

__________________

(١) صفحة ١٢٦ من كتاب الامام الصادق لأبي زهرة.

حول الصحيفة الصادقة

ويبدو مما ذكره محمد يوسف في المقام ، ان التدوين الذي لم يكن بعد وفاة الرسول ، هو تدوين السنة والحديث. اما الفقه ، فقد دون من مسائله وأحكامه الشيء الكثير ، ولكن هذا التفرقة لا تستند على أساس ، لأن جميع ما دون في العصور الاولى لم يكن غير نقل الأحاديث عن الرسول والصحابة ، المشتملة على أحكام العناوين الفقهية وأبوابها. وكتاب الموطأ ، أول مؤلف في الفقه ، على حد زعم المحدثين من أهل السنة ، هو عبارة عن مجموعة من أحاديث الرسول والصحابة في أحكام المسائل المختلفة ، بلغت عشرة آلاف حديث (١).

وسواء كان التدوين الذي تحدث عنه المؤلف ، السنة أو الفقه ، فهو يرى أن الصحيفة الصادقة حقيقة واقعة ، لأنه لم يبد حول نبئها آية ملاحظة. مع انه ذكر من جملة الأسباب لعدم تدوين الحديث والفقه ان الرسول نفسه قال : لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ومن كتب عني شيئا فليمحه. ونقل عن زيد ابن ثابت انه قال : أمرنا رسول الله (ص) ان لا نكتب شيئا من حديثه ، بينما ذكر في نبأ هذه الصحيفة ، ان الرسول

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ٢٧١.

اذن لعبد الله بن عمرو بن العاص ، ان يكتب عنه في حال الرضا والغضب ، وان الصحيفة فيها من الفقه ما يكفي كاتبها في معرفة الشريعة كلها في جميع أبواب الفقه. فكيف يتفق منع الرسول عن التدوين منعا باتا لأي كان منهم ، كما يستفاد من الحديث المنسوب اليه ، مع إذنه لعبد الله في الكتابة عنه في حال الرضا والغضب؟ على انه لم يكن من أهل السابقة في الإسلام حتى يختصه الرسول بتلك المنزلة الرفيعة ، ولا من المقربين اليه ، لتكون له هذه الحظوة عند الرسول. ولقد كان أبوه ممن يكيدون للإسلام طيلة حياته. وقد أسلم عبد الله هذا وأبوه في السنة الثامنة للهجرة ، قبل وفاة الرسول بسنتين (١) ، وكان له من العمر حين إسلامه خمس عشرة سنة ، إذا لاحظنا أنه توفي سنة خمس وستين من الهجرة ، وله من العمر اثنان وسبعون سنة ، كما في رواية ابن سعد في الطبقات (٢) ، يكون له من العمر سبع عشرة سنة حين وفاة الرسول ، أدرك منها سنتين مع الرسول وحين اتصاله بالرسول لم يكن له من العمر أكثر من خمس عشرة سنة ، وفي هاتين السنتين ، لم يخرج عن دور الطفولة ولم يكن من أصحابه الأقربين ، حتى يختصه من بينهم ، ويقدمه حتى على أهل بيته ، ليكتب عنه كل شيء ، في حال الرضا والغضب ، وفي خلواته ، كما يزعم هو في حديثه عن صحيفته كما جاء في رواية مجاهد. وهل يتفق قوله : إذا سلمت له الصحيفة (والوهط) لا يبالي بالدنيا وما فيها ، مع موقفه بجانب معاوية في صفين وغيرها ، واستعمال معاوية له مكان أبيه واليا على مصر ، وعلى الكوفة أيضا؟ فما كان له من صحيفته ما يردعه عن الوقوف بجانب ابن هند

__________________

(١) شرح النهج المجلد الثالث ص ١١٢.

(٢) المصدر نفسه ، المجلد الرابع ص ٢٦٨.

ومناصرته على امام المسلمين وسيدهم علي بن أبي طالب (ع).

على ان الأستاذ أبو ريّه ينقل عن بعض المحدثين ، ان الصحيفة التي يسميها عبد الله بالصادقة ، كانت أدعية وصلوات ، وليس فيها شيء من الفقه (١).

وما أشبه عبد الله هذا الذي أدرك من حياة الرسول مسلما سنتين وفيهما دون الفقه كله ، بأبي هريرة الذي أدرك من حياة الرسول نحوا من ذلك ، ونقل عنه أكثر من ستة آلاف حديث ، ولم يصحب الرسول الا ليشبع بطنه ، كما حدّث عن نفسه.

والذي يبعث على الأسف الشديد ، هو موقف الدكتور يوسف وغيره من أنباء هذه الصحيفة المزعومة. لقد تحدث عنها من غير ان يبدي آية ملاحظة حولها ، وفي ذلك ما يؤكد ايمانه بصحة أنبائها ، ولم يحاكم بين نصوصها وبين الظرف الذي عاش فيه عبد الله ومقدار صحبته للرسول ، والنصوص التي تفيد ان الرسول قد منع المسلمين ان يكتبوا عنه شيئا من الحديث والفقه. بينما نراه يقف موقف من يحتاط للواقع ويتحفظ في إعطاء النتائج في بعض أبحاثه ، وعلى الأخص حينما يتحدث عن دور التشيع في تدوين الفقه والحديث بعد وفاة الرسول.

لقد استعرض في حديثه عن دور الشيعة في التدوين ، جماعة ممن عدهم المرحوم الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) كعلي بن رافع وسعيد بن المسيب وغيرهما من المؤلفين في الفقه والحديث ، من عهد الصحابة إلى العصر الذي شاع فيه التدوين وكثر بين الفقهاء وأصحاب الحديث ، كما استعرض بعض من ذكرهم ابن

__________________

(١) اضواء على السنة ص ٢٢٥ عن البغدادي.

النديم من فقهاء الشيعة ومؤلفيهم. ولكنه خرج من الموضوع بدون نتيجة إيجابية ، لأن المحدثين والمؤلفين الثقات من أهل السنة ، الذين عنوا بالتراجم وأحوال الرجال ، أغفلوا الكثير من رجال الشيعة ، ولأن الكثير من هؤلاء الذين يذكرونهم ، يصفونهم بالكذب والوضع أو نحو ذلك مما يوحى بعدم الثقة بهم (١).

لقد خرج من بحثه عن مؤلفي الشيعة آسفا ، لأن المحدثين من أهل السنة ، أهملوا جماعة ممن ذكرهم الصدر وابن النديم ، ووصفوا قسما آخر بالوضع والكذب.

لذلك خرج من الموضوع ، ولم يتمكن من وزن ما جاء عن ابن النديم وغيره من كتاب علماء الشيعة ، بينما نراه سريعا في إعطاء النتائج الإيجابية في بعض أبحاثه ، بدون آية محاكمة بين الروايات التي يعتمد عليها ، وبين واقع الأشخاص وحياتهم والملابسات التي كانت تحيط بهم. وليس أدل على ذلك من حديثه عن الصحيفة الصادقة ، وإيمانه بأنها حقيقة واقعة. هذا مع العلم بأن المحدثين من أهل السنّة ، لا يصفون رواة الشيعة ومحدثيهم بالكذب والوضع إلا لمجرد التشيع والولاء لأهل البيت.

قال الخضري في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي : ان غلو الشيعة في تأييد علي وأهل بيته ، جرهم إلى رواية كثير من الأحاديث ، لا يشك الجمهور في أنها مكذوبة على رسول الله ، ومن أجل ذلك توقفوا في ان يقبلوا رواية لكل متشيع أو داع الى التشيّع.

فالتشيع عندهم وصمة لا غفران لها ، وكل من رأى النبي صحابي

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي (ص ١٩٢).

عادل ، لا يجوز عليه النقد ولا يتجه إليه لوم أو تجريح (١). فلذا قالوا في مروان بن الحكم ، إذ أثبت صحبته ، لم يؤثر الطعن عليه. وروى له البخاري في صحيحة ، مع انه لم يحتج بحديث الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام (٢). وقد وثق (العجلي) عمر بن سعد قاتل الحسين (ع) كما وثق عمران بن حطان ، وهو خارجي ، مدح ابن ملجم لعنه الله لأنه قتل عليا (ع) بقوله :

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

وسمرة بن جندب صحابي عادل ، مقبول الحديث والرواية ، واحتج بحديثه أصحاب الصحاح ، مع انه كان أحد القواد الذين أرسلهم ابن زياد لقتل الحسين ، ومن المحرضين على قتله. ولما استنابه ابن زياد على البصرة ، قتل في ستة أشهر أكثر من ثمانية آلاف من الأبرياء. وقال عنه أبو السواد العدوي : لقد قتل سمرة بن جندب من قومي في غداة واحدة خمسة وأربعين رجلا ، كلهم قد جمع القرآن (٣).

والصحابي مهما فعل وارتكب من الجرائم ، فهو مجتهد معذور في كل ما يصدر عنه ، مهما كان من نوعه. وعلى هذا الأساس يقولون بأن بسر بن أرطاة مجتهد ، وقد قتل من شيعة علي ثلاثين ألفا ، حينما وجهه معاوية إلى اليمن والحجاز ، أمره بأن يقتل كل من كان في طاعة علي (ع) ، وقتل طفلين لعبيد الله بن العباس ، وفيهما تقول أمهما عائشة بنت المدان :

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية (ص ٣١٠).

(٢) نفس المصدر (ص ٣١٢).

(٣) سفينة البحار للشيخ عباس القمي (ص ٦٥٤) ونقل ذلك في إتقان المقال عن شرح النهج ، وزاد ان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم ، حكموا بصحة حديثه.

انحى علي ودجي ابنيّ مرهفة

مشحوذة وكذاك الإثم يقترف (١)

وكثير من أمثاله عدول ومجتهدون ، بنظر المحدثين من أهل السنة ، إلا الشيعة فإنهم كذابون وضاعون ، لا تقبل لهم رواية ولا يجوز التعويل على أحاديثهم. وفي الاضواء ، عن الحافظ بن حجر : ثم حدث في أواخر عهد التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار ، لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض (٢). وكلمة الروافض لا تعني غير الشيعة ، كما يعرف ذلك كل من تتبع كتب أهل السنة وأحاديثهم ، والخوارج بنظر الشيخ محمد الخضري أقل كذبا من الشيعة (٣).

والذي نأسف له ان الباحثين في الآثار الإسلامية في هذا العصر ، الذي تحررت فيه العقول من الخرافات والأوهام ، وانطلقت إلى أبعد الحدود في التفكير والبحث عن الحقائق ، هؤلاء على انهم أخذوا على أنفسهم أن يتحروا الواقع ، ويحاكموا بين ما سطره التاريخ من آثار الماضين ، إذا تحدثوا عن الشيعة وآثارهم ، نطقوا بالسنة الماضين ، وكتبوا بأقلامهم ، وأعادوا علينا ما دونه أولئك الذين لم يكتبوا التاريخ للحق والتاريخ ، وإنما كتبوه لرجال السياسة وحكام الجور. لقد رأى الدكتور محمد يوسف نفسه مضطرا أن يقف مكتوف اليدين ، جامدا في تفكيره ، الذي اعتاد أن يصول به ويجول ، في جميع فصول كتابه. ولكنه حينما تحدث عن الشيعة رجع الى ما كتبه أولئك كأنه قرآن ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد نسي أو تناسي سيرة

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية (ص ٣٢١).

(٢) نفس المصدر (ص ٢٢٥).

(٣) كما جاء في (ص ١٤٠) من تاريخه (التشريح الإسلامي).

الحكام وموقفهم من الشيعة ، ذلك الموقف الذي حمل المحدثين من أهل السنة ، بقصد أو بدون قصد ، ان يصفوا الشيعة بالرفض والكذب والوضع ، وغير ذلك مما يوحى بعدم الثقة بهم على حد قوله.

وكان عليه أن يستعرض تاريخ الشيعة ، والظروف التي رافقتهم في جميع المراحل التي مروا بها ، وتلك السياسة الجائرة التي انتهجها حكام الدولة الأموية بصورة خاصة ، ليعرف مدى تأثيرها على الشيعة وعلى الذين كتبوا تاريخهم ووصفوا الكثير من رجالهم بالكذب والوضع والرفض. ووصفوا أبا هريرة وسمرة بن جندب وعمر بن سعد وعمران بن حطان ومعاوية بن هند وأمثالهم بالزهد والورع والصدق والأمانة.

ولم يحتجوا بحديث صادق أهل البيت جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، واحتجوا بأحاديث سمرة بن جندب ومروان بن الحكم ، طريد رسول الله (ص) وعمران بن حطان الخارجي وعمر بن سعد وأمثالهم.

لقد تابع الدكتور محمد يوسف حديثه عن آثار الشيعة في تدوين الفقه والحديث ، حتى انتهى الى مجموعة الفقه للإمام زيد بن علي بن الحسين (ع) ، التي يروي معظمها عن جده الإمام علي وقال عنها : «إن أمورا كثيرة تقوم دون التيقن من صحة هذه النسبة» (١). معتمدا في ذلك على أمرين :

أولهما : أن أبا خالد الواسطي قد تفرد برواية هذا الأثر عن زيد بن علي ، ولم يروه عن أبي خالد الواسطي إلا راو واحد ، هو إبراهيم بن الزبرقان التميمي الكوفي.

__________________

(١) تاريخ الفقه (ص ١٩٤).

ثانيهما : أن رجال الجرح والتعديل من أهل السنة الثقات الحفاظ ، قد وصفوا الواسطي بالكذب والوضع. هذا بالإضافة إلى دقة ترتيبه وتمحيصه للفقه ، في ذلك الزمن المبكر ، الذي سبق أقدم أثر من فقه أهل السنة بنصف قرن تقريبا ، وهو فقه موطإ مالك. وكان حريا بمالك ان يعرفه ويستفيد منه ، لو صدر حقا من الإمام زيد (١). من أجل ذلك خرج (الدكتور يوسف) من بحثه حول هذا الأثر الشيعي ، بالنتيجة التي خرج منها بالنسبة للآثار الشيعية ، التي ينقلها كتاب الشيعة ومحدثوهم ، قديما وحديثا.

والعنصر الوحيد عنده للوثوق برواة آثار الشيعة ان يكون الراوي موثوقا عند المحدثين من أهل السنة ، أو مسكوتا عنه على أقل التقادير. ومن العسير أن يتيسر لنا هذا الشرط ، لأن المحدثين الموثوقين من أهل السنة ، على حد تعبيره ، قد سبقونا بمئات الأعوام ، ووصفوا الشيعة ودعاة التشيع بالكذب والوضع. وفيما يختص بالسبب الثاني الذي اعتمده للتشكيك بهذا الأثر ، فمع ان وحدة الراوي لا تمنع من صحة الرواية ، إذا اجتمعت فيه الشروط المطلوبة في صحة الحديث ، فلم ينفرد بروايته عن الواسطي إبراهيم بن الزبرقان ، بل رواه عنه نصر بن مزاحم المنقري أيضا وغيره (٢).

هذا بالإضافة إلى المغالطات السافرة ، التي اعتمدها للتشكيك بهذا الأثر. ونحن لا نريد أن ندافع عن هذا الأثر لنضيف الى آثار الشيعة

__________________

(١) نفس المصدر (ص ١٩٦ و ١٩٧).

(٢) رجال النجاشي (ص ٢٠٥). وقد ذكر في الكتاب المذكور السند الكامل ، المتصل بنصر بن مزاحم عن الواسطي.

أثرا جديدا ، لأن مصادرنا الموثوقة غنية بالشواهد ، على ان الشيعة قد دونوا عشرات الكتب ، قبل غيرهم بعشرات السنين. والذين كتبوا في الآثار الشيعية لم يضيفوا إليها هذا الأثر. ولعل السبب في ذلك ان الكتاب المذكور لا يمثل فقه الشيعة الإمامية المنسوب الى الإمام جعفر بن محمد (ع). ولكن ذلك لا يمنع من صدور المجموعة عن زيد بن علي (ع) لأن الكثير من فقهاء الشيعة في العهد الأموي ، كانوا يتقون الحكام حتى في فتاويهم خوفا من القتل والتعذيب.

وسواء صحت أنباؤنا أو لم تصح ، فحديثنا عنها مع الدكتور محمد يوسف يتعلق بالأسلوب الذي اتبعه بالتشكيك بهذا الأثر المنسوب الى زيد بن علي ، ذلك الأسلوب الذي اتبع فيه المأجورين من كتاب التاريخ وتراجم الرجال مع العلم بأنه لم يقف موقف المشكك من صحيفة ابن العاص ، تلك الصحيفة التي تحيط بها الشكوك في جميع جهاتها.

على ان بين الكتاب المعاصرين ، من يرى نفسه مضطرا الى الاعتراف بما ندعيه ، امام عدد من الشواهد التاريخية ، التي تؤيد سبق الشيعة إلى تدوين الفقه ، والتي ذكرنا قسما منها ، ويبدو ان الأستاذ مصطفى عبد الرزاق من مؤيدي هذه الفكرة.

قال ، بعد أن استعرض تلك الشواهد : وعلى كل حال فإن ذلك لا يخلو من دلالة على ان النزول الى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين. ومن المعقول ان يكون النزوع الى تدوين الأحكام الشرعية أسرع إلى الشيعة ، لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم ، أو ما يشبه العصمة ، كان حريا أن يسوقهم الى الحرص على تدوين أقضيتهم

وفتاواهم. ذلك بالإضافة الى ان التشيع تأثر منذ بداية أمره بع؟؟؟؟ غير العرب الأميين الذين كانوا مجبولين على الحفظ ، نافرين من الكتابة والتدوين (١).

__________________

(١) تمهيد لتأريخ الفلسفة لمصطفى عبد الرزاق (ص ٢٠٢).

المؤلفون من الشيعة في عهد التابعين

لقد ذكرنا سابقا ، جماعة من فقهاء الشيعة ، الذين كتبوا في الفقه وغيره ، بعد وفاة الرسول وبهذه المناسبة ، ذكرنا علي بن أبي رافع صاحب أمير المؤمنين (ع) وكاتبه ، وانه جمع كتابا في الفقه أملاه عليه علي (ع). كما أشرنا إلى أخيه عبد الله ، الذي ألف كتابا فيمن حضر صفين مع علي (ع) ، ونقل عنه ابن حجر في إصابته ، كما في المراجعات (١). وفي فهرست أسماء المؤلفين قال : له كتاب أمير المؤمنين (ع) وكتاب تسمية من شهد معه الجمل وصفين والنهروان من الصحابة (٢). وقد ذكر السند الكامل ، الذي اعتمد عليه ، في نسبة الكتابين المذكورين الى عبيد الله بن ابي رافع. وقد كان عبيد الله وأخوه علي من اعلام التابعين.

ومن التابعين الذين ألفوا في الفقه ربيعة بن سميع ، ذكره النجاشي في أول كتابه في الطبقة الاولى من مصنفي الشيعة ، وذكر ان له كتابا في زكاة النعم رواه عن أمير المؤمنين علي (ع). وفي إتقان المقال (٣) ورد ذكر

__________________

(١) للمرحوم العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

(٢) للشيخ الطوسي (ص ١٠٧).

(٣) للشيخ محمد طه نجف.

ربيعة في قسم الحسن حسب اصطلاحهم في تصنيف الرواة ، وقال : له كتاب في زكاة النعم وما يؤخذ منها ، وأورد في كتابه عن النجاشي وغيره انه من مصنفي الشيعة ومؤلفيهم وغير ذلك.

ومن التابعين الذين ألفوا في الآثار الإسلامية ، قبل العصر الذي بدأ العلماء فيه بالتدوين ، ثابت بن دينار ، المكني بابي حمزة الثمالي. قال الشيخ الطوسي في الفهرست ، ان له كتاب النوادر والزهد ، رواهما عبيد الله بن زياد ، عن محمد بن عباس بن عيسى ، عن أبي حمزة. وقال السيد حسن الصدر : انه كان من المنقطعين لأهل البيت ومن أصحاب علي بن الحسين وولده الباقر عليهما‌السلام. ونقل عن الثعلبي أنه اعتمد على تفسيره واخرج الكثير من رواياته (١).

وقال ابن النديم في الفهرست ان له كتابا في تفسير القرآن ، وعده مع المصنفين في التفسير.

وفي إتقان المقال انه من خيار أصحابنا وثقاتهم ، وقال فيه أبو عبد الله الصادق : «أبو حمزة في زمانه كسلمان في زمانه». وفي رواية اخرى ان الامام الرضا (ع) قال فيه انه كلقمان في زمانه (٢). وقد عده الشيخ الطوسي في الفهرست من مؤلفي الشيعة ، وقال : ان له كتاب الزهد وكتاب النوادر.

وذكره الشيخ عباس القمي (٣) بنحو ما ذكره في إتقان المقال. وزاد النجاشي في رجاله بأن له بالإضافة الى كتاب الزهد والنوادر كتابا في

__________________

(١) تأسيس الشيعة ص ٣٧٢.

(٢) للشيخ محمد طه نجف.

(٣) الكنى والألقاب.

تفسير القرآن ورسالة في الحقوق ، كتبها عن علي بن الحسين (ع) وقال : ان أولاده الثلاثة : نوح ومنصور وحمزة ، قتلوا مع زيد بن علي». وكان أبو حمزة من أصحاب علي بن الحسين وبقي حتى أدرك الإمام موسى بن جعفر (ع).

ومن التابعين ، الذين ألفوا قبل عصر التدوين عبيد الله بن علي الحلبي ، قال الشيخ الطوسي ، في كتابه المسمى بالفهرست ، الذي جمع فيه أسماء المؤلفين من الشيعة : عبيد الله بن علي الحلبي ، له كتاب معمول عليه ، وقيل انه عرض على الامام الصادق فاستحسنه ، وقال : ليس لهؤلاء ، يعني أهل السنة مثله ، ونقل عن جماعة من الرواة الذين رووا هذا الكتاب (١).

وفي إتقان المقال قال : عبيد الله بن علي بن أبي شعبة كوفي ، كان يتجر هو وأبوه وإخوته الى حلب ، فغلبت عليهم النسبة إليها. وآل أبي شعبة بالكوفة بيت مذكور من أصحابنا. روى جدهم أبو شعبة عن الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وكان كبيرهم ووجههم. وقد صنف عبيد الله الكتاب المنسوب اليه ، ولما عرض على الصادق قال : أترى لهؤلاء مثله؟ (٢).

وفي أعيان الشيعة ، بعد ان نقل عن النجاشي ما قيل في آل أبي شعبة ، ذكر الكتاب المنسوب الى عبيد الله بن علي بن أبي شعبة ، ثم قال : وقد روى الكتاب خلق عن عبيد الله ، والطرق إليه كثيرة ، ونقله عن البرقي في رجاله ايضا (٣) :

__________________

(١) ص ١٠٦.

(٢) للشيخ محمد طه ص ٨٧.

(٣) المجلد الأول ص ٢٧١.

وقد ورد ذكره في رجال النجاشي بمثل ما ذكرناه. وورد ذكر هذا الكتاب لعبيد الله الحلبي في جميع المصادر الشيعية الموثوق بها عند الشيعة.

ومن التابعين الذين ألفوا في الفقه عمرو بن أبي المقدام الملقب بثابت بن هرمز. قال النجاشي ، روى سحنة عن علي بن الحسين (ع) ، رواها عنه ابنه عمر بن ثابت ، وورد ذكره في رجال النجاشي مرة ثانية ، الا انه قال : روى عن علي بن الحسين وابي جعفر الباقر وابي عبد الله الصادق ، وله كتاب. وذكر على عادته السند المتصل بعباد بن يعقوب راوي الكتاب عنه (١).

وقال في تأسيس الشيعة : ان له جامعا في الفقه ، يرويه عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (٢).

وفي إتقان المقال للشيخ محمد طه وخلاصة الرجال للعلامة ، ما يدل على حسن حاله واستقامته.

ومن الذين كتبوا في الفقه والتفسير محمد بن علي الحلبي ، وقد عدّه الشيخ الطوسي من مؤلفي الشيعة ، وقال ان له كتابا ، ووصفه بالوثاقة. وفي التعليقة على الكتاب المذكور قال محمد بن علي بن أبي شعبة : وجه أصحابنا وفقيههم والثقة الذي لا يطعن عليه (٣).

وفي رجال النجاشي ، بعد ان وصفه بالوثاقة والفقاهة ، قال : له كتاب التفسير. وبعد ان ذكر طريقه اليه من رواة الحديث قال : «له

__________________

(١) رجال النجاشي ص ٨٤ و ٢٠٦.

(٢) المرحوم السيد حسن الصدر ص ٢١٧.

(٣) الفهرست ص ١٣٠.

كتاب مبوّب في الحلال والحرام» وذكر من روى عنه الكتاب كما هي عادته (١).

ولا يسعنا ان نستقصي جميع فقهاء الشيعة في عصري الصحابة والتابعين ، ولا جميع من كتب منهم في الفقه والحديث والآثار الإسلامية ، ولا هو في قصدنا في هذا الكتاب ، وإنما الذي يهمنا من ذلك ونحاول إظهاره على واقعه ، ان الشيعة في هذين العصرين ، كانوا في طليعة الركب الإسلامي ، الذي كان يعمل ويحرص على نشر تعاليم القرآن والسنة ، وبيان ما جاء به الإسلام من حلال وحرام. فدوّنوا الحديث وألفوا في الفقه وغيره من فنون الإسلام قبل غيرهم بعشرات السنين. وإذا ظلمهم الكتاب اليوم وقبل اليوم ، فذاك لأنهم مقلدة الماضين ، الذين وصفوا كل شيعي ، أو داع إلى التشيع ، على حد تعبير الشيخ الخضري ، بالكذب والابتداع ، مهما كانت منزلته من الدين والعلم والفقه. وكتبوا التاريخ للحكام ، لا للحق ولا للتاريخ ، الذي يحفظ لكل انسان حقه ولكل امة ميزتها وخصائصها.

__________________

(١) ص ٢٢٧.

مصادر الكتاب

اسم الكتاب

اسم المؤلف

مجمع البيان

للطبرسي

آلاء الرحمن

للمرحوم الشيخ جواد البلاغي

شرح نهج البلاغة

لابن ابي الحديد

تاريخ اليعقوبي (طبع النجف)

لابن ابي واضح اليعقوبي

وفيات الاعيان

لابن خلكان

الطبقات الكبرى

لابن سعد

اتقان المقال في علم الرجال

للشيخ محمد طه نجف

منتهى المقال في علم الرجال

للمرزا محمد

خلاصة الرجال

للعلامة الحلي

كتاب الرجال

للكشي

كتاب الرجال

للنجاشي

فهرست المؤلفين

للشيخ الطوسي

العدة في الاصول

للشيخ الطوسي

القواعد والفوائد

للشهيد الاول

اسم الكتاب

اسم المؤلف

جواهر الكلام في الفقه

للفقيه الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر

مسالك الافهام

للشهيد الثاني

وسيلة النجاة

للسيد ابو الحسن الاصفهاني

الكنى والالقاب

للشيخ عباس القمي

سفينة البحار

للشيخ عباس القمي

مروج الذهب

للمسعودي

الإمام علي

لعبد الفتاح عبد المقصود

مع الشيعة الإمامية

للشيخ محمد جواد مغنية

علي والقرآن

للشيخ محمد جواد مغنية

الفقه على المذاهب الخمسة

للشيخ محمد جواد مغنية

تاريخ التشريع الاسلامي

للشيخ محمد الخضري

تاريخ الفقه الإسلامي

للدكتور محمد يوسف موسى

تمهيد لتاريخ الفلسفة

لمصطفى عبد الرزاق

أضواء على السنة الحمدية

للأستاذ محمود ابو رية

الإمام الصادق

للشيخ محمد ابو زهرة

الإمام زين العابدين

للشيخ كاظم القريشي

ارشاد المفيد

للشيخ المفيد

تأسيس الشيعة

للسيد حسن الصدر

المراجعات

للسيد عبد الحسين شرف الدين

النص والاجتهاد

للسيد عبد الحسين شرف الدين

مسائل فقهية

للسيد عبد الحسين شرف الدين

اسم الكتاب

اسم المؤلف

الانتصار

للشيخ المفيد

أعيان الشيعة (المجلد الأول)

للسيد محسن الأمين

العراق في ظل العهد الاموي

للدكتور علي الخرطبولي

الادب في ظل التشيع

للشيخ عبد الله نعمة

جعفر الصادق

للاستاذ احمد مغنية

الأمالي

للسيد المرتضى

المراة في الاسلام

للشيخ كمال احمد عون من علماء الازهر

تذكرة الخواص

لابن الجوزي

تلخيص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل

لابن حزم

الموطا

لمالك

الفهرست

لابن النديم

المقدمة

لابن خلدون

التكامل في الإسلام

لاحمد أمين الايراني

مجالس الشيخ المفيد

تاليف السيد المرتضى

الديموقراطية

لخالد محمد خالد

المدخل لدراسة نظام المعاملات

للدكتور محمد يوسف

السنة قبل التدوين

للدكتور محمد حجاج الخطيب

فجر الإسلام

لاحمد أمين

الفهرس

الموضوع

الصفحة

مقدمة الناشر................................................................. ٥

تقديم : بقلم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية...................................... ٧

مقدمة الكتاب.............................................................. ١١

الفصل الأول :

الحاجة الى التشريع........................................................... ١٥

الاسلوب القرآني في الدعوة الى التوحيد.......................................... ٢١

نماذج من آيات التوحيد....................................................... ٢٢

أدلة البعث والمعاد في القرآن................................................... ٢٥

الأساليب التي اتبعها القرآن في التشريع.......................................... ٢٩

عناية القرآن بالصلاة......................................................... ٣٣

الآيات التي تنص على تشريع الصلاة........................................... ٣٦

اوقات الصلاة............................................................... ٣٩

انواع الصلاة المفروضة........................................................ ٤١

الآيات التي شرعت الصيام.................................................... ٥١

تشريع الحج في القرآن......................................................... ٥٣

ضريبة الزكاة في القرآن........................................................ ٥٧

نظام الصدقات قبل الاسلام................................................... ٦١

الدفاع عن النفس والدين في نظر الاسلام....................................... ٦٤

المرأة قبل الاسلام............................................................ ٦٨

عناية الاسلام بالمرأة.......................................................... ٧٠

نظام الزواج في الاسلام....................................................... ٧٥

تعدد الزوجات............................................................... ٧٩

النساء اللواتي يباح التزويج بهن................................................. ٨٢

نظام الطلاق في الاسلام...................................................... ٨٧

التراجع في الطلاق........................................................... ٩٣

الطلاق الثلاث بلفظ واحد.................................................... ٩٤

موقف الاسلام من الحجاب................................................. ١٠٠

نظام الارث في الاسلام..................................................... ١٠٣

أحكام العقود والمعاملات في القرآن........................................... ١٠٦

العقوبات التي نص عليها القرآن.............................................. ١٠٧

الفصل الثاني :

في الوضع السياسي بعد وفاة الرسول (ص).................................... ١١١

اختصاص اسم الشيعة بالموالين لعلي وبدء التشيع............................... ١١٨

الفصل الثالث :

في ادوار التشريع واصوله بعد وفاة الرسول (ص)................................ ١٢٥

المرحلة الثانية من مراحل التشريع.............................................. ١٢٦

القياس.................................................................... ١٣٠

أثر المنع من تدوين الحديث والفقه على التشريع الاسلامي....................... ١٦٤

دورالتشيع في الفقه الاسلامي بعد وفاة الرسول (ص)............................ ١٨٥

أدلة الأحكام عند الشيعة في عهد الصحابة.................................... ٢١٩

الفصل الرابع :

الوضع السياسي في عهد التابعين............................................. ٢٣٣

ادلة الاحكام في عهد التابعين................................................ ٢٧٤

تدوين الحديث والفقه في عهد التابعين........................................ ٢٨٧

الصحيفة الصادقة.......................................................... ٢٩٤

حول الصحيفة الصادقة..................................................... ٢٩٧

المؤلفون من الشيعة في عهد التابعين........................................... ٣٠٧

مصادر الكتاب............................................................ ٣١٣

الفهرس................................................................... ٣١٧

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف: هاشم معروف الحسني
الصفحات: 319
  • مقدمة الناشر 5
  • تقديم : بقلم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية 7
  • مقدمة الكتاب 11
  • الفصل الأول :
  • الحاجة الى التشريع 15
  • الاسلوب القرآني في الدعوة الى التوحيد 21
  • نماذج من آيات التوحيد 22
  • أدلة البعث والمعاد في القرآن 25
  • الأساليب التي اتبعها القرآن في التشريع 29
  • عناية القرآن بالصلاة 33
  • الآيات التي تنص على تشريع الصلاة 36
  • اوقات الصلاة 39
  • انواع الصلاة المفروضة 41
  • الآيات التي شرعت الصيام 51
  • تشريع الحج في القرآن 53
  • ضريبة الزكاة في القرآن 57
  • نظام الصدقات قبل الاسلام 61
  • الدفاع عن النفس والدين في نظر الاسلام 64
  • المرأة قبل الاسلام 68
  • عناية الاسلام بالمرأة 70
  • نظام الزواج في الاسلام 75
  • تعدد الزوجات 79
  • النساء اللواتي يباح التزويج بهن 82
  • نظام الطلاق في الاسلام 87
  • التراجع في الطلاق 93
  • الطلاق الثلاث بلفظ واحد 94
  • موقف الاسلام من الحجاب 100
  • نظام الارث في الاسلام 103
  • أحكام العقود والمعاملات في القرآن 106
  • العقوبات التي نص عليها القرآن 107
  • الفصل الثاني :
  • في الوضع السياسي بعد وفاة الرسول (ص) 111
  • اختصاص اسم الشيعة بالموالين لعلي وبدء التشيع 118
  • الفصل الثالث :
  • في ادوار التشريع واصوله بعد وفاة الرسول (ص) 125
  • المرحلة الثانية من مراحل التشريع 126
  • القياس 130
  • أثر المنع من تدوين الحديث والفقه على التشريع الاسلامي 164
  • دورالتشيع في الفقه الاسلامي بعد وفاة الرسول (ص) 185
  • أدلة الأحكام عند الشيعة في عهد الصحابة 219
  • الفصل الرابع :
  • الوضع السياسي في عهد التابعين 233
  • ادلة الاحكام في عهد التابعين 274
  • تدوين الحديث والفقه في عهد التابعين 287
  • الصحيفة الصادقة 294
  • حول الصحيفة الصادقة 297
  • المؤلفون من الشيعة في عهد التابعين 307
  • مصادر الكتاب 313
  • الفهرس 317